583

إلا أنّ إثبات القصاص بمجرّد النكول الذي قلنا _ فيما سبق _ إنّه مشكل يصبح بإضافة فرض عدم مدّعٍ بالادّعاء الجزمي للقتل أكثر إشكالاً، فإنّ الروايات لم تدل على أكثر من الدية، وصحيح أنّ في موردها لم يكن يمكن شيء غير الدية باعتبار عدم تعيُّن القاتل، ولكن المقصود أنّ الدليل لم يرد إلا في الدية، فإثبات القصاص مشكل.

هذا تمام ما أردنا بيانه في المورد المستثنى من قاعدة «أنّ البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر»، وهو مورد اللّوث في الدم.

في مورد اتهام العامل

وهناك مورد آخر قد يخطر بدواً في البال خروجه عن القاعدة بثبوت البيّنة على المنكر، وهو مورد اتّهام العامل كالقصّار والغسّال والصبّاغ بالخيانة أو الإتلاف. وذلك لما ورد عن الحلبي _ بسند تام _ عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال في الصائغ والقصّار: «ما سرق منهم من شيءٍ فلم يخرج منه على أمر بيّن أنّه قد سرق، فكلّ قليل له أو كثير فهو ضامن، وإن فعل فليس عليه شيء، وإن لم يقم البيّنة، وزعم أنّه قد ذهب الذي ادُّعي عليه فقد ضمنه، إلا أن يكون له على قوله بيّنة»(1).

وما ورد عن أبي بصير _ بسند تام _ عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «سألته عن القصّار دفعت إليه ثوباً، فزعم أنّه سرق من بين متاعه قال: فعليه أن يقيم البيّنة أنّه سرق من بين متاعه، وليس عليه شيء، فإن سرق متاعه كلّه فليس عليه شيء»(2).

وجه الاستدلال أنّ العامل هنا منكر؛ لأنّه باعتباره أميناً لا يضمن التلف إلا


(1) نفس المصدر، ج12، ص272، الباب 29 من أحكام الإجارة، ح2. وقد أخذنا المتن من التهذيب، ج7، ح952.

(2) نفس المصدر، ح5.

584

بتفريط منه أو إتلاف، وهو ينكر ذلك، ومع ذلك دلّت الروايتان على أن عليه البيّنة.

وفي حديث آخر جاء ذكر البيّنة والحلف معاً، وهو ما عن أبي بصير _ بسند تام _ عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «لا يضمن الصائغ ولا القصّار ولا الحائك إلا أن يكونوا متّهمين، فيخوّف بالبيّنة ويستحلف؛ لعله يستخرج منه شيئاً»(1). وجملة «فيخوّف بالبيّنة» واردة في التهذيب(2)، وأمّا في الفقيه فجاء بدلاً عنها: «فيجيئون بالبيّنة»(3).

وفي حديث آخر جاء ذكر الحلف فقط، وهو ما عن بكر بن حبيب قال: «قلت لأبي عبداللّه (عليه السلام) أعطيتُ جبّة إلى القصّار، فذهبت بزعمه؟ قال: إن اتّهمته فاستحلفه، وإن لم تتّهمه فليس عليه شيء»(4). وسند الحديث غير تام؛ لأنّ بكر ابن حبيب لم تثبت وثاقته.

ولهذه الروايات عدة محامل:

الأول _ أن يقال: إنّ مقتضى الجمع بينها هو أنّ هذا العامل إمّا أن يأتي ببيّنة أو يحلف؛ إذ الحلف أيضاً قد ورد في بعض هذه الروايات، وهذا غير فرض أن تكون عليه البيّنة، ولعلّ الاكتفاء بالبيّنة منه _ رغم أنّ المنكر لا يُكتفى منه بالبيّنة بناءً على أنّ على المنكر الحلف _ كان بسبب أنّ المدّعي ليس هنا جازماً بالدعوى؛ إذ لا جزم بخيانة العامل أو إتلافه، ولهذا جعل السيد الخوئي مورد اتّهام العامل مستثنىً من قاعدة أنّ المدّعي يجب أن يكون جازماً في دعواه. وهنا لا يتصوّر _ أصلاً _ إلزام


(1) وسائل الشيعة، ج12، ص272، الباب 29 من أحكام الإجارة ، ص274، ح11.

(2) ج7، ح951.

(3) الفقيه، ج 3، ح 715.

(4) وسائل الشيعة، ج13، ص275، الباب 29 من أحكام الإجارة، ح16.

585

العامل بالبيّنة إلا بمعنىً يجعله أشدّ حالاً من المدّعي في الموارد الأُخرى؛ إذ معنى إلزام المدّعي بالبيّنة أنّه لو لم يأتِ بها، فصاحبه يأخذ بالحقّ بيمينه، أمّا هنا فهذا المنكر لو لم يأتِ بالبيّنة، لم يكن بإمكان صاحبه أن يأخذ بالحقّ بيمينه؛ لأنّه غير جازم ببطلان ما يقوله العامل، فإلزام العامل بالبيّنة من دون فسح المجال له للحلف يعني أنّه لو لم يمتلك البيّنة ثبت الحقّ لصاحبه من دون يمينه، وهذا معنى ما قلنا من أنّه لزم من ذلك كون المنكر هنا أشدّ حالاً من المدّعي في سائر الموارد.

الثاني _ أن يقال: إنّ اتّهام العامل جُعل هنا أمارةً شرعيّةً على خيانته أو إتلافه، فأصبح كلامه خلاف الحجّة، إذاً هو مدّعٍ، وليس منكراً، وعليه البيّنة، فإن لم يمتلك تصل النوبة إلى حلفه؛ لأنّ المنكر هنا ينكل عن القسم لعدم الجزم.

