25

القِصاص، فما معنى حسن العفو وحقَّانيّة القِصاص في وقت واحد ؟!

وبالإمكان افتراض أنَّ المِقياس في الحسن والقبح هو العادة، فالذين تعوَّدوا على ترك أكل لحم الحيوانات يحكمون بقبح ذلك، والذين تعوَّدوا على احتجاب النساء من الرجال يحكمون بحسن ذلك وبقبح سفورهن، والذين تعوَّدوا على سفورهن يحكمون بحسن السفور وبقبح الحجاب للنساء.

إلاَّ أنَّنا لم نرَ حاجة إلى إفراز العادة بالبحث المستقل، فمِقياس العادة إمّا هو شبيه بمِقياس العواطف، ويمكن تنبيه الوجدان على خطأ ذلك بمثل الطريقة التي سلكناها لتنبيه الوجدان على خطأ مِقياسيّة العواطف، فحتى الشخص أو المجتمع الذي تعوَّد على إيذاء الضعيف لو لم يبلغ أمره إلى حدِّ موت الوجدان والضمير يحكم وجدانه وضميره بقبح ذلك، إلاَّ أنَّه يستهين بارتكاب القبيح.

وإمّا هو شبيه بمِقياس العرف والعقلاء، وبإمكانك أن تسمِّيه باسم مِقياس العرف والعقلاء، إلاَّ أنَّه كان المقصود فيما مضى رأيهم، والمقصودُ هنا عادتهم، وقد مضى الجواب عن مِقياسيّة العرف والعقلاء.

 

المِقياس السادس ـ العقل:

وهذا يعني: أنَّ العقل يدرك الحسن والقبح كما يدرك الوجوب والاستحالة وما إلى ذلك. وقد يُسمَّى الثاني بالعقل النظريِّ، والأوّل بالعقل العمليِّ. وقد يُسمّى ما يدرك بالعقل النظريِّ بما ينبغي أن يعلم، وما يدرك بالعقل العمليِّ بما ينبغي أن يُعمل.

وخلاصة المدَّعى لأصحاب هذا المِقياس: أنَّ الحسن والقبح ليسا مجرّد أمر مشهوريٍّ واقعه نفس تطابق العرف أو العقلاء أو المجتمع عليه، بل لهما ثبوت في أُفق الواقع يدركهما العقل، وما يصحُّ من المقاييس الأُخرى يُشكِّل ـ بقدر ما

26

يصحّ ـ مصداقاً لهذا المِقياس. فمثلاً: مِقياس المصلحة والمفسدة وإن لم نقبله بشكل العموم، وقلنا: إنّ الحسن والقبح غير اللذّة والألم وغير الكمال والنقص، إلاَّ أنَّه لا إشكال في حسن مراعاة مصالح الناس أو مصالح المجتمع في حد ذاتها، ولا في قبح الإضرار والإفساد فيما بين الناس أو في المجتمع في ذاته.

ونقول: إنَّ هذا الحسن والقبح ـ أيضاً ـ ليسا مجرّد أمر اعتباري تطابق عليه المجتمع، أو حكم به العقلاء أو القانون مثلاً، بل هما أمران واقعيَّان أدركهما العقل. وكذلك مِقياس الدين بمعنى وجوب اتِّباع الدين الحقّ يعني حسن اتِّباعه عقلاً وقبح مخالفته على أساس مولويّة المولى ـ سبحانه وتعالى ـ المدركة بالعقل العملي.

والواقع: أنَّ العقل العمليَّ والعقل النظريَّ أمر واحد، وهي: القوّة المُدركة المُودَعة من قبل الله ـ سبحانه وتعالى ـ في الإنسان، وإن كان قد يُصطَلح عليهما باسمين مختلفين؛ نتيجة اختلاف المدرَكات من حيث كونها علميّة بحتة أو عمليّة، أو كونها ممّا هو كائن أو ممّا ينبغي أن يكون.

وللمحقِّق الإصفهاني(رحمه الله) برهان على عدم ضمان حقَّانيّة مُدرَكات العقل العملي، وأنَّها ليست بأعلى مستوى ممّا يُسمَّى في علم الميزان بالقضايا المشهورة. وحاصل كلامه مع تغيير يسير في تعبيره ما يلي(1): يقول(رحمه الله): وهذا الحكم العقليُّ من الأحكام العقليّة الداخلة في القضايا المشهورة المسطورة في علم الميزان في باب الصناعات الخمس، وأمثال هذه القضايا ممّا تطابقت عليه آراء العقلاء؛ لعموم مصالحها، وحفظ النظام، وبقاء النوع بها.

وأمَّا عدم كون قضيّة حسن العدل وقبح الظلم ـ بمعنى كونه بحيث يستحقّ عليه المدح أو الذم ـ من القضايا البرهانيّة.


(1) راجع نهاية الدراية 2 / 8 .

27

فالوجه فيه: أنَّ مواد البرهان منحصرة في الضروريّات الستِّ: فإنَّها إمَّا أوليَّات، ككون الكلّ أعظم من الجزء، وكون النفي والإثبات لا يجتمعان. أو حسِّيات سواءٌ كانت بالحواس الظاهرة المسمَّاة بالمشاهدات، ككون هذا الجسم أبيض أو هذا الشيء حلواً أو مرّاً، أو بالحواس الباطنة المسمَّاة بالوجدانيِّات، وهي: الأُمور الحاضرة بنفسها للنفس. كحكمنا بأنَّ لنا علماً وشوقاً وشجاعة. أو فطريات، وهي: القضايا التي قياساتها معها، ككون الأربعة زوجاً؛ لأنَّها منقسمة بالمتساويين، وكلُّ منقسم بالمتساويين زوج. أو تجربيَّات بتكرّر المشاهدة، كحكمنا بأنَّ مادَّة الاسبرين تقطع الحمّى مثلاً. أو متواترات، كحكمنا بوجود البلاد النائية التي هي غائبة عنَّا، ولكن ثبت لنا وجودها بأخبار جماعة يمتنع تواطؤهم على الكَذِب عادة. أو حدسيَّات موجبة لليقين، كحكمنا بأنَّ نور القمر مستفاد من الشمس؛ للتشكلات البدرية والهلاليّة وأشباه ذلك.

ومن الواضح: أنَّ استحقاق المدح والذم بالإضافة إلى العَدل والظُّلم ليس من الأوَّليَّات بحيث يكفي تصور الطرفين في الحكم بثبوت النسبة، كيف وقد وقع النزاع فيه من العقلاء. وكذا ليس من الحسِّيات بمعنييها كما هو واضح؛ لعدم كون الاستحقاق مشاهداً، ولا بنفسه من الكيفيات النفسانيّة الحاضرة بنفسها للنفس. وكذا ليس من الفطريّات؛ إذ ليس معها قياس يدلُّ على ثبوت النسبة. وأمّا عدم كونه من التجربيَّات والمتواترات والحدسيَّات ففي غاية الوضوح، فثبت أنَّ أمثال هذه القضايا غير داخلة في القضايا البرهانيّة، بل من القضايا المشهورة.

