452

داره، ثم يغيب عنها ثلاثين سنة، ويدع فيها عياله، ثم يأتينا هلاكه، ونحن لا ندري ما أحدث في داره، ولا ندري ما أحدث له من الولد، إلا أنّا لا نعلم إنّه أحدث في داره شيئاً، ولا حدث له ولد، ولا تقسّم هذه الدار على ورثته الذين ترك في الدار حتى يشهد شاهدا عدلٍ أنّ هذه الدار دار فلان بن فلان مات وتركها ميراثاً بين فلان وفلان، أو نشهد على هذا؟ قال: نعم. قلت: الرجل يكون له العبد والأمة...» إلى آخر ما مضى.

وهذا أيضاً أجنبي عن المقام؛ لعدم وجود مرافعة في مورد الحديث، ومن الواضح أنّه تكفي في فرض عدم المرافعة الشهادة على الملكيّة السابقة مع استصحاب بقائها فعلاً، وكذلك الشهادة على وارثيّة هؤلاء مع استصحاب عدم وارث آخر بلا حاجة إلى الشهادة ببقاء الملكيّة، أو عدم وجود وارث آخر، ولا مورد لنفوذ شهادةٍ من هذا القبيل في مفروض الرواية؛ إذاً فإنّما سمح الإمام (عليه السلام) بشهادة من هذا القبيل، أو بالشهادة بما يوحي إلى القاضي بكونه شهادة بذلك إفحاماً للقاضي الذي طالب بذلك، ومثل هذا لا يدل على نفوذ الشهادة القائمة على الاستصحاب.

وهناك تهافت بين صدر الحديث وذيله؛ حيث إنّه في صدر الحديث سمح بالشهادة بالنسبة للدار، بينما في ذيل الحديث منع الشهادة بالنسبة للعبد والأمة.

والسيد الخوئي لم يفترض تهافتاً بين الصدر والذيل؛ حيث إنّه حمل الصدر على فرض عدم المرافعة والذيل على فرض المرافعة.

ولكن يظهر ممّا مضى أنّ هذا لا يرفع التهافت؛ لأنّه حتى إذا فرضنا في الذيل المرافعة فهذا لا يعني تسليم المملوك لأصل الملكية السابقة، ودعواه البيع أو الهبة أو نحو ذلك، وإلا لكان القاضي يطالب المملوك بالبيّنة لا المولى فمرافعة المملوك إنّما هي على أصل الملكيّة السابقة، ومعه لا فرق جوهريّ بين هذا الفرض وفرض عدم

453

المرافعة، فإنّ الشهادة بالملكية السابقة كافية في كلا الموردين، والشهادة ببقاء الملكية شهادة بغير علم في كلا الموردين.

وأنا أحتمل أن يكون قوله في ذيل الحديث: «كلّما غاب من يد المرء المسلم غلامه أو أَمَتُه، أو غاب عنك لم تشهد به» استفهاماً إنكاريّاً، وبه يرتفع التهافت، فلعلّ صاحب الكتاب _ الذي كتب هذا الحديث في كتابه _ اعتمد في مقام حمل هذا الكلام على الاستفهام الإنكاري على فرض قرينيّة الصدر الصريح في جواز الشهادة.

ويؤيّد الحمل على الاستفهام الإنكاري احتمال كون ذيل هذا الحديث هو عين الحديث الأول لمعاوية بن وهب مع الاختلاف في التعبير على أساس النقل بالمعنى.

وعلى أي حال فالسيد الخوئي لم يَر تهافتاً بين صدر الحديث وذيله، ولكنّه رأى التهافت بين ذيل الحديث والحديث الأول لمعاوية بن وهب؛ حيث منع هنا عن الشهادة، وأجاز هناك الشهادة في مورد واحد، وجمع بينهما(1) بحمل الحديث الأول على الشهادة بأكثر من مقدار العلم، وحمل هذا الحديث على الشهادة بمقدار العلم، وجعل الشاهد على هذا الجمع رواية أُخرى لمعاوية بن وهب، وهي ما رُوي _ بسندٍ تام _ عن معاوية بن وهب قال: «قلت له: إنّ ابن أبي ليلى يسألني الشهادة عن هذه الدار مات فلان، وتركها ميراثاً، وأنّه ليس له وارث غير الذي شهدنا له، فقال: اشهد بما هو علمك. قلت: إنّ ابن أبي ليلى يحلّفنا الغموس، فقال: احلف إنّما هو على علمك»(2).

أقول: قد يكون هذا الحمل صحيحاً على مبناه من عدم التهافت بين الصدر والذيل؛ لكون الصدرِ ناظراً إلى فرض عدم المرافعة، والذيلِ ناظراً إلى فرض


(1) راجع مباني تكملة المنهاج، ج1، ص115.

(2) وسائل الشيعة، ج18، ص145، الباب 17 من الشهادات، ح1.

454

المرافعة. أمّا على ما وضّحناه من عدم الفرق في روح المطلب بين الصدر والذيل، نقول: لو حمل الذيل على المنع عن الشهادة بأكثر من العلم فكيف سمح في الصدر بالشهادة بذلك؟! وحمل الصدر على فرض الشهادة بمقدار العلم مع حمل الذيل على فرض الشهادة بأزيد من ذلك أيضاً غير عرفي؛ لأنّهما ذُكِرا بمنهج واحد وبصياغة واحدة بفرق تبديل الدار بالمملوك. إذاً فلو لم يكن الذيل استفهاماً إنكاريّاً فلابدّ من إرجاع علم الرواية إلى أهلها للتهافت الموجود بين صدرها وذيلها.

الرواية الخامسة _ ما ورد عن حمران بن أعين قال: «سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن جارية لم تدرك بنت سبع سنين مع رجل وامرأة، ادّعى الرجل أنّها مملوكة له، وادّعت المرأة أنّها ابنتها، فقال: قد قضى في هذا علي (عليه السلام) قلت: وما قضى في هذا؟ قال: كان يقول: الناس كلّهم أحرار إلا من أقرّ على نفسه بالرقّ وهو مدرك، ومن أقام بيّنة على من ادّعى من عبد أو أمة، فإنّه يدفع إليه، ويكون له رقّاً قلت: فما ترى أنت(1) قال: أرى أن أسأل الذي ادّعى أنّها مملوكة: له بيّنة على ما ادّعى؟ فإن أحضر شهوداً يشهدون أنّها مملوكة لا يعلمونه باع ولا وهب، دفعت الجارية إليه حتى تقيم المرأة من يشهد لها أنّ الجارية ابنتها حرّة مثلها، فلتدفع إليها، وتخرج من يد الرجل. قلت: فإن لم يقم الرجل شهوداً أنّها مملوكة له؟ قال: تخرج من يده، فإن أقامت المرأة البيّنة على أنّها ابنتها دفعت إليها، فإن لم يقم الرجل البيّنة على ما ادّعى، ولم تقم المرأة البيّنة على ما ادّعت، خلّي سبيل الجارية تذهب حيث تشاء»(2). وسند الحديث تام، وحمران بن أعين ثبتت وثاقته _ على الأقلّ _ برواية صفوان عنه. ومحل الشاهد


(1) يبدو أنّ هذا سؤال عن كيفيّة تطبيق الكبريات في فرض القضاء في المثال المذكور، بينما الأجوبة التي نقلها الإمام عن جدّه أمير المؤمنين (عليه السلام) لم تكن قضاء بالمعنى المصطلح، و إنّما كانت كبريات عامّة.

