62

 

 

لمحة عن الإمام عليّ بن موسى الرضا(عليه السلام)

 

اُحبّ أن أبتدأ الحديث عن الإمام الرضا(عليه السلام) بذكر الأبيات المنسوبة إلى أبي نواس.

روي في البحار(1) عن عيون أخبار الرضا(عليه السلام)، عن عليّ بن محمّد بن سليمان النوفلي قال: إنّ المأمون لمّا جعل عليّ بن موسى الرضا(عليه السلام)وليّ عهده فالشعراء قصدوا المأمون، ووصلهم بأموال جمّة حين مدحوا الرضا(عليه السلام)، وصوّبوا رأي المأمون في الأشعار دون أبي نواس، فإنّه لم يقصده ولم يمدحه، ودخل إلى المأمون فقال له: يا أبا نواس، قد علمت مكان عليّ بن موسى الرضا منّي وما أكرمته به فلماذا أخّرت مدحه وأنت شاعر زمانك وقريع دهرك؟! فأنشأ يقول:

قيلَ لي أنتَ أوحدُ الناسِ طرّاً
في فنون من الكلامِ النبيهِ
لكَ من جوهرِ الكلامِ بديعٌ
يثمرُ الدرّ في يدي مجتنيهِ
فعلى ما تركتَ مدح ابنِ موسى
والخصال التي تجمّعنَ فيهِ؟!
قلتُ لا أهتدي لمدحِ إمام
كانَ جبريلُ خادماً لأبيهِ(۲)!


(1) ج 49، ص 235.
(2) وروى المجلسي ـ المصدر السابق: 236 ـ عن إعلام الورى:
قلتُ لا أستطيعُ مدحَ إمام *** كان جبريلُ خادماً لأبيهِ
63

فقال له المأمون: أحسنت، ووصله من المال بمثل الذي وصل به كافّة الشعراء وفضّله عليهم.

وقد ذكر اُستاذنا الشهيد(رحمه الله)(1) أنّ الدور الثاني لأئمّتنا(عليهم السلام) انتهى بالإمام موسى بن جعفر(عليه السلام)لكي يبدأ الدور الثالث بالإمام عليّ بن موسى الرضا(عليه السلام) الذي كان يعمل ـ بحسب بادئ الأمر والنظر(2) ـ لتسلّم زمام الحكم.

وأفاد (رضوان الله عليه): أنّ عصر الإمام الرضا(عليه السلام) سادته عدّة مناورات قام بها قادة من آل عليّ وطلاّب مدرسته وملأوا العالم الإسلاميّ من الكوفة إلى البصرة إلى مكّة والمدينة وإلى اليمن، وأين ما كنت تذهب كنت ترى هناك قائداً يحكم باسم الإمام عليّ بن أبي طالب(عليه السلام)، ويحمل شعارات الإمام عليّ بن أبي طالب(عليه السلام) بالرغم من أنّ بغداد بقيت تحت تبعيّة الخلافة العبّاسيّة، وكلّ هذا ببركة الزخم الذي حصلت عليه مدرسة الإمام عليّ(عليه السلام) نتيجة جهود أئمّة الدور الثاني، فهذه المناورات والثورات كثرت واتّسعت في زمان الرضا(عليه السلام)، وبغداد طوّقت بهذه الحركات.

 


(1) راجع (أئمّة أهل البيت) الذي هو تجميع محاضرات لاُستاذنا الشهيد(رحمه الله): 382 ـ 398.

(2) يعني أنّه وإن كان بالدقّة يعلم(عليه السلام) أنّه لم يحن وقت تسلّم زمام الحكم بالعدل لكنّه كان يقترب في ظاهر الحال من ذلك.

64

وكان أهمّ هذه الحركات تحرّك ذاك الرجل العظيم محمّد بن إبراهيم طباطبا(1)، هذا الرجل الذي خرج من المدينة إلى الكوفة وأعلن عن نفسه بالكوفة، وطرح شعار البيعة للرضا من آل محمّد(عليهم السلام).

وهذا الشعار كان من خصائص ثوّار آل محمّد(صلى الله عليه وآله)، حيث استبدلت البيعة بالشخص بعنوانه إلى البيعة بهذا العنوان الإجماليّ منذ أن ثار زيد بن عليّ(عليه السلام)(2) إلى أن تتابع الثوّار من آله ومن آل الإمام الحسن(عليه السلام)، وكان الشعار الذي يطرح هو «الرضا من آل محمّد» لكي يكون الشعار منسجماً مع مضمون القضيّة الإسلاميّة من دون إحراج للشخص الواقعيّ الذي يمثّل القضيّة في كلّ حين.

وهذا النموّ المتزايد نعرفه عن طريق ردود فعل هذه الثورات في العالم الإسلاميّ، وكان ردّ الفعل لثورة طباطبا أن وقفت الكوفة معه أربع سنين وقاوموا جيوش العبّاسيّين جيشاً بعد جيش فتنهزم الجيوش من أمامه.

 


(1) مقاتل الطالبيين: 344 ـ 354. وتأريخ الطبري 7: 117 ـ 118.

(2) إشارة إلى الرواية الصحيحة السند الواردة في الوسائل 15: ب 13 من جهاد العدوّ: 50، الحديث 1، وفيها: «ولا تقولوا: خرج زيد، فإنّ زيداً كان عالماً وكان صدوقاً، ولم يدعكم إلى نفسه، وإنّما دعاكم إلى الرضا من آل محمّد(صلى الله عليه وآله)، ولو ظفر لوفى بما دعاكم إليه...».

65

هذه هي الكوفة التي خانت الحسين(عليه السلام) والتي تركت زيداً وحفنةً من الأصحاب، فهذه الكوفة بعد مئة وخمسين من وقعة الحسين(عليه السلام)وبعد أقلّ من مئة سنة من وقعة زيد وقفت تدافع أربع سنين عن شخص آخر سار في خطّ الإمام الحسين وخطّ زيد.

