حَوْلِك)(1) و(لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيم)(2).
المبادئ السامية:
طرح النبيّ (صلى الله عليه وآله) من خلال سيرته الكريمة والوحي المدوّن في القرآن الكريم مبادئ إنسانيّة سامية، ودعا المؤمنين إلى التقيّد بها وبناء نظرتهم الفكريّة وسيرتهم السلوكيّة على أساس منها.
فقد قرّر القرآن الكريم مبدأ التوحيد وجعله اُسّ المبادئ، فقال: (وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لاِبْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيم)(3). و(قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْء)(4).
(1) آل عمران: 159.
وفسّر (الفظّ الغليظ) بمعنى: الجافي القاسي القلب، وقيل: إنّ الاُولى تستعمل غالباً في الخشونة الكلاميّة، والثانية في الخشونة العمليّة والسلوكيّة، وبهذا يشير سبحانه إلى ما كان يتحلّى به الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) من لين ورقّة تجاه المعاندين.
(2) التوبة: 182.
(3) لقمان: 13.
(4) الأنعام: 164.
واحتفظ للعقل بمكانته السامية وعدّه مناط التكليف وأكبر نعمة أنعَم الله بها على الإنسان، وقد روى الشيخ الكلينيّ (رحمه الله) عن محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) قال: «لمّا خلق الله العقل استنطقه، ثمّ قال له: أقبل فأقبل، ثمّ قال له: أدبر فأدبر، ثمّ قال: وعزّتي وجلالي ما خلقت خلقاً هو أحبّ إليّ منك، ولا أكملتك إلّا فيمن اُحبّ، أما إنّي إيّاك آمر، وإيّاك أنهى، وإيّاك اُعاقب، وإيّاك اُثيب»(1).
لذا خاطبت آياته الإنسان بما هو عاقل وأمرته بالتدبّر والتأمّل والتفكّر والنظر، قال تعالى: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الاَْلْبَاب)(2)، و(قُلْ سِيرُوا فِي الاَْرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْق)(3).
وطرح مبدأ الاُخوّة بين المؤمنين، تلك الرابطة القائمة على أساس الإيمان والحبّ في الله. يقول عزّوجلّ: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَة)(4)، وجعل الاُخوّة منحة إلهيّة، ونعمة ربّانيّة يهبها الله للمخلصين
(1) الكافي للشيخ محمّد بن يعقوب الكلينيّ 1:10 بحسب طبعة دار الكتب الإسلاميّة بطهران، الطبعة الرابعة.
(2) ص: 29.
(3) العنكبوت: 20.
(4) الحجرات: 10
الصادقين، ليمحي بها الأحقاد الجاهليّة ويزيل بها العداوة والبغضاء، فتتوحّد بها قلوبهم، وتتآلف نفوسهم. قال تعالى: (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً)(1)، بل اعتبر القرآن الكريم نحواً من الولاية لبعضهم على بعض، فقال: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْض)(2).
ورتّب الشارع المقدّس على هذه الاُخوّة الإيمانيّة حقوقاً وواجبات، فقد روى الشيخ الكلينيّ (رحمه الله) عن معلّى بن خنيس، عن أبي عبدالله الصادق (عليه السلام) قال: «قلت له: ما حقّ المسلم على المسلم؟ قال: له سبع حقوق واجبات، ما منهنّ حقّ إلّا وهو عليه واجب، إن ضيّع منها شيئاً خرج من ولاية الله وطاعته ولم يكن لله فيه من نصيب، قلت له: جعلت فداك! وما هي؟ قال: يا معلّى إنّي عليك شفيق أخاف أن تضيّع ولا تحفظ، وتعلم ولا تعمل. قال: قلت له: لا قوّة إلّا بالله، قال: أيسر حقّ منها أن تحبّ له ما تحبّ لنفسك وتكره له ما تكره لنفسك. والحقّ الثاني أن تجتنب سخطه وتتّبع مرضاته وتطيع أمره. والحقّ الثالث أن تعينه بنفسك ومالك ولسانك ويدك ورجلك. والحقّ الرابع أن تكون عينه ودليله ومرآته. والحقّ الخامس [أن] لا تشبع
(1) آل عمران: 103.
(2) التوبة: 71.
ويجوع، ولا تروى ويظمأ، ولا تلبس ويعرى. والحقّ السادس أن يكون لك خادم وليس لأخيك خادم، فواجب أن تبعث خادمك فيغسل ثيابه ويصنع طعامه ويمهّد فراشه. والحقّ السابع أن تبرّ قَسَمه(1)، وتجيب دعوته، وتعود مريضه، وتشهد جنازته. وإذا علمت أنّ له حاجة تبادره إلى قضائها ولا تلجئه أن يسألكها، ولكن تبادره مبادرة. فإذا فعلت ذلك وصلت ولايتك بولايته وولايته بولايتك»(2).