(2) وسائل الشيعة، ج18، ص184، الباب 12 من كيفيّة الحكم، ح9.

455

قوله: «فإن أحضر شهوداً يشهدون أنّها مملوكة لا يعلمونه باع ولا وهب...»؛ حيث يُقال: إنّ هذا يعني نفوذ البيّنة القائمة على أساس الاستصحاب.

ولكنّ الواقع أنّ هذا الحديث أجنبي عمّا نحن فيه؛ لأنّه ليس في مفروض القضيّة التي هي مورد الحديث شخص ادّعى أنّه باعها أو وهبها إيّاه، ولو كان ذلك لكان عليه أن يقيم البيّنة على المولى؛ إذاً فتكفي شهادة البيّنة بالملكيّة السابقة مع عدم علمها بالبيع والهبة لإثبات مملوكيّتها له، وهذا هو المقصود بما في هذا الحديث.

ولا بأس بأن نشير إلى ما في ذيل هذ الحديث من الحكم بدفع البنت إلى المرأة المدّعية لكونها بنتاً لها عند تعارض البيّنتين، فهل هذا مجرد حكم تعبّدي بحت؛ لأنّ مقتضى القاعدة تساقط البيّنتين وتخلية سبيل الجارية تذهب حيث تشاء، كما جاء في هذا الحديث في فرض عدم البيّنة لأيّ واحد منهما؟ الظاهر أنّه ليس حكماً تعبّديّاً بحتاً، بل هو حكم مطابق لمقتضى القواعد. وتوضيح ذلك:

أنّ فروض قيام البيّنة التي تعرّض لها الحديث ثلاثة:

الأول _ قيام البينة لصالح الرجل تشهد على أنّها مملوكة للرجل، وهنا يحكم بكونها مملوكة للرجل، وتدفع إليه. ولم يفرض في ذلك شهادتها بنفي البنوّة للمرأة ولا أثر لذلك في مورد الدعوى، فإنهّا لو كانت مملوكة للرجل وفي نفس الوقت بنتاً للمرأة، لابدّ من دفعها إليه.

والثاني _ قيام البيّنة لصالح المرأة تشهد على أنّها بنت المرأة، وهنا تسلّم إلى المرأة لكونها بنتاً لها. ولم يفرض في الحديث شهادة البيّنة على نفي رقّيّتها له، ولا أثر لذلك، فإنّ الرقّية منفيّة حتى مع عدم شهادة من هذا القبيل وذلك بالأصل، فيكفي لدفعها إليها شهادة البيّنة ببنوّتها لها.

والثالث _ قيام بيّنة لصالح الرجل، وقيام بيّنة أُخرى لصالح المرأة. ولم تفرض في

456

البيّنة الأُولى أكثر من الشهادة بمملوكيّتها للرجل دون الشهادة بنفي البنوّة لها، وكان هذا كافياً لكونها في صالح الرجل؛ لما قلنا من أنّها لو كانت مملوكةً له وفي نفس الوقت بنتاً لها لكفى ذلك في دفعها إليه. أمّا بيّنة المرأة، فقد فرض في الحديث أنّها شهدت بأمرين: (الأول) أنّها ابنتها. (والثاني) أنّها حرّة مثلها، وكان السبب في هذا الفرض أنّه من دون هذه الزيادة سوف لن تكون البيّنة الثانية في صالح المرأة ما دامت البيّنة الأُولى شهدت بمملوكيّتها له، وذلك لما قلنا من أنّها لو كانت مملوكةً له، وفي نفس الوقت بنتاً لها، دفعت إليه. وفي هذا الفرض الثالث ذكر الحديث أنّ الجارية تدفع إلى المرأة على أنّها بنتها، وهذا واضح على مقتضى القواعد؛ لأنّ إحدى شهادتي البيّنة الثانية _ وهي شهادتها بحرّيتها _ تعارضت مع شهادة البيّنة الأُولى وتساقطتا. أمّا الشهادة الأُخرى للبيّنة الثانية _ وهي شهادتها ببنوّتها لها _ فلا معارض لها، فمن الطبيعي أن تدفع الجارية إلى المرأة.

وعلى أيّ حال فهذا حال ما وجدناه من روايات قد يستدلّ بها على نفوذ البيّنة القائمة على أساس اليد، أو الاستصحاب في الشهادة على الواقع، وقد عرفت عدم تماميّة هذه الروايات وأمثالها دلالةً.

وهناك رواية قد تدل على نفوذ الشهادة القائمة على أساس البيّنة _ وهذا غير الشهادة على الشهادة كما هو واضح _ وهي ما روي عن عمر بن يزيد _ بسند تام _ قال: «قلت لأبي عبداللّه (عليه السلام): الرجل يشهدني على شهادة، فأعرف خطّي وخاتمي، ولا أذكر من الباقي قليلاً ولا كثيراً قال: فقال لي: إذا كان صاحبك ثقةً، ومعه رجل ثقة فأشهد له»(1)، فيقال: إنّ هذه شهادة قائمة على أساس البيّنه ‏المكوّنة من شهادة


(1) وسائل الشيعة، ج18، ص234، الباب 8 من الشهادات، ح1.

457

صاحبه وثقة آخر.

إلا أنّ هذا الحديث إمّا أن يوجَّه بالحمل على فرض كون الخطّ والخاتم وشهادة الثقتين كافياً لحصول العلم القريب من الحسّ، أو يردّ علمه إلى أهله؛ لوضوح عدم حجّية شهادة المدّعي.

وعلى أيّ حال فقد اتّضح إلى هنا بما لا مزيد عليه:

1_ أنّ البيّنه ‏القائمة على أساس الحسّ هي القدر المتيقَّن من النفوذ.

2_ أنّ البيّنة القائمة على أساس ما يقرب من الحسّ بالمعنى الذي مضى لا ينبغي الإشكال في نفوذها.

3_ أنّ البيّنة القائمة على أساس التعبّد لا ينبغي الإشكال في عدم نفوذها.

الشهادة القائمة على أساس الحدس

بقي الكلام في البيّنة القائمة على أساس العلم غير القائم على الحسّ ولا ما يقرب من الحسّ.

ولا ينبغي الإشكال في أنّ مقتضى الأصل هو عدم النفوذ؛ لأنّ علم الشاهد بالنسبة لنفوذ الشهادة يعتبر علماً موضوعيّاً يحتاج نفوذه إلى الدليل التعبّدي، وليس علماً طريقيّاً تكون حجّيةً ذاتيّةً له، ولا إطلاق لمثل قوله (صلى الله عليه و آله): «إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان»، فإنّه لم يرد إلا لحصر القضاء بالبيّنة واليمين، أمّا متى تكون البيّنة؟ ومتى يكون اليمين؟ فهذا خارج عن عهدة مثل هذا الكلام، ولا لمثل قوله: «البيّنة على المدّعي، واليمين على من أنكر»؛ إذ أوّلاً: نحن نحتمل كون الحسّ دخيلاً في حقيقة البيّنة، وثانياً: ليس الحديث بصدد بيان شروط نفوذ البيّنة، وإنّما هو بصدد بيان من عليه البيّنة ومن عليه اليمين، واحتمال شرط الحسّ احتمال عرفي،

458

وليس على خلاف الارتكاز كي ينفى بإطلاقٍ مقامي.