فهذه الاستجابة دليل على نموّ القاعدة الشعبيّة.

وترى أنّه حينما أرسل الفضل بن سهل رسله إلى الكوفة ليأخذ البيعة بولاية العهد لعليّ بن موسى الرضا(عليه السلام) امتنعت الكوفة عن ذلك وقالوا: لا نبايع عليّ بن موسى الرضا بولاية العهد، بل نبايعه بالخلافة(1).

ويبدو أنّ الإمام الرضا(عليه السلام) حينما تسلّم زمام المسؤوليّة والإمامة في هذه المرحلة الثالثة قام بنشاط لم يكن اعتياديّاً على مستوى الشيعة، فتقول الرواية: إنّ الإمام الرضا(عليه السلام) لمّا تسلّم زمام المسؤوليّة بعد وفاة أبيه قام بجولة في العالم الإسلاميّ، وسافر من المدينة إلى البصرة بعد أن أرسل رسولاً إلى البصرة أنّه انتظروا خلال ثلاثة أيّام فسوف يأتي الإمام الرضا(عليه السلام)، فأتى الإمام الرضا(عليه السلام) بعد ثلاثة أيّام في وقت كانت الشيعة متهيّئين تهيّأً كاملاً


(1) تأريخ الطبري 7: 143 ـ 144.

66

لاستقباله والاجتماع حوله والاحتفاء به، فيجتمع بهم ويقيم الحجّة عليهم في إمامته، ثمّ يدير معهم الأسئلة والأجوبة عن مختلف جوانب المعرفة الإسلاميّة، ثمّ يطلب منهم جمع بقيّة الطوائف أيضاً، فيجمعون له بقيّة الطوائف وبقيّة العلماء من المجادلين الكلاميّين من علماء غير إسلاميّين، فيعقد عدّة اجتماعات مع هؤلاء في البصرة يفهّمهم ويسيطر على الموقف. ثمّ يرسل رسولاً إلى الكوفة ويقول: أخبروا أهل الكوفة بأنّه خلال أيّام سيأتي إلى الكوفة، وبعد هذا يسافر إلى الكوفة، وهناك يقيم عليهم الحجّة بصورة مباشرة على إمامته بعد أبيه، ثمّ بعد هذا يدير مناقشات واسعة النطاق وأسئلة وأجوبة متنوّعة ومتشكّلة(1).

وقد تعرّض عدد من الشيعة غير المطّلعين على تبدّل المرحلة للاعتراض على الإمام(عليه السلام) بأنّك فضحت نفسك وهارون الرشيد يقطر سيفه دماً، فيقول له أحدهم: ألا تخاف من سيف هارون الرشيد، ويقول الآخر: قد أقدمت على الهلكة، ويقول ثالث: لو سكتّ عمّا


(1) إشارة إلى رواية رواها في البحار عن الخرائج مفصّلة، راجع البحار 49، باب وروده(عليه السلام)البصرة والكوفة: ص 73 ـ 81، وفيها احتجاجه (سلام الله عليه) مع جاثليق عالِم النصارى، ورأس الجالوت عالِم اليهود في حقّانيّة الإسلام.

67

سكت أبوك وجدّك، إلى غير ذلك من المضامين(1).

 


(1) هذا إشارة إلى روايات وردت في البحار 49: 114 ـ 116:
منها: ما رواه عن عيون أخبار الرضا(عليه السلام) وفيه: «قال عليّ بن أبي حمزة له(عليه السلام): إنّك لتقول قولاً ما قاله أحد من آبائك عليّ بن أبي طالب فمن دونه. قال: لكن قد قاله خير آبائي وأفضلهم رسول الله(صلى الله عليه وآله). فقال له: أما تخاف هؤلاء على نفسك؟ فقال(عليه السلام): لو خفت عليها كنت عليها معيناً، إنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله)أتاه أبو لهب فتهدّدَه، فقال له رسول الله(صلى الله عليه وآله): إن خُدشت من قبلك خدشة فأنا كذّاب. فكانت أوّل آية نزع بها رسول الله(صلى الله عليه وآله)، وهي أوّل آية أنزع بها لكم، إن خدشت خدشاً من قبل هارون فأنا كذّاب...». قال المجلسي: نزع بها أي: نزع الشكّ بها، ولعلّه كانت النسخة الصحيحة «برع» أي: فاق.
ومنها: ما رواه عن المناقب عن صفوان بن يحيى: «قال: لمّا مضى أبوالحسن موسى(عليه السلام) وتكلّم الرضا خفنا عليه من ذلك وقلنا له: إنّك قد أظهرت أمراً عظيماً وأنّا نخاف عليك من هذا الطاغي. فقال(عليه السلام): يجهد جهده فلا سبيل له عليّ».
ومنها: ما رواه عن الكافي عن محمّد بن سنان: «قال: قلت لأبي الحسن الرضا(عليه السلام) في أيّام هارون: إنّك قد شهرت نفسك بهذا الأمر وجلست مجلس أبيك وسيف هارون يقطر الدم؟ قال(عليه السلام): جرّأني على هذا ما قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): إن أخذ أبو جهل من رأسي شعرة فاشهدوا أنّي لست بنبيّ.

68

وكلّ هذه الاعتراضات كانت ناتجة عن أنّ أصحاب الإمام موسى بن جعفر(عليه السلام)لم يربطوا بين هذا التحوّل المظهريّ في تصرّفات الإمام الرضا(عليه السلام) عن خطّ آبائه وبين السلوك الموضوعيّ للمرحلة، ولهذا حاولوا الاعتراض عليه من هذه الناحية.

