بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي دَلَعَ لسانَ الصباحِ بِنُطْقِ تَبَلُّجِه، وَسَرَّحَ قِطَعَ الليْلِ المُظْلِمِ بِغَياهِبِ تَلَجْلُجِه، وَأَتْقَنَ صُنْعَ الفَلَكِ الدوَّارِ في مَقاديرِ تَبَرُّجِه، وَشَعْشَعَ ضِياءَ الشَمْسِ بِنُورِ تَأجُّجِه.
ثم الصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين.
أفاد السيد الإمام الخميني(قدس سره) في رسالة له طبعت أخيراً ضمن رسائل عشرة من قِبَل مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني(قدس سره): «كثيراً ما تقع الغفلة عن أمر تترتب عليه فروع مهمّة، وهو: أنّ الفجر في الليالي المقمرة من الليلة الثالثة عشرة إلى أواخر الشهر يتأخّر عن غيرها قريب عشر دقائق أو أقلّ أو أكثر؛ حسب اختلاف ضياء القمر وقربه من الأفق الشرقي، وهذا الفرع مع كثرة الابتلاء به في صلاة الفجر وصلاة العشاءين ونافلة الليل وغير ذلك يكون مغفولاً عنه، وكثيراً ما يراعي المؤذّنون والمصلّون الوقت النجومي، ويكون تشخيصهم الفجر حسب الساعات قبل تبيّن الفجر حسّاً.
ومحصّل الكلام في هذا المقام: أنّه هل المعتبر في اعتراض الفجر وتبيّنه هو الاعتراض والتبيّن الفعلي، أو الأعم منه ومن التقديري، نظير الاحتمالين في باب تغيّر الماء في باب المياه؟
ظاهر الكتاب والسنة وكذا ظاهر فتاوى الأصحاب _ على ما قاله المحقّق صاحب مصباح الفقيه(1)_ هو الأوّل.
أمّا الكتاب: فهو قوله تعالى: ﴿َكُلُوُا وَاشْرَبُوُا حَتَّىٰ يَتَبݧݧَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْر﴾(2)، أي: حتّى يتميّز الخيط الأبيض الذي هو من النهار من الخيط الأسود الذي هو من الليل، ثم عقّبه بقوله: ﴿مِنَ الْفَجْرِ﴾ الظاهر في التبيّن بأنّ ذاك التميّز هو الفجر، وظاهرٌ أنّ الظاهر من «التبيّن والتميّز» هو التميّز الفعلي التحقيقي، كما هو الشأن في كلّ العناوين المأخوذة في العقود والقضايا.
...هذا لو كانت كلمة للتبيّن كما لعلّه الظاهر.
ويحتمل أن تكون للنشوء، فيصير المعنى: أنّ ذاك التبيّن والامتياز لابدّ وأن يكون ناشئاً من بياض الفجر، والفرض أنّ بياضه لا يظهر حتّى يقهر على نور القمر حسّاً»(3).
أقول: وهناك تفسير ثالث من التفاسير غير البعيدة لكلمة ﴿مِنَ الْفَجْرِ﴾ نسبه الشيخ مجتبى الأعرافي إلى المفسّرين، وهو: أن تكون بياناً لكلمة ﴿الْخَيْطُ الأَبْيَضُ﴾، فالمعنى هكذا: حتّى يتبيّن لكم الخيط الأبيض أي: الفجر(4). وهذا في الحقيقة لا يضرّ بالهدف الذي يريده السيد الإمام(قدس سره) من تفسير الآية المباركة من ضرورة التبيّن الفعلي.
وأيضاً أريد أن أُنبّه: أنّ الشيخ الأعرافي ذكر في مقام تعيين الليالي المقمرة: «ويتحقّق ذلك من الليلة الثانية عشرة إلى الرابعة والعشرين من كل شهر كما قيل»(5).
(1) مصباح الفقيه، ج9، ص134.
(2) البقرة: 187.
(3) الرسائل العشرة، ص 199_ 201.
(4) راجع مقال الشيخ مجتبى الأعرافي المطبوع في مجلّة فقه أهل البيت(علیهم السلام)، رقم 42، ص115.
(5) المصدر السابق، ص110.
وأيضاً أريد أن أنقل _ قبل أن أنتقل إلى بحث الروايات _ اعتراضاً من قِبَل الشيخ الأعرافي على حمل التبيّن في الآية الشريفة على موضوعية التبيّن الحسّي، لا مطلق التبيّن والانكشاف، ونصّ اعتراضه ما يلي:
«إنّ القاعدة الأوّلية وإن كانت تقتضي حمل العناوين المأخوذة في الأدلّة على الموضوعية إلّا أنّ هذه غير جارية في العناوين الإدراكية التي تكون طريقاً إلى الواقع كالعلم والتبيّن والرؤية، فإنّ القاعدة العرفية فيها بالعكس تقتضي حملها على الطريقة والإراءة المحضة لا الموضوعية، وعليه فلا يستفاد من الآية أنّ التبيّن الحسّي مأخوذ في موضوع الحكم، ويؤكّد ذلك أنّه يلزم على القول باعتبار التبيّن الحسّي لزوم التأخّر في الليالي ذات الغيم الأبيض، فإنّ الجوّ في هذه الليالي يتنوّر طيلة الليل، ومن أجله لا يمكن رؤية ضوء الفجر في الأُفق، مع أنّه لا إشكال في أنّه مع إحراز طلوع الفجر واقعاً يحرم الأكل والشرب في الصوم، ويجوز الإتيان بصلاة الفجر وإن لم يتبيّن ضوء الفجر في الأُفق بواسطة الغيم، ومن الواضح أنّه لا فرق هناك بين الغيم وضوء القمر؛ إذ كما أنّ الغيم لا يكون مانعاً عن تكوّن الفجر بل يكون مانعاً عن الرؤية فقط كذلك ضوء القمر، فإنّه أيضاً لا يكون مانعاً عن تكوّن الفجر بل يكون مانعاً عن الرؤية فقط، وعلى هذا فكما أنّ عدم رؤية الفجر بواسطة الغيم لا يوجب عدم ترتّب الحكم كذلك عدم رؤية الفجر بواسطة غلبة ضوء القمر، فإنّه أيضاً لا يوجب عدم ترتّب الحكم»(1).