ولو تمّ هذا الاحتمال لكان لازمه أنّ من حقّ المنكر شرعاً أن يعمل وفق إنكاره قبل المرافعة وقبل أن يطالبه ببيّنة أو يمين، وذلك بأن يقتصّ منه بأخذ شيء من ماله قهراً عليه، كما هو الحال في كلّ منكر، فإنّه يجوز له أن يجري في عمله وفق إنكاره إلى أن يلزم بحكم القاضي في صالح المدّعي، فعندئذٍ يجب عليه التنازل عن رأيه رغم علمه بصحّة رأيه. وهذه _ كما ترى _ مؤونة زائدة لم تدل عليه هذه الروايات.

الثالث _ أن يقال: إنّ فرض كون العامل منكراً إنّما يكون في ما إذا علم بالتلف وشكّ في إتلاف العامل إيّاه، ولكن لا إشارة في هذه الروايات إلى العلم بالتلف، فلا يبعد أن يكون المقصود هو أنّ من المحتمل بقاء العين، وعليه فالعامل الذي يدّعي التلف يكون مدّعياً _ وليس منكراً _ وعليه البيّنة، فإن لم تكن له البيّنة وصلت النوبة إلى يمين المنكر، وبما أنّ المنكر ينكل عن اليمين _ لعدم جزمه _ يُردّ اليمين على المدّعي. وعليه فجعل السيد الخوئي لهذا المورد استثناءً عن قاعدة لزوم كون المدّعي جازماً في دعواه غير صحيح.

587

البيّنة

4

 

 

مدى نفوذ بيّنة المنكر

 

 

  1- مقتضى قاعدة (البيّنة على المدّعي....)

  2- مقتضى الروايات الخاصّة

  3- مدى إمكان الترجيح بالعدد

  4- توهّم كون اليمين على البيّنة

 

 

589

مدى نفوذ بيّنة المنكر

البحث الرابع _ في مدى قبول البيّنة من المنكر وعدمه:

نُسب إلى المشهور أنّ البيّنة لا تقبل من المنكر، وإنّما تقبل البيّنة من المدّعي، فمع تعارض البيّنتين ترجّح بيّنة الخارج.

مقتضى قاعدة «البيّنة على المدعي...»

وقد تفسّر رواية «البيّنة على المدّعي واليمين على من ادّعي عليه»(1) بمعنى أنّ المدّعى عليه إنّما يقبل منه اليمين ولا تُقبل منه البيّنة.

إلا أنّ هذا التفسير مُشكل؛ لأنّ الرواية إنّما دلّت على أنّ المدّعي هو الذي يطالب بالبيّنة، وأنّ المنكر هو الذي يطالب باليمين، أمّا أنّه لو قدّم المنكر البيّنة فلا قيمة إطلاقاً لبيّنته، فهذا مطلب آخر لم يتعرض له الحديث.

كما أنّه ليس من الصحيح أيضاً تفسير الرواية بأنّه لا قيمة لبيّنة المنكر في عرض بيّنة المدّعي بأن يقال: لو أقام المدّعي البيّنة حكم الحاكم وفق بيّنته وإن كان المنكر أيضاً يمتلك البيّنة. أمّا لو لم يُقِم المدّعي البيّنة فلو قيل بنفوذ بيّنة المنكر لم يكن هذا


(1) وسائل الشيعة، ج18، ص170 _ 172، الباب 3 من كيفيّة الحكم، ح1 و2 و3 و6.

590

مخالفاً لما يفهم من هذه الرواية، فإنّ هذا التفسير يرد عليه: أنّ قوله (عليه السلام): «اليمين على المدّعى عليه» لو دلّ على سقوط بيّنة المنكر عن الاعتبار فهذه الدلالة لا تختصّ بفرض امتلاك المدّعي للبيّنة، بل إنما جعل قاعدة «اليمين على المدّعى عليه» لكي تصل النوبة إلى يمين المنكر بعد عجز المدّعي عن إثبات مُدّعاه بالبيّنة ولو لم يدل على سقوط بيّنة المنكر عن الاعتبار؛ إذاً لا مبرّر لهذا التفسير.

والمحتملات بدواً في قوله (عليه السلام): «البيّنة على المدّعي واليمين على المدّعى عليه» ثلاثة:

الأول _ أن يكون قوله (عليه السلام): «اليمين على المدّعى عليه» إشارة إلى رفض البيّنة من المنكر، وأنّه ليس عليه إلا اليمين، ولا يقبل منه إلا اليمين، وعليه فالرواية تدل على مقالة المشهور.

إلا أنّ هذا يرد عليه ما قلناه: من أنّ الحديث إنما يدل على أنّ المنكر ليس عليه إلا اليمين، أمّا دلالته على أنّه لا تقبل منه البيّنة بأيّ درجة من درجات القبول، فهذا ممّا لم نعرف الدالّ عليه.

الثاني _ أن يقال: إنّ الرواية إنّما دلّت على أنّ المدّعي هو الذي يطالَب بالبيّنة، والمنكر هو الذي يطالَب باليمين، أمّا عدم نفوذ بيّنة المنكر فلم تدل عليه الرواية. إذاً فنحن نتمسّك بإطلاق دليل نفوذ البيّنة لإثبات نفوذ بيّنة المنكر، وليكن ذاك الإطلاق هو نفس قوله «البيّنة على المدّعي» المشير حسب دلالة المقام إلى ما هو بيّنة على الواقع، وكاشفٌ عنه عقلائيّاً قبل مرحلة القضاء.

والنتيجة أنّه لو لم يمتلك المدّعي البيّنة، وأقام المنكر البيّنة قبلت منه، ولم تكن هناك حاجة إلى يمينه، ولو أقاما معاً البيّنة تعارضتا وتساقطتا ووصلت النوبة إلى يمين المنكر.