وأفاد اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) ـ في المصدر نفسه(1) ـ حول «ما هي الدوافع الحقيقيّة للمأمون في تنصيبه الإمام وليّاً للعهد»: أنّ موقف المأمون قد يفسّر على أساس إيمانه بخطّ الإمام عليّ(عليه السلام)، ولكن الواقع أنّ هذا ليس يعني أنّ هذا هو الدافع المطلق الحقيقيّ الذي تعيشه كلّ أبعاد نفس المأمون، فمن الممكن أنّه كانت هناك زاوية في خطّ المأمون تكشف بين حين وحين آخر عن تأثّره بخطّ الإمام عليّ(عليه السلام)، لكنّه



وأنا أقول لكم: إن أخذ هارون من رأسي شعرة فاشهدوا أنّي لست بإمام». راجع روضة الكافي: 257، الحديث 371.
ومنها: ما رواه أيضاً عن الكافي، عن يونس، عمّن ذكره: «قال: قيل للرضا(عليه السلام): إنّك متكلّم بهذا الكلام والسيف يقطر الدم. فقال: إنّ لله وادياً من ذهب حماه بأضعف خلقه النمل، فلو رامته البخاتي لم تصل إليه». الكافي 2: 59، الحديث 11.
(1) أعني: (أئمّة أهل البيت): 393 ـ 398.
69

كانت هناك زوايا اُخرى أكبر وأوسع في نفس المأمون، وهذه الزوايا تمثّل المصالح السياسيّة والأغراض الوقتيّة وبناء الصرح لدولته، ويمكن تلخيص تلك الزوايا في أربع نقاط:

النقطة الاُولى: أنّ المأمون كان يريد أن يُلبِس خلافته الثوب الشرعيّ، وكان يعتقد أنّ خلافته بحاجة إلى ثوب شرعيّ على أساس أنّ القواعد الشعبيّة المؤمنة بالخلافة العبّاسيّة كانت تنظر بريب إلى خلافة المأمون التي لم تنته إليه إلّا بقتل الخليفة الشرعيّ السابق الذي هو الأمين، فانتقال الخلافة عن طريق قتل الخليفة الشرعيّ كان فيه نوع من الريب والتردّد عند القواعد الشعبيّة المؤمنة ببني العبّاس وخلفائهم.

أمّا القواعد الشعبيّة الاُخرى فلم تكن تؤمن بشرعيّة الخلافة لا للمأمون ولا للأمين.

فخطّط المأمون إلباس الثوب الشرعيّ على خلافته عن طريق استدعاء الإمام الثامن(عليه السلام)الذي يؤمن كثير من جماهير العالم الإسلاميّ بأنّ الخلافة حقّ شرعيّ (ولو على مستوى أنّه أفضل أولاد الإمام عليّ(عليه السلام))، فبعث على الإمام وقال له: إنّي أنزع الخلافة واُعطيها لك، حتّى يردّها عليه الإمام فيكتسب بذلك ثوباً شرعيّاً للخلافة، والإمام الرضا(عليه السلام) أحبط هذه المؤامرة بقوله: إنّ الخلافة إن كانت هي ثوباً ألبسك الله إيّاه لم يكن بإمكانك أن تنزعه لي وتلبسني إيّاه، وإن

70

لم يكن شيئاً أعطاك الله إيّاه إذن فكيف تعطيني ما لا تملك؟

فأكّد في هذا النصّ الصريح الواضح أنّه هو لا يؤمن بشرعيّة الخلافة للمأمون، وأنّ رفض الخلافة ليس معناه إرجاع الخلافة إليه، وبهذا سجّل النصر الذي كان له أثره الكبير في الحاضر وقتئذ وفي المستقبل في نزع ثوب المشروعيّة عن خلافة المأمون(1).

 


(1) إشارة إلى ما رواه في البحار 49: 128 ـ 129 عن علل الشرايع وعيون أخبار الرضا(عليه السلام) وأمالي الصدوق عن أبي الصلت الهرويّ: «قال: إنّ المأمون قال للرضا عليّ بن موسى(عليه السلام): يا ابن رسول الله، قد عرفت فضلك وعلمك وزهدك وورعك وعبادتك، وأراك أحقّ بالخلافة منّي. فقال الرضا(عليه السلام): بالعبوديّة لله عزّوجلّ أفتخر، وبالزهد في الدنيا أرجو النجاة من شرّ الدنيا، وبالورع عن المحارم أرجو الفوز بالمغانم، وبالتواضع في الدنيا أرجو الرفعة عند الله عزّ وجلّ.

فقال المأمون: فإنّي قد رأيت أن أعزل نفسي عن الخلافة وأجعلها لك واُبايعك. فقال له الرضا(عليه السلام): إن كانت هذه الخلافة لك وجعلها الله لك فلا يجوز أن تخلع لباساً ألبسكه الله وتجعله لغيرك، وإن كانت الخلافة ليست لك فلا يجوز لك أن تجعل لي ما ليس لك. فقال له المأمون: يا ابن رسول الله، لابدّ لك من قبول هذا الأمر. فقال: لست أفعل ذلك طائعاً أبداً. فما زال يجهد به أيّاماً حتّى يئس من قبوله، فقال له: فإن لم تقبل الخلافة ولم تحبّ مبايعتي لك فكن وليّ عهدي، لتكون لك الخلافة بعدي» إلى آخر ما سيأتي نقله إن شاء الله.

71

النقطة الثانية ـ من النقاط التي يمكن افتراض أنّها تمثّل زاويةً اُخرى من زوايا نفس المأمون ـ: هي أنّه كان يعيش مشاكل تلك القوى الشعبيّة للإمام الرضا(عليه السلام)ومدرسة الإمام عليّ(عليه السلام) في كلّ أرجاء العالم الإسلاميّ، فكان يريد أن يثبّت هذه القواعد الشعبيّة لنفسه، وكان يريد أن يشتري رضاها واستسلامها ومواكبتها للوضع الحاكم عن طريق ضمّ قائدها الأمثل وإمامها الفكريّ واُمثولتها العليا إلى جانبه ووضعه.