وبإلامكان أن يتوهّم أنّنا نخرج من هذا الأصل بما مضى قبل صفحات من الحديث الثالث لمعاوية بن وهب قال: «قلت له: إنّ ابن أبي ليلى يسألني الشهادة عن هذه الدار مات فلان وتركها ميراثاً، وأنّه ليس له وارث غير الذي شهدنا له فقال: إشهد بما هو علمك. قلت: إنّ ابن أبي ليلى يحلِّفنا الغَموس، فقال: إحلف، إنّما هو على علمك»(1). فيقال: إنّ مقتضى إطلاق هذا الحديث هو أنّ الشهادة تدور مدار العلم من دون فرق بين أن يكون العلم حسّيّاً أو حدسيّاً.

والواقع: أنّ هذا الحديث لا يتمّ فيه إطلاق من هذا القبيل، وذلك لأنّه وارد مورد بيان أمر آخر، وهو حلّ مشكلة حرمة الشهادة بغير العلم والحلف على ما لا يعلم، وقد حلّها الإمام (عليه السلام) بأن لا يقصد من شهادته إلا مبلغ علمه. أمّا أنّ نفوذ شهادته هل يشمل فرض حدسيّة العلم أيضاً أو لا؟ فهذا خارج عمّا هو بصدد بيانه.

ولو غضضنا النظر عن هذا الإشكال، أو وجدنا حديثاً آخر لا يرد على التمسّك بإطلاقه مثل هذا الإشكال، قلنا: إنّ نفس النكتة التي تجعلنا ندّعي انصراف دليل حجّية خبر الواحد اللفظي _ لو تمّ _ إلى الخبر الحسّي تجعلنا أيضاً ندّعي انصراف دليل نفوذ الشهادة إلى الشهادة الحسّيّة. وبتعبير أدقّ: إنّ المفهوم من دليل نفوذ الشهادة بمناسبة الارتكازات العقلائية _ كما هو الحال في دليل حجّية خبر الواحد _ إنّما هو إلغاء احتمال الكذب فقط، أو مضافاً إلى التأكيد على أصالة عدم الخطأ والغفلة في الموارد التي يجري فيها هذا الأصل عقلائياً، وهي موارد الحسّ وما يشبه الحسّ. أمّا في موارد الحدس والاجتهاد فلا يوجد أصل عقلائي من هذا القبيل إلا


(1) وسائل الشيعة، ج18، ص184، الباب 12 من كيفية الحكم، ح9.

459

في موارد الرجوع إلى أهل الخبرة؛ أي رجوع الجاهل إلى العالم بالتقليد.

ويؤيِّد عدم نفوذ الشهادة غير القائمة على أساس الحسّ أو القريب من الحسّ خبران غير تامّين سنداً:

الأول _ المرسل المروي في الشرائع عن النبي (صلى الله عليه و آله) وقد سئل عن الشهادة: قال: «ترى الشمس؟ على مثلها فاشهد أو دع»(1).

والثاني _ ما عن علي بن غياث أو علي بن غراب عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «لا تشهدَنَّ بشهادة حتى تعرفَها كما تعرفُ كفَّك»(2). وقد جاء في الكافي التعبير عن الراوي المباشر بعلي بن غياث، بينما جاء في الفقيه التعبير عنه بعلي بن غراب، ويبدو أنّ الأخير هو الأصحّ لعدم وجود الأول في كتب الرجال ولا في الروايات، ولأنّ الصدوق في المشيخة ذكر سنده إلى علي بن غراب فقط لا إلى علي ابن غياث. وعلى أيّ حال فسند الحديث ضعيف بمحمد بن حسان وإدريس بن الحسن وعلي ابن غراب أو علي بن غياث.

وتؤيّد أيضاً اشتراطَ الحسّ في الشهادة الرواياتُ الواردة في باب الزنا الدالّة على أنّ حدّ الرجم لا يثبت إلا بالشهادة على الرؤية، من قبيل ما عن الحلبي _ بسند تام _ عن أبي عبداللّه (عليه السلام): قال: «حدّ الرجم أن يشهد أربعٌ أنّهم رأوه يُدخِل ويُخرِج»(3)، ونحوه ما عن أبي بصير(4).

والاستشهاد بهذه الروايات: تارةً يكون بمقدار أنّها دلّت على اشتراط الحسّ في


(1) نفس المصدر، ص251، الباب 20 من الشهادات، ح3.

(2) نفس المصدر، ص250، ح1، و ص235، الباب 8 من الشهادات، ح3.

(3) نفس المصدر، ص371، الباب 12 من حدّ الزنا، ح 1.

(4) نفس المصدر، ص371 _ 372، ح3 و5.

460

الشهادة في ثبوت الرجم في الزنا واحتمال الخصوصية وارد، ولهذا جعلناه مؤيّداً لا دليلاً، وأُخرى يكون بتقريبٍ آخر أقوى من هذا التقريب، وهو أن يُقال: إنّ الروايات الواردة في هذا الباب على قسمين: أحدهما ما دلّ على أنّ الرجم لا يثبت إلا برؤية الزنا كما مضى، والآخر ما دلّ على أنّ الرجم لا يثبت إلا بالشهادة على الزنا، من قبيل ما عن محمد بن قيس _ بسند تام _ عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «قال أمير المؤمنين (عليه السلام): لا يرجم رجل ولا امرأة حتى يشهد عليه أربعة شهود على الإيلاج والإخراج»(1)، وما عن أبي بصير _ بسند تام _ قال: «قال أبو عبداللّه (عليه السلام) لا يرجم الرجل والمرأة حتى يشهد عليهما أربعة شهداء على الجماع والإيلاج كالميل في المكحلة»(2).

وهذان القسمان في أكبر الظنّ يهدفان إلى الإشارة إلى نكتة واحدة، وهي الفرق بين الرجم والجلد، فالرجم لا يثبت إلا بالشهادة على نفس الزنا، بينما الجلد يثبت ولو بمقدار التعزير بالشهادة بما هو أقلّ من الزنا كالنوم مجرَّدَيْنِ تحت غطاءٍ واحد.

نعم، هناك رواية واحدة دلّت في الجلد على نفس المضمون، أي شرط الشهادة على الزنا، وهي ما عن محمد بن قيس _ بسند تام _ عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «قال أمير المؤمنين (عليه السلام): لا يجلد رجل ولا امرأة حتى يشهد عليهما أربعة شهود على الإيلاج والإخراج وقال: لا أكون أوّل الشهود أخشى الروعة أن ينكُلَ بعضهم فأُجْلَد»(3). وأكبر الظنّ اتّحاد هذه الرواية مع رواية محمد بن قيس الماضية، فهما معاً مرويّتان عن الباقر (عليه السلام) عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، وهما مشتركتان في الرواة ابتداءً من الراوي المباشر وهو محمد بن قيس وانتهاءً بإبراهيم بن هاشم، فكلتاهما مرويّتان عن إبراهيم بن


(1) وسائل الشيعة، ج18، ص371، الباب 12 من حدّ الزنا، ح2.

(2) نفس المصدر، ص251، الباب 20 من الشهادات ، ح 4.

(3) نفس المصدر، ص373، ح11، وص303، الباب 50 من الشهادات، ح1.

