168

الأجير ووجب إخراجها من تركة الميّت، جاز الأخذ بأعلى تلك الدرجات، كما يجوز الأخذ بأدناها.

195 ـ وإذا كان لدى شخص أو في ذمّته مال لشخص آخر، ومات صاحب المال بعد أن استقرّت في عهدته حجّة الإسلام، واحتمل الشخص الذي في حيازته أو في ذمّته المال أنّه إذاأدّى إلى الورثة أكلوه، ولم ينفقوا منه على الحجّ عن الميّت،كان عليه أن ينفق من ذلك المال للحجّ عن الميّت، فإن زادالمال عن اُجرة الحجّ ردّ الزائد إلى الورثة. ولافرق في طريقة الإنفاق بين أن يستأجر شخصاً للحجّ عن الميّت، أو يحجّ بنفسه نائباً عنه.

 

المنوب عنه والنائب:

196 ـ اتّضح ممّا سبق: أنّ الشخص لايناب عنه في حجّة الإسلام إلّا إذا استقرّت عليه الحجّة، فلم يؤدّها إلى أن مات، أو كان موسراً وعجز عن مباشرة الحجّ بنفسه.

197 ـ وأمّا في الحجّ المستحبّ فتسوغ الاستنابة فيه عن الأموات والأحياء على السواء شريطة أن يكون المنوب عنه مسلماً.

ولافرق في النيابة على العموم بين أن يكون المنوب عنه طفلاً

169

مميّزاً أو بالغاً، مجنوناً أو عاقلاً، شيعيّاً أو سنّيّاً، فتصحّ النيابة عن هؤلاء جميعاً.

هذا بالنسبة إلى المنوب عنه.

198 ـ وأمّا فيما يتّصل بالنائب ـ سواء كان متبرّعاً بالنيابة أو مستأجراً لذلك ـ فهناك شروط لاتصحّ حجّة النائب من دونها، وهي كمايلي:

الأوّل: البلوغ فلايجزي حجّ الصبيّ ـ ولو كان مميّزاً ـ عن غيره في حجّة الإسلام وغيرها من الحجّ الواجب. أجل تصحّ نيابة الصبيّ المميّز عن غيره في حجّ مندوب بإذن وليّه الماليّ، فلو حجّ عنه بمال شخص آخر وبإذن المالك صحّ.

الثاني: العقل فلاتجزي استنابة المجنون، ولافرق في ذلك بين المجنون المستمرّ جنونه، والمجنون الذي يصاب بالجنون أحياناً إذا كان العمل في حالة جنونه. وأمّا السفيه فلابأس باستنابته.

الثالث: الإيمان.

الرابع: أن يكون النائب متمكّناً من القيام بكلّ واجبات الحجّ، وأمّا إذا كان معذوراً في بعضها لمرض أو غير ذلك فليس من المعلوم أنّ نيابته عن غيره في الحجّ الواجب كافية، وعليه فلايجوز أن يستأجر لأداء الحجّ الواجب عن غيره، وإذا بادر وتبرّع بأدائه عن الغير لا يكتفى بذلك.

170

199 ـ وإذا كان الإنسان مكلّفاً بالحجّ في سنة لم يجز له إهمال ما هو واجب عليه من أجل أن يحجّ نيابة عن غيره، ولكن إذا صنع ذلك ولو إهمالاً لاجهلاً منه بوجوب الحجّ عليه، صحّت نيابته وحجّته النيابيّة.

200 ـ وقد تسأل: هل يمكن لشخص من هذا القبيل أن يؤجّر نفسه للحجّ النيابيّ في سنة على الرغم من أنّه مكلّف بالحجّ في تلك السنة؟

والجواب: أنّ هذه الإجارة لاتسوغ إذا كان الشخص المكلّف بالحجّ عالماً بأنّه مكلّف وملتفتاً إلى ذلك.

وقد تسأل: إذا وقعت هذه الإجارة فعلاً، وأدّى الأجير الحجّ نيابة، فهل يستحقّ شيئاً على المستأجر؟

والجواب: أنّ الإجارة ـ على تقدير عصيانه للأمر الفوريّ عليه بالحجّ عن نفسه ـ صحيحة، فيستحقّ الاُجرة المسمّاة.

201 ـ والأحوط في الرجل الحيّ الذي وجبت عليه الاستنابة أن يُنيب عن نفسه رجلاً صرورة لامال له، ولايجب في نيابة الحجّ عن الرجل في غير هذا الفرض أن يكون النائب رجلاً، ولافي نيابة الحجّ عن المرأة أن تنوب المرأة، كما لايجب أن يكون النائب صرورة.

