9

الاُصول العمليّة

1

 

 

تمهيد

في ذكر مقدّمات

 

 

○الاُصول العمليّة في الفقه الشيعيّ.

○روح الحكم الظاهريّ.

○الفرق بين الأمارات والاُصول.

○نتائج الفهم الخاطئ للأمارات والاُصول.

○الفرق بين الاُصول العقليّة وغيرها.

○الاُصول التنزيليّة.

○حصر الاُصول العمليّة.

 

 

11

 

 

 

 

 

 

 

الاُصول العمليّة في الفقه الشيعيّ

المقدّمة الاُولى: أنّ الرجوع إلى الاُصول العمليّة في الفقه من المميّزات الجوهريّة بين الفقه الشيعيّ والفقه السنّىّ، وتوضيح المقصود: أنّ المدار في الفقه السنّيّ دائماً هو التوصّل إلى الحكم الواقعيّ، وبهذا الصدد يتمسّكون أوّلاً بالأدلّة المشروعة من الكتاب والسنّة، فإن لم يوجد ذلك تمسّكوا بمطلق الأمارات من الظنّ والقياس ونحو ذلك، وإن لم يوجد ذلك تمسّكوا بأيّ مناسبة واعتبار. وأمّا الفقه الشيعيّ فقد قام على مرحلتين من الاستنباط، ففي المرحلة الاُولى يفتّش الفقيه عن الدليل على الحكم الشرعيّ، فإن وجد دليلاً مشروعاً على الحكم أخذ به، وإلاّ لم يفكّر في التعويض عن الدليل المشروع بنطاق أوسع من الأدلّة من الأمارات، أو التخمينات والترجيحات، بل انتقل إلى المرحلة الثانية وهي الأخذ بما هو مقتضى الوظيفة العمليّة في مقام الخروج عن عهدة التكليف المحتمل، وهذا ما يتعيّن بمباحث الاُصول العمليّة.

إلاّ أنّ هذا المميّز الأساس للفقه الشيعيّ لم يطرح من أوّل الأمر بصيغة محدّدة دقيقة كما يعرف اليوم، بل الأصل العمليّ الذي كان يُبنى عليه الاستنباط في الفقه الإماميّ كان مندرجاً من أوّل الأمر تحت عنوان دليل العقل الذي يورث القطع،

12

ومن هنا ذكر السيّد علم الهدى وابن إدريس(قدس سرهما) في مقام بيان المصادر والأدلّة التي يعتمدون عليها في مقام الاستنباط: إنّنا نعتمد على أدلّة كلّها علميّة، ولا يجوز إعمال دليل لا يفيد العلم كخبر الواحد والقياس ونحو ذلك من الأدلّة الظنّيّة، والأدلّة القطعيّة عندهما هي الكتاب والسنّة والإجماع والعقل، ثمّ يُطبّقان الدليل العقليّ في الفقه على أصل البراءة.

فجوهر الأصل العمليّ كان موجوداً عندهم، فكانوا يرجعون لدى عدم الأمارة المشروعة إليه لا إلى أمارة غير مشروعة أو المناسبة والتخمين، لكن كانوا يُسمّون ذلك بالدليل العقليّ وكانوا يجعلونه في عرض الكتاب والسنّة، ومقصودهم بالبراءة التي جعلوها من الدليل العقليّ البراءة العقليّة ـ طبعاً ـ لا الشرعيّة.

ثمّ حينما توسّع البحث في الدليل العقليّ ذكروا تحته عنواناً مستقلاًّ وهو الاستصحاب، وجعلوا البراءة ترجع بنحو من الأنحاء إلى الاستصحاب؛ لأنّ البراءة عبارة عن استصحاب براءة الذمّة الثابتة بحكم العقل، وسمّوها باستصحاب حال العقل.

وأيضاً وجد في كلماتهم تقريب البراءة بحكم العقل بقبح التكليف بما لا يطاق، لكون التكليف بغير المعلوم تكليفاً بما لا يطاق كما هو الحال في كلمات المحقّق(قدس سره).

وأُضيف بعد ذلك (كما في المعتبر والدروس) إلى تقريبات البراءة: التقريب بأنّ عدم الدليل دليل على العدم؛ لأنّ المبلّغين بلّغوا الأحكام الشرعيّة، ففي المورد الذي لا نجد دليلاً على الحكم الشرعيّ يستكشف من عدم الدليل عدمه، وكلّ هذا كان بروح المعاملة مع أصالة البراءة معاملة دليل عقليّ قطعيّ.

ثمّ لمّا شاع العمل بالأمارات الظنّيّة وبخبر الواحد، وتوسّع البحث في نطاق

13

الأمارات الظنّيّة تدريجاً، جعل أصل البراءة دليلاً ظنّيّاً وأمارة ظنّيّة، وميّزوا بينها وبين الاستصحاب، وجعلوا الاستصحاب أيضاً حجّة بملاك الظنّ. حتّى أنّه في كتاب المعالم توجد تصريحات تدلّ على أنّ بناءهم على حجّيّة أصالة البراءة كان من باب الظنّ، بل مثل هذه الفكرة امتدت إلى بعض المتأخّرين كصاحب القوانين(قدس سره) ـ على ما ينقل عنه الشيخ الأعظم(رحمه الله) ـ مستغرباً منه هذا الكلام.

وقد بدأ علم الاُصول يحدّد مفهوم الأصل العمليّ والوظيفة العمليّة على يد المتأخّرين عن صاحب المعالم والشيخ البهائيّ(قدس سرهما). ولعلّ من أوائل من تنبّه إلى ذلك ـ كما أشار إليه الشيخ الأعظم(رحمه الله) ـ المحقّق جمال الدين(رحمه الله).

ثمّ تحدّد هذا المفهوم الموجود عندنا اليوم بشكل دقيق مضبوط على يد الاُستاذ الوحيد البهبهانيّ(قدس سره)ومدرسته خصوصاً الشيخ محمّد تقيّ صاحب الحاشية(رحمه الله)، وبعده تحدّد على يد الشيخ الأعظم وبلغ تحقيقه بيده الشريفة إلى الغاية التي بلغها اليوم في الدقّة، فأصبح مفهوم الأصل العمليّ عبارة عن وظيفة عمليّة لا يطلب فيها الفقيه العلم أو الظنّ بالحكم الشرعيّ الواقعيّ، بل يطلب فيها ما هي الوظيفة العمليّة التي يخرج بها عن عهدة التكليف عند عدم معرفته.

والشيخ الأعظم(رحمه الله) ينقل عن الوحيد البهبهانيّ في أوّل أصل البراءة: أنّه أطلق اسم الأدلّة الفقاهتيّة على الاُصول العمليّة، واسم الأدلّة الاجتهاديّة على الأمارات، ويقول(قدس سره): إنّ النكتة في ذلك هي تعريف الفقه والاجتهاد، حيث عرّف الاجتهاد باستفراغ الوسع لتحصيل الظنّ بالحكم الشرعيّ، وعرّف الفقه بأنّه العلم بالحكم الشرعيّ. والاُستاذ الأكبر(رحمه الله) حمل الحكم الشرعيّ في تعريف الاجتهاد على الحكم الواقعيّ، والظنّ به عبارة عن الأدلّة والأمارات الظنّيّة التي تؤدّي إليه، من قبيل الظواهر وخبر الواحد ونحو ذلك، ولهذا أسماها بالأدلّة الاجتهاديّة، وحمل

14

الحكم الشرعيّ في تعريف الفقه على الحكم الشرعيّ الظاهريّ، فأطلق علىالاُصول العمليّة اسم الأدلّة الفقاهتيّة؛ لأنّها تُؤدّي إلى العلم بالحكم الشرعيّ الظاهريّ.