591

ويرد عليه: أنّ قوله: «اليمين على من ادّعي عليه» قد دلّ بإطلاقه على أنّ المنكر عليه اليمين _ سواء أقام بيّنةً أو لا _ وهذا يدل لا محالة على عدم كفاية البيّنة لإثبات ما يريده المنكر؛ إذ لو كفت لما احتجنا إلى يمين المنكر.

نعم هذا لا يعني سقوط بيّنته عن الاعتبار نهائياً بأن لا تصلح لمعارضة بيّنة المدّعي؛ كي يكون هذا رجوعاً إلى الاحتمال الأول، ولكنه يعني أنّ بيّنته ليست كبيّنة المدّعي كافيةً وحدها لإثبات المطلوب.

أمّا دلالة المقام لجملة «البيّنة على المدعي» فلو تمّت على الحجّية القضائية للبيّنة _ لا الذاتيّه فحسب _ فإنّما تتمّ لولا قوله: «اليمين على من ادّعي عليه» فإنّ هذا منعٌ _ لا محالة _ عن الحجّية القضائية لبيّنة المنكر، وإنّما ارتكاز العقلاء على حجّية البيّنة، فلو تمّ على الحجّية القضائية بالنسبة للمنكر فهو مردوع عنه بقوله: «اليمين على من ادّعي عليه».

الثالث _ ما هو مقتضى التحقيق في المقام، وهو أن يقال: إنّ بيّنة المنكر ليست ساقطة عن الاعتبار نهائياً كما هو الحال على الاحتمال الأول، ولا هي حجّة قضائيّاً كما هو الحال على الاحتمال الثاني، وإنّما هي حجّةٌ حجّيةً ذاتيةً، أي بالحجّية الثابتة قبل القضاء، والحجّية الذاتية غير الحجّية القضائية، فربّ شيءٍ يكون حجّةً ذاتاً، وليس حجّة قضاءً كاليد، وربّ شيءٍ يكون حجّةً قضاءً وليس حجّةً ذاتاً كاليمين، والرواية دلّت بإشارة المقام على أنّ البيّنة التي هي حجّة ذاتاً عند العقلاء وكاشفة عن الواقع بحدّ ذاتها تكون في باب القضاء على المدّعي، ففي الرواية إمضاء للحجّية العقلائية الذاتية للبيّنة بالحدود التي يؤمن بها العقلاء، ولا إشكال في أنّ البيّنة بحدّ ذاتها حجّة على الواقع سواء قامت على الإثبات أو الإنكار.

والنتيجة: أنّه لو لم تكن للمدّعي بيّنة وقدّم المنكر البيّنة، لم تُغنِهِ البيّنة عن

592

اليمين؛ إذ لم تثبت لها حجّية قضائية، وقد دلّت الرواية على أنّ المنكر عليه اليمين، ولو كانا معاً يمتلكان البيّنة، فالبيّنتان تتعارضان في مرحلة الحجّية الذاتية وتتساقطان، والحجّية القضائية المعطاة لبيّنة المدّعي كان موضوعها وفق دلالة المقام تلك البيّنة التي تمتلك الحجّية الذاتية العقلائية. إذاً فبعد أن سقطت بيّنة المدعي بالتعارض عن الحجّية الذاتية سقطت عن الحجّية القضائية، ووصلت النوبة إلى يمين المنكر.

هذا كلّه لو بقينا نحن وقاعدة «البيّنة على المدّعي واليمين على المدّعى عليه».

مقتضى الروايات الخاصة

وأمّا الروايات الخاصّة في المقام: فهناك روايتان تدلّان على مقالة المشهور إلا أنّهما ضعيفتان سنداً، ومبنى الانجبار بعمل الأصحاب غير صحيح عندنا، على أنّه لم يعلم كون استناد الأصحاب إليهما، فلعلّهم استفادوا ذلك من رواية «أنّ البيّنة على المدعي واليمين على من أنكر». وعلى أيّ حال فالروايتان هما ما يلي:

الأُولى _ مرسلة دعائم الإسلام عن أمير المؤمنين (عليه السلام) «أنّه قضى في البيّنتين تختلفان في الشيء الواحد يدّعيه الرجلان أنّه يقرع بينهما فيه إذا عدلت بيّنة كلّ واحد منهما وليس في أيديهما، فأمّا إن كان في أيديهما فهو فيما بينهما نصفان، وإن كان في يدي أحدهما فإنّما البيّنة على المدّعي واليمين على المدّعى عليه»(1).

والثانية _ رواية منصور قال: «قلت لأبي عبداللّه (عليه السلام): رجل في يده شاة فجاء رجل فادّعاها فأقام البيّنة العدول أنّها ولدت عنده، ولم يهب ولم يبع، وجاء الذي في يده البيّنة مثلهم عدول أنّها ولدت عنده، لم يبع ولم يهب، فقال أبو عبداللّه (عليه السلام):


(1) مستدرك الوسائل، ج3، ص199، الباب 10 من كيفيّة الحكم، ح1.

593

حقّها للمدّعي، ولا أقبل من الذي في يده بيّنة؛ لأنّ اللّه (عزوجل) إنّما أمر أن تطلب البيّنة من المدّعي، فإن كانت له بيّنة، وإلا فيمين الذي هو في يده، هكذا أمر اللّه (عزوجل)»(1).

والسند ضعيف بمحمد بن حفص.