202 ـ ولابأس بنيابة شخص واحد عن جماعة في الحجّ

171

المستحبّ، ولايجوز ذلك في الحجّ الواجب، فإذا كان الحجّ واجباً على كلّ من الشخصين أو الأشخاص، احتاج كلّ منهم إلى نائب مستقلّ.

ويسوغ لجماعة أن ينوبوا في عام واحد عن شخص واحد، فيحجّ كلّ واحد منهم نيابة عنه، سواء اختلف قصد بعضهم عن بعض، كما إذا قصد أحدهم النيابة في حجّ مستحبّ، وقصد الآخر النيابة في حجّ واجب، أو قصدوا جميعاً حجّاً واحداً، كما إذا قصدوا جميعاً النيابة في حجّة الإسلام احتياطاً على أساس أنّ كلّ واحد منهم يحتمل أنّ عمل الآخرين ناقص.

203 ـ إذا كان على الميّت حجّ واجب، واستؤجر شخص لأدائه، فلاتبرأ ذمّة الميّت بمجرّد ذلك، وإنّما ترتبط براءة ذمّته بأداء الأجير للحجّ على الوجه الصحيح، وكذلك الحال في الحيّ الذي وجب عليه أن يستنيب شخصاً ليحجّ عنه. وعلى هذا الأساس لابدّ أن يكون الأجير مأموناً على أداء الحجّ والتعرّف على واجباته، وجديراً بالثقة والاعتماد، وإن كان عادلاً إضافة على وثاقته ومعرفته فهو أحسن وأفضل.

 

173

الفصل السابع

 

 

 

مصارف الكفّارة في الحجّ

 

 

 

174

 

 

 

 

204 ـ تكرّر فيما سبق في محرّمات الإحرام أنّ في بعض الحالات يجب على المحرم أن يكفّر بذبح حيوان، وكلّ من وجبت عليه الكفّارة ولم يؤدّها اعتُبر آثماً، ولكنّ حجّه لايبطل بذلك، ولاترتبط صحّة الحجّ بأداء الكفّارة، فهي على هذا الأساس واجب مستقلّ، ولايجب الإسراع به، ولابدّ أن نوضّح هنا مكان ذبح الحيوان الذي يجب التكفير بذبحه، وطريقة التصرّف فيه بعد ذبحه.

أمّا مكان الذبح فإن كان كفّارة لأجل الصيد في العمرة ذُبح في مكّة المكرّمة، وإن كان للصيد في إحرام الحجّ ذُبح في منى.

وإن كان لسبب آخر غير الصيد جاز ذبحها في أيّ مكان، وأمكن للمكلّف تأخيرها إلى حين الرجوع إلى بلده.

ويستثنى من ذلك كفّارة التظليل في إحرام عمرة التمتّع أو الحجّ؛ فإنّ الأحوط وجوباً أن تذبح في منى، وأمّا كفّارة التظليل في إحرام العمرة المفردة فالأحوط استحباباً ذبحها في مكّة(1).

 



(1) وصحيحا ابن بزيع الآمران بالذبح في منى ينصرفان عن العمرة

175

ولو لم تذبح كفّارة التظليل للحجّ أو عمرة التمتّع إلى أن رجع عذراً أو تهاوناً صحّ ذبحها في بلده(1).

 



المفردة؛ لأ نّ صاحب العمرة المفردة لايذهب إلى منى. راجع الصحيحين في الوسائل، الباب 6 من بقيّة كفّارت الإحرام، الحديث 3 و 6.

وصحيح منصور دلّ على أنّ كفّارة العمرة المفردة بمكّة وجوّز التأخير إلى منى، ولكنّه حديث مشوّش؛ إذ إنّ العمرة المفردة ليس فيها الذهاب إلى منى فما معنى التأخير؟! راجع الوسائل، باب 49 من كفّارات الصيد، الحديث 4.

(1) لذيل موثّقة إسحاق بن عمّار. الوسائل، الباب 5 من الذبح، الحديث 1.

وفي الكفّارة مسألة هامّة ينبغي الإشارة إليها، وهي: هل تتعدّد الكفّارة بتعدّد مفردات سبب واحد من محرّمات الإحرام أو لا؟

نستثني من هذا البحث الموارد التي ثبت حكمها بالنصّ، ونمثّل لذلك بمثالين:

الأوّل: كفّارة التظليل؛ لأنّ النصّ دلّ على تعدّدها بتعدّد الإحرام، كما في إحرام عمرة التمتّع وإحرام الحجّ، ووحدتها بوحدة الإحرام.

نعم، يفتى بتعدّد الكفّارة في الإحرام الواحد فيما إذا كفّر عن التظليل الأوّل ثُمّ ظلّل مرّة اُخرى.