والخلاصة: أنّ تحديد مفهوم الأصل العمليّ بهذا الطرز الدقيق وجد بعض التمهيدات له قبيل العصر الثالث من عصور علم الاُصول، ودقّق في العصر الثالث الذي نسمّيه بعصر الاُستاذ الوحيد البهبهانيّ(رحمه الله) على يد هذا الاُستاذ الأكبر ومن جاء من بعده وساهم وشارك في تكوين العصر الثالث، وهذا أحد الاُمور التي دعتنا إلى أن نجعل ظهور الاُستاذ الوحيد ومدرسته وما تلاه من البحث العلميّ عصراً برأسه في قبال ما قبله، فإنّ تحدّد فكرة الأصل في قبال فكرة الدليل مطلب أساس في عمليّة الاستنباط، وهو من المظاهر الرئيسة لهذا العصر الثالث، والتي بها وبأمثالها استحقّ أن يكون عصراً جديداً من عصور هذا العلم، ولهذا ذكر صاحب الحدائق(قدس سره)في كتاب الدرر النجفيّة في درّة عقدها لبحث أصالة البراءة، وتكلّم عن أصالة البراءة بالمعنى الذي يناسب كونها دليلاً، وناقش في ذلك وأبطل كونها دليلاً. ذكر بعد ذلك: أنّه لأجل هذا ذهب بعض فضلاء متأخّري المتأخّرين إلى أنّ أصالة البراءة مرجعها إلى نفي تكليفنا بالحكم، لا إلى كونها دليلاً على نفي الحكم، وهذا مرجعه إلى ما قلناه، ولعلّه يقصد ببعض فضلاء متأخّري المتأخّرين بعض مشايخ الاُستاذ الوحيد؛ لأنّ صاحب الحدائق معاصر للاُستاذ الوحيد.

ثمّ إنّ الأصل العمليّ كان يكتب في الاُصول بحسب الترتيب السابق ضمن الدليل العقليّ، حتّى عند من ميّز ثبوت الفرق الجوهريّ بينه وبين أدلّة الحكم الواقعيّ، إلى أن بنى الشيخ الأعظم(قدس سره) ترتيب علم الاُصول على هذا الأساس، فجعل في ترتيب العلم وتبويبه مايزاً بين الأمارات والاُصول، فكان هذا تحوّلاً للعلم بحسب الترتيب.

15

 

روح الحكم الظاهريّ

المقدّمة الثانية: قد عرفت فيما مضى من مبحث الجمع بين الحكم الظاهريّ والواقعيّ: أنّ روح الحكم الظاهريّ في الأمارات والاُصول عبارة عن إبراز المولى لدرجة اهتمامه وعدم اهتمامه بأغراضه الواقعيّة الإلزاميّة والترخيصيّة عند التزاحم في مقام الحفظ والمحرّكيّة، حيث إنّ الترخيص كثيراً مّا ينشأ من مصلحة في الترخيص لا مجرّد عدم ملاك للإلزام، فإن قدّم جانب الأغراض الإلزاميّة أوجب الاحتياط، وإن قدّم جانب الأغراض الترخيصيّة رخّص في المخالفة. هذا هو روح المطلب، وللمولى أن يتفنّن في التعبير، كأن يعبّر تارةً بجعل الحجّيّة، واُخرى بجعل العلم، وثالثة بقوله: (أخوك دينك، فاحتط لدينك)، ورابعة بقوله: (صدّق العادل) وما إلى ذلك ممّا تساعد عليه اللغة والفهم العرفيّ. وفي هذه الروح لا فرق بين الأمارات والاُصول أصلاً، ويظهر الفرق بينهما ممّا يأتي.

 

الفرق بين الأمارات والاُصول

المقدّمة الثالثة: في بيان الفارق الواقعيّ بين الأمارات والاُصول.

قد مضى أنّ جعل الأمارات وجعل الاُصول كلاهما نتيجة للتزاحم بين الأغراض اللزوميّة والترخيصيّة في مقام حفظ المولى لأغراضه وتحريكه للعبد نحوها، وعندئذ نقول: إنّ تقديم أحد الغرضين على الآخر في هذا المقام تارةً ينشأ من قِبل المحتمل، واُخرى ينشأ من قِبل الاحتمال، فتارةً يقدّم المولى الغرض الترخيصيّ على اللزوميّ، أو بالعكس من باب أهمّيّة إحدى المصلحتين من الاُخرى في دائرة من الشبهات كمّاً أو كيفاً، واُخرى يقدّم أحدهما على الآخر من باب قوّة الاحتمال ورجحانه، فلمّا كان خبر الثقة مثلاً احتمال صدقه أقوى من

16

كذبه وأرجح منه عبّدنا بجانب الصدق، ولم يجعلنا مخيّرين بينه وبين نقيضه، ولم يعبّدنا بجانب الكذب، فكلّ ما كانت حجّيّته ناشئة من الترجيح من قبل المحتمل كان أصلاً، وكلّ ما كانت حجّيّته ناشئة من الترجيح من قبل الاحتمال كان أمارة، ولا فرق في ذلك بين أن يبيّن الترجيح بلسان جعل العلم، أو جعل الاحتياط، أو جعل الحكم الظاهريّ، أو أيّ لسان آخر.

نعم، هناك مناسبة عرفيّة بين بعض البيانات وبعض المبيّنات، فالتعبير بجعل العلم أو الكاشفيّة مثلاً يناسب الترجيح بقوّة الاحتمال؛ لأنّ هذا ترجيح بنكتة الكشف، بينما لا يناسب هذا التعبير الترجيح الناشئ من قوّة المحتمل، فلو قال مثلاً: (متى احتملت الوجوب فقد جعلت هذا الاحتمال علماً في حقّك، أو ليس لك التشكيك في الوجوب) صحّ ذلك، ولكن لم يكن في هذا التعبير ذاك الجمال اللغويّ، وتلك الحلاوة التعبيريّة الموجودة في مثل قوله: (ليس لأحد التشكيك فيما يروي عنّا ثقاتنا).