أقول: بما أنّ الاكتشافات العلمية الموجودة في زماننا لم تكن موجودة في زمن الشريعة فالإنسان الاعتيادي لم يكن يدرك معنى لحصول الفجر في الليالي المقمرة من دون التبيّن بالبصر، وكان على الشريعة أن تنبّههم على خطئهم، ولم تفعل ذلك، وهذا معناه إمضاء ما كانوا عليه عملاً.
(1) المصدر السابق، ص 116 _ 117.
وأمّا النقض الأخير الذي شرحه وهو: أنّ الغيم الأبيض المطبق ينوّر الجوّ طيلة الليل بسبب نور الكواكب التي تنعكس عليه، فهذا جوابه: أنّ كون ذلك قضية اتفاقية وليس من قبيل علّية نور القمر يوجب عدم اعتناء الإنسان الاعتيادي بذلك.
ثم انتقل السيد الإمام(قدس سره) من الاستدلال بالكتاب إلى الاستدلال بالسنّة، فقال:
«وأمّا السنّة: فكثيرة ظاهرة في المطلوب، بل بعضها كالنصّ عليه:
فمنها: ما عن الفقيه عن أبي بصير ليث المرادي قال:«سألت أبا عبدالله(عليه السلام) فقلت متى يحرم الطعام على الصائم، وتحلّ الصلاة صلاة الفجر؟ فقال: إذا اعترض الفجر فكا1 كالقبطيّة(1) البيضاء...»(2).
ومنها: رواية هشام بن الهذيل عن أبي الحسن الماضي(عليه السلام) قال: «سألته عن وقت صلاة الفجر؟ فقال: حين يعترض الفجر فتراه مثل نهر سوراء(3)»(4).
ومنها: ما عن الرضا(عليه السلام): «صلّ صلاة الغداة إذا طلع الفجر وأضاء حسناً»(5).
وظاهر أنّ الكون كالقبطيّة ونهر سورى وأمثال هذه التعبيرات لا ينطبق إلا على التميّز الحسّي والإضاءة الحسّية.
وأظهر منها خبر علي بن مهزيار قال: كتب أبو الحسن بن الحُصين إلى أبي جعفر الثاني(عليه السلام) معي: «جُعلت فداك، قد اختلف موالوك في صلاة الفجر، فمنهم من يصلّي إذا طلع
(1) القبطيّة: ثياب بيض رقاق من كتّان تتّخذ بمصر. الصحاح اللغة، ج3، ص1151.
(2) من لا يحضره الفقيه، ج2، ص130، باب الوقت الذي يحل فيه الإفطار وتجب فيه الصلاة من كتاب الصوم، ح1934.
(3) سورى: موضع بالعراق من أرض بابل، وهو بلد السريانيّين. لسان العرب، ج4، ص388. وعن معجم البلدان، ج3، ص278: سوراء موضع بالعراق في أرض بابل.
(4) وسائل الشيعة، ج4، ص212، الباب 27 من أبواب المواقيت، ح6.
(5) مستدرك الوسائل، ج3، ص 139، الباب 21 من أبواب المواقيت، ح3.
الفجر الأوّل المستطيل في السماء، ومنهم من يصلّي إذا اعترض في أسفل الأُفق واستبان، ولستُ أعرف أفضل الوقتين فأُصلّي فيه، فإن رأيت أن تُعلّمني أفضل الوقتين وتحدّه لي، وكيف أصنع مع القمر والفجر لا تبيين معه حتّى يحمرّ ويصبح؟ وكيف أصنع مع الغيم؟ وما حدّ ذلك في السفر والحضر؟ فعلتُ إن شاء الله. فكتب(عليه السلام) بخطّه وقرأتُه: الفجر _ يرحمك الله _ هو الخيط الأبيض المعترض، وليس هو الأبيض صعداً، فلا تصلّ في سفر ولا حضر حتّى تبيّنه، فإنّ الله تبارك وتعالی لم يجعل خلقه في شبهة من هذا، فقال: ﴿َكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْر﴾، فالخيط الأبيض هو المعترض الذي يحرم به الأكل والشرب في الصوم، وكذلك هو الذي يوجب به الصلاة»(1).
واشتماله على الغيم في سؤال السائل لا ينافي ما نحن بصدده، فإنّ الفرق بين ضوء القمر الذي هو مانع عن تحقّق البياض رأساً مع الغيم الذي هو كحجاب عارضي مانع عن الرؤية واضح.
هذا كلّه مضافاً إلى أنّ مقتضى الأصل أو الأُصول ذلك، ولا مخرج عنها، فإنّ الأدلّة لو لم تكن ظاهرة في ما ذكرنا لما كانت ظاهرة في القول الآخر، فلا محيص عن التمسّك بالاستصحاب الموضوعي أو الحكمي مع الخدشة في الأوّل»(2).
والظاهر أنّ مقصود السيد الإمام(قدس سره) من قوله: «مع الخدشة في الأوّل» أنّ الاستصحاب الموضوعي لعدم طلوع الفجر مخدوش؛ لأنّ طلوع الفجر بأحد المعنيين _ وهو طلوعه في الأُفق الواقعي _ مقطوع التحقّق، وبالمعنى الآخر _ وهو طلوعه بالشكل الذي يتبيّن للعين _ مقطوع العدم.
(1) وسائل الشيعة، ج4، ص 210، الباب 27 من أبواب المواقيت، ح4.
(2) الرسائل العشرة، ص 199 _ 202.
وهناك روايات أخرى غير الروايات التي جمعها السيد الإمام(قدس سره) من قبيل ما يلي:
1_ حديث يزيد بن خليفة عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال: «وقت الفجر حين يبدو حتّى يضيء»(1).
2_ صحيحة أبي بصير المكفوف قال: «سألت أبا عبدالله(عليه السلام) عن الصائم متى يحرم عليه الطعام؟ فقال: إذا كان الفجر كالقبطيّة البيضاء. قلت: فمتى تحلّ الصلاة؟ فقال: إذا كان كذلك ...»(2).
3_ صحيحة الحلبي قال: «سألت أبا عبدالله(عليه السلام) عن ﴿َكالْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ﴾(3)؟ فقال: بياض النهار من سواد الليل. قال: وكان بلال يؤذّن للنبي(صلى الله عليه و آله)، وابن أُمّ مكتوم _ وكان أعمى _ يؤذّن بليل، ويؤذّن بلال حين يطلع الفجر، فقال النبي(صلى الله عليه و آله): إذا سمعتم صوت بلال فدعوا الطعام والشراب فقد أصبحتم»(4).
