362

وعليه نقول: إنّنا في الصورة التي كنّا نعلم فيها بدخول زيد في المسجد ولا نعلم بخروجه لو أردنا استصحاب الكلّي كانت أركان الاستصحاب تامّة، حيث إنّ اليقين السابق وهي الصورة التصديقية لمفهوم الإنسان غير منتقض باليقين؛ لأننا نشكّ في ارتفاع طرف الإشارة وزواله، فنتعبّد بالبقاء ونرتّب الآثار. وأمّا في هذه الصورة التي بين أيدينا والتي نعلم فيها بخروج زيد، ونحتمل دخول عمرو مقارناً لخروج زيد، أو قبل خروجه، فصحيح أنّنا كنّا قد استعملنا مفهوم الإنسان للإشارة، غير أنّنا قد علمنا بعد ذلك بارتفاع طرف الإشارة، وبالتالي بزوال الإشارة التي بها قوام العلم؛ لأنّ طرف الإشارة هو المعيّن؛ إذ لا تكون الإشارة إلاّ إلى المعيّن، وقد علمنا بخروج المعيّن، فعدم التعبّد ببقاء الإشارة وطرفها نقض لليقين باليقين، وتصوّر الإنسان ومفهومه ليس علماً لما قلناه في الأمر الثالث من أنّ المفاهيم التي هي أدوات الإشارة لا تكون علوماً مستقلّة قبال نفس الإشارة ومجرّدة عنها كما لا يخفى(1).

إذن فلا معنى لجريان الاستصحاب في هذه الصورة سواءً كان العلم التفصيلي بالفرد والإشارة إليه بمفهوم الإنسان أو بمفهوم آخر أكثر ضيقاً أو أقل. هذه هي لغة التحقيق في هذه الصورة.


(1) يبدو أنّ مغزى الكلام في المقام هو أنّ العلم بالكليّ ليس إلاّ جزءً تحليليّاً من العلم بالحصّة، كما أنّ الكلّي ليس إلاّ جزء تحليلياً من الحصّة. والوجه في كون العلم بالكلّي جزءً تحليليّاً من العلم بالحصّة أنّ العلم متقوّم بالإشارة المتقوّمة بالتعيّن، والتعيّن يكون للحصّة، فإذا جزمنا بانتفاء الحصّة فقد انتقض اليقين باليقين.

ونقصد بالاشارة إلى الحصّة معنىً واسعاً يشمل الإشارة الموجودة في موارد العلم الإجمالي الذي لا تعيّن لمتعلّقه في علم الله، وذلك لما ظهر في بحثنا عن معرفة حقيقة العلم الإجمالي من أنّ العناوين الانتزاعية من قبيل عنوان (أحدهما) قالبٌ صاغه الذهن البشري على قامة فرد واحد ومتمتّع بخاصيّة الإشارة.

وإذا علمنا إجمالاً بوجود أحد الفردين في الدار، ثمّ علمنا بخروج ذاك الفرد من الدار، واحتملنا دخول الفرد الآخر مقارناً لخروج الأوّل أو قبل دخوله، لم يجر ـ أيضاً ـ استصحاب الكلّي؛ لأنّ علمنا بخروج ذاك الفرد على إجماله يعني العلم بزوال طرف الإشارة، وهذا يعني انتقاض اليقين باليقين.

وقد يستنتج من هذا الكلام الذي ذكرناه أنّ استصحاب الكلي في القسم الثاني دائماً يبتلي بمشكلة استصحاب الحصّة فيه، وهي مشكلة استصحاب الفرد المردّد؛ لأنّ الحصّة فيه مردّدة بين ما يقطع بزوالها وما لا يقطع بحدوثها، والعلم بالكلي متقوّم بالإشارة إلى الحصّة.

إلاّ أنّ هذا غير صحيح؛ فإنّ إشكال الفرد المردّد إنّما يرد في استصحاب الحصّة بالمعنى الذي لا بدّ له من التعيّن عند الله رغم تردّده عندنا. أمّا استصحاب عنوان (أحدهما) القابل للانطباق على كلّ واحدة من الحصّتين من دون فرض الإشارة إلى ما هو المعيّن عند الله فلا يرد عليه هذا الإشكال، فهذا العنوان من ناحية متمتّع بالإشارية بالمعنى الذي يكفي في تقوّم العلم، ومن ناحية اُخرى ليس له تعيّن عند الله، وتردّد عندنا حتى يبتلي استصحابه بإشكال استصحاب الفرد المردّد.

363

واللغة الساذجة العرفية هي أن يقال: إنّ الجامع قد علمنا به في ضمن زيد الذي نقطع بانتفائه ولم نعلم به في ضمن فرد آخر حتّى يستصحب.

وبهذا انتهى الحديث عن الصورة الرابعة من استصحاب الكلّيّ، ولا بأس قبل أن نأتي على ختام هذا التنبيه الذي عقدناه لبحث استصحاب الكلّي أن نتعرّض لما يتراءى في بعض الكلمات أنّه قسم رابع لاستصحاب الكلّي غير الأقسام الثلاثة التي جرى عليها اصطلاح الشيخ الأعظم(رحمه الله)

 

القسم الرابع من الكلّيّ على غير اصطلاح الشيخ الأعظم

والمثال الذي طبّق عليه ذلك ما إذا تيقّنّا بالجنابة عند الصباح كما أنّه اغتسلنا عنها يقيناً، لكنّنا وجدنا في وقت متأخر أثر الجنابة على الثوب مثلاً ممّا أدّى إلى الشكّ في أنّه هل حصل بعد الغسل عن الجنابة الصباحية أو أنّه منها؟ فيشكّ على هذا الأساس في بقاء الجنابة التي يدلّ عليها هذا الأثر وعدمه.

وإنّما جعل هذا قسماً جديداً ـ كما عن السيّد الاُستاذ ـ(1) على اعتبار أنّه يعاكس القسم الثاني الذي كان اليقين فيه منصبّاً على الجامع وعنوان واحد له فردان يشكّ في أنّ الحادث هذا الفرد أو ذاك. أمّا هنا فاليقين قد انصبّ على فرد واحد وهو الجنابة التي نشير إليها عن طريق الأثر المرئي في الثوب، ولهذا الفرد عنوانان يتردد بينهما وهي الجنابة الصباحية والجنابة الناشئة من هذا المني، ولا يدري أنّ هذا الفرد هل هو فرد لكلا العنوانين، أو لأحدهما دون الآخر.

وأيّاً ما كان، فهل يلحق هذا بالقسم الثاني، فيقال فيه بجريان استصحاب الكلّي، أو يلحق بالقسم الثالث فيقال بعدم جريانه فيه؟

قد يقال بالأوّل على أساس أنّنا نعلم إجمالاً بجنابة ناشئة من هذا الأثر المرئي، ولا نعلم بارتفاعها على كلّ تقدير، فإنّها مرتفعة على تقدير كون الجنابة الصباحية هي الناشئة من هذا الأثر، وإلاّ فهي باقية وغير مرتفعة بالغسل السابق، إذن فيستصحب البقاء.

وقد ذهب إلى هذا السيد الاُستاذ، وادّعى جريان استصحاب كلّي الجنابة في المثال في نفسه ولا مانع منه إلاّ استصحاب الطهارة المتيقّنة بعد الغسل المتيقن، فتيعارضان


(1) راجع مصباح الاُصول: ج3، ص104.

364

ويتساقطان، ويرجع بعد ذلك إلى أصالة الاشتغال في تحصيل الطهارة المشترطة في العبادات.

وقد يقال بالثاني، وأنّ هذا الفرع ليس إلاّ مصداقاً من مصاديق القسم الثالث، إذ نعلم تفصيلاً بفرد من الجنابة، وهو الجنابة عند الصباح، وهو قد زال بالفرض، ويشكّ في بقاء الكلّي ضمن فرد آخر متحقّق بعد انتفاء الفرد الأوّل، ومقتضى الأصل عدمه.

وهذا ما أفتى به المحقق الهمداني(رحمه الله).

ونحن في غنىً عن جعل هذا قسماً جديداً، وصورة اُخرى غير الصور الأربعة التي ذكرناها وأقمناها على نكات فنيّة، فإنّه سواء جرى الاستصحاب فيه أم لا فهو ملحق موضوعاً بإحدى الصورتين: الثالثة أو الرابعة، حيث إنّه وقع الشكّ في بقاء الجامع الناشئ من الشكّ في حدوث الفرد، فإذا لاحظنا الجامع عنوان الجنابة فالشكّ في بقائه من ناحية حدوث فرد جديد، أي: من دون علم إجمالي في الفرد. وإن فرضنا الجامع عنوان الجنابة الحادثة مع هذا الأثر فالشكّ في بقائه من ناحية العلم الإجمالي في حدوثه ضمن أحد فردين وحصّتين يعلم بانتفاء أحدهما.

وأيّاً ما كان، فالصحيح عدم جريان استصحاب كلّي الجنابة في هذا القسم، فما ذكره السيّد الاستاذ غير تامّ، وذلك:

أوّلاً: للنقض بأنّ السماح بمثل هذا التمحّل، وهو أن يؤخذ فيه الجنابة الناشئة من هذا الأثر ونحوه من القيود لتشكيل علم إجمالي غير منحلّ يؤدّي إلى عدم جريان استصحاب الحدث إلاّ معارضاً لاستصحاب الطهارة، وكذا العكس بحيث تسقط إمكانية إجراء استصحاب الحدث أو الطهارة من دون تعارض إطلاقاً، مع أنّه مما لا يلتزم به، وممّا هو خلاف مورد الصحيحة الدالّة على الاستصحاب.

