127

والآن حان لنا الدخول في تحقيق أصل المطلب فنقول:

بعد أن وقع التعارض بين إطلاق كلّ من المنطوقين وإطلاق مفهوم الآخر في مثل قوله: (إذا خفي الأذان فقصّر) وقوله: (إذا خفي الجدران فقصّر)، فهل الصحيح رفع اليد عن إطلاق المنطوق، أو عن إطلاق المفهوم، أو تساقطهما بالتعارض والرجوع إلى أصل آخر؟

اختار المحقّق النائينيّ(رحمه الله) أنّ مقتضى القاعدة هو التساقط(1)، واختار السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ أنّ مقتضاها تقييد إطلاق المفهوم وتقديم إطلاق المنطوق(2).

 

تأثير مباني إثبات مفهوم الشرط في تحقيق المسألة:

والتحقيق في المسألة يرجع إلى الاختلاف في المباني في إثبات المفهوم، فعلى بعضها يتعيّن رفع اليد عن إطلاق المفهوم، وعلى بعضها يتعيّن رفع اليد عن إطلاق المنطوق، وعلى بعضها الثالث يتعيّن التعارض والرجوع إلى أصل آخر، فلابدّ من التكلّم على طبق المباني الماضية سابقاً من مباني القول بالمفهوم واحداً بعد واحد، ولا نلاحظ في تقرير المباني هنا مطابقته لترتيبه الذكريّ في السابق.

فنقول ـ ومن الله التوفيق ـ:

أحد المباني لإثبات المفهوم هو: التمسّك بالإطلاق الأحواليّ للشرط.



(1) راجع فوائد الاُصول، ج 1 ـ 2، ص 488 ـ 489 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم، وأجود التقريرات، ص 424 ـ 426 بحسب الطبعة المشتملة على تعليقات السيّد الخوئيّ(رحمه الله).

(2) راجع المحاضرات للفيّاض، ج 5، ص 108 بحسب مطبعة صدر بقم. وراجع تعليق السيّد الخوئيّ(رحمه الله) في أجود التقريرات، ج 1، ص 424 ـ 425.

128

وعلى هذا المبنى يتعيّن رفع اليد عن إطلاق المفهوم وإبقاء إطلاق المنطوق على حاله، والسرّ في ذلك: أنّ العلم الإجماليّ بكذب أحد الإطلاقين ـ أعني: إطلاق المنطوق وإطلاق المفهوم ـ منحلّ إلى العلم التفصيليّ بكذب إطلاق المفهوم والشكّ البدويّ في كذب إطلاق المنطوق، توضيح ذلك:

أنّ إطلاق المنطوق يثبت أنّ الحكم مترتّب على الشرط الذي هو خفاء الأذان مثلا، وإن لم يكن منضمّاً إلى شيء آخر وهو خفاء الجدران، وليس ترتّب الحكم عليه مقيّداً بانضمامه إلى شيء آخر.

وإطلاق المفهوم يثبت أنّ الشرط ـ وهو خفاء الأذان مثلا ـ علّة تامّة للحكم حتّى في حال اجتماعه مع خفاء الجدران.

وإذا علمنا بكذب أحدهما إجمالاً فقد علمنا بكذب الثاني تفصيلا، فإنّ المفروض أنّه إمّا أن يكون الإطلاق الثاني كذباً أو يكون الإطلاق الأوّل كذباً، فإن كان الإطلاق الثاني كذباً فقد ثبت أنّ خفاء الأذان في حال اجتماعه مع خفاء الجدران ليس علّة تامّة للحكم، وإن كان الإطلاق الأوّل كذباً فقد ثبت أنّه إذا لم يكن خفاء الأذان منضمّاً إلى خفاء الجدران لم يترتّب عليه الحكم، فينحصر ترتّب الحكم عليه في فرض اجتماعه مع خفاء الجدران، فلا محالة يثبت أنّه في حال اجتماعه مع خفاء الجدران يكون جزء العلّة للحكم لا تمام العلّة، فكونه في حال الاجتماع مع خفاء الجدران جزء العلّة لا تمام العلّة معلوم تفصيلا، فالإطلاق الثاني كذب يقيناً وإن شككنا في أنّ نقصانه ذاتيّ أو عرضيّ بملاك تزاحم العلّتين، وبعد القطع بكذب الإطلاق الثاني يستحيل إثبات الانحصار به، وكونه في حال الانفراد جزء العلّة أو تمام العلّة مشكوك فنتمسّك بالإطلاق الأوّل، فيثبت أنّه في حال الانفراد يترتّب عليه الحكم ويكون تمام

129

العلّة ويعلم بذلك أنّه ليس فيه نقصان ذاتيّ، فخفاء الأذان في نفسه علّة تامّة لثبوت الحكم.

هذا هو تقريب الكلام بالنسبة للجملة الاُولى، أعني قوله: (إذا خفي الأذان فقصّر). ويتأتّى عين ذلك بالنسبة للجملة الثانية، أعني قوله: (إذا خفي الجدران فقصّر). فثبت أنّ كلاًّ من الخفاءين في نفسه علّة تامّة، وإذا اجتمعا صار كلّ منهما جزء العلّة بطروّ النقصان العرضيّ(1).

 



(1) توضيح المطلب يتوقّف على استحضار تقريب الإطلاق الأحواليّ ولو إجمالاً، وهو: أنّنا بعد أن افترضنا أنّ القضيّة الشرطيّة تدلّ على اللزوم العلّيّ وكون الشرط علّة تامّة، دار الأمر بين كونه علّة منحصرة فينتفي الجزاء بانتفاء الشرط وهذا معنى ثبوت المفهوم، أو غير منحصرة فلا ينتفي الجزاء بانتفاء الشرط وهذا معنى عدم ثبوت المفهوم، أثبتنا الانحصار بالإطلاق الأحواليّ الذي يدلّ على ثبوت العلّيّة التامّة للشرط، حتّى في حال اقترانه بما يفترض كونه عِدلاً له، في حين أنّ افتراض كونه عِدلاً له يبطل علّيّته التامّة لدى اقترانهما؛ للزوم اجتماع علّتين على معلول واحد وهو محال.

والإيراد على ذلك بأنّ القضيّة الشرطيّة إنّما تدلّ على تماميّة العلّة ذاتاً ولا ينافي تحوّلها إلى جزء العلّة لدى الاجتماع بعلّة اُخرى ـ لأنّ هذا نقص عرضيّ لا ينفيه ظهور القضيّة الشرطيّة ـ إنّما هو إيراد على أصل التمسّك بالإطلاق الأحواليّ لإثبات المفهوم، فالآن نفترض غضّ النظر عن هذا الإشكال لكي تفترض تماميّة الاستدلال على المفهوم بالإطلاق الأحواليّ.

نقول عندئذ: إنّ التعارض بين المنطوق والمفهوم راجع في روحه إلى التعارض بين دلالتين للمنطوق: إحداهما دلالته على اللزوم العلّيّ، والاُخرى الإطلاق الأحواليّ، في حين أنّه إذا دار الأمر بين كذب دلالة (إذا خفي الأذان فقصّر) على العلّيّة التامّة وكذب

130

ثُمّ الانحصار بالنسبة لكلّ منهما إنّما انتفى بلحاظ صاحبه، وأمّا بلحاظ شيء ثالث فلم يحصل لنا علم تفصيليّ بكذب الإطلاق الثاني ولا مانع عن الأخذ به.

فتحصّل: أنّه بناءً على هذا المبنى يكون أصل المفهوم وإطلاق المنطوق محفوظين ونرفع اليد عن إطلاق المفهوم.

