34


التنزيليّة أعطاها الشارع أيضاً التنجيز والتعذير، لكن لا بلسان جعلها علماً كما كان الأمر في الاُصول التنزيليّة، وإنّما بمجرّد لسان حكم تكليفيّ طريقيّ يؤدّي إلى التنجيز والتعذير(1)، وأنّ هذا سبب في حكومة الاُصول التنزيليّة على الاُصول العمليّة غير التنزيليّة؛ لأنّ الاُصول التنزيليّة فرضت علماً تعبّداً بلحاظ مستوىً من المستويات، فرفعت موضوع الاُصول العمليّة غير التنزيليّة.

والواقع: أنّ هذا البيان أيضاً لا يرجع إلى محصّل معقول؛ لأنّ الغاية في الاُصول غير التنزيليّة إنّما هي العلم بما لها من مرتبة الكشف، والتي هي حقيقة العلم، كما هو الحال في التنزيليّة، وليست الغاية فيها مجرّد العلم وبلحاظ الشأن الثالث، حتّى إذا فرض إثبات ذلك تعبّداً للاُصول التنزيليّة تصبح حاكمة على الاُصول غير التنزيليّة.

هذا، مضافاً إلى أنّ الدليل على التفريق بين الأمارات والاُصول التنزيليّة بجعل الأمارات علماً في الشأن الثاني ـ وهو الكشف ـ والاُصول التنزيليّة علماً في الشأن الثالث الذي هو اقتضاء الجري العمليّ مفقود، عدا القول بأنّ الأمارات بما أنّ لها حظّاً من الكشف كانت قابلة لتتميم الكشف تعبّداً، بخلاف الاُصول التنزيليّة التي ليس لها حظّ من الكشف.

وهذا جوابه: أنّ اعتبار الكشف تعبّداً سهل المؤونة، ومادمنا نتكلّم على مستوى ألسنة الدليل لا فرق من هذه الناحية بين الأمارة والأصل التنزيليّ الذي جعل علماً تعبّداً، ولا



(1) راجع فوائد الاُصول، الجزء الثالث، ص 7 بحسب منشورات مكتبة المصطفوي، والجزء الرابع، ص 223 ـ 224 وأيضاً ص 255.

35

أقول: حاصل هذا الكلام هو التفرقة بين الاُصول التنزيليّة وغير التنزيليّة فيما هو المجعول في المقام. وهذه الفكرة في نفسها صحيحة، وهي كون مردّ الفرق إلى عالم الجعل والاعتبار، وليس الفرق بينهما فرقاً جوهريّاً، وإنّما هو فرق عنائيّ، والعناية التي بها يكون الأصل تنزيليّاً أحد أمرين غير ما أفاد المحقّق النائينيّ(قدس سره):

الأوّل: اعتبار الكاشفيّة في الأصل التنزيليّ. ولا أقصد بذلك جعل الكاشفيّة والطريقيّة بالمعنى الذي يقول به المحقّق النائينيّ(قدس سره)، بل أقصد بذلك أنّه كما كان جعل الحجّيّة في باب الأمارة بلحاظ ما لها من الكشف الظنّيّ، كذلك يفرض الشارع أنّ الاستصحاب من هذا القبيل، فاليقين السابق بالرغم من عدم كاشفيّته ولو كشفاً ناقصاً وظنّيّاً يفرض الشارع أنّه كاشف وأمارة، فيجعل له الحجّيّة، فكأنّ نكتة جعل الحجّيّة له كانت هي ما فيه من الكشف، كما هو الحال في الأمارة، والكشف كان ثابتاً في الأمارة حقيقة. أمّا هنا فقد فرضه الشارع ادّعاءً وعنايةً ـ أي: فرضه أمارة فحكم عليه بالحجّيّة ـ ولهذا يقول: (ليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ)، فكأنّه يقول: إنّه مع وجود الأمارة على المطلب وهو اليقين السابق لا ينبغي للإنسان ترك هذا اليقين السابق لأجل ما طرأ من الشكّ. وهذا القسم من الأصل التنزيليّ مصداقه الاستصحاب(1).

 


مبرّر لحمل الثاني على إعطاء الشأن الثالث من شؤون العلم إيّاه بخلاف الأوّل.

وقد تحصّل: أنّ التفكيك بين الأصل التنزيليّ والأصل العمليّ غير التنزيليّ بالوجه الذي ذكره المحقّق النائينيّ(رحمه الله) لا أساس له.

(1) وقد يترتّب على ذلك تقدّمه على الأصل غير التنزيليّ؛ لأنّه فرض علماً، فرفع بذلك تعبّداً موضوع الأصل العمليّ على نقاش في ذلك موكول إلى بحث الاستصحاب.

36

الثاني: اعتبار كون مؤدّى الأصل هو الواقع فيصبح ذلك الأصل تنزيليّاً، كما هو الحال في أصالة الطهارة في قوله: (كلّ شيء طاهر)، فإنّ الظاهر من قوله: (طاهر) أنّه طاهر بالمعنى الذي يقابل القذر الذي جعل العلم به غاية لذلك في قوله: (حتّى تعلم أنّه قذر) وذلك القذر واقعيّ، فالمقصود بالطاهر هو الطاهر الواقعيّ لا الطاهر الظاهريّ، فهو إنشاءٌ للطهارة الواقعيّة تعبّداً، وهذا أيضاً نحو من العناية لها فائدتها في مقام الاستنباط؛ إذ بناءً على هذا ترتّب آثار الطهارة الواقعيّة على محتمل الطهارة، بخلاف ما إذا كان اللسان لسان جعل طهارة ظاهريّة على محتمل الطهارة، فإنّه عندئذ لا يترتّب عليه إلاّ أثر الجامع بين الطهارة الواقعيّة والظاهريّة، لا أثر خصوص الطهارة الواقعيّة(1). وكذلك الكلام في أصالة الحلّ في قوله: (كلّ