والثاني: كفّارة قتل الصيد العمدي؛ لأنّ النصّ دلّ على أنّ الفرد الأوّل يكون جزاؤه مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم على تفصيلات

176

وأمّا طريقة التصرّف فيجب التصدّق بما كان لأجل الصيد، والأحوط التصدّق به مهما كان سبب الكفّارة وعدم الأكل منه.

كما أنّ الأحوط وجوباً اشتراط الفقر فيمن يتصدّق بشيء من الكفّارة عليه.

ولايجوز على الأحوط إعطاء جلد الذبيحة للجزّار كأجر على



كثيرة واردة في النصّ ومشروحة في الكتب المفصّلة، وأمّا بالنسبة إلى الفرد الثاني فينتقم الله منه ولا تقبل منه الكفّارة.

وبعد هذا الاستثناء نقول: لا شكّ في أنّ الأصل لدى تعدّد الأسباب عدم التداخل، فمقتضى القاعدة على العموم هو تعدّد الكفّارة.

ولكن قد يقع الشكّ في تعدّد الكفّارة إمّا كشبهة حكميّة بمناسبات الحكم والموضوع كما في القُبُلات التي تكون في مجلس واحد ومن امرأة واحدة مثلاً، وإمّا كشبهة موضوعيّة كما لو احتمل أنّ القُبُلات المتكرّرة في مجلس واحد منها تعدّ مخالفة واحدة.

وشأن الفقيه كفقيه في كلّ مسألة من هذا القبيل لو بقي على الشكّ ولم يدفعه بظواهر الأدلّة هو إجراء البراءة عن الكفّارة الثانية، ولكن شأن المقلّد كمقلّد حينما يبقى شاكّاً في الشبهة الحكميّة أو في الموضوعات المستنبطة مع عدم استلام فتوى محدّدة من قِبل من يقلّده هو الاحتياط.

ولهذا نحن لا نستطيع أن نرشد عامّة الناس كإرشاد عامّ موحّد في أمثال هذه الموارد إلّا إلى الاحتياط بتعدّد الكفّارة.

177

ذبحه، ويجوز إعطاؤها له صدقة إن كان أهلا لها(1).

وإذا أكل المكلّف شيئاً من لحم كفّارته فالأحوط وجوباً أن يضمن قيمة ما أكل، ويتصدّق بتلك القيمة على الفقراء.



(1) إطلاق النواهي للكفّارة غير واضح ومتيقّنها الاضحية، راجع الوسائل، باب 43 من الذبح.

179

 

 

 

الخاتمة في اُمور:

 

 

○ 1 ـ كيف تعرف أوقات المناسك؟

○ 2 ـ أحكام عامّة ترتبط بمكّة المكرّمة.

○ 3 ـ بعض الأدعية والزيارات.

 

 

 

 

 

 

180

 

 

 

 

1 ـ كيف تُعرف أوقات المناسك؟

 

205 ـ اتّضح ممّا تقدّم: أنّ هناك مناسك وواجبات في الحجّ مرتبطة بأوقات مخصوصة، كالوقوف بعرفات والوقوف في المشعر ورمي جمرة العقبة، وهذا يتطلّب تعيين اليومالتاسع والعاشر لتؤدّى تلك المناسك في أوقاتها، وتقوم معرفةذلك على أساس الوسائل التي يثبت بها هلال ذي الحجّة شرعاًمن الرؤية والبيّنة والشياع المفيد للعلم وحكم الحاكمالشرعيّ.

وإذا حكم القاضي السنّيّ بالهلال دون أن يثبت لنا بالوسائل المتقدّمة، فهنا صور:

الاُولى: أن لايعلم بأنّه حكم خاطئ، وفي هذه الصورة يصحّ للمكلّف اتّباعه والعمل على أساسه في تحديد زمان الوقوف بعرفات وبالمشعر وغير ذلك من واجبات الحجّ.

الثانية: أن يعلم المكلّف بأنّه حكم خاطئ لا يتطابق مع الواقع،

181

وكانت هناك تقيّة تحول دون إدراك الوقوف ولو في الوقت الاضطراريّ بعرفات وبالمشعر أو بالمشعر وحده في الأقلّ،ففي هذه الصورة لايصحّ الحجّ بالعمل على أساس مخالفةحكم القاضي؛ لأنّه على خلاف التقيّة، ولايبعد الاجتزاء باتّباع القاضي.

