290

 

حكم الشجرتين

أمـّا المقام الأوّل: وهو الكلام في حكم نفس الشجرتين فلا إشكال في تنجّز الأحكام التكليفيّة للشجرة المغصوبة، من قبيل حرمة التصرّف؛ للعلم بتمام الموضوع لها، وهو مال الغير الذي لا يأذن في التصرّف، وإنـّما يقع مهمّ الكلام في الضمان، وأنـّه مع تلف إحدى الشجرتين هل يجب ردّ البدل أو لا؟ وكأنـّهم ـ كما مضى ـ فرغوا عن أنّ العلم الإجمالي الأوّل علم بما هو تمام الموضوع للضمان؛ لأنّ ضمان المال موضوعه هو: أنْ يكون مال الغير، وأنْ يكون تحت يد الإنسان، وكلا الجزءين محرز في المقام بالعلم الإجمالي الأوّل.

لكن هذا الكلام مبنيّ على خلط شائع في الصناعة الفقهيّة بين الضمان وبين الدين، بمعنى انشغال الذمّة، وأنْ يملك شخص على شخص آخر شيئاً، فقد افترض في كلماتهم ـ على أساس عدم عزل أحد هذين المفهوين عن الآخر ـ أنّ الضمان والدين بالمعنى الذي قصدناه كأنـّهما مفهوم واحد، ولا فرق بينهما. وهذا الخلط أنتج الخلط بين العُهدة التي هي وعاء الضمان، والذمة التي هي وعاء الدين، فلم يميّز بحسب الصناعة الفقهية بين العهدة والذمّة، وإنْ وجد هناك تمييز فإنـّما هو مجرّد تمييز اصطلاحي، فالتمييز الذي فرضته مدرسة المحقّق النائيني(قدس سره)عبارة عن أنّ العهدة وعاء الأعيان، والذمّة وعاء الاُمور الكليّة، ومثل هذا مجرّد اصطلاح يمكن لكلّ أحد أنْ يصطلح ذلك.

والتحقيق: أنـّه يفترق كلّ منهما عن الآخر فرقاً جوهريّاً بحسب تكوينهما الاعتباري، فهذا الوعاء الاعتباري المسمّى بالعهدة اُنشىء إنشاءً لغرض بحسب الارتكاز العقلائي، واُمضي شرعاً، والوعاء الآخر اُنشىء نشأة اُخرى لغرض آخر، فهما مختلفان تكوّناً وغرضاً وعملاً، وبتبعهما يختلف الضمان عن الدين، ولا مجال هنا للتوسّع في بحث الصناعة الفقهيّة للذمّة والعهدة، والضمان والدين، وهو موكول إلى محلّه في الفقه، إلّا أنـّنا نقول هنا بنحو الإجمال: إنّ الضمان والدين بالمعنى الذي ذكرناه متباينان مفهوماً، والنسبة بينهما عموم من وجه، من حيث المورد الخارجي، أمـّا من حيث المفهوم فالضمان مرجعه إلى المسؤولية، والتعهّد والعهدة وعاء للمسؤوليات، وباب الضمان لا يستبطن الملكيّة بوجه أصلاً، والدين مرجعه

291

إلى باب الملكيّة، وأنْ يملك شخص شيئاً على الآخر، وحيث إنّ ملكيّة الشيء على الآخر تحتاج في الصناعة الفقهيّة إلى فرضِ وعاء له، ففرضت الذمة وعاءً لهذا المملوك الذمّي، وهذان المفهومان، أي: الدين والضمان قد يجتمعان مورداً وقد يفترقان: ـ

أمـّا موارد الاجتماع فواضحة، كما لو أتلف شخص مال غيره، فقد اشتغلت ذمته بالمثل أو القيمة، وهذا عبارة عن الدين، ويكون مسؤولاً لا محالة عن أداء ما في ذمّته، وهذا عبارة عن الضمان، وفي موارد الاجتماع تارةً تنشأ العهدة من الذمّة، كما هو الحال في هذا المثال، واُخرى بالعكس على تفصيل لا يسعه المقام.

