6

للاُمّة في حركتها على مرّ عقدين من الزمن أو أكثر، فأدرك بوعيه ما تحتاجه، فخلّف رصيداً فكريّاً وتراثاً تربويّاً غنيّاً، ممّا حدا بالإخوة العاملين في مكتب سماحته ـ بتوفيق من الله تعالى ـ إلى إعداد ونشر بعض ذلك التراث الضخم المتمثّل بكتاب الإمامة وقيادة المجتمع، وكتاب المرجعيّة والقيادة، وغير ذلك.

عزيزي القارئ:

الكتاب الذي بين يديك وهو: (مفاهيم تربويّة في قِصّة يوسف(عليه السلام)) جزء آخر من ذلك التراث، وهو عبارة عن محاضرات تربويّة مستقاة منقِصّة يوسف(عليه السلام) ألقاها سماحة السيّد المرجع(دام ظلّه) في ليالي الجمعة من علىمنبره المبارك في مكتب سماحته إلى عامّة الناس من طلبة الحوزة العلميّةوالمثقّفين وغيرهم في قم المقدّسة، وقد فرغ سماحة السيّد المرجع(دام ظلّه) من تدوين تلك المحاضرات بتأريخ 21 / صفر / 1427 هجري كما هو مثبّت بخطّه الشريف في النسخة الخطّيّة.

وقد أسهم المكتب تيسيراً لاستفادة العموم من هذا السفر المبارك في بعض الأعمال، وهي:

1 ـ تقطيع البحث إلى مقاطع، واختيار عنوان مناسب لكلّ مقطع يحكي محور البحث.

7

2 ـ وضع علامات الترقيم في موضعها كالنقطة والفارزة.

3 ـ لمّا لم يكن سماحة المؤلّف (دام ظلّه) بصدد التفسير التجزيئيّ للسورة التي حكت قِصّة يوسف(عليه السلام)، وإنّما كان يريد عرض الأفكار والمفاهيم التربويّة التي حوتها السورة، ترك بيان معاني بعض المفردات أو المقاطع ممّا قد يصعب فهمه على عامّة القرّاء الكرام، فأدرك المكتب أنّ وجود توضيح مختصر لمعاني تمام آيات القِصّة يكون مفيداً في حدّ ذاته من ناحية، ويكون عوناً لهم على تجاوز الصعوبة المشار إليها من ناحية اُخرى، فعمد إلى ذكر ذلك التوضيح في هامش الكتاب معتمداً على بعض التفاسير كتفسير الميزان والأمثل وإن كان معظم الاعتماد على تفسير الميزان.

4 ـ ترجمة ما ذكره سماحة المؤلّف (دام ظلّه) من الأبيات الشعريّة باللغة الفارسيّة إلى اللغة العربيّة نثراً، ووضعها في هامش الكتاب.

5 ـ تخريج بعض المصادر، وتطبيق ما نقل عن تفسير (نمونه) على الترجمة العربيّة للتفسير، وهو تفسير الأمثل؛ تسهيلا للقارئ العربيّ إذا أراد مراجعة المصدر.

لذا فإنّ كلّ الإضافات المذكورة في هامش الكتاب من تصرّف المكتب، إلاّ ما ذُيّل بعبارة (من المؤلّف دام ظلّه) للإشارة إلى أنّه كلام يعود إلى سماحته.

8

نسأل الله تعالى أن يجعل ذلك خالصاً لوجهه الكريم، وينفعنا به يوم لا ينفع مال ولا بنون إلاّ من أتى الله بقلب سليم، وآخر دعواناأنِ الحمد لله ربّ العالمين.

مكتب

سماحة آية الله العظمى السيّد الحائريّ (دام ظلّه)

 

9

 

 

 

المقدّمة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على محمّد وآله الطيّبين الطاهرين، واللعن على أعدائهم أجمعين.

﴿يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَة مُّزْجَاة فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ﴾(1).

صدق الله العليّ العظيم

كان هذا خطاباً ليوسف من قبل إخوته من غير اُمّه قبل أن يعرفوه، وقد ألمّت بهم وبأُسرهم شدّة القحط.

ونحن اليوم نخاطب بتلك الكلمات من نسمّيه تارةً بيوسف فاطمة، واُخرى بيوسف الزهراء سلام الله عليه وعليها، وهو الإمام الحجّة المنتظر عجّل الله فرجه وسهّل مخرجه، وقد مسّنا وأهلنا الضرّ في العراق؛ إذ هبّت فيه عواصف الشرّ، وتكالبت عليه قوى الاحتلال والإضلال، فرفعت فيه ألوية التكفير، وقرعت طبول الفتنة الطائفيّة



(1) سورة يوسف، الآية: 88. والبضاعة المزجاة: المتاع القليل.