الثالثة: أن يعلم المكلّف بأنّ حكم القاضي على خطأ، ولكنّ الظروف تسمح له بإدراك عرفات والمشعر ولو في الوقت الاضطراريّ أو بإدراك اضطراريّ المشعر خاصّة في الأقلّ، ففي هذه الحالة يجب عليه أن يدرك ما وسعه ممّا لايتعارض مع التقيّة، فإن أدرك ولو اضطراريّ المشعر صحّ حجّه، وفي هذه الصورة يمكن للحاجّ أن يرمي جمرة العقبة إن أحبّ في اليوم العاشر بموجب حكم القاضي السنّيّ ولو بعنوان المجاراة، ولكن لايكتفي بذلك، ويؤجّل الذبح والحلق إلى اليوم العاشر الواقعيّ، ففي اليوم العاشر الواقعيّ يرمي جمرة العقبة، و يذبح ويحلق ويطوف.

يبقى السؤال عن أنّ المقياس في التقيّة التي توجب صحّة العمل على أساس حكم القاضي السنّيّ هل هو الشخص نفسه، أو هو التقيّة العامّة؟

والجواب: لايبعد كفاية التقيّة العامّة، وإن أمكن للبعض الاحتياط.

 

182

 

2 ـ أحكام عامّة ترتبط بمكّة المكرّمة

 

206 ـ مكّة المكرّمة حرم الله تعالى، وقد شرّفها سبحانه وتعالى بنسبتها إليه، والحرم الشرعيّ كان أوسع من مكّة، وهو يقدّر في مساحته بمسافة بريد طولا وعرضاً، والبريد: يساوي أربعة فراسخ، أي: نحو اثنين وعشرين كيلومتراً، والمسجد الحرام واقع في وسط هذه المسافة، ولكنّه ليس في نقطة الوسط حقيقة؛ فإنّ الحرم يمتدّ من بعض جوانبه أكثر ممّا يمتدّ من بعض جوانبه الاُخرى، وقد حافظ المسلمون على علامات تعيّن حدود الحرم، وهذه الحدود التي تعيّنها العلامات المذكورة تشير إلى أماكن قريبة من الحرم من جهاته الأربع، وهي كمايلي:

1 ـ يحدّ الحرم شمالا باتّجاه المدينة المنوّرة مكان يُسمّى بـ (التنعيم)، والمسافة بينه وبين المسجد الحرام قدّرت بنحو سبع كيلومترات.

2 ـ ويحدّ الحرم غرباً باتّجاه جدّة مكان يُسمّى بـ (الحديبيّة)، ويبعد عن المسجد الحرام على ما قيل نحو ثمانية عشر كيلومتراً.

3 ـ ويحدّ الحرم شرقاً باتّجاه نجد مكان يُسمّى بـ (الجعرانة)، ويبعد عن المسجد الحرام على ما قيل بما يزيد على أربعة عشر كيلومتراً.

183

4 ـ ويحدّ الحرم جنوباً باتّجاه عرفات والطائف مكان يُسمّى بـ (نمرة)، وهي تبعد عن المسجد الحرام بما يزيد عن اثنين وعشرين كيلومتراً على ما يقال.

وهذه النقاط والأماكن التي ذكرناها قريبة من الحرم وليست منه، وكلّ ما هو خارج عن مساحة الحرم يُسمّى بـ (الحلّ)، وتُسمّى تلك الأماكن المحادّة للحرم بـ (أدنى الحلّ).

207 ـ وهناك أحكام تتميّز بها مكّة والحرم نذكر فيمايلي جملة منها:

1 ـ لايجوز للإنسان دخول مكّة، بل ولادخول الحرم إلّا محرماً في أيّ وقت من السنة(1)، ولابدّ أن يكون الإحرام في



(1) وهل هذان حكمان أو حكم واحد؟ نحن نستظهر أنّهما حكم واحد، وتوضيح المقصود: أنّه وردت في الوسائل باب 50 من الإحرام روايات تمنع تارة عن دخول مكّة بلا إحرام كما في بعضها، واُخرى عن دخول الحرم بلا إحرام كما في بعضها الآخر، والظاهر أنّ الثاني تحديد لنفس دائرة الحكم بحرمة دخول مكّة بلا إحرام وأنّهما يبيّنان حكماً واحداً؛ وذلك لمناسبات الحكم والموضوع.

ولا أقصد بذلك أنّ من دخل الحرم بلا إحرام ثُمّ رجع فوراً كان حاله في المعصية كحال من استمرّ إلى دخول مكّة، فلا إشكال في أنّ الثاني أكثر معصيةً من الأوّل، وإنّما أقصد أنّ من دخل الحرم بلا إحرام واستمرّ في بقائه في الحرم من دون دخول مكّة حاله حال من دخل الحرم بلا إحرام واستمرّ

184

ضمن عمليّة حجّ أو عمرة، فمن لم يقصد الحجّ إذا أراد دخول مكّة أو الحرم لابدّ له أن يحرم للعمرة من أحد المواقيت الخمسة أومن أدنى الحلّ على التفصيل السابق، ويُستثنى من هذا الحكم من كان يتكرّر دخوله إلى مكّة المكرّمة وخروجه منها بموجب عمله.