وأمـّا مورد تحقّق الضمان دون الدين فمصاديقه غير متوفرة كثيراً في الفقه الجعفري بالخصوص، إلّا أنّ من مصاديقه باب الكفالة، فإنّ مرجعها إلى التعهّد بتسليم المدين، فيكون ضامناً أمام الغريم لشخص المدين، أي: يكون شخص المدين على عهدته ومسؤوليته، لابدّ له من إحضاره، ولو قصّر في ذلك، سجن وعوقب، لكن لا يوجد هنا اشتغال للذمّة أصلاً؛ إذ لا يملك على الكفيل شيء.

وأيضاً يثبت الضمان دون الدين في عقد الضمان على بعض الآراء المتبنّاة لبعض العامّة، فانـّهم يرون أنـّه لا ينتقل ما في ذمة المضمون عنه إلى ذمة الضامن، وإنـّما الذي يثبت على الضامن هو التعهد والمسؤولية. وإنْ كانوا هم لم يعبّروا بهذه المصطلحات، بأنْ يقولوا: إنّ الذي انشغل من الضامن هي عهدته لا ذمّته، وإنـّما ذكروا حقيقة مقصودنا من هذا المصطلح حيث قالوا: إنّ الضامن يكون مطالباً بالدين، وإنْ كان لا ينتقل الدين من ذمّة المضمون عنه إلى ذمّته.

ومن جملة مصاديق ذلك في الفقه عندنا هو ما إذا استقرض العبد باذنِ المولى فالرأي المشهور عندنا أنّ المولى يكون مسؤولاً عن وفاء دين العبد، فالدائن له أن يرجع إليه ويطالبه بذلك من دون أن تنشغل ذمّته، بحيث لو مات المولى لا ينتقل هذا الدين إلى تركته، وهذا معناه ـ بحسب اصطلاحنا ـ أنّ العهدة انشغلت لكنّ الذمّة لم تنشغل، فالضمان ثبت على المولى لكن الدين لم يثبت عليه، وله عدّة موارد اُخرى تظهر بالتتبع في سائر الموارد في الفقه وليس هنا مجالُ بيانها.

وأمـّا مورد تحقق الدين دون الضمان فهذا أوضح من سابقه، كما لو فرض أنّ شخصاً اشترى بثمن في ذمّته فهو مدين للبايع، ولكنّه ما لم يُدفع إليه المبيع لا يكون ضامناً، ولا يكون مطالباً بتفريغ ذمّته؛ لأنّ قانون المعاوضة يقتضي التوأميّة في مقام

292

التسليم والتسلّم، وله موارد اُخرى أيضاً.

إذن فالدين والضمان متباينان مفهوماً، والنسبة بينهما عموم من وجه مورداً، والأوّل يملأ وعاء الذمّة والثاني يملأ وعاء العهدة.

هذه هي أصل الفكرة التي يمكن أن تبيّن هنا الصناعة الفقهيّة لهذه المفاهيم.

فإذا اتّضح لك ذلك قلنا: إنّ الشيء الذي تكون اليد تمام الموضوع بالنسبة له إنـّما هو الضمان لا الدين، فالغاصب بمجرّد وضع يده على مال غيره يصبح ضامناً ضمان المسؤوليّة، وانشغال العهدة التي تنتج وجوب الردّ إلى مالكه، وحرمة تصرّفه فيه، وأمـّا الدين بمعنى انشغال الذمّة وتملّك المغصوب منه شيئاً على الغاصب، فليس وضع اليد على مال غيره هو تمام الموضوع له، بل الجزء الأخير من موضوعه هو التلف، فالعلم الإجمالي الأوّل ليس علماً بتمام موضوعه.

إلّا أنّ المشهور لم يعزلوا أحد هذين المفهومين عن الآخر عزلاً منسجماً مع الصناعة التي بيّناها، ولهذا نراهم في مقام بيان ما يحصل عند ما يتلف مال الغير قد اختلفت كلماتهم، فبعضهم أرجع الضمان إلى الدين، والعهدة إلى الذمّة، وقال: بأنّ الضمان معناه هو انشغال الذمّة بالبدل من القيمة أو المثل، وبعضهم أرجع الدين إلى الضمان، والذمّة إلى العهدة، وهم بين من يقول: بأنّ العين هي التي تكون في العهدة من حين الغصب وحتى بعد التلف، غاية الأمر أنّ الخروج عن عهدة العين في حال وجودها يكون بردّها إلى المالك، وفي حال تلفها يكون بردّ مثلها أو قيمتها إليه، ومن يقول: بأنّ الضمان هو كون مال الغير في عهدته وحينما يغصب العين تدخل في ذمّته كلّ ما لهذه العين من الماليّة والخصوصيّات النوعيّة والصنفيّة والشخصيّة، وإذا تعذّرت الخصوصيّات الشخصيّة كما هو الحال في تلف العين خرجت من العهدة، وبقي الباقي في العهدة، فعليه إرجاع المثل. وإذا تعذّر ذلك ـ أيضاً ـ كما في القيميّات بقيت الماليّة في العهدة فعليه إرجاع القيمة.