ولا يخفى أنّه بناءً على هذا المبنى لا حاجة بنا إلّا إلى التعرّض لإطلاقي المنطوق والمفهوم اللذين أشرنا إليهما، وقد عرفت أنّ الإطلاق الثاني نعلم بكذبه بمقدار نفيه لترتّب الحكم على عِدل الشرط المذكور في القضيّة الاُخرى، ويبقى إطلاق المفهوم بالقياس إلى احتمال عِدل ثالث محفوظاً، وكذلك يبقى إطلاق المنطوق أيضاً محفوظاً ولا حاجة إلى فتح حساب لإطلاق الجزاء المقتضي لكون المعلّق سنخ الحكم؛ لأنّ الإطلاقين الماضيين يكفيان على هذا المبنى لإثبات المفهوم(1).

 


دلالة (إذا خفي الجدران فقصّر) على الإطلاق الأحواليّ كان الثاني مقطوع الكذب؛ لأنّه إن كذب الأوّل انحصر الأمر في كون الشرطين بمجموعهما علّة تامّة، فلم يصبح خفاء الجدران في حال اجتماعه مع خفاء الأذان علّة تامّة ولا في حالة انفراده عنه. وإن صدق الأوّل لم يصبح خفاء الجدران في حال اجتماعه مع خفاء الأذان علّة تامّة ولو كان ذلك بسبب النقصان العرضيّ، فإذا استحال الإطلاق الأحواليّ على كلّ تقدير بطلت الدلالة على الانحصار التي هي منشأ المفهوم بلحاظ هذا العِدل، وإن كانت الدلالة على الانحصار في مقابل عِدل ثالث محتمل ثابتة على حالها.

(1) لأنّ المفهوم ثبت على أساس أنّ الإطلاق الأحواليّ اقتضى كون الشرط علّة تامّة

131

على أنّه لو فرض دخول هذا الإطلاق الثالث في دائرة المعارضة فإنّ هذا لا يغيّر في المقام من النتائج شيئاً؛ فإنّ فرض كذب هذا الإطلاق مساوق لعدم ثبوت المفهوم أيضاً كما هو الحال في الإطلاقين السابقين، وهنا أيضاً لا وجه لرفع اليد عن هذا الإطلاق بالمرّة، فأصل المفهوم أيضاً ثابت وإنّما المرتفع إطلاقه.

المبنى الثاني لإثبات المفهوم هو: التمسّك بالإطلاق العِدليّ للشرط، وهو الذي اختاره المحقّق النائينيّ(رحمه الله).

وعلى هذا المبنى يتعيّن القول بالتعارض والتساقط؛ وذلك لأنّ الإطلاق الدالّ على المفهوم على هذا المبنى عبارة عن إطلاق الشرط المقابل لأو، وما يعارضه عبارة عن إطلاق الشرط المقابل للواو، وقد علمنا إجمالاً بأنّ خفاء الأذان إمّا يكون جزء العلّة وهذا مناف للإطلاق المقابل للواو، أو أنّ له عِدلا وهو خفاء الجدران، وهذا مناف للإطلاق المقابل لأو، وليس لنا علم تفصيليّ بكذب أحد هذين الإطلاقين حتّى يتعيّن الأخذ بالإطلاق الآخر.

هذا. وأفاد المحقّق النائينيّ(رحمه الله): أنّ الإطلاق المقابل لأو، والإطلاق المقابل للواو قد تعارضا ولا مرجّح لأحدهما على الآخر، فيتساقطان ونرجع إلى الأصل العمليّ. والمتيقّن من ثبوت الجزاء هو ما لو اقترن الشرطان ولا يثبت الحكم لدى الافتراق، فالنتيجة تكون متّحدة مع فرض التحفّظ على إطلاق المفهوم دون المنطوق.

 


للحكم حتّى في حال اقترانه مع ما يفترض عِدلاً له، في حين أنّه يلزم من ذلك ـ لو كان حقّاً عِدلاً له ـ اجتماع علّتين على معلول واحد، وهذا المحذور ـ كما ترى ـ لا ينتفي بافتراض كون المعلّق شخص الحكم، فإنّه على أيّ حال نقول: لو وجدت علّتان تامّتان لحكم واحد فلو فرض أنّ شخص الحكم لم يتكرّر لزم صدور واحد شخصيّ من علّتين، ولو فرض تكرّره لزم اجتماع المثلين، وكلاهما محال.

132

ثُمّ أورد المحقّق النائينيّ(رحمه الله) على نفسه بأنّه يمكن أن يقال بتقديم إطلاق المنطوق على إطلاق المفهوم، أي: تقديم الإطلاق المقابل للواو على الإطلاق المقابل لأو؛ وذلك لأنّ الإطلاق المقابل لأو متأخّر رتبة عن الإطلاق المقابل للواو؛ لأنّ الإطلاق المقابل للواو ينتج تماميّة العلّة ثمّ نستفيد انحصار العلّيّة التامّة في ذلك بالإطلاق المقابل لأو.

وأجاب على ذلك بأنّه وإن كان أحد الإطلاقين في طول الآخر لكن ميزان التساقط هو العلم الإجماليّ بكذب أحدهما، وهذا العلم الإجماليّ نسبته إلى كلّ منهما على حدّ سواء، فلا محالة يتساقطان. وطوليّتهما في نفسهما لا توجب طوليّتهما في مقام طرفيّتهما للعلم الإجماليّ. فظهر: أنّ الإطلاقين متعارضان ومتساقطان والمرجع الأصل العمليّ المنتج نتيجة إطلاق المفهوم. هذا ما أفاده المحقّق النائينيّ(رحمه الله).

أقول: لو سلّم كون الإطلاق المقابل لأو في طول الإطلاق المقابل للواو ومتوقّفاً عليه، فلا محالة ينحلّ العلم الإجماليّ إلى العلم التفصيليّ بكذب الإطلاق المقابل لأو ـ المتوقّف على الإطلاق المقابل للواو ـ والشكّ البدويّ في كذب الإطلاق المقابل للواو.

وبكلمة اُخرى: إنّ الانحصار الموقوف على التماميّة معلوم الكذب؛ للعلم بأنّه إمّا لا يكون الانحصار ثابتاً وإن ثبتت التماميّة أو لا تكون التماميّة ثابتة، ومع فرض عدم التماميّة كيف يعقل ثبوت الانحصار المتوقّف على التماميّة؟ فالانحصار المتوقّف على التماميّة معلوم العدم(1)، فيتعيّن رفع اليد عن إطلاق المفهوم.

 


(1) إن قلت: إنّ الإطلاق المقابل لأو في كلّ منهما معارض للإطلاق المقابل للواو في

133

لكنّ الشأن في أصل شبهة الطوليّة، فإنّ كون الإطلاق المقابل لأو في طول الإطلاق المقابل للواو مبنيّ على دخل التماميّة في نكتة اقتناص المفهوم وهي الانحصار، فلابدّ أن تثبت أوّلا التماميّة بالإطلاق المقابل للواو ثمّ يثبت انحصار العلّيّة التامّة بالإطلاق المقابل لأو، لكنّا بيّنّا في السابق عدم دخل التماميّة وأنّه يكفي في اقتناص المفهوم إثبات كون العلّيّة منحصرة في الشرط، بمعنى عدم قيام شيء آخر مقامه فيما له من التأثير، سواء كان ما له من مقدار التأثير هو التأثير الناقص أو التأثير التامّ. وعلى كلّ حال ينتفي المعلول بانتفائه ولا حاجة إلى كون المراد بالانحصار خصوص انحصار العلّيّة التامّة حتّى تكون التماميّة مأخوذة في موضوع الانحصار. هذا.