وألغى التفاضل على أساس العرق أو القوميّة وعدّ ذلك سبباً للتمايز والتعارف، وطرح مبدأ التفاضل على أساس التقوى والعمل الصالح، فقال: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَر وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)(3).
وأمر بطيب الكلام وحسنه بين الاُخوة، فقال: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً)(4)، ووصف عباده الصالحين أنّهم طيّبو الكلمة: (وَهُدُوا إِلَى
(1) أي: قبول قَسَمه.
(2) الكافي للشيخ محمّد بن يعقوب الكلينيّ 2:169 بحسب طبعة دار الكتب الإسلاميّة بطهران، الطبعة الرابعة.
(3) الحجرات: 13.
(4) البقرة: 83.
الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْل)(1) وعن النبيّ (صلى الله عليه وآله) في وصيّته لأبي ذرّ (رضي الله عنه): «يا أباذرّ، الكلمة الطيّبة صدقة»(2).
وأمر بخفض الجناح، ولين الجانب للمؤمنين، وإظهار المودّة لهم، يقول الله تعالى: (مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ)(3)، (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِين)(4)، وقال تعالى في وصف المؤمنين: إنّهم (أَذِلَّة عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّة عَلَى الْكَافِرِين)(5).
ومن مبادئه الخلقيّة السامية أن أمر بالزهد، والإعراض عن الدنيا وعدم تعلّق القلب بها، بحدّ يشمل الزهد عن حرامها وعمّا نهى الله عنه من زخارفها، والزهد عن حلالها وما أباحه وسوّغه. قال تعالى: (لِكَيْلاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ)(6)، وعن أميرالمؤمنين (عليه السلام) في وصف الزهّاد: «كَانُوا قَوْماً مِنْ أَهْلِ الدُنْيَا وَلَيْسُوا
(1) الحجّ: 24.
(2) وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة للشيخ محمّد بن حسن الحرّ العامليّ 5:234 بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت.
(3) الفتح: 29.
(4) الشعراء: 215.
(5) المائدة: 54.
(6) آل عمران: 153.
مِنْ أَهْلِهَا، فكَانُوا فِيهَا كَمَنْ لَيْسَ مِنْهَا، عَمِلُوا فِيهَا بما يُبْصِرُونَ، وَبَادَرُوا فِيهَا مَا يَحْذَرُون»(1).
وأمر بالحلم وضبط النفس عن هيجان الغضب، وكظم الغيظ وحبسه، فكظم الغيظ يرادف الحلم، وبالعفو وترك عقوبة الذنب، وبالصفح وترك التثريب واللّوم عليه، وقد ورد في الكتاب والسنّة في فضل هذه الخليقة وحسنها والحثّ على تحصيلها، فقد قال تعالى: (الذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الُْمحْسِنِين)(2). وقد أمر بذلك في قوله عزّ وجلّ: (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ)(3)، و(وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُون)(4). وقد ورد في النصوص عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) في خطبته: «ألا اُخبركم بخير خلائق(5) الدنيا والآخرة؟ العفو عمّن
(1) الوافي للفيض الكاشانيّ 4:26 بحسب طبعة مكتبة أميرالمؤمنين بإصفهان.
(2) آل عمران: 134.
(3) النور: 22.
(4) الشورى: 35.
(5) الخلائق جمع الخليقة، وهي الطبيعة والمراد هنا: الملكات النفسانيّة الراسخة.
ظلمك، وتصل من قطعك، والإحسان إلى من أساء إليك، وإعطاء من حرمك»(1).
نماذج سامية:
إنّ السيرة السامية والمبادئ الإنسانيّة التي عرضها النبيّ الخاتم (صلى الله عليه وآله) في سنّته الشريفة وكتاب وحيه الكريم أثمرت عن بناء جيل من المؤمنين الموحّدين عُجنت طينتهم بتلك المبادئ، فاستناروا بها طريق حياتهم، وواصلوا على أساس منها سلوكهم وسيرتهم، فحفظ لنا التاريخ شيئاً من مواقفهم وبطولاتهم وصمودهم وتضحياتهم وتفانيهم، فكانوا نماذج مشرقة في تجسيم السيرة النبويّة والقيم الوحيانيّة، كان منها غسيل الملائكة.