(1) فمثلاً لو شككنا في نجاسة ذاتيّة لشيء مّا، وأجرينا بشأنه أصالة الطهارة، ثمّ لاقى نجساً بالرطوبة، فعلمنا إجمالاً بأنّه بعد الملاقاة نجس. إمّا بالنجاسة الذاتيّة، أو بالنجاسة العرضيّة، ثمّ غسلناه بالماء، فشككنا في زوال النجاسة؛ إذ لو كان نجساً بالنجاسة الذاتيّة فهو لا زال نجساً، ولو كان نجساً بالنجاسة العرضيّة فقد طهر، فهل نجري هنا استصحاب النجاسة، أو نحكم بطهارته؟ جواب ذلك مبنيّ على أن نرى أنّ أصالة الطهارة هل هي أصل غير تنزيليّ ومجرّد حكم بالطهارة الظاهريّة، أو أصل تنزيليّ وحكم بالطهارة الواقعيّة تعبّداً؟ فعلى الأوّل يجري في المقام استصحاب النجاسة؛ لأنّ أصالة الطهارة كانت مغيّاة بالعلم بالنجاسة، وقد حصلت الغاية فانقطعت أصالة الطهارة، وبعد الشكّ في بقاء النجاسة يجري لا محالة استصحابها، وعلى الثاني نحكم بطهارة هذا الشيء بعد غسله بالماء؛ إذ من آثار الطهارة الواقعيّة أنّ الشيء الطاهر لو لاقى نجساً تنجّس بالنجاسة العرضيّة، ولو غسل بعد ذلك بالماء زالت عنه النجاسة، وقد لاقى هذا الشيء الذي ثبتت طهارته الواقعيّة تعبّداً النجاسةَ، ثمّ غسل بالماء فقد زالت نجاسته.

37

شيء لك حلال حتّى تعرف أنّه حرام)(1)، وهذابخلاف أصالة البراءة في قوله: (رفع ما لا يعملون)؛ إذ ليست فيها هذه العناية، فلا تكون أصلاً تنزيليّاً.

 

حصر البحث في الاُصول الأربعة

المقدّمة السابعة: أنّهم تعرّضوا في الاُصول العمليّة لاُصول أربعة: البراءة، والاشتغال، والتخيير، والاستصحاب، ومن هنا تكلّم بعضهم في أنّه ما هو وجه اختصاص البحث بهذه الاُصول الأربعة مع وجود اُصول اُخرى غيرها؟ ومحطّ الإشكال على حصر الكلام في هذه الأربعة تارةً هي الاُصول الجارية في الشبهات الموضوعيّة، واُخرى هي الاُصول الجارية في الشبهات الحكميّة.



(1) ويترتّب على ذلك ـ كما جاء في الجزء الثاني من الحلقة الثالثة من دروس في علم الاُصول(1) ـ أنّ أصالة الإباحة (بناءً على تنزيليّتها) تثبت طهارة مدفوع الحيوان الذي أثبتنا إباحة لحمه بأصالة الإباحة مثلاً، بخلاف ما لو لم تكن تنزيليّة.

وذكر اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) في بحث الاستصحاب تفسيراً ثالثاً للأصل التنزيليّ ـ وهو أن يكون الأصل التنزيليّ هو الأصل الذي لوحظ فيه الترجيح الاحتماليّ والمحتمليّ معاً ـ كما قد يقال بذلك في قاعدة الفراغ، وذكر(رحمه الله) في الحلقة الثالثة(2): أنّه يترتّب على هذا بعض الآثار من قبيل عدم شمول القاعدة لموارد انعدام الأماريّة والكشف نهائيّاً، وبه يثبت شرط الأذكريّة في قاعدة الفراغ، وقد سمّى(رحمه الله) الأصل في الحلقة الثالثة(3) في التفسير الثاني ـ وهو تنزيل المؤدّى منزلة الواقع ـ بالأصل التنزيليّ، وفي التفسير الأوّل والثالث بالأصل المحرز.


(1) ص 16 و 17.

(2) ص 18.

(3) ص 16 ـ 18.

38

أمّا الاستشكال بلحاظ الاُصول في الشبهات الموضوعيّة كقاعدة اليد، والفراغ، والتجاوز، والفراش، وأصالة الصحّة ـ بناءً على أنّها من الاُصول ـ فالجواب عن ذلك واضح، كما بيّن في كتب الاُصول؛ وذلك لخروجها عن علم الاُصول الدخيل في عمليّة استنباط الحكم الفرعيّ الكلّيّ، فإنّ الأصل الجاري في الشبهات الموضوعيّة ليس كذلك، فإنّه يثبت الأحكام الجزئيّة بحسب جريانه في كلّ واقعة واقعة، بخلاف هذه الاُصول الأربعة. أمّا البراءة والتخيير والاشتغال فواضح. وأمّا الاستصحاب فيكون كذلك بناءً على القول بجريانه في الشبهات الحكميّة.

وأمّا الاستشكال بلحاظ الاُصول الحكميّة فلم يمثّل لها في كلماتهم إلاّ بأصالة الطهارة الجارية في الشكّ بنحو الشبهة الحكميّة، وذكر المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله): أنّه لعلّ عدم ذكر أصالة الطهارة يكون لأجل اختصاصها بباب، وعدم جريانها في سائر الأبواب، أو لأجل وضوحها وعدم الكلام والخلاف فيها(1).

وصرّح بعض أكابر تلامذته: بأنّ عدم جريان أصالة الطهارة في سائر الأبواب هو الداعي إلى عدم ذكرها وإخراجها من علم الاُصول(2).

أقول: تارةً يتكلّم في كون أصالة الطهارة بحسب الحقيقة من علم الاُصول وعدمه، واُخرى يتكلّم في نكتة عدم ذكرهم للاُصول الحكميّة غير الاُصول الأربعة بناءً على كون غير الاُصول الأربعة أيضاً من علم الاُصول:

أمّا الكلام الأوّل: فقد يقال: إنّه بناءً على كون علم الاُصول هو العلم بالعناصر



(1) راجع الكفاية، ج 2، أوّل بحث الاُصول العمليّة، ص 165 و 166 بحسب الطبعة التي تشتمل على تعليقة المشكينيّ.