وأمّا ما أفاده المحقّق النائينيّ(رحمه الله): من أنّه بعد تساقط الإطلاقين تثبت نتيجة إطلاق المفهوم بالأصل العمليّ، فأيضاً غير صحيح، سواء كان مراده خصوص المورد ـ أعني: مسألة التقصير ـ أو كان مراده كلّ ما كان من هذا القبيل من حيث تعدّد شرط القضيّتين واتّحاد جزائهما.

أمّا إذا كان مراده خصوص المورد فيرد عليه: أنّه لا تجري البراءة عن التقصير


الآخر، لا للإطلاق المقابل للواو في نفسه، وهو ليس في طول الإطلاق المقابل للواو في الآخر، وإنّما هو في طول الإطلاق المقابل للواو في نفسه، فلا يتولّد العلم التفصيليّ بكذبه.

قلت: التعارض سرى إلى أحشاء كلّ واحد من الدليلين بين إطلاقيه المقابل لأو والمقابل للواو؛ وذلك للعلم بالتلازم بين الإطلاقين المقابلين للواو في الدليلين صدقاً وكذباً؛ إذ لا يعقل فرض كون أحدهما جزء العلّة والآخر تمام العلّة، وإلّا لغت شرطيّة ما هو جزء العلّة؛ لأنّ ضمّه إلى تمام العلّة ضمّ للحجر إلى جنب الإنسان.

134

حتّى تثبت نتيجة إطلاق المفهوم؛ وذلك لمكان العلم الإجماليّ بوجوب القصر أو التمام، فتتعارض البراءة من الطرفين، وأمّا استصحاب وجوب التمام ففي فرض خروجه من بلده قبل الظهر ووصوله إلى مكان يختفي أحدهما يكون تعليقيّاً، فإنّه لو كان حلّ عليه الوقت قبل ساعة مثلا لكان يجب عليه التمام، ولكن لم يحلّ عليه الوقت قبل ساعة، والمحقّق النائينيّ(رحمه الله) لا يقول بجريان الاستصحاب التعليقيّ، فمقتضى الأصل العمليّ هو وجوب الاحتياط والجمع.

هذا كلّه بناء على أنّ الإطلاقات الأوّليّة إنّما تكفّلت بيان أصل وجوب الصلاة وأنّ القصر والتمام تنويع للمطلق، فالتمام إنّما ثبت بدليل التنويع في أدلّة القصر، وأمّا إذا قلنا باقتضاء الإطلاق الأوّليّ لوجوب التمام فهو المرجع بعد تساقط الإطلاقين(1).

وأمّا إذا كان مراده مطلق باب تعدّد شرط القضيّتين واتّحاد جزائهما فالإشكال فيه أوضح؛ إذ قد يكون الجزاء حكماً ترخيصيّاً نحو: (إذا كان الإنسان هاشميّاً لا يجب تقديم العلويّ عليه)، و(إذا كان الإنسان عالماً لا يجب تقديم العلويّ عليه)، فيقع الشكّ في أنّه إذا كان هاشميّاً فقط أو عالماً فقط فهل يجب تقديم العلويّ عليه أو لا، فتجري أصالة البراءة وتنتج نتيجة إطلاق المنطوق لا نتيجة إطلاق المفهوم.

بقي تمام الكلام في أصل ما أفاده المحقّق النائينيّ(رحمه الله): من أنّ الإطلاقين تعارضا ولا مرجّح لأحدهما على الآخر فيتساقطان، فنقول:



(1) نقل عنه(رحمه الله) في دورته الأخيرة أنّ المرجع هو إطلاق دليل التقصير على المسافر، فإنّ المتيقّن خروجه عنه هو ما إذا لم يخف الأذان ولا الجدران. نعم، لو قلنا ـ ولا نقول ـ بأنّ عنوان المسافر لا يصدق إلّا بعد خفائهما معاً فالمرجع إطلاق دليل التمام لو كان.

135

قد استشكل في ذلك السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ وذهب إلى أنّ مقتضى المعارضة هو تقديم المنطوق على المفهوم، فينتج أنّ كلاًّ من الخفاءين علّة مستقلّة للتقصير، وذلك ببيان مقدّمة:

وهي: أنّه مهما وقعت المعارضة بين دليلين فلابدّ من تطبيق قوانين باب التعارض عليهما لا على سواهما وذلك واضح.

وعلى هذا فلو فرض أنّ هناك دليلا ثالثاً ليس طرفاً للمعارضة ولكنّه لو تصرّفنا فيه ورفعنا اليد عن ظهوره لم تبق معارضة بين الدليلين، ففي مثل ذلك لا يجوز أن نتصرّف في الدليل الثالث رفعاً للمعارضة بين الدليلين الأوّلين؛ لأنّه ليس أحد المتعارضين، مثاله: لو ورد: (أكرم كلّ عالم)، وورد: (لا يجب إكرام زيد العالم)، واحتمل استحباب إكرامه فالدليل الثاني الخاصّ دليل على عدم وجوب إكرام زيد، وقد وقع طرفاً للمعارضة مع العموم الأوّل، ومقتضى قوانين باب التعارض هنا هو التخصيص والالتزام بوجوب إكرام كلّ عالم عدا زيد، لكن لو تصرّفنا في ظهور صيغة (أكرم) الظاهرة في الوجوب وحملناها على الاستحباب ارتفعت المعارضة بين الدليلين، وقد يكون رفع اليد عن ظهور الصيغة في الوجوب أهون من تخصيص (كلّ عالم) بناء على أنّ ثبوت الوجوب يكون بالإطلاق، ولكن هذا لا يجوز؛ لأنّ ظهور الصيغة في الوجوب ليس طرفاً للمعارضة، بل الذي وقع طرفاً للمعارضة هو العموم والخصوص.

إذا عرفت هذه المقدّمة قلنا فيما نحن فيه: لو قيّدنا المنطوقين معاً ورفعنا اليد عن إطلاقهما ـ أي: قيّدناهما بالواو ـ ترتفع المعارضة، ولكن ليس هذا عملا فنّيّاً في حلّ المعارضة، بل لابدّ أن نلاحظ طرفي المعارضة ونرى أنّ أيّهما حقيق بالتقديم على الآخر: فنقول: إنّ كلّ واحد من المفهومين معارض لمنطوق الآخر

136

ويقدّم المنطوق على المفهوم بالأخصّيّة، فإنّ مفهوم كلّ واحد منهما ينفي علّيّة أيّ شيء ما عدا شرطه للحكم، ومنطوق الآخر يُثبتُ العلّيّة التامّة للحكم لشيء خاصّ فيقدّم على ذلك المفهوم.

وبكلمة اُخرى نقول: إنّ مفهوم القضيّة الاُولى أنّه: إذا لم يخف الأذان لا يجب التقصير، سواء خفي الجدران أم لا، وهذه التسوية التي هي مفاد الإطلاق لها طرفان، ومنطوق الثانية يكون خصوص طرفه الأوّل فيقدّم عليه بالأخصّيّة، وكذا الكلام بالنسبة للقضيّة الثانية. هذا هو مراد السيّد الاُستاذ دامت بركاته.