10

والفرقة القوميّة بعد أنِ احتلّت قوى الشرّ بلاده، ونهبت خيراته، فإِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعون.

والذي يخفّف عنّا وطء المصيبة وهول الواقعة إيماننا بـ ﴿إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾(1)، و ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَاف عَبْدَهُ﴾(2)، و ﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْء قَدْراً﴾(3).

هذا، وإيماننا بظهور فرقان آل محمّد(صلى الله عليه وآله) المنقذ المنتظر (عجّل الله فرجه) يحيي في نفوسنا أنّ ليل الشرّ لقصير:

خُرُوجُ إمام لا محالةَ خارجٌ
يَقُومُ عَلى اسمِ اللهِ والبركاتِ
يُميّزُ فينا كُلَّ حَقٍّ وباطل
ويُجزي على النَّعماء والنقماتِ
فيا نفسُ طيبي ثُمّ يا نفسُ أبشري
فغيرُ بعيد كُلُّ ما هو آتِ(4)



(1) سورة الحجّ، الآية: 38.

(2) سورة الزمر، الآية: 36.

(3) سورة الطلاق، الآية: 3.

(4) من قصيدة دعبل المعروفة.

11

وفي جنب ما أشرنا إليه من محنة الطائفيّة وموجة التكفير التي يرفع لواءها اليوم بعض من ذوي الاتّجاه البدويّ في التفكير، تنبغي الإشارة إلى أنّه برغم الدائرة الواسعة من الوفاق العقائديّ والفقهيّ بين المذاهب الإسلاميّة الذي نراه أرضيّة مناسبة، وقاعدة صلبة لإقرار مبدأ التعايش السلميّ، بل التعاون والتنسيق واتّخاذ المواقف المشتركة تجاه قضايا الاُمّة المصيريّة، وما يهدّد كيانها ومبادئها ومقدّساتها من مخاطر... برغم ذلك لم تكن دائرة الخلاف بحدود أتباع أهل البيت(عليهم السلام)من جهة، وأتباع مدرسة الخلفاء من جهة ثانية، ولا أنّه خلاف سياسيّ أو فكريّ شهدته الاُمّة الإسلاميّة في مرحلة من مراحل حياتها، وإنّما له من العمق ما يمتدّ إلى حياة النبيّ(صلى الله عليه وآله).

فقد يصوّر البعض الخلاف بين المسلمين بأنّه خلاف بين أتباع أهل البيت(عليهم السلام) من جهة، وأتباع مدرسة الخلفاء من جهة ثانية؛ ليوحي أنّ جماعة المسلمين تتمثّل بأتباع المذاهب الإسلاميّة الأربعة فقط، أمّا أتباع أهل البيت(عليهم السلام)فجماعة خارجة عن جماعة المسلمين، في حين أنّ المذاهب الأربعة لم يقتصر الخلاف بينها على مستوى الخلاف الفقهيّ كما يتخيّله بعض السذّج، وإنّما هم يتوزّعون على مسالك فكريّة وفرق كلاميّة متعدّدة في طريقة الاستدلال على العقائد، وقد وقع الخلاف بينها في أخطر القضايا، انتهى إلى تكفير بعضها بعضاً، وأهمّ تلك الفرق:

12

1 ـ فرقة تقول بأنّ المصدر الوحيد لمعرفة العقائد هو النصّ الشرعيّ من الكتاب والسنّة، وأنّ المسائل الاعتقاديّة توقيفيّة، فلا يتجاوزون ما ورد في النصوص موضوعاً وتعبيراً، ولا يتصدّون لشرح ما ورد فيها أيضاً، ولا لتوضيحه أو تأويله. وتسمّى بـ (السلفيّة) تيمّناً بالسلف الصالح من الصحابة والتابعين، أو اتّباعاً لهم في مسلكهم المدّعى.

والمقصود بالسلفيّة هم اُولئك الذين ظهروا في القرن الرابع الهجري، وكانوا من الحنابلة، وزعموا أنّ جملة آرائهم تنتهي إلى الإمام أحمد بن حنبل (164 ـ 241 هـ)، ثُمّ تجدّد ظهورها في القرن السابع الهجريّ على يد ابن تيمية (661 ـ 728 هـ)، وشدّد في الدعوة إليها، وأضاف إليها اُموراً اُخرى قد بعثت إلى التفكير فيها أيّام عصره، ثُمّ ظهرت تلك الآراء في الجزيرة العربيّة في القرن الثاني عشر الهجريّ على يد محمّد بن عبد الوهّاب (1115 ـ 1206 هـ )؛ إذ حمل أفكار ابن تيمية، واستطاع أن يؤسّس مذهباً سُمّي بالمذهب الوهّابيّ نسبة إليه.