ولو تمّت هذه المباني لم يصحّ ـ أيضاً ـ ما ذكر في المقام من أنّ العلم الإجمالي الأوّل هو علم بتمام الموضوع للحكم بالضمان، فلو تلفت إحدى الشجرتين انشغلت الذمّة في المقام.

فمن قال بأنّ الضمان عبارة عن انشغال الذمّة بالبدل لا بدّ له من الالتزام بأنّ الغاصب قبل أنْ تتلف عنده العين المغصوبة ليس ضامناً بالفعل، إذ لا معنى لانشغال الذمّة بالبدل مع وجوب دفع العين خارجاً، لأنّ الغاصب لا يلزمه الدفع مرّتين: مرة

293

بوجوده الخارجي، واُخرى بوجوده البدلي والتغريمي، فلا بدّ له من الالتزام بأنّ الضمان هو انشغال الذمّة منوطاً بالتلف، فلم يحرز في المقام تمام موضوعه بالعلم الإجمالي الأوّل.

وأمـّا من يرجع الدين وانشغال الذمّة إلى الضمان والعهدة، فهؤلاء ـ كما قلنا ـ انقسموا إلى فريقين:

فمنهم من قال بأنّ العين بمجرّد أنْ تغصب تدخل في العهدة، وتبقى بتمام خصوصيّاتها في العهدة حتى بعد التلف، ويجب إخراجها عن العهدة عند وجودها بردّها إلى المالك، وعند تلفها بدفع المثل أو القيمة. وبناءً على هذا التصور نقول: إنّ العهدة وإن كانت فعليّة للعلم إجمالاً بتمام موضوعها لكنّ العهدة بما هي لا تقبل التنجّز، وإنـّما الذي يتنجّز هي العهدة بلحاظ آثارها، وأثرها الذي هو وجوب دفع البدل مشروط بتلف العين، وليس أثراً لها مطلقاً، فالعلم الإجمالي الأوّل ليس علماً بتمام موضوعه.

ومنهم من قال بأنّ العين دخلت في العهدة بتمام خصوصيّاتها بمجرّد الغصب، ولدى تعذّر بعض الخصوصيّات تسقط تلك الخصوصيّة ويبقى الباقي، فبعد التلف تعذّرت الخصوصيّة الشخصيّة، وخرجت عن العهدة وبقيت العين بما هي كلّيّة في العهدة، فكأنـّهم تصوّروا وعاءً واحداً انصبّت العين فيه من أوّل الأمر بتمام خصوصيّاتها، ثم يُنزع من هذه العين بالتدريج رداء الشخصيّة، وتصبح كلّيّة وهؤلاء أيضاً لا بدّ لهم من الاعتراف هنا بأنّ انشغال الذمّة بالكلّي لم يعلم بتمام موضوعه، فإنّ الكلّي الذي كان في عهدته منذ البدء ضمن العين الشخصيّة لم يكن عبارة عن وجود الكلّي على الإطلاق، بل كان عبارة عن الكلّي المتحصّص ضمن العين الشخصيّة، وإنـّما يدخل الكلّي في العهدة ويجب دفعه لدى خروج الخصوصيّة الشخصيّة عن العهدة بالتلف، فلا يكون العلم الإجمالي الأوّل علماً بتمام الموضوع لهذا الانشغال.