أمّا لو لم يكن حاله ذلك، ولكن كان متواجداً بمكّة بصورة مشروعة، ثُمّ خرج إلى الحلّ ورجع، فإن رجع بفاصل شهر



في مشيه إلى مكّة، فكلاهما قد استمرّا في المعصية بشكل واحد، ودخوله مكّة ليست فيه معصية تزيد على فرض بقائه في الحرم.

واستظهار ما ذكرناه من أنّ دليل تحريم الدخول في الحرم بلا إحرام تحديد لنفس دائرة الحكم بحرمة دخول مكّة بلا إحرام يترتّب عليه اُمور هامّة:

أوّلاً: أنّ حرمة دخول الحرم بلا إحرام لم تكن لأجل المقدّميّة لتجويز دخول مكّة، فحتّى لو كان يقصد عدم دخول مكّة وجب عليه أن يحرم قبل دخول الحرم، وبالتالي وجب عليه دخول مكّة للعمرة المفردة في غير المتمتّع والحاجّ حجّ الإفراد؛ لأنّ الإحرام لا يصحّ إلّا للعمرة أو الحجّ.

وثانياً: أنّ هذا التحديد يحدّ أيضاً من سعة دائرة الحكم بحرمة دخول مكّة بلا إحرام، أي: أنّ مكّة لو اتّسعت في أحيائها الجديدة إلى خارج الحرم لم يحرم دخولها فيما قبل الحرم بلا إحرام.

وثالثاً: من كان في مكّة بصورة مشروعة وخرج من مكّة إلى داخل الحرم لم يجب عليه الاعتمار لأجل الرجوع إلى مكّة.

185

ـ أعني: ثلاثين يوماً ـ وجب عليه الإحرام. أمّا لو رجع بأقلّ من فاصل شهر لم يجب عليه الإحرام حتّى لو رجع في غير الشهر الهلاليّ الذي خرج فيه(1).

 



(1) والدليل على ذلك صحيحة جميل بن درّاج عن أبي عبدالله(عليه السلام): «في الرجل يخرج إلى جدّه في الحاجة. قال: يدخل مكّة بغير إحرام». وسائل الشيعة،ج 12 بحسب طبعة آل البيت، الباب 51 من الإحرام، الحديث 3، ص 407.

ومن الواضح بحسب مسافة ذاك الوقت والوسائل الموجودة عندئذ: أنّه يدخل في الغالب قبل مضيّ شهر عن خروجه، ولكن ليس الغالب أن يدخل قبل تبدّل الشهر الهلاليّ؛ إذ ما أكثر أن يخرج في أواخر الشهر الهلاليّ، فيكون من الطبيعيّ أن يدخل في شهر هلاليّ آخر.

ويحتمل دلالة صحيحة حمّاد بن عيسى أيضاً على ذلك؛ إذ ورد فيها قوله: «...قلت: فإن جهل فخرج إلى المدينة أو إلى نحوها بغير إحرام ثمّ رجع في اُبّان الحجّ في أشهر الحجّ يريد الحجّ، فيدخلها محرماً أو بغير إحرام؟ قال: إن رجع في شهره دخل بغير إحرام، وإن دخل في غير الشهر دخل محرماً...». وسائل الشيعة، ج 11 بحسب طبعة آل البيت، الباب 22 من أقسام الحجّ، الحديث 6، ص 303.

وذلك لاحتمال أن يكون مقصوده من الشهر في قوله: «وإن دخل في غير الشهر» مدّة الشهر لا تبدّل الشهر الهلاليّ.

وهناك رواية غريبة قد تدلّ على لزوم الإحرام حتّى إذا رجع في الشهر الهلاليّ الذي خرج فيه، وهي موثّقة إسحاق بن عمّار قال: «سألت أبا الحسن(عليه السلام) عن المتمتّع يجيء فيقضي متعته، ثمّ تبدو له الحاجة فيخرج

186

والعمرة المفردة مشروعة مستحبّة في كلّ شهر، وأفضل أوقاتها شهر رجب، والأحوط عدم الإتيان بها في أيّام التشريق ـ أيّام منى ـ التي تنتهي بنهاية اليوم الثالث عشر، ولايعتبر فاصل زمنيّ بين عمرتين، وإنّما لابدّ أن تكون إحداهما في شهر هلاليّ، والاُخرى في شهر هلاليّ آخر.