وليس مقصودنا من الترجيح في جانب المحتمل هو الترجيح الكيفيّ فحسب، بل قد يكون الترجيح بلحاظ الكمّ. ولا ينبغي الخلط بين الترجيح بأقوائيّة المحتمل بلحاظ الكمّ، والترجيح بأقوائيّة الاحتمال. وتوضيح ذلك:

أنّنا لو فرضنا أنّ المولى عالم بالغيب، وبان على إعمال علمه الغيبيّ في تشريعه للحكم الظاهريّ، فهنا لا يتصور فرض إعمال الترجيح بقوّة الاحتمال، وإنّما الذي يتصوّر هو الترجيح بقوّة المحتمل كمّاً أو كيفاً، فلو كان المحتمل لدينا المعلوم لدى المولى دائماً هو الإلزام، أو دائماً هو الترخيص، أو لم تكن لدينا عدا شبهة واحدة، والحكم الواقعيّ فيها عند الله هو الإلزام، أو هو الترخيص، ولم يرَ المولى من المصلحة إعلامنا بالواقع، وقرّر جعل الحكم الظاهريّ لنا، وكان الحكم الظاهريّ طريقيّاً صرفاً، فهنا لا يبتلي المولى أصلاً بالتزاحم بين أغراضه في الحفظ، بل

17

يحفظ أغراضه تماماً، إمّا بجعل الاحتياط لو كانت أغراضه جميعاً إلزاميّة، أو بجعل الترخيص والبراءة لو كانت أغراضه جميعاً ترخيصيّة، وإنّما يقع له التزاحم بين أغراضه في الحفظ حينما يفترض أنّه في موارد الشُبهة للعبيد توجد أغراض إلزاميّة أحياناً، وأغراض ترخيصيّة أحياناً اُخرى، ولم يرَ المولى من المصلحة إيصال الحكم الواقعيّ إلى العبد، فهنا يقع التزاحم بين مصالحه الإلزاميّة والترخيصيّة؛ إذ لو جعل الاحتياط خسر المصالح الترخيصيّة، ولو جعل البراءة خسر المصالح الإلزاميّة، وهنا يحسب المولى حسابين: الأوّل حساب الأهمّيّة الكيفيّة. والثاني حساب أكثريّة أحد سنخي الأغراض من الآخر، ويقدّم ما هو الأرجح بعد الكسر والانكسار. وقد تختلف النتيجة باختلاف دوائر الشبهات، فيرى أنّ الأغراض الترخيصيّة في غير دائرة خبر الثقة أهمّ من الأغراض اللزوميّة، فيجعل الأصل الأوّلي هو البراءة، لكن لو عمّم هذا الأصل لدائرةِ أخبار الثقات الدالّة على الإلزام خسر مصالحهُ الإلزاميّة في تلك الدائرة، وهو يعلم أنّها أهمُّ كمّيّة من مصالحه الترخيصيّة فيها التي سيخسرها بسبب كذب الثقات مثلاً، فيجعل خبر الثقة حجّة تحفّظاً على هذه النكتة، وعلى هذا لا موجب لحجّيّة مثبتات خبر الثقة بمقتضى القاعدة، أي: أنّه لو لم نستفد من دليل جعل الحجّيّة التوسعة في الجعل التعبّديّ بأن تكون اللوازم أيضاً بذاتها مشمولة لدليل الجعل، فمجّرد حجّيّة الدلالة المنطوقيّة لا تستلزم حجّيّة اللوازم؛ إذ من المحتمل أن يكون الأهمّ في نظر المولى في دائرة المنطوق بعد ملاحظة الكمّ والكيف معاً هي الأغراض اللزوميّة، ولا يكون الأهمّ في نظره في دائرة اللوازم لوازم الغرض اللزوميّ، بل يكون العكس مثلاً.

وأمّا لو فرضنا أنّ المولى لا يعلم الغيب، فلا يدري أين تقع الشبهة في الحكم لدى عبده، فيتصوّر بشأنه التزاحم في حفظ الغرض حتّى لو لم تتّفق في الواقع لعبده عدا شبهة واحدة، أو اتّفقت له شبهات متماثلة في حكمها الواقعيّ لزوماً أو

18

ترخيصاً، ويتصوّر بشأنه ـ إضافة إلى ما مضى من المرجّح المحتمليّ كمّاً وكيفاً ـ مرجّح آخر: وهو المرجّح الاحتماليّ، فإنّ نسبة الشبهة إلى الجانبين قد تكون على حدّ سواء، وقد لا تكون على حدّ سواء، ومن المعلوم أنّ ذلك دخيل في التحريك نحو الأغراض، فالإنسان لو دار أمره بين غرضين أحدهما أهمّ، ولكن احتمال الآخر كان أقوى بكثير من احتمال الغرض الأهمّ، فقد تراه يقدّم جانب الغرض الآخر رغم أهمّيّة مزاحمه؛ وذلك لقوّة الاحتمال في جانبه، وكذلك نفترض فيما نحن فيه: أنّه وإن كانت الأغراض الترخيصيّة في نفسها في نظر المولى أهمّ من الأغراض اللزوميّة لكن النسبة الاحتماليّة تتغيّر بقيام خبر الثقة على حكم إلزاميّ، فقد تتغيّر النتيجة؛ إذ يصبح جانب الإلزام أرجح من جانب الترخيص بالمرجّح الاحتماليّ؛ إذ خبر الثقة أقرب إلى الصدق منه إلى الكذب، وهذا المرجّح ثابت. ولو فرض أنّه لم تكن هنا إلاّ شبهة واحدة، أو كانت الشبهات في الحكم الواقعيّ متماثلة، فتحفّظاً على هذه النكتة يجعل المولى خبر الثقة حجة، وتترتب على هذا حجّيّة مثبتاته بالنحو الذي يأتي تحقيقه في مبحث مثبتات الأمارات والاُصول إن شاء الله.

ومولانا ـ سبحانه وتعالى ـ وإن كان عالماً بالغيب، لكن قد يفترض أنّ مصلحة مّا اقتضت أن يجعل تشريعه وفق حالة مولىً لا يعلم الغيب.

والدليل على إعمال المرجّح الاحتماليّ في خبر الثقة هو ظاهر دليل الحجّيّة، فإنّ قوله مثلاً: «اسمع له وأطع، فإنّه الثقة المأمون» ظاهر في أنّ موضوع الحجّيّة هو الوثاقة والأمانة الموجبة لقوّة الاحتمال، بحيث لو لم تكن في البين عدا شبهة واحدة كانت الوظيفة فيها هي قبول خبر الثقة لوثاقته وأقربيّة قوله إلى الواقع(1).



(1) لا يخفى أنّ ما أفاده ـ رضوان الله تعالى عليه ـ في المقام من أنّ مقياس أماريّة

19


الأمارة الموجب لاستلزام حجّيّة المطابقيّة لثبوت اللوازم كون حجّيّتها على أساس قوّة الاحتمال، لا على أساس قوّة المحتمل كيفاً ولا كمّاً هو المطابق لما ذكره (رضوان الله عليه) أيضاً في أوّل بحث الاستصحاب، حيث أفاد هناك: أنّ الترجيح إن كان بملاك أقوائيّة المحتمل كيفاً، كما إذا كانت الأغراض اللزوميّة للمولى أهمّ من الأغراض الترخيصيّة فأوجب الاحتياط عند الشكّ، لم يستلزم ذلك حجّيّة المثبتات وإن كان بملاك أقوائيّة الاحتمال بلحاظ النظر المجموعيّ إلى الأحكام، ويرجع ذلك في الحقيقة إلى أقوائيّة المحتمل كمّاً، كما إذا كانت الأغراض اللزوميّة أكثر من الأغراض الترخيصيّة وإن تساوتا كيفاً فقدّم جانب الأغراض اللزوميّة بجعل وجوب الاحتياط ونحوه، لم يستلزم ذلك أيضاً حجّيّة المثبتات وإن كان بملاك أقوائيّة الاحتمال بلحاظ النظر الاستغراقيّ والأفراديّ، بحيث إنّ المولى يحسب حساب خبر ثقة في نفسه بقطع النظر عن وجود أيّ خبر آخر في الأحكام وعدمه، فيجعله حجّة لأقوائيّة احتمال صدقه الثابتة حتّى مع فرض أنّه لم يوجد في الفقه أيّ خبر ثقة آخر غير هذا الخبر، استلزم ذلك حجّيّة المثبتات بلا حاجة إلى مؤونة زائدة تثبت إطلاق دليل الحجّيّة للدلالة الالتزاميّة.