وهناك روايتان وردتا في فرض تعارض البيّنتين دلّت إحداهما على أنّه يحكم للمنكر، ودلّت الأُخرى على أنّه يحكم للمنكر بعد يمينه:

الأُولى _ رواية غياث بن إبراهيم التامّة سنداً عن أبي عبداللّه (عليه السلام): «أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) اختصم إليه رجلان في دابّة، وكلاهما أقاما البيّنة أنّه أنتجها، فقضى بها للذي في يده وقال: لو لم تكن في يده، جعلتها بينهما نصفين»(2). ولعلّه تلحق بهذه الرواية رواية عبداللّه بن سنان عن أبي عبداللّه (عليه السلام) «... كان علي (عليه السلام) إذا اختصم إليه الخصمان في جارية، فزعم أحدهما أنّه اشتراها، وزعم الآخر أنّه أنتجها، فكانا إذا أقاما البيّنة جميعاً قضى بها للذي أُنتجت عنده»(3) بناءً على أنّ المقصود بذلك أنّه قضى بها للذي يدّعي أنّها أُنتجت عنده، ولا زالت هي في يده في مقابل من يدّعي الملكيّة الطارئة بالشراء، والجارية بعدُ لم تسلّم إليه.

وسند الحديث غير تام؛ لوجود محمد بن أحمد العلوي فيه، ولم‏ تثبت وثاقته.

والثانية _ رواية إسحاق بن عمّار التامّة سنداً عن أبي عبداللّه (عليه السلام) «أنّ رجلين اختصما إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) في دابّة في أيديهما وأقام كلّ واحد منهما البيّنة أنّها نتجت عنده، فأحلفهما علي (عليه السلام)، فحلف أحدهما وأبى الآخر أن يحلف، فقضى بها للحالف، فقيل له: فلو لم تكن في يد واحد منهما، وأقاما البيّنة، فقال: أُحلّفهما،


(1) وسائل الشيعة، ج18، ص186، الباب 12 من كيفيّة الحكم، ح14.

(2) نفس المصدر، ص182، ح3.

(3) نفس المصدر، ص186، ح15.

594

فأيُّهما حلف، ونكل الآخر جعلتها للحالف، فإن حلفا جميعاً جعلتها بينهما نصفين. قيل: فإن كانت في يد أحدهما وأقاما جميعاً البيّنة؟ قال: أقضي بها للحالف الذي هو في يده»(1). وجمع السيد الخوئي بينهما بتقييد الأُولى بالثانية(2).

والنتيجة هي أنّ بيّنة المدّعي وبيّنة المنكر حينما تتعارضان يكون الحقّ للمنكر مع حلفه. وهذا يناسب الاحتمالين الثاني والثالث من الاحتمالات الثلاثة التي أبديناها في رواية: «البيّنة على المدّعي واليمين على المدّعى عليه»، وينافي الاحتمال الأول، وهو سقوط بيّنة المنكر نهائيّاً؛ فلو ضَمَمْنا الإشكال _ الذي بيّناه هناك على الاحتمال الثاني _ إلى هاتين الروايتين اللّتين تبطلان الاحتمال الأول، ثبت أيضاً ما اخترناه هناك من الاحتمال الثالث.

والنتيجة هي ما مضى من أنّه لو قدّم المنكر فقط البيّنة لم تُغنِهِ البيّنة عن اليمين، ولو قدّم المدّعي والمنكر كلاهما البيّنة وصلت النوبة إلى يمين المنكر. هذا إذا تساوت البيّنتان.

مدى إمكان الترجيح بالعدد

أمّا إذا كانت إحدى البيّنتين أكثر عدداً من الأُخرى، فمقتضى إطلاق ما عرفته من القاعدة والروايات عدم كون الأكثريّة مؤثّرة في الحساب.

نعم، توجد هنا صورة واحدة من تعارض بيّنتي المدّعي والمنكر شبيهة بتعارض بيّنتي المتداعيين، دلّ النص فيها على أنّ اليمين يكون على من يمتلك البيّنة الأكثر عدداً، وتلك الصورة هي ما لو كان المنكر لا ينكر ما يدّعيه المدّعي، أي لا تكاذب


(1) وسائل الشيعة، ج18، ص182، الباب 12 من كيفيّة الحكم، ح2.

(2) مباني تكملة المنهاج، ج1، ص50.

595

منطقي بينهما، وإنّما يدّعي ما يمكن أن يجتمع مع صحّة دعوى المدّعي، ولكن في نفس الوقت احتمال التنافي بين واقع الأمرين موجود، وذلك كما لو ادّعى المدّعي الملكيّة، وقال ذو اليد: إنّي ورثته من أبي، ولا أدري كيف كان أمره، فهنا يكون المنكر شبيهاً بمن لا ينكر مدّعى الخصم وإنما يدّعي الإرث؛ إذ لا تكاذب منطقي بينهما؛ لإمكان الجمع بينهما بأن يكون هذا ملكاً للمدّعي قد غصبه أبو المنكر _ مثلاً _ والمنكر وَرِثه من أبيه، وفي نفس الوقت احتمال التنافي بين ما يقوله المدّعي لو كان صادقاً وما يقوله المنكر موجود، بأن لا يكون الأب هو الذي غصبه؛ إذ ملكيّة المدّعي تساوق عندئذٍ غاصبيّة المنكر مثلاً، واليد _ طبعاً _ أمارة على خلاف ذلك. ومن هنا نقول: إنّ هذا منكر، ولكنّه في نفس الوقت شبيه بالمدّعي. أمّا لو صرّح المدّعي بأنّ أبا هذا الرجل هو الذي غصب المال منّي مثلاً، فقد انتفى كلّ احتمالات التنافي بين الأمرين، وهنا تنفذ بيّنة المدّعي، ولا تنافي بين البيّنتين ولو على مستوى الاحتمال بالمعنى الذي عرفت.