2 ـ وفرقة تقول بأنّ المصدر هو النصّ، لكن ما ورد فيه من ألفاظ وتعبيرات لابدّ من حملها على ظواهرها المنقولة، لا المعقولة. وتسمّى بـ (الأشاعرة). وظهرت في بداية القرن الثالث الهجريّ في البصرة على يد مؤسّسها أبي الحسن عليّ بن إسماعيل الأشعريّ (260 ـ 324 هـ).

واعتمدت الأشعريّة في الاستدلال على العقائد مسلكين، هما:

13

أوّلاً: مسلك النقل بما ثبت في القرآن الكريم والسنّة الشريفة عن صفات الله تعالى ورسله، واليوم الآخر، والإقرار بالملائكة، والوقوف على عبارات النصوص في الآيات الموهمة للتشبيه، فهو سبحانه قد استوى على العرش كما قال: ﴿الرَّحْمَنُ عَلى الْعَرْشِ اسْتَوى﴾(1)، وله وجه كما قال: ﴿وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالاِْكْرَامِ﴾(2)، وله يدان كما قال:﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾(3)، وله عين كما قال: ﴿تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا﴾(4)، لكن مع دعوى: أنّ تلك الصفاتِ لا تشابه صفات المخلوقين.

ثانياً: مسلك العقل والاحتجاج بالأدلّة العقليّة والبراهين المنطقيّة؛ لتؤكّد بها الاستدلال على ما جاء في القرآن والسنّة، فاتّخذت العقل خادماً لظواهر النصوص ومؤيّداً لها، مع تقديم النصّ على العقل، وعدم الأخذ بالاجتهاد أمام النصوص وإن كانت واردة من طريق الآحاد.

3 ـ وفرقة تقول بأنّ طريق المعرفة بالعقائد الحقّة والمسائل الكلاميّة هو العقل؛ إذ به يعرف الحقّ، ويميّز من الباطل، ولا منافاة بين الشرع والعقل في ذلك، فالنصّ إنّما يرشد إلى الحقّ الذي يدلّ عليه



(1) سورة طه، الآية: 5.

(2) سورة الرحمن، الآية: 27.

(3) سورة المائدة، الآية: 64.

(4) سورة القمر، الآية: 14.

14

العقل، ولو ورد ما ظاهره مناف لما قرّره العقل، فلابدّ من تأويل ذلك الظاهر إلى ما يوافق العقل ويدركه. وتسمّى بـ (المعتزلة).

والمعتزلة فرقة كلاميّة نشأت في أواخر القرن الهجريّ الأوّل، أوائل القرن الثاني، وسمّوا معتزلة لا عتزال مؤسّسها واصل بن عطاء الغزّال (80 ـ 131 هـ) مجلسَ الحسن البصريّ بعد خلافه معه في حكم الفاسق بأنّه لا مؤمن ولا كافر.

وقد اختلف أتباع هذه الاتّجاهات الكلاميّة، واشتدّ الجدل والأخذ والردّ في موضوعات عقائديّة تعدّ من اُمّهات المسائل الاعتقاديّة بين المسلمين، وهي عدد اُصول العقائد في الإسلام، وكذا في صفات الله تعالى وتجسّمه، وكلامه، ورؤيته، والتوسّل، والشفاعة والاستغاثة وغيرها. واختلفوا في مسألة خلق القرآن الكريم، فذهب قوم إلى أنّ القرآن قديم غير مخلوق، وذهب خصومهم من المعتزلة وغيرهم إلى القول بخلق القرآن الكريم، وقد دار على هذا الموضوع صراع واسع أدّى إلى استباحة الدماء، وارتكاب المجازر، وصدور الفتاوى بالتكفير(1).



(1) راجع ـ لأجل معرفة التفصيل فيما ذكرناه من المسالك الكلاميّةوالاختلاف في اُمور العقائد بين المذاهب الإسلاميّة السنّيّة ـ كتابَ الملل والنحل ج 1 و ج 2 و ج 3، وكتاب الإلهيّات للشيخ جعفر السبحانيّ، وكتاب الشيعة بين الأشاعرة والمعتزلة لهاشم معروف الحسنيّ.