461

هاشم عن عبدالرحمان بن أبي نجران عن عاصم بن حميد ابن محمد بن قيس، والمتن واحد، إلا أنّه عبّر في الرواية الأُولى بالرجم، وفي الرواية الثانية بالجلد، فإمّا أنّ هذا اشتباه، أو محمول على خصوص الجلد الذي يكون حدّاً لا تعزيراً؛ لوضوح عدم اشتراط الشهادة بالإيلاج والإخراج في التعزير، ولما جاء في ذيله من أنّه لا يكون أوّل شاهد خشية أن يجلد بنكول بعضهم عن الشهادة، فإنّ هذا مورده الشهادة على الزنا لا الشهادة على مقدمات الزنا.

وعلى أيّ حال، فإذا افتراضنا أنّ هذين القسمين من الروايتين يشيران إلى معنىً واحد _ وهو فرض خصوصيّة للرجم في مقابل الجلد، وهي خصوصيّة لزوم الشهادة على نفس العمل _ قلنا: إنّ التعبير عن ذلك تارةً بالشهادة على الرؤية، وأُخرى بالشهادة على نفس الزنا يشهد لكون المفهوم المرتكز منهما كان معنىً واحداً، وهو الشهادة عن الحسّ، فإنّ الكلام بصدد بيان أهميّة الرجم باعتباره قتلاً، وأنّه لابدّ من الدقّة في الشهادة، وكونها شهادة على الزنا، وكون الشهادة عن رؤية وحسّ، فلو لم يكن شرط الحسّ في الشهادة مركوزاً وقتئذٍ في الأذهان، كان من المستبعد ترك ذكر قيد الرؤية في القسم الثاني من الروايات اعتماداً على تقييده بالقسم الأول مثلاً؛ لأنّ المقام مقام تهويل الأمر بالنسبة للرجم، وبيان ضرورة ترتّبه على شهادة هامّة في المقام، فسواء افترضنا أن التعبير تارةً بالشهادة على الرؤية وأُخرى بالشهادة على الزنا كان من قبل الإمام، أو افترضنا أنّه كان من قبل الراوي، فهذا يشهد بأنّ المرتكز وقتئذٍ في الشهادة فرضها نابعة من الحسّ والرؤية، ولا نقصد بذلك _ طبعاً _ أكثر من تأييد المدّعى لا الاستدلال به على ذلك.

ثم إنّ السيد الخوئي ذكر في مقام بيان إثبات عدم نفوذ الشهادة القائمة على العلم غير الحسّي: أنّ الشهود بمعنى الحضور، ومنه المشاهدة، وليس كلّ عالم

462

شاهداً، قد استعملت الشهادة بمعنى الحضور في عدّة من الآيات منها قوله تعالى: ﴿عٰالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهٰادَةِ﴾(1) _ ويستعرض بهذا الصدد عدّة آيات _ إلى أن يقول: نعم، يستعمل لفظ الشهادة في إظهار الاعتقاد بشيءٍ كقوله تعالى: ﴿وَمٰا شَهِدْنٰا إِلا بِمٰا عَلِمْنٰا﴾(2)_ ويستعرض بهذا الصدد أيضاً عدّة آيات _ إلى أن يقول: وبما أنّ حجّية إخبار المخبر لا تثبت إلا بدليل، فما لم يكن إخباره عن حسّ وعن مشاهدة لا يكون حجّةً لعدم الدليل(3).

أقول: إنّ صدر هذا الكلام لا يتحصّل منه شيء مفهوم، فصحيح ما يظهر في آخر كلامه من التمسُّك بأصالة عدم النفوذ ما دمنا لا نملك دليلاً على نفوذ الشهادة القائمة على أساس العلم غير الحسّي، ولكن لا علاقة لذلك بما جاء في صدر حديثه من أنّ الشهادة استعملت تارةً بمعنى الحضور، وأُخرى بمعنى الإخبار والإظهار، ولا أثر لذلك فيما نحن بصدده.

ويمكن افتراض علاقة صدر حديثه بما ذكره في ذيل الحديث بأحد بيانين:

الأول _ أن يقال: إنّ الشهادة لو كانت بمعنى إظهار ما يعتقد فحسب، لكان مقتضى إطلاق الدليل نفوذ الشهادة القائمة على أساس العلم الحدسي، لكن بما أنّ الشهادة استعملت تارةً بمعنى إظهار ما يعتقد، وأُخرى بمعنى الحضور، فقد أصبح دليل نفوذ الشهادة مجملاً، فنقتصر فيه على القدر المتيقّن، وهو نفوذ الشهادة الحسّيّة، ونرجع في غيره إلى أصالة عدم النفوذ.

ويرد عليه:


(1) التوبة: 94.

(2) يوسف: 81.

(3) مباني تكملة المنهاج ، ج1، ص112 _ 113.

463

أوّلاً _ ما ظهر ممّا سبق من أنّه حتى لو فرض لفظ الدليل _ بغضّ النظر عن الارتكازات العقلائيّة _ مطلقاً فالإطلاق لا يتمّ بعد صرف العقلاء له إلى نفي الكذب، أو إلى نفيه ونفي الغفلة في موارد صدق أصالة عدم الغفلة العقلائيّة، وهي غير موارد الحدس كما هو الحال في أدلّة حجّية خبر الواحد.

اللّهم إلا أن يكون مقصوده في المقام إبراز عيب في الإطلاق، وهو احتمال أخذ قيد الحضور في معنى الشهادة من دون نظر إلى دعوى تماميّة الإطلاق لولا هذا العيب.

وثانياً _ أنّ استبطان كلمة الشهادة لمعنى الحضور وعدمه أجنبي عن المقام إطلاقاً؛ وذلك لأنّ المأخوذ في لسان عمدة أدلّة حجّية الشهادة في باب القضاء إنّما هو عنوان البيّنة لا عنوان الشهادة، من قبيل قوله (صلى الله عليه و آله): «إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان»، وقوله (صلى الله عليه و آله): «البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر»، وما ورد في بعض الموارد من التعبير بالشهادة كما في روايات باب الزنا التي تقول: حدّ الرجم يثبت بالشهادة على الزنا، أو على رؤية الزنا، لا شكّ في أنّها مستعملة بمعنى الإخبار لا بمعنى الحضور، فإنّ الشهادة بمعنى الحضور إنّما هي عند التحمّل، أمّا عند الأداء فإنّما هي بمعنى الإخبار كما هو واضح.

الثاني _ أن يقال: إنّ هناك موارد قد أمرت الشريعة فيها بالإشهاد بمعنى تحميل الشهادة كما في باب الطلاق وباب الدَين، قال اللّه تعالى بشأن الطلاق:﴿وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ﴾(1). وقال تعالى بشأن الدَين:﴿وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجٰالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونٰا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتٰانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدٰاءِ﴾(2). والإشهاد هنا


(1) الطلاق: 2.

(2) البقرة: 282.

464

يمكن أن يكون مستبطناً لمعنى الحضور على ما هو أحد معنيي الشهادة، ونحن نعلم أنّ هذا الإشهاد مقدّمة لأداء الشهادة كما قال اللّه تعالى في الآية الأُولى عقيب ما مضى مباشرةً: ﴿وَأَقِيمُوا الشَّهٰادَةَ لِلّٰهِ﴾ وقال تعالى في الآية الثانية عقيب ما مضى مباشرةً: ﴿أَنْ تَضِلَّ إِحْدٰاهُمٰا فَتُذَكِّرَ إِحْدٰاهُمَا الْأُخْرىٰ وَلا يَأْبَ الشُّهَدٰاءُ إِذٰا مٰا دُعُوا﴾.

