102

يُخْلَقُون﴾؟

أمّا سجود الملآئكة لآدم(عليه السلام) فبما أنّه كان بأمر الله كان عبادة لله تعالى كما ورد عن الصادق(عليه السلام) في حديث: «أنّ زنديقاً قال له: أفيصلح السجود لغير الله؟ قال: لا، قال: فكيف أمر الله الملآئكة بالسجود لآدم؟ فقال: إنّ من سجد بأمر الله فقد سجد لله، فكان سجوده لله إذا كان عن أمر الله»(1).

وقد يقال: إنّ السجود لغير الله وإن كان محرّماً في شريعتنا لكن ليس كلّ سجود عبادة، والسجود المحرّم لغير الله غير القابل للاستثناء إنّما هو سجود العبادة، وهي نهاية الخضوع للمعبود باعتبار مالكيته للعابد، ولم يكن سجود الملآئكة لآدم ولا سجود إخوة يوسف وأبويه له بهذا الاعتبار(2).

 

الدليل على التوحيد في الطاعة

 

ونعطف على التوحيد في العبادة التوحيد في الطاعة، فإنّ كلامنا فيه مشابه لكلامنا في توحيد العبادة، فإنّ حكم العقل بمولويته سبحانه وتعالى وطاعته لا يكون إلّا لأحد سببين: إمّا لكونه هو المنعم الحقيقي الذي منه نعمة الوجود أوّلاً ثُمّ النعم المتفرّعة على الوجود التي إن تعدّوها لا تحصوها فيجب شكره بطاعته؛ وإمّا لكونه مالكاً حقيقيّاً لنا وللعالم بخلقه إيّانا وخلقه للعالم على الخصوص بناءً على ما مضى في برهان الصدّيقين على وجود الله: من أنّ ما سواه ليس إلّا ربطاً وإشعاعاً وتجلّياً، وأنّ الوجود المستقل لا يوجد إلّا له سبحانه وتعالى، فهو


(1) وسائل الشيعة 6: 387، الباب 27 من أبواب السجود، الحديث 4.

(2) البحار 11: 140.

103

الموجد والواجد لا غيره، وتجب على المملوك إطاعة المالك.

وكلا هذين السببين لوجوب الطاعة مخصوص بالله عزّ وجلّ:

﴿وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً﴾(1)، ﴿أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِين﴾(2).

 

الدليل على التوحيد في الأفعال

 

التوحيد في الأفعال بمعنى أنّه لا مؤثّر في الوجود إلّا الله، وعمدة النقض الذي يورد على ذلك عبارة عن أفعال الإنسان بناءً على كونه فاعلاً مختاراً، ومن هنا قد يتورّط من يتورّط في الجبر بتخيّل أنّ هذا هو الذي يؤدّي إلى التنزيه من الشرك غفلة عن أنّ الجبر يؤدّي إلى توصيف الله تعالى بالظلم؛ لأنّ العقاب على ما ليس بالاختيار ظلم وتعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً.

والجمع بين اختيار الإنسان والتوحيد في الأفعال يذكر بأحد وجهين:

الوجه الأوّل: هو الوجه العامّ ـ أي القريب من ذهن العموم ـ وهو أنّه على الرغم من اختيارية الإنسان في الأفعال تكون الوسائل التي بها يحقق العبد الفعل من الأعضاء والجوارح والوسائط الماديّة التي قد يحتاجها لتحقيق ذاك الفعل والحياة والقدرة والشعور وما إلى ذلك، كلّها من الله تعالى وبفيض دائم منه، ولو انقطعت إحدى هذه الفيوضات آناًما لما أمكن للعبد إيجاد ذاك الفعل، إذن فالتأثير الحقيقي كان من الله سبحانه وتعالى بالرغم من اختيار العبد.

 


(1) س 31 لقمان، الآية: 20.

(2) س 7 الأعراف، الآية: 54.

104

والوجه الثاني: هو الوجه الفلسفيّ الخاص، وهو أنّه بعد أن كان وجود العبد مجرّد وجود ربطيّ؛ إذ لا وجود له بغضّ النظر عن هذا الربط، فجميع أفعاله لا يعقل أن يفترض لها وجود استقلالي، وإلّا لكان فعل الإنسان أعلى مرتبة في الوجود من نفس الإنسان، وإذن كلّ أفعاله توجد بوجود ربطي، وتكون مرتبطة بالوجود المستقل وإشعاعاً من إشعاعات الوجود المستقل، وهذا معنى أمرٌ بين الأمرين.

 

105

اللّه جلّ جلاله

3

 

 

 

صفات اللّه(سبحانه وتعالى)

 

وبعد إثبات التوحيد قد تكلّم علماؤنا الأبرار في صفات الله تعالى، ولكنّا هنا لا نتكلّم إلّا عن نزر يسير من صفاته عزّوجّل، وببيان مختصر قصير على أساس ما بُني عليه هذا الكتاب من الاختصار.

 

○ علم الله (سبحانه وتعالى)

○ قدرته (عز وجل) واستغناؤه.

○ صدق الله (عز وجل).

○ عدل الله (سبحانه وتعالى)

 

 

 

107

 

 

 

 

 

علم الله (سبحانه وتعالى)

 

نشير هنا إلى علم الله سبحانه وتعالى ضمن مختصر من الكلام بعد افتتاح الحديث بالآيات المباركات التاليات:

1 ـ ﴿قُلْ إِن تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْض﴾(1).