أقول: كأنّ مقصوده(رحمه الله): أنّ قوّة الاحتمال في الدلالة المطابقيّة تستلزم لا محالة قوّة الاحتمال في اللوازم، فتسري الحجّيّة إليها. أمّا قوّة المحتمل كيفاً في المطابقيّة فلا تستلزم قوّة المحتمل كيفاً في اللوازم، فقد يكون نقيض الالتزاميّة الكاذبة أهمّ من الالتزاميّة الصادقة، بينما كان الغرض المحفوظ بالظهورات الصادقة أهمّ من الغرض الذي يخسره المولى بسبب الظهورات الكاذبة. وأمّا قوّة المحتمل كمّاً في المطابقيّة، كما إذا كانت الأغراض اللزوميّة أكثر من الأغراض الترخيصيّة فأيضاً لا تستلزم قوّة المحتمل كمّاً في

20


اللوازم؛ إذ قد تكون الأغراض اللزوميّة في المطابقيّة أكثر من الأغراض الترخيصيّة عدداً، وتكون في اللوازم أقلّ من الأغراض الترخيصيّة عدداً، إذن فلا تكون حجّيّة المطابقيّة إذا كانت على أساس قوّة المحتمل كيفاً أو كمّاً مستلزمة لحجّيّة المثبتات.

أقول: إنّ تأثير الترجيح الكمّيّ في الحجّيّة يتصوّر على نحوين:

الأوّل: أن يفترض أنّ الأخبار الإلزاميّة مثلاً كانت حجّيّتها في صالح المولى من باب أنّ الأحكام الواقعيّة الإلزاميّة الموجودة في موارد الأخبار الصادقة منها كلّها قائمة على أساس مصلحة في الالزام، ولكن الأحكام الواقعيّة الترخيصيّة الموجودة في موارد الأخبار الكاذبة منها لم تكن كلّها قائمة على أساس مصلحة في الترخيص، بل قسم منها قائم على أساس عدم مصلحة في الإلزام، فبهذه النكتة أصبحت عدد المصالح الإلزاميّة أكثر من عدد المصالح الترخيصيّة.

والثاني: أن يفترض أنّ الأخبار الصادقة منها أكثر من الكاذبة.

فإن فرض الترجيح الكمّيّ قائماً على الأساس الأوّل، فحجّيّة المطابقيّة لا تستلزم حجّيّة اللوازم؛ إذ قد تكون الترخيصات في موارد الالتزاميّات الدالّة على الإلزام كذباً كلّها قائمة على أساس مصلحة في الترخيص مثلاً، بينما الترخيصات في موارد المطابقيّات الدالّة على الإلزام كذباً قسم منها قائم على أساس عدم المصلحة في الإلزام، فقد يوجب هذا اختلاف حساب اللوازم من المطابقيّات.

وإن فرض الترجيح الكمّيّ قائماً على الأساس الثاني فحسب، وهو أكثريّة الصدق دون الأوّل، فهذا يوجب استلزام حجّيّة المطابقيّة لحجّيّة المثبتات؛ لأنّ أكثريّة الصدق في المطابقيّة تلازم لا محالة أكثريّة الصدق في المثبتات، وافتراض أنّ مصالح الترخيص في

21


جانب المثبتات أكثر من مصالح الإلزام بخلاف المطابقيّة لا منشأ له إلاّ أحد اُمور ثلاثة:

الأوّل: كون الترخيصات المخالفة للدلالة الالتزاميّة قائمة على أساس مصالح في الترخيص مثلاً، بينما الترخيصات المخالفة للمطابقيّة قسم منها قائم على أساس عدم مصلحة الإلزام. وقد فرضنا أنّ هذا لم يكن دخيلاً في الحساب.

والثاني: كون الكذب في الالتزاميّة أكثر منه في المطابقيّة، وهذا مستحيل.

والثالث: كون اللوازم أكثرها ترخيصيّة، بينما مطابقيّاتها كانت في الغالب إلزاميّة مثلاً، وهذا لا يضرّ بحجّيّة المثبتات كما هو واضح.

وعليه، فما قاله اُستاذنا الشهيد(رحمه الله): من أنّ الترجيح الكمّيّ إن كان هو الأساس للحجّيّة لم يستلزم حجّيّة المثبتات إن قصد به الترجيح الكمّيّ بالمعنى الأوّل، وذلك بأن يكون مقصوده بقوّة الاحتمال ما يشمل الترجيح الكمّيّ بالمعنى الثاني، فهو صحيح، وإن قصد به الترجيح الكمّيّ حتّى على أساس أكثريّة الصدق من الكذب فهذا غير صحيح. وكلامه(رحمه الله)قابل للحمل على ذلك الأمر الصحيح لولا ما ذكره في المقام من أنّ الترجيح بقوّة الاحتمال لا يتصوّر في المولى إلاّ إذا كان لا يعلم الغيب، أو رأى من المصلحة أن يتصرّف تصرّف من لا يعلم الغيب؛ وذلك لأنّ الترجيح الكمّيّ بمعنى ملاحظة أكثريّة الصدق من الكذب، والنظر المجموعيّ إلى الأخبار لا الاستغراقيّ الأفراديّ معقول حتّى بالنظر إلى عالم الغيب. ومن حسن الحظّ أنّ هذا الجزء من الكلام، أي: شرط افتراض المولى غير عالم بالغيب واقعاً أو تنزيلاً غير موجود في كلامه(رحمه الله) في بحث الاستصحاب.

وممّا يشهد لحمل كلامه(رحمه الله) ولو ارتكازاً على المعنى الصحيح، وهو إلحاق الترجيح بأكثريّة الصدق بالترجيح بقوّة الاحتمال ما جاء منه في بحث الأصل المثبت في باب

22


الاستصحاب من الاستدلال على عدم كون نظر المشرّع في حجّيّة خبر الثقة إلى الترجيح بقوّة المحتمل، بأنّه لم يؤخذ في دليل حجّيّة الخبر سنخ معيّن من المحتمل من حلّ أو حرمة، أو أيّ شيء آخر. وهذا ـ كما ترى ـ لا ينسجم إلاّ مع إلحاق المرجّح الكمّيّ للصدق بقوّة الاحتمال دون قوّة المحتمل، وإلاّ فعدم أخذ سنخ معيّن من المحتمل في دليل حجّيّة الخبر لا يدلّ على أنّ الملحوظ فيها قوّة الاحتمال دون قوّة المحتمل؛ إذ من المعقول افتراض أنّه إنّما جعل خبر الثقة حجّة بقطع النظر عن كون المفاد هو الحلّ أو الحرمة أو أيّ شيء آخر، لما في خبر الثقة من غلبة كمّيّة الأفراد الصادقة منها وأكثريّتها من الأفراد الكاذبة.