ويجوز الإتيان بالعمرة المفردة في الوقت الذي تشرع فيه عمرة التمتّع، أي: في أشهر الحجّ، ولو أتى بعمرة مفردة في هذا الوقت قبل أوان الحجّ، وبقي في مكّة إلى حينه، جاز له أن يجعلها عمرة تمتّع، ويأتي بالحجّ، ويعتبر ـ حينئذ ـ حجّ التمتّع، سواء كان حجّ التمتّع واجباً عليه أو مستحبّاً.

2 ـ يحرم على الإنسان ولو كان محلاًّ الصيدُ في الحرم، وقلع ما



إلى المدينة وإلى ذات عرق، أو إلى بعض المعادن؟ قال: يرجع إلى مكّة بعمرة إن كان في غير الشهر الذي تمتّع فيه؛ لأنّ لكلّ شهر عمرة وهو مرتهن بالحجّ. قلت: فإنّه دخل في الشهر الذي خرج فيه. قال: كان أبي مجاوراً هاهنا فخرج يتلقّى بعض هؤلاء، فلمّا رجع فبلغ ذات عرق أحرم من ذات عرق بالحجّ ودخل وهو محرم بالحجّ». نفس المصدر، الحديث 8، ص 303 ـ 304.

فهذه الرواية كما ترى ناظرة إلى الإحرام في نفس الشهر الهلاليّ الذي خرج فيه بقرينة قوله: «لكلّ شهر عمرة»، فلا محيص عن حمل هذا الحديث على الاستحباب.

187

ينبت فيه أو قطعه، وقد تقدّم ذلك في محرّمات الإحرام مع بعض استثناءاته، فلاحظ فقرة (72).

3 ـ يكره كراهة شديدة التقاط الإنسان اللقطة في الحرم، وقال جماعة من الفقهاء بحرمة ذلك، فينبغي للحاجّ إذا وجد مالا ضائعاً في الحرم أن لا يمدّ يده إليه، وإذا أخذه لا يجوز له تملّكه ولو عرّف به، بل يجب عليه التعريف وبعد انتهاء أمد التعريف وعدم وجدان المالك يتصدّق به على الأحوط(1)، ويضمن المال لصاحبه.

4 ـ من جنى في غير الحرم ما يوجب عقاباً معيّناً من حدّ أو تعزير أو قصاص، والتجأ إلى الحرم، لم يؤخذ مادام فيه، ولكن



(1) الوجه في ذلك صحيح إبراهيم بن عمر اليمانيّ عن أبي عبدالله(عليه السلام)قال: «اللقطة لقطتان: لقطة الحرم، وتعرّف سنة، فإن وجدت صاحبها، وإلّا تصدّقت بها، ولقطة غيرها تعرّف سنة، فإن لم تجد صاحبها فهي كسبيل مالك». الوسائل، الباب 28 من مقدّمات الطواف، الحديث 4.

وإنّما تنزّلنا من الفتوى إلى الاحتياط لما ورد في صحيح ابن أبي عمير عن فضيل بن غزوان من الرخصة في تملّك ما وجده الطيّار من دينار في الطواف قد انسحقت كتابته (المصدر السابق، الحديث 6)، ونظيره عن فضيل بن غزوان في الوسائل، الباب 17 من اللقطة، الحديث 1، والباب 5 منها، الحديث 4.

ويحتمل التفصيل بين ما لايوجد صاحبه عادة لسعة دائرة الجهالة، كدينار وجده في الطواف الذي يقصده الناس من جميع أنحاء العالم، فيجوز تملّكه، وبين اللقطة الاعتياديّة في الحرم القابلة للتعريف سنة.

188

يُضيّق عليه بمقاطعته؛ لإلجائه إلى الخروج.

5 ـ الطواف حول الكعبة الشريفة جزء من العمرة وجزء من الحجّ كما مرّ بنا، وهو ـ إضافةً إلى ذلك ـ عبادة مستقلّة يمكن للإنسان أن يؤدّيها، فيطوف دون أن يضمّ إلى ذلك شيئاً آخر من أعمال الحجّ.

وإذا طاف طوافاً مستحبّاً فليس عليه أن يكون متوضِّئاً حال الطواف، ولكن لابدّ أن يكون متوضِّئاً عند أداء صلاة ذلك الطواف المستحبّ؛ إذ «لاصلاة إلّا بطهور»(1).

ويعتبر الطواف بالنسبة إلى المسافر أفضل من الصلاة المستحبّة، خلافاً لأهل مكّة أنفسهم؛ فإنّ الصلاة بالنسبة إليهم أفضل.

6 ـ إنّ شرف مكّة وعظيم حرمتها يجعل أصغر الذنوب كبيراً فيها في عقابه عند الله سبحانه وتعالى، قال الله عزّوجلّ: ﴿وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَاد بِظُلْم نُذِقْهُ مِنْ عَذَاب أَلِيم﴾(2).