15

يقول أحمد بن حنبل: «والقرآن كلام الله تكلّم به، ليس بمخلوق. ومن زعم أنّ القرآن مخلوق، فهو جهميّ كافر، ومن زعم أنّ القرآن كلام الله ووقف، ولم يقل: ليس بمخلوق، فهو أخبث من قول الأوّل. ومن زعم أنّ ألفاظنا به وتلاوتنا له مخلوقة، والقرآن كلام الله، فهو جهميّ، ومن لم يكفّر هؤلاء القوم، فهو مثلهم»(1).

وأمّا مبدأُ هذا الخلاف بين المسلمين الذي أدّى تدريجاً إلى ظهور المذاهب على الساحة الفكريّة والفقهيّة، وزمنُ انقداح شرارته الاُولى، فيعود إلى الصدر الأوّل والسنين المتقدّمة من تأريخ الرسالة النبويّة الشريفة، وإليك نموذجاً واحداً يدلّل على عمق ذلك الخلاف التأريخيّ الذي شقّ الاُمّة الإسلاميّة شقّين:

روي في صحيح البخاري المعترف بصحّته لديهم جميعاً نسبة الهجر إلى النبيّ(صلى الله عليه وآله) في ساعة مرضه، وحاشاه من ذلك، كما اُورد ذلك في صحيح مسلم أيضاً المعترف بصحّته لديهم جميعاً. ففي صحيح البخاري الحديث رقم (114) بحسب تسلسل كلّ أحاديث الكتابـ وهو الحديث الرابع من باب كتابة العلم ـ ما يلي:

«حدّثنا يحيى بن سليمان قال: حدّثني ابن وهب قال: أخبرني يونس عن ابن شهاب، عن عبيدالله بن عبدالله، عن ابن عبّاس قال:



(1) كتاب السنّة لأحمد بن حنبل، ص 49.

16

لمّا اشتدّ بالنبيّ(صلى الله عليه و آله وسلم) وجعه، قال: ائتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لا تضلّوا بعده، قال عمر: إنّ النبيّ(صلى الله عليه و آله وسلم) غلبه الوجع، وعندنا كتاب الله حسبنا. فاختلفوا، وكثر اللغط. قال: قوموا عنّي، ولا ينبغي عندي التنازع. فخرج ابن عبّاس يقول: إنّ الرزيّة كلَّ الرزيّة ما حال بين رسول الله(صلى الله عليه و آله وسلم) وبين كتابه».

وفي صحيح مسلم ـ باب ترك الوصيّة لمن ليس له شيء يوصي فيه ـ ما يلي:

«حدّثني محمّد بن رافع وعبد بن حُمَيْد قال عبد: أخبرنا، وقال ابن رافع: حدّثنا عبدالرزّاق، أخبرنا مَعْمَر عن الزهريّ عن عبيدالله بن عبدالله بن عتبة، عن ابن عبّاس قال: لمّا حُضِر(1) رسول الله(صلى الله عليه و آله وسلم) وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطّاب، فقال النبيّ(صلى الله عليه و آله وسلم): هلمّ أكتب لكم كتاباً لا تضلّون بعده، فقال عمر: إنّ رسول الله(صلى الله عليه و آله وسلم) قد غلب عليه الوجع، وعندكم القرآن، حسبنا كتاب الله. فاختلف أهل البيت فاختصموا: فمنهم من يقول: قرّبوا يكتب لكم رسول الله(صلى الله عليه و آله وسلم) كتاباً لن تضلّوا بعده، ومنهم من يقول ما قال عمر. فلمّا أكثروا اللغو والاختلاف عند رسول الله(صلى الله عليه و آله وسلم)، قال رسول الله(صلى الله عليه و آله وسلم): قوموا. قال عبيدالله: فكان ابن عبّاس يقول: إنّ الرزيّة كلَّ الرزيّة ما حال بين رسول الله(صلى الله عليه و آله وسلم) وبين أن يكتب



(1) أي: أصبح بحالة الاحتضار. (من المؤلّف دام ظلّه).

17

لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم».

أقول: قد يأوّل هذا التعبير أحدٌ أو يعتذر عنه، فيقول: ليس معنى «غلب عليه الوجع» أنّه يهجر، بل معناه: أنّ النبيّ يصعب عليه تحضير الكتابة؛ لأنّه غلب عليه الوجع، وحسبنا كتاب الله، فاتركوه.