ولا يخفى أنّنا لو جعلنا المقياس في أماريّة الأمارة وحجّيّة مثبتاتها كون ملاك الحجّيّة أقوائيّة الاحتمال بالمعنى المقابل للترجيح الكمّيّ بغلبة الصدق، ورد النقض على ذلك بأنّه لو ثبتت حجّيّة لوازم خبر الثقة ببيان أنّ تمام الملاك في حجّيّته كان هو الكشف، وهو ثابت في اللوازم بنفس درجة ثبوته في الدلالة المطابقيّة، للزمت من ذلك حجّيّة كلّ ظنّ يساوي الظنّ الناشئ من خبر الثقة، أو كلّ أمارة تساوي خبر الثقة في الكشف؛ لأنّ الملاك للحجّيّة كان هو الكشف الموجود هنا أيضاً. أمّا إذا ادخلنا في الحساب المرجّح الكمّيّ في الصدق فقد انتفى هذا النقض؛ إذ يجاب عليه عندئذ، بأنّ من المحتمل أن يكون الحساب الكمّيّ في الشهرات مثلاً، بعد جعل الحجّيّة لخبر الثقة قد اختلف عنه لولا حجّيّة خبر الثقة، فصحيح: أنّ الشهرة كخبر الثقة تصيب الواقع في ثمانين بالمئة من مواردها مثلاً، لكن بعد جعل الحجّيّة لخبر الواحد قد انخفظت بسببها الأغراض الكامنة في الشهرات المطابقة لأخبار الثقات، ولم تبق عدا الأغراض الكامنة في موارد الشهرات التي لم يرد على طبقها

23


خبر ثقة، ولا نعلم أنّ تلك الشهرات أيضاً تكون نسبة الصادقة منها إلى الكاذبة ثمانين بالمئة مثلاً، فمن المحتمل أنّ حساب الكمّ قد انقلب في نظر المولى عمّا كان عليه قبل حجّيّة خبر الثقة، ولهذا اكتفى المولى بجعل الحجّيّة لخبر الثقة، وكانت الغلبة فيما بقي من الشهرات لملاك الترخيص، فلم يجعل الشهرة حجّة كي نرجع إلى البراءة ونثبت بها الترخيص.

ولا يأتي عين هذا البيان في جانب لوازم خبر الثقة بأن يقال: لعلّ حجّيّة الدلالة المطابقيّة لم تُبقِ مجالاً لجعل الحجّيّة في المثبتات؛ لأنّ قسماً من مواردها صادفت التطابق مع دلالات مطابقيّة اُخرى، فلعلّ نسبة الكمّيّة فيما بقي منها قد انقلبت، فلم يبقَ مبرّر لجعل الحجّيّة للمثبتات.

فإنّه يقال في مقام الجواب على ذلك: إنّنا نشير إلى ذاك العدد من أخبار الثقات التي لم ترد دلالة مطابقيّة في روايات اُخرى على طبق مثبتاتها، ونقول: إنّ هذا العدد من الأخبار نسبة مساهمة مداليلها المطابقيّة في خلق المرجّح الكمّيّ لجانب الصدق في أيّ دائرة تفترض لا تكون أكبر من نسبة مساهمة مثبتاتها في خلق ذاك المرجّح حينما تجعل في نفس تلك الدائرة بدلاً عن الدلالات المطابقيّة؛ إذ المفروض أنّه لا يحتمل كذب اللوازم مع صدق المطابقيّة، فنستدلّ بحجّيّة دلالاتها المطابقيّة على حجّيّة اللوازم.

ولا يقال: إنّ هذا استدلال بلوازم دليل حجّيّة المطابقيّة، بينما دليل حجّيّة المطابقيّة بنفسه أمارة من الأمارات، والتمسّك بلازمها أوّل الكلام.

فإنّه يقال:

أوّلاً: أنّ دليل حجّيّة الخبر وإن فرض ـ بغضّ النظر عن نكتة الفرق بين الأمارة

24


والأصل ـ عدم شمول إطلاقه للوازم الخبر، وإلاّ فلسنا بحاجة في إثبات حجّيّة مثبتاته إلى التمسّك بنكتة الفرق الجوهريّ بين الأمارة والأصل، ولكن بالنظر إلى هذه النكتة نقول: إنّ تمام الموضوع للحجّيّة في منطوق هذا الدليل هو قوّة الاحتمال ـ ولو بالمعنى الشامل للترجيح الكمّيّ ـ وهذا ثابت في اللوازم. إذن فدليل الحجّيّة بمدلولها المطابقيّ ـ أي: بظهوره ـ شمل اللوازم لا بالملازمة.

هذا إذا كان دليل الحجّيّة عبارة عن ظهور من الظهورات. أمّا إذا كان دليل الحجّيّة عبارة عن السيرة، فهي من أوّل الأمر تشمل المطابقيّة واللوازم معاً بلا حاجة إلى البحث عن الفارق الجوهريّ بين الأمارة والاُصول.

وثانياً: أنّنا في إثبات الحجّيّة يجب أن ننتهي أخيراً إلى دليل قطعيّ ولو بوسائط، ومتى ما انتهينا إلى دليل قطعيّ فهو إمّا أن يكون شاملاً ابتداءً للمطابقيّة واللوازم، كما لو كان ذاك الدليل هو السيرة، فلا يبقى إشكال عندئذ، وإمّا أن لا يكون شاملاً ابتداءً للّوازم، كما لو كان ذاك الدليل عبارة عن نصّ قطعيّ الصدور والدلالة، دلّ بمدلوله المطابقيّ على حجّيّة المطابقيّة فحسب، وعندئذ يكون إيماننا بالملازمة بين حجّيّة المطابقيّة وحجّيّة اللوازم سبباً للتعدّي إلى اللوازم؛ لأنّ دليل حجّيّة المطابقيّة كان قطعيّاً. والقطع بالملزوم يؤدّي إلى القطع باللازم بلا إشكال.

وعلى أيّة حال، فتفصيل اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) بين مثبتات خبر الثقة وأمارة اُخرى تساوي أو تفوق خبر الثقة في الكشف بتعدّيه من المطابقيّة إلى المثبتات، وعدم تعدّيه من خبر الثقة إلى أمارة اُخرى شاهد آخر على حمل كلامه(رحمه الله) على المعنى الصحيح، وهو إلحاق المرجّح الكمّيّ على أساس أكثريّة الصدق بقوّة الاحتمال في استلزامه لحجّيّة المثبتات.