إذن فعلى تمام هذه التصوّرات لا بدّ من الالتزام ـ حسب هذه الصناعة ـ بعدم تنجيز العلم الإجمالي، فينبغي أنْ يفصل بين ما إذا كانت الاُصول الجارية في كلّ من الشجرتين في نفسها تقتضي مالكيّة الغير لها، كما لو اشترى إحداهما من الغير، ثم اشتبه ما اشتراه، فجرى استصحاب مالكيّة الغير في كلّ من الشجرتين، أو كانت الاُصول فيهما ترخيصيّة، كما لو فرض أنّ حالتهما السابقة هي كونها من المباحات

294

الأصليّة، أو كان الأصل في إحداهما ترخيصيّاً، وفي الاُخرى إلزاميّاً، ففي الفرض الأوّل يتنجّز عليه وجوب أداء البدل، لا بالعلم الإجمالي بل بالاستصحاب، وفي الفرض الثاني لا يتنجّز عليه ذلك، وفي الفرض الثالث يتنجّز عليه ذلك لدى تلف الشجرة التي تكون مورداً للأصل اللإلزامي، ولا يتنجّز لدى تلف الاُخرى؛ لجريان الأصل المؤمّن عنه، ولا يعارضه الأصل في الطرف الآخر؛ لأنّ موضوع الحكم بالضمان في الطرف الآخر لم يتحقّق. نعم، لو تلفتا معاً علم بانشغال الذمّة إجمالاً.

ولكنّ التحقيق ـ رغم هذا ـ هو منجّزيّة العلم الإجمالي الأوّل، لكن لا من باب أنـّه علم بتمام الموضوع لانشغال الذمة، فإنـّه كما بيّنّا، إنـّما علم بتمام الموضوع للعهدة، التي مرجعها إلى كون العين في مسؤوليّة صاحب اليد، لا بتمام الموضوع، لانشغال الذمّة الذي يحصل بعد التلف، بل من باب أنّ العرف حينما يسمع خطاب الذمّة بعدما يسمع خطاب العهدة يفهم من خطاب الذمّة في المقام أنـّه تحفّظ على بعض مراتب المصلحة اللزوميّة للعهدة، فالموجود في المقام إنـّما هو ملاك واحد لزومي علم به إجمالاً بمجرّد أخذ الشجرتين، وتنجّز على العبد، وعند تلف مال الغير وإنْ كان يتبدّل الخطاب بخطاب آخر، لكن الملاك هو نفس الملاك السابق بقي بعضه بعد تعذّر البعض الآخر، لا أنّ هناك ملاكاً آخر إلزاميّاً غير الملاك الأوّل الذي هو ملاك الاهتمام بحقّ شخص آخر، وقمع مادة الفساد، بل هذا بعض مراتب ذلك الملاك، فما أدركه هؤلاء المحقّقون (قدّس الله أسرارهم) بفطرتهم الاُصوليّة من أنّ العلم الإجمالي منجّز للحكم بالضمان صحيح، إلّا أنـّه لا يقوم على أساس تصوّر إرجاع الذمّة إلى العهدة، بل يقوم على أساس أنّ خطاب العهدة وخطاب الذمّة بحسب الحقيقة تعبيران عن ملاك واحد.

على أنـّنا في غنىً عن إثبات التنجيز بهذا العلم الإجمالي؛ لأنـّه يكفي عندنا العلم الإجمالي الثاني للتنجيز، وهو العلم بانشغال الذمّة ببدل التالف، أو انشغال العهدة بضمان الموجود وحرمة التصرّف فيه، ووجوب تسليمه من قبيل العلم الإجمالي بنجاسة الملاقي، أو الإناء الآخر الذي قلنا بمنجّزيّته في تلك المسألة، وأبطلنا وجوه الانحلال.

 

حكم الثمرة

وأمـّا المقام الثاني: وهو في تنجّز الحكم بضمان الثمرة وانشغال الذمّة بها إذا

295

أثمرت إحدى الشجرتين، فنقول: إنّ تلك الثمرة تقع طرفاً لعلم إجمالي جديد، وهو العلم بغصبيّتها أو غصبيّة الشجرة الاُخرى، وقد أثبتنا في مسألة الملاقي تنجيز مثل هذا العلم الإجمالي، ومعه لا حاجة إلى التكلّم في تنجيز العلم الأوّل.

إلّا أنّ الأصحاب حيث أنكروا تنجيز العلم الثاني احتاجوا إلى الحديث عن العلم الأوّل، كما فعلوا ذلك في مسألة الملاقي، وقد فصّلوا في كلا المقامين بين الانبساط والسببيّة، فكما قالوا هناك: إنـّه بناءً على أنّ نجاسة الملاقي انبساط وامتداد لنجاسة الملاقى يكون العلم الأوّل منجّزاً، وبناءً على أنـّها مسبّبة عن نجاسة الملاقى لا يكون منجّزاً، كذلك قالوا هنا: إنـّه بناءً على أنّ ملكيّة الثمرة انبساط وامتداد لملكيّة الأصل يكون العلم الأوّل منجّزاً، وبناءً على كونها مسبّبة عنها لا يكون منجّزاً.