وعليه فبناءً على حمل الشهادة هنا لدى التحمُّل على الحضور يثبت شرط الحضور في نفوذ الشهادة لدى الأداء في هذين الموردين، ويتمّ الكلام في باقي الموارد بعدم احتمال الفصل فقهيّاً. وبالإمكان أن يجعل هذا البيان تعميقاً للبيان الأول لأجل دفع الإشكال الثاني عنه.

ويرد عليه: أوّلاً _ أنّ الشهادة لدى التحمُّل ليست بمعنى الإخبار والإظهار كما هو واضح، فلا يحتمل في معنى الإشهاد الوارد في الآيتين عدا المعنى الآخر المستبطن _ في ما هو المفهوم عنه عرفاً _ للحضور. إذاً فلو تمّ هذا الوجه لم نكن بحاجة إلى الرجوع إلى أصالة عدم النفوذ؛ لأجل عدم الدليل على نفوذ الشهادة غير الحسّيّة كما يظهر من آخر كلامه، بل يجب أن نفترض هذا بنفسه دليلاً على شرط الحسّ.

وثانياً _ أنّ الأمر بالإشهاد في هذين الموردين _ بمعنى الإحضار _ لا يدل على أنّ نفوذ الشهادة لدى الأداء مشروط بحصول الإشهاد والحسّ سابقاً، صحيح أنّ الإشهاد كان مقدّمةً لأداء الشهادة، لكن هذا لا يدل على انحصار المقدّمة للشهادة النافذة بذلك، فلعلّ الأمر بالإشهاد جاء كاحتياط من قبل الشارع لضمان إمكانيّة أداء الشهادة بعد ذلك، أو كمقدّمة لإيجاب الأداء عليه.

نعم، في خصوص باب الطلاق ثبت تعبّداً دخل الإشهاد في صحّة الطلاق، وهذا مطلب آخر، ولعلّه بحكمة التشديد في ذاك الاحتياط.

إذاً فقد اتّضح أنّ كون كلمة الشهادة مستبطنة لمعنى الحضور لا دخل له فيما

465

نحن فيه بأيّ وجه من الوجوه.

الذكورة

الشرط العاشر _ الذكورة في الجملة، فشهادة المرأة في بعض الأمور لا تنفذ إطلاقاً، وفي بعض الأمور لا تنفذ إلا بشرط انضمام الرجل إليها في الشهادة، وفي بعضها تنفذ على الإطلاق على تفصيل في هذه الأمور سيظهر إن شاء اللّه.

القاعدة الأوّليّة في شهادة النساء

وأوّل نقطة نبحثها بهذا الصدد هي أنّه هل نفترض القاعدة الأوّليّة في شهادة النساء عدم النفوذ، ثم نرى ما الذي خرج عن هذه القاعدة بالنصّ، وكلّما لم يثبت خروجه عنها نحكم بعدم نفوذ شهادة النساء فيه، أو نفترض القاعدة هي النفوذ ونستثني منها ما خرج بالدليل ويبقى الباقي تحت كبرى النفوذ؟

لا ينبغي الإشكال في أنّ مقتضى الأصل هو عدم النفوذ إلا ما خرج بالدليل، والإطلاقات من قبيل «إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان» و«البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر» غير تامّة لنفي قيدٍ ما، إلا على أساس الإطلاق المقامي لا الحكَمي، على ما اتّضح في تضاعيف ما مضى. والإطلاق المقامي فيها إنّما يتمّ في قيد يكون مرفوضاً حسب الارتكازات المعاشة في الأجواء الإسلامية ممّا يجعل الإنسان المتشرّع يفهم من الدليل الإطلاق، ويكون سكوت الإمام دليلاً على إمضائه، وقيد الذكورة ليس من هذا القبيل، ففي زماننا هذا قد يعتبر قيد من هذا القبيل في الأجواء الغربيّة خلاف المساواة بمعناها الفاسد الذي ينادى به في الغرب، ولكنّ الجوّ المتشرّعي الإسلامي خالٍ من أمر من هذا القبيل.

466

وبهذه المناسبة لا بأس بالإشارة إلى أنّ افتراض تفريق من هذا القبيل بين الذكر والأُنثى ليس خلافاً للعدالة الاجتماعيّة في نظر الإسلام في المناصب كالقضاء لأمرين:

أحدهما _ أنّ المناصب في نظر الإسلام ليست كراسي للفخر والاعتزاز وجرّ المنافع، بل هي مسؤوليّات بحتة.

وثانيهما _ أنّ المسألة راجعة إلى توزيع المهامّ وفق القابليّات. وقد مضى شرح لهذا الكلام فيما سبق في شرط الذكورة في القضاء، والذي أُريد أن أذكره هنا هو أنّ الأمر في الشهادة أوضح؛ لأنّ الشهادة ليست منصباً ومقاماً حتى بالمنظار الذي يرى مثل القضاء منصباً ومقاماً، فهي أوضح في أنّها ليست عدا مسؤوليّة شرعيّة واجتماعيّة.

وعلى أيّ حال فجوّ متشرّعي مأنوس بالفرق بين الرجل والمرأة في القضاء والشهادة وإمامة الجماعة وغير ذلك لا يتمّ فيه إطلاق مقامي فضلاً عن جوّ صدر الإسلام قبل ما يعتاد الناس فيه على خلاف الجوّ الجاهلي الذي لم يكن يعدّ المرأة مساوية للرجل في الإنسانية والكرامة. فإذا لم يتمّ إطلاق من هذا القبيل، كان مقتضى الأصل الأوّلي عدم نفوذ شهادة المرأة. يبقى أن نرى بعد ذلك هل هناك إطلاق في خصوص باب شهادة النساء يدل على نفوذ شهادتهنّ على الإطلاق؟ أو على عدم نفوذ شهادتهنّ على الإطلاق أو لا؟ فإن ثبت الأول أصبحت القاعدة الأوّلية نفوذ شهادة النساء إلا ما خرج بالدليل. وإن ثبت الثاني تأكّد كون القاعدة الأوّلية عدم النفوذ، وصعدت القاعدة من مستوى الأصل إلى مستوى الأمارة. وإن لم يثبت شيء من الإطلاقين، أو ثبت كلاهما وتعارضا وتساقطا فمقتضى القاعدة هو الرجوع إلى الأصل الأوّلي، وهو عدم النفوذ إلا ما خرج بالدليل. فهنا نبحث أوّلاً عن أنّه هل يوجد إطلاق يدل على نفوذ شهادة النساء، أو لا؟ وثانياً: عن أنّه هل يوجد

467

إطلاق يدل على عدم نفوذ شهادتهنّ، أو لا؟ وثالثاً: عمّا ورد من الدليل في موارد خاصّة على نفوذ شهادة النساء أو عدم نفوذها.

أمّا فرض إطلاق يدل على نفوذ شهادة النساء فالظاهر أنّه غير موجود. وهنا بعض روايات يمكن أن يتوهّم فهم الإطلاق منها لنفوذ شهادتهنّ، ولكن شيئاً من التأمّل يثبت عدم الدلالة على ذلك، وذلك من قبيل ما يلي:

1_ ما عن عبدالكريم بن أبي يعفور _ ولم ثبت وثاقته _ عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «تقبل شهادة المرأة والنسوة إذا كنّ مستورات من أهل البيوتات معروفات بالستر والعفاف مطيعات للأزواج تاركات للبذا والتبرّج إلى الرجال في أنديتهم»(1).