أمّا كيفيّة اللزوم فبيانها: أنّ الشخص الذي بال ثمّ توضّأ ثم شكّ مثلاً في بقاء وضوئه وطهارته لاحتمال أنّه بال ثانياً أو لم يبُل يتصوّر بشأنه علم إجمالي بحدث بنحو غير منحلّ، وذلك بأن يقول: إنّني أعلم إجمالاً بوجود حدث عندي مقارناً لاخِر بول خرج منّي، فلو كان آخِر بول قبلَ الوضوء فكلّ الحدث قد ارتفع، وإلاّ فهو باق، فيستصحب بقاء هذا الجامع غير المنحل، فيتعارض مع استصحاب الطهارة، وهكذا في طرف استصحاب الحدث.

وثانياً: للنقض ـ أيضاً ـ باستصحاب الكلّي من القسم الثالث حسب اصطلاح الشيخ(رحمه الله)، فإنّه دائماً يمكن إرجاعه إلى علم إجمالي بالجامع بنحو غير منحلّ، حيث إنّا لو

365

علمنا مثلاً بدخول زيد في المسجد، وعلمنا بخروجه مع الشكّ في وجود الكلّي ضمن عمرو، أمكننا تصوير عنوان كلّي غير منحل وهو عنوان الإنسان الذي ليس معه إنسان آخر غير متيّقن، فهذا ينطبق على زيد لو كان هو الموجود فقط، وعلى عمرو لو كان هو موجود أيضاً؛ لأنّه إنسان ليس معه إنسان آخر غير متيّقن، وإنّما معه زيد المتيّقن، فهذا الجامع ينطبق على عمرو ـ على تقدير وجوده واقعاً ـ دون زيد؛ لأنّه حينئذ إنسان معه فرد آخر غير متيّقن، وهو عمرو. فهذا عنوان إجمالي منطبق: إمّا على زيد أو على عمرو، وليس انطباقه على زيد على كل تقدير، أي: سواء كان عمرو موجوداً أم لا كي يقال بالانحلال. وبالإمكان أن نختصر العنوان الإجمالي فنقول: الانسان الذي لم يدخل بعده غيره، فإن كان زيد هو الداخل فقط فهو ينطبق عليه، وإن كان عمرو قد دخل بعده فهو الذي ينطبق عليه هذا العنوان لا زيد، وعليه فيجري الاستصحاب بلحاظ هذا العنوان الكلّي غير المنحل.

وثالثاً: للحلّ بأنّ هذا الاستصحاب إن اُريد إجراؤه بلحاظ عنوان الجنابة من دون قيد فهو من القسم الذي لا يجري استصحاب الكلّي فيه، حيث إن كلّيّ الجنابة نعلم تفصيلاً بتحقّقه ضمن الفرد الصباحي، ونشكّ في تحقّقه ضمن فرد آخر لا يعلم وجوده من اصله، وإن اُريد إجراؤه بلحاظ عنوان الجنابة الحادثة مع الأثر المرئي فعندئذ نقول: إن اُريد إجراء الاستصحاب على هذا العنوان لإثبات الأثر بلحاظه بحيث كان هذا العنوان هو مركب الاستصحاب، فجوابه: أنّ هذا العنوان ليس هو موضوع الأثر، وإنّما موضوع الأثر هو ذات الجنابة من دون أن يكون لحدوثه من هذا الأثر دخل في الأثر، وإن اُريد ذلك بنحو يكون العنوان الإجمالي مشيراً إلى ذات الجنابة في الواقع فتكون هي مركب الاستصحاب، فهذا من استصحاب الفرد المردّد الذي تقدّم الكلام فيه.

إذن، فالصحيح أنّ أقسام استصحاب الكلّي هي ما ذكرناه، وهذا الفرع ليس إلاّ تطبيقاً من تطبيقات الصورة الرابعة حسب ترقيمنا لأقسام الاستصحاب، والذي قلنا فيه بعدم جريان استصحاب الكلّي.

ولا بأس أن ننبّه هنا إلى استثناء عن هذا الكلام سوف يأتي الحديث عنه مفصّلاً في محلّه إنشاء الله تعالى.

وعنوان التخصيص هو: أنّ ما نستصحبه تارةً يكون ثابتاً للفرد صدفة، من قبيل وجود الإنسان في الدار ضمن زيد صدفة وأردنا استصحابه وإبقاءه ولو ضمن عمرو، وأخرى يكون كذلك بلحاظ اقتضاء الطبيعة لذلك، كما إذا فرضنا أنّ طبيعة الإنسان الأفريقي يقتضي

366

سواد البشرة، ثمّ مات الأفريقيون، وجاء جيل جديد منهم نشكّ في أنّهم على غرار آبائهم أو لا، فهنا يستصحب بقاء السواد للأفريقي ويثبت سواد الجيل الجديد منهم؛ لصدق عنوان نقض اليقين بالشكّ هنا عرفاً. وكأنّ الميزان في ذلك: أنّ منشأ الشكّ لو كان هو مرور الزمان كما في مثال الأفريقي، بحيث لو كان الفرد الجديد موجوداً من قبل كان أسود يجري الاستصحاب لصدق العنوان، وإلاّ فلا.

وتفصيل الحديث موكول إلى محلّه.

 

 

367

 

 

 

استصحاب الزمان والزمانيات:

 

التنبيه الخامس: يبحث في هذا التنبيه عن حال الاستصحاب في عالم الموجودات الحركيّة غير القارّة والساكنة، وهي: إمّا تكون حركيّة بنفسها وبطبيعتها، كالزمان، والمشي، والكنس، والكلام، وغيرها ممّا هي حركة بطبعها، أو تكون غير قارّة باعتبار ربطها وشدّها بأمر غير قارّ، كتقييد الجلوس الذي هو بطبعه سكون وقرار بالزمان، فيقع الكلام في مقامين:

 

استصحاب الاُمور غير القارّة:

المقام الأوّل: في استصحاب الاُمور التي من طبعها الحركة وهذا المقام هو أيضاً يتضمّن أمرين: استصحاب الزمان، واستصحاب المتحرّك من غير الزمان، كالمشي، والجري، والكلام التي تسمّى بالزمانيات.

 

الأمر الأوّل: استصحاب الزمان:

وهنا نتكلم أوّلاً في تمامية أركان الاستصحاب في الزمان، ثمّ ننظر فيما يترتّب عليه من الآثار والأحكام، فنقول: الاستصحاب في الزمان تارةً يقصد إجراؤه بنحو مفاد كان التامّة، كما إذا شككنا في بقاء النهار فنستصحب بقاءه، واُخرى بنحو مفاد كان الناقصة، بأن نثبت أنّ هذا الزمان نهار.

 

الاستصحاب بنحو مفاد كان التامّة:

أمّا الاستصحاب بنحو مفاد كان التامّة فنقطة الضعف المتصوّرة فيه هو: أنّ الزمان باعتباره أمراً تدريجياً فليس له حدوث وبقاء، وإنّما هو عبارة عن الحدوث والتجدّد المتتالي، فالجزء المشكوك منه غير الجزء المتيّقن، وعليه لا يكون قابلاً للاستصحاب والإبقاء التعبّدي.

وهذه النقطة غير تامّة، وذلك لأنّا حتّى إذا سلّمنا بأنّ الزمان بحسب الدقّة الفلسفية

368

عبارة عن وجودات حادثة وليس وجوداً واحداً مستمراً وإن كان خلاف التحقيق؛ إذ مع فرض تعدّد الوجودات الزمانية يلزم إمّا القول بالجزء الذي لا يتجزّأ، أو انحصار ما لا نهاية له بين حاصرين، قلنا بجريان الاستصحاب وتمامية أركانه؛ لأنّ العبرة في شمول إطلاق دليله له بالوحدة العرفية، وهي ثابتة جزماً، ويكفينا دليلاً على ثبوتها الأوضاع اللغوية والعرفية، حيث وضعت كلمة (النهار) لقطعة من الزمان وهي ما بين طلوع الشمس وغروبها مثلاً، وهذا ليس إلاّ بملاحظة هذه القطعة الزمانية واحدة متصلة، وإلاّ فنتساءل: هل كلمة (النهار) موضوعة لكلّ آن من هذه الآنات العديدة بنحو الاشتراك اللفظي؟ وهذا واضح البطلان؛ إذ ليست لكلمة (النهار) أوضاع متعدّدة بتعدّد الآنات. أو أنّها موضوعة بنحو الاشتراك المعنوي، بنحو يكون لنا في يوم واحد عدد كبير من النهار بعدد الآنات مثلاً، تكون نسبة الكلمة إليها نسبة الكلّي إلى أفراده؟ وهذا ـ أيضاً ـ واضح البطلان؛ لوضوح عدم وجود نهارات عديدة في اليوم الواحد. أو أنّها موضوعة بنحو تكون نسبتها إلى كلّ آن نسبة الكلّ إلى الجزء على نهج وضع كلمة (البيت) مثلاً لمجموع المرافق ونحو ذلك من الاُمور القارّة؟ وهذا ـ أيضاً ـ واضح البطلان؛ فإنّ عنوان (البيت) مثلاً ونحوه من الاُمور القارة اسم على المجموع، ولا يكون عنوان (البيت) صادقاً ومتحقّقاً بتحقّق الغرفة الاُولى مثلاً، في حين أنّ عنوان (النهار) يعتبر فعليّاً منذ الآن الأوّل، وباقياً على فعليّته إلى الآن الأخير. إذن، لا يبقى إلاّ ما أردناه، وهو أنّ نسبة النهار إلى الأجزاء والآنات نسبة الكلّ إلى أجزائه بنحو يختلف عن الكلّ والإجزاء في عالم السكون، وذلك بصدق العنوان بالفعل بتحقّق جزئه الأوّل، وبجزئه الثاني، وبجزئه الثالث، وهكذا إلى آخر الأجزاء. وهذا يعني أنّ تعدّد الأجزاء الطولية له ولنحوه من سائر الاُمور الحركية يكون بمعنى كونه شيئاً واحداً متصرماً ومتدرّجاً في الحصول، فإذا لوحظ عمود الزمان وآناته وأجزائه، فهذا يستدعي الكثرة والتعدّد. أمّا إذا لوحظ مفهوم (النهار) أو غيره ممّا وضع للكلّ يُرى أنّه أمر واحد كالخيط الواحد الممتدّ تمام حقيقته تبرز في كلّ آن ومرحلة(1).