وقد تقدّم منّا هناك توضيح عدم تماميّة هذا التفصيل، فلو قلنا بعدم التنجيز بناءً على السببيّة، نقول به ـ أيضاً ـ على الانبساط، فلنتكلّم هنا على السببيّة، هل يكون العلم الإجمالي الأوّل منجّزاً أو لا؟ فإنْ ثبت التنجيز ثبت على كلا المبنيين، وإلّا بطل على كلا المبنيين، وقد ذكر المحقّقون أنـّه ليس منجّزاً، وهذه الدعوى ـ أعني دعوى عدم التنجيز ـ يمكن بيانها ببيان ساذَج ابتدائي: هو أنّ المعلوم إجمالاً بالعلم الأوّل إنـّما هو وضع اليد على أحد الأصلين الذي هو ملك الغير، وهذا لا يكفي في ضمان الثمرة، بل لا بدّ من العلم تفصيلاً أو إجمالاً بوقوع اليد على ثمرة الأصل المغصوب، ولم يعلم بذلك.

وهذايرد عليه ما ذكره المحقّق النائينيّ(رحمه الله)(1) من أنّ المختار في مباحث الضمان هو أنـّه لا يشترط في ضمان الثمرة وضع اليد عليها، بل يكفي وضع اليد على الأصل، فلو أنّ إنساناً غصب شجرة، ثم غصب إنسان آخر تلك الشجرة منه، وأثمرت عند الغاصب الثاني، فهنا الثمرة لم تقع تحت يد الغاصب الأوّل لكنّها داخلة في ضمانه.

ولهذا بيّن السيّد الاُستاذ(2) دعوى عدم التنجيز ببيان آخر أعمق، وهو أنّ وضع اليد على الأصل المغصوب الذي هو المعلوم بالعلم الإجمالي الأوّل ليس تمام الموضوع لضمان الثمرة، بل يشترط في ضمانها كون الثمرة ثمرة لمملوك الغير


(1) راجع أجود التقريرات: ج 2، ص 257.

(2) راجع الدراسات: ج 3، ص 262، والمصباح: ج 2، ص 408.

296

ومنسوبة إليه، وهذا غير معلوم. نعم لو أثمرت كلتا الشجرتين، لكُنّا نعلم إجمالاً بأنّ إحدى الثمرتين منسوبة إلى الأصل المملوك للغير الواقع تحت يد الغاصب، فيكون الموضوع معلوماً.

ولكن يمكن أنْ يقال في المقام بتنجيز العلم الإجمالي الأوّل لضمان الثمرة أيضاً، وإنّ تمام الموضوع لضمانها قد أُحرز بالعلم الأوّل، وهو العلم بغصبيّة إحدى الشجرتين، وذلك بناءً على عدم قصر النظر على الوجود الحقيقي الخارجي لثمرة الأصل المغصوب الذي لم يحرز تحقّقه بمجرّد إثمار إحدى الشجرتين، وأنّ الارتكاز العقلائي يفترض للثمرة قبل وجودها الخارجي وجوداً تقديريّاً عنائيّاً، وهذا الوجود يكون موضوعاً للأحكام الشرعيّة، فلو قلنا بهذا فقد يتغيّر الحساب في النتيجة، ولأجل توضيح هذا نبيّن مقدّمةً: ـ

وحاصلها هو: أنـّه قد تفترض مالكيّة شخص لشيء بالفعل لوجود المالك، ووجود المال المملوك خارجاً، فكلّ من المالك والمملوك والملكيّة موجود بالفعل، وهذه هي الصورة الاعتياديّة.

وهناك صور اُخرى تختلف عن هذه الصورة الاعتياديّة:

فقد يفترض أنـّه لا قصور في المالك من حيث كونه مالكاً، لكنّ المال المملوك غير موجود حتّى الآن، فالقصور في جانب المملوك، كما في مثال ثمرة الشجرة قبل وجودها، فمالك الأصل يُرى بحسب الارتكاز العقلائي أنّ ملاك مالكيّته تامّ بنفس ملكيّة الأصل؛ لأنّ تمام الملاك بالارتكاز العقلائي لملكيّة المنفعة هو كونه مالكاً للأصل، ولكنّ القصور في المملوك؛ لعدم وجوده.