فقد روى القمّيّ في تفسيره: وكان حنظلة بن أبي عامر رجلاً من الخزرج تزوّج في تلك الليلة ـ التي كان في صبيحتها معركة اُحد ـ جميلة بنت عبدالله بن أبي سلول ودخل بها في تلك الليلة بعد أن استأذن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يُقيم عندها، فأذن له، وبعد أن زُفّت إليه وأفضى حنظلة (رضي الله عنه) إلى عروسه في أوّل ليلة، سمع منادي
(1) الكافي للشيخ محمّد بن يعقوب الكلينيّ 2:107 بحسب طبعة دار الكتب الإسلاميّة بطهران، الطبعة الرابعة.
رسول الله (صلى الله عليه وآله) يهيب بالمسلمين أن يخرجوا إلى اُحد، فترك عروسه، فشغله الصوت عن كلّ شيء، وأعجلته الاستجابة السريعة حتّى عن الاغتسال، والتحق حنظلة برسول الله (صلى الله عليه وآله)، فلمّا حضر القتال نظر حنظلة إلى أبي سفيان على فرس يجول بين العسكرين، فحمل عليه فضرب عرقوب فرسه فقطعه، ووقع أبو سفيان إلى الأرض يصيح: يا معشر قريش أنا أبو سفيان بن حرب وهذا حنظلة يريد قتلي، وعدا أبو سفيان ومرّ حنظلة في طلبه، فعرض له رجل من المشركين فطعنه، فمشى إلى المشرك في طعنه فضربه فقتله، وسقط حنظلة إلى الأرض بين حمزة وعمرو بن الجموح وعبدالله بن حزام وجماعة من الأنصار، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : رأيت الملائكة يغسّلون حنظلة بين السماء والأرض بماء المزن في صحائف من ذهب، فكان يسمّى غسيل الملائكة(1).
ومنها: أسماء بنت يزيد الأنصاريّة (رضي الله عنها) من بني عبد الأشهل، فقد روى أبوبكر أحمد بن الحسين البيهقيّ عن مسلم بن عبيد عنها أنّها أتت النبيّ (صلى الله عليه وآله) وهو بين أصحابه، فقالت: بأبي أنت واُمّي يا رسول الله، أنا وافدة النساء إليك وأعلم ـ نفسي لك الفداء ـ أنّه ما من امرأة كانت في شرق ولا غرب سمعت بمخرجي هذا أو لم
(1) تفسير القمّيّ لعليّ بن إبراهيم القمّيّ 1:118 بحسب طبعة دار الكتاب بقم المقدّسة.
تسمع إلّا وهي على مثل رأيي، إنّ الله بعثك إلى الرجال والنساء كافّة، فآمنّا بك وبإلهك، فإذا معشر النساء محصورات قواعد بيوتكم، ومفضى شهواتكم، وحاملات أولادكم، وإنّكم معاشر الرجال فضّلتم علينا بالجمع والجماعات، وعيادة المرضى، وشهود الجنائز، والحجّ بعد الحجّ، وأفضل من ذلك الجهاد في سبيل الله، وإنّ الرجل منكم إذا خرج حاجّاً ومعتمراً أو مرابطاً حفظنا لكم أموالكم، وغزلنا أثوابكم، وربّينا لكم أولادكم، أفما نشارككم في هذا الخير يا رسول الله؟ فالتفت النبيّ (صلى الله عليه وآله) إلى أصحابه بوجهه كلّه، ثمّ قال: هل سمعتم مقالة امرأة قطّ أحسن من مساءلتها عن أمر دينها من هذه؟ قالوا: يا رسول الله ما ظننّا أنّ امرأة تهتدي إلى مثل هذا، فالتفت النبيّ (صلى الله عليه وآله) إليها، ثمّ قال: انصرفي أ يّتها المرأة، واعلِمي من وراءك من النساء أنّ حسن تبعّل إحداكنّ لزوجها، وطلبها مرضاته، واتّباعها موافقته يعدل ذلك كلّه. قال: فأدبرت المرأة وهي تهلّل وتكبّر استبشاراً(1).
ومنها: سلمان الفارسيّ (رضي الله عنه) حيث كان سلمان يسفّ(2) الخوص وهو أمير على المدائن، ويبيعه ويأكل منه ويقول: لا اُحبّ أن آكل إلّا
(1) شعب الإيمان لأبي بكر أحمد بن الحسين البيهقيّ 6:240 بحسب طبعة دار الكتب العلميّة ببيروت.
(2) يسفّ الخوص، أي: ينسجه.
من عمل يدي، وكان قد تعلّم سفّ الخوص من المدينة(1).
وأخرج ابن سعد عن ثابت، قال: كان سلمان (رضي الله عنه) أميراً على المدائن، فجاء رجل من أهل الشام من بني تيم الله معه حِمْل تين، وعلى سلمان وأندَرْوَرد(2) وعباءة، فقال لسلمان: تعالَ احْمِل ـ وهو لا يعرف سلمان ـ فحمل سلمان، فرآه الناس فعرفوه، فقالوا: هذا الأمير! قال: لَمْ أعرفك، فقال له سلمان: لا، حتّى أبلغ منزلك. وأخرجه أيضاً من وجه آخر بنحوه وزاد: فقال سلمان: قد نويت فيه نيّة، فلا أضعه حتّى أبلغ بيتك(3).