ولكن من حسن الحظّ أنّه ورد في نفس صحيح مسلم ما يفسّر اللغَط الذي كان بين الأصحاب بنسبة الهُجر، فقد ورد في نفس صحيح مسلم ـ وفي نفس الباب في الرواية المذكورة قبل هذه الرواية مباشرة ـ ما يلي:

«حدّثنا إسحاق بن إبراهيم، أخبرنا وكيع عن مالك بن مِغوَل، عن طلحة بن مصرَّف، عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس أنّه قال: يوم الخميس، وما يوم الخميس، ثُمّ جعل تسيل دموعه حتّى رأيت على خدّيه كأنّها نظام اللؤلؤ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ائتوني بالكتف والدواة (أو اللوح والدواة) أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعده أبداً. فقالوا: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يهجر».

وبغضّ النظر عن هذه القرينة المفسِّرة يكون أصل الاعتذار الذي أشرنا إليه غير مسموع؛ لأنّ أصحاب الرسول جميعاً يعرفون أنّ الكتاب اقتصر على ذكر الاُمّهات، وأنّه ترك التفاصيل للسنّة، فلا معنى للحيلولة دون كتابة السنّة بحجّة أنّه حسبنا كتاب الله، أو بحجّة أنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله) يصعب عليه تحضير الكتابة.

وأودّ أن أختم هذه المقدّمة بمطلع قصيدة في خطاب إلى يوسف

18

فاطمة (سلام الله عليها وعليه)، فأقول:

يا صاحبَ العصرِ أدركنا فليس لنا
وردٌ هنيءٌ ولا عيشٌ لنا رغدُ
طالَتْ علينا ليالي الانتظارِ فهل
يا ابنَ الزكيّ لليلِ الانتظارِ غدُ
فاكْحِلْ بطلعتِكَ الغرّا لنا مُقلاً
يكادُ يأتي على إنسانِها الرّمدُ
ها نحنُ مرمى لنبل النائباتِ وهل
يُغني اصطبارٌ وهى من درعِهِ الزَرَدُ(1)
فانْهَضْ فدتْكَ بقايا أنفُس ظفرتْ
بها النوائب لمّا خانَها الجَلَدُ
هَبْ أنّ جندَكَ معدودٌ فجدُّكَ قد
لاقى بسبعين جيشاً ما له عَدَدُ(2)

 

 

وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربّ العالمين.

 



(1) الزَرَد: حلقات من حديد كانت تنتظم في نسج ونسق معيّن في الدروع الحديديّة التي كانت تلبس في الحروب.

(2) من قصيدة للسيّد رضا الموسويّ الهنديّ(رحمه الله).

19

 

 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَـذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ * إِذْ قَالَ يُوسُفُ لاَِبِيهِ يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبَاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ * قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾(1).

 



(1) سورة يوسف، الآية: 1 ـ 5 .

غرض السورة:

غرض هذه السورة بيان ولاية الله لعبده الذي أخلص إيمانه لله تعالى،

20


ولا يبتغي له بدلاً، ولم يوالِ غيره، وأنّ الله تعالى هو يتولّى أمره، ويخلصه لنفسه، ويحييه حياة طيّبة وإن كانت الأسباب الظاهريّة أجمعت على هلاكه، ويرفعه وإن توفّرت الحوادث على ضعته، ويعزّه وإن دعت النوائب ورزايا الدهر إلى ذلّته وحطّ قدره. وقد بيّن تعالى ذلك بسرد قِصّة يوسف الصدّيق(عليه السلام).

مكان نزول السورة:

اتّفق المفسّرون على أنّ هذه السورة نزلت في مكّة، سوى ما نُقل عن ابن عبّاس ـ كما في تفسير الميزان ـ: أنّ أربع آيات منها مدنيّة، وهي: الآيات الثلاثة في أوّل السورة والآية السابعة منها، ولكن ارتباط هذه الآيات بعضها ببعض في هذه السورة في سياق واحد يبعّد احتمال نزول هذه الآيات الأربعة في المدينة.

فضل السورة:

وردت في الروايات الإسلاميّة فضائل مختلفة في تلاوة هذه السورة، منها ما ورد في تفسير مجمع البيان للشيخ الطبرسيّ(رحمه الله)في تفسير السورة عن الإمام الصادق(عليه السلام): «من قرأ سورة يوسف في كلّ يوم أو في كلّ ليلة، بعثهُ الله

21


يوم القيامة وجماله مثل جمال يوسف، ولا يصيبه فزع يوم القيامة، وكان من خيار عباد الله الصالحين».