وعلى أيّ حال ففي الفرض الأول الشبيه بباب التداعي _ وهو فرض ما لو قال المدّعي: إنّ هذا ملكي، وقال ذو اليد: إنّي ورثته من أبي ولا أدري كيف كان أمره، ولم يستحكم التكاذب بينهما؛ لعدم دعوى المدّعي كون المال مسروقاً من قِبَل نفس ذي اليد مثلاً _ قد دلّ النص على أنّه لو كان أحدهما أكثر بيّنةً يوجّه الحلف إليه، وهو ما ورد عن أبي بصير _ بسند تام _ قال: «سألت أبا عبداللّه (عليه السلام) عن الرجل يأتي القوم، فيدّعي داراً في أيديهم ويقيم البيّنة، ويقيم الذي في يده الدار البيّنة أنّه ورثها عن أبيه، ولا يدري كيف كان أمرها؟ قال: أكثرهم بيّنةً يُستحلف وتدفع إليه، وذكر أنّ عليّاً (عليه السلام) أتاه قوم يختصمون في بغلة، فقامت البيّنة لهؤلاء أنّهم أنتجوها على مذودهم ولم يبيعوا ولم يهبوا، وقامت البيّنة لهؤلاء بمثل ذلك، فقضى (عليه السلام) بها

596

لأكثرهم بيّنةً واستحلفهم. قال: فسألته حينئذٍ، فقلت: أرأيت إن كان الذي ادّعى الدار قال: إنّ أبا هذا الذي هو فيها أخذها بغير ثمن، ولم يقم الذي هو فيها بيّنة أنّه ورثها عن أبيه؟ قال: إذا كان الأمر هكذا فهي للذي إدّعاها، وأقام البيّنة عليها»(1).

وقال الشيخ الصدوق (رحمه الله) بعد روايته لصدر هذا الحديث ما نصّه: «لو قال الذي في يده الدار: إنّها لي وهي ملكي، وأقام على ذلك بيّنة، وأقام المدّعي على دعواه بيّنةً، كان الحقّ أن يحكم بها للمدّعي؛ لأنّ اللّه (عزوجل) إنّما أوجب البيّنة على المدّعي، ولم يوجبها على المدّعى عليه، ولكنّ هذا المدّعى عليه ذكر أنّه ورثها عن أبيه، ولا يدري كيف كان أمرها، فلهذا أوجب الحكم باستحلاف أكثرهم بيّنةً، ودفع الدار إليه»، ثم استرسل في الكلام، وذكر بعض الأمور، ثم قال: «هكذا ذكره أبي(رضي الله عنه) في رسالته إليّ»(2). ولا ندري أنّ المقطع الأول من الكلام _ وهو الذي نقلناه _ هل هو أيضاً كلام أبيه أو كلامه هو رحمة اللّه عليهما؟

وعلى أيّ حال فإن كان مقصوده إرجاع المسألة إلى باب التداعي لنكتة أنّ المنكر ذكر السبب وهو الإرث، وبذكره للسبب تحوّل من كونه منكراً إلى كونه مدّعياً، فهذا مخالف لما مضى من حديثي إسحاق بن عمّار وغياث بن إبراهيم؛ حيث فرض فيهما أنّ الحقّ يعطى للذي بيده، وهذا يعني أنّه فرضه منكراً مع أنّه ذكر السبب أيضاً وهو أنّ الدابّة نتجت عنده، إلا أن يفرّق بين ما لو ذكرا معاً السبب فلا ينقلب المنكر مدّعياً وما لو ذكر المنكر فقط السبب فينقلب إلى المدّعي، ولا نعرف لهذا الفرق نكتة مفهومة عرفاً، كما أنه مخالف أيضاً لما هو المفهوم عرفاً من عنوان المدّعي والمنكر، فإنّ


(1) وسائل الشيعة، ج18، ص181، الباب 12 من كيفية الحكم، ح1.

(2) الفقيه، ج3، ص39، ذيل الحديث 130.

597

المنكر يكون غالباً مطّلعاً على سبب ما يقوله، فمجرّد اختلاف حاله من كونه منكراً إلى كونه مدّعياً وبالعكس لمجرد فرق لفظي _ وهو ذكر السبب وعدمه _ ليس عرفياً. هذا وقد شرحنا فيما سبق أنّ المقياس لمعنى المدّعي والمنكر عرفاً هو مخالفة كلامه للحجّة وعدمها، وأنّ هذا لا يخالف بالنظر إلى مصبّ الدعوى أو النتيجة.

وإن كان مقصوده إرجاع المسألة إلى باب التداعي لنكتة أنّ المنكر لم يذكر الملكيّة التي تكون اليد دليلاً عليها، وإنّما ذكر الإرث، واليد ليست دليلاً على الإرث، قلنا: إنّه لو غضّ النظر عن دعوى أنّ ذكر السبب يقلب المنكر مدّعياً فهذا لا محالة يدّعي الملكيّة الظاهريّة، واليد أمارة على الملكيّة، فيكون منكراً.

وإن كان مقصوده دعوى حكم تعبّدي في منكر يشبه المدّعي باعتبار عدم إنكاره لما يدّعيه المدّعي، ودعواه إرثاً في المقام مع احتمال التنافي بين ما يقوله هو وما يقوله المدّعي لو كان صادقاً، فهذا يرجع إلى التفسير الذي نحن فسّرنا به الحديث، وهو تام، وحاصله إلحاق مثل هذا المنكر بالمدّعي حكماً.

وإن كان مقصوده استفادة مجرّد حكم تعبّدي بحت، وهو أنّ الحلف كان على الأكثر بيّنةً؛ لأنّ المنكر ذكر السبب، وبما أنّ هذا الحكم تعبّدي بحت، فيمكن تقييده بما إذا لم يذكر المدّعي أيضاً السبب، فلا يقع تنافٍ بين هذا الحديث وحديثي إسحاق بن عمّار وغياث بن إبراهيم، فهذا أمر غير مفهوم عرفاً من الحديث، فمجرّد ذكر السبب _ لولا التفسير الذي نحن شرحناه _ يحمل عرفاً على المثالية البحتة ولا خصوصية لذكر السبب.