(2) لم أعرف بقدر فحصي الناقص من يعلّل إخراج أصالة الطهارة من علم الاُصول بعدم جريانها في سائر الأبواب.

39

المشتركة تكون أصالة الطهارة من علم الاُصول؛ إذ ليست مختصّة بمادّة دون اُخرى، إلاّ في طول ضيق ذاتيّ في نفس الصورة والحكم، وهو الطهارة التي لا تقبل إلاّ التعلّق بالأعيان دون الأفعال. وقد يقال: إنّ مجرّد عدم أخذ التقييد بمادّة مّا لا يكفي في إدخال المسألة في علم الاُصول، بل لابدّ أيضاً من سريان ذلك العنصر في أبواب الفقه، وعدم اختصاصه بباب واحد، وإلاّ أصبح منطق ذلك الباب لا منطق الفقه، وأصالة الطهارة من هذا القبيل لاختصاصها بباب الطهارة.

ولكن يمكن أن يقال: إنّ أصالة الطهارة معناها التعبّد بترتيب آثار الطهارة التي منها جواز الأكل والشرب، ومنها جواز الوضوء والتيمّم، ومنها جواز الصلاة فيه، ومنها جواز بيعه بناءً على اشتراط الطهارة في البيع، ونحو ذلك، فأصبحت سارية في أبواب الفقه، ولكن مع هذا المناسب جعل أصالة الطهارة منطق كتاب الطهارة لا الفقه.

والتحقيق في المقام: أنّ أصالة الطهارة خارجة عن علم الاُصول، لاختصاصها ببعض الموادّ، لا في طول عدم قابليّة الحكم للشمول ذاتاً. وتوضيح ذلك: أنّ الطهارة التي هي حكم وضعيّ إن قلنا بانتزاعها عن الأحكام التكليفيّة، فالطهارة منتزعة عن حلّيّة الأكل والشرب، وجواز الوضوء والصلاة، ونحو ذلك، ومن الواضح أنّ منشأ الانتزاع مختصّ ببعض الموادّ دون بعض لا من باب عدم قابليّته للشمول، فأصالة الطهارة معناها بحسب الروح أصالة حلّيّة خصوص الأكل والشرب، وجواز خصوص الوضوء والصلاة مثلاً، وهذا يعني أنّها ليست من قبيل دلالة الأمر على الوجوب عنصراً مشتركاً، بل تختصّ ببعض الموادّ دون بعض.

وإن قلنا بتأصّلها قلنا: إنّ روح أصالة الطهارة ليست عبارة عن ثبوت ذاك الأمر الواقعيّ المسمّى بالطهارة حقيقة، وإنّما هي عبارة عن التعبّد بآثار تلك الطهارة، وهي حلّيّة الأكل والشرب، وجواز الوضوء والصلاة مثلاً، فالكلام هنا هو الكلام

40

على الفرض الأوّل، إلاّ أنّه على الفرض الأوّل تكلّمنا في منشأ انتزاع الطهارة، وهنا نتكلّم في آثار الطهارة.

وأمّا الكلام الثاني: فليس الإشكال في الحقيقة منحصراً بالنقض بما ذكروه من أصالة الطهارة التي عرفت عدم ارتباطها ببحث الاُصول، بل يمكن إضافة أصالة عدم النسخ التي نقل الشيخ الأعظم(قدس سره) في مبحث الاستصحاب (على ما أتذكّر) دعوى الإجماع عليها بعنوانها في قبال استصحاب عدم النسخ(1)، أو أصالة الإطلاق في لسان الدليل.

والظاهر أنّ الذي يطّلع على تأريخ المسألة بالنحو الذي حقَّقناه يعرف النكتة في الاقتصار على هذه الاُصول الأربعة في تأريخ علم الاُصول، فإنّ فكرة الأصل العمليّ لم تنشأ بهذا النحو الكامل منذُ وجد علم الاُصول، وإنّما الاُصول العمليّة نشأت شعبة من شعب الأدلّة العقليّة، وفقهاء الشيعة الذين كانوا يتمسّكون بالأصل العمليّ كانوا يتمسّكون بالاُصول العمليّة العقليّة، ويعتبرونها من الأدلّة العقليّة، حتّى أنّ الاستصحاب كانوا يحكمون بحجّيّته من باب العقل، ولم يذكر أحد منهم الاستدلال بالأخبار على حجّيّة الاستصحاب إلاّ المتأخّرون، وأوّل من ذكر الاستدلال بها على ذلك والد الشيخ البهائيّ(رحمه الله). فالعقل في نظرهم تارةً يستقلّ بالبراءة، واُخرى بالاحتياط، وثالثة بالتخيير، ورابعة بالاستصحاب، ومن الواضح أنّ أصالة الطهارة وأصالة عدم النسخ ونحو ذلك ليست من الأحكام العقليّة، ولم يتوهّم أنّها أحكام عقليّة حتّى تذكر أيضاً تحت عنوان الدليل العقليّ، وحتّى حينما حقّقت فكرة الأصل وميّز ما بينها وبين فكرة الأمارة على يد الاُستاذ الوحيد(قدس سره)بقي أيضاً تصنيف علم الاُصول بهذا النحو، وكانت تذكر الاُصول الأربعة تحت



(1) لم أجد شيئاً من هذا القبيل في الرسائل في فحصي الناقص.

41

عنوان الدليل العقليّ، وأوّل من غيّر تصنيف الاُصول وأقامه على أساس هذه الفكرة الجديدة للأصل هو الشيخ الأعظم(رحمه الله). ولمّا غيّر التصنيف لم يكثّر في العدد، بل اتّبع نفس طريقتهم، فالاقتصار على هذه الأربعة مرتبط بتأريخ المسألة وتطوّر الفكر العمليّ للمسألة، وغير مربوط بنكتة من النكات الدقيقة لنبحث عنها إلى أن نكتشفها.