وهذا الموضوع أيضاً التفت إليه الإمام الرضا(عليه السلام) وأحبطه، وذلك أن سجّل منذ اليوم الأوّل أنّه لم ينضمّ إلى جهاز المأمون، وإنّما هو مجرّد قبول على أساس إصرار من قبل الخليفة مأمون لا أكثر ولا أقلّ، ولهذا اشترط في الوثيقة التأريخيّة التي كتبها الإمام الرضا(عليه السلام): أنّي لا اُمارس أيّ نوع من أنواع السلطة في جهاز الدولة الإسلاميّة(1).

 


(1) إشارة إلى ما ورد في البحار ـ ج 49: 129 ـ 130 ـ تكملةً للحديث السابق: «قال المأمون له: فإن لم تقبل الخلافة ولم تحبّ مبايعتي لك فكن وليّ عهدي، لتكون لك الخلافة بعدي»:

فقال الرضا(عليه السلام): «والله لقد حدّثني أبي عن آبائه، عن أميرالمؤمنين، عن رسول الله(صلى الله عليه وآله): أنّي أخرج من الدنيا قبلك مقتولاً بالسمّ مظلوماً تبكي عليّ ملائكة السماء وملائكة الأرض، واُدفن في أرض غربة إلى جنب هارون

72



الرشيد»، فبكى المأمون ثمّ قال له: «يا ابن رسول الله، ومن الذي يقتلك أو يقدر على الإساءة إليك وأنا حيّ؟»، فقال الرضا(عليه السلام): «أما إنّي لو أشاء أن أقول من الذي يقتلني لقلت». فقال المأمون: «يا ابن رسول الله، إنّما تريد بقولك هذا التخفيف عن نفسك ودفع هذا الأمر عنك; ليقول الناس: إنّك زاهد في الدنيا».

فقال الرضا(عليه السلام): «والله ما كذبت منذ خلقني ربّي عزّ وجلّ، وما زهدت في الدنيا للدنيا، وإنّي لأعلمُ ما تريد». فقال المأمون: «وما اُريد؟»، قال: «الأمان على الصدق ]يعني أعطني أماناً على الصدق[». قال: «لك الأمان». قال: «تريد بذلك أن يقول الناس: إنّ عليّ بن موسى لم يزهد في الدنيا، بل زهدت الدنيا فيه، ألا ترون كيف قبل ولاية العهد طمعاً في الخلافة؟!»، فغضب المأمون ثمّ قال: «إنّك تتلقّاني أبداً بما أكرهه وقد أمِنت سطوتي، فبالله اُقسم لئن قبلت ولاية العهد وإلّا أجبرتك على ذلك، فإن فعلت وإلّا ضربت عنقك».

فقال الرضا(عليه السلام): «قد نهاني الله عزّ وجلّ أن اُلقي بيدي إلى التهلكة، فإن كان الأمر على هذا فافعل ما بدا لك، وأنا أقبل ذلك على أنّي لا اُولّي أحداً، ولا أعزل أحداً، ولا أنقض رسماً ولا سنّةً، وأكون في الأمر من بعيد مشيراً». فرضي منه بذلك وجعله وليّ عهده على كراهة منه(عليه السلام)لذلك.

73

النقطة الثالثة: أنّ المأمون كان يشعر بأنّ مجيء الإمام الرضا(عليه السلام)إلى هذا الجهاز الحاكم سوف لن يغيّر هذا الجهاز; لأنّ هذا الجهاز الحاكم كان قدراً أكبر من هذا الفرد بالذات، وهذا الوضع الذي لا يؤمن به إمام الشيعة لن يتغيّر بيوم أو يومين، فحينما يأتي الإمام الرضا(عليه السلام) يمكن للمنطق الحاكم أن يقول وقتئذ بأنّ هؤلاء تجّار اُطروحة، لا أنّهم أصحاب اُطروحة حقيقيّة، فهم يتاجرون باُطروحة يهزّون بطرحها آمال المسلمين وآلامهم، ولهذا حينما فتحت أمامه



وأيضاً قول اُستاذنا(رحمه الله): «ولهذا اشترط في الوثيقة التأريخيّة التي كتبها الإمام الرضا(عليه السلام)...» إشارة إلى ما ورد في البحار ـ ج 49: 134 نقلاً عن عيون أخبار الرضا(عليه السلام)... ـ: «فلمّا وافى مرو عرض عليه المأمون أن يتقلّد الإمرة والخلافة، فأبى الرضا(عليه السلام) في ذلك، وجرت في هذا مخاطبات كثيرة، وبقوا في ذلك نحواً من شهرين كلّ ذلك يأبى عليه أبو الحسن عليّ بن موسى(عليه السلام) أن يقبل ما يعرض عليه.

فلمّا أكثر الكلام والخطاب في هذا قال المأمون: فولاية العهد؟ فأجابه إلى ذلك وقال له: على شروط أسألكها. فقال المأمون: سل ما شئت. فكتب الرضا(عليه السلام): «إنّي أدخل في ولاية العهد على أن لا آمر ولا أنهى ولا أقضي، ولا اُغيّر شيئاً ممّا هو قائم، وتعفيني عن ذلك كلّه». فأجابه المأمون إلى ذلك، وقبلها على كلّ هذه الشروط...».

74

أبواب الدنيا وأبواب الخلافة على البلاد على طريقتنا تركوا اُطروحتهم وجاؤوا إلينا.

والنقطة الرابعة ـ التي كانت ذات دور كبير في هذه العمليّة ـ: هي محاولة عزل الإمام الرضا(عليه السلام)عن قواعده الشعبيّة، ووضعه في سياج يحكم بعزله عن الاتّصال بشيعته، وفي الواقع إنّ عمليّة العزل بين الإمام وبين القواعد الشعبيّة كانت من الخصائص العامّة للمرحلة الثالثة والتي بدأت بالإمام الرضا(عليه السلام).