أقول: من الصحيح ما ذكره من أنَّ أصل الحسن والقبح بوصفهما أمرين واقعيين قد وقع الخلاف فيه؛ لأنَّ بعض الفلاسفة والمفكرين أنكروا إدراك ذلك، وجعلوه من سنخ المشهورات، أو العادات أو المسلَّمات المأخوذة من أعلى، إلاّ أنَّ مجرّد وقوع الخلاف ليس دليلاً على نفي بداهة القضيّة وأوَّليتها؛ إذ قد يكون الخلاف

28

على أساس شبهة حصلت للمخالف غطَّت إدراكه النابع من حاقِّ نفسه، وقد يكون ـ بغضّ النظر عن فرض عروض شبهة ـ غير قادر على إدراك ما أدركه غيره بالبداهة؛ لأنَّ البشر المتمتع بشيء من التكامل في الإدراك وفق الحركة الجوهريّة ليسوا سواءً في ذلك، بل هم مختلفون في الاستعداد والإدراك، فلو أدرك أحد شيئاً ولم يدرك الآخر لم يكن ذلك مساوقاً؛ لفرض أنَّ إدراك المُدرِك ناشئ من تدخل أُمور خارجيّة: كالعادة والشهرة وغير نابع من حاقِّ نفسه.

وفي مقابل هذا البرهان الذي أفاده المحقِّق الإصفهاني(رحمه الله) لنفي إدراك واقعيّة الحسن والقبح وحقَّانيتهما على مستوى الواقع، لا على مستوى مجرّد تطابق العقلاء، يوجد برهان معاكس قد يُبرهَن به على واقعيّة الحسن والقبح وحقَّانيّتهما.

وهذا البرهان يأتلف من مُقدّمتين:

الاُولى: أنَّ المعارف الناشئة من حاقِّ النفس تُصيب الواقع ولا تخطأ، ومن هنا كانت الضروريّات ـ على حدِّ تعبير علم الميزان ـ مضمونة الحقَّانيّة؛ إذ نشأ فهمها من حاقِّ النفس البشريّة، لا بتأ ثُّر من أمر خارجيٍّ: كعرف، أو عادة وقانون، أو بناء المجتمع، أو العقلاء، أو ما إلى ذلك.

أمَّا المعارف الناشئة بمعونة هذه المؤثِّرات الخارجيّة ونحوها، فليست مضمونة الواقعيّة والحقَّانيّة؛ لأنَّ هذه المؤثِّرات الخارجيّة ربَّما لا تصيب الواقع.

والثانية: أنَّ كثيراً من قضايا الحسن والقبح والأحكام الخُلُقيّة ناشئة من حاقِّ النفس؛ والذي يشهد لنشوئها من حاقِّ النفس البشريّة تطابق الناس عليها عادةً وغالباً، برغم اختلافهم في البيئات والظروف والعادات وما إلى ذلك. فلو كانت ناشئة من البيئات والملابسات الخارجيّة لاختلفت باختلاف الناس.

نعم، نحن نحسُّ بوقوع الخلاف في القضايا الخُلُقيَّة في ثلاثة موارد، وكلُّها لا تضرُّ بما شرحناه: من أنَّ إطباق النفوس على درك قضايا خُلُقيّة دليل على

29

نشوئها من حاقِّ النفس:

الأوّل: الاختلاف الصغرويُّ الذي قد يقع في التطبيق لا في أصل الفكرة، فلا يضرُّ ببداهة الفكرة وضروريّتها، مثال ذلك: أنَّ مجتمعاً ما وفي زمان ما يطبّق حسن إحسان فرد على فرد بالتصدُّق عليه، ويعتبر هذا فضيلة وعملاً ممدوحاً، في حين أنّ مجتمعاً آخر أو نفس المجتمع في زمن آخر يعتقد أنّ هذا الأُسلوب من العطاء والإحسان لا يُميَّز فيه بين المستحقّ وغيره ويُميت الهمم، ويميت ما في النفوس من شرف وإباء واستعداد للعمل، فالصحيح هو: إنشاء جمعيّات للإحسان تجتمع عندها عطاءات الناس، وهي التي تتولَّى الإنفاق على المعوزين بعد أن تدرس أحوالهم، وتحاول إيجاد عمل لمن لا عمل له.

وهذا كما ترى ليس خلافاً في كبرى حسن إعانة العاجز وفضيلة الإحسان إلى الناس، وإنّما الكلام في تشخيص الطريقة التي تكون أوصل إلى المطلوب.

والثاني: إنكار واقعيّة الحسن والقبح أو التشكيك فيها؛ لشبهة حصلت للمنكر أو المشكِّك، من قبيل البرهان الذي مضى ذكره عن المحقّق الإصفهاني(رحمه الله)؛ لنفي كون إدراك ذلك من سنخ إدراك الضروريّات. وقد مضى الجواب عن ذلك، فترى أنَّ الإنكار أو التشكيك ـ على أساس تخيُّل ذلك البرهان ـ إنكارٌ أو تشكيك عن شبهة غطَّت الفهم الناشئ من حاقِّ النفس، وحالت دون الوصول إلى إدراك الحسن والقبح، ولا يكون ذلك شاهداً لعدم ضروريّة هذا الإدراك أو عدم نشوئها من حاقِّ النفس.

والثالث: بعض القضايا الخُلُقيّة الناشئة من المؤثِّرات الخارجيّة، فإنَّنا حينما نقول بواقعيّة الحسن والقبح وضروريتهما ونشوء إدراكهما من حاقِّ النفس لا ندَّعي أنَّ جميع الأخلاقيَّات من هذا القبيل، فربَّما يكون الإيمان بحسن الحجاب أو السفور أو قبحه للنساء ناشئاً من المؤثِّر الخارجيِّ: من دين، أو عادة،

30

أو ملاحظة المصالح والمفاسد المختلف فيها؛ ولذا ترى اختلاف مجتمع عن مجتمع في كون الحجاب والعفَّة فضيلة، والسفور وترك الحياء رذيلة، أو العكس. وهذا لا يضرُّ بالاعتراف بواقعيّة الحسن والقبح في قضايا أُخرى يؤمن بها الجميع أو الغالبية الساحقة من غير منْ حصلت له الشبهة، من قبيل: حسن الصدق والوفاء والإيثار، وقبح الكذب والغدر والإيذاء، وما شابه ذلك.

فقد اتَّضح بهذا العرض: أنَّ كثيراً من القضايا الخُلُقيّة قد نتج إدراكها من حاقِّ النفس؛ لتطابق غالبيّة الناس عليها البعيدين عن شبهة تغطِّي الفهم الأوَّليَّ، ولا قاسم مشترك فيما بينهم ممَّا يمكن أن يكون منشأً للفهم والإدراك عدا النفس البشريّة، فنستكشف أنَّ علَّة هذا الفهم المشترك بينهم هي: حاقُّ النفس التي هي القاسمة المشتركة بينهم.

إلاَّ أنَّ هذا الدليل لواقعيّة الحسن والقبح قابل للمناقشة؛ وذلك بالمناقشة في المُقدّمة الثانية، وهي: انحصار العامل المشترك بين غالبيّة الناس في النفس البشريّة، فإنَّهم مشتركون ـ أيضاً ـ في غريزة جلب المصالح ودفع المفاسد، فلعلَّ ذلك جرَّهم بشكل وآخر إلى أن يجنحوا إلى القول بحسن جملة من الأشياء وقبح جملة منها، ممَّا يشتمل على مصالح نوعيَّة أو مفاسد نوعيّة، وأيضاً نقول: إنَّ النماذج التي عاشرناها من المجتمعات البشريّة مشتركون في أصل خضوعهم لقوانين وحكومات وانتظامات، فلعلَّ هذا أوحى إليهم بالحسن والقبح.