هذه تمام المقدّمات التي ينبغي أن تذكر في المقام، وبعد ذلك ندخل في صميم المطلب، ونبدأ بأصالة البراءة، والكلام فيها يقع في مقامين:

الأوّل: في البراءة العقليّة.

والثاني: في البراءة الشرعيّة.

 

43

الاُصول العمليّة

2

 

 

أصالة البراءة

 

 

○ البراءة العقليّة.

○ البراءة الشرعيّة.

 

 

 

 

45

أصالة البراءة

1

 

 

البراءة العقليّة

 

○ نظريّة قبح العقاب بلا بيان.

○ نظريّة حقّ الطاعة.

○ تأريخ البراءة العقليّة.

○ مناشئ الالتزام بالبراءة العقليّة.

 

 

 

 

47

 

 

 

 

أمّا المقام الأوّل: فيقع فيه البحث عن البراءة العقليّة.

نظريّة قبح العقاب بلا بيان:

والمعروف بين محقّقي العصر الثالث من عصور علم الاُصول عدم الخلاف في حكم العقل بالبراءة، وقاعدة قبح العقاب بلا بيان، وهذه القاعدة بحسب الحقيقة تحتلّ مركزاً أساساً في التفكير الاُصوليّ في هذا العصر الثالث، بل يمكن أن نعتبر هذه القاعدة أحد الركنين الأساسين اللذين قام عليهما التفكير الاُصوليّ في هذا العصر في باب الأدلّة العقليّة، والركن الآخر مضايف هذه القاعدة وهي قاعدة حسن العقاب مع البيان التي مرجعها إلى حجّيّة القطع، فإنّ الفكر الاُصوليّ في هذا العصر افترض أوّلاً: أنّ مولويّة المولى شيء مفروغ عنه، وأنّ المولويّة سنخ حقيقة واحدة لا زيادة فيها ولا نقصان مفروغ عن ثبوتها لمولانا تبارك وتعالى. وبعد فرض ذلك يتكلّم في أنّ هذا المولى هل يكون القطع بتكاليفه وأحكامه حجّة أو لا، فأجابوا بالإيجاب، وفرضوا أنّ هذه الحجّيّة من اللوازم الذاتيّة ـ بالمعنى الذي يذكر في كتاب البرهان ـ للقطع بما هو كشف تامّ وإن اختلفوا في أنّه هل هي من لوازم الماهيّة كالزوجيّة بالنسبة للأربعة، أو من لوازم الوجود كالحرارة بالنسبة للنار؟

 

48

وترتّب على ذلك منطقيّاً القاعدة المضايفة لقاعدة حجّيّة القطع ـ وهي قاعدة قبح العقاب بلا بيان ـ إذ لمّا كانت الحجّيّة من ذاتيّات القطع بما هو كاشف تامّ، فبانعدام الكشف التامّ تنعدم الحجّيّة لا محالة، ولا معنى لكون ذاتيّ شيء ثابتاً في ذات شيء آخر، ومعنى انعدام الحجّيّة هو كون العقاب قبيحاً؛ لأنّ العقاب بلا حجّة قبيح، فبهذا ترتّبت القاعدة الثانية، وهي قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

ومن هنا التزموا بأنّ الظنّ يستحيل أن يكون حجّة من دون جعل؛ لأنّ حجّيّته بنفسه خلف قاعدة قبح العقاب بلا بيان وتخصيص لها، وتخصيص القانون العقليّ غير معقول، وحصول غير الذاتيّ بلا سبب أيضاً غير معقول.

وتفرّع على ذلك في تفكيرهم الاُصوليّ أنّهم حاروا في أنّه كيف تصبح الأمارات منجّزة مع أنّها ليست إلاّ ظنوناً، واللابيان الذي فرض موضوعاً لقاعدة قبح العقاب بلا بيان ثابت عندها. وتخصيص القاعدة العقليّة محال. وثبوت غير الذاتيّ بلا سبب محال. ومن هنا التزموا بأنّ الأمارات قد جعلت فيها البيانيّة والطريقيّة، ونشأت من هنا مباني جعل الطريقيّة والكاشفيّة بعرضها العريض الذي تكلّم عنه المحقّق النائينيّ(رحمه الله) وغيره من المحقّقين، كلّ ذلك لأجل أن يقولوا: إنّ منجّزيّة الأمارة تكون من باب رفع موضوع القانون العقليّ، ومن باب التخصّص لا التخصيص؛ لأنّ الشارع جعل الأمارة كاشفاً تامّاً، وعلماً، فلا محذور في تنجّز الواقع به. وتحيّروا بنحو أشدّ في باب الاُصول التي لا يقال فيها بجعل العلم والبيان(1)، حتّى أنّ الشيخ الأعظم(قدس سره)ذهب إلى أنّ العقاب عند وجوب الاحتياط



(1) نعم، قال المحقّق النائينيّ(رحمه الله) في الاُصول التنزيليّة: إنّها جعلت علماً بلحاظ الشأن الثالث من شؤون العلم، فلو كفى هذا لرفع اللابيان، وقلنا بأنّ المستفاد من (لا تنقض اليقين) التعبّد بالكاشفيّة، فماذا يقال في الاُصول العمليّة غير التنزيليّة؟!

49

الشرعيّ يكون على نفس ترك الاحتياط لا على ترك الواقع؛ لعدم بيان الواقع.

ونشأ من فكرة جعل الأمارة علماً وكاشفاً تامّاً تخيّل أنّ التفرقة بين الأمارات والاُصول إنّما هي في اللسان. ورتّبت على هذا ما رتّبوها على الفرق بين الأمارات والاُصول كحكومة الأمارات على الاُصول إلى غير ذلك من الآثار المنبثّة في المباحث العقليّة.