والروايات عندنا تدلّ على أنّ الإمام الرضا(عليه السلام) حينما انتقل من المدينة إلى إيران كان معه حاجبه، وكان هذا الحاجب من خواصّ الإمام الرضا(عليه السلام)، وكانت تُجمَع الأموال للإمام الرضا(عليه السلام) من مختلف أرجاء العالم الإسلاميّ على يد هذا الحاجب، إلّا أنّ هذا الحاجب باع ضميره وباع دينه بدنياه، فتعامل مع المأمون واشتراه المأمون، فأصبح جاسوساً وعيناً على الإمام الرضا(عليه السلام) لحساب المأمون ولحساب الفضل بن سهل، فكان لا ينطق الإمام الرضا(عليه السلام) بكلام ولا يتحرّك أو يتّصل بأحد إلّا وتأتي الأخبار للمأمون(1).

أقول: وخلاصة الكلام هي: أنّ سياسة المأمون هي عين سياسة أبيه هارون، وهي فصل الإمام عن قواعده، إلّا أنّ هارونَ فعل ذلك


(1) عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 2:153.

75

بالإمام موسى(عليه السلام) عن طريق السجن ولكن المأمون أحسّ بضرر ذلكعلى مُلك أبيه وسيطرته على الوضع، فبدّل الاُسلوب من اُسلوب السجن باُسلوب جعل الإمام الرضا(عليه السلام) تحت النظر بكلّ توقير واحترام.

ومن الروايات التي تكشف النقاب عن نوايا مأمون الخبيثة ما ورد في البحار(1): من رواية مفصّلة في قصّة طلب المأمون من الإمام الرضا(عليه السلام) الاستسقاء حينما احتبس المطر واستجابة الإمام(عليه السلام) له، وبالتالي نزول البركة في البلاد بدعاء الرضا(عليه السلام)، فذكر بعض حسّاد الإمام للمأمون: يا أميرالمؤمنين، اُعيذك بالله أن تكون تأريخ الخلفاء(2) في إخراجك هذا الشرف العميم والفخر العظيم من بيت وُلْد العبّاس إلى بيت وُلْد عليّ، ولقد أعنت على نفسك وأهلك، جئت بهذا الساحر وَلَدِ السحرة وقد كان خاملاً فأظهرته، ومتّضعاً فرفعته، ومنسيّاً فذكّرت به، ومستخفّاً فنوهّت به، قد ملأ الدنيا مخرقة(3)


(1) بحار الأنوار 49، ب 14: 180 ـ 185، الحديث 16.

(2) «أن تكون تأريخ الخلفاء» قال المجلسي: كناية عن عظم تلك الواقعة وفظاعتها بزعمه، فإنّ الناس يؤرّخون الاُمور بالوقائع والدواهي.

(3) قال المجلسي: أي: شعبدة وسحراً، كما يظهر من استعمالاتهم وإن لم نجد في اللغة... . وفي بعض النسخ مخرفة بالفاء من الخرافات.

76

وتشوّقاً بهذا المطر الوارد عند دعائه، ما أخوفني أن يُخرِج هذا الرجل هذا الأمر عن وُلْد العبّاس إلى وُلْد عليّ، بل ما أخوفني أن يتوصّل بسحره إلى إزالة نعمتك والتوثّب على مملكتك، هل جنى أحد على نفسه وملكه مثل جنايتك؟!

فقال المأمون: قد كان هذا الرجل متستّراً عنّا يدعو إلى نفسه، فأردنا أن نجعله وليّ عهدنا ليكون دعاؤه لنا، وليعترف بالملك والخلافة لنا، وليعتقد فيه المفتونون به أنّه ليس ممّا ادّعى في قليل ولا كثير، وأنّ هذا الأمر لنا من دونه، وقد خشينا إن تركناه على تلك الحال أن ينفتق علينا منه ما لا نسدّه، ويأتي علينا منه ما لا نطيقه.

والآن فإذ قد فعلنا به ما فعلنا، وأخطأنا في أمره بما أخطأنا، وأشرفنا من الهلاك بالتنويه به على ما أشرفنا، فليس يجوز التهاون في أمره، ولكنّا نحتاج أن نضع منه قليلاً قليلاً حتّى نصوّره عند الرعيّة بصورة من لا يستحقّ لهذا الأمر، ثم ندبّر فيه بما يحسم عنّا موادّ بلائه.

قال الرجل(1): يا أميرالمؤمنين، فولّني مجادلته، فإنّي اُفحمه وأصحابه وأضع من قدره، فلولا هيبتك في صدري لأنزلته منزلته، وبيّنت للناس قصوره عمّا رشحته له.

قال المأمون: ما شيء أحبّ إليّ من هذا.

 


(1) وهو حميد بن مهران.

77

قال: فاجمع وجوه مملكتك والقوّاد والقضاة وخيار الفقهاء لاُبيّن نقصه بحضرتهم، فيكون أخذاً له عن محلّه الذي أحللته فيه على علم منهم بصواب فعلك.

قال: فجمع الخلق الفاضلين من رعيّته في مجلس واحد قعد فيه لهم وأقعد الرضا(عليه السلام) بين يديه في مرتبته التي جعلها له، فابتدأ هذا الحاجب(1) المتضمّن للوضع من الرضا(عليه السلام)وقال له: إنّ الناس قد أكثروا عنك الحكايات وأسرفوا في وصفك بما أرى أنّك إن وقفت عليه برئت إليهم منه، فأوّل ذلك أنّك دعوت الله في المطر المعتاد مجيئه فجاء، فجعلوه آية لك معجزة أوجبوا لك بها أن لا نظير لك في الدنيا وهذا أميرالمؤمنين ـ أدام الله ملكه وبقاءه ـ لا يوازن بأحد إلّا رجح به وقد أحلّك المحلّ الذي عرفت، فليس من حقّه عليك أن تسوّغ الكاذبين لك وعليه ما يتكذّبونه.