25

الأمارات الترخيصيّة:

ثمّ إنّ موارد الأمارات الترخيصيّة يكون المرجّح الاحتماليّ والمحتمليّ كلاهما ثابتاً فيها، وليس الثابتُ خصوص المرجّح الاحتماليّ الذي أوجب أماريّة الأمارة. والدليل على ذلك اُمور:

أوّلاً: أنّنا لا نحتمل الفرق بين موارد الأخبار المرخّصة وموارد الشبهات التي


واستظهار اُستاذنا الشهيد من مثل قوله: «فاسمع له وأطعه، فإنّه الثقة المأمون» كون موضوع الحجّيّة هو قوّة الاحتمال شاهدٌ ثالث على حمل كلامه على المعنى الصحيح، فإنّ هذا الاستظهار إنّما يتمّ بناءً على إلحاق قوّة المحتمل من ناحية غلبة الصدق بقوّة الاحتمال. أمّا لو جعلت قوّة الاحتمال أمراً في مقابل أكثريّة الأخبار الصادقة من الكاذبة، فهذه العبارة وأمثالها لا تعيّن الاُولى في مقابل الثانية؛ إذ لو كان المقصود أنّ الوثوق أو الأمانة باعتباره سبباً واضحاً في نظر العقلاء لقوّة الاحتمال يكون أخذه في الموضوع دالّاً عرفاً على أنّ المقياس هو قوّة الاحتمال. قلنا: إنّ الوثوق أو الأمانة سببٌ واضحٌ أيضاً لغلبة الصدق في الخبر من حيث الكمّ على الكذب.

ولو كان المقصود: أنّ هذا الحديث يشمل بإطلاقه فرض انحصار خبر الثقة بخبر واحد مثلاً، وفي هذا الفرض ليس الوثوق إلاّ سبباً لقوّة الاحتمال لا للترجيح الكمّيّ بغلبة الصدق. قلنا: لو سلّمنا تماميّة الإطلاق بالنسبة لفروض خياليّة من هذا القبيل بعيدة عن طبيعة وضع العالم من دون وجود ارتكاز خاصّ يتمّم الإطلاق لقلنا في خصوص المقام: إنّ الإطلاق غير تامّ؛ لأنّ احتمال كون الوثوق أو الأمانة إشارة إلى ما يستلزمه في الوضع الحقيقيّ الخارجيّ من الترجيح الكمّيّ بغلبة الصدق يكون صالحاً للقرينيّة على عدم هذا الإطلاق.

26

لم يرد فيها خبر، بأن تكون الأغراض الترخيصيّة في موارد تلك الشبهات أهمّ، ولا تكون في موارد تلك الأخبار أهمّ.

وثانياً: أنّ دليل أصالة البراءة شامل لمورد الأخبار المرخّصة على ما هو مختارنا من أنّ حكومة الأمارة على الأصل إنّما هي في مورد التخالف بينهما لا في مورد التطابق.

وثالثاً: أنّ نفس دليل حجّيّة الخبر ظاهر في أنّه جعل الخبر حجّة لتغيير الوظيفة ـ أي: أنّ الوظيفة بقطع النظر عن حجّيّته وأماريّته تكون هي الرجوع إلى الاُصول الفوقانيّة ـ وإنّما جعل الخبر حجّة لأنّ ذلك قد يغيّر الوظيفة، كما لو كان الأصل ترخيصيّاً والخبر إلزاميّاً، إذن فالوظيفة في الخبر الترخيصيّ بقطع النظر عن أماريّة الخبر وما يشتمل عليه من المرجّح الاحتماليّ هي الرجوع إلى البراءة، وهذا دليل على ثبوت المرجّح المحتمليّ لجانب الترخيص.

ورابعاً: أنّنا إذا استظهرنا من الدليل أنّ مصلحة مّا اقتضت أن يجعل المولى تشريعه وفق حالة مولىً لا يعلم الغيب(1)، ولذا وصلت النوبة إلى جعل الأمارة، إذن فكأنّه غير عالم بأنّه من باب الصدفة وجدت الترخيصات الأهمّ كمّاً أو كيفاً في غير موارد الخبر لا في الأخبار المرخّصة.

 

نتائج الفهم الخاطئ للأمارات والاُصول

المقدّمة الرابعة: أنّ الاتّجاه السائد في العصر الثالث من عصور علم الاُصول الذي دقّق في التفرقة ما بين الأصل والأمارة هو الاتّجاه الذي تمسّك بالقشر وتناسى اللبّ، ففرض أنّ الفرق بين الأمارة والأصل يكون على أساس ما هو



(1) قد مضى في التعليق السابق النقاش في هذا الاستظهار.

27

المجعول في عالم إنشاء الحكم. وقد بيّنّا أنّ الفرق الواقعيّ إنّما هو في طريقة إعمال قوانين باب التزاحم، وأنّ ألسنة الحكم لا تجعل شيئاً أمارة أو أصلاً، غاية الأمر أنّ اللسان قد يختلف بحسب المناسبة نتيجة لما عرفته من الفرق الواقعيّ الثبوتيّ، ومن الممكن أن لا يختلف. وأعلى مراتب هذا الاتّجاه السائد تحقّق على يد المحقّق النائينيّ(قدس سره)ومدرسته، فذكر: أنّ الفرق بين الأمارات والاُصول هو أنّ المجعول في باب الأمارات هو الطريقيّة والعلم والكاشفيّة، وفي باب الاُصول هو الجري العمليّ والبناء العمليّ، فجعل هذه الألسنة روح الفرق، بينما هي مجرّد ألسنة.

وهذا الخلط بين مقام الثبوت والإثبات ترتّبت عليه عدّة مطالب في الاُصول، فجعل بعض الأشياء المترتّبة على الفرق الثبوتيّ آثاراً للفرق الإثباتيّ، مع أنّها في الواقع آثار للفرق الثبوتيّ، وبعض الأشياء التي هي آثار لصياغتين للسان دليل الحجّيّة فرض آثاراً للأمارة والأصل بما هما أمارة وأصل. وفيما يلي نذكر نموذجاً من الفوارق التي ذكروها بين الأمارات والاُصول بالشكل المشتمل على ما ذكرناه من الخلط:

 

1 ـ حول المثبتات:

الفرق الأوّل: ما استقرّ عليه بناء الفقهاء في العصر الثالث منذ عصر الشيخ الأعظم(قدس سره)وقُبيله إلى أيّام المحقّق النائينيّ(رحمه الله)من أنّ مثبتات الأمارات حجّة، ومثبتات الاُصول ليست بحجّة، فجُعِل هذا الفرق في كلام من فلسف ذلك من لوازم فرق بين الأمارة والأصل لا يعدو في واقعه أن يكون من الفوارق الصياغيّة والشكليّة، وأوصل المحقّق النائينيّ(رحمه الله) هذا الاتّجاه إلى آخره، وبرهن على ذلك: بأنّ أماريّة الأمارة تكون بكون المجعول فيها هو العلم، ومن الواضح أنّ العلم بشيء يستلزم العلم بلوازمه. وأمّا في باب الأصل فالمجعول هو الجري العمليّ،

28

ولا يلزم من الجري العمليّ على طبق الأصل الجري العمليّ على لوازمه.