2 ـ ﴿وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَة إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّة فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْب وَلاَ يَابِس إِلاَّ فِي كِتَاب مُّبِين﴾(2).

3 ـ ﴿وَمَا تَكُونُ فِي شَأْن وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآن وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَل إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّة فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَاب مُّبِين﴾(3).

4 ـ﴿يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير﴾(4).


(1) س 3 آل عمران، الآية: 29.

(2) س 6 الأنعام، الآية: 59.

(3) س 10 يونس، الآية: 61.

(4) س 57 الحديد، الآية: 4.

108

5 ـ﴿وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِير﴾(1).

6 ـ﴿إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الاَْرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْض تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِير﴾(2).

7 ـ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الاِْنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيد﴾(3).

وفيما يلي نذكر بعض وجوه الاستدلال على علمه المطلق سبحانه وتعالى:

1 ـ إنّ إطلاق علمه يكون من قبيل التوحيد الذي قلنا فيه: إنّه يمكن الاستدلال عليه بالدليل النقلي، وليس من قبيل أصل وجود الله الذي يتوقّف عليه كلّ دليل نقلي، فبعد إثبات وجود الله وما يأتي من صدقه ينفتح باب تسلسل الحديث في الأدلة النقليّة القطعيّة لإثبات جميع العقائد الاُخرى، والنقل القطعي كتاباً وسنّة ثابت على علم الله المطلق بشكل لا غبار عليه.

2 ـ إنّ برهان الصدّيقين يثبت علم الله المطلق؛ لأنّه أثبت أنّ ما عدا الوجود المستقل كلّه وجود ربطيّ لا استقلال له في ذاته، فكلّه حاضر لدى الوجود المستقل بالعلم الحضوري دون الحصولي، والحجاب بين العالم وبعض الاُمور إن كان يتصوّر فإنّما يتصوّر في الاُمور المنفصلة عنه والتي يتوقف العلم بها على انطباع الصورة عنها في الذهن، فإذا انطبعت حصل العلم الحصولي وإلّا حصل الجهل، وأمّا ما يكون حاضراً لدى الله سبحانه وتعالى فلا معنى لفرض جهله به.

3 ـ إنّ برهان النظم والحكمة الذي كان فيما مضى من أهمّ أدّلتنا على وجود


(1) س 67 الملك، الآية: 13 ـ 14.

(2) س 31 لقمان، الآية: 34.

(3) س 50 ق، الآية: 16.

109

الله تعالى يثبت علم الله بوضوح بنفس طريقة الأدلّة العلميّة لا الفلسفيّة؛ فإنّ كتاباً مختصراً لمؤلّف اعتيادي يعكس عادة خصوصيّات المؤلّف ومزاياه: من فصاحة وبلاغة أو ضعف في القدرة على البيان أو دقّة في الفهم أو بلادة فيه وما إلى ذلك، فكيف لا تدل الدقّة المتناهية في كتابي التكوين ـ وهما: كتاب الآفاق، أعني الأرض والسماوات بما فيها من الآيات الماديّة، وكتاب الأنفس الذي يكون المحسوس لنا من أجزائه هو النفس البشريّة المشتملة على غرائب الاُمور وعجائبها ـ وكتاب التدوين ـ وهو القرآن المشتمل على إعجازات لا متناهية في عدّة جهات، ومنها الإخبارات الغيبيّة ـ على العلم المطلق لمؤلّف هذه الكتب الثلاثة ألا وهو الله سبحانه وتعالى؟!

4 ـ لو صنع أحدٌ سيّارة أو طائرة أو أيّة أداة صغيرة من هذا القبيل يكون عالماً بمزايا وخصوصيّات مصنوعه هذا على الرغم من أنّه ليس خالقاً له بالمعنى الحقيقي للكلمة، وانّما عمله مجرّد تجميع لأجزاء هذا المصنوع، فكيف لا يدل خلق العالم كلّه على علمه سبحانه وتعالى بما فيه؟! ﴿وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِير﴾.

وبإمكانك أن تجعل الوجه الرابع جزءاً من الوجه الثالث فيتلخّص دليلنا على علمه عزّ وجلّ ضمن الأدّلة الثلاثة: النقلي والفلسفي والعقلي.

 

علم الله تعالى بالغيوب الخمسة:

نختم الحديث عن علم الله سبحانه بكلام عن الآية السادسة من الآيات التي مضت: ﴿إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الاَْرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْض تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِير﴾.

روي في تفسير البرهان في ذيل هذه الآية المباركة عن الصادق(عليه السلام): «هذه

110

الخمسة أشياء لم يطّلع عليها ملك مقرّب ولا نبيّ مرسل، وهي من صفات الله عزّ وجلّ»(1).

وروي في پيام قرآن(2) عن نور الثقلين عن الإمام الصادق(عليه السلام): «ألا اُخبركم بخمسة لم يطّلع عليها أحد من خلقه؟ قلت: بلى. قال(عليه السلام): ﴿إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الاَْرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْض تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِير﴾».