فقال الرضا(عليه السلام): ما أدفع عباد الله عن التحدّث بنعم الله عليّ وإن كنت لا أبغي أشراً ولا بطراً، وأمّا ذكرك صاحبك الذي أجلّني فما أحلّني إلّا المحلّ الذي أحلّه ملك مصر يوسف الصدّيق(عليه السلام)وكانت حالهما ما قد علمت.

فغضب الحاجب عند ذلك فقال: يا ابن موسى، لقد عدوت طورك


(1) يعني حميد بن مهران.

78

وتجاوزت قدرك أن بعث الله تعالى بمطر مقدّر وقته لا يتقدّم ولا يتأخّر، جعلته آيةً تستطيل بها وصولةً تصول بها، كأنّك جئت بمثل آية الخليل إبراهيم(عليه السلام) لمّا أخذ رؤوس الطير بيده ودعا أعضاءها التي كان فرّقها على الجبال فأتينه سعياً وتركّبن على الرؤوس، وخفقن وطرن بإذن الله؟ فإن كنت صادقاً فيما توهّم فأحي هذين وسلّطهما عليّ، فإنّ ذلك يكون حينئذ آية معجزة، فأمّا المطر المعتاد مجيئه فلست أحقّ بأن يكون جاء بدعائك من غيرك الذي دعا كما دعوت. وكان الحاجب قد أشار إلى أسدين مصوّرين على مسند مأمون الذي كان مستنداً إليه، وكانا متقابلين على المسند.

فغضب عليّ بن موسى الرضا(عليه السلام) وصاح بالصورتين: دونكما الفاجر! فافترساه ولا تبقيا له عيناً ولا أثراً، فوثبت الصورتان وقد عادتا أسدين، فتناولا الحاجب وعضّاه ورضّاه وهشماه وأكلاه ولحسا دمه والقوم ينظرون متحيّرين ممّا يبصرون، فلمّا فرغا منه أقبلا على الرضا(عليه السلام)وقالا: يا وليّ الله في أرضه، ماذا تأمرنا نفعل بهذا، أنفعل به فعلنا بهذا؟ يشيران إلى المأمون، فغشي على المأمون ممّا سمع منهما، فقال الرضا(عليه السلام) قفا فوقفا.

ثمّ قال الرضا(عليه السلام): صبّوا عليه ماء ورد وطيّبوه، ففُعل ذلك به، وعاد الأسدان يقولان: أتأذن لنا أن نُلحقه بصاحبه الذي أفنيناه؟ قال: لا، فإنّ لله فيه تدبيراً هو ممضيه. فقالا: ماذا تأمرنا؟ فقال: عودا إلى

79

مقرّكما كما كنتما. فعادا إلى المسند، وصارا صورتين كما كانتا.

فقال المأمون: الحمد لله الذي كفاني شرّ حميد بن مهران. يعني الرجل المفتَرَس. ثمّ قال للرضا(عليه السلام). يا ابن رسول الله، هذا الأمر لجدّكم رسول الله(صلى الله عليه وآله) ثمّ لكم، فلو شئت لنزلت عنه لك. فقال الرضا(عليه السلام): لو شئت لما ناظرتك، ولم أسألك، فإنّ الله ـ عزّ وجلّ ـ قد أعطاني من طاعة سائر خلقه مثل ما رأيت من طاعة هاتين الصورتين إلّا جهّال بني آدم، فإنّهم وإن خسروا حظوظهم فللّه ـ عزّ وجلّ ـ فيهم تدبير، وقد أمرني بترك الاعتراض عليك وإظهار ما أظهرتُه من العمل من تحت يدك كما أمر يوسف(عليه السلام) بالعمل من تحت يد فرعون مصر.

قال: فما زال المأمون ضئيلاً إلى أن قضى في عليّ بن موسى(عليه السلام) ما قضى.

هذا، والشواهد التأريخيّة لقوّة شخصيّة الإمام الرضا(عليه السلام) وشدّة تأثيره في الحياة الاجتماعيّة كثيرة.

ومن تلك الشواهد: قصّته(عليه السلام) بنيسابور التي رواها في البحار(1)عن أمالي الشيخ: لمّا وافى أبو الحسن الرضا(عليه السلام) نيسابور وأراد أن يرحل منها إلى مأمون اجتمع إليه أصحاب الحديث فقالوا له: يا ابن


(1) بحار الأنوار 49: 123.

80

رسول الله، ترحل عنّا ولا تحدّثنا بحديث فنستفيده منك، وقد كان قعد في العماريّة فأطلع(عليه السلام) رأسه وقال: «سمعت أبي موسى بن جعفر يقول: سمعت أبي جعفر بن محمّد يقول: سمعت أبي محمّد بن عليّ يقول: سمعت أبي عليّ بن الحسين يقول: سمعت أبي الحسين بن عليّ يقول: سمعت أبي أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب(عليه السلام) يقول: سمعت رسول الله(صلى الله عليه وآله): يقول: سمعت جبرئيل(عليه السلام)يقول: سمعت الله ـ عزّ وجلّ ـ يقول: لا إله إلّا الله حصني، فمن دخل حصني أمن من عذابي». فلمّا مرّت الراحلة نادانا: «بشروطها، وأنا من شروطها».