وقد تلخّص ممّا ذكرناه: أنّ بيّنة المنكر إن لم تُعارَض ببيّنة المدّعي لا أثر لها، وإن عورضت ببيّنة المدّعي وصلت النوبة إلى يمين المنكر، وإن كانت إحدى البيّنتين أكثر عدداً ففي حالة واحدة يكون اليمين على صاحب البيّنة الأكثر عدداً، وهي الحالة التي شرحناها.

598

توهّم كون اليمين على البيّنة

وقد ورد ما قد يُوهِم أنّ الحلف يكون على عاتق البيّنة، لا على عاتق المنكر، وتُعيّن البيّنة التي عليها الحلف بالقرعة، وذلك ما رواه زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «قلت له رجل شهد له رجلان بأنّ له عند رجل خمسين درهماً، وجاء آخران، فشهدا بأنّ له عنده مائة درهم كلّهم شهدوا في موقف؟ قال: أُقرع بينهم، ثم استحلف الذين أصابهم القرع باللّه: أنّهم يشهدون بالحق»(1)؛ حيث يقال: إنّ هذا مرجعه إلى الاتّفاق على خمسين درهماً والاختلاف على خمسين درهماً آخر، فهنا بدلاً عن تحليف المنكر جعل الحلف على البيّنة مع تعيين البيّنة التي عليها الحلف بالقرعة.

وقد يقال: إنّ مفاد الحديث أجنبي عن المقام، فليس بابه باب إمكانيّة تحليف المدّعي أو المنكر أصلاً، وإنّما بابه باب دين ثبت بالبيّنة مع اختلاف البيّنتين في مقدار الدين، وقد يكون الدائن والمدين كلاهما شاكّين في المبلغ.

وعلى أيّ حال فالحديث ساقط سنداً بالإرسال في أثناء السند.

ثم إنّ ما ورد في باب تعارض البيّنات من الإحالة على القرعة تارةً، وعلى التقسيم أُخرى، وعلى تحليف الطرفين ثالثةً، إن كان لها إطلاق يشمل باب المدّعي والمنكر فالإطلاق يخصَّص بما عرفت وروده في خصوص باب المدّعي والمنكر، وتلك الروايات بعد التخصيص تخصّص بباب التداعي.


(1) وسائل الشيعة، ج18، ص184، الباب 12 من كيفيّة الحكم، ح7.

599

البيّنة

5

 

 

تعارض البيّنتَين

 

 

  1- تعارض البيّنة عند التداعي

  2- اختلاف البيّنة في حقّ طرف واحد

  3- موقف الفقه الوضعي من تعارض البيّنتين

 

 

601

تعارض البيّنتين

البحث الخامس _ في تعارض البيّنتين.

وقد عرفت في البحث السابق حكم تعارض بيّنة المدّعي وبيّنة المنكر، كما أنّه مضى فيما سبق في بحث شرط العدالة في الشهود حكم تعارض البيّنات في الشهادة على العدالة، ومضى أيضاً في بحث شهادة الفرع حكم التعارض بين شهادة الفرع وشهادة الأصل، فالمقصود بالبحث هنا إنّما هو فرض تعارض البيّنتين في باب التداعي، وكذلك فرض تعارضهما في الشهادة لإثبات الحقّ لطرف واحد، كما لو شهدت إحدى البيّنتين: بأنّ للدائن على المدين ألف درهم، وشهدت الأُخرى: بأنّ له عليه مائة دينار، وليس ألف درهم. فهنا فرضان لتعارض البيّنتين لابدّ لنا من البحث عنهما:

تعارض البيّنة عند التداعي

الفرض الأول _ تعارضُ بيّنتي المتداعيين. والروايات في باب تعارض البيّنتين للمتداعيين على طوائف:

روايات الباب

منها _ ما دلّ على التحالف، كما عن إسحاق بن عمّار _ بسند تام _ عن أبي عبداللّه (عليه السلام)

602

«أنّ رجلين اختصما إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) في دابّة في أيديهما، وأقام كلّ واحد منهما البيّنة أنّها نتجت(1) عنده، فأحلفهما عليٌّ (عليه السلام)، فحلف أحدهما، وأبى الآخر أن يحلف، فقضى بها للحالف. فقيل له: فلو لم تكن في يد واحد منهما وأقاما البيّنة، فقال: أُحلِّفهما، فأيُّهما حلف ونَكَل الآخر جعلتُهاللحالف، فإن حلفا جميعاً جعلتها بينهما نصفين. قيل: فان كانت في يد أحدهما، وأقاما جميعاً البيّنة، قال: أقضي بها للحالف الذي هو في يده»(2).

ومنها _ ما دلّ على استحلاف الأكثر بيّنة، وهو رواية أبي بصير(3) التي مضى ذكرها في أواخر البحث الرابع، وأُشيرَ إلى ذلك أيضاً فيما يأتي من رواية عبدالرحمن ابن أبي عبداللّه ورواية سماعة.

ومنها _ ما دلّ على تقسيم المال المتداعى عليه، كما ورد عن غياث بن إبراهيم _ بسند تام _ عن أبي عبداللّه (عليه السلام): «أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) اختصم إليه رجلان في دابّة وكلاهما أقاما البيّنة أنّه أنتجها(4)،فقضى بها للذي في يده، وقال: لو لم تكن في يده جعلتها بينهما نصفين»(5).

وما عن تميم بن طرفة: «أنّ رجلين ادّعيا بعيراً، فأقام كلّ واحد منهما بيّنةً، فجعله أمير المؤمنين (عليه السلام) بينهما»(6). والسند غير تام؛ لعدم ثبوت وثاقة تميم بن طرفة، ولا


(1) بمعنى ولدت .

(2) وسائل الشيعة، ج18، ص182، الباب 12 من كيفيّة الحكم، ح2.