أقول: تارةً: يقع الكلام فيما أفاده من المقدّمة، واُخرى: يقع الكلام فيما أفاده في خصوص ما نحن فيه:

أمّا الأوّل: فما أفاده (دامت بركاته) من الكبرى في المقدّمة ـ وهي: أنّه مهما تعارض دليلان كان مقتضى الفنّ إجراء قواعد التعارض فيهما لا في شيء ثالث ـ متين جدّاً، لكنّ الذي يظهر من تمثيله بما إذا ورد: (أكرم كلّ عالم)، وورد: (لا يجب إكرام زيد العالم): أنّ مدّعاه غير ما هو متين، وكان ينبغي أن يمثّل بما إذا ورد: (أكرم كلّ عالم)، وورد: (لا تكرم زيداً)، ولسنا نعرف أنّ زيداً عالم، لكن ورد: (زيد عالم)، فالدليل الثالث يحقّق موضوع العامّ ويوجب المعارضة بين الدليلين الأوّلين وليس هو طرفاً للمعارضة، وإذا رفعنا اليد عمّا يقتضيه ارتفعت المعارضة بين الدليلين الأوّلين، ومقتضى الفنّ هو تخصيص العامّ بالخاصّ لا رفع اليد عمّا يقتضيه الدليل الثالث؛ لأنّه ليس طرفاً للمعارضة.

وأمّا ما أفاده من المثال فلا تنطبق عليه الكبرى، فإنّ هذه الكبرى تختصّ بفرض كون الدليل الثالث منقّحاً لموضوع العامّ، وأمّا إذا لم يكن منقّحاً له فيستحيل كون التصرّف فيه موجباً لارتفاع المعارضة بين الدليلين إلّا إذا كان هو أيضاً طرفاً

137

للمعارضة، والبرهان على ذلك: أنّ انحلال المعارضة بالتصرّف في الدليل الثالث مساوق للقول بأنّ صدقهما معاً موقوف على كون الدليل الثالث بظاهره كذباً، وإلّا فلماذا تنحلّ المعارضة برفع اليد عن ظاهر الدليل الثالث؟

فظهر: أنّ صدقهما يستلزم كذب الثالث، وهذا مساوق لكون صدق الثالث مستلزماً لكذب أحدهما، فتحقّق العلم الإجماليّ بأنّه إمّا يكون الدليل الثالث كذباً أو يكون أحد الدليلين الأوّلين كذباً، وهذا علم إجماليّ منجّز، وهذا هو ملاك المعارضة في الأدلّة الاجتهاديّة، فصار الثالث طرفاً للمعارضة مع الجامع، فلو كان لهما ظهور أقوى من ظهور الثالث قدّما عليه وحكم بكذب الثالث.

وفي المثال الذي ذكره توجد ثلاث ظهورات: ظهور الخاصّ في نفي الإلزام، وظهور العامّ في العموم، وظهور الصيغة في الوجوب، ونعلم إجمالاً بكذب ظهور الصيغة في الوجوب أو كذب أحد الأوّلين، فإنّه إذا كانا صادقين فالصيغة كاذبة، ولذا يرتفع التعارض برفع اليد عن الصيغة، وإذا كانت الصيغة صادقة فأحدهما كاذب، فظهور الصيغة داخل في دائرة المعارضة.

وأمّا الوجه في أنّنا نجمع بين هذين الدليلين بتخصيص العموم لا بالتصرّف في ظهور الصيغة ـ مع أنّ ظهور الصيغة أيضاً داخل في دائرة المعارضة بما عرفته من البرهان ـ فهو: أنّ الخاصّ إنّما يصلح عرفاً قرينة لصرف ظهور ذلك العامّ في العموم لا لصرف ظهور تلك الصيغة في الوجوب، والبرهان على ذلك: أ نّا لو جمعنا بين الدليلين في عبارة واحدة حتّى لا يبقى ظهور لذي القرينة في مفاده الأصليّ بلحاظ المعنى المتحصّل وقلنا: (أكرم كلّ عالم ولا يجب إكرام زيد العالم)، رأينا أنّ المنتفي هو ظهور العامّ في العموم لا ظهور الصيغة في الوجوب، فثبت أنّ ذا القرينة هو العموم لا الصيغة.

138

فتحصّل: أنّ ظهور الصيغة في الوجوب طرف للمعارضة لكنّه طرف غالب فنتحفّظ عليه؛ لأنّ الخصوص يصلح قرينة للعموم لا للصيغة.

إن قلت: كما أنّه في هذا المثال يكون ظهور الصيغة في الوجوب داخلا في دائرة التعارض ـ لثبوت العلم بكذب أحدهما ـ كذلك الحال فيما مثّلتم به من فرض ورود ثلاثة أدلّة: (أكرم كلّ عالم)، و(لا تكرم زيداً)، و(زيد عالم) ولم نكن نعلم بعلم زيد، فالدليل الثالث صار سبباً للمعارضة، فإنّنا هنا أيضاً نعلم إجمالاً بكذب أحد الثلاثة فيقع التعارض بينها ثلاثيّ الأطراف.

قلنا: الفرق بين ما مثّلنا به وما مثّل به السيّد الاُستاذ هو أنّ في مثاله يكون كلّ من الثلاثة مكذّباً لأحد الآخرين على سبيل الترديد، فيستحيل التعبّد بها من باب استحالة التعبّد بالنقيضين. والوجه في ذلك التكذيب هو حجّيّة مثبتات الأمارة، وهذا هو السرّ في إمكان التعبّد بأصلين مع العلم الإجماليّ بمخالفة أحدهما للواقع، وعدم إمكان التعبّد بأمارتين كذلك؛ لأنّ مثبتات الاُصول ليست حجّة فلا يقع التكاذب بينها بخلاف الأمارات.

وأمّا في المثال الذي ذكرناه فشيء من الدليلين الأوّلين لا يكذّب الدليل الثالث ولو على سبيل الترديد بينه وبين الدليل الآخر، وذلك على ما هو الحقّ عندنا وعند السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ والمحقّق النائينيّ(رحمه الله) من أنّه إذا ورد: (أكرم كلّ عالم)، وورد: (لا تكرم زيداً) لم يثبت بهما أنّ زيداً ليس بعالم؛ إذ لو دار الأمر بين التخصيص والتخصّص لم يكن التخصّص أولى، فمثبتاتهما من هذه الناحية غير حجّة فيخرج الدليل الثالث عن دائرة التعارض رغم دخوله في دائرة العلم الإجماليّ بالكذب الموجب لانحلال التعارض برفع اليد عنه.

نعم، بناءً على أنّه مهما دار الأمر بين التخصيص والتخصّص تعيّن التخصّص،

139

يدخل الدليل الثالث ـ لا محالة ـ تحت المعارضة، ويستحيل حلّ المعارضة بالتصرّف في دليل غير داخل في دائرتها.

وأمّا الثاني: فالتحقيق أنّ ما صنعه ـ دامت بركاته ـ من ترتيب ما نحن فيه على ما ذكره من المقدّمة ممّا لا وجه له، فإنّ المعارضة فيما نحن فيه واقعة بين إطلاق كلّ من المفهومين وإطلاق منطوق الآخر، وهذه المعارضة تنحلّ برفع اليد عن أحد طرفيها وهما الإطلاقان، ولا ترتفع برفع اليد عن شيء ثالث حتّى يدخل تحت تلك المقدّمة.