4_ معتبرة سماعة بن مهران قال: «سألته عن رجل أكل أو شرب بعد ما طلع الفجر في شهر رمضان؟ فقال: إن كان قام فنظر فلم يرَ الفجر فأكل ثم عاد فرأى الفجر فليتمّ صومه، ولا إعادة عليه، وإن كان قام فأكل وشرب ثم نظر إلى الفجر فرأى أنّه قد طلع الفجر فليتمّ صومه ويقضي يوماً آخر؛ لأنّه بدأ بالأكل قبل النظر فعليه الإعادة»(5).
5_ صحيحة معاوية بن عمّار قال: «قلت لأبي عبدالله(عليه السلام): آمر الجارية أن تنظر طلع الفجر أم لا، فتقول: لم يطلع بعد. فآكل، ثم أنظر فأجد قد كان طلع حين نظرت.
(1) وسائل الشيعة، ج4، ص207، الباب 26 من أبواب المواقيت، ح3. وعيب السند هو يزيد بن خليفة الذي هو واقفي ولم يرد توثيق بشأنه، ولكن يجبره أنّه روى عنه صفوان بن يحيى.
(2) المصدر السابق، ص213، الباب 28 من أبواب المواقيت، ح2.
(3) البقرة: 187.
(4) وسائل الشيعة، ج10، ص 111، الباب 42 من أبواب ما يمسك عنه الصائم ووقت الإمساك، ح1.
(5) المصدر السابق، ص115، الباب 44 من أبواب ما يمسك عنه الصائم ووقت الإمساك ، ح3.
قال: اقضه، أمّا إنّك لو كنت أنت الذي نظرت لم يكن عليك شيء»(1).
6_ صحيحة عيص بن القاسم قال: «سألت أبا عبداللّه(عليه السلام) عن رجل خرج في شهر رمضان وأصحابه يتسحّرون في بيت، فنظر إلى الفجر، فناداهم أنّه قد طلع الفجر، فكفّ بعض، وظنّ بعض أنّه يسخر، فأكل؟ فقال: يتمّ ويقضي»(2).
7_ معتبرة سماعة قال: «سألته عن رجلين قاما فنظرا إلى الفجر، فقال أحدهما: هو ذا، وقال الآخر: ما أرى شيئاً؟ قال: فليأكل الذي لم يستبن له الفجر، وقد حرم على الذي زعم أنّه رأى الفجر، إنّ اللّه(وجل عز) يقول: ﴿َككُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْر﴾(3)»(4).
والإنصاف أنّ الآية المباركة والروايات الكثيرة واضحة الدلالة في ما أفاده السيد الإمام(قدس سره)، وسبقه إلى ذلك المحقّق الهمداني(رحمه الله) في مصباح الفقيه وقال ما لفظه:
«مقتضى ظاهر الكتاب والسنّة وكذا فتاوى الأصحاب اعتبار اعتراض الفجر وتبيّنه في الأُفق بالفعل، فلا يكفي التقدير مع القمر لو أثّر في تأخّر تبيّن البياض المعترض في الأُفق، ولا يقاس ذلك بالغيم ونحوه؛ فإنّ ضوء القمر مانع عن تحقّق البياض ما لم يقهره ضوء الفجر، والغيم مانع عن الرؤية لا عن التحقّق، وقد تقدّم في مسألة التغيّر التقديري في مبحث المياه من كتاب الطهارة ما له نفع للمقام، فراجع»(5).
(1) المصدر السابق، ص118، الباب 46 من أبواب ما يمسك عنه الصائم ووقت الإمساك، الحديث الوحيد في الباب.
(2) المصدر السابق، الباب47 من أبواب ما يمسك عنه الصائم ووقت الإمساك، الحديث الوحيد في الباب.
(3) البقرة: 187.
(4) المصدر السابق، ص119، الباب48 من أبواب ما يمسك عنه الصائم ووقت الإمساك، الحديث الوحيد في الباب.
(5) مصباح الفقيه، ج9، ص134.
وأورد على ذلك السيد الخوئي(رحمه الله) بقوله: «ولكن الظاهر عدم الفرق بين ضوء القمر وبين غيره من موانع الرؤية، فإنّه أيضاً مانع عن التبيّن الذي أُخذ في الموضوع طريقاً لاستعلام الفجر وكاشفاً عن تحقّقه؛ ضرورة عدم الفرق في أصل تكوين البياض بين الليالي المقمرة وبين غيرها، والقاهرية المدّعاة إنّما تمنع عن فعليّة الرؤية لا عن تحقّق المرئي، كما يرشدك إليه بوضوح فرض الانخساف في هذه الحالة، فإنّ البياض الموجود يستبين وقتئذٍ بنفسه لا محالة، فإذا علم به من أيّ سبيل كان ولو من غير طريق الرؤية ترتّب عليه الحكم بطبيعة الحال.
وبالجملة حال ضياء القمر حال الأنوار الكهربائية في الأعصار المتأخّرة، ولا سيّما ذوات الأشعّة القوية؛ لاشتراك الكل في القاهرية، غاية الأمر أنّ منطقة الأوّل أوسع ودائرته أشمل من غير أن يستوجب ذلك فرقاً في مناط القهر كما هو واضح، فالقصور في جميع هذه الفروض إنّما هو في ناحية الرائي دون المرئي.
وأمّا قياس المقام بالتغيّر التقديري فهو مع الفارق الظاهر؛ إذ المستفاد من الأدلّة أنّ الموضوع للنجاسة هو التغيّر الفعلي الحسّي، فله موضوعية في تعلّق الحكم، ولا يكاد يترتّب ما لم يتحقّق التغيّر ولم يكن فعليّاً في الخارج، ولا يكفي الفرض والتقدير، وأمّا في المقام فالأثر مترتّب على نفس البياض، والتبيّن طريق إلى إحرازه وسبيل إلى عرفانه، والمفروض تحقّقه في نفسه غير أنّ ضوء القمر مانع عن رؤيته، فالتقدير في الرؤية لا في المرئي، فإنّه فعلي بشهادة ما عرفت من افتراض الانخساف، فإذا علم المكلّف بتحقّقه حسب الموازين العلمية المساوق للعلم بطلوع الفجر كيف يسوغ له الأكل في شهر رمضان، أو يمنع من الدخول في الصلاة بزعم عدم تحقّق الرؤية، فإنّ هذه الدعوى غير قابلة للإصغاء كما لا يخفى»(1).