وجاء السيّد الاُستاذ ورأى أنّ هذا البرهان غير صحيح؛ لأنّ العلم التعبّديّ بشيء لا يستلزم العلم التعبّديّ بلوازمه، كما يستلزم العلم الوجدانيّ بشيء العلم الوجدانيّ بلوازمه، وإنّما يكون ثبوت اللوازم وعدمه تابعاً لإطلاق دليل الاعتبار للّوازم وعدمه، فأنكر هذا الفرق بين الأمارة والأصل.

وتحقيق صحّة هذا الفرق وعدمه يأتي ـ إن شاء الله ـ في بحث الأصل المثبت في الاستصحاب، وإنّما المقصود هنا: أنّ الفرق ـ بناءً على صحّته ـ مرتبط بجوهر الفرق بين الأمارة والأصل، لا بكون اللسان في الاُولى جعل العلم وفي الثانية جعل الجري العمليِّ مثلاً، فالواقع أنّ إعمال قوانين باب التزاحم من قِبل المولى بين أغراضه في مقام حفظها التشريعيّ بالحكم الظاهريّ إن كان بلحاظ ما للأمارة من حظّ من الكاشفيّة التكوينيّة، فهذه الكاشفيّة نسبتها إلى المدلول المطابقيّ والالتزاميّ على حدّ سواء، فإن تكن هذه الكاشفيّة هي المرجّحة في مقام الحفظ فنسبة هذا الترجيح إليهما على حدّ سواء، فبعد فرض الفراغ عن الإيمان بأنّ الأحكام الظاهريّة طريقيّة محض، وليست ناشئة من مصالح في أنفسها، أو مصالح زائدة على ملاكات الواقع في متعلّقاتها، وإنّما هي وليدة لقوانين التزاحم بين ملاكات الواقع فحسب، وعدم الإيمان بمثل السببيّة، والفراغ عن عدم وجود نكتة نفسيّة أثّرت في جعل الحجّيّة لأمارة مّا، وأنّ ملاك حجّيّة الخبر مثلاً إنّما هو قوّة الكشف، يكون هذا أساساً لحجّيّة مثبتات الأمارات، ويأتي تحقيقه في محلّه إن شاء الله، وهذا بخلاف الاُصول، ففي بعض الشبهات إن كان جانب الإباحة أهمّ بنظر المولى من جانب الحرمة مثلاً، فَجَعَل البراءة لا تلزم من ذلك أهمّيّة لوازم تلك الإباحات من لوازم تلك الحرمات. هذا هو الذي أوجب بحسب الحقيقة ارتكاز حجّيّة مثبتات الأمارات دون الاُصول في العصر الثالث.

29

 

2 ـ الأماريّة عند الشكّ:

الفرق الثاني: ما يقال من أنّه في فرض الشكّ لا يتصوّر جعل الحجّيّة الأماريّة، كما صرّح بذلك الشيخ الأعظم(قدس سره)(1). وصرّح به أيضاً المحقّق النائينيّ(رحمه الله)(2). وفلسفه أيضاً على طريقته بأنّ الشكّ نسبته إلى الطرفين على حدّ سواء، فكيف يفرض جعله كاشفاً وعلماً بالنسبة لأحد الطرفين دون الآخر؟

وأورد عليه المحقّق العراقيّ والسيّد الاُستاذ: بأنّه لا موجب لاشتراط إفادة الأمارة للظنّ؛ لأنّ الملحوظ في باب الأمارات هو الطريقيّة الاعتباريّة، واعتبار العلم أمر سهل المؤونة.

لكنّ الصحيح: أنّ هذا الفرق إنّما يرتبط بالفارق الجوهريّ بين الأمارة والأصل، حيث إنّه في الأمارة قد فرض الترجيح بواسطة الاحتمال، وإذا كانت نسبة الكاشفيّة إلى الطرفين على حدّ سواء لم يعقل هذا الترجيح، وهذا بخلاف الأصل الذي يكون الترجيح فيه بلحاظ المحتمل(3).



(1) راجع الرسائل، أوّل مبحث الشكّ، ص 190 بحسب الطبعة المحشّاة بتعليقة (رحمت الله).

(2) راجع فوائد الاُصول، ج 3، ص 7 و 100، وج 4، ص 224.

(3) قد يقال: إنّ هذا الكلام يتوقّف على فرض كون الحجّيّة للأمارة على أساس قوّة الاحتمال بالمعنى المقابل للترجيح الكمّيّ للصدق على الكذب. أمّا على ما اخترناه من إلحاق الترجيح الكمّيّ للصدق على الكذب بقوّة الاحتمال، وإمكان جعله ملاكاً في حجّيّة الأمارة، فهذا يتصوّر في فرض الشكّ أيضاً؛ وذلك لأنّ المعتبر في الترجيح الكمّيّ إنّما هو الترجيح الكمّيّ عند المولى لا الترجيح الكمّيّ عند العبد؛ لأنّ المولى يلحظ

30

 

3 ـ أخذ الشكّ في موضوع الحجّيّة:

الفرق الثالث: ما ذكر من أنّ الأصل يؤخذ في موضوع حجّيّته الشكّ، بخلاف الأمارة. وهذا إن اُريد به أنّ حجّيّة الأمارة لا يؤخذ في موضوعها الشكّ بحسب عالم الجعل فهذا غير معقول؛ لأنّ فرض عدم أخذ الشكّ في موضوعها هو فرض إطلاقها وشمولها لفرض العلم بخطئها، وهذا محال، فلابدّ أن يكون نظرهم في التفرقة إلى أنّه في دليل الأمارة لم يؤخذ الشكّ، وفي دليل الأصل اُخذ الشكّ. وهذا المطلب إن أردنا أن نعبّر عنه بعبارة واضحة قلنا: إنّ الشكّ اُخذ بنحو القرينة المتّصلة في دليل الأصل، واُخذ بنحو المخصّص اللبّيّ في دليل الأمارة بلحاظ حكم العقل باستحالة شمول الحجّيّة لفرض العلم بالخطأ.

وأنت ترى أنّ مثل هذا مربوط بلسانين لدليل الحجّيّة، وليس مربوطاً بالأمارة


حساب تزاحم أغراضه في الحفظ في نظره لا في نظرنا، فقد تكون الأمارة المفيدة للشكّ نوعاً عندنا أقرب إلى الصدق منها إلى الكذب عند المولى لغلبة صدقها على كذبها في علم المولى.

ولكنّ الواقع: أنّ ما في المتن يتمّ حتّى على إلحاق الترجيح الكمّيّ للصدق بقوّة الاحتمال؛ وذلك لأنّ المولى لو أخبرنا بأنّ هذه الأمارة صدقها غالب في علمه على كذبها، إذن تصبح مورثة للظنّ لنا لا الشكّ، وإلاّ فهذه الحجّيّة لا تفيد فائدة الأمارة؛ لأنّنا لا نعلم أنّ حجّيّتها كانت على أساس الترجيح الكمّيّ كي نتعدّى إلى اللوازم، فالمقصود من الترجيح بقوّة الاحتمال وبالكمّ في الصدق الذي جعلناه مقياساً لأماريّة الأمارة، إنّما هو الترجيح المفهوم لنا لا الترجيح المفهوم عند المولى المخفيّ علينا.