ومن الطريف ما رواه ابن أبي الحديد من أنّ إنساناً قال لموسى بن جعفر(عليه السلام): «إنّي رأيت الليلة في منامي أ نّي سألتك: كم بقي من عمري؟ فرفعت يدك اليمنى وفتحت أصابعها في وجهي مشيراً إليّ، فلم أعلم خمس سنين أم خمسة أشهر أم خسمة أيّام؟ فقال: ولا واحدة منهنّ، بل ذاك إشارة إلى الغيوب الخمسة التي استأثر الله تعالى بها في قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَة ...)»(3).

ومن الطريف أيضاً ما روي في تفسير كنز الدقائق وخرّجه المخرّج من كتاب أنوار التنزيل: «إنّ ملك الموت مرّ على سليمان فجعل ينظر إلى رجل من جلسائه يديم النظر إليه، فقال الرجل: من هذا؟ فقال: ملك الموت، فقال: كأنّه يريدني فاؤمر الريح أن تحملني وتلقيني بالهند، ففعل، فقال الملك: كان دوام نظري إليه تعجّباً منه إذ اُمرتُ أن أقبض روحه بالهند وهو عندك»(4).

وإن كنّا نحن والمقدار المستفاد لنا من ظاهر الآية المباركة لم يكن مجال للاعتراض عليها بأنّ علم اليوم يكشف عن ذكورة الجنين واُنوثته وهو في الرحم؛ وذلك عن طريق النظر اليه بالوسائل الحديثة. والوجه في عدم ورود هذا


(1) تفسير البرهان 3: 280.

(2) پيام قرآن 4: 82.

(3) شرح ابن أبي الحديد 8: 217.

(4) كنز الدقائق 10: 274.

111

الاعتراض على الآية واضح؛ فإنّ كشف حقيقة الجنين من ناحية الذكورة والاُنوثة بالنظر إليه بالوسائل الحديثة ليس إلّا من قبيل النظر إليه بعد ولادته، ولا يدّعي أحد أنّ الاطّلاع على الذكورة والاُنوثة بالحاسّة الباصرة مخصوص بالله تعالى، وإنّما المخصوص به هو الاطّلاع عليه رغم أنّه مستور في الرحم فلعل المقصود بالآية المباركة هو هذا المقدار من الأمر.

إلّا أنّ المستشعر من بعض الروايات السابقة أنّ الاطّلاع على حقيقة الجنين في الرحم كالاطّلاع على وقت القيامة لا يمكن أن يتحقّق لأحد وليس أمراً يمكن كشفه بالحس، فحاله حال الساعة التي لا يطّلع عليها أحد ولو كان نبيّاً مرسلاً، كما دلّت عليه الآية المباركة: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا * فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا * إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا﴾(1)، وكذلك قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللّهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُون﴾(2)، فإذا كان الأمر هكذا فيرد الاستفسار عن أنّه كيف يقال: إنّ العلم بحقيقة ما في الأرحام مخصوص بالله تعالى مع أنّ العلم الحديث قد كشف النقاب عن حقيقة ما في الأرحام من ذكر أو اُنثى بالحسّ؟!

والجواب: أنّه بناءً على هذا الاحتمال يجب أن تحمل الآية على معنى معرفة حقيقة ما في الرحم ليس من ناحية الذكورة والاُنوثة فحسب، بل ومن ناحية صفاته الجميلة أو الرذيلة وسعادته وشقائه وما إلى ذلك، وهذا ما لا يمكن كشفه إلّا بالعلم بالغيب، كما ورد ذلك عن إمامنا أمير المؤمنين(عليه السلام)، حيث ذكر في تفسير الآية المباركة: «فيعلم الله سبحانه ما في الأرحام: من ذكر أو اُنثى، وقبيح


(1) س 79 النازعات، الآية: 42 ـ 44.

(2) س 7 الأعراف، الآية: 187.

112

أو جميل، وسخيّ أو بخيل، وشقيّ أو سعيد، ومن يكون في النار حطباً، أو في الجنان للنبييّن مرافقاً»(1).

وعلى أيّة حال فقد تبيّن من كلّ ما ذكرناه أنّه تعالى: ﴿لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّة فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَاب مُّبِين﴾(2)، ﴿وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّة فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَاب مُّبِين﴾(3).

وسلام الله على إمامنا أمير المؤمنين(عليه السلام) الذي قال: «يعلم عجيج الوحوش في الفلوات، ومعاصي العباد في الخلوات، واختلاف النينان في البحار الغامرات، وتلاطم الماء بالرياح العاصفات»(4).

 

 

 

* * *

 


(1) نهج البلاغة، الخطبة 128.

(2) س 34 سبأ، الآية: 3.

(3) س 10 يونس، الآية: 61.

(4) نهج البلاغة، الخطبة 198.

113

 

قدرته (عز وجل) واستغناؤه

 

تثبت القدرة المطلقة له عزّ وجلّ بنفس الأدلّة الثلاثة الماضية:

 

فأوّلاً ـ الدليل النقلي القطعي:

وأقتصر على ذكر عدد من الآيات التي اشتملت في مضمونها على الدليل العلمي للقدرة، قال الله تعالى:

1 ـ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَات وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الاَْمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْء قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْء عِلْماً﴾(1).

2 ـ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ﴾(2).

3 ـ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِر عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْء قَدِير﴾(3).