(3) نفس المصدر، ص181، ح1.

(4) أي ولّدها وكان بالنسبة لها بمنزلة القابلة من المرأة .

(5) نفس المصدر ، ح3.

(6) نفس المصدر، ص183، ح4.

603

من روى عنه وهو سماك بن حرب. والراوي عن سماك بن حرب هو أبو جميلة الذي قال عنه ابن الغضائري: «ضعيف كذّاب يضع الحديث. حدّثنا أحمد بن عبدالواحد قال: حدّثنا علي ابن محمد بن الزبير قال: حدّثنا علي بن الحسن بن فضّال قال: سمعت معاوية بن حكيم يقول: سمعت أبا جميلة يقول: أنا وضعت رسالة معاوية إلى محمد بن أبي بكر». وقال النجاشي في ترجمة جابر بن يزيد: «روى عنه جماعة غمّز فيهم وضعّفوا، منهم عمرو بن شمر ومفضّل بن صالح» وقد روى عنه الثلاثة الذين لا يروون إلا عن ثقة.

وما عن السكوني بسند فيه النوفلي عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «قضى أمير المؤمنين (عليه السلام) في رجلين ادّعيا بغلةً، فأقام أحدهما شاهدين والآخر خمسةً، فقضى لصاحب الشهود الخمسة خمسةَ أسهم ولصاحب الشاهدين سهمين»(1). وقد روى الشيخ هذا المضمون بسند تام(2).

ومنها _ ما دلّ على القرعة لتعيين من عليه الحلف أو لتعيين من له الحقّ، كما عن عبدالرحمان بن أبي عبداللّه _ بسند تام _ عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «كان علي (عليه السلام) إذا أتاه رجلان يختصمان بشهود عدّتهم سواء وعدالتهم سواء أقرع بينهم على أيّهما تصير اليمين...»(3).

وما عن داود بن سرحان _ بسند تام _ عن أبي عبداللّه (عليه السلام) في شاهدين شهدا على أمر واحد، وجاء آخران فشهدا على غير الذي شهد الأوّلان واختلفوا، قال: «يقرع


(1) نفس المصدر، ص185، ح10.

(2) التهذيب، ج6، ح583.

(3) وسائل الشيعة، ج18، ص183، الباب 12 من كيفيّة الحكم، ح5. وقد أخذنا المتن من الفقيه لصحّة سنده في الفقيه، ج3، ح181.

604

بينهم، فأيّهم قرع عليه اليمين، وهو أولى بالقضاء»(1).

وما عن داود بن أبي يزيد العطّار، عن بعض رجاله، عن أبي عبداللّه (عليه السلام) في رجل كانت له امرأة، فجاء رجل بشهود أنّ هذه المرأة امرأة فلان، وجاء آخران فشهدا أنّها امرأة فلان، فاعتدل الشهود وعدّلوا، فقال: «يقرع بينهم، فمن خرج سهمه فهو المحقّ، وهو أولى بها»(2).

وما عن الحلبي _ بسند تام _ قال: سُئل أبو عبداللّه (عليه السلام) عن رجلين شهدا على أمر، وجاء آخران فشهدا على غير ذلك فاختلفوا «قال: يقرع بينهم، فأيّهم قرع فعليه اليمين، وهو أولى بالحقّ»(3).

وما عن سماعة _ بسند تام _ عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «إنّ رجلين اختصما إلى علي (عليه السلام) في دابّة، فزعم كلّ واحد منهما أنّها نتجت على مذوده(4)، وأقام كلّ واحد منهما بيّنةً سواءً في العدد، فأقرع بينهما سهمين، فعلّم السهمين كلّ واحد منهما بعلامة ثم قال: اللّهم ربّ السماوات السبع وربّ الأرضين السبع وربّ العرش العظيم عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم، أيّهما كان صاحب الدابّة وهو أولى بها، فأسألك أن يقرع ويخرج سهمه، فخرج سهم أحدهما، فقضى له بها»(5).

وما عن عبداللّه بن سنان _ بسند غير تام _ قال: سمعت أبا عبداللّه (عليه السلام) يقول: «إنّ رجلين اختصما في دابّة إلى علي (عليه السلام)، فزعم كلّ واحد منهما أنّها نتجت عنده على


(1) وسائل الشيعة، ج18، ص183، الباب 12 من كيفيّة الحكم ، ح6.

(2) نفس المصدر، ص184، ح 8.

(3) نفس المصدر، ص185، ح11.

(4) المذود هو معلف الدابّة.

(5) نفس المصدر، ح12.

605

مذوده، وأقام كلّ واحد منهما البيّنة سواءً في العدد، فأقرع بينهما سهمين فعلّم السهمين كلّ واحد منهما بعلامة، ثم قال: اللّهم ربّ السماوات السبع وربّ الأرضين السبع وربّ العرش العظيم عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم، أيّهما كان صاحب الدابّة وهو أولى بها فأسألك أن تقرع ويخرج اسمه، فخرج اسم أحدهما، فقضى له بها»(1).

ومنها _ ما فصّل بين ما لو كان المال بيدهما فالتقسيم، أو لم يكن بيد أيّ واحد منهما فالقرعة، وهو مرسلة دعائم الإسلام عن أمير المؤمنين (عليه السلام) «أنّه قضى في البيّنتين تختلفان في الشيء الواحد يدّعيه الرجلان أنّه يقرع بينهما فيه إذا عدلت بيّنة كلّ واحد منهما وليس في أيديهما، فأمّا إن كان في أيديهما فهو فيما بينهما نصفان، وإن كان في يد أحدهما فإنّما البيّنة فيه على المدعي، واليمين على المدّعى عليه»(2).