31

والأصل، ولو فرض تماميّة ذلك في دليل الأمارة والأصل فإنّما هو على سبيل الصدفة والاتّفاق، لا أنّ أماريّة الأمارة تكون بعدم أخذ الشكّ في موضوعها، وأصليّة الأصل تكون بأخذ الشكّ في موضوعهِ، فلو فرض أنّ شخصاً لم يثبت حجّيّة خبر الواحد إلاّ بقوله تعالى: ﴿فَاسْأَ لُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُون﴾ لم ينقلب على هذا الأساس من الأمارة إلى الأصل. نعم هذه الخصوصيّات الاتفاقيّة في لسان الدليل قد تنفع في مقام تقديم أحد الدليلين على الآخر، فلو بُني مثلاً على أنّ دليل الأمارة ودليل الاستصحاب كلاهما متكفّلان لجعل الطريقيّة، لكنّ الأوّل لم يؤخذ في موضوعه الشكّ، والثاني اُخذ فيه الشكّ، فقد ينفع ذلك في تقديم الأوّل على الثاني.

 

4 ـ حكومة الأمارات على الاُصول:

الفرق الرابع: ما حقّقوه من حكومة الأمارات على الاُصول؛ لأنّ الأصل اُخذ في موضوعه الشكّ، والأمارة ترفع موضوعه لكونها علماً بالتعبّد.

والصحيح: أنّ الأمارة بما هي أمارة ليست حاكمة على الأصل بما هو أصل، وإنّما الحكومة ترتبط بلسان جعل الحجّيّة، فقد يقدّم أحد اللسانين على الآخر لسوقه مساق رفع موضوع الآخر، وقد لا تكون أمارة مّا حاكمة على أصل مّا، كما لو بيّنت الأمارة بغير اللسان المناسب للحكومة كجعل الطريقيّة وإلغاء احتمال الخلاف، ومع ذلك تكون هذه أمارة وذاك أصلاً، وهذه مثبتاتها حجّة بخلاف ذاك.

والخلاصة: أنّ هناك فروقاً بعضها مربوط بجوهر أماريّة الأمارة وأصليّة الأصل، واُضيف اشتباهاً إلى سنخ اللسان، حيث تخيّل أنّ الفارق اللسانيّ هو الفارق الجوهريّ، وذلك كالأوّلين، وبعضها مربوط باللسان، واُضيف إلى الجوهر بتخيّل أنّ اللسان والجوهر شيء واحد كالأخيرين.

32

 

الفرق بين الاُصول العقليّة وغيرها

المقدّمة الخامسة: أنّ الفارق الجوهريّ الذي ذكرناه بين الأصل والأمارة إنّما كان نظرنا فيه إلى الاُصول الشرعيّة، فإنّها هي التي تكون كالأمارة نتيجة لإعمال قوانين باب التزاحم وتفترق عنها في كيفيّة إعمالها، وأمّا الاُصول العقليّة فليست نتيجةً لإعمال قوانين باب التزاحم، وترجيح بعض الأغراض على بعض، فإنّ هذا وظيفة المولى لا وظيفة العقل، والعقل ليس من شأنه التشريع، وإنّما مرجعها إلى دائرة حقّ الطاعة سعةً وضيقاً، وهذا فرق جوهريّ بين الاُصول العقليّة من ناحية، والأمارات والاُصول الشرعيّة من ناحية اُخرى، فالاُولى مردّها إلى دائرة حقّ الطاعة، والثانية مردّها إلى تشريعات مولويّة على أساس إعمال قوانين باب التزاحم في دائرة الحفظ والمحرّكيّة. وهذا الفرق يستوجب تقديم الأمارات والاُصول الشرعيّة ذاتاً على الاُصول العقليّة وورودها عليها، لكون حكم العقل في ذلك معلّقاً على عدم مجيء تقرير آخر من قِبل الشارع، فمجيء ذلك من قِبله يرفع تكويناً موضوع حكم العقل.

 

الاُصول التنزيليّة

المقدّمة السادسة: أنّ الأصحاب قسّموا الاُصول العمليّة الشرعيّة إلى الاُصول التنزيليّة وغير التنزيليّة، وفرّقوا بينهما بعبارات مختلفة. وحاصل ما أفاده المحقّق النائينيّ(رحمه الله) من الفرق بينهما هو: أنّ الاُصول التنزيليّة لوحظ فيها الواقع كما هو الحال في الأمارة لكن لا بلحاظ الحكاية عن الواقع الخارجيّ، بل بلحاظ البناء العمليّ والجري على طبقه، حيث إنّ للعلم شؤوناً أربعة:

1 ـ الكيفيّة النفسانيّة.

2 ـ حكايته عن الواقع الخارجيّ.

3 ـ اقتضاؤه للبناء العمليّ على طبقه، فالعطشان إذا علم بوجود ماء في مكان

33

كذا طبّقَ جريهُ في مقام العمل على طبق علمه.

4 ـ التنجيز والتعذير، فلو كان وجود الماء في مكان كذا موضوعاً لحكم شرعيّ كان علمه بذلك منجّزاً لذلك الحكم مثلاً.

والشأن الأوّل مختصّ بالعلم، ولا معنى لجعله لغير العلم.

والشأن الثاني مجعول تعبّداً في باب الأمارات.

والشأن الثالث مجعول تعبّداً في باب الاُصول التنزيليّة.

والشأن الرابع مجعول في الاُصول غير التنزيليّة لا بمعنى كون المجعول ابتداءً هو المنجّزيّة والمعذريّة، بل المجعول حكم تكليفيّ يترتّب عليه التنجيز والتعذير(1).

 


(1) لا يخفى أنّ الفرق بين الشأن الثالث والشأن الرابع من شؤون العلم بالنحو الذي يفترض الأصل تارةً ملحقاً بالعلم في ذاك الشأن، واُخرى ملحقاً به في هذا الشأن غير واضح، فإنّه إن كان المقصود بالجري العمليّ وفق العلم هو الجري العمليّ الشخصيّ المستقلّ عن التنجيز والتعذير، والذي قد يكون على خلاف متطلّبات التنجيز والتعذير؛ إذ قد يكون شخص مّا لو علم أنّ المائع الفلانيّ خمر، لكان تأثير العلم في نفسه في مقام البناء والجري العمليّ أنّه سيشربه رغم تنجيز الحرمة عليه، فمن الواضح أنّ المولى لا يجري الأصل مجرى العلم في هذا الشأن الثالث، بأن يقول لشارب الخمر مثلاً: لو شككت في بقاء المائع على خمريّته فاشربه، وإن كان المقصود به الجري العمليّ وفق ما يتطلّبه التنجيز والتعذير، فهذا رجوع إلى الشأن الرابع، ولا يتصوّر قيام الأصل تارةً مقام الشأن الثالث للعلم، واُخرى مقام الشأن الرابع.

أمّا المستفاد ممّا ورد في تقرير بحث المحقّق النائينيّ(رحمه الله) فهو أنّ للعلم شؤوناً ثلاثة ـ وهي الشؤون الثلاثة الاُول ـ وأنّ الأمارات جعلها الشارع علماً بلحاظ الشأن الثاني، وأنّ الاُصول التنزيليّة جعلها الشارع علماً بلحاظ الشأن الثالث، وأنّ الاُصول العمليّة غير