 


(1)ويمكن تقريب الفكرة إلى الذهن بتشبيه ذلك بالاُمور القارّة التي لو قطّعت نصفين لانتهينا إلى مصداقين لذلك الأمر، في حين أنّه قبل التقطيع لا يوجد إلاّ مصداق واحد. فمثلاً الماء حينما يكون في إناء واحد يكون ماءً واحداً مهما بلغ من الكثرة، وحينما يصبّ نفس ذاك المقدار في إنائين يكون لدينا ماءآن، واذا قسمّ إلى أقسام ثلاثة منقطع بعضها عن بعض كان لدينا مصاديق ثلاثة لمفهوم الماء، وهكذا. أو قل: إنّ المياه المتعدّدة حينما نضمّ بعضها

369

فإذا اتّضح هذا الأمر العرفي اتّضح الوجه في جريان الاستصحاب في الزمان وتماميّة أركانه فيه، حيث إنّه بهذا الاعتبار العرفي الذي ينزّل عليه دليل الاستصحاب يكون الزمان شيئاً واحداً له حدوث وبقاء يمكن التعبّد به حين الشكّ في بقائه على حدّ موجودات عالم السكون والقرار.

وقد حاول المحقّق الخراساني (قدس سره) التصدّي إلى جواب آخر(1)، وهو أنّ الحركة على قسمين: الحركة التوسطيّة، والحركة القطعيّة.

ويقصد بالأوّل الحركة بين المبدأ والمنتهى الذي يكون التحرّك فيها صادقاً بتمام حقيقته بين المبدأ والمنتهى في جميع الأنات كصدق الكلّيّ في تمام أفراده. ويقصد بالثاني الخطّ المقطعي الذي نسبته إلى كلّ أجزائه كنسبة الخط الوهمي الممتد في الخيال من مكان إلى مكان، وهي من قبيل نسبة الكلّ إلى أجزائه التي لا يستكمل حقيقته إلاّ بتمامها. ففي مثل الأوّل يجري الاستصحاب دون الثاني، ووجه ذلك: أنّ العنوان متحقّق وصادق في الأوّل بتمامه منذ اللحظة الاُولى فيجري استصحابه، وهذا بخلاف الثاني الذي لم يكتمل في كلّ مرحلة حقيقته، بل هو في اكتمال وتجدّد وحدوث.

والواقع: أنّ هذا البيان لا أثر له في دفع الإشكال؛ وذلك لأنّه: إمّا أن يعترف بالوحدة ولو عرفاً بين مراحل الحركة وحلقاتها بنحو يُرى شيئاً واحداً متّصلاً له حدوث وبقاء، فعندئذ ينبغي أن يعترف بجريان الاستصحاب حتى في مثل الحركة القطعية، أو لا يعترف بهذه الوحدة، أو يغضّ النظر عنها، فهنالك لا يتمّ هذا الكلام لتصحيح جريان الاستصحاب؛ إذ لو لم تكن هنالك وحدة بين المراحل والآنات في الزمان، بل كان كلّ آن ومرحلة وجزء فرداً جديداً آخر، فلا جدوى في جعل الحركة توسطيّة لإجراء الاستصحاب، فإن هذا الموضوع الكليّ المنتزع والذي نسبته إلى المراحل نسبة الكلّي إلى أفراده إذا اُريد استصحابه حين الشكّ، فهذا لا يكون إلاّ استصحاباً من القسم الثالث من أقسام الكلّي حسب مصطلح الرسائل في تقسيم الكلي؛ لأنّه يعلم بتحقق هذا المفهوم المنتزع ضمن الفرد المتيقن ويشكّ في


إلى بعض نحصل على ماء واحد لا على مياه متعدّدة، فالنهار ـ أيضاً ـ حينما يوجد ولو بجزئه يسمّى نهاراً، وحينما يضمّ إليه جزئه الآخر يفرض المجموع ـ أيضاً ـ نهاراً واحداً، وحينما يلتحق به الآن الثالث يكون المجموع ـ أيضاً ـ نهاراً واحداً، وهكذا الحال إلى آخر النهار.

(1) راجع الكفاية: ج 2، ص 315 بحسب الطبعة المشتملة في حاشيتها على تعليقات المشكيني.

370

بقائه ضمن فرد وجزئي آخر مسبوق بالعدم، والمفروض عند المحقّقين عدم جريان الاستصحاب في هذا القسم.

ثم لو فرض قيام الدليل والبرهان العقلي والفلسفي على وحدة مّا فهل يكفي ذلك في تصحيح جريان الاستصحاب مع عدم التفات العرف إلى مثل هذه الوحدة المبرهن عليها؟ أو لا يكفي؛ لأنّ خطاب الاستصحاب يُنزّل على المفهوم العرفي، فلا يشمل في مدلوله العرفي مثل هذه الصورة؟

الصحيح: أن يقال بأنّ النظر العرفي النافي للوحدة أو الشاكّ فيها تارة: يكون بلحاظ الوحدة لا وجود الواحد، بأن لا يعترف أو يشككّ في صدق الوحدة وتحقّقها، واُخرى يعني: أنّه لا يدرك وجود الواحد بحيث إنّه على تقدير وجوده يعترف بوحدته وعدم تعدّده، كما إذا فرضنا أنّ العرف لا يدرك وجود الملك لكننا أثبتناه ولو بقاعدة إمكان الأشرف، ففي مثل الثاني يجري الاستصحاب بلا إشكال؛ لأنّ العرف يسلّم بتحقّق الوحدة وأن هذا الملك بقاءً عينه حدوثاً، وإنّما هو لم يكن يدرك الوجود.

أمّا في الأوّل فلا جريان للاستصحاب؛ لأنّ العرف لا يرى الوحدة، فلا يرى من دليل الاستصحاب المشروط فيه الوحدة إطلاقاً لذلك، أو يراه مجملاً فيما إذا شكّ في الوحدة وعدمها.

 

مناشئ الوحدة الموضوعية

ولا بأس ونحن بعد في المقام الأوّل ان نبيّن مناشي الوحدة في الموضوع المعتبرة في الاستصحاب كضابطة عامة نرجع إليها في الموجودات القارّة وغير القارّة حسب اختلافها. فنقول: إنّ هنالك مناشئ عديدة كلّ منها صالحة لتحقيق الوحدة الموضوعية المعتبرة في الاستصحاب وهي:

1 ـ الثبات والقرار. فإنّ الموجودات القارّة تعتبر واحدة لها حدوث وبقاء، فتكون واحدة عقلاً وعرفاً.

2 ـ الاتّصال والتلاصق الحقيقي. فإنّ هذا ـ ايضاً ـ منشأ للوحدة عقلاً وعرفاً، فالحركة باعتبار اتّصالها عقلاً ودقّةً وعرفاً تعتبر أمراً واحداً ويجري فيها الاستصحاب.

3 ـ الاتّصال بالنظر العرفي الكاذب وغير المطابق للواقع. فإنّ هذا ـ أيضاً ـ يحقّق الوحدة التي تشترط في الاستصحاب من قبيل ما إذا فرضنا أنّ عقارب الساعة في دورانها

371

وحركتها لها وقفات وسكنات ضيئلة لا ترى بالنظر السطحي، وبما أنّ هذه الوقفات والسكنات لا تلحظ عرفاً لا ترى الحركة إلاّ واحدة ممتدة متّصلة، وبذلك تتحقّق الوحدة المعتبرة، ولا يتصوّر أنّ هذا من باب اشتباه العرف وخطئه في تشخيص المصداق، وهو في مثله غير متّبع، وإنّما المتّبع نظر العرف في المفاهيم، فإنّ هذه القاعدة لو سلّمت بشكل عام لا يسلّم بها في المقام بالخصوص؛ لأنّ اعتبار الوحدة في جريان الاستصحاب ليس من باب الفهم العرفي والمفهومي للوحدة والتعدد حتّى لا يكون نظره محكّماً في تشخيص المصداق مثلاً، وإنّما هو بنكتة اُخرى تقتضي اعتبار الوحدة العرفية في جريان الاستصحاب، وتتميم الإطلاق في مفهوم الاستصحاب سوف يأتي شرحه في موضعه إن شاء الله.

4 ـ الاتّصال الادّعائي العرفي، أو قل: تغطية العرف للوقفات والسكنات والانفصالات المتخللّة بأن يوسّع في المفهوم بحيث يعمّ التخلل الواقع في البين، والذي يدركه ـ ايضاً ـ بنظره السطحي، لكنّه مع ذلك يغطيه ويوسّع من المفهوم بنحو يُرى واحداً، من قبيل ما إذا لاحظنا مفهوم الخطابة أو الكلام، فإنّه لا إشكال عقلاً وعرفاً في عدم اتّصال الجمل والأصوات الخطابية والكلامية بعضها ببعض، بل هنالك فجوات وتخللات، غير أنّ هذه الفجوات المتخلّلة باعتبار أنّهاترى كتوابع وشؤون للكلام يتغطّى في مفهوم الخطابة والكلام، بحيث يشمل الأعمّ من الأصوات والألفاظ مع الفجوات المتخللّة، ولهذا يقال: (خطب أو تكلّم فلان ساعة كاملة) مع أنّه إذا اُريد استثناء الفجوات والوقفات المتخللة لكان الزمان أقلّ من ساعة في المثال، فمثل هذا شاهد على دعوانا من أنّ العرف يوسع من دائرة المفهوم بحيث يجعله شاملاً لمثل هذه الفجوات التي يبصرها هو ـ أيضاً ـ ولا تخفى عليه كما في الصورة السابقة في مثال دوران عقرب الساعة، فيكون ـ لا محالة ـ شيئاً واحداً عرفاً له حدوث وبقاء.