الانتكاسة:
وعلى مسرح هذه الرحلة النبويّة من تاريخ البشريّة نجد أنّ اُمماً ظهرت وسادت ثمّ أفلت وزالت: إمّا لقصور في المقوّمات المبدئيّة لوجودها واستمرارها، حيث لم تكن واجدة أساساً لما يؤهّلها للبقاء والاستمرار، أو لابتعادها وانحرافها عن المبادئ الإلهيّة التي تعدّ سنناً
(1) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 18:35 بحسب طبعة مكتبة آية الله المرعشيّ النجفيّ بقم المقدّسة.
(2) هي نوع من السراويل مُشَمَّر فوقَ التُبّان يغطي الركبة، أعْجَمِيَّة. والتُبّان هو السروال الصغير لا ساقين له.
(3) الطبقات الكبرى لمحمّد بن سعد بن منيع البصريّ الزهريّ 4:88 بحسب طبعة دار صادر ببيروت.
كونيّة ثابتة لحركة التاريخ وظهور واُفول الاُمم والشعوب، فتمزّقتوفشلت وذهب ريحها. وهذا ما ذكره القرآن الكريم في مواضع عدّة من آياته المباركة، كقوله تعالى: (فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّة يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إلَّا قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ. وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْم وَأَهْلُهَا مُصْلِحُون)(1). وكقوله تعالى: (وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَة عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُّكْراً. فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً)(2).
ولم تكن اُمّة نبيّنا خارجة عن هذا القانون التاريخيّ؛ إذ يشملها ما يشمل غيرها من الاُمم، فلمّا ظهرت بادرة الانحراف بعد رحلة نبيّها الأكرم كما أنبأ بذلك قوله تعالى: (وَمَا مُحَمَّدٌ إلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِين)(3)، كان لابدّ أن تنتهي إلى ما انتهت إليه ما سبقها من الاُمم من المصير المحتوم بأن تذوقوبال أمرها، ويكون عاقبة أمرها خسراً بما عتت عن أمر ربّها ورسله.
(1) هود: 116 ـ 117.
(2) الطلاق:. ـ 9.
(3) آل عمران: 144.
من شواهد الانتكاسة:
أوّلاً: خليفة المسلمين يلعن في قنوت الصلاة رجلاً أذهب محكم التنزيل عنه الرجس، وباهل به النبيّ (صلى الله عليه وآله) بأمر ربّه، ممّن فرض الله مودّتهم وأوجب الرسول ولايتهم، وهم أحد الثقلين اللذين لا يضلّ من تمسّك بهما، ولا يهتدي إلى الله من ضلّ عنهما، ألا وهو أمير المؤمنين أخو الرسول ووليّه، ومن شهد الرسول بأنّه يحبّ الله ورسوله، وأنّه منه بمنزلة هارون من موسى.
بل أمر بلعن أمير المؤمنين (عليه السلام) في كلّ كورة، وترك ذلك سنّةً إلى سنة (99) فأزالها عمر بن عبد العزيز، وكان الحسن (عليه السلام) قد شرط على معاوية إذا اصطلحا شروطاً منها أن لا يشتم أباه، فلم يجبه إلى هذه وأجابه إلى ما سواها، فطلب الحسن أن لا يشتم عليّاً وهو يسمع، قال ابن الأثير وابن جرير وأبو الفداء وابن الشحنة وكلّ من ذكر صلح معاوية والحسن: فأجابه إلى ذلك ثمّ لم يفِ له به، بل شتم عليّاً والحسن على منبر الكوفة، فقام الحسين ليردّ عليه فأجلسه الحسن (عليهما السلام)، ثمّ قام هو ففضح معاوية. وهذه القضيّة ذكرها أبو الفرج الإصفهانيّ في مقاتل الطالبيّين وكثير من أهل السير والأخبار(1).
(1) انظر: الفصول المهمّة في تأليف الاُمّة للسيّد شرف الدين الموسويّ: 138 ـ 139.