وكأنَّه لعلاج هذا الإشكال قد يُطوَّر من صياغة الاستدلال وتُغيَّر إلى الصيغة التالية، وهي ما يلي:

لو أنَّ أحداً خُلِقَ منفرداً في مكان، وعاش وحده من دون أن يشاهد أيَّ مجتمع، أو يُؤثِّر فيه أيُّ تعليم ونحوه، ثُمَّ قال له أحد مثلاً: أنا أُعطيك طعاماً شهيَّاً في كلِّ يوم على أن تتكلَّم بخبر سواءٌ كان صدقاً أو كذباً، فذلك الشخص سوف

31

يختار الصدق إن لم توجد له أدنى فائدة في الكذب. وهذا شاهد على أنَّه يُدرِك حسن الصدق وقبح الكذب، فهذا إدراك ناشئ من حاقِّ النفس؛ لعدم وجود مؤثِّرات خارجيّة حسب الفرض.

وبكلمة أُخرى: إنَّ الإنسان الذي ينمو ويترعرع بعيداً عن كلِّ المؤثِّرات الخارجيّة ـ حسب الفرض ـ لو سألناه عن شيء وقرَّر أن يجيب عن سؤالنا فهو بطبعه الأوَّلي يجنح إلى الصدق لا الكذب. فهذا ليس على أساس المؤثِّرات الخارجيّة، ولا على أساس حبِّ الذات؛ إذ هو لا يعلم أنَّ الصدق نافع والكذب ضار حتّى يدفعه حبُّ الذات إلى ذلك.

 

والجواب:

أوَّلاً: أنَّ هذا الميل إلى الصدق قد يكون بنفسه طبعاً وغريزة، أو أنَّ أوَّل وأشدَّ ما يجلب ذهن المخبر إلى نفسه هو الواقع الذي علمه، لا خلافه، ولا يكون هذا راجعاً إلى باب الإدراك أصلاً؛ ولذا نرى أنَّ حالة الصدق موجودة لدى الأطفال الصغار الذين لم يبلغوا بعدُ مبلغاً يُدرِكون قبح الكذب أو حسن الصدق.

وثانياً: لو غضضنا النظر عن الميل الطبيعيِّ والغريزيِّ إلى الصدق، أو كون الواقع المعلوم أكثر جلباً للنظر من خلافه مثلاً، فمن أين لنا العلم بأنَّ هذا الشخص الذي فرضنا أنّه عاش منفرداً وترعرع منفرداً يجنح إلى الصدق لا الكذب؟! فإنَّ هذه الفرضيّة لم نجرِّبها خارجاً، ولو عَلِمنا بذلك عن طريق إيماننا بحسن الصدق وقبح الكذب، أو عن طريق إيماننا بغريزيّة الصدق مثلاً فأَيُّ فائدة تترتَّب على افتراض هذه الفرضيَّة؟!

والواقع: أنَّ حقَّانيّة الإدراك العمليِّ لا يمكن أن تثبت ببرهان، ولا أن تُرَدُّ ببرهان، وإنَّما الأمر الممكن هو تنبيه الوجدان بذكر بعض الأمثلة الواضحة، من

32

قبيل: قبح قتل الناس وإيذائهم بلا سبب، وحسن إعانة العاجز ونحو ذلك، فالذي لا يدرك ـ حتّى بعد إلفاته إلى مثل هذه الأمثلة الواضحة ـ الحسن والقبح والفضيلة والرذيلة لا يمكن إثبات ذلك له بأيِّ برهان من البراهين، والذي يدرك ذلك فبالإمكان أن يُطرَح أمامه احتمالان:

الأوَّل: احتمال أن يكون هذا الإدراك حقَّانيّاً ونابعاً من حاقِّ النفس.

والثاني: احتمال أن يكون ذلك ناشئاً من العادة أو الشهرة أو الدين أو القانون أو العاطفة أو ما إلى ذلك، فبعد طرح هذين الاحتمالين عليه إن احتمل صحّة الثاني، زال عنه ذلك الإدراك، ولا يمكن إرجاعه إليه ببرهان صحيح، وإن لم يحتمل صحّة الثاني لم يحتج إلى برهان.

ونحن نؤمن بهذا المِقياس، ونعتقد رجوع المقاييس الأُخرى الصحيحة ولو في الجملة بقدر مِقياسيَّتها إلى هذا المِقياس، كمِقياس الدين، أو مِقياس المصلحة والمفسدة.

ومن أراد التوسع أكثر من هذا فليراجع كتابنا مباحث الأُصول الجزء الأوَّل من القسم الثاني بحث الاعتماد على الحكم العقليِّ لاستنباط الأحكام الشرعيّة في قبال الأخباريين المنكرين لذلك.

 

المِقياس السابع ـ نظريّة الأوساط أو الوسط العادل:

إنَّ لحكماء اليونان ومن تابعهم في الأُسلوب كلمات كثيرة في بيان الفضيلة والرذيلة، ولم نعلم هل كانوا حقّاً بصدد ذكر ضابط يُرجَع إليه في مقام تمييز الفضيلة عن الرذيلة، أو لا؟ ونحن نذكر منها هنا ثلاث كلمات:

الكلمة الأُولى: ما نُقِل عن سقراط: من أنَّه ليست هناك في الحقيقة إلاَّ فضيلة

33

واحدة، وهي: المعرفة. وقد نُقِل عنه(1) ما يرجع إلى تحديد مِقياسيّة المعرفة. وتفسيرها بجانبين:

الأوَّل ـ الجانب السلبيُّ، وهو: أنَّه لا خير إلاَّ بالعلم، فإنَّ الإنسان لو عمل عملاً لا يعلم بخيريَّته فليس خيراً ولا فضيلة.

والثاني ـ الجانب الإيجابي، وهو: أنَّ من عَلِم علماً تاماً بأنَّ الشيء خير، فعلمه يحمله حتماً على عمله، ومعرفته بضرر شيء تحمله حتماً على تركه، وليس أحد يعمل الشرَّ وهو عالم بنتائجه، فكلُّ الشرور ناتجة من الجهل.

وشيء من الجانبين غير صحيح:

أمَّا الجانب السلبيُّ فلأنَّ الخير لا يتقوّم بالعلم بكونه خيراً، فمَنْ يُكرِم الناس أو المجتمع ويُعين المظلوم فقد فعل خيراً، وكان متَّصِفاً بصفة حسنة، ولو لم يعلم هو بخيريّة هذا الفعل وهذه الصفة. وقد ثبت في علم الأُصول أنَّ الشيء يستحيل أن يتقوَّم بالعلم بنفسه.

نعم، حسن السريرة وسوء السريرة يتقوَّمان بمدى انكشاف موضوع حسن الفعل وقبحه، ومدى قصد الفاعل لذلك الموضوع، كما أنَّ سوء السريرة يتقوَّم بمدى انكشاف نفس قبح الفعل، وليس فقط بانكشاف موضوعه، فمن تربّى ـ مثلاً ـ في بيئة تعتبر أنَّ النهب والغارة والتهجّم شجاعة حسنة واعتقد بذلك، ففعله لذلك لا يدلُّ على سوء سريرته، ولكن فعله قبيح على أيِّ حال، والذم ينصبُّ على الفعل ولا ينصبُّ على سريرة الفاعل.