5 ـ وقد يكون المنشأ في الوحدة العرفية أمراً آخر غير هذه الاُمور الأربعة جميعاً، فقد لا يكون هنالك ثبات وقرار، ولا اتّصال عقلي واقعي، ولا اتّصال عرفي كاذب، ولا تغطية وتوسيع في دائرة المفهوم، ومع ذلك تكون الوحدة العرفية المعتبرة في الاستصحاب محفوظة، وذلك حينما يتكرّر العمل ويتوالى في الوقوع والتحقّق ولو بفواصل زمنية واسعة، غير أنّ التكرار المتواصل والتعاقب المستمرّ يؤدّي إلى أن يعتبر العرف وحدة بلحاظ هذه الوقائع المتعدّدة، يجعل لها حدوثاً واحداً وبقاءً لذلك الأمر الواحد. مثاله: ما إذا اعتاد أن يباحث شخص في كلّ يوم، أو اعتاد على المشي فجر كلّ يوم، فإنّ زمن البحث أو المشي لا يقاس

372

بالزمن المتخلل بين البحثين والواقعتين، لكنّه مع ذلك يرى العرف أن هنالك أمراً واحداً هو البحث المستمر المتواصل، أو المشي كذلك، يعبّر عن ذلك بأنّه ما زال يباحث وأنّه باق على عمله ومشيه، فتكون الوحدة العرفية المحقّقة للحدوث والبقاء محقّقة في مثل هذه الموارد، ولهذا نجد جريان نكتة الاستصحاب الارتكازي في مثل هذه الموارد، أي: إنّه لا يفرق في نظر العرف المعترف بالاستصحاب في الاُمور القارّة وفيما يكون من هذا القبيل ممّا يدلّ على انحفاظ الوحدة المعتبرة. وأيّما كان فهذا ـ أيضاً ـ منشأ من مناشئ الوحدة العرفية المصحّحة لجريان الاستصحاب.

ولا شيء يقابل به هذا المنشأ إلاّ ما قد يقال من أنّ استصحاب بقاء هذا الشيء الواحد كالبحث مثلاً معارض باستصحاب آخر يجري بلحاظ العدم المتخلل بين الواقعتين، فيقال مثلاً: إنّنا نستصحب عدم البحث الثابت قبل الوقت المعرّض للبحث من كلّ يوم، وبذلك ينتفي البحث في اليوم الذي نشكّ فيه. فالحاصل: أنّنا إذا ما نظرنا بإحدى العينين نرى أنّ هنالك شيئاً واحداً عرفاً له حدوث وبقاء بالرغم من تخلّل العدم، فيستصحب بقاء هذا الشيء الواحد عند الشك فيه، وإذا ما نظرنا بالعين الثانية نرى أنّ المشكوك مسبوق بالعدم مثلاً، فيستصحب العدم.

وإجمال الجواب على ذلك هو: أنّ الشيء المشكوك لو كانت له حالة سابقة مركّبة، أي: كانت لحالته السابقة حالةٌ وصفةٌ سابقة أيضاً، يكون الجاري هو الاستصحاب بلحاظ تلك الحالة السابقة الثانية لا الاُولى، ففي مثال البحث وإن كانت الحالة السابقة قبل البحث المشكوك هي العدم غير أنّ هذا العدم حالته سابقاً أنّه كان ينتقض بالوجود في كلّ يوم سابق (وتخلل الوجود بين العدم في هذا اليوم والعدم في الأيّام السابقة لا يضرّ بالوحدة العرفية كما قلنا)، فتكون الحالة السابقة المعتبرة في مثل هذا هي حالة انتقاض العدم بالوجود، لا حالة العدم، فلا معارضة في البين على شرح موكول إلى محلّ آخر.

فيتلخّص من كلّ ما ذكر: أنّ هنالك مناشئ خمسة لتحقّق الوحدة العرفية المعتبرة في الاستصحاب بحيث يكون كلّ واحد كافياً لتحقيق هذا الشرط.

نعم، ربما يعرض في البين مانع آخر يثلم الوحدة بنكتة مستقلّة، فتوجب عدم إمكان الاستصحاب في شخص الواحد الذي وجد، بحيث يحدث في البين عنوان جديد يرى أنّه موضوع آخر غير الأوّل وإن كان منشأ الوحدة بالنظر الدقّي موجوداً، مثلاً إذا استحال الشيء الواحد القارّ إلى موضوع آخر، أو إذا انتقل الباحث إلى كلام آخر غير بحثي

373

كالمجاملات والتعارفات في المجلس بعد انتهاء البحث، فمثل هذه توجب أن يرى العرف انتهاء موضوع وبدء أمر وكلام جديد مستقل منفصل، فلا يجري الاستصحاب عند الشكّ في بقاء الحركة في كلام جديد مثلاً. فإنّ هذا يرى عند العرف فرداً جديداً يشكّ في حدوثه، ولا يرى نفس الأمر الأوّل وبقاءه، ولهذا يكون جريان استصحاب الحركة أو الكلام من استصحاب القسم الثالث من الكلي الذي لم يكن جارياً.

وقد اتّضح من بياننا في هذا المقام أنّ تنبيه استصحاب الزمان والزمانيات ليست جهة البحث فيه إلاّ مسألة الوحدة العرفية وتعقلها في الزمان الذي هو أمر مضطرب متصرّم متجدّد، فهو بحسب الحقيقة من شؤون التنبيه الذي يعقد لملاحظة هذا الشرط في الاستصحاب، فلا ينبغي جعله مستقلاً عنه، غير أنّ مثل هذا التشويش والاضطراب في مباحث الاستصحاب وتنبيهاتها مطّرد في أغلب التنبيهات، وحقّ البحث أن تصاغ مباحث الاستصحاب من جديد في صياغة اُخرى يحدّد فيها لكلّ بحث موضعه ومقامه، وهذا مأمول أن نقوم به ـ إن شاء الله تعالى ـ في الدورات القادمة، بعون الله وقوّته تعالى، فإنّنا في هذه الدورة بنينا على أن لا نمسَّ الهيكل العظمي لمباحث علم الاُصول الفاظها وعقلياتها.

هذا تمام الكلام بلحاظ استصحاب الزمان بنحو مفاد كان التامة.

 

الاستصحاب بنحو مفاد كان الناقصة

وأمّا استصحابه بنحو مفاد كان الناقصة لإثبات أنّ هذه اللحظة المشكوكة نهار أو ليل، فقد قال المحققون قاطبة ما عدا المحقّق العراقي في تقريراته(1) لا في مقالاته بعدم جريان هذا الاستصحاب؛ لأنّ الزمن المشكوك لم يكن قد وجد نهاراً فيما سبق حتى نستصحب له ذلك، فيثبت مفاد كان الناقصة، بل منذ أن وجد وحدث يشكّ أنّه نهار أو لا. واستصحاب بقاء النهار الذي هو مفاد كان التامّة لا يثبت نهارية الزمن المشكوك إلاّ بالملازمة العقليّة الخارجة عن مدلول الاستصحاب.

غير أنّ الصحيح جريان استصحاب الزمان بنحو مفاد كان الناقصة ـ أيضاً ـ كما كان يجري بنحو مفاد كان التامة، ولا يمكن التفكيك بين المفادين؛ لأنّ نفس النكتة التي صحّحت جريان استصحاب مفاد كان التامة تصحّح جريانه.


(1) راجع القسم الأوّل من الجزء الرابع من نهاية الأفكار ص 148 ـ 149 بحسب طبعة جماعة المدرّسين في قم.

374

توضيح ذلك: أنّ المفروض تحقّق وحدة عرفية للزمان بحيث أوجبت أن تصبح الآنات واللحظات المتتابعة كأنّها أمر واحد ممتدّ مستمرّ وقد كان متّصفاً بالفجرية مثلاً ونحن نشكّ في أنّ هذه الصفة بعد باقية لهذا الموجود الواحد أو أنّها زالت وانتفت، فنستصحب بقاءها، فأمّا لو لاحظ العرف الآنات واللحظات بما هي امور متعدّدة وحدوثات تتلو حدوثات، فعندئذ كما لا يجري استصحاب مفاد كان الناقصة؛ لأنّ هذا الحدث لم يكن سابقاً موصوفاً بالفجرية كذلك لا يجري استصحاب كان التامة. أمّا إذا اعترفنا بأنّها أمر واحد عرفاً له حدوث وبقاء فلا محالة عند الشك في بقاء وصف من أوصاف هذا الموجود الواحد كالفجرية مثلاً نستصحب بقاءه، فإنّ مثل هذه الأوصاف والأعراض والحالات حدوثها وبقاؤها يتبع حدوث وبقاء موصوفاتها. وإن شئت قلت: إنّ الشكّ في الفجريّة بالإمكان رفعه بأن يُلحظ المفهوم الوحداني الذي يضمّ الفجر أيضاً، وهو النهار مثلاً، حيث إنّه أمر واحد موصوف أوّلاً بأنّه فجر، وثانياً بأنّه زوال، وثالثاً بأنّه عصر مثلاً، فنقول: إن هذا النهار المشكوك أنّه فجر أو لا كان فجراً سابقاً فالآن كما كان، فتثبت فجريّته.

 

الآثار المترتبة على الاستصحاب بالنحوين

بعد هذا ننتقل إلى ما يمكن أن يترتّب على استصحاب الزمان بنحو كان التامة أو الناقصة من آثار، ونتكلّم في هذه النقطة هنا على نحو الإجمال والكليّة؛ لأنّا سوف ندخل في تفصيلات ذلك في ذيل البحث عن المقام الثاني ـ إن شاء الله ـ.

فنقول: إنّ الزمان بنحو مفاد كان التامة أو الناقصة لو كان قد اُخذ في الموضوع كجزء الموضوع لا كقيد، فاستصحابه بالنحو الذي أُخذ فيه يفيد في ترتيب الأثر لا محالة.