 

ثانياً ـ الدليل الفلسفي:

يمكن أن نستفيد هنا من برهان الصدّيقين الذي استندنا إليه في إثبات الله تعالى وفي إثبات التوحيد، فإنّ الوجود المستقلّ لا حدّ له؛ لأنّ الحدّ يأتي من الماهية وهي أمر عدمي، فإذا لم يكن له حدّ كان كمالاً مطلقاً، والكمال


(1) س 65 الطلاق، الآية: 12.

(2) س 17 الإسراء، الآية: 99.

(3) س 46 الأحقاف، الآية: 33.

114

المطلق لا ضعف فيه ولا ينقصه شيء دخيل في القدرة، وبالتالي لا تنقصه القدرة ولايحتاج إلى شيء.

 

ثالثاً ـ الدليل العلمي:

وهو نفس الدليل العلمي الذي أثبتنا به وجود الله وأثبتنا به علمه وحكمته؛ إذ نقول: كيف يمكن هذا الخلق العظيم مع أوسع آيات القصد والتدبير، ومع أرقى ما يتصوّر من الإتقان والإحكام من دون قدرة واسعة لا يحدّها شيء؟! وقد أشار إلى ذلك قوله تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَات وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الاَْمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْء قَدِير﴾ فالله هو الذي خلق السماوات السبع والأرض بقشورها أو الأرضين السبع ودبّر الأمر في كلّ سماء وأرض كما أشار إلى ذلك في هذه الآية بقوله: ﴿يَتَنَزَّلُ الاَْمْرُ بَيْنَهُنَّ﴾، وبقوله في آية اُخرى: ﴿يُدَبِّرُ الاَْمْرَ مِنَ السَّمَاء إِلَى الاَْرْض﴾(1)، وبقوله في آية ثالثة: ﴿وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا﴾(2)، فلو قطع التدبير لحظة واحدة عن كلّ هذا لهلك العالم بأجمعه، وكلّ ما نراه أو نرى إشعاعاً منه من الكواكب والنجوم إنّما هي في السماء الدنيا؛ لقوله تعالى: ﴿إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَة الْكَوَاكِب﴾(3)، وقوله تعالى:﴿وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيح﴾(4)، وقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيح﴾(5). وهذه النجوم التي في السماء حسب التعبير المرويّ عن إمامنا أمير المؤمنين(عليه السلام): لها مدائن مثل المدائن التي في الأرض، مربوطة كلّ مدينة إلى عمود مربوط من


(1) س 32 السجدة، الآية: 5.

(2) س 41 فصّلت، الآية: 12.

(3) س 37 الصافّات، الآية: 6.

(4) س 41 فصّلت، الآية: 12.

(5) س 67 الملك، الآية: 5.

115

نور، طول ذلك العمود في السماء مسيرة مئتين وخمسين سنة(1)، ولعلّ المقصود بالعمود الرابط قوّتا الجاذبة والدافعة.

أقول: كلّ هذا ـ ونسبته إلى جميع آيات النظم والإحكام أقلّ من نسبة القطرة إلى البحر ـ أليس دليلاً على قدرة الله سبحانه التي لا يحدّها حدّ؟

وينفعنا في المقام ما مضى في بحث إثبات الصانع من حديث لنا حول دلائل القصد والحكمة فراجع.

وحاصل الكلام: أنّ الدليل العلمي على علم الله سبحانه وعلى قدرته هو عين الدليل العلمي على وجوده سبحانه، وهو عبارة عن دلائل القصد والحكمة المنبثّة في العالم أجمعه، ولا نريد أن ندخل في شرح ذلك؛ لأنّه مضى منّا في بحث إثبات الصانع قدر من البيان حول دلائل القصد والحكمة، فهنا نحيلك على ذاك البحث المشروح نسبيّاً، على الرغم من أنّ ما مضى لو قيس بواقع دلائل القصد والحكمة في العالم لكانت النسبة أضأل من نسبة القطرة إلى البحر، ونحيلك أيضاً على البحث الرائع الممتع لاُستاذنا الشهيد(قدس سره) في أواخر كتاب فلسفتنا تحت عنوان: «المادّة والوجدان» والذي ورد في أواخره قوله:

«وأخيراً فلنقف لحظة عند علم النفس لنطلّ على ميدان جديد من ميادين الإبداع الإلهي، ولنلاحظ من قضايا النفس بصورة خاصّة قضيّة الغرائز التي تنير للحيوانات طريقها وتسدّدها في خطواتها؛ فإنّها من آيات الوجدان البيّنات على أنّ تزويد الحيوان بتلك الغرائز صنع مدبّر حكيم وليس صدفة عابرة، وإلّا فمن علّم النحل بناء الخلايا المسدّسة الأشكال، وعلّم كلب البحر بناء السدود على الأنهار، وعلّم النمل المدهشات في إقامة مساكنه، بل من علّم ثعبان البحر


(1) تفسير البرهان 4: 15 نقلاً عن تفسير علي بن إبراهيم.