وتوضيح ذلك: أنّ إطلاق جملة (إذا خفي الأذان فقصّر) يقتضي التقصير لدى خفاء الأذان حتّى لو لم يخف الجدران، وهذا ينافي إطلاق المفهوم لجملة (إذا خفي الجدران فقصّر)، وهذا التعارض لا يرتفع إلّا برفع اليد عن أحد هذين الإطلاقين، ولا أثر لرفع اليد عن ظهور ثالث في المقام وهو إطلاق منطوق (إذا خفي الجدران فقصّر)، فلنفترض أنّ هذا المنطوق لا إطلاق له ولا يدلّ على كفاية خفاء الجدران وحده في التقصير، لكن نرى مع ذلك أنّ إطلاق الجملة الاُولى ـ الدالّ على كفاية خفاء الأذان وحده للتقصير ـ مع مفهوم الجملة الثانية ـ الدالّ على انتفاء التقصير بانتفاء خفاء الجدران والذي هو ثابت حتّى لو فرض خفاء الجدران جزء علّة ـ متعارضان، فأين الظهور الثالث الذي يفترض أنّ رفع اليد عنه يرفع التعارض بين الظهورين الأوّلين؟

وقل نفس الكلام عن تعارض منطوق (إذا خفي الجدران فقصّر) ومفهوم (إذا خفي الأذان فقصّر).

نعم، رفع اليد عن إطلاقي المنطوقين يرفع التعارض بين منطوق كلّ منهما ومفهوم الآخر، لكن ليس هذا بملاك أنّ رفع اليد عن إطلاق كلّ واحد من

140

المنطوقين رفعٌ لليد عن ظهور ثالث غير مفهومه ومنطوق الآخر المتعارضين، بل بملاك أنّه رفعٌ لليد عن أحد المتعارضين اللذين هما عبارة عن نفس هذا المنطوق مع مفهوم الآخر، فالمدّعي لتقييد المنطوقين لا يدّعيه من باب كونه حلاًّ للمعارضة بالتصرّف في دليل ثالث، بل من باب كونه حلاًّ للمعارضة برفع اليد عن أحد المتعارضين.

فالاختلاف بينه وبين السيّد الاُستاذ ليس في جواز حلّ المعارضة بالتصرّف في دليل الثالث وعدمه، وإنّما الاختلاف بينهما يكون في أنّه إذا تعارض إطلاق المفهوم مع إطلاق المنطوق فأيّهما يقدّم على الآخر؟ فيدّعي السيّد الاُستاذ تقديم إطلاق المنطوق ويدّعي هو تقديم إطلاق المفهوم، فلا يصحّ الجواب عليه بأنّه لا يجوز التصرّف في دليل ثالث بسبب تعارض دليلين، ولا مساس لما نحن فيه بما أفاده من المقدّمة أصلا.

بقي الكلام فيما أفاده ـ دامت بركاته ـ: من أنّه بعد تعارض إطلاق المفهوم وإطلاق المنطوق يقدّم إطلاق المنطوق بالأخصّيّة.

وهذا أيضاً ممّا لا يمكن المساعدة عليه، بيانه: أنّ إطلاق مفهوم كلّ واحد منهما يقتضي كفاية انتفاء شرطه لانتفاء الحكم مطلقاً سواء ثبت شرط الآخر أو لا، أي: أنّ الإطلاق المقابل لأو دالّ على انتفاء علّة اُخرى تامّة للحكم، فلو فرض أنّ منطوق الآخر يدلّ بالوضع على كون شرطه علّة تامّة للحكم لكان ـ لا محالة ـ أخصّ من إطلاق المفهوم. وأمّا لو فرض أنّه لا يدلّ بالوضع على ذلك، وإنّما تكون دلالته على ذلك من ناحية دلالته بالإطلاق على أنّ الحكم يترتّب على هذا الشرط سواء انضمّ إليه شيء آخر أو لا، فلا محالة تكون النسبة بين هذا المفاد ـ وهو ترتّب الحكم على هذا الشرط سواء انضمّ إليه شيء آخر أو لا ـ وبين إطلاق

141

الأوّل المقابل لأو ـ الدالّ على انتفاء علّة تامّة اُخرى للحكم ـ عموماً من وجه، فمادّة الاجتماع هي فرض تحقّق شرط الثاني مع انتفاء شرط الأوّل، فإطلاق الأوّل يقتضي انتفاء الحكم وإطلاق الثاني يقتضي ثبوته، ومادّة الافتراق لأحد الطرفين هي فرض ثبوت كلا الشرطين، فإطلاق الأوّل لا يقتضي انتفاء الحكم وإطلاق الثاني يقتضي ثبوته، ومادّة الافتراق للطرف الآخر هو فرض انتفاء كلا الشرطين، فإطلاق الأوّل يقتضي انتفاء الحكم وإطلاق الثاني لا يقتضي ثبوته.

وقد تحصّل من جميع ما ذكرناه: أنّه على مبنى إثبات المفهوم بالإطلاق العِدليّ يتعيّن القول بتساقط الإطلاقين والرجوع إلى الاُصول أو العمومات الفوقانيّة.

ولا يخفى أنّ المعارضة في الحقيقة على هذا المبنى ليست بين خصوص الإطلاق المقابل لأو والإطلاق المقابل للواو، بل إطلاق الجزاء المقتضي لكون المعلّق سنخ الحكم أيضاً داخل في دائرة المعارضة، فإن رفعنا اليد عن الإطلاق الأوّل أو الثالث فقد تقيّد المفهوم ولا وجه لرفع اليد عن أصل المفهوم؛ لعدم مانع عن أصل أحد الإطلاقين. وإن رفعنا اليد عن الإطلاق الثاني فقد تقيّد المنطوق وبحسب الفنّ لم يظهر مرجّح لتقييد أحد الطرفين على الآخر.

المبنى الثالث لإثبات المفهوم هو: التمسّك بإطلاق أداة الشرط الدالّ على أنّ العلّيّة ثابتة لا لغير الشرط. ويمكن أن يدّعى عندئذ أنّ هذا الإطلاق معارض للإطلاق الأحواليّ المقتضي لكون الشرط علّة تامّة، ولا مرجّح لأحدهما على الآخر فيتساقطان.

وبكلمة اُخرى: إنّ الأمر دائر بين إنكار الانحصار الذي هو مقتضى أحد الإطلاقين وإنكار التماميّة الذي هو مقتضى الإطلاق الآخر، ولا مرجّح لأحد الإنكارين على الآخر.

142

ولكنّ التحقيق بناءً على هذا المبنى هو: أنّ إطلاق أداة الشرط الدالّ على أنّ العلّيّة ثابتة لا للغير مقيّد قطعاً، فإنّ العلّيّة ثابتة للغير إمّا بكون ذلك الغير جزء العلّة أو بكونه فرد العلّة؛ لفرض العلم الإجماليّ بانتفاء الانحصار أو التماميّة، فهذا الإطلاق المقتضي للمفهوم مقيّد بأحد قيدين، فإن كان مقيّداً بثبوت العلّيّة للغير على نحو الجزئيّة فالمفهوم باق على حاله، وإن كان مقيّداً بثبوت العلّيّة للغير على نحو الفرديّة فإطلاق المفهوم غير ثابت، وبما أ نّا قطعنا بأنّ إطلاق أداة الشرط مقيّد بقيد لم يبيّنه المولى نقطع بأنّ المولى لم يكن في مقام بيان القيد من ناحية أداة الشرط، فلا يثبت الإطلاق لأداة الشرط، فالإطلاق الأوّل المقتضي للمفهوم متيقّن العدم بهذا المقدار.

هذا كلّه مع قطع النظر عن دخول إطلاق الجزاء المقتضي لكون المعلّق سنخ الحكم في دائرة المعارضة، وأمّا بالنظر إلى ذلك فلا يقع فرق في النتيجة؛ لأنّ فرض رفع اليد من هذا الإطلاق بهذا المقدار أيضاً فرض لرفع اليد عن إطلاق المفهوم. وعلى كلّ حال فالمنتفي إنّما هو إطلاق المفهوم؛ لعدم مانع عن أصل الإطلاق المقتضي للمفهوم.