وأما إذا كان قد اُخذ بنحو التقييد، فنحن نعلم أنّ القيد خارج عن حقيقة الموضوع، وأنّ التقيّد هو الجزء التحليلي الحقيقي له، فعندئذ استصحاب الزمان بأحد المفادين لا يثبت إلاّ ذات المقيّد، أمّا التقيّد فثبوته يحتاج إلى ملازمة عقلية خارجة عن مدلول الاستصحاب، فلا يثبت به لا محالة.

هذا حاصل الكلام في الأمر الأوّل وهو استصحاب الزمان.

 

الأمر الثاني: استصحاب الزمانيات:

أي: سائر موجودات عالم الحركة والتجدّد، كالجري والكنس والبحث وغيرها من

375

الحركات، وقد اتّضح حالها ممّا ذكرنا في الأمر السابق، حيث بيّنا أنّ منشأ الوحدة العرفية غير منحصر في الثبات والقرار حتى لا يجري الاستصحاب في الحركة، بل هنالك مناشئ اُخرى فيها ما يشمل ما لا يكون حركة بالدقّة العقلية كحركة عقارب الساعة، بل العرفية ـ أيضاً ـ كالكلام ونحوه، بل فيها ما يشمل مثل البحث في كلّ يوم من الاُمور التي من الواضح عقلاً وعرفاً عدم الاتصال بينها، لكنّه مع ذلك يُرى ذلك واحداً عرفاً باعتبار التسلسل الرتيب بينها. وعليه فلا يبقى مجال للاستشكال في جريان الاستصحاب فيها أيضاً، إذن فكلّ ما ذكر في الأمر السابق جار هنا دون زيادة.

وبهذا ينتهي المقام الأوّل.

 

استصحاب الاُمور القارّة المقيّدة بالزمان

المقام الثاني: في الأمور القارة المقيّدة بالزمان، كالجلوس النهاري، فيكون بذلك منصرماً متجدداً باعتبار تصرّم وتجدد ما قيّد به.

هنا ـ ايضاً ـ يرد الإشكال المذكور في الاُمور الحركية وغير القارّة، حيث إنّ الجلوس في المثال وإن كان قارّاً في نفسه غير أنّه بعدما قيّد بالزمان الذي هو متجدّد ومتصرّم يصبح المقيّد ـ أيضاً ـ عبارة عن مجموعة حدوثات وتجدّدات متصرّمة، فإنّ تعدّد القيد وتكثّره يستدعي تعدّد المقيّد لا محالة.

ويكون الجواب عندئذ هو ما ذكر من المقام السابق من أنّ عمود الزمان في نظر العرف يرى شيئاً واحداً، وأنّ منشأ الوحدة اللازمة في الاستصحاب تحقيقاً لعنوان نقض اليقين بالشكّ غير منحصر في القرار والثبات كما ذكرنا ذلك مفصّلاً.

وعليه فيجري استصحاب بقاء المقيّد بما هو مقيّد عند الشكّ فيه، أو قل: استصحاب التقيّد بعد وجدانية ذات المقيّد.

ولكن جريان هذا الاستصحاب موقوف على أمرين:

1 ـ ان يكون للمقيد بما هو مقيّد حالة سابقة، أي: يكون هناك يقين بتحقّق الجلوس النهاري مثلاً قبل زمان الشكّ، وإنّما يشكّ في أنّ امتداده ـ ايضاً ـ نهاري أو لا، فيستصحب. وأمّا إذا افترض أنّ الجلوس لم يكن سابقاً وإنّما تحقّق في الزمن المشكوك فيه فلا يمكن الاستصحاب؛ لعدم الحالة السابقة للمقيّد بما هو مقيّد، واستصحاب ذات القيد وهو النهار لا يثبت التقيّد المفروض.

376

وأمّا دعوى: أنّ هذا الجلوس لو كان فيما مضى من الزمان لكان نهارياً، فالآن كما كان، فهذا الاستصحاب التعليقي من الاُمور التكونية، أي: في القضية الشرطية التي شرطها وجزاؤها خارجيان معاً، فتكون الملازمة حقيقيّة وخارجية لا شرعية، ومثل هذا الاستصحاب التعليقي غير جار حتّى لو قيل بالاستصحاب التعليقي في الملازمات الشرعية على ما يأتي إن شاء الله تعالى.

2 ـ أنّ لا يؤخذ الزمان بنحو التقطيع والتجزئة قيداً، كما لو اُخذت الساعة الاُولى قيداً مستقلاًّ، والساعة الثانية قيداً آخر وهكذا، والمفروض الشكّ في إحدى الساعات: هل هي من النهار الذي أُخذت ساعاته قيداً أو لا، فإنّه في مثل هذا لا يجري استصحاب المقيّد؛ لأنّه توجد هنا مقيّدات متعدّدة بتعدّد التقيّدات كما هو واضح.

وينبغي بعد هذا أن ندخل في التطبيقات لهذه الكبريات التي عرفتها لنرى ماذا يمكن استفادته من الاستصحاب حينما يكون الزمان مأخوذاً جزءاً أو قيداً فنقول:

إنّ الزمان بنحو مفاد كان التامة أو الناقصة تارةً يؤخذ في طرف التكليف أي في موضوع الحكم، فيكون من موضوع الوجوب أو شرطه، وطوراً يؤخذ في طرف الواجب. وعلى كلّ من التقديرين قد تكون الشبهة موضوعية، وقد تكون حكمية. ونحن الآن نتكلّم على افتراض الشبهة موضوعية.

فإذا كان الزمان مأخوذاً في طرف التكليف فهذا ـ كما أشرنا ـ قد يؤخذ على نحو مفاد كان التامّة كأن يقول: (إن كان الجلوس في النهار فتصدّق) أو (إن كان النهار فتصدق). وقد يفرض بنحو مفاد كان الناقصة، بأن يقول: (إن كان الجلوس في زمان يكون نهاراً فتصدّق) أو (إن كان الزمان نهاراً فصلِّ). فكلا الأمرين معقول ممكن. فما ذكره المحقق النائيني(رحمه الله)(1) من أنّ مفاد كان الناقصة لا يمكن أن يكون مأخوذاً في الحكم والوجوب؛ لأنّ معناه أن يكون الشرط في وجوب الصلاة مثلاً هو أن تكون الصلاة في النهار، وهذا من أخذ الواجب في الوجوب، وهو غير معقول غير صحيح؛ إذ ليس معنى أخذ مفاد كان الناقصة في طرف الوجوب أن يؤخذ الزمن في متعلق الوجوب وهو الواجب، والاصطلاح المألوف في أخذ مفاد كان الناقصة في موضوع الحكم هو ما ذكرناه الذي ليس مستلزماً لأخذ الواجب في طرف الوجوب، فكأنّ هذا المحقق(رحمه الله) يتكلّم وفق مصطلح آخر.


(1) راجع أجود التقريرات: ج2، ص402.

377

وأيّاً ما كان فإذا أخذ الزمان في الوجوب وشكّ في تحقّقه فهذا يكون على نحوين:

الأوّل: أن يكون جزءً من الموضوع ولو بأن يكون جزءه الآخر هو المكلّف نفسه. وفي هذا الفرض يجري استصحاب الزمان المأخوذ جزءً ولو كان مأخوذاً بنحو مفاد كان الناقصة لما عرفت من عدم تمامية ما ذكروه في ذلك المقام من إشكال المثبتيّة.

الثاني: أن يكون شرطاً وقيداً للموضوع، كما لو كان الجلوس المقيّد بالنهار، أو بكون الزمان نهاراً موضوعاً للوجوب. وفي هذا الفرض لا يجري الاستصحاب لإشكال المثبتية، لا ذلك الذي تخيّل في موارد كون الزمان بنحو مفاد كان الناقصة، فإن ذاك الإثبات كان من ناحية تخيّل أنّ استصحاب النهار مثلاً لا يثبت كون هذا الزمان نهاراً، ولا استصحاب آخر يثبت ذلك. وأمّا هذا الإثبات فبلحاظ أنّ استصحاب القيد لا يثبت التقيّد بصورة أصلاً سواء كان الزمان قد اُخذ بنحو مفاد كان التامة أو الناقصة. وقد خلط المحقّق النائيني في المقام بين هذين الإثباتين(1). ولعلّه ناشئ من خلط سابق في أصل تصوير الزمان المأخوذ بنحو مفاد كان الناقصة.

إذن فلو كان الزمان قد أخذ بنحو مّا قيداً في موضوع الحكم لم يثبت باستصحابه موضوع ذلك الحكم.

نعم، لو كان المقيّد بما هو مقيّد ثابتاً في الحالة السابقة كما إذا كان الجلوس في النهار قد تحقق من قبل جرى الاستصحاب. وأمّا إذا حصل الجلوس في الوقت المشكوك فلا يمكن إثبات نهارية الجلوس باستصحاب بقاء النهار ولا باستصحاب نهارية زمان الجلوس.

وهذا الإشكال في هذه الصورة ممّا لا جواب عليه كبروياً، غير أنّه بالإمكان التخلّص عنه في كثير من الموارد في الفقه بإرجاع التقييد إلى التركيب بنكتة نوعيّة سوف يأتي بيانها ـ إن شاء الله تعالى ـ توجب أن يرى العرف التقييد منحلاًّ إلى التركيب، فلو جعل الجلوس في النهار موضوعاً لحكم فهمه العرف على نحو الانحلال إلى الجلوس في زمان وأن يكون ذلك الزمان نهاراً، فما دامت لم تقم قرينة لفظية أو عقلية على إرادة التقييد لا التركيب نفهم من أمثال هذه الصيغ التقييدية تركيباً، وعلى أساسه يكون الاستصحاب جارياً لا محالة؛ لعدم الاحتياج عندئذ إلى إثبات التقيّد.

ولولا هذه النكتة النوعية لبطل جريان الاستصحاب في أكثر الموارد، فمثلاً إذا شكّ في


(1) راجع أجود التقريرات: ج2، ص400.