116

أن لا يضع بيضه إلّا في بقعة من قاع البحر تقرب نسبة الملح فيها 35% وتبعد عن سطح البحر بما لا يقلّ عن 1200 قدم، ففي هذه البقعة يحرص الثعبان على رمي بيضه حيث لا ينضج إلّا مع توافر هذين الشرطين؟

ومن الطريف ما يحكى من أنّ عالماً صنع جهازاً خاصّاً، وزوّده بالحرارة المناسبة وببخار الماء وسائر الشروط التي تتوفّر في عملية طبيعيّة لتوليد كتاكيت من البيض، ووضع فيه بيضاً ليحصل منه على دجاج، فلم يحصل على النتيجة المطلوبة، فعرف من ذلك أنّ دراسته لشرائط التوليد الطبيعي ليست كاملة، فأجرى تجارب اُخرى على الدجاجة حال احتضانها البيض، وبعد دقّة فائقة في الملاحظة والفحص اكتشف أنّ الدجاجة تقوم في ساعات معيّنة بتبديل وضع البيضة وتقليبها من جانب إلى جانب، فأجرى التجربة في جهازه الخاص مرّة اُخرى مع إجراء تلك العمليّة التي تعلّمها من الدجاجة فنجحت نجاحاً باهراً، فقل لي بوجدانك: من علّم الدجاجة هذا السرّ الذي خفي على ذلك العالم الكبير، أو من ألهمها هذه العمليّة الحكيمة التي لا يتم التوليد إلّا بها؟»(1).

 

إشكالان وجوابهما:

الأوّل: القدرة متقوّمة بالاختيار وقرائن النظم والتدبير والعظمة تنسجم مع الجبر أيضاً، فهل من دليل على الاختيار؟ وأقصد بذلك اختيار الله سبحانه وتعالى، أي إنّ البحث هنا بحث صغروي ولا علاقة له بالبحث الكبروي عن الجبر والاختيار، فلنفترض أنّنا قد انتهينا في بحث الجبر والاختيار من معقولية الاختيار وإبطال شبهات ضرورة الجبر، بل حتّى من البحث الصغروي لاختيار


(1) فلسفتنا: 347 ـ 348.

117

الإنسان بحجة: أنّ اختياره معلوم حضوريّ لنفوسنا أو محسوس لنا بالوجدان، فبعد كلّ هذا يبقى سؤال صغروي عمّا هو الدليل على أنّ الله سبحانه وتعالى فاعل بالاختيار؟

وبالإمكان أن يقال في المقام: إنّ الجبر نقص وهذا خلاف كمال الوجود المستقل الذي أثبتناه ببرهان الصدّيقين.

إلّا أنّ هذا يعتبر رجوعاً إلى برهان الصدّيقين، ونحن نبحث عن برهان مستقلّ عن ذاك البرهان.

والجواب: أنّه مضى منّا في إثبات حدوث العالم عدد من البراهين على حدوثه، وكان منها ما يرجع إلى استنباط العلم الحديث الذي اكتشف محدوديّة الطاقة الحراريّة للعالم، وأنّه متّجه إلى البرود باستمرار، وأنّه لو كان قديماً لكانت الطاقة الحراريّة والحركة الدائبة زائلتين منذ زمن طويل.

فإذا ثبت الحدوث ثبت الاختيار لله سبحانه وتعالى؛ لأنّه لو كان نشوء العالم منه كنشوء المعلول القهري من علّته لكان العالم قديماً بقدم علّته ولم يكن حادثاً.

الثاني: لو كانت قدرته سبحانه وتعالى مطلقة لزم من ذلك قدرته على مثل الجمع بين النقيضين وإدخال العالم من دون تصغيره في البيضة من دون تكبيرها، وما إلى ذلك من المستحيلات.

والجواب على ذلك: هو أنّ عدم شمول قدرته سبحانه وتعالى للمستحيلات الذاتيّة لا يعني نقصاً في قدرته، بل يعني أنّ المستحيل ليست له أرضيّة قبول القدرة، وعدم امتداد القدرة إلى ما ليست له قابليّة ذلك لا يعني تحديداً في طرف القدرة.

وقد ورد مثال إدخال العالم في البيضة من دون تكبير البيضة أو تصغير

118

العالم في بعض الروايات من قبيل:

1 ـ ما عن ابن اُذينة عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال: «قيل لأمير المؤمنين(عليه السلام): هل يقدر ربّك أن يدخل الدنيا في بيضة من غير أن تصغر الدنيا أو تكبر البيضة؟ قال: إنّ الله تبارك وتعالى لاينسب إلى العجز، والذي سألتني لا يكون»(1)، وكأنّ هذه الرواية إشارة إلى ما قلنا من أنّ تعلق القدرة بهذا المثال يعني تعلّقها بالمحال الذاتي، وهذا لا يكون لا لنقص في القدرة بل لعدم قابلية المحل.

2 ـ ما عن أبان بن عثمان عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال: «جاء رجل إلى أمير المؤمنين(عليه السلام)فقال: أيقدر الله أن يدخل الأرض في بيضة ولا تصغر الأرض ولا تكبر البيضة؟ فقال له: ويلك إنّ الله لا يوصف بالعجز، ومن أقدر ممّن يلطّف الأرض ويعظّم البيضة»(2)، وكأنّها أيضاً إشارة إلى نفس المعنى الذي ذكرناه، مضافاً إلى تنبيه وجدان السائل باعترافه الضمني بالقدرة غير المتناهية لله تعالى في سؤاله؛ حيث فرض قدرته على تصغير الأرض وتكبير البيضة، وركّز السؤال على إدخال الأرض في البيضة من دون تصغير وتكبير.