ولم يزل معاوية يلعن أمير المؤمنين أمام البرّ والفاجر ويحمل عليها الأصاغر والأكابر حتّى أمر سعد بن أبي وقّاص في ما أخرجه مسلم من صحيحه بالإسناد إلى عامر بن سعد بن أبي وقّاص عن أبيه قال: «أمر معاوية بن أبي سفيان سعداً فقال: ما منعك أن تسبّ أبا التراب؟ فقال: أما ذكرت ثلاثاً قالهنّ له رسول الله (صلّى الله عليه وآلهوسلّم) فلن أسبّه، لأن تكون لي واحدة منهنّ أحبّ إليّ من حمر النعم، سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول له خلّفه في بعض مغازيه، فقال له عليّ: يا رسول الله، خلّفتني مع النساء والصبيان؟ فقال له رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبوّة بعدي، وسمعته يقول يوم خيبر: لأعطين الراية رجلاً يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله، قال: فتطاولنا لها، فقال: ادعوا لي عليّاً، فاُتي به أرمد فبصق في عينه ودفع الراية إليه ففتح الله عليه، ولمّا نزلت هذه الآية: (فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ)، دعا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عليّاً وفاطمة وحسناً وحسيناً فقال: اللّهمّ هؤلاء أهلي»(1).
ثانياً: خليفة المسلمين يبيح المدينة المنوّرة ثلاثة أيّام حتّى افتضّ
(1) صحيح مسلم لمسلم بن الحجّاج القشيريّ النيسابوريّ 7:120 بحسب طبعة دار الفكر ببيروت.
فيها ألف عذراء من بنات المهاجرين والأنصار، كما نصّ عليه السيوطيّ في تاريخ الخلفاء وعلمه جميع الناس، وقتل يومئذ من المهاجرين والأنصار وأبنائهم وسائر المسلمين اللائذين بضريح سيّد النبيّين (صلى الله عليه وآله) عدد غفير، ولم يبقَ بعدها بدريّ، وقتل من النساء والصبيان عدد كثير، ثمّ اُمروا بالبيعة ليزيد على أنّهم خول وعبيد إن شاء استرقّ وإن شاء أعتق، فبايعوه على ذلك وأموالهم مسلوبة ورحالهم منهوبة ودماؤهم مسفوكة ونساؤهم مهتوكة، وبعث مجرم بن عقبة برؤوس أهل المدينة إلى يزيد، فلمّا اُلقيت بين يديه قال: ليت أشياخي ببدر شهدوا.. الأبيات.
ثمّ توجّه مجرم لقتال ابن الزبير فهلك في الطريق، وتأمّر بعده الحصين بن نمير بعهده من يزيد، فأقبل حتّى نزل على مكّة المعظّمة ونصب عليها العرادات والمجانيق، وفرض على أصحابه عشرة آلاف صخرة في كلّ يوم يرمونها بها، فحاصروهم بقيّة المحرّم وصفر وشهري ربيع يغدون على القتال ويروحون، حتّى جاءهم موت يزيد وكانت المجانيق أصابت جانب البيت فهدّمته مع الحريق الذي أصابه(1).
ثالثاً: خليفة المسلمين يقتل صحابة رسول الله (صلى الله عليه وآله) كعمرو بن الحمق الخزاعيّ (رضي الله عنه)، وكان بحيث أبلته العبادة، ورأسه أوّل رأس حمل في
(1) انظر: الفصول المهمّة في تأليف الاُمّة للسيّد شرف الدين الموسويّ: 128 ـ 130.
الإسلام، قتله بحبّه عليّاً (عليه السلام)، وكحجر بن عدي الكنديّ (رضي الله عنه)، وكانا من فضلاء الصحابة، قتله وأصحابه البررة الأتقياء إذ لم يلعنوا عليّاً (عليه السلام).
ومعاوية هو الذي قتل الحسن (عليه السلام) بسمّ دسّه إليه، فسقته إيّاه بنت الأشعث عليها اللعنة، علم بذلك كافّة أهل البيت وشيعتهم واعترف به جماعة من غيرهم.
قال أبو الحسن المدائنيّ: كانت وفاة الحسن سنة (49) وكان مريضاً (40) يوماً وكان سنّه (47) سنة، دسّ إليه معاوية سمّـاً على يد جعدة بن الأشعث، وقال لها: إن قتلتيه بالسمّ فلك ماءة ألف واُزوّجك يزيد، فلمّا مات وفي لها بالمال ولم يزوّجها من يزيد، وقال: أخشى أن تصنعي بابني ما صنعت بابن رسول الله (صلى الله عليه وآله) (1).
ونقل المدائنيّ عن الحصين بن المنذر الرقاشيّ: أنّه كان يقول: والله ما وفي معاوية للحسن بشيء ممّا أعطاه، قتل حجراً وأصحابه، وبايع لابنه يزيد، وسمّ الحسن.
وقال أبو الفرج الإصفهانيّ المروانيّ في كتابه مقاتل الطالبيّين حيث ذكر السبب في وفاة الحسن (عليه السلام) ما هذا لفظه: «وأراد معاوية البيعة لابنه يزيد، فلم يكن شيء أثقل عليه من أمر الحسن بن عليّ وسعد بن
(1) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 16:11 بحسب طبعة مكتبة آية الله المرعشيّ النجفيّ بقم المقدّسة.