ومنها: ما رواه اُستاذنا في كتاب (أئمّة أهل البيت)(1): من أنّ


(1) الصفحة: 397، وقد خرّجه محقّق الكتاب عن عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 2: 166. ونحن لم نجد في عيون أخبار الرضا(عليه السلام) إلّا ما ورد عن معمّر بن خلاّد قال: «قال في أبو الحسن الرضا(عليه السلام): قال لي المأمون يوماً: يا أبا الحسن، اُنظر بعضَ من تثق به نولّيه هذه البلدان التي قد فسدت علينا. فقلت له: تفي لي واُوافي لك، فإنّي إنّما دخلت فيما دخلت على أن لا آمر فيه ولا أنهى، ولا أعزل، ولا اُولّي، ولا اُشير، حتّى يقدّمني الله قبلك، فوالله إنّ الخلافة لشيء ما حدّثت به نفسي، ولقد كنت بالمدينة أتردّد في طُرُقِها على دابّتي، وإنّ أهلها وغيرهم يسألوني الحوائج فأقضيها لهم، فيصيرون كالأعمام لي، وإنّ كتبي لنافذة في الأمصار، وما زدتني من نعمة هي عليّ من ربّي. فقال له: أفي لك». راجع عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 2: 166 ـ 167.

81

المأمون التجأ إلى الإمام الرضا(عليه السلام)قائلاً له: لو كنت تكتب إلى شيعتك الذين أخذوا كلّ أرجاء العالم الإسلاميّ أن يسكتوا عنّي. قال(عليه السلام): أنا لا أكتب.

ومنها: قصّة صلاة العيد، وهي: ما رواها في البحار(1) عن عيون أخبار الرضا(عليه السلام)قال: «لمّا حضر العيد(2) بعث المأمون إلى الرضا(عليه السلام)يسأله أن يركب ويحضر العيد ويخطب; لتطمئنّ قلوب الناس، ويعرفوا فضله، وتقرّ قلوبهم على هذه الدولة المباركة. فبعث إليه الرضا(عليه السلام)وقال: قد علمت ما كان بيني وبينك من الشروط في دخولي في هذا الأمر. فقال المأمون: إنّما اُريد بهذا أن يرسخ في قلوب العامّة والجند والشاكريّة(3) هذا الأمر، فتطمئنّ قلوبهم، ويقرّوا بما فضّلك الله تعالى به، فلم يزل يرادّه الكلام في ذلك.

فلمّا ألحّ عليه قال: يا أميرالمؤمنين، إن أعفيتني من ذلك فهو أحبّ إليّ، وإن لم تعفني خرجت كما كان يخرج رسول الله(صلى الله عليه وآله) وكما خرج أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب(عليه السلام). قال المأمون: اخرج كما تحبّ،


(1) بحار الأنوار 49: 134 ـ 135.

(2) يعني: عيد الأضحى.

(3) الشاكريّة: جمع الشاكريّ معرّب (چاكر) بالفارسيّة، وهو الأجير والمستخدم.

82

وأمر المأمون القوّاد والناس أن يبكّروا إلى باب أبي الحسن(عليه السلام)، فقعد الناس لأبي الحسن(عليه السلام) في الطرقات والسطوح من الرجال والنساء والصبيان، واجتمع القوّاد على باب الرضا(عليه السلام).

فلمّا طلعت الشمس قام الرضا(عليه السلام) فاغتسل وتعمّم بعمامة بيضاء من قطن، وألقى طرفاً منها على صدره وطرفاً بين كتفيه وتشمّر، ثمّ قال لجميع مواليه: افعلوا مثل ما فعلت، ثمّ أخذ بيده عُكّازة(1) وخرج ونحن(2) بين يديه وهو حاف قد شمّر سراويله إلى نصف الساق وعليه ثياب مشمّرة(3).

فلمّا قام ومشينا بين يديه رفع رأسه إلى السماء وكبّر أربع تكبيرات فخيّل إلينا أنّ الهواء والحيطان تجاوبه، والقوّاد والناس على الباب قد تزيّنوا ولبسوا السلاح وتهيّأوا بأحسن هيئة، فلمّا طلعنا عليهم بهذه الصورة حفاة قد تشمّرنا وطلع الرضا وقف وقفةً على الباب وقال: «الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر على ما هدانا، الله أكبر على ما رزقنا من بهيمة الأنعام، والحمد لله على ما أبلانا»، ورفع بذلك صوته ورفعنا أصواتنا.

 


(1) عصا في أسفلها حديدة.

(2) كأنّهم ياسر الخادم، والريّان بن الصلت، ومحمّد بن عرفة وصالح بن سعيد الراشديّان.

(3) شمّر الثوب عن ساقيه: رفعه.

83

فتزعزعت(1) مرو من البكاء والصياح، فقالها ثلاث مرّات، فسقط القوّاد عن دوابّهم ورموا بخفافهم لمّا نظروا إلى أبي الحسن(عليه السلام)، وصارت مرو ضجّة واحدة، ولم يتمالك الناس من البكاء والضجّة.

فكان أبو الحسن يمشي ويقف في كلّ عشرة خطوات وقفة يكبّر الله أربع مرّات، فيُتخَيّل إلينا أنّ السماء والأرض والحيطان تجاوبه، وبلغ المأمون ذلك فقال له الفضل بن سهل ذو الرئاستين: يا أميرالمؤمنين، إن بلغ الرضا المصلّى على هذا السبيل افتتن به الناس، فالرأي أن تسأله أن يرجع، فبعث إليه المأمون فسأله الرجوع، فدعا أبوالحسن(عليه السلام) بخفّه فلبسه، ورجع».

ومنها: ما ورد في عيون أخبار الرضا(عليه السلام)(2) عن ياسر الخادم أنّه: حينما قتل فضل بن سهل ذوالرئاستين في الحمّام واُ تّهِم مأمون به واجتمع القوّاد والجند من كان من رجال ذي الرئاستين على باب المأمون، فقالوا: اغتاله وقتله فلنطلبنّ بدمه، فالتجأ المأمون إلى الرضا(عليه السلام) في نجاة نفسه، ودخل من الباب الذي كان إلى داره من دار أبي الحسن(عليه السلام) يقول: يا سيّدي يا أبا الحسن، آجرك الله في الفضل، وكان دخل الحمّام فدخل عليه قوم بالسيوف فقتلوه، واشتكى إليه(عليه السلام)


(1) التزعزع التحرّك الشديد.