3 ـ ما عن البزنطي قال: «جاء رجل إلى الرضا(عليه السلام) فقال: هل يقدر ربّك أن يجعل السماوات والأرض وما بينهما في بيضة؟ قال: نعم وفي أصغر من البيضة وقد جعلها في عينك وهي أقل من البيضة؛ لأنّك إذا فتحتها عاينت السماء والأرض وما بينهما ولو شاء لأعماك عنها»(3).

وهذه الرواية يمكن أن تحمل على محمل تكلّم الإمام(عليه السلام) على مستوى فهم المخاطب السائل، وإلّا فمسألة الإبصار لا علاقة لها بدخول الوسيع في الضيّق،


(1) البحار 4: 143، الباب 4 من أبواب الصفات من كتاب التوحيد، الحديث 10.

(2) المصدر السابق، الحديث 11.

(3) المصدر السابق، الحديث 12.

119

وإنّما لها علاقة بإثبات تجرّد النفس البشريّة عن المادّة.

وتوضيح ذلك: أنّه لو فرض أنّ الإبصار عبارة عن وقوع شعاع خاصّ من العين على المرئي فهذا لا يعني دخول الوسيع في الضيّق، إلّا أنّ هذه الفرضيّة قد ثبت بطلانها علميّاً؛ حيث أثبت العلم أنّ الإبصار يتم بانعكاس الأشعّة الضوئيّة من المرئيّات على العين وليس العكس؛ ولذا قد تتم رؤية الشيء بعد فنائه فنحن لا نرى نجماً من نجوم السماء إلّا حين تصل الموجات الضوئيّة الصادرة عنه إلى الأرض بعد عدّة سنين من انطلاقها من مصدرها، فتقع على شبكيّة العين حتّى لو فرض زوال النجم من محلّه.

ولو فرض أنّ الإبصار يتمّ بدخول مادّة عن المرئي في العدسة أو في المخّ متحجّمة بحجم المادّة المرئيّة الواسعة خارجاً فهذا يعني دخول الوسيع في الضيّق، إلّا أنّه من المستحيلات الذاتيّة ولا يمكن أن يكون، فينحصر الأمر في أنّ عملية الإبصار ـ بالمعنى الذي يكون نوعاً من الإدراك لا بمعنى مجرّد وقوع شعاع على الباصرة ـ ليست إلّا أمراً مجرّداً عن المادّة، وبالتالي لا تقع إلّا على مركز مجرّد وهو النفس، أمّا إشعاع المادّة على الباصرة فإن هو إلّا مقدّمة علميّة للإدراك، فينحصر تصحيح هذه الرواية بحملها على التكلّم مع السائل بقدر فهمه(1)، فلعلّه لم يكن يستطيع أن يدرك أنّ عدم شمول القدرة للمستحيل لا يعني نقصاً في القدرة، فلو كان يسمع من الإمام(عليه السلام)ذلك لكان يشنّع على الموحّدين بأنّهم لا يستطيعون إثبات القدرة الكاملة لله، فأجابه بقدر إدراكه.

وقد ورد هذا المضمون أيضاً في رواية اُخرى طريفة وهي: «أنّ عبدالله الديصاني أتى هشام بن الحكم فقال له: ألك ربّ؟ فقال: بلى. قال: قادر؟ قال:


(1) راجع فلسفتنا: 362 ـ 364.

120

نعم قادر قاهر. قال: يقدر أن يدخل الدنيا كلّها في البيضة لا تكبر البيضة ولا تصغر الدنيا؟ فقال هشام: النظرة. فقال له: قد أنظرتك حولاً. ثُمّ خرج عنه، فركب هشام إلى أبي عبدالله(عليه السلام) فاستأذن عليه، فأذن له فقال: يابن رسول الله، أتاني عبدالله الديصاني بمسألة ليس المعوّل فيها إلّا على الله وعليك. فقال له أبو عبدالله(عليه السلام): عمّاذا سألك؟ فقال: قال لي: كيت وكيت. فقال أبو عبدالله(عليه السلام): يا هشام، كم حواسّك؟ قال: خمس. فقال: أيّها أصغر؟ فقال: الناظر. قال: وكم قدر الناظر؟ قال: مثل العدسة أو أقل منها. فقال: يا هشام، فانظر أمامك وفوقك وأخبرني بما ترى. فقال: أرى سماءً وأرضاً ودوراً وقصوراً وتراباً وجبالاً وأنهاراً. فقال له أبو عبدالله(عليه السلام): إنّ الذي قدر أن يدخل الذي تراه العدسة أو أقلّ منها قادر أن يدخل الدنيا كلّها البيضة لا تصغر الدنيا ولا تكبر البيضة. فانكبّ هشام عليه وقبّل يده ورأسه ورجليه وقال: حسبي يابن رسول الله. فانصرف إلى منزله وغدا عليه الديصاني، فقال له: يا هشام، إنّي جئتك مسلّماً ولم أجئك متقاضياً للجواب. فقال له هشام: إن كنت جئت متقاضياً فهاك الجواب. فخرج عنه الديصاني فاُخبر أنّ هشاماً دخل على أبي عبدالله(عليه السلام) فعلّمه الجواب، فمضى عبدالله الديصاني حتّى أتى باب أبي عبدالله(عليه السلام)فاستأذن عليه فأذن له فلمّا قعد قال له: يا جعفر بن محمّد، دلّني على معبودي؟ فقال له أبو عبدالله(عليه السلام): ما اسمك؟ فخرج عنه ولم يخبره باسمه. فقال له أصحابه: كيف لم تخبره باسمك؟ قال: لو كنت قلت له: عبدالله كان يقول: من هذا الذي أنت له عبد؟ فقالوا له: عد إليه فقل له يدلّك على معبودك ولا يسألك عن اسمك. فرجع إليه فقال له: يا جعفر، دلّني على معبودي ولا تسألني عن اسمي. فقال له أبو عبدالله(عليه السلام): اجلس. وإذا غلام له صغير في كفّه بيضة يلعب بها، فقال أبو عبدالله(عليه السلام): ناولني ياغلام البيضة، فناوله إيّاها فقال له أبو عبدالله(عليه السلام): يا ديصاني، هذا حصن مكنون له جلد غليظ،