أبي وقّاص، فدسّ إليهما سمّـاً فماتا منه»(1).
مواجهة للانتكاسة:
إذاً كيف تأتّى للاُمّة هذه أن تنجو من الاُفول والزوال، وأن تصان الرسالة عن الانحراف والضياع، بعد أن انقلبت على أعقابها بعد وفاة الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله) ؟
مَن تمكّن أن يضع الاُمّة على مسارها السليم ويحفظها من أن تفترسها سنن التاريخ؟
ذلك هو الحسين السبط الشهيد (عليه السلام) صاحب تلك المهمّة الإلهيّة الكبرى والرسالة التاريخيّة العظمى التي لولاها لضلّت الاُمّة سبيل الرشاد، ولاستحقّت التيه والضياع. فلولاه وهو (بَقِيَّة يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْض) واُمّة تصدّت لإصلاح ما فسد رافعة شعار: «إنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مُفسداً ولا ظالماً، وإنّما خرجتُ أطلب الإصلاح في اُمّة جدّي محمّد (صلى الله عليه وآله) ، اُريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر»(2)
(1) المصدر السابق: 49.
(2) مكاتيب الأئمّة (عليهم السلام) لعلي أحمدي ميانجي 3:114 بحسب طبعة دار الحديث بقم.
وهذا المقطع بعض ما كتبه الحسين (عليه السلام) في وصيّته إلى أخيه محمّد بن عليّ المعروف بابن الحنفيّة عندما أراد الخروج إلى كربلاء.
لحصل الذي حصل لمن سبقنا من الاُمم.
النهضة الحسينيّة:
أجل، إنّ جانباً من أسرار هذه المهمّة الرساليّة والدور التاريخيّ الكبير تجده ـ أيّها القارئ الكريم ـ في سطور هذا السفر الجليل والذي تسمّى بـ (النهضة الحسينيّة) مقتبساً من محاضرات علَمين من أعلام الدين وفقيهين جليلين: أحدهما: المرجع الفقيد والإمام الشهيد السيّد محمّد باقر الصدر (قدس سره)، والذي دوّنت محاضراته في كتابه المعنون بـ (أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) ودورهم في تحصين الرسالة الإسلاميّة). وثانيهما: الفقيه الكريم والمرجع العظيم سماحة السيّد كاظم الحسينيّ الحائريّ دام ظلّه، والذي دوّنت محاضراته في كتابه المعنون بـ (الإمامة وقيادة المجتمع) مع شيء من التصرّف في العبارة بما يناسب حال كتابنا الحاضر.
فكتابنا الحاضر ـ إذاً ـ يركّز الكلام على الملحمة التاريخيّة والدور الرساليّ العظيم الذي تبنّاه الإمام الشهيد والسبط الرشيد سيّد شباب
أهل الجنّة الحسين بن عليّ وأهل بيته وصحبه البررة (عليهم السلام) في ملحمةعاشوراء الخالدة على أرض كربلاء المقدّسة، ودورهم في تحصين الرسالة من الضياع، والاُمّة من الاُفول والزوال، تاركين شرح وتوضيح ما اضطلع به باقي أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) من أدوار على نفس الصعيد إلى مضانّها من الكتب التي بحثت ذلك مكتفين بالإشارة المختصرة في كتابنا الحاضر.
فلو أنّ اُمّة ورسالة تعرّضت لما تعرّض له الإسلام ومصالحه واُمّته في عصره الأوّل لما بقي من معالمها شيء، ولحرّفت كما حرّفت الديانات السابقة وتلاشت في متاهات الانحرافات والرؤى، فإنّ الاُمّة عندما تفقد مقدّساتها تخمد، ولن تصارع ولا تكافح من أجل دينها ومبادئها، وتصبح عرضة لأطماع الطامعين ومؤامرات المتربّصين.
فالحسين السبط (عليه السلام) بملحمته الخالدة وبدمه الطاهر وتضحيته الفريدة بنفسه الزكيّة والخيرة من أهل بيته وصحبه أدام للرسالة حياتها وللاُمّة وعيها ويقظة ضميرها وهيجان عاطفتها وتحسّس وجدانها تجاه رسالتها ومقوّمات وجودها، لذا كان الهدف المطلوب من وراء إعداد هذا الكتاب هو بيان معالم وأهداف هذه النهضة المباركة والملحمة الخالدة التي سطّرها سيّد شباب أهل الجنّة (عليه السلام).