وأمّا الجانب الإيجابيُّ فلأَنَّه ليس كلُّ مَنْ يعلم بخيريّة الخير وشريَّة الشرِّ وكان ملتفتاً إلى الآثار والنتائج كان من المحتَّم أنّه سوف يتَّجه نحو الخير ويترك الشر؛ لأنَّ الحاكم في النفس البشريّة ليس منحصراً في العقل حتّى يتبع ما يراه حقّاً


(1) كتاب الأخلاق: 193.

34

وصحيحاً، بل العواطف والشهوات والميولات النفسيّة كلُّها ممَّا يُصدِر الحكم في نفس الإنسان، بمعنى تأثيره في تحديد إرادة الإنسان وشوقه. وما أكثر مَنْ يعرف الحقَّ أو الخير أو الصلاح ويخالفه، ومن يعلم الشرَّ أو المفسدة ويرتكبه.

على أنَّه لو كان مقصود صاحب هذا الكلام جعل مِقياس وضابط يرجع إليه في مقام تمييز الفضيلة عن الرذيلة، قلنا: لا يمكن جعل الضابط عبارة عن العلم ـ حتّى لو آمنَّا بالجانبين السلبي والإيجابي ـ بل الضابط بهذا المعنى يجب أن يكون شيئاً آخر؛ لأنَّ الضابط المميِّز هو الذي يُورِث العلم بالخيريّة أو الشرِّيّة، فلا يمكن أن يكون هو نفس العلم.

الكلمة الثانية: ما اشتهر بينهم: من أنَّ أُصول الفضائل أربعة: الحكمة، والعفَّة، والشَّجاعة، والعَدل، وبياناتهم في حصر أُصول الفضائل مختلفة:

فمنها: ما نُقِلَ عن أفلاطون تلميذ سقراط: من أنَّ في الإنسان قوى ثلاث:

العاقلة، وهذه إذا اعتدلت نشأت عنها فضيلة الحكمة.

والقوّة الغضبيّة، وهذه إذا اعتدلت نشأت عنها الشَّجاعة.

والقوّة الشهويّة أو البهيميّة، وهذه إذا اعتدلت نشأت عنها العفَّة. وهذه الفضائل الثلاث باعتدالها ينشأ عنها العَدل، فالعَدل تتَّصف به النفس عند أداء هذه القوى الثلاث وظائفها باعتدال وعندما تكون متساندة بحيث تتعاون كلُّ قوَّة مع الأُخرى(1).

ومنها: أنَّ النفس ذات قوى أربع: العاقلة، والعاملة، والشهويّة والغضبيَّة. وتنشأ الفضيلة من إطاعة القوى الثلاث الأخيرة للأُولى، فبإطاعة القوّة العاملة للعاقلة واعتدالها تحصل الحكمة، وبإطاعة القوّة الشهويّة لها واعتدالها تحصل العفَّة، وبإطاعة القوّة الغضبيّة لها واعتدالها تحصل الشَّجاعة. ثُمَّ تحصل من حصول هذه


(1) منقول عن كتاب الأخلاق: 196.

35

الفضائل الثلاث ـ المترتب على تسالم القوى الأربع وانقهار الثلاث تحت الأُولى ـ حالة متشابهة هي كمال القوى الأربع وتمامها، وهي: العَدالة(1).

ولا يخفى أنَّه على هذين الوجهين لا يمكن عدُّ العَدالة فضيلة مستقلَّة تجاه الفضائل الثلاث الأُخرى إلاَّ بلقلقة اللسان، ولا تتحصَّل من وراء الحكمة والعفَّة والشَّجاعة من هذين البيانين فضيلة أُخرى اسمها العدالة. وبعد فرض اعتدال القوى الثلاث ونشوء الحكمة والعفَّة والشَّجاعة ما معنى فرض اعتدال آخر فيما بينها ؟!

( هذا. وهم يقصدون بالقوّة الغضبيّة مبدأ دفع غير الملائم وبقوّة الشهوة مبدأ جلب الملائم )(2).

ومنها: أنَّ النفس ذات قوى أربع، وهي ما مضت: من العاقلة، والعاملة، والشهويّة، والغضبيّة. ويحصل من تهذيب العاقلة العلم والحكمة، ومن تهذيب العاملة العَدالة، ومن تهذيب الغضبيّة الحلم والشَّجاعة، ومن تهذيب الشهويّة العفَّة والسخاء(3).

والنراقيُّ في جامع السعادات بالرغم من ذهابه إلى هذا الوجه يرى أنَّ العَدالة ليست فضيلة مستقلَّة في مقابل سائر الفضائل حيث يقول: إنَّ العَدالة عبارة عن انقياد العاملة للعاقلة في استعمال نفس العاقلة وقوَّتي الغضب والشهوة. فليست وراء فضائل العاقلة والغضب والشهوة ـ التي تحصل باستعمال العاملة لها ـ فضيلةٌ أُخرى(4).


(1) مأخوذ من جامع السعادات 1/70.

(2) مأخوذ من المصدر السابق: 69.

(3) المصدر السابق: 69.

(4) راجع المصدر السابق: 72.

36

وليس من الصحيح ما جاء في الوجهين الأخيرين: من افتراض قوّة عاملة في النفس (وهي مبدأ تحريك البدن) في مقابل قوَّتي الغضب والشهوة، وهما مبادئ دفع غير الملائم وجلب الملائم، فإنَّهما بنفسهما عاملتان ومحرِّكتان بلا حاجة إلى فرض قوَّة عاملة أُخرى.

كما أنَّ ما في هذه الوجوه الثلاثة من حصر قوى النفس المرتبطة بالأوصاف والأفعال في هذه القوى الثلاث أو الأربع لا مُبرِّر له، فمثلاً: قوّة العطف والرقَّة والترحُّم على الضعيف والمظلوم قوّة تحبِّذ للإنسان نصرة الضعيف والمظلوم، لا من باب أنَّ هذا جلب لما يلائم النفس أو دفع لما ينافرها، بل تكون نصرة الضعيف والمظلوم ملائمة للنفس، وتركها منافراً لها في طول هذه القوّة.

هذا بناءً على افتراض وجود قوّة ـ حقّاً باسم قوّة جلب الملائم، وقوّة أُخرى ـ حقّاً باسم قوّة دفع المنافر وراء نفس القوى التي جعلت الملائم ملائماً والمنافر منافراً.

وأمَّا بناءً على ما لا تبعد صحته من أنَّ قوّة جلب الملائم أو دفع المنافر عبارة عن نفس القوى الملائمة لبعض الأشياء والقوى المخالفة لبعضها، فهي بمعونة القدرة وقوّة العضلات تحرّك الإنسان نحو الجلب والدفع. إذن ففرض كلٍّ من قوتي جلب الملائم ودفع المنافر أو كلٍّ من قوتي الشهوة والغضب قوّة واحدة ليس إلاّ لعباً بالالفاظ وتسميةً لعنوان انتزاعيٍّ انتزع من مجموعة قوى باسم قوّة واحدة.