378

بقاء إطلاق الماء واُريد به التطهير، جرى استصحاب الإطلاق عند الفقهاء، في حين أنّ ذلك لا يثبت أنّ الغسل تحقق بالماء المطلق إلاّ أن يكون هنالك تحليل وتركيب في النظر العرفي إلى أن يكون الغسل بمائع، وأن يكون المائع ماءً، فيكون الجزء الأوّل وجدانياً، ويحرز الثاني بالتعبّد.

ثمّ إنّ المحقق الخرساني(رحمه الله)ذكر في المقام: أنّ الزمان لو كان دخيلاً في الوجوب لجرى فيه استصحاب الزمان واستصحاب المقيّد بما هو مقيّد، فكأنّه يرى أنّ كلا الاستصحابين يجريان في موضوع واحد(1). في حين أنّه ليس كذلك، بل كلّ منهما يجري فيما لا يجري فيه الآخر؛ إذ لو كان الزمان قيداً لموضوع الحكم لا يجري إلاّ استصحاب المقيّد لو كانت له حالة سابقة. وأمّا استصحاب الزمان فهو مثبت كما قلنا، ولو كان الزمان جزءً لموضوع الحكم جرى استصحاب الزمان ولم يجرِ استصحاب المقيّد؛ إذ الأثر ليس للمقيّد وإنّما هو لمجموع ذات المقيّد المحرز وجداناً والزمان المشكوك وجداناً والثابت تعبداً، فلا معنى لاستصحاب المقيّد.

هذا كلّه في الوجوب.

وأمّا إذا كان الزمان مأخوذاً في طرف الواجب وهو ـ لا محالة ـ يكون دخيلاً في الوجوب بوجه من الوجوه باعتباره من الاُمور غير الاختيارية، كما إذا وجب صوم النهار، أو صوم الوقت الذي هو نهار (الاُولى (كان) الناقصة والثانية تامّة) فالصحيح عدم جريان الاستصحاب فيه بوجه أصلاً، لا استصحاب الزمان ولا استصحاب المقيّد بما هو مقيد، فإذا كان نهار شهر رمضان دخيلاً في الواجب وصام المكلف إلى أن شكّ في انتهاء النهار وبقائه لم يجرِ استصحاب النهار ولا استصحاب الإمساك النهاري.

أمّا عدم جريان استصحاب المقيّد، أعني الإمساك الثابت في النهار، فتوضيحه: أنّ الشكّ في بقاء هذا القيد تارةً يبيّن في قضية تعليقية هي: أنّه لو بقى ممسكاً لكان ذلك إمساكاً نهارياً، واُخرى يبيّن بنحو القضية التنجزية، أي: إنّ إمساكه النهاري هل يبقى أو سوف ينقطع.

أمّا الأوّل فلا يجري الاستصحاب بلحاظه؛ لعدم جريانه في قضية تعليقية من هذا القبيل.

وأمّا الثاني فأيضاً لا يجري؛ لأنّه بالإمكان رفع الشكّ التنجيزي هذا باختيار نقض


(1) راجع الكفاية: ج2، ص317 بحسب الطبعة المشتملة على تعليقة المشكيني في الحاشية.

379

الإمساك الموجب لقطعه على كلّ تقدير بعدم بقاء الإمساك النهاري بنحو القضية التنجيزية، فلا يعقل تنجيز الإمساك عليه وتسجيله باستصحاب الإمساك النهاري بعد أن كان المكلّف قادراً على رفع موضوع هذا الاستصحاب، وهو الشكّ بنفس المخالفة.

وأمّا عدم جريان استصحاب الزمان بنفسه فلأنّك عرفت فيما مضى في فرض أخذ الزمان في الوجوب: أنّ الزمان لو كان قيداً لم يمكن إثباته بالاستصحاب إلاّ بنحو الملازمة العقلية؛ لأنّ التقيّد لازم للمستصحب في هذا الفرض. نعم، لو كان جزءً لثبت بالاستصحاب.

وهنا نقول: إنّ الزمان المأخوذ في طرف الواجب يكون قيداً دائماً، ويستحيل أن يكون جزءً من الواجب، ذلك لأنّه دخيل في الواجب حسب الفرض، فلو كان جزءً كان واجباً مع كونه غير اختياري وخارجاً عن قدرة المكلّف، فلا يتعقّل تعلّق الوجوب به. نعم، تقييد العمل بذلك الزمان داخل في قدرته، ولهذا يُعقل أخذه قيداً. وأمّا اعتباره جزءً للواجب فهو غير عقليّ ولا عرفيّ؛ لأنّ انبساط الوجوب على الزمان الذي هو خارج عن اختيار المكلّف غير معقول حتى عرفاً، فلا يرد ما ذكرناه من أنّ نظر العرف مبنيّ على التركيب والتحليل في باب التقيّدات.

وبهذا البيان ظهر بشكل وآخر بطلان ما ذكره المحقّقون في المقام لأثبات صحة جريان الاستصحاب في الزمان المأخوذ في طرف الواجب.

أمّا المحقّق النائيني فقد ذكر ما حاصله: أنّه إذا كان الأثر لمجموع شيئين، فإن كان من قبيل العرض ومحلّه رجع إلى التقييد، وإلاّ رجع إلى التركيب، وبما أنّ الزمان والصوم عرضان في محلّ واحد، وعلى معروض واحد، فلذلك يرجع إلى التركيب لا التقييد، فيكون الاستصحاب جارياً(1).

أقول بغض النظر عن أنّ الزمان والصوم هل هما عرضان في مستوى واحد أو لا: إنّ رجوع ما عدا العرض ومحلّه إلى التركيب إنّما يكون عند تعقّل التركيب في نفسه، وما نحن فيه لا يعقل فيه ذلك حتّى في نظر العرف؛ لما ذكرناه من أنّ الزمان باعتباره أمراً غير اختياري فلا يمكن أن يكون تحت التكليف، فلا تصل النوبة إلى البحث عن أنّه عرض في عرض الصوم أو في طوله.


(1) راجع أجود التقريرات: ج2، ص402.

380

وأمّا المحقّق العراقي(قدس سره) فقد ذكر في المقام كلامين(1):

أحدهما: ما يرجع من حيث الروح إلى مقالة المحقّق النائيني(رحمه الله) حيث قال: إنّ التقييد في المقام ينحلّ بالنظر العرفي إلى التركيب.

وفيه: أنّ هذا تامّ في غير ما يكون من قبيل الزمان الذي هو خارج عن قدرة المكلّف ممّا يستحيل انبساط الوجوب عليه.

ثانيهما: كلام يشبه كلاماً آخر للمحقّق النائيني(رحمه الله)(2) ونحن نذكر في المقام المجموع المركّب من الكلامين، وهو: أنّ تقيّد الصوم مثلاً بقيد الظرفيّة في النهار يكون مؤونة زائدة تحتاج إلى بيان مفقود، بل الأثر في مثل قوله: (صم في نهار شهر رمضان) يكون للصوم مع النهار، أو قل: للصوم مجتمعاً مع النهار، أو للصوم والنهار الثابت عنده، وما يشبه ذلك من التعبيرات.

وهذا الكلام غير تام ثبوتاً وإثباتاً.

أمّا عدم التماميّة إثباتاً فلأنّها تكفي لإثبات هذه المؤونة المدعاة وهي الظرفية كلمة (في)، وهل يوجد في لغة العرب ما يكون أوضح منها دلالة عليه؟!

وأمّا عدم التماميّة ثبوتاً فلأنّها لا فائدة في المقام للتخلّص عن الإشكال والفرار عنه بتبديل قيد الظرفية إلى قيد آخر هو المعيّة والاجتماع والمصاحبة ونحو ذلك، فإنّ هذا القيد الآخر ـ أيضاً ـ لا يثبت باستصحاب النهار إلاّ بناءً على التعويل على الأصل المثبت.

وأمّا المحقق الإصفهاني(رحمه الله)فقد ذكر في المقام: أنّه تارةً يفرض أنّ الواجب هو تحصيل العنوان الانتزاعي الذي يحصل من مجموع الصوم والنهار، وتقيّد أحدهما بالآخر. واُخرى يفرض أنّه لا يطلب شيء غير منشأ الانتزاع.

فإن فرض الأوّل لم يجرِ استصحاب الزمان؛ لأنّه حتّى مع ثبوت القيد وذات المقيّد والتقيّد لا يثبت ذلك العنوان الانتزاعي إلاّ بناءً على الأصل المثبت؛ لأنّ ترتّب العنوان الانتزاعي على منشأ الانتزاع لا يكون إلاّ بالملازمة.

وإن فرض الثاني جرى الاستصحاب، وترتّبت النتيجة المقصودة، حيث يكون ذات المقيّد والتقيّد والقيد كلّها ثابتة، ولا يقصد شيء وراءها.


(1) راجع نهاية الأفكار: القسم الأوّل من الجزء الرابع، ص149 ـ 150.

(2) جاء هذا في كلمات الشيخ النائيني(رحمه الله)مع ردّه بالإشكال الإثباتي حسب ما ورد في تقرير الشيخ الكاظمي: ج4، ص437 حسب طبعة جماعة المدرسين بقم.

381

أمّا ذات المقيّد فالمفروض ثبوته بالوجدان.

وأمّا القيد وهو النهار فقد ثبت بالتعبّد.

وأمّا تقيّد الصوم بالنهار، أي: كون الصوم في النهار، فهذا ثابت بالوجدان؛ وذلك لأنّنا باستصحاب الزمان كما أثبتنا الزمان الواقعي تعبّداً كذلك أثبتنا الزمان التعبدي واقعاً ووجداناً، فيثبت كون الصوم في الزمان التعبدي بالوجدان(1).

ويرد على هذا الكلام:

أوّلاً: أنّ الاستصحاب إنّما يجري إذا ثبت أثر للمستصحب، ولا يجري لمجرّد ثبوت الأثر لذات الاستصحاب، وهذا الأثر في المقام إنّما يجري على ذات الاستصحاب؛ لأنّ المستصحب ليس إلاّ الزمان الواقعي دون التعبّدي.