بيان المعنى:

﴿الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ﴾ الإشارة بلفظ البعيد للتعظيم، وبالكتاب المبين إلى هذا القرآن المتلوّ، وهو مبين وواضح في نفسه، ومبيّن وموضّح لغيره ممّا ضمّنه الله تعالى من المعارف الإلهيّة وحقائق المبدأ والمعاد.

﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً...﴾وإنزاله قرآناً عربيّاً هو إلباسه في مرحلة الإنزال لباس القراءة والعربيّة، وجعله لفظاً متلوّاً مطابقاً لما يتداوله العرب من اللغة؛ لكي يعقلوا معانيه وأغراضه.

﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ...﴾أي: نحن نقصّ عليك أحسن القصص بسبب وحينا هذا القرآن إليك، وأنّك كنت قبل أن نقصّ عليك هذه القِصّة من الغافلين عنها.

﴿إِذْ قَالَ يُوسُفُ لاَِبِيهِ إِنّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً...﴾تذكر الآيات رؤياـ وهي ما يشاهده النائم في منامه ـ رآها يوسف(عليه السلام)، وقصّها على أبيه يعقوب(عليه السلام)، فعبّرها أبوه له، ونهاه أن يقصّها على إخوته. وقد افتتح سبحانه قِصّته(عليه السلام) ←

22


بذكر هذه الرؤيا التي أراها له، وهي بشرى له، تمثّل له ما سيناله من الولاية الإلهيّة، ويخصّ به من اجتباء الله إيّاه وتعليمه تأويل الأحاديث وإتمام نعمته عليه.

﴿يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكيدُوا لَكَ كَيْداً﴾ الكيد: ضرب من الاحتيال، والآية تدلّ على أنّ يعقوب(عليه السلام) لمّا سمع ما قصّه عليه يوسف(عليه السلام) من الرؤيا، أيقن بما تدلّ عليه: من أنّ يوسف(عليه السلام) سيتولّى الله أمره، ويرفع قدره، ويسنده إلى أريكة المُلك، فأشفق على يوسف(عليه السلام)، وخاف من إخوته عليه وهم عصبة أقوياء أن لو سمعوا الرؤيا حملهم الكبر والأنفة أن يحسدوه، فيكيدوا له كيداً. ثُمّ إنّ لكيدهم سبباً آخر، وهو: الشيطان الذي هو عدوّ للإنسان مبين، يحمل الإنسان بوسوسته على أن يخرج من الصراط المستقيم.

﴿وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ﴾الاجتباء: اختيار معالي الاُمور للمجتبى، مثل ما اختاره الله تعالى ليوسف(عليه السلام) من الخصال الكريمة والاُمور السنيّة. وأصله من جبيت الشيء: إذا أخلصته لنفسك. وتأويل الأحاديث يعني: تأويل أحاديث الناس عمّا يرونه في منامهم. وإتمام النعمة هو: التعقيب برفع سائر نواقص الحياة السعيدة، وضمّ الدنيا إلى الآخرة، أي: إنّ الله أنعم عليكم ما تسعدون به في

23

 

المقصود بـ ﴿أَحْسَنَ الْقَصَص﴾:

وقع الكلام في تفسير ﴿أَحْسَنَ الْقَصَص﴾: هل المقصود: تمام القرآن، فكلمة ﴿القَصَص﴾ تعني: مطلق الأحاديث، أو المقصود: أحسن الحكايات، ولعلّه خصوص قِصّة يوسف(عليه السلام)؟

ويدعم التفسير الأوّل كون الشمول مناسباً لسعة القرآن من ناحية، وكونه وارداً في عدد من الروايات من ناحية اُخرى:

ففي تفسير عليّ بن إبراهيم عن خطبة له(صلى الله عليه وآله): «و أحسن القصص هذا القرآن»(1).

وفي روضة الكافي عن خطبة لأميرالمؤمنين(عليه السلام): «ثُمّ إنّ أحسن


حياتكم وآخرتكم، ويتمّ ذلك في حقّك وفي حقّ آل يعقوب، وهم يعقوب وزوجه وسائر بنيه.


(1) كنز الدقائق، ج 6، ص 269 ـ 270 بحسب مؤسّسة الطبع والنشر التابعة لوزارة الثقافة والإرشاد الإسلاميّ بطهران، نقلاً عن المصادر الموجودة في المتن.

24

القصص، وأبلغ الموعظة، وأنفع التذكّر كتاب الله عزّ ذكره»(1).