أجل كان ما سطّره (عليه السلام) في نهضته الخالدة هو الهدف النهائيّ من هذا الكتاب لما انتهى إليه بحركته الربّانيّة ومشروعه التضحويّ
الرساليّ، فصار الميزان الواضح والقسطاس المستقيم في تشخيص ماهو حقّ وثابت، وتمييزه عمّا هو باطل وزائف، وفرقان ما هو عدل وقسط عمّا هو بطلان وظلم، وكان بمظلوميّته وعظيم المأساة التي حلّت به وبأهل بيته ذا النفوذ العاطفيّ العميق في أحاسيس الاُمّة وعواطفها، والمنبّه الأقوى لوجدانها وضميرها، ومن ثمّ يقظتها وتحرّكاتها، ويشهد لهذا ما ورد عن ابن سنان عن جعفر بن محمّد (عليه السلام) قال: «نظر النبيّ (صلى الله عليه وآله) إلى الحسين بن عليّ (عليه السلام) وهو مقْبِل فأجلسه في حجره وقال: إنّ لقتل الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لا تَبْرُدُ أبداً. ثمّ قال (عليه السلام): بأبي قتيل كلّ عَبْرَة. قيل: وما قتِيل كلّ عَبْرَة يا ابن رسول الله؟ قال: لا يذْكُره مؤمن إلّا بَكى»(1).
فكان مصباح الهدى وسفينة النجاة لهذه الاُمّة الممتحنة، بمبادئه تستنير دربها وتسترشد طريق الهداية وسبيل الرشاد، وبتضحياته وتفانيه من أجل العقيدة تشحذ هممها وقدرتها على التضحية والاستشهاد، وتستعيد مجدها ومكانتها، وتصدّ المتربّصين بها وبمستقبل رسالتها.. فكان الحسين (عليه السلام) مدرسة للوعي واليقظة والثورة والتضحية عبر التاريخ حيث أسقطت مبادؤه حكم بني اُميّة
(1) مستدرك الوسائل للمحدّث النوريّ 10:318 بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت لإحياء التراث بقم المقدّسة.
وقضى على أركانهم، وقارع الثوّار بشعارات ثورته وبطلب الثأرلدمه الزكيّ تحت لواء «الرضا من آل محمّد»(1) أركان دولة الظلم، بل
(1) روى الشيخ الكلينيّ (رحمه الله) عن عيص بن القاسم قال: سمعت أبا عبدالله (عليه السلام) يقول: «...إن أتاكم آت منّا فانظروا على أيّ شيء تخرجون، ولا تقولوا: خرج زيد، فإنّ زيداً كان عالماً، وكان صدوقاً، ولم يدعكم إلى نفسه، إنّما دعاكم إلى الرضا من آل محمّد (عليهم السلام)، ولو ظهر لوفى بما دعاكم إليه، إنّما خرج إلى سلطان مجتمع لينقضه، فالخارج منّا اليوم إلى أيّ شيء يدعوكم: إلى الرضا من آل محمّد (عليهم السلام)؟ فنحن نشهدكم أ نّا لسنا نرضى به وهو يعصينا اليوم وليس معه أحد، وهو إذا كانت الرايات والألوية أجدر أن لا يسمع منّا إلّا مع من اجتمعت بنو فاطمة معه..». الكافي 8:264 بحسب طبعة دار الكتب الإسلاميّة بطهران، الطبعة الرابعة.
وروى النعمان بن محمّد المغربيّ عن محمّد بن سلام الكوفيّ، بإسناده عن عبدالله بن الحسن: «أنّه كان في أيّام بني اُميّة إذا خلا بمن يثق به ذكر له سرّ أحوال بني اُميّة، وأومى إلى القيام عليهم. فلمّا ظهر أبو مسلم بخراسان، سكت عن ذلك. فقيل له: هذا أبو مسلم قد قام يدعو إلى الرضا من آل محمّد (صلى الله عليه وآله)، ولبس السواد، وسوّد راياته على الحسين (عليه السلام)، وقد كنت تذكر مثل هذا، وأنت اليوم لا تذكره، فما الذي فيه؟...». شرح الأخبار في فضائل الأئمّة الأطهار للقاضي أبي حنيفة النعمان بن محمّد التميميّ المغربيّ 3:417 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم المقدّسة.
كان من أهمّ المعالم في الثورات التي حدثت بعد شهادته.