هذا، وقد ورد في الباب أيضاً حديث غريب المضمون، وهو ما ورد عن عبدالوهاب بن عبدالحميد الثقفي عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «سمعته يقول _ في رجل ادّعى على امرأة أنّه تزوّجها بولي وشهود وأنكرت المرأة ذلك، فاقامت أُخت هذه المرأة على رجل آخر [وفي بعض نسخ الرواية: «على هذا الرجل»] البيّنة أنّه تزوّجها بولي وشهود ولم يوقّتا وقتاً _: إنّ البيّنة بيّنة الزوج، ولا تقبل بيّنة المرأة؛ لأنّ الزوج قد استحقّ بضع هذه المرأة، وتريد أُختها فساد النكاح، فلا تصدّق، ولا تقبل بيّنتها إلا بوقت قبل وقتها أو دخول بها»(3). والحديث ضعيف سنداً بعلي بن محمد ابن شيرة القاساني وعبدالوهاب بن عبدالحميد الثقفي؛ حيث لم تثبت وثاقتهما،


(1) نفس المصدر، ص186، ح15.

(2) مستدرك الوسائل، ج3، ص199، الباب 10 من أبواب كيفيّة الحكم، ح1.

(3) وسائل الشيعة، ج18، ص185، الباب 12 من كيفيّة الحكم، ح13.

606

وبالقاسم بن محمد المحتمل انطباقه على القاسم بن محمد الإصفهاني ولم تثبت وثاقته.

وعلى أيّ حال فهذه هي روايات الباب.

أمّا ما هي الوظيفة في المقام لدى تعارض البيّنتين في باب التداعي؟ فنبحث أوّلاً عمّا هو مقتضى القواعد في ذلك، وثانياً عن أنّ ما مضت من الروايات هل توجب علينا العدول عن مقتضى القواعد أو لا؟ وما هي حدود إيجابها للعدول عن مقتضى القواعد لو أوجبت؟

مقتضى القواعد

أمّا عن مقتضى القواعد لدى تعارض البيّنتين في باب التداعي فهنا تصويران لحقيقة التداعي في مثل توارد اليدين على مال واحد، يختلف حكم مقتضى القواعد فيه باختلاف هذين التصويرين:

التصوير الاول _ أن يقال: إنّ كلّ واحد منهما مدّعٍ في نصف المال ومنكر في النصف الآخر؛ لأنّ اليد المشتركة لا تنفذ إلا في جزء المال حسب نسبة اشتراك الأيدي، فهو بمقدار نصف المال يعتبر منكراً لحجّية يده في إثبات ملكيّته له، وبمقدار النصف الآخر يعتبر مدّعياً؛ لعدم حجّية يده فيه؛ فمقتضى القاعدة هو أن يطبّق كلّ واحد في المقام ما اخترناه في باب المدّعي والمنكر.

فمثلاً لو قلنا في باب المدّعي والمنكر عند تعارض البينتين بترجيح بيّنة الخارج؛ بحجّة أنّ البيّنة إنّما هي على المدّعي، فلا أثر لبيّنة المنكر إطلاقاً، فالنتيجة في المقام هي تنصيف المال بينهما؛ لترجيح يد كلّ واحد منهما في نصف المال، ولكن مختارنا في باب المدّعي والمنكر لدى تعارض البيّنتين لم يكن ذلك كما مضى.

أمّا لو أردنا الكلام بناءً على ما اخترناه في باب المدّعي والمنكر من تعارض

607

البيّنتين وتساقطهما والرجوع إلى يمين المنكر، فالنتيجة في المقام هي التحالف، فلو حلفا معاً قُسِّم المال بينهما؛ لأنّ كلّ واحد منهما منكر في النصف، فقد نفذ يمينه في النصف، ولو حلف أحدهما ونكل الآخر كان المال كلّه للحالف؛ لأنّ حلفه في النصف كان حقاً له من أوّل الأمر، وقد عاد الحلف في النصف الآخر إليه بنكول صاحبه، فله الحلف على كلّ المال وأخذه، ولو نكلا معا قُسِّم المال بينهما؛ لأنّ كلّ واحد منهما منكر في النصف، فقد استحقّ النصف بعد نكوله ونكول المدّعي عن القسم.

التصوير الثاني _ أن يقال: إنّ كلّاً منهما مدّعٍ لتمام المال، وليس مدّعياً في النصف ومنكراً في النصف الآخر.

ويمكن تقريب ذلك بأن يقال: إنّ اليد لا تدل على خصوص الملك بقدر سيطرتها على المال، بل تدل عقلائيّاً على صحّة مدَّعى ذي اليد ما لم تعارض بيد من يدعي خلافه، فلو أنّ أحدهما ادّعى ملكية تمام المال، والآخر نفى ملكيّة نفسه، فلا شكّ في أنّ يد الأول أمارة عرفاً على صحّة ما ادّعاه من ملكيّة تمام المال ما دام صاحب اليد الثانية أنكر ملكيّة نفسه. إذاً فلو ادّعى كلّ منهما ملكيّة تمام المال فقد وقع التعارض الكامل بين اليدين، وهما متداعيان في تمام المال، وليس كلّ منهما مدّعياً في النصف ومنكراً في النصف الآخر.

أمّا ما قد يقال: من أنّ اليدين حينما اجتمعتا فقد أثّر كلّ منهما في النصف من باب تأثير كلّ من السببين المجتمعين في نصف المسبّب عند إمكانيّة ذلك، كما هو الحال في توارد حيازتين على مال واحد. فهذا قياس مع الفارق، فإنّ تأثير السببين العقلائيّين كلّ منهما في النصف إنّما يكون عقلائيّاً في باب الإيجاد العقلائي، لا في باب الكشف، ففي باب الحيازة كانت الحيازة سبباً عقلائيّاً لإيجاد الملكيّة، فإذا تواردت حيازتان على مال واحد دفعةً واحدةً أثّرت كلّ واحدة منهما في النصف،