ولكن من المحتمل كون النظر في هذا الحديث إلى بيان شرط قبول شهادة النساء، وهو كونهنّ بهذه المواصفات، أمّا أنّ شهادَتَهُنّ تقبل في أيّ مورد، ولا تقبل في أيّ مورد فهذا خارج عن محلّ البيان.

2_ ما عن الحلبي _ بسند تام _ عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «قال: تجوز شهادة الرجل لامرأته، والمرأة لزوجها إذا كان معها غيرها»(2).

وهذا الحديث أوّلاً: لا إطلاق له لمثل كثير من الحدود التي لا يتعقَّل أن تكون شهادتها فيها شهادة في صالح الزوج.

وثانياً: أنّ صياغة التعبير بعنوان الزوج والزوجة تدل على أنّ النظر كان إلى عدم إضرار علاقة الزوجيّة بنفوذ الشهادة، فمتى ما تنفذ شهادة المرأة بشأن غير الزوج تنفذ بشأن الزوج أيضاً إذا كان معها غيرها. أمّا أنّ شهادة المرأة تنفذ في أيّ شيء، ولا تنفذ


(1) وسائل الشيعة، ج18، ص 294، الباب 41 من الشهادات، ح20.

(2) نفس المصدر، ص269، الباب 25 من الشهادات، ح1.

468

في أيّ شيء؟ فهذا خارج عن محطّ نظر الحديث.

3_ ما عن سماعة _ بسند تام _ قال: «سألته عن شهادة الوالد لولده والولد لوالده والأخ لأخيه. قال: نعم. وعن شهادة الرجل لامرأته؟ قال: نعم. والمرأة لزوجها؟ قال: لا، إلا أن يكون معها غيرها»(1).

ونفس الإشكالين واردان هنا، وورود الإشكال الثاني هنا أوضح منه في الحديث الأول، وذلك باعتبار ذكر الوالد والولد والأخ ممّا يوضّح أنّ نظر السائل كان إلى السؤال عن مدى تأثير القرابة والعلاقة في الإضرار بالشهادة لأجل ما تجلبها من التهمة.

4_ ما عن منصور بن حازم أنّ أبا الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام) قال: «إذا شهد لطالب الحقّ امرأتان ويمينه فهو جائز»(2). والكلام في هذا الحديث تارةً يقع في سنده، وأُخرى في دلالته.

أمّا السند: فقد رواه الصدوق (رحمه الله) بإسناده عن منصور بن حازم، وسند الصدوق إلى منصور بن حازم عبارة عن محمد بن علي ماجيلويه، عن محمد بن يحيى العطّار، عن محمد بن أحمد، عن محمد بن عبدالحميد، عن سيف بن عميرة، عن منصور بن حازم، وهذا السند فيه محمد بن علي ماجيلويه، ولم تثبت وثاقته، إلا أنّ الحديث رواه أيضاً الكليني عن بعض أصحابنا، عن محمد بن عبدالحميد، عن سيف بن عميرة، عن منصور بن حازم قال: «حدّثني الثقة عن أبي الحسن (عليه السلام)»(3)وذكر نفس الحديث، والظاهر وحدة الحديثين وسقوط الواسطة بين منصور والإمام (عليه السلام)


(1) صدره وارد في وسائل الشيعة، ج18، ص271، الباب 26 من الشهادات، ح4، وذيله ورد في نفس نفس المجلّد، ص270، الباب 25 من الشهادات، ح3.

(2) نفس المصدر، ج18، ص198، الباب 15 من كيفيّة الحكم، ح1.

(3) نفس المصدر، ح4.

469

في النقل الأول. وعلى أيّ حال، فهذا السند أيضاً لا يتمّ لنا؛ لأننّا لم نعرف من أراده الكليني (رحمه الله) بكلمة «بعض أصحابنا».

ورواه الشيخ أيضاً بإسناده عن محمد بن عبدالحميد، عن سيف بن عميرة، عن منصور بن حازم قال: «حدّثني الثقة عن أبي الحسن (عليه السلام)»(1) وذكر نفس المتن، إلا أنّ سند الشيخ إلى محمد بن عبدالحميد ضعيف بأبي المفضّل وابن بطّة. وأمّا محمد بن عبدالحميد _ وهو واقع في كلّ هذه الأسانيد _ فقد يستدلّ على وثاقته بعدّة أمور:

الأول _ ما قاله النجاشي في ترجمته: «محمد بن عبدالحميد بن سالم العطّار أبو جعفر روى عبدالحميد عن أبي الحسن موسى، وكان ثقةً من أصحابنا الكوفيّين له كتاب النوادر». فقد يستظهر من هذا التعبير رجوع التوثيق إلى محمد بن عبدالحميد، وذكر السيد الخوئي أنّ التوثيق راجع إلى أبيه بقرينة العطف بالواو. وهذا الكلام صحيح.

والثاني _ ما اعتمد عليه السيد الخوئي في توثيقه من وروده في أسانيد كامل الزيارات. وهذا غير مقبول لدينا.

والثالث _ ما نعتمد عليه من رواية ابن أبي عُمير عنه.

وعلى أيّ حال فقد تبيّن أنّ سند الحديث في المقام غير تام.

وأمّا الدلالة: فإطلاق الحديث إنّما هو في دائرة المرافعة بقرينة كلمة «طالب الحقّ»، وبقرينة عطف اليمين على شهادة امرأتين.

5_ ما عن يونس عمّن رواه قال: «استخراج الحقوق بأربعة وجوه: بشهادة رجلين عدلين، فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان، فإن لم تكن امرأتان فرجل ويمين


(1) نفس المصدر، الباب 15 من كيفية الحكم، و الباب 24 من الشهادات، ج31، ص264.

470

المدّعي...»(1).

وهذا الحديث ساقط بالإرسال وعدم انتهائه إلى المعصوم، ودلالته لا تتمّ أيضاً في غير دائرة المرافعة.

6_ ما عن تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) في قوله تعالى:﴿فَإِنْ لَمْ يَكُونٰا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَاِمْرَأَتٰانِ﴾ قال: «عدلت امرأتان في الشهادة برجل واحد، فإذا كان رجلان أو رجل وامرأتان أقاموا الشهادة، قضي بشهادتهم...»(2)، فقد يتمسّك بإطلاق قوله (عليه السلام): «عدلت امرأتان في الشهادة برجل واحد»، أو قوله (عليه السلام): «قضي بشهادتهم»، ولكنّك ترى أنّه لا يتمّ الإطلاق في هذا الحديث بأكثر من مورد الآية الكريمة؛ حيث إنّه ورد بشأن تفسير الآية المباركة. وعلى أيّ حال فالحديث ساقط سنداً.

وهكذا اتّضح عدم تماميّة إطلاق لنفوذ شهادة المرأة، وهذا كافٍ في أن يثبت أنّ مقتضى القاعدة هو عدم نفوذ شهادة المرأة في غير ما ثبت نفوذ شهادتها بالدليل؛ لأنّ الأصل عدم النفوذ.