وقد ظهر من جميع ما ذكرناه: أنّ الفرق بين المباني الثلاثة في الإطلاق هو أنّه على المبنى الأوّل والثالث يكون إطلاق المنطوق ثابتاً على حاله، بخلافه على المبنى الثاني. وأمّا إطلاق المفهوم فساقط على جميع المباني الثلاثة: إمّا بالتعارض كما في المبنى الثاني، أو بكونه قدراً متيقّناً في الارتفاع كما في المبنى الأوّل والثالث، وأمّا أصل المفهوم فثابت على كلّ حال، فإذا شككنا في أنّه يوجد سبب ثالث للتقصير أو لا نتمسّك بالمفهوم؛ وذلك لأنّ المعارضة قائمة بمقدار إطلاق المفهوم لا بمقدار أصل المفهوم، والإطلاق الموجب للانتفاء عند الانتفاء قابل

143

للتبعيض والتحصيص فيسقط مقدار منه بالمعارضة ويبقى المقدار الآخر على حاله.

المبنى الرابع لإثبات المفهوم: دعوى دلالة أداة الشرط وضعاً على الترتّب اللزوميّ العلّيّ الانحصاريّ، وعليه فهذا الظهور الوضعيّ يعارض الظهور الإطلاقيّ في التماميّة، فإن قلنا بأنّ الظهور الوضعيّ مهما تعارض مع الظهور الإطلاقيّ يقدّم عليه بالحكومة ـ كما ذهب إليه الشيخ الأعظم والمحقّق النائيني(قدس سرهما) ـ اتّجه القول بتقديم المفهوم على إطلاق المنطوق، وإن قلنا بما هو المختار ـ تبعاً للمحقّق الخراسانيّ(قدس سره) ـ: من أنّه لا أساس لهذه الحكومة وإنّما يقدّم الظهور الوضعيّ في أغلب الموارد من باب الأقوائيّة، ولكن قد ينعكس الأمر ويكون الظهور الإطلاقيّ بحسب الارتكاز العرفيّ أقوى، فيتّجه أنّ المدار على الأقوائيّة، فإن لم يعلم فيما نحن فيه أنّ أيّهما أقوى ليقدّم يلتزم بالتعارض والتساقط؛ لعدم وجود مصحّح فنّيّ للتقديم، وإذا التزمنا بالتساقط انتفى المفهوم من رأسه لا خصوص إطلاقه؛ لأنّ الظهور الوضعيّ في الترتّب اللزوميّ العلّيّ الانحصاريّ لا يكون قابلا للتحصيص والتبعيض حتّى يرفع اليد عن بعض ويؤخذ ببعض آخر، وليس حاله حال الإطلاق الذي يحصّص بلحاظ الجهات.

ثُمّ أنّه لو ادّعي أنّ أداة الشرط تدلّ وضعاً على الترتّب اللزوميّ العلّيّ الانحصاريّ لسنخ الحكم، فالتعارض إنّما هو بين هذا الظهور والإطلاق الأحواليّ للشرط المنقّح للتماميّة، وأمّا لو ادّعي أنّ أداة الشرط تدلّ وضعاً على الترتّب اللزوميّ العلّيّ الانحصاريّ لما هو المعلّق فنحتاج إلى إثبات تعليق السنخ بالإطلاق في الجزاء، فهذا الإطلاق أيضاً داخل في دائرة المعارضة ولكن دخول ذاك الظهور الوضعيّ في دائرة المعارضة ـ بلا مرجّح لتقديمه ـ كاف في سقوط المفهوم رأساً.

144

فالنتيجة على كلّ حال تكون هي سقوط المفهوم رأساً مع إطلاق المنطوق إن لم نأخذ التماميّة في الظهور الوضعيّ.

أمّا إذا أخذنا التماميّة في الظهور الوضعيّ فالمرتفع إنّما هو المفهوم فحسب؛ إذ لا شكّ ـ بقرينة النصّ الآخر ـ في كذب العلّيّة الانحصاريّة التامّة لسنخ الجزاء(1)ويبقى إطلاق المنطوق محفوظاً، هذا.

وما قلناه: من سقوط المفهوم وإطلاق المنطوق إنّما يكون لأنّنا لم نفترض تقدّم الظهور الوضعيّ بالأقوائيّة. وأمّا لو افترضنا تقدّمه بالأقوائيّة ووقع التعارض بين الإطلاقين فقط فيتساقط إطلاق المنطوق وإطلاق المفهوم ويبقى أصل المفهوم سالماً(2).

المبنى الخامس لإثبات المفهوم: دعوى الانصراف إلى العلّيّة الانحصاريّة التي هي أكمل الأفراد.

وهذه تتصوّر بنحوين:

الأوّل: دعوى أنّ مقتضى الإطلاق هو كون المراد أكمل الأفراد؛ لاشتمال غيره على مؤونة زائدة، وعليه فيعارض هذا الإطلاق الإطلاق الأحواليّ المثبت للتماميّة، فيمكن أن يقال بالتعارض والتساقط.

ولكنّ التحقيق: أنّه على هذا المبنى لابدّ من التحفّظ على إطلاق المنطوق؛ لأنّ



(1) أو العلم الإجماليّ بكذبها أو كذب إطلاق الجزاء المثبت لتعليق السنخ.

(2) وأمّا لو افترضنا تقدّم الظهور الوضعيّ بالأقوائيّة وقلنا: لا حاجة إلى إطلاق الجزاء لإثبات تعليق السنخ ـ لأنّ المدلول الوضعيّ أصلا عبارة عن اللزوم العلّيّ الانحصاريّ للسنخ ـ فالساقط إنّما هو إطلاق المنطوق فحسب ويبقى المفهوم سالماً بإطلاقه.

145

عدم إرادة أكمل الأفراد مقطوع به وإن شككنا في أنّه هل لأجل عدم الانحصار أو لأجل عدم التماميّة، فالإطلاق المقتضي لإرادة أكمل الأفراد مقيّد بقيد مردّد بين أمرين ولم يبيّن ذلك القيد، فنعلم أنّ المولى لم يكن في مقام البيان من هذه الناحية، فالإطلاق المثبت لأكمل الأفراد ساقط يقيناً، فلابدّ من التحفّظ على الإطلاق الأحواليّ وبه يثبت أنّ الإطلاق الأوّل قيّد بعدم الانحصار لا بعدم التماميّة.

هذا كلّه مع قطع النظر عن دخول إطلاق الجزاء المقتضي لكون المعلّق سنخ الحكم في دائرة المعارضة، وأمّا بالنظر إليه فلا نقطع بتقيّد الإطلاق المثبت لأكمل الأفراد، بل يدور الأمر بين تقيّده وتقيّد هذا الإطلاق، وعلى كلّ حال يبقى إطلاق المنطوق ثابتاً على حاله. نعم، الفرق بين تقييد الإطلاق المثبت لأكمل الأفراد وتقييد إطلاق الجزاء هو أنّه إن قيّدنا إطلاق الجزاء لم ينتف المفهوم رأساً وإنّما ينتفي إطلاقه؛ لأنّ إطلاق الجزاء قابل للتحصيص. وأمّا إن قيّدنا الإطلاق المثبت لأكمل الأفراد فينتفي المفهوم رأساً؛ وذلك لأنّه إذا ثبت عدم إرادة الفرد الأكمل ـ وهو العلّة المنحصرة ـ فلا يفترق الأمر في ثبوت المؤونة بين وجود عِدل واحد للعلّة أو تعدّد العلل كثيراً، فإنّه على الثاني لا تتكثّر المؤونة، بل المؤونة في الجميع عبارة عن دخول حدٍّ مغاير لأصل العلّيّة في حقيقة الفرد. هذا.