(2) عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 2: 163 ـ 164.

84

من اتّهام مأمون به، واجتماع جماعة الفضل لأخذ الثار من المأمون، وطلب منه(عليه السلام)أن يخرج إليهم ويفرّقهم، قال ياسر: فركب الرضا(عليه السلام)وقال لي: اركب. فلمّا خرجنا من الباب نظر الرضا(عليه السلام)إليهم وقد اجتمعوا وجاؤوا بالنيران ليحرقوا الباب، فصاح بهم وأومأ إليهم بيده: تفرّقوا فتفرّقوا. قال ياسر: فأقبل الناس والله يقع بعضهم على بعض، وما أشار إلى أحد إلّا ركض ومرّ ولم يقف له أحد.

ومنها: ما ورد أيضاً في عيون أخبار الرضا(عليه السلام)(1) عن معمّر بن خلاّد قال: «قال لي أبو الحسن الرضا(عليه السلام): قال لي المأمون يوماً: يا أبا الحسن، اُنظر بعضَ من تثق به نولّيه هذه البلدان التي قد فسدت علينا. فقلت له: تفي لي واُوافي لك. فإنّي إنّما دخلت فيما دخلت على أن لا آمر فيه ولا أنهى، ولا أعزل، ولا اُولّي، ولا اُشير حتّى يقدّمني الله قبلك، فوالله إنّ الخلافة لشيء ما حدّثت به نفسي، ولقد كنت بالمدينة أتردّد في طُرُقِها على دابَّتي، وإنّ أهلها وغيرهم يسألوني الحوائج فأقضيها لهم، فيصيرون كالأعمام لي، وإنّ كُتبي لنافذة في الأمصار، وما زدتني من نعمة هي عليّ من ربّي. فقال له: أفي لك».

أقول: فمع كلّ هذه الشواهد ونحوها على قوّة الإمام الرضا(عليه السلام)


(1) المصدر السابق: 166 ـ 167. وراجعه أيضاً في البحار 49: 144 نقلاً عن عيون أخبار الرضا(عليه السلام).

85

وقدرته يطرح هذا السؤال نفسَه:

وهو: ما السبب في عدم إقامة الإمام الرضا(عليه السلام) للحكم الإسلاميّ؟!

يبدو لنا ـ والله العالم ـ أنّ تسلّمه(عليه السلام) لزمام الحكم الإسلاميّ كان يمكن افتراضه بأحد شكلين:

الشكل الأوّل: أن يثور هو على الوضع القائم.

وهنا يتمّ جواب اُستاذنا (رحمة الله عليه) الذي ذكره في ما ورد في كتاب (أئمّة أهل البيت)(1).

وحاصله: أنّه بالرغم من كلّ هذا النموّ المتزايد في القواعد الشعبيّة للإمام(عليه السلام) كان يعلم الإمام وكان يعلم كلّ شخص عميق ـ بملاحظة الظروف الموضوعيّة ـ بأنّ الإمام(عليه السلام) ليس على مستوى تسلّم زمام الحكم; لأنّ الحكم الذي يريد أن يتسلّمه الإمام(عليه السلام) غير الحكم الذي يمكن الوصول إليه بمثل هذه القواعد الشعبيّة، أي: إنّ هذه القواعد الشعبيّة التي كانت موجودة في العالم الإسلاميّ كانت تهيّء الإمام(عليه السلام)لتسلّم زمام الحكم على مستوى ما يتسلّمه أيّ زعيم آخر، فبإمكان الإمام الرضا(عليه السلام) أن يتسلّم زمام الحكم على النحو الذي يتسلّمه المنصور، أو الذي يتسلّمه أبو السرايا، أو على النحو الذي يتسلّمه الأمين أو المأمون، فإنّ هذه القواعد الضخمة يمكن أن تمدّه بالجيوش


(1) الصفحة: 390 ـ 393.

86

الكبيرة وبأموال كثيرة، ولكن هذه القواعد لم تكن تصلح قاعدة للحكم الذي يريده الإمام(عليه السلام)، فهذه القواعد كانت مرتبطة بمدرسة الإمام عليّ(عليه السلام)ارتباطاً فكريّاً غامضاً عامّاً، وارتباطاً عاطفيّاً حراريّاً قويّاً، وهذه الحرارة كان يشعلها في كلّ لحظة الدم المراق على ساحة الجهاد من ناحية، وظلم الظالمين وجبروت الحكّام الذين كانوا قد اعتدوا على أمر هذه الاُمّة وهتكوا حرمتها وهدروا كرامتها من ناحية اُخرى.

وهذا المستوى من القواعد قد يمهّد لحكم راسخ قويّ عتيد كما مهّد لحكم العبّاسيّين، ولكن لا يمهّد لحكم الإمام عليّ(عليه السلام) الذي هو اُطروحة أولاده المعصومين.

ثمّ يستطرد اُستاذنا(رحمه الله) لاستعراض بعض الشواهد التأريخيّة على هذا الأمر، فإن شئت فراجعها في الكتاب.

الشكل الثاني: أن يقبل(عليه السلام) ما عرض عليه الخليفة العبّاسيّ من استلام الحكم مباشرةً، فيعمل على بناء المجتمع من منطلق القوّة.

وهذا جوابه ما اتّضح من بياناتنا السابقة من دلالة الشواهد التأريخيّة على أنّ المأمون كان كاذباً في كلامه، وكان خدّاعاً ولم يكن يمكّن الإمام(عليه السلام) من ذلك.

وقد ورد في التأريخ على ما رواه المجلسي(1) عن عيون أخبار الرضا(عليه السلام)،


(1) بحار الأنوار، ج 49: 186 ـ 187.