وقد جاء في سند معتبر عن الحلبيّ قال: «سألت أبا عبدالله الصادق(عليه السلام) عن ذلك، فقال: كلّ الظلم فيه إلحاد حتّى لو ضربت خادمك بغير ذنب ظلماً خشيت أن يكون إلحاداً»(3)، وفي بعض



(1) وسائل الشيعة، الباب 2 من أبواب الوضوء، الحديث 3.

(2) سورة الحجّ، الآية: 25.

(3) الوسائل، الباب 16 من مقدّمات الطواف، الحديث 1.

189

الأخبار: «أنّ أدناه الكبر»(1) فلابدّ لإخواننا المؤمنين أن ينتبهوا إلى ذلك، ويدركوا عظمة المسؤوليّة الشرعيّة، ويتّقوا العذاب الأليم، وقد كان جملة من الأخيار يخشون من استيطان مكّة المكرّمة وسكناها مخافة ذلك.

7 ـ قال كثير من الفقهاء قدّس الله أسرارهم: إنّ المسافر غير المقيم مخيّر في مكّة بين القصر والتمام؛ لأنّه أحد المواضع التي يتخيّر فيها المسافر، ولكن الأحوط وجوباً عندنا عدم الاكتفاء بصلاة التمام لمن لم يقصد الإقامة.

8 ـ هناك أماكن شريفة في مكّة المكرّمة وما حولها توحي بذكريات دينيّة عالية لمن يتفقّدها:

منها: غار حراء، وهو الغار الذي كان رسول الله(صلى الله عليه وآله) يتعبّد فيه قبل النبوّة، ونزل عليه الوحي فيه.

ومنها: المكان الذي دُفن فيه أبوطالب وخديجة اُمّ المؤمنين رضوان الله عليهما، وهناك ـ أيضاً ـ قبر اُمّ النبيّ آمنة وقبر جدّه عبدالمطلب رضوان الله عليهما.

ومنها: منزل خديجة اُمّ المؤمنين الذي كان النبيّ(صلى الله عليه وآله)يسكنه معها بعد زواجه منها، وفيه ولدت الصدّيقة فاطمة الزهراء(عليها السلام)، وهو الآن مسجد.



(1) اُصول الكافي 2، كتاب الإيمان والكفر، باب الكبر، الحديث 1.

190

9 ـ يُستحبّ للمسافر إذا أراد الخروج من مكّة أن يُودّع البيت الحرام، ويطوف حوله سبعة أشواط. ويُسمّى هذا الطواف بـ (طواف الوداع)، ويستلم الحجر الأسود، ويحمد الله ويُثني عليه، ويُصلّي على محمّد وآله، ثُمّ يقول: «اللّهمَّ، صَلِّ على مُحمّد عَبدِكَ ورَسُولِكَ، ونَبِيِّكَ وأَمِينِكَ، وحَبِيبِكَ ونَجِيِّكَ، وخيرتِكَ مِن خَلْقِكَ. اللّهمَّ، كَما بَلّغَ رسالاتِكَ، وجَاهَدَ فِي سَبِيلِكَ، وصَدَعَ بِأمرِكَ، واُوذِيَ فِي جَنِبكَ، وعَبَدَكَ حتّى أتاهُ اليَقِينُ. اللّهمَّ، اقلِبْنِي مُفْلِحاً مُنجحاً مُستجاباً لي بأفْضَلِ ما يَرجِعُ بِه أحدٌ مِن وفدِكَ مِن المَغفِرَةِ والبَرَكَةِ والرَّحمَةِ والرِّضوانِ والعافِيَةِ. اللّهمَّ، إن أمتَّني فاغفِرْ لي، وإن أحيَيتَنِي فارزُقنِيهِ من قابل. اللّهمَّ، لا تَجْعَلهُ آخرَ العَهدِ مِن بيتِكَ. اللّهمَّ، إنّي عبدُكَ وابنُ عبدِكَ وابنُ أَمَتِكَ أدْخَلْتَنِي حَرَمَكَ وأَمنَكَ، وقد كانَ فِي حُسنِ ظَنِّي بِكَ أنْ تَغْفِر لِي ذُنُوبِي، فَإنْ كُنْتَ قَد غَفَرْتَ لِي ذُنُوبِي فازدَد عَنِّي رضاً، وَقَرِّبْنِي إِلَيْكَ زُلفى، وإنْ كُنْتَ لَم تَغْفِرْ لِي فَمِن الآن فاغْفِر لِي قَبْلَ أَنْ تَنأى عَن بَيْتِكَ دارِي، وهذا أوانُ انصرافي إنْ كُنْتَ أذِنْتَ لِي غَيرَ راغِب عَنْكَ، وَلا عَن بَيْتِكَ، وَلا مُستَبْدِل بِكَ وَلا بِهِ. اللّهمَّ، احْفَظْنِي مِن بَيْنِ يَدَيَّ وَمِن خَلْفِي وعَن يَمِينِي وعَن شِمالِي حتّى تُبَلِّغَنِي أهلِي، واكْفِنِي مَؤونَةَ عِبادِكَ وعِيالِي؛ فَإنَّكَ وَليُّ ذلِكَ مِن خَلْقِكَ ومِنِّي».