وأمّا ما يمكن حمله على عدم نفوذ شهادة النساء على الإطلاق إلا ما خرج بالدليل فهو عدّة روايات، إلا أنّ أكثرها خاصّ بشهادة النساء وحدهنّ؛ أي عند عدم انضمام شهادة الرجل إليهنّ، وهذه الإطلاقات كما يلي:

1_ ما عن محمد بن مسلم _ بسند تام _ قال: «قال: لا تجوز شهادة النساء في الهلال ولا في الطلاق، وقال: سألته عن النساء تجوز شهادتهنّ؟ قال: نعم في العذرة


(1) نفس المصدر، ج18، ص198، الباب 15 من كيفيّة الحكم، ح2، وص176، الباب 7 من كيفيّة الحكم، ح4.

(2) وسائل الشيعة، ج18، ص176، الباب 15 من كيفيّة الحكم، ح5.

471

والنفساء»(1). فبما أنّ السؤال كان عن شهادة النساء على الطلاق وجاء الجواب بالجواز في العذرة والنفساء، فلا محالة يدل على عدم نفوذ شهادة النساء في كلّ ما ليس من قبيل العذرة والنفساء، أي كلّ ما لا تختصّ برؤيته النساء، وإنّما قلنا: إنّ الإطلاق خاصّ بشهادة النساء وحدهنّ وبلا رجال؛ لأنّ وضوح نفوذ شهادة النساء مع الرجال ولو في الجملة، وصراحة القرآن بذلك يعتبر كالقرينة المتّصلة الصارفة لإطلاق الحديث إلى شهادة النساء وحدهنّ وبلا رجال، ويكفينا احتمال ذلك لو فرض عدم الجزم به لعدم جريان أصالة عدم القرينة في الشكّ في قرينيّة الموجود في باب القرائن المتّصلة.

2_ ما عن عبدالرحمان بن أبي عبداللّه قال: «سألته عن المرأة يحضرها الموت وليس عندها إلا امرأة أتجوز شهادتها، أم لا تجوز؟ فقال: تجوز شهادة النساء في المنفوس والعذرة»(2). فالجواب في المنفوس والعذرة عن سؤال راجع إلى غير المنفوس والعذرة ‏يدل لا محالة على الحصر بالمنفوس والعذرة، أو ما لا يمكن للرجل فيه المشاهدة، إلا أنّ الحكم في مورد الحديث وهو الوصيّة مبتلیً بالمعارض، وسنبحث إن شاء اللّه حال هذا التعارض عند بحثنا عن الروايات الواردة في الموارد الخاصّة.

وأمّا سند الحديث ففيه الحسين بن محمد عن معلّى بن محمد، ومعلّى بن محمد لم تثبت وثاقته، والسيد الخوئي بنى على وثاقته؛ لوقوعه في أسانيد كامل الزيارات وذكر: أنّ هذا لا ينافي ما قاله النجاشي بشأنه من أنّه مضطرب الحديث والمذهب، أمّا اضطراب المذهب لو ثبت فلا يضرّ بوثاقته، وأمّا اضطراب الحديث فهو بمعنى أنّه


(1) نفس المصدر، ص260، الباب 24 من الشهادات، ح8.

(2) نفس المصدر، ح14.

472

يروي ما يعرف وما ينكر، وهذا أيضاً لا يضرّ بوثاقته.

أقول: إنّ وثاقة كلّ من ورد في أسانيد كامل الزيارات ممنوعة لدينا.

أمّا الحسين بن محمد فقد روى عنه الكليني كثيراً، وفي بعض الموارد عبّر عنه بعنوان الحسين بن محمد بن عامر، وفي بعض الموارد بعنوان الحسين بن محمد بن عامر الأشعري. وقد روى النجاشي كتاب الحسين بن محمد بن عمران عن محمد بن محمد، عن أبي غالب الزراري، عن الكليني، عن الحسين بن محمد بن عمران بن أبي بكر الأشعري، والظاهر أنّهما شخص واحد، وأنّ عنوان الحسين بن محمد بن عمران إسناد إلى الجدّ؛ لأنّ عمران أبو عامر كما استدلّ السيد الخوئي على ذلك بقول النجاشي في ترجمة عبداللّه بن عامر بن عمران: «أخبرنا الحسين بن عبيداللّه في آخرين عن جعفر بن محمد بن قولويه قال: حدّثنا الحسين بن محمد بن عامر، عن عمّه عبداللّه بن عامر بن عمران» فإذا ثبت اتّحاد الرجلين، ثبتت وثاقة الحسين بن محمد بن عامر بشهادة النجاشي بوثاقة الحسين بن محمد بن عمران، ولو لم نقبل بالاتّحاد قلنا: كلاهما ثقة على أيّ حال: أمّا الثاني فلشهادة النجاشي. وأمّا الأول فلرواية جعفر بن محمد بن قولويه عنه في كامل الزيارات(1)، والقدر المتيقّن من شهادة جعفر ابن محمد بن قولوية بوثاقة رواته في كامل الزيارات هو الراوي المباشر له.

3_ ما عن العلاء _ بسند تام _ عن أحدهما (عليهماالسلام) قال: «لا تجوز شهادة النساء في الهلال. وسألته هل تجوز شهادتهن وحدهنّ؟ قال: نعم في العذرة والنفساء»(2). وهذا يعني عدم نفوذ شهادتهنّ وحدهنّ في ما يمكن للرجال الحضور فيه.


(1) كامل الزيارات، الباب 41، ح5.

(2) وسائل الشيعة، ج18، ص262، الباب 24 من الشهادات، ح18.

473

4_ ما عن محمد بن مسلم _ بسند تام _ قال: «سألته: تجوز شهادة النساء وحدهنّ؟ قال: نعم في العذرة والنفساء»(1).

5_ ما عن عبدالرحمان قال: «سألت أبا عبداللّه (عليه السلام) عن المرأة يحضرها الموت وليس عندها إلا امرأة تجوز شهادتها؟ قال: تجوز شهادة النساء في العذرة والمنفوس، وقال: تجوز شهادة النساء في الحدود مع الرجال»(2). وفي سند الحديث القاسم، وهو محمول على القاسم بن محمد الجوهري بقرينة رواية الحسين بن سعيد عنه، وهو ثقة؛ لرواية بعض الثلاثة عنه. والحديث في مورده مبتلىً بالمعارض الدالّ على قبول شهادة النساء في الوصيّة، وفي ذيله أيضاً مبتلىً بالمعارض، وسنبحث حال التعارضين إن شاء اللّه عند بحثنا عن الروايات الواردة في الموارد الخاصّة. ويحتمل اتّحاد هذا الحديث مع الحديث الثاني؛ لاتّحاد المتن ما عدا الذيل الذي لم يكن موجوداً في ذاك الحديث، ولأنّ الراوي فيهما هو عبدالرحمان والراوي عنه فيهما هو أبان.

6_ ما له إطلاق في دائرة الشيء الكثير، وهو ما عن عبيد بن زرارة _ بسند تام _ عن أبي عبداللّه (عليه السلام) تجوز شهادة المرأة في الشيء الذي ليس بكثير في الأمر الدون ولا تجوز في الكثير(3). ونصرف الحديث إلى شهادة النساء وحدهن بلا رجال بنفس القرينة التي ذكرناها سابقاً، إلا أنّ تفصيله بين الأمر الدون والأمر الكثير _ ممّا لعلّه لا قائل به _ قد يكون قرينةً لسقوط الحديث وردّ علمه إلى أهله.