واُخرى يفترض أنّ المال المملوك موجود بالفعل، ولا قصور فيه من حيث كونه مملوكاً، وإنـّما القصور في المالك لعدم وجوده، كما في الوقف على بعض المباني في تفسيره بالنسبة للبطون المتأخّرة.

وثالثة يفترض أنّ المالك والمملوك موجودان، ولا قصور فيهما بما هما مالك ومملوك، إلّا أنّ الملكيّة بنفسها تتوقف على إعمال عناية تكون تحت سلطنة المالك، وإنشاء اعتبار يوجب ربط المملوك به، فالملكيّة مقدّرة، والقصور في نفس الملكيّة، وذلك كما لو فرض أنّ الميّت أوصى بمال إلى شخص، وقلنافرضاً ـ ولا نقول به ـ بأنّ الوصيّة تحتاج إلى قبول الموصى له، وأنـّها عقد لها إيجاب وقبول، فقبل القبول لا تكون الملكيّة فعليّة بالرغم من أنّ المالك من حيث كونه صالحاً

297

للمالكيّة موجود، والمملوك من حيث كونه صالحاً للملك موجود، إلّا أنّ نفس الملكيّة بحاجة إلى عناية، وتلك العناية هي تحت سلطان المالك، لأنّ الموصي قد مات وخرج المال عن سلطانه، وليس المال ـ أيضاً ـ تحت سلطنة الوارث بوجه من الوجوه، فالملكيّة هنا محضاً تحت سلطان هذا المتأهل للمالكيّة، فبإمكانه أنْ يُعمل العناية الإنشائيّة فتصبح الملكيّة فعليّة، فهنا القصور يكون في جانب الملكيّة.

ففي هذه الأقسام الثلاثة يمكن أنْ تدّعى دعوىً نذكرها هنا، وتكون من ناحية السعة والضيق في ذمّة التحقيق؛ إذ يمكن دعواها في كلّ هذه الأقسام الثلاثة، ويمكن دعواها في خصوص القسمين الأوّلين منها، ويمكن دعواها في خصوص القسم الأوّل تبعاً للتدقيق في نكات الارتكاز العقلائي في هذه الأقسام، وتلك الدعوى هي أنْ يقال في أيّ واحد من هذه الاُمور الذي يكون مفروغاً عنه في ظرفه وموطنه، ولكنّ الملكيّة لا تكون فعليّة بلحاظ قصور فيه: إنّ الارتكاز العقلائي ينتزع بلحاظ ذلك الوجود المتأخّر حقّاً ثابتاً بالفعل، وإنْ شئت فسمّه بالمرتبة الضعيفة من السلطنة، أو المرتبة الضعيفة من الملكيّة، وقد يصبح هذا الأمر المنتزع منشأً لآثار بحسب الارتكاز العقلائي، وقد تكون ممضاة شرعاً:

فمثلاً بالنسبة للقسم الأوّل ينتزع الارتكاز العقلائي نحواً من الحقّ، إنْ شئتم عبّروا عنه بأنـّه حقّ أنْ يملك ثمرة الأصل.

وإنْ شئتم قلتم: إنّ الثمرة يقدّر لها الآن وجود تقديري عنائي تعتبر ملكاً من الآن، ويترتب على مثل هذه العناية المبيع عقلائياً، فإنـّه من المعاملات العقلائية التي أُمضيت شرعاً مع قيود وحدود، فالمبيع إنـّما هو الوجود التقديري للثمرة، أو حقّ أنْ يملك الثمرة لا نفس الثمرة(1)، وإلّا لزم فيما لو لم تثمر الشجرة صدفة الالتزام إمّا بأنـّه لا استحقاق للثمن، أو بأنّ المعاملة تستبطن تمليكاً مجّانيّاً على تقدير، وتمليكاً معاوضيّاً على تقدير آخر، مع أنّ كلّ هذا على خلاف الارتكاز العقلائي الذي يرى أنّ البيع في المقام قد تمّ، وأنّ حكم هذه المعاملة هو حكم البيع سواءً وجدت بعد هذا ثمرة أو لم توجد، فتترتّب عليه أحكام البيع من حيث الخيار،


(1) أو قل: إنّ المبيع نفس الثمرة لكنّ الذي يترتّب على بيعها ليس هو انتقال ملكيّتها الاستقباليّة إلى المشتري، بل هو انتقال نفس الحقّ المتعلّق بها الآن الثابت للبايع، وهو حقّ أنْ يملكها مثلاً.