وهناك مجال للقول بأنّ دخول هذا الإطلاق المثبت لأكمل الأفراد في دائرة المعارضة ـ بعد عدم مرجّح لتقديمه ـ كاف في سقوط المفهوم رأساً، فالنتيجة هي سقوط المفهوم رأساً.

ولكنّ التحقيق: أنّ العلم الإجماليّ بكذب أحد هذين الإطلاقين ينحلّ إلى العلم التفصيليّ بعدم كون المولى في مقام البيان من ناحية الجزاء والشكّ البدويّ

146

في تقييد الإطلاق الأوّل؛ لأنّه مع فرض عدم الإطلاق الأوّل لا ثمرة لإطلاق الجزاء، وأمّا مع فرض تقييد إطلاق الجزاء فتبقى الثمرة بالنسبة للإطلاق الأوّل ـ المثبت لإرادة أكمل الأفراد ـ ثابتة في نفي الثالث.

فظهر: أنّ التحقيق على هذا المبنى سقوط إطلاق المفهوم وثبوت أصل المفهوم وإطلاق المنطوق.

الثاني: دعوى الانصراف إلى أكمل الأفراد لا من ناحية اقتضاء الإطلاق ومقدّمات الحكمة، بل من ناحية ظهور عرفيّ في ذلك، وعليه فهذا الظهور العرفيّ معارض للظهور الإطلاقيّ في التماميّة.

وهنا أيضاً نقول: إنّ هذا الظهور العرفيّ مقطوع الكذب؛ للقطع بعدم إرادة أكمل الأفراد: إمّا لعدم الانحصار أو لعدم التماميّة، فنأخذ بالظهور الإطلاقيّ في التماميّة.

هذا لولا دخول إطلاق الجزاء في دائرة المعارضة، وأمّا بالنظر إلى ذلك فنقول: إنّ الأمر دائر بين رفع اليد عن الظهور في إرادة أكمل الأفراد ورفع اليد عن إطلاق الجزاء، فإن رفعنا اليد عن إطلاق الجزاء انتفى إطلاق المفهوم لا أصل المفهوم، وأمّا إن رفعنا اليد عن الظهور العرفيّ في إرادة أكمل الأفراد فإن ادّعينا ظهوراً في إرادة الأكمل فالأكمل فأيضاً لا ينتفي أصل المفهوم وإنّما ينتفي إطلاقه، وإلّا اتّجه انتفاء أصل المفهوم، وبناءً على عدم ادّعاء الظهور في إرادة الأكمل فالأكمل يمكن أن يقال هنا أيضاً: يكفي دخول الظهور العرفيّ في إرادة الأكمل في دائرة المعارضة في سقوط المفهوم رأساً، إلّا أن يدّعى أنّ هذا الظهور يقدّم على إطلاق الجزاء لحكومة الظهور العرفيّ على الظهور الإطلاقيّ، لكنّ المختار أنّه لا أساس لهذه الحكومة في المنفصلين، فقد يبدو للنظر أنّه بناءً على عدم ادّعاء الظهور في إرادة الأكمل فالأكمل يتّجه سقوط المفهوم رأساً.

147

إلّا أنّه هنا أيضاً يأتي التحقيق السابق، وهو: أنّ رفع اليد عن الظهور في أكمليّة الأفراد يوجب لغويّة إطلاق الجزاء، وتقييد إطلاق الجزاء لا يوجب لغويّة الأخذ بهذا الظهور، فالنتيجة أنّ المنتفي إطلاق المفهوم لا أصله.

المبنى السادس لإثبات المفهوم: ما ذهب إليه المحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله) من إثبات الانحصار بأنّ كون الشرط الجامع خلاف ظاهر الكلام، وكون الشرط شيئين بعنوانهما مع كفاية كلّ منهما وحده في الحكم خلاف قانون استحالة صدور الواحد بالنوع عن الكثير بالنوع.

والتحقيق: أنّه بناءً على هذا المبنى لا نحتاج في اقتناص المفهوم إلى جريان الإطلاق في الجزاء لإثبات كون المعلّق سنخ الحكم، فإنّه لو تمّ هذا المبنى كفى بنفسه لاقتناص المفهوم وإن كان المعلّق شخص الحكم، فإنّ الوحدة بالنوع التي هي النكتة في استحالة الصدور عن الكثير بالنوع لا ترتفع بفرض المعلّق شخص الحكم.

وعلى هذا فما هو داخل في دائرة المعارضة أمران: ظهور القضيّة في كون الشرط بعنوانه دخيلا، والإطلاق الأحواليّ المثبت للتماميّة. والأوّل أقوى من الثاني، فإنّ أصالة التطابق بين مقام الثبوت والإثبات عند احتمال أن يكون ما هو موجود في عالم الإثبات غير موجود في عالم الثبوت، أقوى من أصالة التطابق بينهما عند احتمال أن يكون ما ليس بموجود في عالم الإثبات موجوداً في عالم الثبوت بحيث تقدّم عليها عند المعارضة، وعلى هذا فالمتّجه تقييد إطلاق المنطوق مع التحفّظ على أصل المفهوم وإطلاقه.

المبنى السابع لإثبات المفهوم هو: دعوى وضع الأداة للتعليق بمعنى كون اللزوم منظوراً بالعين اليسرى، أو دعوى الظهور العرفيّ في ذلك ولو في بعض

148

الموارد كفرض تقدّم الجزاء على الشرط، وعليه فهذا الظهور الوضعيّ أو العرفيّ يكون معارضاً للإطلاق الأحواليّ المثبت للتماميّة وإطلاق الجزاء المثبت لكون المعلّق سنخ الحكم، فإن قلنا بأقوائيّة الأوّل دار الأمر بين تقييد الثاني والثالث، فيتساقط إطلاق المنطوق مع إطلاق المفهوم بالمعارضة وأصل المفهوم لا ينتفي، وإلّا فذلك الظهور أيضاً يسقط بالمعارضة فينتفي أصل المفهوم مع إطلاق المنطوق.

هذا مع قطع النظر عن نكتة لغويّة إطلاق الجزاء على فرض رفع اليد عن الظهور في التعليق وعدم لغويّة الأخذ بالظهور في التعليق على فرض تقييد إطلاق الجزاء، وأمّا بالنظر إلى ذلك فالمعارضة إنّما هي بين الإطلاقين فيتساقط إطلاق المنطوق والمفهوم دون أصل المفهوم.

المبنى الثامن لإثبات المفهوم: ما هو المختار من أنّ كون الشرط الجامع خلاف الظاهر، وكون كلّ منهما شرطاً بعنوانه مستقلاّ خلف فرض تعليق الشخص.

وعلى هذا فإن قلنا: إنّ المعارضة وقعت بين كون الشرط بعنوانه دخيلا والإطلاق الأحواليّ المثبت للتماميّة وتساقطا انتفى المفهوم رأساً مع إطلاق المنطوق، فإنّه بعد أن فرض عدم ثبوت كون الشرط بعنوانه دخيلا فاحتمال كون الدخيل هو الجامع بين الاثنين مع احتمال كون الدخيل هو الجامع بين أزيد من ذلك ـ كخفاء معالم البلد ـ على حدّ سواء وليس للأوّل مرجّح على الثاني، لكنّ التحقيق: ما مضى من أنّ أصالة التطابق بين عالم الإثبات والثبوت فيما هو موجود في عالم الإثبات أقوى منها فيما ليس موجوداً فيه، وكون الشرط بعنوانه غير دخيل يستلزم أن يكون ما هو الموجود في عالم الإثبات غير موجود في عالم الثبوت، فهذا الظهور يتحفّظ عليه، فينحصر الأمر في تقييد الإطلاق المثبت للتماميّة فيتعيّن تقييد إطلاق المنطوق والتحفّظ على أصل المفهوم وإطلاقه.