 

نظريّة حقّ الطاعة:

وهذا المنهج لتحقيق هذه المطالب باطل أساساً، فإنّنا بحسب الحقيقة يجب أن نتكلّم في الرتبة السابقة في حدود نفس المولويّة التي فرضوها غير قابلة للزيادة والنقصان، وأمراً محدّداً غير مشكّك، فقالوا: إنّه متى ما ثبتت هذه الحقيقة غير المشكّكة ترتّب على ذلك قانونان: حجّيّة القطع، وعدم حجّيّة الاحتمال، ونحن نقول: إنّ المولويّة أمر مشكّك، وتحقيق حالها هو الذي يتحكم في كلّ هذه الاُمور، فإنّ معنى المولويّة إنّما هو ثبوت حقّ الطاعة، وحقّ الطاعة قد يفرض ثبوته في الأحكام المقطوعة والمشكوكة معاً، فلا يبقى مجال لقبح العقاب بلا بيان؛ إذ ترك التكليف المشكوك عندئذ مخالف للحقّ، والعقاب على مخالفة الحقّ ليس قبيحاً، وقد يفرض اختصاصه بقسم خاصّ من الأحكام المقطوعة ـ وهو ما يهتمّ بها المولى اهتماماً شديداً، أو ما تتوقّف عليه حياة المولى مثلاً ـ فلو حصل القطع بحكم ليس في تلك الدرجة من الأهمّيّة لا يكون حجّة. ولا يصحّ أن يقال: إنّ الحجّيّة ذاتيّة للقطع فلا تنفكّ عنه، فإنّ هذا قلب لجوهر المسألة، وإنّما المسألة مسألة المولويّة، فلا حجّيّة القطع قاعدة برأسها، ولا قاعدة قبح العقاب بلا بيان قاعدة برأسها فضلاً عمّا تفرّعت عليهما من الآثار المنبثّة في التفكير الاُصوليّ.

وخلاصة الكلام: أنّ المولويّة تتصوّر بأنحاء كثيرة ودرجات مختلفة، فلو اُريد

50

الالتزام بقانون قبح العقاب بلا بيان يجب أن يفسّر بعدم ثبوت حقّ المولويّة بلا بيان، والتفكير في هذه المطالب يجب أن يبدأ من الالتفات إلى دائرة مولويّة المولى سعة وضيقاً.

والشيء الذي ندركه بعقلنا العمليّ هو أنّ الله ـ تعالى ـ مولانا في التكاليف المقطوعة والمظنونة والمشكوكة والموهومة، فله حقّ الطاعة حتّى مع عدم العلم لو لم يثبت عندنا الترخيص من قِبله ورضاه بفوات التكاليف الواقعيّة في ظرف الشكّ بالنحو الذي فصّلناه في الترخيص الظاهريّ، وبهذا ننتهي إلى أنّ قاعدة قبح العقاب بلا بيان لا أساس لها؛ لأنّ العقاب يكون عقاباً على حقّه، وليس العقاب على الحقّ قبيحاً.

وبما أنّ إنكار قاعدة قبح العقاب بلا بيان يبدو في هذا الزمان غريباً؛ لأنّ هذه القاعدة لقّنت تلقيناً شديداً ومتواصلاً في الكتب الدراسيّة وغيرها منذ أكثر منمئة سنة إلى يومنا هذا، فلهذا لابدّ لنا من التغلّب على هذا التركّز الذهنيّ الموجود للقاعدة لأجل رفع الاستيحاش من إنكارها، وبيان أنّها ليست من البديهيّات، وليست من مدركات العقل الفطريّ بل إنّما هي من منتجات علم الاُصول. فنتكلّم في هذه القاعدة من ناحيتين:

الاُولى: من الناحية التأريخيّة، وأنّ هذه القاعدة هل هي من القواعد التي أدركها العلماء في كلّ عصر وزمان بالنحو المفهوم في هذا العصر، أو أنّها بهذا النحو لم تكن موجودة في ذهن العلماء قبل سبعمئة سنة أو أكثر، ونبيّن أنّ هذه القاعدة مستحدثة، اختلف محدثوها في حدودها وشؤونها بنحو يدلّ على أنّها أبعد ما تكون عن الفطريّة والبداهة.

والثانية: من الناحية الإثباتيّة لقاعدة قبح العقاب بلا بيان، وبيان المنشأ لالتزام الأكابر بهذه القاعدة، وحلّ هذا المنشأ حلاًّ صناعيّاً.

51

 

تأريخ البراءة العقليّة:

أمّا الناحية الاُولى: فالبراءة العقليّة لا نعرف لها عيناً ولا أثراً قبل الشيخ المفيد(قدس سره). نعم، الصدوق(رحمه الله) صرّح بأنّ الأصل هو الإباحة، لكن كلامه قابل للانطباق على الإباحة الثابتة بالنصوص والروايات، ولا يعلم ولا يظنّ بأن يكون نظره إلى قاعدة عقليّة في المقام.

وأمّا الشيخ المفيد والشيخ الطوسيّ(قدس سرهما) فهما ذهبا إلى عكس هذه القاعدة، وذلك في مسألة الحظر والإباحة، حيث إنّ هناك مسألة في الاُصول القديم وانقطع عنوانها بعد الرسائل ـ وهي مسألة الحظر والإباحة ـ وقد ذهب علماء الاُصول القائلون بالتحسين والتقبيح العقليين، بأنّ العقل تارة يحكم بقبح الشيء بمستوىً شديد وهو التحريم العقليّ، أو بمستوىً خفيف وهو الكراهة، أو بحسنه الشديد وهو الوجوب، أو الخفيف وهو الاستحباب. وأمّا إذا لم يدرك العقل وجود مصلحة ولا مفسدة ولم يتبيّن له شيء يقتضي حسنه ولا قبحه، فهل يحكم العقل هنا بالقبح وهو الحظر، أو عدم القبح وهو الإباحة؟

وقع الخلاف في ذلك، وذهب الشيخ الطوسيّ، وكذا الشيخ المفيد (على ما في العدّة) إلى التوقّف، بمعنى أنّ العقل لا يحكم بالثبوت ولا بالنفي؛ لأنّه شاكّ فلا موجب لحكمه بأحد الطرفين. وفرّع الشيخ الطوسيّ في (العدّة) على التوقّف وجوب الاحتياط بحكم العقل؛ لأنّ الإقدام على ما لا يؤمن المحذور والمفسدة فيه قبيح كالإقدام على ما يعلم بوجود المفسدة فيه. ففي مقام الحكم وإن كان العقل يتوقّف ولكن في مقام العمل يلزم المكلّف بالاحتياط، ثمّ يقول: وهذه القاعدة ـ أي: قاعدة وجوب الاحتياط بحكم العقل ـ لا نرفع اليد عنها إلاّ بما ثبت في الشرع من النصّ القائل عنهم(عليهم السلام): (إنّ كلّ شيء حلال حتّى يأتي فيه النهي).