298

والفسخ، والغبن، والعيب، وغير ذلك، ولا يترتّب عليه حكم الهبة والتمليك المجّاني، فهذه معاملة بيعيّة منجّزة بحسب الارتكاز العقلائي، والبيع المنجّز بحاجة إلى بيع منجّزة لا محالة، وهو حقّ أنْ يملك الثمرة، أو بتعبير آخر: الثمرة بوجودها التقديري العنائي، وهو وجود محفوظ سواءً كان هناك وجود حقيقي في الخارج أو لا، وهذا الوجود العنائي يشبه الوجود العنائي للمنفعة المتّصلة، كمنفعة البيت على ما ذهب إليه جملة من الفقهاء في مقام تصوير الإجارة، من أنّ مالك البيت يملّك الوجود العنائي لمنفعته ـ وإنْ لم يكن هذا صحيحاً عندنا في باب الإجارة ـ .

وبالنسبة للقسم الثاني ـ أيضاً ـ يمكن أنْ يقال بمثل هذا الكلام ـ إنْ ساعد عليه الارتكاز ـ، وقد مَضى أنّ مثاله الوقف على البطون المتأخّرة على بعض المباني في تصويره، فوجود المال المملوك فعليّ، لكن المالك لم يملك لقصور فيه؛ لأنـّه غير موجود فعلاً، لكن مع هذا ينتزع له نحو من الحقّ، فتأهّل المال وتهيّوؤه للمملوكيّة لشخص سوف يوجد يكون منشأ لاعتبار حقيّ أو لملكيّة بنحو من الأنحاء، مضافة إلى الوجود العنائي أو التقديري للمالك، فيكون هذا المال مملوكاً لمالك تحقيقي ومملوكاً تقديرياً أيضاً، ولا مانع من اجتماع مالك تحقيقي مع مالك تقديري، وإنـّما الممنوع اجتماع مالكين تحقيقيّين، ومن هنا قال كثير من الفقهاء ـ ومنهم الشيخ الأنصاري (قدس سره) في المكاسب(1) ـ بأنّ حقّ البطون المتأخّرة الثابت في الوقف يمنع عن بيع الوقف، وإنْ استشكل في ذلك المحقّقون المتأخّرون، فبالإمكان تسليم مثل هذا الحقّ لو ساعد الارتكاز بمثل هذا البيان.

وكذلك الأمر بالنسبة للقسم الثالث، فيمكن أنْ يقال بانتزاع نحو من الحقّ للموصى له والسلطنة، وهذا النحو من الحقّ والسلطنة تكون له ـ أيضاً ـ آثار، ولعل هذا يناسب فتوى جماعة من الفقهاء في مثل هذا الفرض، بأنّ الوارث لا يجوز له أن يتصرّف في مثل هذا المال قبل أنْ يتعيّن مصير الوصية قبولاً وردّاً، حتّى بناءً على القول بانتقال المال إلى الوارث قبل القبول، وخروجه بعده؛ لأنّ الملكيّة بوجودها التقديري وتهيّوء المال لكونه مملوكاً للموصى له تهيّوء كاملاً متوقّفاً على محض سلطنته وإعماله لهذه السلطنة يوجب نحو حقّ له يمنع الوارث عن التصرّف فيه.

والخلاصة: أنّ هذه دعوى عريضة في الفقه، ولها مصاديق كثيرة فيه،


(1) راجع المكاسب: ص 164 بحسب الطبعة المشتملة على تعليقة الشهيدي.

299

وتحقيقها وتنقيح نكاتها وسعتها وضيقها موكول إلى الفقه.