وفي الكافي عن خطبة لأبي جعفر(عليه السلام): «وإنّ كتاب الله أصدق الحديث، وأحسن القصص»(2).

ويدعم التفسير الثاني قوله تعالى مباشرة بعد هذه الآيات: ﴿إِذْ قَالَ يُوسُفُ لاَِبِيهِ ...﴾.

ولا مانع من الجمع بين التفسيرين، ولا أقصد بذلك الجمع بينهما على أساس استعمال اللفظ في معنيين كي يستبعد ذلك، بل أقصد إرادة الجامع بين المعنيين.

 

ما فعله يعقوب إثر رؤيا يوسف(عليه السلام):

إنّ يوسف(عليه السلام) قصّ رؤياه على أبيه، ويبدو لنا من ظاهر الآية ـ والله العالم ـ أنّ أباه قام في مقابل ذلك بأمرين:

أحدهما: تفسيره لرؤياه بالمقدار الذي بدا له في ذلك الوقت، وقبل وقوع الواقعة المعروفة: من دخوله مع زوجته وأحد عشر من أولاده على يوسف، ففسّر الرؤيا:



(1) المصدر السابق.

(2) المصدر السابق.

25

أوّلاً: ببلوغ يوسف مرتبة النبوّة، فقال: ﴿وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ﴾.

وثانياً: بتعليم الله إيّاه شيئاً من علم تفسير الرؤى بناءً على كون المقصود بالأحاديث في قوله: ﴿وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيث﴾الرؤى.

وثالثاً: بأنّ الله يتمّ نعمته على يوسف، وعلى آل يعقوب كما أتمّها على أبويه من قبل إبراهيم وإسحاق.

ولعلّ إطلاق ﴿آلِ يَعْقُوبَ﴾ يشمل أولاده العشرة الذين فسقوا وظلموا؛ لأنّهم تابوا وأصلحوا لدى دخولهم على يوسف، وسجودهم أمامه.

وثانيهما: منعُه(عليه السلام)لابنه يوسف عن أن يقصّ الرؤيا على إخوته تنبّؤاً منه بأنّهم سيحسدونه، وسيمكرون به، فقال: ﴿يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً﴾.

 

ذمّ الحسد:

وهناك روايات في ذمّ الحسد يقشعرّ لها الظهر، من قبيل ما ورد في اُصول الكافي(1):

1 ـ صحيح محمّد بن مسلم: «...إنّ الحسد ليأكل الإيمان كما تأكل النار الحطب».



(1) اُصول الكافي، ج 2، ص 306 ـ 307 بحسب طبعة الآخونديّ.

26

2 ـ صحيح معاوية بن وهب قال: «قال أبو عبدالله(عليه السلام): آفة الدين الحسد والعُجب والفخر».

3 ـ رواية داود الرقّيّ عن أبي عبدالله(عليه السلام) عن رسول الله(صلى الله عليه وآله):«قال الله عز وجل لموسى بن عمران:... إنّ الحاسد ساخط لنعمي، صادّ لقسمي الذي قسمت بين عبادي، ومن يك كذلك فلست منه،وليس منّي».

4 ـ رواية فضيل بن عياض عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال: «إنّ المؤمن يغبط ولا يحسد، والمنافق يحسد ولا يغبط».

 

* * *

27

 

 

 

﴿لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ * إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَل مُّبِين * اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِن بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ﴾(1).

 



(1) الآية: 7 ـ 9 .

﴿لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ...﴾شروع في القصّة، وفيه التنبيه على أنّ القصّة مشتملة على آيات إلهيّة دالّة على توحيد الله سبحانه، وأنّه هو الوليّ يلي اُمور عباده المخلصين حتّى يرفعهم إلى عرش العزّة. فهؤلاء إخوة يوسف(عليه السلام)حسدوا أخاهم وكادوه، وألقَوه في قعر بئر، ثُمّ شروه من السيّارة عبداً يريدون بذلك أن يسوقوه إلى الهلاك، فأحياه الله بعين هذا السبب اللائح منه الهلاك، وأرادوا أن يذلّلوه فأعزّه الله بعين سبب التذليل.

وفي قوله تعالى:﴿للسَّائِلِينَ﴾دلالة على أنّه كان هناك جماعة سألوا النبيّ(صلى الله عليه وآله)عن القصّة، فاُنزلت في هذه السورة.