(1) موسوعة الإمام الخوئي، ج11، ص 201_ 202.
أقول: إنّ الاكتشافات الحديثة لم تكن موجودة في زمن الشريعة، فالناس الاعتياديون كانوا يفهمون من تبيّن الفجر تبيّن الفجر للحسّ البصري لدى عدم خلق مانع بشري عن التبيّن، من قبيل إرسال الأشعّة القاهرة في الفضاء، وكانوا يرون أنّ تبيّن الفجر في حدّ ذاته مساوق للانفجار الحقيقي، وكان على الشريعة ردعهم عن هذا الفهم ولم تردعهم، فيعتبر هذا إمضاءً لعملهم.
وأخيراً يوجد إشكال آخر على كلام السيد الإمام والمحقّق الهمداني، وهو مؤتلف من مقدّمتين:
الأُولى: أنّ الفجر الكاذب أيضاً له بعض الأحكام، وقد دلّت على ذلك بعض الروايات من قبيل:
1_ صحيحة معاوية بن وهب قال: «سألت أبا عبدالله(عليه السلام)عن أفضل ساعات الوتر؟ فقال: الفجر أوّل ذلك»(1). وطبعاً المقصود هو الفجر الكاذب.
2_ صحيحة إسماعيل بن سعد الأشعري قال: «سألت أبا الحسن الرضا(عليه السلام) عن ساعات الوتر؟ قال: أحبّها إليّ الفجر الأوّل، وسألته عن أفضل ساعات الليل؟ قال: الثلث الباقي ...»(2). وتكملة الحديث واردة في التهذيب، وهي ما يلي: «وسألته عن الوتر بعد فجر الصبح؟ قال: نعم قد كان أبي ربما أوتر بعد ما انفجر الصبح»(3).
وهناك بعض روايات ضعاف تشبه هاتين الروايتين الصحيحتين، من قبيل رواية زرارة(4)، ومرسلة إسحاق بن عمّار عمّن أخبره عنه(عليه السلام)(5).
(1) وسائل الشيعة، ج4، ص 271، الباب 54 من أبواب المواقيت، ح1.
(2) المصدر السابق، ص 272، الباب 54 من أبواب المواقيت،ح4.
(3) تهذيب الأحکام، ج2، ص 339، الباب 15 من أبواب الزيادات، ح 1401.
(4) وسائل الشيعة، ج4، ص272، الباب 54 من أبواب المواقيت، ح5.
(5) المصدر السابق، ص267، الباب 51 من أبواب المواقيت، ح7.
والثانية: أنّه إن أُخذ بإطلاق هذه الروايات للّيالي المقمرة لزم أن يكون المقصود بالفجر الكاذب واقع الفجر الكاذب والذي هو مختفٍ بنور القمر، فهذا يؤيّد حمل فجر الصبح أيضاً على الانفجار الواقعي المختفي بنور القمر في الليالي المقمرة.
وقد وقع الالتفات إلى هذه النكتة من قِبَل المرحوم السيد أحمد الخونساري(رحمه الله) في كتابه «جامع المدارك في شرح مختصر النافع»(1).
أقول: ويدعم ذلك التقابل الواقع في ما مضى من صحيحة إسماعيل بن سعد الأشعري بين الفجر الأوّل وفجر الصبح.
وهذا أقوى اعتراض يمكن الاعتراض به على كلام السيد الإمام والمحقّق الهمداني.
ومع ذلك أقول: يبدو لنا أنّ تخصيص الروايات التي حكمت بحكم خاص على الفجر الكاذب بالنظر إلى الوقت الواقعي لانفجاره في محلّه، وإبقاء الأدلّة الدالّة على أنّ المقياس في الإمساك عن الطعام للصوم وفي الانشغال بصلاة الصبح هو التبيّن الحسّي على ظاهرها أمر محتمل على أقلّ تقدير.
والاحتمال الآخر حمل حكم الفجر الكاذب على الليالي غير المقمرة.
نتيجة البحث هي أنّا لا نستطيع رفع اليد عن الاحتياط الوجوبي بتقديم الإمساك وتأخير الصلاة في الليالي المقمرة.
(1) جامع المدارك في شرح مختصر النافع، ج1، ص243.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على محمد وآله الطاهرين.
هل المسافة الشرعية للسفر بلحاظ المقدار الطولي والمكاني هي المسافة التي كانت معهودة في عصر النصوص، أو أنّها اختلفت باختلاف وسائل السفر المتعارفة؟
قد يقال: إنّ روايات تحديد المسافة ليست جميعاً قد حدّدت المسافة بالوحدة الطولية، كثمانية فراسخ، أو أربعة وعشرين ميلاً، أو كذا كيلو متراً حتّى يقال: إنّ هذا المقدار لا معنى لتغيّره بتغيّر الزمان، أو بتغيّر وسائل السفر، وإنّما تلك الروايات وردت بألسنة مختلفة قد يمكن حصرها في ثلاثة ألسنة:
الأوّل: هو التحديد بوحدة طوليّة، أو قل بمقدار الابتعاد المكاني عن الوطن من قبيل:
1_ صحيحة عبدالله بن يحيى الكاهلي أنّه سمع الصادق(عليه السلام) يقول: «في التقصير في الصلاة بريد في بريد أربعة وعشرون ميلاً»، هذا في نقل الشيخ(1)، وأضاف في نقل الصدوق: «ثم قال: كان أبي(عليه السلام) يقول: إنّ التقصير لم يوضع على البغلة
(1) تهذیب الأحكام، ج3، ص207، الباب 23 من الزیادات من كتاب الصلاة، ح2.
السفواء(1)، والدابّة الناجية(2)، وإنّما وضع على سير القطار»(3).
وليس في السند من يتوقف لأجله عدا عبدالله الكاهلي، ويكفيه نقل البزنطي عنه، على أنّ النجاشي قال بشأنه: «كان عبدالله وجهاً عند أبي الحسن(عليه السلام)»(4).