52

وهذا الكلام من الشيخ الطوسيّ الذي يضيفه إلى شيخه وهو المفيد (رضوان الله عليهما) واضح في خلاف فكرة قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

وأمّا ابن زهرة فبعد مئة سنة بعد الشيخ الطوسيّ(رحمه الله) ذكر في (الغنية) الحكم بالبراءة العقليّة لكن لا بمعنى قاعدة قبح العقاب بلا بيان، بل من باب قبح التكليف بما لا يطاق، ومن الواضح أنّ هذا أجنبيّ عن قاعدة قبح العقاب بلا بيان، ولهذا قيل عليه: لماذا لا يطاق التكليف بغير المعلوم؟! بل يطاق امتثاله ولو بالاحتياط، وقد تعرّض الشيخ الأعظم(قدس سره)لكلام ابن زهرة ووجّهه بأنّ مقصوده من التكليف بما لا يطاق، التكليف بما لا يطاق امتثاله بقصد الامتثال؛ لأنّه مع الشكّ لا يتحقّق قصد الامتثال(1). هذا ما وجّه به الشيخ الأعظم كلام ابن زهرة. فكأنّ ابن زهرة كان يعتقد بقبح التكليف بما لا يطاق امتثاله بقصد الامتثال. وعلى أيّة حال فكلامه ـ كما ترى ـ غير مربوط بقاعدة قبح العقاب بلا بيان.

وأمّا المحقّق الذي هو من تلامذة تلامذة من كان معاصراً لابن زهرة وهو ابن إدريس، فقرّب البراءة ببيانين:

أحدهما: ما ذكره في أحد كتابيه(2): من أنّ البراءة عبارة عن استصحاب حال العقل، حيث إنّ الإنسان بحسب حالته السابقة كان بريء الذمّة فيستصحب هذه البراءة حتّى ترتفع بدليل. وجرى هذا الكلام في كلام كثير ممّن تأخّر عن المحقّق، وشاع إرجاع البراءة إلى الاستصحاب، وكانوا يقولون بحكم العقل بالاستصحاب بلحاظ كاشفيّة الحالة السابقة في نظرهم لا بلحاظ باب الحسن والقبح، فالبراءة عندهم غير مربوطة بالمعنى الذي نتكلّم عنه من قبح العقاب بلا بيان.



(1) الفرائد، ص 204 بحسب الطبعة المشتملة على تعليقة (رحمت الله).

(2) أي: المعارج والمعتبر.

53

ثانيهما: ما ذكره في كتابه الآخر من أنّ الفقيه يقوم بعمليّتين: إحداهما: أن يحصر ما هي الأدلّة التي يعتمد عليها الشارع في مقام إيصال الأحكام كالكتاب والسنّة والإجماع. والثانية: أن يحصل له بالفحص القطع بأنّ هذا الحكم المشكوك لم يدلّ عليه أيّ واحد من هذه الأدلّة، وعندئذ يقول: هذا التكليف غير موجود؛ لأنّ التكليف بما لا دلالة عليه من قِبل الشارع تكليف بما لا يطاق، فإن قيل: لعلّ هناك دلالة ولم تصل إلينا؟ قُلنا: هذا خلاف العمليّة الاُولى؛ لأنّنا فرضنا حصر الدلالات.

وفرق هذا الكلام عمّا مضى من كلام ابن زهرة أنّه بناءً على هذا الكلام لو فرض احتمال وجود دلالة اُخرى لم تصل وبطلت العمليّة الاُولى، فلا قبح في التكليف، وظاهر كلام ابن زهرة كان هو دعوى قبح التكليف بما لا طريق لنا إلى العلم به بالفعل. وعلى أيّة حال فهذا ـ كما ترى ـ غير مربوط بقاعدة قبح العقاب بلا بيان.

وبعد زمان المحقّق شاع إدراج البراءة في الاستصحاب، وترتّب عليه جعل البراءة من الأدلّة الظنّيّة، حيث إنّ الاستصحاب عندهم دليل ظنّي فتنزّلت البراءة عن كونها دليلاً قطعيّاً على الحكم ـ كما كان يعتقده ابن ادريس ـ إلى كونها دليلاً ظنّيّاً عليه، فحجّيّة البراءة إنّما هي من باب إفادتها الظنّ كما صرّح بذلك صاحب المعالم والشيخ البهائيّ في (الزبدة)(1)، فإلى أيّام صاحب (المعالم) وصاحب



(1) لم أرَ ذلك بحسب فحصي الناقص في الزبدة. أمّا ما رأيته في المعالم فهو ما جاء في نقله لأدلّة القائلين بحجّيّة الاستصحاب، حيث نقل الدليل الرابع من أدلّتهم وهو: (أنّ العلماء مطبقون على وجوب إبقاء الحكم مع عدم الدلالة الشرعيّة على ما تقتضيه البراءة الأصليّة، ولا معنى للاستصحاب إلاّ هذا).

54

(الزبدة) لم يقل أحد بقاعدة قبح العقاب بلا بيان، وإنّما قالوا بالبراءة من باب الظنّ،واعترف بذلك الشيخ الأعظم(قدس سره) في (الرسائل)، فإنّه ذكر: أنّ ظاهر كلمات صاحب (المعالم) والشيخ البهائيّ أنّ أعتبار أصالة البراءة من باب الظنّ، بل تسرّبت هذه الفكرة إلى بعض المحقّقين من العصر الثالث كالمحقّق القمّيّ(رحمه الله) حيث نقل عنه الشيخ الأعظم بعض كلمات توهم بذلك، أو تشعر به.