وثانياً: أنّه لو ثبت التقيّد وجداناً لثبوت الزمان التعبدي وجداناً، وادّعينا أنّه مهما ثبت طرف التقيّد وجداناً ثبت التقيّد كذلك قلنا: لو صحّ هذا ثبت ـ أيضاً ـ أيّ عنوان انتزاعي ينتزع من الاُمور الثلاثة لثبوت منشأ انتزاعه بالوجدان بجميع أركانه الثلاثة، فلماذا فصّل بين ما يكون المطلوب فيه هو العنوان الانتزاعي أو منشأ الانتزاع؟!

وثالثاً: أنّ ثبوت الزمان التعبّدي بالوجدان لا يثبت الظرفية بالوجدان أبداً؛ إذ ليس الزمان التعبّدي الثابت بالوجدان بحسب الحقيقة زماناً آخر ليقع ظرفاً للصوم في قبال الزمان الواقعي الذي ثبت بالتعبد؛ إذ ليس الزمان التعبدي إلاّ عبارة عن التعبد بالزمان الواقعي، وهو ليس إلاّ جعلاً واعتباراً غير صالح للظرفية، فكيف يثبت بذلك كون الصوم في النهار، وهل هذا إلاّ تعويل على الأصل المثبت!

ورابعاً: أنّنا لو فرضنا أنّ القيد الواقعي للواجب هو الجامع بين الزمان الواقعي والزمان التعبدي، لزم من ذلك صحّة العمل واقعاً، وعدم وجوب إعادته في عمل بشرط وقوعه في ذلك الزمان عند انكشاف الخلاف فمثلاً لو ثبت وجوب التصدق في نهار مّا بنحو صرف الوجود، ولم نتصدّق إلى أن شككنا في بقاء النهار، وأثبتناه بالاستصحاب فتصدقنا، ثمّ انكشفت مخالفته للواقع، لزم من ذلك عدم لزوم الإعادة في يوم آخر. وهذا ما لا يلتزم به من قبل أحد.

ولو فرضنا أنّ القيد هو الزمان الواقعي فمجرّد ثبوت الزمان التبعدي بالوجدان لا يثبت


(1) راجع نهاية الدراية: ج 5، ص 157 بحسب طبعة آل البيت.

382

تقيّد الصوم به.

وقد تحصّل من مجموع ما ذكر: أنّه لا يمكن فيما إذا كان الزمان مأخوذاً في طرف الواجب إثبات التقيّد، لا باستصحاب الزمان ولا باستصحاب المقيّد.

هذا ولكنّا بإمكاننا إثبات النتيجة المستهدفه من وراء محاولة إثبات التقيّد وهي تنجيز الواجب على المكلف، فإنّ هذا يثبت في المقام دون حاجة إلى إثبات التقيّد. وتوضيح ذلك: أنّ الواجب تارةً يكون بنحو صرف الوجود كوجوب الصلاة بين الحدّين، وطوراً يكون بنحو مطلق الوجود كوجوب الصوم في تمام آنات ما بين الحدين.

أمّا الأوّل: فتارةً يفرض أنّه وجبت عليه الصلاة في أوّل الوقت، لكنّه أخّرها إلى أن شكّ في بقاء الوقت. وأخرى يفرض أنّه لم تجب عليه الصلاة إلاّ من حيث الشكّ كما إذا لم يكن بالغاً قبله مثلاً.

ففي الفرض الأوّل تجري قاعدة الاشتغال؛ لأنّ الشكّ في الفراغ ـ أو قل: في القدرة على الامتثال ـ بعد اليقين بالتكليف.

وفي الفرض الثاني لا تجري قاعدة الاشتغال ابتداءً، لكنّنا نجري استصحاب بقاء النهار؛ وذلك لأنّ الزمان مهما كان قيداً في الواجب فهو قيد في الوجوب أيضاً، فنستصحبه لا لكي نثبت حصول التقيّد الذي هو دخيل في الواجب، بل لكي نثبت عليه حكمه، وهو وجوب الفعل المقيّد، وعندئذ نشكّ في أنّ هذا الحكم الظاهري وهو وجوب المقيّد هل يمكن امتثاله لبقاء الوقت أو لا يمكن لانتفائه وانتهائه، والمرجع في مورد الشكّ في القدرة على الامتثال مع إحراز أصل التكليف إنّما هو الاحتياط لا البراءة.

ولا بأس أن يلفت النظر إلى أنّه في الفرض الأوّل لا يجري استصحاب النهار لإثبات التكليف بهذه الشاكلة، ولا استصحاب نفس الوجوب؛ إذ انّ هذا الاستصحاب لا ينتج شيئاً إلاّ بالانتهاء إلى قاعدة الاشتغال كما عرفت، وهي ثابتة هناك من أوّل الأمر، فيلغو الاستصحاب.

وأمّا الثاني: وهو ما كان من قبيل مطلق الوجود، فتارةً يفرض أنّ الشك في بقاء الزمان يكون من ناحية عدم الاطلاع على الساعات والأوقات، فنحن وإن كنّا نعلم مثلاً أنّ نهار اليوم هو اثنتي عشرة ساعة لكنّنا لا ندري هل انتهت الساعات الاثنتا عشرة أو لا، وفي مثل هذا الفرض لا ريب في الرجوع إلى أصالة الاشتغال، لأنّ الشكّ يكون في الامتثال والفراغ، لا في أصل التكليف الزائد.

383

وأُخرى يفرض: أنّنا شاكّون في عدد ساعات النهار: هل هي اثنتى عشرة ساعة أو ثلاث عشرة، وقد مضت اثنتى عشرة بالتأكيد، فيشكّ في بقاء النهار بعدها، فهنا ربما يتصوّر صحّة الرجوع إلى البراءة، حيث يشكّ في التكليف الزائد في الساعة الزائدة سواء كان الواجب مركّباً استقلالياً بحسب الساعات، أو ارتباطياً، لكن هنا ـ أيضاً ـ يقال بجريان استصحاب الزمان لإثبات الوجوب وبقائه، وهو وجوب ظاهري يشكّ في القدرة على امتثاله، فتجري قاعدة الاشتغال بلحاظه(1).

 


(1) وهناك فرض آخر أُهمل في المتن، وهو ما إذا كان الهدف من الاستصحاب الاجتزاء بالفرد المأتيّ به في الزمان المشكوك، لا تنجيز الواجب على المكلّف. مثاله ما لو ثبت وجوب التصدّق في نهار مّا، فتصدّق بعد احتمال غروب الشمس، فالأثر المرجوّ من الاستصحاب المثبت لبقاء النهار هو جواز الاكتفاء بهذا التصدّق، وأن لا يجب عليه التصدّق في يوم آخر، ولكنّ الاستصحاب ابتلى ـ على ما مضى ـ بمشكلة الإثبات؛ لأنّه لا يثبت كون التصدّق في النهار إلاّ بالملازمة.

وهنا ـ ايضاً ـ قد يقال: يمكن الوصول إلى الثمرة المطلوبة من دون إجراء الاستصحاب؛ وذلك لأنّ أمره ـ في الحقيقة ـ دائر بين التعيين والتخيير، أي: إنّه هل يتعيّن عليه التصدّق في يوم آخر، أو هو مخيّر بين ذلك وبين التصدّق في هذا الوقت؟ والمختار في موارد دوران الامر بين التعيين والتخيير هو البراءة عن التعيين.

ولكنّ الواقع: أنّ المرجع ـ بناءً على هذا البيان ـ يكون هو الاشتغال؛ لأنّ المفروض هو العلم بوجوب عنوان التصدّق في النهار، والتردّد بين الأقلّ والأكثر ليس في التكليف، بل في مصداقية الامتثال، فيتعيّن عليه اختيار الفرد المتيّقن فرديّته لهذا العنوان وهو التصدق في يوم آخر.

وهذا الذي ذكرناه لا يختصّ بباب الزمان، فلو قال مثلاً: صلِّ صلاة الجمعة خلف العادل، فالعدالة قيد للواجب، وعدالة الإمام خارجة غالباً عن اختيار المأموم، فلا ترجع إلى الجزء. أفهل يلتزم أستاذنا(رحمه الله)أنّه لو شكّ في بقاء عدالته لا يجري استصحاب عدالته، وبالتالي لا تجزي الصلاة خلفه؟!

والذي يبدو لي فعلاً هو أنّه لا مانع من استصحاب الزمان في مورد كونه قيداً للواجب، فإذا شكّ مثلاً في وجوب الإمساك للشكّ في بقاء النهار جرى استصحاب بقاء النهار، وكذلك لا مانع من استصحاب العدالة في المثال الذي ذكرناه، وكذلك الحال في كلّ قيود الواجب ولو كانت خارجة عن القدرة.

وتوضيح ذلك: أنّ نفس النكتة التي ترجع التقييدات الى التركيبات في الفهم العرفي ترجع مثل قوله: (أمسك في النهار) الى مثل قوله: (أمسك في وقت يكون نهاراً) تماماً كما هو الحال في ما لو كان جعل الوقت نهاراً أمراً اختيارياً للمكلّف، إلاّ أنّ الفرق هو أنّ هذا التحليل العرفي في فرض اختيارية وصف النهار يحوّل هذا الوصف إلى جزء الواجب، أي: يجب على المكلّف أن يصوم في وقت، وأن يجعل ذلك الوقت نهاراً، أو إلى مقدّمة الواجب، فيترشّح إليه الوجوب التقديري، ولكن بما أنّ هذا الوصف لم يكن اختيارياً، فهذا التحليل لا يؤدّي إلى تحوّل ذلك إلى جزء الواجب أو مقدّمة الواجب، بل يؤدّي إلى تحوّله إلى شرط اتّصاف الوقت بوجوب الإمساك فيه.

والخلاصة: أنّنا إن آمنّا بأنّ قوله: (أمسك في النهار) ـ لو كان وصف النهار أمراً اختيارياً ـ ينحلّ إلى قوله: (أمسك في وقت متّصف بالنهارية) ـ بنكتة أنّه لا علاقة مباشرة بين الإمساك في الوقت ووصف نهارية الوقت إلاّ

384

هذا ما يمكن أن يقال في مقام تنجيز الحكم على المكلف.