فكان لابدّ من هذا الكتاب الذي يجمع بين دفّتيه صورة من تلك المواقف الباسلة والتضحيات الخالدة. كيف لا وقد أصلح مسار اُمّة جدّه محمّد (صلى الله عليه وآله) وهو القائل: «إنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في اُمّة جدّي (صلى الله عليه وآله)، اُريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر...»(1). كيف لا ونحن اليوم وبحكم الظروف الراهنة بحاجة ماسّة إلى تهيئة العناصر التي تشدّ الاُمّة بأهداف الحسين (عليه السلام) ومبادئ نهضته، وإلى يقظة حسينيّة تقوم على أساس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإعادة الإصلاح إلى ما فسد من الاُمور في بلدنا الإسلاميّ وعراقنا الحبيب، بل نرى ضرورة أن يستمرّ هذا النهج على مسارين:
الأوّل: أن يتبنّى علماء مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) قيادة ساحات العمل في وسط الاُمّة وتوجيه حركة النهضة الحسينيّة ميدانيّاً وبكلّ إمكاناتهم المتاحة، وتنمية المشاعر الفوّارة تجاه مأساة الحسين بما يخدم المصالح الإسلاميّة ومستقبل وضع الاُمّة.
والثاني: أن يقتدي مثقّفو الاُمّة ومفكّروها وإعلاميّوها بالمرجعيّة
(1) بحار الأنوار للعلاّمة المجلسيّ 44:329 بحسب طبعة دار إحياء التراث العربيّ ببيروت، الطبعة الثالثة.
الرشيدة ويكونوا بحقّ ذراعها العاملة ولسانها الناطق في الاُمّة سيّما في ما يتعلّق بنهضة الحسين (عليه السلام) وقيمه ومبادئ ثورته العظيمة، والسعي نحو تجسيد شعاراته التي تعدّ مبادئ ثورته وتجسيد الثقافة القائمة على ما صدح به من قبيل: «ألا ترون الحقّ لا يعمل به، والباطل لا يتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء الله، وإنّي لا أرى الموت إلّا سعادة، والحياة مع الظالمين إلّا برما»(1). و«ألا وإنّ الدعيّ ابن الدعيّ قد ركز بين اثنتين: بين الذلّة والسلّة، هيهات منّا الذلّة، يأبى الله ذلك لنا ورسوله والمؤمنون، وحجور طابت وطهرت، وأنوف حميّة ونفوس أبيّة من أن تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام»(2).
فكان كتابنا (النهضة الحسينيّة) خطوة في هذا الطريق الطويل مستلهمين مباحثه وأفكاره ـ كما أسلفنا ـ ممّا كتبه العلَمان المفكّران: المرجع الشهيد الصدر (قدس سره)، والمرجع المعظّم سماحة السيّد الحائري دام ظلّه، مع حفاظنا على الاُسلوب الإلقائيّ الذي تميّز به كتاب (أئمّة
(1) المصدر السابق: 192، وتحف العقول عن آل الرسول لابن شعبة الحرّانيّ: 245 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم المقدّسة.
(2) بحار الأنوار للعلاّمة المجلسيّ 74:162 بحسب طبعة دار إحياء التراث العربيّ ببيروت، الطبعة الثالثة، وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 3:250 بحسب طبعة مكتبة آية الله المرعشيّ النجفيّ بقم المقدّسة.
أهل البيت (عليهم السلام) ودورهم في تحصين الرسالة الإسلاميّة) الذي جمعت فيه محاضرات السيّد الشهيد الصدر؛ إذ لم نرَ في تحويل الاُسلوب الإلقائيّ المتّبع في المحاضرة إلى الصياغة الإنشائيّة المتّبعة في الكتابة إلّا تضييعاً لبعض محاسن ذلك الاُسلوب من كونه أكثر تأثيراً في القارئ، وأشدّ نفوذاً إلى قلب المخاطَب، وأبلغ في إيصال الفكرة إليه ممّا عليه الاُسلوب الآخر.
هذا، وقد ذكرنا مصادر البحوث التي نقلناها عن ذلك الكتاب في هامش الصفحات، مع اعتمادنا على تخريج مصادر النصوص على ما هو مخرّج في هامش صفحات كتاب (أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) ودورهم في تحصين الرسالة الإسلاميّة) الذي تمّ تحقيقه من قِبل اللجنة التابعة لمؤتمر الشهيد الصدر (قدس سره).
والسلام على الحسين، وعلى عليّ بن الحسين، وعلى أولاد الحسين، وعلى أصحاب الحسين.
النهضة الحسينيّة
° مراحل تاريخ أهل البيت (عليهم السلام) .
° موقف الإمام الحسين (عليه السلام) من طمس معالم النظريّة الإسلاميّة وتمييع الاُمّة.
° الإمام الحسين (عليه السلام) ومبرّرات رفض البيعة.
° مقوّمات ثورة الإمام الحسين (عليه السلام).
° مشاهد موت الإرادة في المجتمع الحسيني.
° التحوّل من أخلاقيّة الهزيمة إلى أخلاقيّة الإرادة.
° نماذج مهمّة من الآراء في تفسير ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) ودراستها.