149

هذا لو لم يكن إطلاق الجزاء المثبت لكون المعلّق سنخ الحكم داخلا في دائرة المعارضة، لكنّه داخل فيها، فالأمر ليس منحصراً في تقييد الإطلاق المثبت للتماميّة، بل يدور الأمر بين تقييده وتقييد إطلاق الجزاء، فبالتعارض يتساقط إطلاق المنطوق والمفهوم معاً ويبقى أصل المفهوم سالماً.

ثُمّ أنّه قد ظهر ممّا ذكرناه: أنّ الأمر دائر بين تقييد هذين الإطلاقين: أعني: الإطلاق الأحواليّ المقتضي للتماميّة وإطلاق الجزاء، وأمّا ظهور كون الشرط بعنوانه دخيلا فلابدّ من التحفّظ عليه، كما تشهد لذلك قاعدة الميرزا التي تقول: تشخّص القرينة من ذي القرينة في المنفصلين بوصل أحدهما بالآخر، فما كان قرينة حين الوصل فهي القرينة حين الفصل وكذلك ذو القرينة.

وهنا نرى أنّه لو جمعنا بين القضيّتين بنحو في كلام واحد انتفى أحد الإطلاقين، ولو جمعنا بينهما بنحو آخر انتفى الإطلاق الآخر وبقي ذلك الظهور على كلا الفرضين محفوظاً، فلو قلنا: (إذا خفي الأذان والجدران فقصّر)، انتفى الإطلاق الأحواليّ المقتضي للتماميّة، ولو قلنا: (إذا خفي الأذان فقصّر وإذا خفي الجدران فقصّر)، انتفى إطلاق الجزاء، وعلى كلّ حال يكون ظاهر الكلام أنّ الشرط المذكور بعنوانه دخيل في الحكم، والسرّ في ذلك ما بيّنّاه من أنّ أصالة تطابق عالم الإثبات والثبوت بالنسبة إلى الموجود في عالم الإثبات أقوى منها بالنسبة إلى المعدوم فيه.

والشاهد على هذا من سيرة العلماء هو جريان دأبهم وديدنهم قديماً وحديثاً على حمل المطلق على المقيّد مع أنّه من المحتمل أن يكون ذكر المقيّد من باب ذكر أحد الأفراد لنكتة، وإنّما يرتفع هذا الاحتمال بأصالة التطابق بين عالم الإثبات والثبوت، وبما أنّ هذا الأصل في جانب المقيّد يكون بلحاظ ما هو

150

موجود في عالم الإثبات يكون مقدّماً على أصالة التطابق في جانب المطلق التي هي بلحاظ عدم الوجود في عالم الإثبات.

بقي هنا شيئان:

الأوّل: قد عرفت أنّ مقتضى بعض المباني تعيّن سقوط إطلاق المنطوق، ومقتضى بعضها تعيّن سقوط إطلاق المفهوم، وعلى هذين القسمين يبقى أحد الإطلاقين سالماً عن المعارض، ومقتضى بعضها معارضة إطلاق المنطوق مع أصل المفهوم وتساقطهما لعدم مرجّح لأحدهما على الآخر. ومقتضى بعضها معارضة إطلاق المنطوق وإطلاق المفهوم وتساقطهما لعدم مرجّح لأحدهما على الآخر، وعلى هذين القسمين الأخيرين نقول: إنّ مقصودنا ممّا ذكرناه من تعيّن التعارض والتساقط لعدم المرجّح إنّما هو بيان ما يقتضيه الفنّ. وبعبارة اُخرى: إنّا لم نستطع فنّيّاً من إثبات مرجّح لأحدهما على الآخر، وليس المقصود أنّه استطعنا فنّيّاً من إثبات عدم المرجّح لأحدهما على الآخر، فإنّه لم يثبت ذلك بالفنّ، وعلى هذا فلا مانع من ثبوت مرجّح لأحدهما على الآخر بحسب الذوق العرفيّ.

هذا. ونحن نرى وجداناً بحسب الذوق العرفيّ أنّ المتفاهم من القضيّتين الشرطيّتين المتّحدتين جزاءً والمختلفتين شرطاً كالمثال المتقدم، وكقولنا: (إن جاءك زيد فأكرمه)، مع قولنا: (إن مرض زيد فأكرمه)، كون كلّ من الشرطين تمام الموضوع لوجوب الإكرام(1)، ولعلّ السرّ في ذلك أنّ اهتمام العرف والعقلاء في


(1) كان يدّعي(رحمه الله) هذا الظهور حتّى مع فرض اقتناص المفهوم بملاك التعليق، كأن يقال: وجوب إكرام زيد معلّق على مجيئه، ويقال: وجوب إكرام زيد معلّق على مرضه.

151

محاوراتهم ببيان تمام أجزاء موضوع واحد أزيد من اهتمامهم ببيان تمام موضوعات حكم واحد، فأصالة التطابق بين عالم الإثبات والثبوت في الأوّل أقوى منها في الثاني، ولست أقول: إنّ هذا برهان فنّيّ على المطلب، بل أقول: إنّه لا إشكال في أنّ مقتضى الفهم العرفيّ هو التحفّظ على إطلاق المنطوق ويحتمل كون سرّه ذلك، كما أنّه لا إشكال في أنّ مقتضى الفهم العرفيّ هو التحفّظ على أصل المفهوم في مقام نفي الثالث، وذلك كاشف إنّيّ عن بطلان حصر إثبات المفهوم بمبنى اقتضى تعيّن رفع اليد عن إطلاق المنطوق، أو كون المعارض لإطلاق المنطوق ذات المفهوم لا إطلاقه.

الثاني: إذا قبلنا من تلك المباني مبنيين: أحدهما يقتضي كون المعارض لإطلاق المنطوق ذات المفهوم، والآخر يقتضي كون المعارض لإطلاق المنطوق إطلاق المفهوم، فهل يكون عندئذ المعارض لإطلاق المنطوق ذات المفهوم أو إطلاقه؟

مقتضى التحقيق في هذا المقام أن يقال: إنّ المفهوم ـ لولا مسألة المعارضة ـ ثابت بنكتتين؛ لفرض قبول مبنيين، فإطلاق المنطوق يعارضه كلّ من تلك النكتتين على حدة، فهنا علمان إجماليّان: أحدهما: العلم الإجماليّ بكذب إطلاق المنطوق أو النكتة الاُولى للمفهوم. وثانيهما: العلم الإجماليّ بكذب إطلاق


لكنّ الظاهر منع هذا الظهور في فرض ثبوت المفهوم بالتعليق أو بظهور الكلام في كونه وارداً مورد التحديد لتمام ما في عالم الثبوت من عِدل، كما في الحكم بالتقصير بأحد الخفاءين، وإن كان هذا الظهور ثابتاً في غير هذين الفرضين، وهذا الفرق بنفسه شاهد على عدم ثبوت المفهوم في غير هذين الفرضين حتّى تصل النوبة إلى المعارضة، وإلّا فما هو السرّ في هذا الفرق؟