191

 

3 ـ بعض الأدعية والزيارات

 

208 ـ ومن أهمّ المستحبّات التي تُطلب من الحاجّ الذهابُ إلى المدينة المنوّرة ابتداءً قبل الحجّ أو انتهاءً بعد الفراغ من الحجّ؛ لزيارة الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله)، والإكثار من الصلاة والدعاء، والعبادة في مسجده الشريف، وزيارة الصدّيقة الطاهرة فاطمة الزهراء(عليها السلام)والأئمّة الأربعة: الحسن المجتبى، وعليّ بن الحسين السجّاد، ومحمّد بن عليّ الباقر، وجعفر بن محمّد الصادق(عليهم السلام).

والأقرب في قبر الصدّيقة(عليها السلام) أنّه في بيتها الذي دخل في المسجد بعد توسعته، وأكبر الظنّ أنّه داخل في ضمن الشبّاك المنصوب فعلا على القبر الشريف. وأمّا قبور الأئمّة الأربعة(عليهم السلام)فهي في البقيع.

وفي المدينة وحواليها وعلى الطريق إليها مساجد ومشاهد وقبور شريفة ينبغي زيارتها:

منها: مسجد الغدير الواقع في الطريق إلى المدينة، وهو قائم في الموضع الذي نصب فيه رسول الله(صلى الله عليه وآله) عليّاً(عليه السلام) خليفة من بعده.

ومنها: قبور الشهداء في اُحد الواقعة على بُعد يناهز أربع كيلومترات عن المدينة، وفي الرواية أنّ النبيّ كان إذا أتى قبور الشهداء قال: «السلام عليكم بما صبرتم، فنعم عُقبَى الدار».

192

ومنها: مساجد قبا والفضيخ وغير ذلك، وقد جاء بسند صحيح عن معاويّة بن عمّار عن الصادق(عليه السلام)أنّه قال: «لا تدع إتيان المشاهد كلّها، ومسجد قبا؛ فإنّه المسجد الذي اُسّس على التقوى من أوّل يوم، ومشربة اُم إبراهيم، ومسجد الفضيخ، وقبور الشهداء، ومسجد الأحزاب، وهو: مسجد الفتح».

وفيمايلي نذكر بعض الأدعية وبعض ما ينبغي أن يُزار به الرسول(صلى الله عليه وآله) والصدّيقة(عليها السلام) وأئمّة البقيع الطاهرون:

 

أ ـ دعاء الحسين(عليه السلام) يوم عرفة

روي عن بشر وبشير ولدي غالب الأسديّ أنّهما قالا: لمّا كان عصر عرفة في عرفات، وكنّا عند أبي عبدالله الحسين(عليه السلام)، فخرج(عليه السلام) من خيمته مع جماعة من أهل بيته وأولاده وشيعته بحال التذلّل والخشوع والاستكانة، فوقف في الجانب الأيسر من الجبل، وتوجّه إلى الكعبة، ورفع يديه قبالة وجهه كمسكين يطلب طعاماً، وقرأ هذا الدّعاء:

«الحَمْدُ لِلّه الَّذِي لَيْسَ لِقَضائِهِ دافِعٌ، وَلا لِعَطائِهِ مانِعٌ، وَلا كَصُنْعِهِ صُنْعُ صانِع، وَهُوَ الجَوادُ الواسِعُ، فَطَرَ أجْناسَ البَدَائِعِ، وَأتْقَنَ بِحِكْمَتِهِ الصَّنائِعَ، لا تَخْفى عَلَيْهِ الطَّلائِعُ، وَلا تَضِيعُ عِنْدَهُ الوَدائِعُ، جازِي كُلِّ صانِع، وَرايِشُ كُلِّ قانِع، وَراحِمُ كُلِّ ضارِ ع، مُنْزِلُ المَنافِعِ وَالكِتابِ الجامِعِ بِالنُّورِ السَّاطِعِ، وَهُوَ لِلدَّعَواتِ سامِعٌ، وَلِلْكُرُباتِ دافِعٌ، وَلِلدَّرَجاتِ رافِعٌ، وَلِلْجَبابِرَةِ قامِعٌ، فَلا إلهَ غَيْرُهُ، وَلا شَيْءَ يَعْدِلُهُ،