وقاعدة قبح العقاب بلا بيان إنّما طرحت من قبل الاُستاذ الوحيد(قدس سره) ولدى بعض الممهّدات والإرهاصات لهذه المدرسة، وحتّى بعد أن طرحت هذه القاعدة وقرّبها الشيخ محمّد تقي في حاشيته على المعالم، وشريف العلماء على ما في تقرير بحثه، وبعدهما الشيخ الأعظم نابغة هذا العصر في كتابه كان الاتّجاه إلى فهمها لغويّاً لا إلى فهمها عقليّاً، ولهذا كانوا يشكّكون دائماً في إطلاقها وعدم إطلاقها، ووقع الإشكال من قِبل جملة من المحقّقين في شمول هذه القاعدة لموارد الشبهة المفهوميّة، كما إذا قال المولى: (الغناء حرام) وشكّ في حرمة حداء الإبل من ناحية الشكّ في دائرة المفهوم؛ لأنّ البيان موجود من قِبل الشارع، غاية الأمر أنّه مجمل. وجاء من تعمّق في هذه القاعدة بشكل أكثر، وقال: إنّ البيان هنا ليس موجوداً؛ لأنّ مرادنا من البيان ليس ما هو ظاهر عرفاً من الكلام الدالّ على معنىً في نفسه، بل الكلام الدالّ عند السامع، والمفروض أنّ الكلام لم يدلّ عند السامع. انظروا إلى الأوّلين الذين لم يجروا البراءة في الشبهة المفهوميّة كيف انساقوا مع طبع ظهور اللفظ وكأنّهم عاملوا معها معاملة الدليل اللفظيّ، أو أنّ عقلهم لم يدرك القبح في مثل ذلك، ثمّ جاء آخرون وقالوا: إنّ القاعدة لا تجري في الشبهات الموضوعيّة؛ لأنّ البيان هو ما يكون راجعاً إلى المولى، وما يرجع إلى المولى قد تمّ في المقام، وليس من وظيفة المولى أن يقول مثلاً: هذا خمر، وهذا

55

خمر، وإنّما من وظيفته أن يقول: الخمر حرام، وقد قال. ثمّ جاء من تعمّق في القاعدة أكثر من ذلك وقال: ليس المراد بالبيان ما هو ظاهره ـ أي: الكلام الصادر من الشارع ـ بل المراد به هو العلم والوصول، فمرجع القاعدة إلى قاعدة قبح العقاب بلا علم وبلا وصول، ولا فرق في ذلك بين الشبهة الموضوعيّة والشبهة الحكميّة.

إذن، فهذه القاعدة بعد أن طرحت في الكتب الاُصوليّة لم تكن واضحة عندهم، بل كان يقع الإشكال في إطلاقها وعمومها. وكان المعيار الارتكازيّ في الإشكال هو ظهور القاعدة، أي: كانوا يتعاملون معها معاملة الدليل اللفظيّ، واستظهار شيء منها، وعلى أساس الاستظهار كانوا يعلمون أنّ لها إطلاقاً أو لا.

إذن، فهذه القاعدة وإن عشنا نحن أهمّيّتها وجلالتها إلاّ أنّها ليست بهذا المستوى من الجلالة في الواقع، وكيف تكون هذه القاعدة من بديهيّات العقل السليم مع أنّها لم تدرك، ولم تذكر من قِبل أحد من العلماء العقلاء إلى أيّام الاُستاذ الوحيد(رحمه الله)، وبعد أن طرحت وادّعيت اُدّعيت بشكل مشوّش ومرتبك، فترى بين حين وآخر يدّعي بعض خروج بعض الموارد عنها، والآخر يدّعي عدم الخروج، كلّ هذا يقتضي أن تكون هذه القاعدة غير بديهيّة، وإنّما هي ـ لو كانت صحيحة ـ نظريّة ثابتة عند بعض الأشخاص دون بعض، وليست كما قال المحقِّق العراقيّ(رحمه الله)بمستوىً لا يتوهّم إنكارها ممّن له أدنى مسكة(1).

إن قلت: كم من المطالب التي لم يدركها المحقِّقون السابقون وأدركها المتأخّرون، كوجوه التوفيق بين الحكم الظاهريّ والواقعيّ، والفرق بين الواجب



(1) راجع نهاية الأفكار القسم الثاني من الجزء الثالث، ص 199.

56

المشروط والمعلّق، والمطلق والمنجّز، فليكن ما نحن فيه من هذا القبيل.

قلت: عدم إدراك السابقين لمثل تلك المطالب يكون لأحد وجهين:

الأوّل: دقّة المطلب وعمقه، فتفلسف اجتماع الحكم الظاهريّ والواقعيّ مثلاً ليس إلاّ أمراً دقيقاً يناسب عدم إدراك السابقين له من هذه الجهة، والمفروض أنّ البراءة العقليّة حكم من أحكام العقل العمليّ المدرك للحسن والقبح وأمر بديهيّ، فلا يعقل فيه هذا المنشأ لعدم الإدراك.

والثاني: عدم تصوّرهم لأطراف المطلب والتفاتهم إليها حتّى يدركوا حكماً في المقام، فلم يكونوا قد تصوّروا انقسام الحكم إلى واقعيّ وظاهريّ حتّى يدركوا وجه الجمع بينهما، ولم يكونوا قد تصوّروا: أنّ الحكم مشروطٌ تارةً ومعلّق اُخرى، أو مطلق تارةً ومنجّزٌ اُخرى كي يدركوا الفرق بين المشروط والمعلّق، أو بين المطلق والمنجّز. لكن الالتفات إلى تصوّرات القضيّة فيما نحن فيه كان حاصلاً لهم، فإنّك تراهم تكلّموا في الحظر والإباحة، والشكّ في المصلحة والمفسدة، وأنّ الأصل هل هو البراءة أو الاحتياط، أو هو الحظر أو الإباحة أو التوقّف على اختلاف تعبيراتهم، وما إلى ذلك(1).