2_ رواية الفضل بن شاذان عن الرضا(عليه السلام) في كتابه إلى المأمون: «والتقصير في ثمانية فراسخ وما زاد، وإذا قصّرت أفطرت»(5).
وعيب السند هو عيب أسانيد الصدوق إلى الفضل بن شاذان.
3_ رواية محمد بن مسلم عن أبي جعفر(عليه السلام) عن أبيه(عليه السلام) عن النبي(صلى الله عليه وآله)قال: «التقصير يجب في بريدين»(6).
وفي السند علي بن محمد بن قتيبة، حيث روى الشيخ الحرّ هذا الحديث عن رجال الكشي(7)، عن علي بن محمد بن قتيبة عن الفضل بن شاذان عن أبيه عن غير واحد من أصحابنا عن محمد بن حكيم وغيره عن محمد بن مسلم.
4_ رواية عيص بن القاسم عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال: «في التقصير حدّه أربعة وعشرون ميلاً»(8).
وعيب السند عبارة عن عيب سند الشيخ إلى علي بن الحسن بن فضّال بناءً على
(1) الخفيفة السريعة.
(2) أيضاً السريعة.
(3) من لا يحضره الفقيه، ج1، ص436، باب الصلاة في السفر من أبواب الصلاة وحدودها. وانظر وسائل الشيعة، ج8، ص452، الباب الأول من أبواب صلاة المسافر، ح3.
(4) رجال النجاشي، ص222.
(5) وسائل الشيعة، ج8، ص453، الباب الأول من أبواب صلاة المسافر، ح6.
(6) المصدر السابق، ص455، ح17.
(7) رجال الكشي، ج1، ص389.
(8) وسائل الشيعة، ج8، ص454، الباب الأول من أبواب صلاة المسافر، ح14.
ما في الوسائل من نقل هذا الحديث عن الشيخ بإسناده إلى علي بن الحسن بن فضّال.
ولكن الموجود في التهذيب هو الحسن بن علي بن فضّال(1)، وليس علي بن الحسن بن فضّال، وسند الشيخ في الفهرست إلى الحسن بن علي بن فضّال صحيح.
إلّا أنّ المظنون صحة ما هو وارد في الوسائل؛ لأنّ نفس الرواية مرويّة في الاستبصار بعنوان: أخبرني أحمد بن عبدون عن علي بن محمد بن الزبير عن علي ابن الحسن بن فضّال...(2). والشيخ ليس له في مشيخة التهذيب سند إلى الحسن ابن علي بن فضّال، ولكن له فيها السند إلى علي بن الحسن بن فضّال(3).
5_ صحيحة معاوية بن وهب قال: «قلت لأبي عبدالله(عليه السلام): أدنى ما يقصّر فيه المسافر الصلاة؟ قال: بريد ذاهباً وبريد جائياً»(4).
6_ صحيحة زيد الشحّام قال: «سمعت أبا عبدالله(عليه السلام) يقول: يقصّر الرجل الصلاة في مسيرة اثني عشر ميلاً»(5).
7_ صحيحة زرارة عن أبي جعفر(عليه السلام) قال: «التقصير في بريد، والبريد أربعة فراسخ»(6).
8_ صحيحة زرارة قال: «سألت أبا عبدالله(عليه السلام) عن التقصير؟ فقال: بريد ذاهب وبريد جائي»(7).
(1) تهذيب الأحكام، ج4، ص221، الباب 57 من كتاب الصيام، ح22.
(2) الاستبصار، ج1، ص223، باب مقدار المسافة التي يجب فيه التقصير، ح3.
(3) تهذیب الأحكام، ج10، المشيخة، ص55.
(4) وسائل الشيعة، ج8، ص456، الباب2 من أبواب صلاة المسافر، ح2
(5) المصدر السابق، ص456، ح3.
(6) المصدر السابق، ح1.
(7) المصدر السابق، ص461، ح4.
ونحوها روايات أُخرى(1).
والثاني: هو التحديد بوحدة زمنيّة من قبيل:
1_ رواية سعيد بن يسار بسند فيه عمرو بن حفص أو عمر بن حفص قال: «سألت أبا عبدالله(عليه السلام) عن الرجل يشيّع أخاه في شهر رمضان فيبلغ مسيرة يوم، أو مع رجل من إخوانه، أيفطر أو يصوم؟ قال: يفطر»(1).
2_ موثّقة زرارة عن أبي جعفر(عليه السلام) قال: «قلت الرجل يشيّع أخاه في شهر رمضان اليوم واليومين؟ قال: يفطر ويقضي...»(3).
وفي دلالة هذين الحديثين على الوحدة الزمنيّة غموض.
3_ صحيحة علي بن يقطين قال: «سألت أبا الحسن الأوّل(عليه السلام) عن الرجل يخرج في سفره وهو في مسيرة يوم قال: يجب عليه التقصير في مسيرة يوم وإن كان يدور في عمله»(4).
وعيب هذه الرواية ابتلاؤها بمعارضة الأخبار الدالة على أنّ من يدور في عمله يتم(5).
والثالث: ما يشتمل على كلا التحديدين وكأنّهما متّفقان، أي: أنّ لسان هذه الروايات لسان يشتمل على كلتا الوحدتين من قبيل:
1_ موثّقة سماعة قال: «سألته عن المسافر في كم يقصّر الصلاة؟ فقال: في مسيرة يوم، وذلك بريدان، وهما ثمانية فراسخ»(6).
(1) راجع وسائل الشيعة، ج8، ص456، الباب الأول والثاني من أبواب صلاة المسافر.
(2) المصدر السابق، ج8، ص483، الباب10 من أبواب صلاة المسافر، ح7.
(3) المصدر السابق، ص484، ح16.
(4) المصدر السابق، ص485، ح8.
(5) المصدر السابق، ص484، الباب11 من أبواب صلاة المسافر.
(6) المصدر السابق،ص453 _ 454، ح8 و13.
2_ صحيحة أبي أيوب، عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال: «سألته عن التقصير؟ قال: فقال: في بريدين أو بياض يوم»(1).
3_ صحيحة أبي بصير قال: «قلت لأبي عبدالله(عليه السلام): في كم يقصّر الرجل؟ قال: في بياض يوم أو بريدين»(2).