121

وتحت الجلد الغليظ جلد رقيق، وتحت الجلد الرقيق ذهبة مائعة وفضّة ذائبة، فلا الذهبة المائعة تختلط بالفضّة الذائبة، ولا الفضّة الذائبة تختلط بالذهبة المائعة، هي على حالها لم يخرج منها مصلح فيخبر عن إصلاحها، ولا دخل فيها مفسد فيخبر عن فسادها، لا تدري للذكر خلقت أم للاُنثى، يتفلّق عن مثل ألوان الطواويس أترى لها مدبّراً؟ قال: فأطرق مليّاً ثُمّ قال: أشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، وأنّ محمّداً عبده ورسوله، وأنّك إمام وحجّة من الله على خلقه، وأنا تائب ممّا كنت فيه»(1).

 

 

 

* * *

 


(1) البحار 4: 140 ـ 141، الباب 4 من أبواب الصفات من كتاب التوحيد، الحديث 7.

122

 

صدق الله(عز وجل)

 

﴿اللّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيثاً﴾(1).

﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّات تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَعْدَ اللّهِ حَقّاً وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً﴾(2).

الصدق حينما ينسب إلى الخبر يعني مطابقته للواقع، وحينما ينسب إلى الوعد يعني وفاءه بالوعد، والظاهر أنّ المقصود بالصدق في الآيتين ما يعمّ المعنيين، بل إنّ خلف الوعد في الله تعالى يستلزم الكذب بالمعنى الأوّل لا محالة؛ لأنّ خلف الوعد إمّا أن ينشأ من البداء بمعناه الحقيقي أو العجز عن الوفاء، والبداء ينشأ من ظهور ما كان مجهولاً لديه قبل ذلك، وقد مضى أنّ الله تعالى منزّه عن الجهل والعجز، وإمّا أن ينشأ من تعمّد المخالفة من حين الوعد، وهذا راجع إلى الكذب.

وعلى أيّة حال فالبحث عن الصدق شقّ من البحث عن العدل أفردناه بالذكر لأهمّيته الخاصّة.

ولولا الصدق لبطل الاعتماد على جميع الأدلّة النقليّة كتاباً وسنّة؛ لأنّنا نحتمل الكذب فيها جميعاً؛ ولبطل الوعد بمجيء يوم القيامة وبالجنّة والنار؛ ولبطلت النبوّة والإمامة بمعناهما المتضمّنين للهداية؛ لاحتمال أنّهما اُرسلا للتضليل، ولا يمكن إثبات نفس الصدق بالدليل النقلي؛ لأنّه دور واضح.


(1) س 4 النساء، الآية: 87 .

(2) س 4 النساء، الآية: 122.

123

إلّا أنّ العقل مستقلّ بالحكم بصدق الله عزّ وجلّ بأحد بيانين:

البيان الأوّل: أنّ الكذب نقص عظيم لا يصدر إلّا من الشخص الخسيس والمنحطّ، فأنت لا ترى في البشر من هو كاذب إلّا في السفلة والساقطين، فنسبة الكذب إلى الله تعني نسبة النقص والسقوط والخسّة والانحطاط، وما مضى من برهان الصدّيقين على كونه كمالاً مطلقاً لأنّه الوجود المستقل بذاته برهان على أنّه أعلى وأجلّ من الكذب، تعالى الله علوّاً كبيراً.

والبيان الثاني: أنّ الكذب لا يصدر من العاقل إلّا بأحد سببين: إمّا الجهل، وإمّا الحاجة التي يريد علاجها عن طريق الكذب، وقد مضى في الأبحاث السابقة البرهان على علمه وعلى قدرته.

 

 

 

* * *

124

 

عدل الله(سبحانه وتعالى)

 

قد جعل العدل لدى الشيعة أصلاً من اُصول العقائد، مع أنّه صفة من صفات الفعل كباقي صفات الفعل؛ ولعلّ السبب في إفراده بالذكر في مقابل أصول التوحيد والنبوّة والمعاد أمران:

الأوّل: أمر واقعي، وهو أنّ العدل أمر لو اُنكر لانهارت مبادئ واُصول كثيرة، ولانهارت أيضاً تربية البشرية، فمن المحتمل أنّ الله تعالى يعاقب المطيعين ويثيب العاصين، وهذا معناه انهيار اُصول الدين وفروعه تماماً، ولا يبقى معنى لبعث الأنبياء وإنزال الأحكام ولا للتصديق بيوم الجزاء.