فالذي يتلخّص من كلّ هذا أنّ هذه القاعدة من شؤون نفس تطوّر الفكر الاُصوليّ لا من الأحكام العقليّة البديهيّة.



(1) وقد يتّفق أنّ الأمر البديهيّ يقع التشكيك فيه أو الإنكار من قِبل بعض لشبهة حصلت له، كالماركسيّين الذين أنكروا استحالة اجتماع النقيضين لأجل شبهات حصلت لهم إن كانوا حقّاً فاهمين المعنى الذي يقصده القائلون باستحالة اجتماع النقيضين، وما نحن فيه ليس من هذا القبيل أيضاً، فإنّ القدماء الذين لم يعترفوا بقبح العقاب بلا بيان لم يذكروا أيّ شبهة حول المطلب.

57

 

مناشئ الالتزام بالبراءة العقليّة:

وأمّا الناحية الثانية: فقد ذكرت البراءة العقليّة في لسان الأصحاب بتقريبين:

أحدهما: تقريب ساذج ـ ذكره جملة من المحقّقين كالشيخ الأعظم(قدس سره) وغيره ممّن سبقه كشريف العلماء وصاحب الحاشية على المعالم ومن لحقه ـ وهو أنّنا لمّا نلاحظ الموالي والعبيد العرفيّين نرى أنّه لو كان للمولى أمر لم يطّلع عليه العبد ولم يمتثل، فقال له المولى: (لِمَ لمْ تفعل كذا؟) يقول له العبد: (ما علمت بصدور الأمر منك بذلك) فلو قال له المولى: (لِمَ لمْ تحتط؟) يقول له العبد: (ما علمت أنّك أوجبت الاحتياط) ـ فعندئذ على حدّ تعبير المحقّق الشريف(رحمه الله) ـ تنقطع حجّة المولى، وليس للمولى حقّ أن يعاقبه. هذا ما يدركه العقلاء في اُمورهم، وهو المسمّى بقاعدة قبح العقاب بلا بيان.

أقول: كأنّهم فرضوا المولويّة شيئاً محدوداً معيّناً، فلمّا رأوا جريان البراءة في المولويّات الثابتة لدى المجتمعات تخيّلوا أنّها لا تنفّك عن المولويّة، فأجروها بالنسبة للمولى الحقيقيّ أيضاً، مع أنّه لا مجال لمثل هذا القياس؛ لأنّ المولويّة مقولة بالتشكيك، وتفترق مولويّة الله ـ تعالى ـ فرقاً جوهريّاً عن مولويّة الموالي العرفيّة.

وتوضيح المقصود: أنّ المولويّة عبارة عن ثبوت حقّ الطاعة، وهو قد يكون ذاتيّاً ولا يحتاج إلى جعل جاعل، وذلك منحصر في من هو مالكنا وخالقنا، وقد يكون جعليّاً مجعولاً من قِبل المولى الحقيقيّ كمولويّة الأنبياء والأئمّة(عليهم السلام)، أو من قِبل نفس الأفراد الموَلّى عليهم كمولويّة السلاطين الذين تمّت سلطنتهم على يد نفس الرعيّة وباختيارهم، أو من قِبل نفس هذا المولى جبراً وإكراهاً كمولويّة السلاطين الذين تسلّطوا بالإجبار والإكراه لا برضا الرعيّة ورغبتهم، أو من قِبل

58

مولىً جعليّ آخر فرغ عن مولويّته في المرتبة السابقة، وينتهي أمر جعل مولويّته إلى مولىً من أحد الأقسام الثلاثة الاُولى. والمولويّة المجعولة تتبع في سعة دائرتها وضيقها نفس جعل الجاعل، والمولويّات العرفيّة تجعل فيها المولويّة وحقّ الطاعة في خصوص الأحكام المقطوعة، ولذا لو خالف العبد في غير الأحكام المقطوعة لم يكن للمولى عقابه، فيا ترى هل أنّ المولويّة الذاتيّة الثابتة للّه ـ تعالى ـ كتلك المولويّات المجعولة لدى العرف تختصّ بالأحكام المقطوعة أو لا؟ ومجرّد ثبوت البراءة في تلك المولويّات المجعولة لا يوجب قياس المولويّة الذاتيّة بذلك.

وفي أكبر الظنّ أنّ نكتة اشتباه الأكابر في المقام هي أنّهم لمّا تخيّلوا أنّ المولويّة شيء واحد محدّد لا يقبل التشكيك تغلّب وجدانهم في باب المولويّات العرفيّة المجعولة على وجدانهم في باب المولويّة الحقيقيّة، وأوجب ذلك التباس الأمر في نظرهم الشريف. والصحيح: أنّ العقل العمليّ في باب مولويّته ـ تعالى ـ يحكم بسعة دائرة المولويّة وشمولها للأحكام المظنونة والمشكوكة والموهومة(1).

 


(1) وقد يتراءى للذهن أنّه من الواضح أنّ المولى ـ سبحانه ـ لو لم يصدر أمراً بشيء واحتملنا كون ذلك الشيء مطلوباً له رغم عدم الأمر، لم يجب علينا عقلاً الإتيان به، ولم نستحقّ العقاب على تركه، وليس هذا إلاّ عبارة عن قاعدة قبح العقاب بلا بيان، ولكن الواقع أنّ هذا قد يكون على أساس أنّ أغراض المولى البالغة في الضعف مرتبة لا تحرّك المولى نحو بيانها لا يحكم العقل بوجوب امتثالها، وهذا غير قاعدة قبح العقاب بلا بيان المفروض جريانها فيما احتملنا صدور الأمر من المولى به، ولكن لم يصلنا الأمر صدفة لضياع الأخبار أو لأيّ سبب آخر. وقد يقول قائل: إذا كان المفهوم وفق المولويّات العرفيّة قبح العقاب بلا بيان لضيق دائرة المولويّة فيها، فتتمّ البراءة لديهم، فلولا منع الشارع عن