ولم يكن يحسّ في زمن صدور الروايات بأيّ تعارض أو تصادم بين الوحدتين؛ لتطابقهما على سير الجمال وقتئذٍ والذي كان هو الأكثر تعارفاً عندهم للذين يحملون الثقال من الأثاث من السير على حيوان آخر أسرع أو أبطأ مشياً، فكان المتعارف في سير الجمال هو قطع ثمانية فراسخ في بياض يوم، فليس المهمّ إذاً أن تكون الوحدة الأصلية هي وحدة الزمن، أو وحدة المسافة، أو أن تكونا مشيرتين إلى أمر واحد.
أمّا اليوم فقد اختلفت إحدى الوحدتين في وضعها المتعارف عن الأخرى، فلو كانت العبرة بالوحدة الطولية أو المكانية فهي هي التي كانت وقتئذٍ، ولا معنى لتبدّلها أو تطوّرها يوماً ما، أمّا لو كانت العبرة بما تتعارف من وحدة زمانية، وإنّما أُخذت الوحدة المكانية أو وحدة المسافة كأمر مشير إلى الوحدة الزمانية، فقد تبدّلت الوحدة الزمانية في عرف اليوم يقيناً، فلا أحد يسافر عادة على الجِمال إلّا من شذّ وندر، وإنّما السفر الاعتيادي يكون بالوسائل الحديثة من السيّارات أو الطائرات أو الباخرات التي تشغّل بقوّة النفط أو الكهرباء أو نحو ذلك، فاليوم يظهر التصادم بين هذه الروايات.
وقد يقال: إنّ بالإمكان الجمع بينها بالرجوع إلى طائفة رابعة من الروايات ظاهرة في أنّ الوحدة الأصلية إنّما كانت هي الوحدة الزمانية، وأمّا التحديد بالمسافة فكان
(1) المصدر السابق، ص453، ح7.
(2) المصدر السابق، ص454، ح11.
على ضوء تطابقها مع الوحدة الزمانية، وإن شئت فسمّ ذلك باسم حكومة هذه الطائفة على تلك الطوائف.
وهذه الطائفة تتمثّل في عدّة روايات من قبيل:
1_ ما مضى من صحيحة عبدالله بن يحيى الكاهلي في الطائفة الأُولى، فقد مضى أنّها نقلت في نقل الشيخ بمقدار: «التقصير في الصلاة بريد في بريد أربعة وعشرون ميلاً»، وعلى هذا النقل تصبح الرواية من الطائفة الأُولى، ولكن في نقل الصدوق أُضيف في ذيل الرواية قوله: «كان أبي(عليه السلام) يقول: إنّ التقصير لم يوضع على البغلة السفواء والدابّة الناجية، وإنّما وضع على سير القطار».
فلو كانت الوحدة الأصلية هي وحدة المسافة ومقدار الفاصل المكاني فمن الواضح أنّ هذا لا يختلف باختلاف السفر بالقطار _ على حدّ تعبير الرواية _ أو على البغلة السفواء، أو على الدابّة الناجية، أو على عابرات القارّات في زماننا، فالبريد هو البريد، والميل هو الميل، وأربعة وعشرون هو الأربعة وعشرون من دون تأثير لآلة السفر في ذلك، أفليس يعني قوله(عليه السلام): «إنّ التقصير لم يوضع على البغلة السفواء والدابّة الناجية، وإنّما وضع على سير القطار» أنّ المقياس الأصلي هو الوحدة الزمنيّة، وهي بياض اليوم، وبما أنّ القطار أي: الجمال التي كانت تشكّل القافلة، كانت تسير في بياض يوم أربعة وعشرين ميلاً، قلنا: إنّ مسافة القصر هي الأربعة وعشرون ميلاً؟! فلو اختلفت اليوم الوحدة الزمنيّة عن الوحدة المكانية كان علينا أن نتّبع الوحدة الزمانية.
2_ رواية الفضل بن شاذان التي رواها الصدوق بإسناده إلى الفضل بن شاذان، وهي بشكلها الذي نقلناه في الطائفة الأُولى تكون من الطائفة الأُولى، ولكن بشكلها الذي رواه الصدوق أيضاً بإسناده إلى الفضل بن شاذان عن الرضا(عليه السلام) تكون من الطائفة الرابعة، فإنّه سمعه يقول: «إنّما وجب التقصير في ثمانية فراسخ لا أقلّ من
ذلك ولا أكثر؛ لأنّ ثمانية فراسخ مسيرة يوم للعامّة والقوافل والأثقال فوجب التقصير في مسيرة يوم، ولو لم يجب في مسيرة يوم لما وجب في مسيرة ألف سنة؛ وذلك لأنّ كلّ يوم يكون بعد هذا اليوم فإنّما هو نظير هذا اليوم، فلو لم يجب في هذا اليوم لما يجب في نظيره؛ إذ كان نظيره مثله لا فرق بينهما»(1).
3_ وزاد في العلل(2) وعيون الأخبار(3) قوله: «وقد يختلف المسير، فسير البقر إنّما هو أربعة فراسخ، وسير الفرس عشرون فرسخاً، وإنّما جعل مسير يوم ثمانية فراسخ؛ لأنّ ثمانية فراسخ هو سير الجِمال والقوافل، وهو الغالب على المسير، وهو أعظم السير الذي يسيره الجمّالون والمكارون»(4).
أفلا يعني كلّ هذا أنّ الوحدة الأصلية هي الوحدة الزمنية، وأنّ اتّخاذ الوحدة الطولية كان على ضوء الوحدة الزمنية؟!
4_ رواية محمد بن مسلم بسند فيه سند الشيخ إلى علي بن الحسن بن فضّال عن أبي جعفر(عليه السلام) قال: «سألته عن التقصير؟ قال: في بريد قال: قلت: بريد؟ قال: إنّه إذا ذهب بريداً ورجع بريداً، فقد شغل يومه»(5)، فتراه علّل كفاية بريد واحد بأنّ له رجعة، فإذا رجع فقد تم اشتغاله بالسفر بمقدار بياض اليوم، وهذا يعني أنّ المقياس الأصلي إذاً هو بياض اليوم.
5_ مرسلة الصدوق في المقنع قال: «سئل أبو عبدالله(عليه السلام) عن رجل أتى سوقاً يتسوّق بها، وهي من منزله على أربع فراسخ، فإن هو أتاها على الدابّة أتاها في بعض
(1) وسائل الشيعة، ج8، ص451، الباب الأول من أبواب صلاة المسافر، ح1.