غير أنّ هنا شيئاً وهو: أنّه قد يقال في فرض مطلق الوجود مع الشكّ في ساعة جديدة للنهار: أنّه تجري البراءة للشك في تكليف زائد، وبجريانها ترتفع قاعدة الاشتغال؛ لأنّ حكم العقل بالاشتغال معلّق على عدم ترخيص الشارع في الترك، والبراءة ترخيص منه. ولا يحكم عليها استصحاب بقاء الزمان؛ لأنّ هذا الاستصحاب إنّما يثبت بقاء وجوب الصوم بين الحدّين، ولا يثبت وجوب الصوم في هذه الساعة.

وبكلمة اُخرى: الاستصحاب إنّما يثبت وجوب المقيّد، والمفروض أنّنا عجزنا عن إثبات حصول التقيّد للصوم في هذه الساعة، وإنّما نصوم في هذه الساعة لأنّ الشيء الوحيد الذي يحتمل كونه امتثالاً لذاك الحكم الاستصحابي هو هذا، فيجب بحكم قاعدة الاشتغال والبراءة نجريها عن وجوب صوم هذه الساعة بالخصوص، فليست البراءة جارية عمّا يترتب على الاستصحاب حتّى تكون محكومة له.

ويقال هذا الكلام ـ أيضاً ـ في فرض وجوب صرف الوجود إذا كان التكليف يحدث في الزمن المشكوك، فإنّه في مثله يقال بجريان أصالة البراءة عن وجوب الصلاة في هذه الساعة، واستصحاب النهار لا يثبت وجوب هذه الصلاة كي يكون حاكماً على البراءة، ومع


وحدة المصبّ العرفي وهو الوقت ـ آمنّا بذلك حتى على تقدير عدم اختيارية وصف النهار بنفس النكتة، والفرق بينهما بإمكان تعلّق الوجوب بوصف النهار لو كان اختيارياً وعدم إمكانه لدى عدم اختياريته لا يُبطل أصل النكتة، ولا يُبطل هذا التحليل في نظر العرف، وإنّما يوجب عدم ترشّح الوجوب إليه وأن لا يبقى معنىً لكون هذا الوصف قيداً للوقت الذي هو قيد الواجب، إلاّ كونه قيداً لاتّصاف الوقت بوجوب الواجب فيه. وهذا لا يعني طبعاً إخراج أصل التقييد بالوقت النهاري عن كونه تقييداً للواجب، بحيث يصحّ عندئذ الصوم بعد انتهاء النهار بدلاً عن الصوم في النهار، فإذا رجع قوله: (أمسك في النهار) إلى قوله: (أمسك في وقت يكون نهاراً) قلنا: إنّ كون الإمساك الآن إمساكاً في وقت ثابت بالوجدان، واتّصاف ذات الوقت بكونه نهاراً الذي هو قيد لاتّصافه بوجوب إمساكه ثابت بالاستصحاب؛ لأنّنا بنينا على صحّة استصحاب مفاد كان الناقصة في الزمان.

فليس حال الاستصحاب في المقام إلاّ حال استصحاب العدالة مثلاً في مثال (قلّد الفقيه العادل) إذ لا شكّ في أنّ عدالة الفقيه خارجة عادةً عن اختيار المقلّد، ومع ذلك لا شكّ في أنّه لو حصل التردّد في بقاء عدالة الفقيه جاز للمقلّد بقاؤه على تقليده؛ لأنّ تقليده تقليد للفقيه وجداناً، وهو باق على عدالته استصحاباً.

وبنفس البيان يصحّح استصحاب العدالة في ما لو قال: (صلّ الجمعة خلف العادل) فإنّ العرف يحلّل ذلك إلى قوله: صلّ الجمعة خلف إمام متّصف بأنّه عادلّ، والصلاة خلف هذا الرجل صلاة خلفَ إمام بالوجدان وهذا الامام عادل بالاستصحاب، وتكون عدالته شرطاً في مصداقيته لمن تجب الصلاة خلفه.

385

جريان البراءة لا تجري قاعدة الاشتغال عند الشكّ في المقدرة.

وللجواب عن هذا الإشكال في الفرض الأوّل، أعني ما إذا كان التكليف بنحو مطلق الوجود نقول: إن دليل البراءة الشرعية ـ وهي التامّة عندنا لا البراءة العقلية ـ لا يشمل إطلاقه ما إذا لم يكن مصبّ الشكّ أصل التكليف، من دون فرق بين أن يكون مصبّه هو تحقّق الامتثال، كما لو شكّ في أنّه هل صلّى صلاته الواجبة أو لا، أو القدرة على الامتثال، كما لو احتمل سقوط التكليف بالعجز مع علمه بأصل التكليف، أو يكون مصبّه شيئاً آخر كثبوت قيد الواجب في ما نحن فيه بعد علمه بأصل الوجوب ولو ببركة استصحاب الوقت.

ولكن الجواب عن الإشكال في الفرض الآخر، أعني صرف الوجود لا ينحصر في هذا، بل هنا جواب آخر قبله، وهو: أنّ البراءة عن هذه الصلاة التي يؤتى بها في هذه الساعة بهذا العنوان لا معنى لها؛ إذ لا يحتمل وجوبها بما هي كذلك، وإنّما يحتمل وجوب الصلاة بين الحدّين، والبراءة عنه محكومة للاستصحاب.

هذا تمام الكلام في فرض الشك في بقاء الزمان بنحو الشبهة الموضوعية.

وأمّا إذا كان بنحو الشبهة الحكمية فقد ذكروا فيه أبحاثاً كلّها ترتبط بغير المقام ممّا مضى أو يأتي، فقد ذكروا فيه البحث عن صور ثلاث: صورة الشبهة المفهومية وتردّد المفهوم المأخوذ موضوعاً للحكم بين زمان قصير وطويل، وصورة تردّد الموضوع أساساً مع وضوح كلّ المفاهيم بين فترة قصيرة وفترة طويلة، وصورة العلم بكون الموضوع هي الفترة القصيرة، واحتمال كون الفترة الطويلة موضوعاً آخر للحكم.

وكلّ هذه الأحكام والأبحاث لا تختصّ بمسألة الزمان والزمانيات، وإنّما تدخل في مطلق البحث عن الشكّ في بقاء الموضوع، والذي سيأتي البحث عنه إن شاء الله.

وبحثوا ـ أيضاً ـ عن وجود معارض للاستصحاب هنا، وهو استصحاب عدم الوجوب بنحو عدم الجعل. وهذا كما ترى هو شبهة النراقي والسيد الاُستاذ التي مضى الحديث عنها بصورة مفصّلة، وعليه فالأجدر أن نختم هذا التنبيه بهذا المقدار.

 

 

386

 

 

 

الاستصحاب التعليقي

 

التنبيه السادس: يقع البحث في هذا التنبيه عن الاستصحاب التعليقي، والآن يكون البحث في استصحاب الحكم التعليقي في الشبهات الحكمية. وأمّا الاستصحاب التعليقي في الموضوعات فسوف نعقد له بحثاً ضمن تنبيهات هذا التنبيه إن شاء الله تعالى.

فالشك في الحكم الشرعي يُقسَّم في اصطلاح القوم بحثياً إلى ثلاثة أقسام؛ إذ تارةً يكون الشكّ في أصل جعل الحكم بقاءً وهو الذي يسمى بالشك في النسخ واُخرى يكون الجعل معلوماً، لكن يشكّ في سعة دائرة الحكم وضيقه، واحتمال أخذ قيد فيه يضيّقه، كما إذا شكّ في أنّ النجاسة للماء المتغيّر قد اُخذت فيها فعليّة التغيّر، فتكون مخصوصة بفرض وجود التغيّر، أو المأخوذ فيها هو حدوث التغير، فتكون ثابتة بعد ارتفاعه أيضاً. وهذا هو الذي يصطلح عليه بالشبهة الحكمية. وثالثة يكون أصل الجعل ودائرته وأبعاد ما اُخذ فيه كلّ ذلك معلوماً واضحاً وإنّما الشكّ في الحكم ناجم عن عدم معلومية الصغرى الخارجية، كما إذا شكّ في أنّ هذا الماء هل تغير أو لم يتغيّر، أو هل بقي تغيّره أو لم يبقَ تغيّره، فإنّ هذا الشكّ منصبّ على الموضوع والصغرى الخارجية. وهذا هو الذي يصطلح عليه بالشبهات الموضوعية.

فأنحاء الشكّ في الحكم ثلاثة بحثيّاً. وإنّما قلنا بحثياً لأنّه ربما يبرهن على أنّ القسم الأوّل وهو الشك في النسخ يرجع بشكل وآخر إلى القسم الثاني. فلا يكون قسيماً له.

وأيّا كان فموضوع كلامنا الآن هو القسم الثاني وهو الشك في الحكم من حيث سعته وضيقه الذي يسمّى بالشبهة الحكمية، فإنّه هنا تارةً يكون الشكّ باعتبار أن المكلف يشك في اعتبار قيد زائد على قيود الحكم، كما إذا شكّ في أنّ وجوب إكرام العالم مشروط بعدالته ـ ايضاً ـ أم لا، وقد كانت كلّ القيود المتيقّنة والمشكوكة ثابتة، فكان هذا الشخص بالأمس عالماً وعادلاً أمّا اليوم فقد زالت عدالته فيحصل عنده الشك في وجوب اكرامه تبعاً لأحتمال دخل العدالة. ومثل هذا الشك الحكمي يكون الاستصحاب فيه استصحاباً تنجيزيّاً، حيث إن القضية المستصحبة تنجيزية في الحالة السابقة لا تعليقية. وطوراً تكون الخصوصيات المأخوذة في موضوع الحكم متيقنها ومشكوكها غير حاصلة كلّها سابقاً، بل حصل