وأمّا كلمة الاعتدال التي جاءت في بعض هذه الوجوه فقد ترجع إلى نظريَّة الأوساط التي سيأتي الكلام عنها في الكلمة الثالثة.

الكلمة الثالثة: هي نظريّة الأوساط أو الوسط العادل. فقد نُقِلَ عن أرسطو أنّه كان يذهب إلى أنّ جِماع الفضائل «خضوع الشهوات لحكم العقل وتسليم زمام الشهوات للعقل يقودها» فللفضيلة عنصران: العقل والشهوة، فلا بدَّ من شهوة

37

لتُضبَط. فالزهَّاد الذين يقتلعون الشهوات من جذورها في ضلال مبين، إنَّهم ينسون أو يجهلون أنَّ الشهواتِ جزء أساس من الإنسان، فاستئصالها ضارٌّ بطبيعته مُضيِّع لشطر منه، بل إنَّ استئصال الشهوات مضيِّع للفضيلة؛ لأنَّ الفضيلة ـ كما بيَّنا ـ معناها شهوات موجودة يضبطها العقل، لا شهوات مستأصلة.

وبكلمة أُخرى: الفضيلة شهوات معتدلة، ومن ثمَّ كان هناك طرفان ينبغي تجنُّبهما: الطرف الأوّل محاولة استئصال الشهوات. والطرف الثاني إرخاء العنان لها، إنَّما الفضيلة الاعتدال بحيث لا تطغى الشهوات على العقل ولا يطغى العقل عليها فتستأصل. فهذا القول جرَّ أرسطو إلى وضع نظريّة الأوساط، أي: أنَّ كلَّ فضيلة وسط بين رذيلتين: رذيلة الإفراط ورذيلة التفريط، فالشَّجاعة وسط بين التهوُّر والجبن، والكرم وسط بين السرف والبخل، والعفَّة وسط بين الفجور والخمود ... وهناك فضائل لم تضع اللُّغة أسماء لطرفيها الرذيلين، ولكن هذا لا ينفي أنَّ الفضيلة في هذه الحالة ـ أيضاً ـ وسط بين رذيلتين(1).

وهل المقصود الوسط الحقيقيُّ أو الوسط النسبيُّ والإضافيُّ؟

يظهر من كتاب جامع السعادات أنَّ الفضيلة الكاملة هي الوسط الحقيقيُّ، ولكن الوسط المعتبر هنا هو الإضافيّ؛ لتعذّر وجدان الحقيقيّ والثبات عليه؛ لكونه في حكم نقطة غير منقسمة؛ ولذا تختلف الفضيلة باختلاف الأشخاص والأحوال والأزمان، فربَّما كانت مرتبة من الوسط الإضافيِّ فضيلة بالنظر إلى شخص أو حال أو وقت، ورذيلة بالنسبة إلى غيره، ومَنْ هو متصف بفضيلة من الفضائل لا يمكن الحكم بكون تلك الفضيلة هي الوسط الحقيقيّ إلاّ أنّه لمَّا كانت تلك الفضيلة قريبة إليه ولا يمكن وجود الأقرب منها إليه له يحكم بكونها وسطاً إضافيّاً؛ لأقربيتها إليه بالنسبة إلى سائر المراتب، فالاعتدال الإضافيُّ له عرض،


(1) مأخوذ من كتاب الأخلاق: 196.

38

وسطه الاعتدال الحقيقيُّ، وطرفاه طرفا الإفراط والتفريط، إلاّ أنَّه ما لم يخرج عن هذين الطرفين يكون اعتدالاً إضافيّاً، وكُلَّما كان أقرب إلى الحقيقيِّ كان أكمل وأقوى، وإذا خرج عنهما دخل في الرذيلة(1).

ولم نعرف من هذا الكلام ماهو الميزان في حدود الوسط الإضافيّ إلاَّ أن يكون المقصود: أنَّ الميزان هو قدرة الشخص، أي: أنّه إذا عجز عن الوصول إلى الوسط الحقيقيِّ فالفضيلة بالنسبة لكلِّ شخص هي أقرب النقاط إلى الوسط الحقيقي ممّا يمكنه الوصول إليه.

ثُمَّ لو كان مقصودهم ـ حقّاً ـ جعل الوسط مِقياساً يرجع إليه لتشخيص الفضيلة والرذيلة، وتمييز إحداهما عن الأُخرى، فهذا أمر غير ممكن؛ إذ لا يمكن تعيين الوسط بمثل الشبر والذراع قبل معرفة الفضيلة، بل يجب أن نعرف الفضيلة أوَّلاً، وعن طريق معرفتنا لها نعرف أنَّ طرفيها إفراط وتفريط، وأنَّها هي الوسط، فهذا ليس مِقياساً بمعنى كونه مميِّزاً للفضيلة والرذيلة.

على أنّه لا برهان ولا وجدان يحكم على أنَّ الفضيلة في كلِّ شيء وبالقياس إلى كلِّ صفة إنَّما هي الوسط.

وقد قال أحمد أمين في كتاب الأخلاق(2): إنَّ هناك كثيراً من الفضائل لا يظهر فيها أنَّها أوساط بين رذائل كالصدق والعَدل، فليس هناك إلاّ كذب أو صدق، وعدل أو ظلم. وقول ابن مسكويه: إنَّ العَدل وسط بين الظلم والانظلام لعب بالألفاظ دعاه إليه تصحيح كلام أرسطو، فليس الانظلام إلاَّ أثر الظلم.

أقول: إنَّ الاعتراض عليهم بالنقض بمثل الصدق والكذب، أو الإرشاد والتضليل باعتبار أنّه لا تُتصوَّر في طرفي الفضيلة رذيلتان تعتبر الفضيلة وسطاً


(1) مأخوذ من جامع السعادات 1/78 و 79.

(2) كتاب الأخلاق: 197.

39

بينهما، لو عُرِضَ عليهم فمقتضى المشي على مشاربهم وأساليب بحثهم أن يجيبوا عن ذلك بأنَّ الصدق والكذب، أو الإرشاد والتضليل(1) ـ مثلاً ـ ليسا من الفضائل والرذائل الأصيلة، بل يرجعان إلى الفضائل الأربع وأطرافها، كما قال في جامع السعادات(2): إنَّ الكذب في القول إذا نشأ من العداوة أو الحسد أو الغضب، كان من رذائل قوّة الغضب، وإذا نشأ من حبّ المال والطمع أو الاعتياد الحاصل من مخالطة أهل الكذب، كان من رذائل قوّة الشهوة.

فالنراقيُّ(رحمه الله) يعدِّد مناشئ الكذب في القول ويرجعها إلى أُصولها، فمثلاً إذا نشأ الكذب من قوّة الغضب فهو واقع في أحد طرفي الإفراط أو التفريط للغضب، والحدُّ الوسط له هو الشَّجاعة، وهكذا.

إلاَّ أنَّ هذا الجواب ـ الذي في أكبر الظنّ سوف يجيبون به لو وجِّه إليهم الإشكال ـ لا يسمن ولا يغني من جوع؛ إذ هذا إنَّما يتمُّ لو قلنا: إنَّ الصدق والكذب، أو الإرشاد والتضليل ليسا بما هما حسناً وقبيحاً، وإنَّما يتصفان بالحسن والقبح لدخولهما ـ مثلاً ـ في التهوُّر أو الجبن، وهما قبيحان، أو في الشَّجاعة، وهي حسن، في حين أنّه ليس الأمر كذلك، فقبح الكذب أو التضليل ـ مثلاً ـ ثابت حتّى لو فرض عدم نشوئهما من التهوُّر أو الجبن، أو من أيِّ طرفين من طرفي الإفراط والتفريط التي تذكر للفضائل الأربع.