(2) علل الشرائع، ج1، ص266.
(3) عيون أخبار الرضا(عليه السلام)، ج2، ص113.
(4) وسائل الشيعة، ج8، ص451، الباب الأول من أبواب صلاة المسافر، ح2.
(5) المصدر السابق، ص459، الباب2 من أبواب صلاة المسافر، ح9.
يوم، وإن ركب السفن لم يأتها في يوم؟ قال: يتمّ الراكب الذي يرجع من يومه صوماً ويقصر صاحب السفن»(1)، وهذه هي الرواية الوحيدة التي تدل زائداً على أنّ المقياس الأصلي هي الوحدة الزمنية دون الوحدة الامتدادية على أنّ اختلاف آلة السفر أيضاً يؤثّر في الحساب، ولا يقتصر على حساب سفر الجِمال فحسب، في حين أنّ المستفاد من روايات أُخرى كان عبارة عن أنّ المقياس يكون وفق الآلة الأكثر تعارفاً في سير الناس.
ولعلّ مقتضى الجمع أن يقال: إنّ اختلاف آلة السير لم يفرض في الرواية الأخيرة هو المؤثّر في اختلاف الحكم، وإنّما المؤثّر هو اختلاف مجال السير، فلمجرى البحر مقياسه، ولمجرى البرّ مقياسه، وبما أنّه فرض في الحديث أنّ مجرى البرّ يستوعب السير بمقدار نصف يوم لأنّ المسافة كانت أربعة فراسخ، ولم يكن المفروض رجوعه في نفس اليوم حتّى يشغل بياض النهار، حكم عليه بالتمام، ولكن في مجال البحر كان المفروض أنّ سفره يشغل يومه فحكم عليه بالقصر.
فالنتيجة إذاً هي أنّنا في هذا اليوم يجب أن نفتح حساباً خاصّاً للسفر البرّي بالسيّارات، وحساباً خاصّاً للسفر البحري بالباخرات، وحساباً خاصّاً للسفر الجوّي بالطائرات، ونأخذ في كل مجال من هذه المجالات الثلاثة بما هو أكثر تعارفاً بين المسافرين.
إلّا أنّ الإنصاف أنّ الرواية الأخيرة _ وهي مرسلة المقنع _ خارجة عمّا نحن فيه أساساً؛ فإنّ مفادها أنّ الراكب الذي يرجع من يومه يصوم على الرغم من أنّ مجموع الرواح والمجيء يكون ثمانية فراسخ، وذلك بمعنى أنّ الرجوع إلى الوطن في نفس اليوم كافٍ في صحّة الصوم، سواء أبقينا ذلك على إطلاقه أو قيّدناه بما دلّ على
(1) وسائل الشيعة، ج8، ص467، الباب 3 من أبواب صلاة المسافر، ح13؛ المقنع، ص199.
اشتراط الرجوع قبل الزوال. وأمّا الذي يسافر عن طريق الماء بالسفينة ويطول سفره فلا يستطيع الرجوع في نفس اليوم، فيفطر.
هذا بغضّ النظر عن أنّه لا حجّية في مرسلة المقنع، فإذا قطعنا النظر عنها لعدم تماميّتها سنداً ودلالةً _ كما عرفت _ يبقى أن نرى هل نفترض المقياس هو الشيء الأكثر رواجاً من وسائل السفر، ونقيسه ببياض اليوم ومن دون أن نفرّق بين السفر الأرضي والمائي والسماوي، أو نفترض المقياس هي الثمانية فراسخ كائناً ما كانت الوسيلة؟
وعندئذٍ نقول: إنّنا موقّتاً نقطع النظر عن الروايات التي افترضها القائل بمقياس بياض يوم حاكمةً ومعلَّلةً لمقياس الفراسخ بتطابقه وقتئذٍ لسير بياض يوم، وننظر إلى الروايات التي فرضت تعارضها في ما بينها والتي حدّدت بعضها المسافة بالفراسخ، وبعضها ببياض يوم، وبعضها بالجمع بين الأمرين، ونلفت النظر للجمع العرفي في ما بينهما إلى نكتتين:
الأُولى: وضوح أنّ الثمانية فراسخ لها تحدّد واقعي في حين أنّ السير بمقدار بياض يوم ليس له تحدّد واقعي؛ إذ يختلف باختلاف وسيلة السير، وباختلاف طول النهار وقصره، بل وحتّى السفر المتعارف وفي فصل معيّن من الفصول لا يحدّده؛ فإنّ السفر على الفرس أيضاً كان متعارفاً وقتئذٍ كالسفر على الجِمال، وكان مقدار السير مع الجِمال وخاصّة الجِمال المثقلة بالأثاث يختلف كثيراً عن مقدار السير على الفرس.
والثانية: أنّ تحديد الفراسخ بعلائم الأميال لم يكن وقتئذٍ رائجاً في غالب الأسفار كما في يومنا هذا، فكان المقياس الوحيد الذي يمكن تقدير مقدار الفراسخ بها في كثير من الأسفار منحصراً بجعل زمن السير أمارة على ذلك.
وبعد الالتفات إلى هاتين النكتتين نقول: إنّ المفهوم عرفاً من الجمع بين تلك الروايات أنّ التحديد بالفراسخ تحديد واقعي؛ فإنّه الذي لا يزيد ولا ينقص، وأنّ
التحديد ببياض يوم تحديد أماريّ، أمارةً على مقدار الفراسخ المطويّة، فالأئمّة(علیهم السلام) جعلوا العلامة المشخّصة لمقدار السير بياض يوم، وجعلوا ذلك بلحاظ سير الجِمال المثقلة المألوفة وقتئذٍ، وهذا ليس لأنّ سير الجِمال هو الأكثر وقوعاً لدى المسافرين من سير الفرس مثلاً، بل لأنّ سير الجمال هو الذي كان يطابق في ما تعارف وقتئذٍ ثمانية فراسخ في اليوم.