7_ ما عن عبداللّه بن سنان، أو عبداللّه بن سليمان قال: «سألته عن امرأة حضرها الموت وليس عندها إلا امرأة: أتجوز شهادتها؟ فقال: لا تجوز شهادتها إلا في


(1) نفس المصدر، ح19.

(2) نفس المصدر، ح21، وج13، ص379، الباب 22 من أحكام الوصايا، ح6.

(3) نفس المصدر، ص263، ح22.

474

المنفوس والعذرة»(1). والراوي المباشر للإمام في التهذيب هو عبداللّه بن سنان، وفي الاستبصار هو عبداللّه بن سليمان، ولعلّ الثاني أقوى احتمالاً؛ لأنّ الراوي عنه أبان، وقد شوهدت رواية أبان عن عبداللّه بن سليمان دون عبداللّه بن سنان. وعلى أيّ حال فعبداللّه بن سنان لا شكّ في وثاقته، وأمّا عبداللّه بن سليمان فقد روى عنه ابن أبي عُمير وصفوان بن يحيى في طريق الصدوق (رحمه الله) في مشيخة الفقيه إليه، وهذا دليل الوثاقة، إلا أنّ هذا الاسم مشترك، وفي مشيخة الفقيه قد قصد به عبداللّه بن سليمان الصيرفي، فإنّه الذي ذكر في الرجال له كتاب دون غيره، والمفروض أنّ الصدوق في الفقيه يروي عن كتاب عبداللّه بن سليمان، فيكون المقصود به الصيرفي، فإن قلنا بأنّه متى ما أُطلق هذا الاسم انصرف إلى عبداللّه بن سليمان الصيرفي لأنّه صاحب كتاب بخلاف غيره، تمّ سند الحديث في المقام؛ لانصراف هذا الاسم في هذا الحديث إلى الصيرفي الذي قد روى عنه ابن أبي عُمير وصفوان بن يحيى.

هذا، والحديث في مورده مبتلىً بالمعارض، وسيبحث إن شاء اللّه في الروايات الخاصّة.

8_ ما عن محمد بن سنان عن الرضا (عليه السلام) فيما كتب إليه من العلل: «وعلّة ترك شهادة النساء في الطلاق والهلال لضعفهنّ عن الرؤية ومحاباتهنّ النساء في الطلاق، فلذلك لا تجوز شهادتهنّ إلا في موضع ضرورة مثل شهادة القابلة وما لا يجوز للرجال أن ينظروا إليه...»(2). والحديث ساقط سنداً.

9_ مرسلة تحف العقول عن أبي الحسن الثالث (عليه السلام) قال: «وأمّا شهادة المرأة


(1) نفس المصدر، ص263، ح24. وج13، ص397، الباب 22 من أحكام الوصايا، ح7.

(2) وسائل الشيعة، ج18، ص269، الباب 22 من أحكام الوصايا، ح50.

475

وحدها التي جازت فهي القابلة جازت شهادتها مع الرضا، فإن لم يكن رضا فلا أقلّ من امرأتين، تقوم المرأة بدل الرجل للضرورة؛ لأنّ الرجل لا يمكنه أن يقوم مقامها، فإن كانت وحدها، قبل قولها مع يمينها»(1). فقوله: «أمّا شهادة المرأة وحدها التي جازت فهي القابلة...» قد يدل بالحصر على عدم قبول شهادة المرأة وحدها في غير مثل القابلة، والحديث ساقط سنداً، إضافة إلى اشتماله على مضمون غريب.

10_ ما عن السكوني عن جعفر، عن أبيه، عن علي (عليه السلام) أنّه كان يقول: «شهادة النساء لا تجوز في طلاق ولا نكاح ولا في حدود إلا في الديون، وما لا يستطيع الرجال النظر إليه»(2). وهذا الحديث ميزته عن الأحاديث السابقة أنّ إطلاقه يشمل حتى شهادة النساء مع الرجال. توضيح ذلك: أنّه نفى أوّلاً نفوذ شهادة النساء في الطلاق والنكاح والحدود، وإلى هنا لا يتمّ إطلاق، ولكنّ استثناءه للديون وما لا يستطيع الرجال النظر إليه الذي قد يبدو في الذهن كونه استثناءً منقطعاً يكون عرفاً _ بقرينة كون الاستثناء المنقطع خلاف الأصل _ دالّاً على أنّ ذكر الطلاق والنكاح والحدود كان بعنوان المثال، وأنّ المقصود عدم نفوذ شهادة النساء مطلقاً إلا في الديون وما لا يستطيع الرجال النظر إليه، وبما أنّ شهادة النساء في الديون إذا كانت مع شهادة الرجال تنفذ بصريح القرآن؛ إذاً فالمستثنى منه يشمل شهادة النساء مع الرجال أيضاً.

وابتلاؤه في نفوذ شهادة النساء في النكاح بالمعارض، أو حمله على التقيّة _ كما سيأتي بحثه إن شاء اللّه _ لعلّه لا يضرّ بالأخذ بالمفاد الآخر للحديث، وهو إطلاق عدم قبول شهادة النساء.


(1) نفس المصدر، ص269، ح51.

(2) نفس المصدر، ص267، ح42.

476

ولكنّ العيب المهمّ في الحديث هو أنّه قد وقع في سنده بنان بن محمد، ولا دليل على وثاقته عدا وروده في أسانيد كامل الزيارات، وهو غير كافٍ عندنا للتوثيق.

وعليه فلم يتمّ لدينا إطلاق لنفي نفوذ شهادة النساء إلا في شهادة النساء وحدهنّ وبلا رجال؛ إذاً فبالنسبة لشهادتهنّ مع الرجال يكون المرجع عند الشكّ هو أصالة عدم النفوذ.

لا يقال: إنّ المرجع هو الارتكاز العقلائي الذي لا يفرّق في ذلك بين الرجال والنساء، كما هو مشاهد في المجتمع الغربي غير المتديّن بدين الإسلام ممّا يشهد على أنّ الفرق بينهما إنّما هو فرق شرعي ومتشرّعي. أمّا بحسب الذوق العقلائي فلا فرق في ذلك بينهما، والارتكاز أو السيرة العقلائيّان يكونان حجّةً ما لم يردع عنهما، ففي موارد عدم وصول الردع نتمسّك بهما لإثبات نفوذ شهادة النساء ولا نتمسّك بأصالة عدم النفوذ.

فإنّه يقال: أوّلاً _ إنّ ارتكازاً عقلائيّاً من هذا القبيل لم يكن ثابتاً في الجوّ العقلائي المكتنف بالنصوص في عصر صدور النصوص، فإنّ العقلاء غير المتشرّعين آنئذٍ لم يكونوا يعترفون بأبسط الحقوق البشريّة للنساء، وقد جاء الإسلام واهتمّ بحقوق النساء وقال: «أنّي لا أُضيع عمل عامل منكُم من ذكرٍ أو أُنثى»(1)، وأثبت لهنّ كامل حقوقهنّ، وجعلهنّ في النصاب المفروض لهنّ من قبل اللّه تعالى. أمّا المساواة _ بالمعنى المزيّف منادى به اليوم في الغرب _ فلم تكن أمراً يتحدّث عنه وقتئذٍ لدى المجتمع الجاهلي الذي بزغ فيه نور الإسلام.

وثانياً _ أنّه لو افترضنا وجود مستوىً من الارتكاز العقلائي وقتئذٍ من هذا القبيل،


(1) آل عمران: 195.