وممَّا يشهد لذلك أنَّهم قد فسَّروا التهوُّر الذي هو طرف الإفراط للشجاعة بالإقدام على ما ينبغي الحذر منه، والجبن الذي هو طرف التفريط للشجاعة


(1) هذا التعبير الثاني فرقه عن التعبير الأوّل أنّه يشمل التورية ـ أيضاً ـ ولا يختصّ بالكذب.

(2) جامع السعادات 2/246.

40

بالحذر ممّا ينبغي الإقدام عليه(1) فأَخذوا في موضوع التهوُّر والجبن عنوان ما ينبغي، وهذا معناه ثبوت انبغاء وعدم انبغاء (وهو حقيقة الأخلاق) قبل التهوُّر والجبن.

ولو تأمّلت فيما ذكرناه لا نفتح عليك باب واسع لنسف الأُسس التي أُسِّس عليها علم الأخلاق في مثل كتاب جامع السعادات.

وأمّا النقض بالعَدالة والظلم فإنَّما يرد على مبنى عدِّ العَدالة فضيلة مستقلَّة في مقابل سائر الفضائل، ولا يرد على مثل النراقيّ في جامع السعادات.

وعلى أيِّ حال، فما قيل من أنَّ العَدالة وسط بين الظلم والانظلام مَهْزلةٌ من الكلام، فإنَّ الانظلام يُقصَد به هنا قبول الظلم وعدم دفعه، فإن عُدَّ هذا مشاركة في الظلم مع الظالم؛ لأنَّه كما لا يجوز ظلم الآخرين كذلك لا يجوز ظلم النفس إذن، فالانظلام ظلم وليس طرفاً آخر للعدالة غير الظلم، وإلاَّ فليس الانظلام قبيحاً.

ومن النقوض التي ترد عليهم مثال الحكمة لو بنينا على ما بنوا عليه من عدِّ الحكمة من الفضائل.

وقد جاء في كتاب جامع السعادات(2): أَنَّ حقيقة الحكمة هو العلم بحقائق الأشياء على ماهي عليه، وهو موقوف على اعتدال القوّة العاقلة، فإذا حصلت لها حِدَّة خارجة عن الاعتدال تخرج عن الحدِّ اللائق، وتستخرج أُموراً دقيقة غير مطابقة للواقع، والعلم بهذه الأُمور هو ضدُّ الحكمة من طرف الإفراط، وإذا حصلت لها بلادة لا ينتقل إلى شيء فلا يحصل لها العلم بالحقائق، وهذا هو الجهل، وهو ضدُّه من طرف التفريط، فالحكمة وسط بين طرفين: الجربزة والبله، أو السفسطة (أي الحكمة المموّهة) والجهل (أي البسيط منه).


(1) جامع السعادات 1/81 .

(2) جامع السعادات 1 /80 و 81 .

41

أقول: لا أدري كيف جعل استخراج أُمور دقيقة غير مطابقة للواقع إفراطاً في القوّة العاقلة وحِدَّة لها، أفهل ترى لو استعملت القوّة العاقلة أكثر ممّا يُسمّى بالحدِّ الوسط أوجبت خطأً ولماذا؟ أوليست قوّة العقل والإدراك كلَّما اشتدَّت في الإنسان وقوي الإنسان على استعمالها كان ترقُّب كشف الحقائق أكثر؟! وليس استعمال قوّة التفكير بمنهج غير صحيح وموجب للوقوع في الخطأ إلاَّ نقصاً في عرض نقص عدم استعمال تلك القوّة أو البلادة الموجب للجهل البسيط، وجعل استعمال القوّة العاقلة بالنحو الصحيح وسطاً بين عدم استعمالها رأساً واستعمالها بشكل غير صحيح ليس ـ أيضاً ـ إلاَّ تلاعباً بالألفاظ.

 

المِقياس الثامن ـ حسن العَدل وقبح الظلم:

بمعنى أنَّ العناوين التي تحمل بذاتها الحسن والقبح إنَّما هي العَدل والظلم، وما سواهما يكون حسناً إذا دخل في العَدل، وقبيحاً إذا دخل في الظلم، فضرب اليتيم ـ مثلاً ـ ليس في ذاته حسناً أو قبيحاً، ولكنّه حينما يدخل في العَدل كما في ضرب وليِّه إيّاه لغرض التأديب يكون حسناً، وحينما يدخل في الظلم كما لو كان لغرض الإيذاء لا التأديب يكون قبيحاً. ومن هنا لا ترى مجتمعاً أو شخصاً اعتياديّاً يناقش في حسن العدل أو قبح الظلم، ولكن يجري الاختلاف في حسن أو قبح عناوين أُخرى؛ نظراً لاختلافهم في دخولها في العَدل أو الظلم.

ثُمَّ إنَّنا لو فسَّرنا العَدالة بمعنىً يكون مترتِّباً على سائر الفضائل، من قبيل ما مضى عن بعضهم: من أنَّ الفضائل الثلاث ـ وهي: الحكمة، والعفَّة، والشجاعة ـ إذا اعتدلت نشأ عنها العَدل، فلا معنى لفرض العَدالة والظلم مِقياساً للفضيلة والرذيلة، بمعنى كونهما رأس الخيط لذلك.

ولو فسَّرنا العَدالة ـ كما مضى عن بعض آخر ـ بأنَّها عبارة عن انقياد العاملة للعاقلة في استعمال نفس العاقلة وقوتيْ الغضب والشهوة، كان هذا عبارة أُخرى عن أنَّ مِقياس الفضيلة والرذيلة هو العقل.

42

إلاَّ أنَّ هذه التفاسير للعَدالة لا ترجع إلى محصَّل، ولا نتصوَّر قوّة عاملة في البشر محرِّكة لسائر القوى كالقوة الغضبيّة التي فسَّروها بقوّة دفع المنافر، والشهويّة التي فسَّروها بقوّة جلب الملائم، أفليست هاتان القوّتان هما العاملتين، فتحتاجان إلى قوّة أُخرى تحركهما تُسمّى بالقوّة العاملة؟! كما لا نتصوّر فرضيّة كون سائر الفضائل موجبة لانتزاع فضيلة جديدة اسمها العَدالة.

وخير ما يقال في تفسير العَدالة والظلم هو: أنَّ العَدالة عبارة عن إعطاء ذي الحقِّ حقَّه، والظلم عبارة عن سلب ذي الحقِّ حقَّه.