وممّا يشهد لذلك ما أشرنا إليه من أنّ بياض يوم في الأيّام الطويلة يختلف كثيراً عنه في الأيّام القصيرة، ولكنّ الذي لم يكن يختلف هو: أنّ الجمال كانوا يسيّرونها في كلّ يوم منزلين يسمّى كلّ منزل ببريد، ولم يكونوا يسيّرون الجمال عادة في كلّ يوم بأكثر من ذلك ولا أقلّ، سواء طالت الأيّام كأيّام الصيف أم قصرت كأيّام الشتاء، فسمّي ذلك باسم مسير بياض يوم، وروايات مسير يوم، أو بياض يوم، أو البريدين، أو بريد في بريد، أو ما إلى ذلك كلّها إشارة إلى ما كان يعتبر معرَّفاً لتحقّق السير ثمانية فراسخ.
وبهذا اتّضح تفسير الرواية الثالثة التي فرضت من الروايات الحاكمة، وهي رواية محمد بن مسلم عن أبي جعفر(عليه السلام): «سألته عن التقصير؟ قال: في بريد، قال: قلت: بريد؟ قال: إنّه إذا ذهب بريداً ورجع بريداً فقد شغل يومه»، وهذا يعني أنّه(عليه السلام) يعطي علامة على كون البريد ذاهباً والبريد جائياً يساوي ثمانية فراسخ؛ لأنّه يشغل يومه والذي كان بسير الجمال عبارة عن المشي ثمانية فراسخ.
وأمّا خبر الفضل بن شاذان _ وهي الرواية الثانية والثالثة ممّا فرض حاكماً ومفسّراً وجاعلاً المقياس الحقيقي مقياساً زمانيّاً لا مكانيّاً _ فهو عبارة عن قوله(عليه السلام): «إنّما وجب التقصير في ثمانية فراسخ لا أقلّ من ذلك ولا أكثر؛ لأنّ ثمانية فراسخ مسيرة يوم للعامّة والقوافل والأثقال، فوجب التقصير في مسيرة يوم»، وزاد في العلل وعيون الأخبار: «وقد يختلف المسير، فسير البقر إنّما هو أربعة فراسخ...»، فتأكيده(عليه السلام) على أنّ التقصير إنّما يجب في ثمانية فراسخ لا أقلّ ولا أكثر كالصريح في أنّ الموضوع الحقيقي
وأمّا خبر الفضل بن شاذان _ وهي الرواية الثانية والثالثة ممّا فرض حاكماً ومفسّراً وجاعلاً المقياس الحقيقي مقياساً زمانيّاً لا مكانيّاً _ فهو عبارة عن قوله(علیه السلام): «إنّما وجب التقصير في ثمانية فراسخ لا أقلّ من ذلك ولا أكثر؛ لأنّ ثمانية فراسخ مسيرة يوم للعامّة والقوافل والأثقال، فوجب التقصير في مسيرة يوم»، وزاد في العلل وعيون الأخبار: «وقد يختلف المسير، فسير البقر إنّما هو أربعة فراسخ...»، فتأكيده(علیه السلام)على أنّ التقصير إنّما يجب في ثمانية فراسخ لا أقلّ ولا أكثر كالصريح في أنّ الموضوع الحقيقي للتقصير إنّما هو سير ثمانية فراسخ، فالتعليل في المقام ينصرف إلى الحكمة لا العلّة التي هي بمعنى الموضوع الذي يدور مداره الحكم وجوداً وعدماً. والغالب في روايات علل الأحكام هو ذكر مجرّد الحِكَم والمصالح، وهذا لا يوجب انتزاع موضوع آخر للحكم، وسلخ الموضوع الأوّل عن كونه موضوعاً، على أنّ الخبر غير تام سنداً.
وبذلك لم يبق في المقام ما يدّعى كونه حاكماً ومثبّتاً للمقياس الزمنيّ الذي يختلف مقدار ما يستوعبه من المسافة في يومنا هذا عن ذلك اليوم إلّا صحيحة عبدالله بن يحيى الكاهلي: «أنّه سمع الصادق(علیه السلام)يقول في التقصير في الصلاة: بريد في بريد أربعة وعشرون ميلاً. ثم قال: كان أبي(علیه السلام)يقول: إنّ التقصير لم يوضع على البغلة السفواء، والدابّة الناجية، وإنّما وضع على سير القطار».
والواقع أنّ هذه الرواية لا إشارة فيها إلى الوحدة الزمانية من قريب أو بعيد، بل هي واضحة الدلالة على أنّ المقياس هو بريد في بريد، وبما أنّ البريد يعني المنزل الذي ينزله المسافرون عادةً للاستراحة وحطّ الرحل في نصف يوم، وكان يعتبر سفر يوم بريدين، كان هنا محلّ للسؤال، وهو أنّ البريد يختلف مقدار مسافته بالسير على البغلة السفواء والدابّة الناجية عنه بسير القطار الذي كان مع الجمال المثقلة، فأيّ بريد هو المقصود في المقام؟ ولماذا فسّر البريد بمعنى أربعة وعشرين ميلاً مع أنّ الأبردة تختلف؟! فأجاب الإمام(علیه السلام)بأنّه كان أبي(علیه السلام)يقول: إنّ التقصير لم يوضع على سير البغلة السفواء والدابّة الناجية، وإنّما وضع على سير الجمال المثقلة. ومن المعلوم أنّ سير الجمال المثقلة وقتئذٍ لا يختلف مقداره عنه في هذا الزمان، وإنّما فرق هذا الزمان عن ذاك الزمان هو غياب أصل سير الجمال وليس اختلاف مبلغه، ولم تكن في الرواية إشارة إلى مقياس زمنيّ قبل ذكره للبغلة السفواء والدابّة الناجية كي يصبح معنى العبارة صرف المقياس الزمنيّ إلى سير ما تعارف عليه السير مثلاً، وإنّما الوارد في الرواية هو البريد والأميال، فهذا الذيل إشارة إلى كيفيّة تطبيق البريد على الأميال.
وكأنّ المستدلّ توهّم أنّ البريد اسم لمقطع محدّد من المسافة كما هو الحال في الفرسخ والميل في حين أنّه ليس الأمر كذلك، وإنّما البريد يعطي معنى المنازل السفريّة المرسومة وقتئذٍ، وما في الروايات من تفسير البريد بأربعة فراسخ إنّما يعني أنّ البريد في سير الجِمال يساوي أربعة فراسخ.
ولعلّ هذا هو السبب في أنّه ورد في بعض الروايات بدل ذكر البريدين ذكر ثلاثة برد، فكأنّه كان ينظر إلى سير أبطأ من سير الجِمال