الثاني: أمر تاريخي، وهو أنّ قسماً من السنّة أصرّوا على نفي هذا الوصف عن الله تعالى، إمّا على أساس إنكار الحسن والقبح العقليين أو على الأقل إنكار دركهما لنا، وإمّا على أساس الإيمان بالجبر وعدم الإيمان بالاختيار ممّا لا يُبقي مجالاً لدعوى كون مجازاة فاعلي الشرّ عدلاً، وإمّا على أساس أنّ مالكيّة الله سبحانه وتعالى لعبيده تعطيه حقّ أن يفعل بهم ما يشاء من دون أن يبقى معنى للظلم في ما إذا عاقبهم بلا ذنب.

وهذا كلّه أوجب تأكيد العدليّة على عدل الله سبحانه وتعالى، وعدّ الشيعة العدل أصلاً من اُصول العقائد، فوجود الحسن والقبح العقليين وجدانيّ عندهم، وكذلك الاختيار، بل لا نظن بمنكري الحسن والقبح العقليين أو منكري الاختيار أن يمشوا في تصرفاتهم العمليّة على مبانيهم العقلية في الحسن والقبح أو الجبر والاختيار، فلا نظنّهم مثلاً أن يسكتوا عن لوم من يضرب يتيمهم من

125

دون أن يكون قد صدر منه ما يعدّ ذنباً، أو يتركوا مديح من يساعد ضعفاءهم تلبيةً لوجدان الخير والرأفة.

وأمّا مالكيّة الله سبحانه وتعالى لعبيده فممّا لا شك فيها؛ ولكنها لا تنفي قبح ظلمهم بمثل التعذيب من دون ذنب، فإنّ هذه المالكيّة تعني الجدة ولا تعني حقّ التعذيب والإيذاء، فلو افترضنا أنّ الأب كان هوالخالق الحقيقي للولد ولم يكن مجرّد مقدّمة إعدادية لخلقه، وقلنا: إنّ هذا يستوجب ملكه إيّاه أو جدته له، فهذا لا يبرّر للوجدان أن يحكم بجواز ضربه وإيذائه من قبل الأب بدون صدور ذنب منه، لا لشيء إلّا لأنّ أباه خالقه أو مالكه.

وعلى أيّة حال فدليلنا على عدل الله سبحانه وتعالى هو نفس الدليلين اللذين أسلفناهما لإثبات صفة الصدق لكلام الله سبحانه، بل الصدق شعبة من شعب العدل وإثباته فرع من فروع إثبات العدل. فالدليل على العدل:

أوّلاً: أنّ الظلم نقص عظيم وخساسة ليس فوقها خساسة، ولا يكون ممن ثبت ببرهان الصدّيقين أنّه هو الوجود المستقل الكامل؛ لأنّ النقص لا يكون إلّا بشوب الوجود بالحدود الماهويّة، وذلك لا يكون إلّا في ما ليس وجوده ثابتاً بذاته.

ثانياً: أنّ الظلم لا يصدر من عاقل إلّا بسبب الجهل بقبحه أو بسبب الإحساس بنقص يحتاج إلى تداركه بالظلم، وقد مضى إثبات علمه وقدرته واستغنائه وتنزّهه عن الجهل والحاجة.

فهذان الدليلان الوجدانيان يثبتان وجدانيّة عدل الله سبحانه وتعالى.

ومن الطريف أنّ بعض آيات العدل في القرآن الكريم تشير إلى دلالة الوجدان على ذلك كقوله تعالى:

 

126

1 ـ ﴿أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّار﴾(1).

2 ـ﴿أمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُون﴾(2).

 

شبهة اُخرى وردّها

 

هناك شبهة حول مسألة العدل غير الشبهات الثلاث الماضية، تختلف عنها في أنّ تلك الشبهات كان منشؤها أخطاء فنّية في الفكر من القول بالجبر، أو إنكار الحسن والقبح العقليين أو تخيل استلزام المالكيّة لجواز أن يفعل بالمملوك ما يشاء، وأمّا هذه الشبهة فتنشأ من مجرد البساطة في الفكر والجهل بحقائق الاُمور، ولهذه الشبهة تقريبان:

الأوّل: أن يقال: إنّ اختلاف الطاقات والقابليّات يعتبر ظلماً، فلماذا نرى شخصاً ذكيّاً أو قويّاً أو حادّ البصر أو السمع أو نشطاً، والآخر بليداً أو ضعيفاً أو ضعيف البصر أو السمع أو كسلاً؟ وما هو ذنب الناقص الذي لم يُعط ذاك الكمال، في حين قد اُعطي صاحبه ذلك؟ ومن هذا النمط أيضاً الناقص في الأعضاء ذاتاً كمن ولد وهو أعمى أو به عرج أو تشويه في الخلقة أو ما إلى ذلك.

الثاني: أن يقال: إنّ مصائب الدنيا ومحنها ظلم للعباد، كالفقر والمرض وما إلى ذلك من المحن والابتلاءات.


(1) س 38 ص، الآية: 28.

(2) س 45 الجاثية، الآية: 21.