وما قد يقال من: (أنَّ العَدالة عبارة عن وضع الشيء في موضعه، والظلم عبارة عن وضعه في غير موضعه) لا نفهم له مفهوماً إلاَّ برجوعه إلى ما قلناه: من إعطاء ذي الحقِّ حقَّه، وسلب ذي الحقِّ حقَّه. وأنت ترى أنّه لا معنى لثبوت الحقِّ إلاّ الانبغاء والضرورة الخُلُقيّة، فمعنى أنَّ فلاناً له حقٌّ عليَّ أن لا أُوذيه أو حقُّ أن أُحسن إليه هو: أنّه من الضرورة الخُلُقيّة وممّا ينبغي أن لا أُوذيه أو أُحسن إليه، وليس هذا إلاّ عبارة عن الحسن والقبح أو الفضيلة والرذيلة، إذن، فقولنا: العدل حسن أو الظلم قبيح قضيّة ضروريّة بشرط المحمول، وقد أُخذ محمولها في موضوعها، ويرجع روحها إلى أنَّ الحسن حسن والقبيح قبيح. وهذا هو السرُّ في أنّك لا ترى إنساناً اعتياديّاً يشكّك في هاتين القضيتين، فإنَّ الإنسان الاعتياديَّ لا يشكّك ـ طبعاً ـ في الضروريّة بشرط المحمول.

ومن هنا يتّضح أنَّ جعل العَدل والظلم مِقياساً للفضيلة والرذيلة ليس ـ أيضاً ـ إلاّ لَعِباً بالألفاظ.

وقد تحصَّل بكلِّ ما ذكرناه أنَّ الحسن والقبح أمران واقعيّان يدركهما العقل، وأنَّ المِقياس الأوّلي لهما هو درك العقل بالضرورة، ولهما مقاييس أُخرى مؤيَّدة من قبل العقل: كالدين الصحيح، وكالمصلحة والمفسدة في الجملة، كما أشرنا إليه فيما مضى.

43

 

 

 

 

النقطة الثانية

حقيقة الوجوب والاستحباب

أو الحرمة والكراهة في منطق العقل العملي

 

بعد أن عرفنا واقعيّة الحسن والقبح وإدراك العقل لهما، ولو على مستويات مختلفة ممّا وصل إليه الناس من الدرك بحسب اختلافهم في مستوى كمالهم العقليِّ بالحركة الجوهريّة، وأسمينا ذلك بالعقل العمليِّ، يقع الكلام في حقيقة الوجوب والاستحباب، أو الحرمة والكراهة في منطق العقل العمليِّ.

والواقع: أنَّ الحديث عن الفرق بين الوجوب والاستحباب، أو بين الحرمة والكراهة في منطق العقل العمليِّ يختلف عن الحديث عن ذلك في فقه الشريعة، ففي الفقه يقال عادة: إنَّ الفرق بين الوجوب والاستحباب هو: أنَّ الوجوب طلبٌ من الشريعة لا يطيب المشرِّع نفساً بمخالفة العبد له. والاستحباب طلبٌ من الشريعة يطيب المشرِّع نفساً بمخالفة العبد له.

وبتعبير أدقّ ـ حسب تحقيق نقَّحناه في علم الأُصول ـ: إنَّ الاستحباب طلبٌ مرافق لرغبة المولى في كون العبد حرَّاً في تصرّفه وأن لا يحسّ بالحرج ولا بدّيّة الإتيان بذلك الفعل. والوجوب طلب لا يرافق رغبة من هذا القبيل، بل يريد المولى إلزام العبد وتقيُّده بذلك المطلوب. وقلْ بنظير ذلك في الفرق بين الحرمة والكراهة.

وسواءٌ عبَّرنا بتعبير طيب نفس المولى بالترك وعدمه أو عبَّرنا بتعبير رغبة

44

المولى في حرّيّة العبد وعدمها، فالتعبير بكلا شكليه إنَّما يناسب فقه الشريعة؛ لأنَّ للمولى أمراً ونهياً ورغبةً وحكماً، وهذا لا يأتي في بحثنا عن العقل العملي؛ لأنَّ العقل ليس له حكم ورغبة بمعنى الكلمة، وإنَّما العقل شأنه الدرك لا أكثر، فلابدَّ من بيان فرق آخر في المُدرَك بالعقل العملي بين الوجوب والاستحباب، أو الحرمة والكراهة.

وما يمكن أن يُفتَرض في المقام كتفسير للفرق بين الأمرين أحد تفاسير ثلاثة:

فأوَّل تفسير قد يخطر في الذهن هو التفسير باختلاف الدرجة، بأن نقول: إنَّ الحَسَن الشديد الحُسن هو الواجب والقبيح الشديد القبح هو الحرام، وما بينهما متوسطات، والمتوسط الحقيقيُّ بينهما يكون مباحاً عقلاً لا يعدُّ فضيلة ولا رذيلة، فكأنَّ لدينا سُلَّماً واحداً، وقع في الدرج الأسفل النهائيِّ منه أشدُّ الرذائل المحرّمة، وفي الدرج الأعلى النهائيِّ منه أشدُّ الفضائل الواجبة، وبينهما متوسطات يخفُّ قبحها أو حسنها بمقدار بُعدها عن أحد القطبين، ويكون الوسط الحقيقيُّ في هذا السُلَّم هو رفُّ المباحات.

إنَّ هذا التفسير يشتمل على بعض المفارقات من قبيل:

1 ـ إنَّنا لا نمتلك حَدّاً مشخِّصاً لفصل الواجبات عن المستحبات، فيا تُرى هل يُفترض أنَّ الحسنَ البالغَ المترتبة السبعين هو الواجب، وما نقص عنه ولو مرتبة واحدة هو المستحب مثلاً أم ماذا؟

2 ـ إنّ لازم ذلك أن يصحَّ القول بأنَّ كلَّ ماهو حسن فنقيضه قبيح؛ لأنَّ الفعل ونقيضه ككفَّتي الميزان، وبقدر ما يصعد أحدهما ينزل الآخر، فبقدر ما يقترب الحُسن إلى ذروة السُلَّم يقترب نقيضه إلى أسفله، في حين أنّ هذا خلاف الوجدان، فإنّنا نرى بوجداننا أنَّ العفو حَسن وفي مرتبة عالية من الحسن، ولكنَّ القصاص ليس قبيحاً، وكيف يكون قبيحاً وهو حقٌّ؟! والحقَّانيّة لا تجتمع مع القبح.

45

3 ـ إنَّه لو وقع التزاحم بين قبيح في أقلِّ مراتب الحرمة وحَسَن غير بالغ مرتبة الوجوب، لزم أن يجوز ارتكاب ذاك القبيح، وتنتفي حرمته؛ وذلك لأنّه سيتنزَّل عن قبحه ولو جزئيّاً بالمزاحمة مع الحَسَن، وبهذا التنزَّل يخرج من حريم الحرمة؛ لأنّنا كنَّا قد فرضناه في المراتب الدنيا من الحرمة.

مثال ذلك:

ما لو كان كشف سرٍّ مختصر عن أَمر له ألف طرف يؤدِّي إلى الإضرار بواحد منهم إضراراً خفيفاً، وفي نفس الوقت يؤدِّي إلى نفع تسع مئة وتسعة وتسعين نسمة نفعاً كبيراً، فكانوا راضين بكشف السرِّ، ولم يكن تحقيق هذا النفع واجباً علينا، فياتُرى هل يصبح كشف السرِّ هذا جائزاً عقلاً، ولا نكون مُلزَمين أمام ذاك الواحد؛ لأجل أنّه استلزم نفع كثير من الناس ممّا لم يكن واجباً؟! كلاَّ إنّ ضميرنا لا يدلَّ على ذلك. وكذلك ضرب يتيم ضربةً ضعيفة لا يبكي منها إلاّ دقائق موجباً لنفع آخرين نفعاً هائلاً في غير ما يكون واصلاً حَدَّ الوجوب كإنجاء النفس من الهلكة مثلاً، فهل يجوز ظلم هذا اليتيم باقلِّ ظلم في سبيل إدخال نفع هائل في جيب آخرين والذي لولا استيجابه لظلم اليتيم لكان من أفضل الأعمال غير الواجبة؟! كلاَّ.