﴿إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ...﴾العصبة:

28


الجماعة التي يتعصّب بعضها لبعض، ويقع على جماعة من عشرة إلى خمسة عشر، وقيل: ما بين العشرة إلى الأربعين. والقائلون هم أبناء يعقوب ما خلا يوسف وأخاه الذي ذكروه معه، وكانت عدّتهم عشرة، وهم رجال أقوياء بيدهم تدبير بيت أبيهم يعقوب، وإدارة مواشيه وأمواله. وقولهم: ﴿لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ﴾بنسبته إلى يوسف مع أنّهم جميعاً أبناء ليعقوب وإخوة فيما بينهم يشعر بأنّ يوسف وأخاه هذا كانا أخوين لاُمّ واحدة، وأخوين لهؤلاء القائلين لأب فقط. والروايات تذكر أنّ اسم أخي يوسف هذا (بنيامين)، والسياق يشهد أنّهما كانا صغيرين لا يقومان بشيء من أمر بيت يعقوب، وتدبير مواشيه وأمواله. وقولهم: ﴿إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَل مُّبِين﴾ قضاء منهم على أبيهم بالضلال، ويعنون بالضلال: الاعوجاج في السليقة وفساد السيرة، دون الضلال في الدين، وذلك:

أوّلا: لأنّ ذلك هو مقتضى ما تذاكروا فيما بينهم أنّهم جماعة إخوان أقوياء يقومون بتدبير شؤون أبيهم الحيوية، ودفع كلّ مكروه يواجهه، ويوسف وأخوه طفلان صغيران لا يقويان من اُمور الحياة على شيء، فتوغّلُ أبيهم في حبّهما دونهم طريقةٌ معوجّة غير مرضيّة.

وثانياً: لأنّهم كانوا مؤمنين بالله، مذعنين بنبوّة أبيهم يعقوب كما يظهر من

29

إرادة الله فوق أيّ إرادة:

وكيف لا يكون في يوسف وإخوته آيات للسائلين، في حين أنّ فئة قويّة خطّطوا ضدّ أخ صغير ضعيف لهم، وهو أصغرهم وأضعفهم، وذلك أدّى إلى إيصال ذاك الأخ إلى إجلاسه على سرير القدرة والعظمة والسلطنة؛ لكي يسجدوا أمامه، ويصبح هو المكين الأمين في بقعة كبيرة من الأرض.

 


قولهم: ﴿وَتَكُونُوا مِن بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ﴾.

﴿اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً...﴾اقتلوا يوسف حكاية لأحد الرأيين منهم في أمره. و ﴿أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً﴾ حكاية رأيهم الثاني فيه. والمعنى: غرّبوه في أرض لا يقدر معه على العود إلى بيت أبيه، كإلقائه في بئر أو تغريبه إلى مكان ناء. ﴿يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ﴾أي: افعلوا به أحد الأمرين حتّى يخلو لكم وجه أبيكم، وهو كناية عن خلوص حبّه لهم بارتفاع المانع الذي يجلب الحبّ والعطف إلى نفسه، كأنّهم ويوسف إذا اجتمعوا بأبيهم، حال يوسف بينه وبينهم، وصرف وجهه إلى نفسه، فإذا ارتفع خلا وجه أبيهم لهم، واختصّ حبّه بهم، وانحصر إقباله عليهم. ﴿وَتَكُونُوا مِن بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ﴾أي: وتكونوا من بعد يوسف، أو من بعد قتله، أو نفيه قوماً صالحين بالتوبة من هذه المعصية.

30

وهذا يعني: أنّه لو أراد العالم أجمع كيداً لأحد ولم يشأ الله ذلك، يهن كيدهم ولا يفلح.

اگر تيغ عالم بجنبد زجاى
نبرّد رگى تا نخواهد خداى
خدا كشتى آنجا كه خواهد برد
وگر ناخدا جامه بر تن درد(1)

 

تأثير الحسد في النفوس:

والمعروف أنّ يوسف وبنيامين كانا من اُمّ واحدة غير باقي الإخوة، واختلاف الاُمّهات قد يبعث بنائرة الحسد في النفوس، خصوصاً إذا رأوا باقي الإخوة أنّهم هم الأقوياء، وأنّهم هم الذين يدبّرون لأبيهم حياته، ويتكفّلون بحلّ مشاكله باعتبارهم هم الأقوياء، دون الأخ الصغير، ولكن الأخ الصغير كان هو أكثر محبوبيّة لدى الأب سواءٌ كان



(1) وإليك معنى البيتين:

إذا اهتزّ سيف العالم في مكان
فلن يقطع وريداً إن لم يشأ الله
إنّ الله يسوق السفينة إلى ما يشاء
سواءٌ ربّانها شاء أم لم يشأ