وعليه فلننتقل إلى تفسير ثان للوجوب والاستحباب، أو للحرمة والكراهة في باب الفضائل والرذائل العقليتين، وهو: أن نفترض للفضائل والرذائل سُلَّمين متباينين بدلاً عمّا مضى من افتراض سُلَّم واحد لها جميعاً، فهناك سُلَّم للفضائل، وهي: ما يكون فعلها حسناً، وسلم آخر للرذائل، وهي: ما يكون فعلها قبيحاً. وهما سُلَّمان متوازيان لا يلتقيان، ولا يستلزم حسن الشيء قبح نقيضه وبالعكس. ونفترض الفرق بين الوجوب والاستحباب فرق درجة، وكذلك الفرق بين الحرمة والكراهة.

46

وهذا التفسير ـ أيضاً ـ باطل؛ لأنّه لا يخلو من بعض المفارقات، من قبيل:

1 ـ لم يتّضح لنا ما هو الحَدُّ الدقيق بين الوجوب والاستحباب، والمفروض أنَّ الواجبات والمستحبَّات في سُلَّم واحد، والفرق بينهما فرق درجة. وكذلك لم يتَّضح لنا ما هو الحَدُّ الدقيق بين الحرمة والكراهة، والمفروض أنَّ المحرمات والمكروهات في سُلَّم واحد، والفرق بينهما فرق درجة. ولا أظن إمكان الوصول إلى حدٍّ مائز إلاّ بالاعتباط.

2 ـ يلزم من ذلك عدم استبطان الوجوب لعنصر الإلزام؛ لأنَّ الإلزام مساوق للذَّم على الترك، والذَّم على الترك مساوق لقبح الترك، وقد فرضنا عدم استلزام الحُسن قبح النقيض، وبالعكس. ولا معنى لفرض مساوقة شدة الحسن لقبح النقيض، فإنَّ الحسن الشديد لو ساوق قبح النقيض شديداً لكان الحسن الخفيف ـ أيضاً ـ مساوقاً لقبح النقيض، ولكن بدرجة أخفّ. وهذا رجوع إلى التصوير الأوّل الذي كان السلم فيه واحداً، أيْ: كان الحسن والقبح فيه عبارة عن نسبة كلّ من الفعل والترك إلى نقيضه في درجة الرجحان.

وعليه، فينحصر الأمر في التفسير الثالث، وهو أن يقال: إنَّ للحسن والقبح سُلَّمين: سُلَّم للحسن وسُلَّم للقبح، ويكون سُلَّم الحسن هو سُلَّم المستحبات والمكروهات، أيْ: أنَّ كلَّ حسن مستحب ونقيضه مكروه، وسلم القبح هو سلم الواجبات والمحرّمات، أيْ: أنَّ كلَّ قبيح حرام ونقيضه واجب.

وبكلمة أُخرى: إنَّ الحسن مهما بلغ ذروته لا يستبطن الإلزام، وإنَّما الإلزام عنصر مستبطن في القبح، فإنَّ الإلزام عبارة أُخرى عن استحقاق الذم على المخالفة، وهو عبارة أُخرى عن قبح المخالفة.

إذن، فالفرق بين الواجب والمستحبِّ في منطق العقل العملي عبارة عن أنَّ المستحبَّ ما لا يحكم العقل العملي بقبح تركه وإن حكم بحسن فعله، وعنصر

47

الحسن غير عنصر قبح الترك. ومهما صعد الحسن في سُلَّمه لا يعني قبح الترك، فالمستحبُّ ما يكون حسناً وليس تركه قبيحاً، كالعفو، والواجب ما يكون تركه قبيحاً، سواءٌ كان فعله حسناً بحسن آخر أو كان حسن فعله عبارة أُخرى عمَّا فيه من الاحتراز عن القبيح. وأيضاً نقول: المكروه العقليُّ ما يكون تركه حسناً من دون أن يكون فعله قبيحاً، وذلك من قبيل: القِصاص في مورد يحسن العفو. والحرام العقلي ما يكون فعله قبيحاً، سواءٌ كان تركه حسناً بحسن آخر أو كان حسن تركه عبارة أُخرى عمَّا فيه من الاحتراز عن القبيح.

ومثال ذلك:

إيذاء شخص بلا سبب فإنَّه قبيح وحرام عقلاً، وتركه لا حسن فيه إلاّ بمعنى مجانبة القبح؛ ولذا ترى أنَّ فاعل الإيذاء يستحقُّ الذمَّ والتقاصَ من قبل الشخص المؤذى، ولكن تارك الإيذاء لا يستحقَّ شكراً من قبل الشخص الذي لم يؤذه(1).


(1) مأخوذ من كتابنا مباحث الأُصول الجزء الأوّل من القسم الأوّل مبحث دلالة الأمر على الوجوب. تحت الخط ( مخطوط ).

48

 

49

 

 

 

 

النقطة الثالثة

في الجبر والاختيار

 

لا يخفى أنَّنا لو لم نؤمن بالحسن والقبح كمفهومين واقعيَّين خُلُقيَّين يستتبعان ـ عقلاً ـ استحقاق المدح والذمِّ، لا من سنخ مدح اللؤلؤ على ضوئه وبهائه وذمِّ حجر كريه المنظر على كراهة منظره، بل من سنخ استحقاق خُلقيٍّ يستتبع الثواب والعقاب، بل فرضنا أنّ الحسن والقبح ـ مثلاً ـ ليسا إلاّ أمرين اعتباريَّين ومجعولين من قبل العقلاء أو الشرع أو القانون؛ لحفظ المصالح ودرْء المفاسد، فهذا المعنى الخاوي للحسن والقبح عن المغزى الخُلُقيِّ ينسجم مع الجبر، كما ينسجم مع الاختيار، فحتَّى لو قلنا بالجبر قلنا: إنَّ جعل الحسن والقبح من قبل العقلاء أو القانون أو الشرع وفرض ثواب وعقاب على ذلك، إنَّما كان لفائدة انعطاف الإنسان إلى حفظ المصالح ودرْء المفاسد ولو جبراً.

ولكن بعد فرض الإيمان بأنَّ الضرورة الخُلُقيّة ـ وهي الانبغاء وعدم الانبغاء ـ أمرٌ واقعيٌّ يتبعه المدح والذمُّ الخُلُقيّان عن استحقاق عقليٍّ، وكذلك الثواب والعقاب، (وهذا ما ادَّعينا أنَّ الضمير والوجدان شاهدان عليه) فهذا لا ينسجم إلاَّ مع فرض الاختيار؛ لشهادة الوجدان بأنَّ المجبور لا يستحقُّ مدحاً ولا ذمّاً ولا ثواباً ولا عقاباً؛ كما أنَّ حركة يد المرتعش لا تمدح ولا تذمُّ ولا يثاب عليها ولا يعاقب عليها إن ترتّب عليها شيء.