إذا عرفت ذلك قلنا: إنـّه يمكن أنْ يُدّعى في المقام أنّ الثمرة لها وجود عنائي، وهي تحت الضمان بالفعل، فالمنفعة التي يصلح للمالك أنْ يبيعها الغاصب يضمنها الغاصب للأصل، إلّا أنّ هذه المنفعة ليس لها ثمن مستقلّ عن ثمن نفس الأصل؛ لأنـّه تلحظ في مقام تسعير الأصل هذه المنفعة المقدّرة، فتوجب زيادة تسعير نفس الأصل، ولهذا لو أراد المالك بيع الأصل قبل بيع الثمرة المقدّرة الوجود كان أغلى قيمة منه لو أراد بيعه بعد بيع الثمرة المقدّرة الوجود، فهذا يعني أنّ هذا الوجود التقديري للثمرة يدخل في تسعير نفس الأصل، فلا تكون له ماليّة زائدة، بل تكون ماليّته مندمجة في ماليّة الأصل، وبعد خروج التقدير إلى الفعليّة تكون لها ماليّة تخصّها غير مندمجة مع ماليّة الأصل.

وملخص الكلام: أنـّه لا بأس بأنْ يقال بناءً على هذا: إنّ الثمرة داخلة تحت الضمان منذ البدء، وقبل وجودها بهذا البيان، فإنْ ساعد الارتكاز على ذلك ـ وهو قريب ـ فبها ونعمت، وإلّا فالعلم الإجمالي غير منجّز، ولكن نحن يكفينا العلم الإجمالي الثاني.

هذا تمام الكلام في دوران الأمر بين المتباينين.

301

أصالة الاحتياط

2

 

 

دوران الأمر

 

بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين

 

 

* مراحل الدوران.

* الدوران بين الأقلّ والأكثر في الأجزاء.

* الدوران بين الأقلّ والأكثر في الشرائط.

* الدوران بين التعيين والتخيير.

* تنبيهات.

 

 

 

303

 

 

 

 

 

 

مراحل الدوران

 

قد وقع الكلام في جريان البراءة وعدمه عن المقدار الزائد إذا كانا ارتباطيّين، بعد عدم الإشكال في جريان البراءة عنه في غير الارتباطيّين.

وواقع الأمر أنـّه لو فرض دوران الأمر بحسب الروح والجوهر بين الأقلّ والأكثر، فلا محالة ينحلّ العلم، ويكون الزائد مشكوكاً بالشكّ البدوي ومجرىً للبراءة، كما هو الحال في الأقلّ والأكثر غير الارتباطيين.

وقد أُقيم في المقام بعض الوجوه للزوم الاحتياط، ممّا لو تمّ لثبت لزوم الاحتياط حتّى مع فرض دوران الأمر بحسب الروح والجوهر بين الأقلّ والأكثر، ولكن سيظهر في ثنايا البحث عدم تماميّة شيء من ذلك.

ولو فرض رجوع الأمر بحسب الروح والجوهر إلى التردّد بين المتباينين - وإن كان بحسب الظاهر والصورة مردّداً بين الأقلّ والأكثر- إذن لا يكون الأمر منحلاًّ، ولا تجري البراءة.

وقد يكون الأمر بحسب بعض العوالم والمراحل دائراً بين الأقلّ والأكثر، وبحسب بعضها مردّداً بين المتباينين، فنحن هنا نفرض جميع تلك العوالم أو المراحل التي يمكن دعوى دوران الأمر فيها بين الأقلّ والأكثر؛ لنرى بعد ذلك أنّ الدوران بين الأقلّ والأكثر يتمّ في أيّ عالم من تلك العوالم؟ وأنـّه هل يكفي الدوران بين الأقلّ والأكثر في ذاك العالم لجريان الأصل، أو لا؟ فإليك فهرست تلك العوالم كي يساعدنا على بيان المطلب، وتوضيحه فيما بعد، والمشي حسب مصطلحاتها:

العالم الأوّل: هو عالم جعل المولى ولحاظه، فيمكن دعوى أنّ ما في نفس المولى وعالم لحاظه في موارد الأقلّ والأكثر الارتباطيين يكون في الحقيقة مردّداً بين مقدار لا شكّ فيه وبين وجود ذاك المقدار مع زيادة شيء آخر وقع الشكّ فيه.

304

العالم الثاني: عالم الوجوب والإلزام، فقد يفترض أنّ ما في عالم نفس المولى ولحاظه مردّد بين المتباينين، ويكون مثلاً في مقابل اللحاظ الزائد في جانب الأكثر لحاظ آخر في جانب الأقلّ، لكن اللّحاظ الزائد الموجود في جانب الأكثر عبارة عن الإيجاب والإلزام، واللحاظ الزائد الموجود في جانب الأقلّ ليس عبارة عن الإلزام، بل هو توسعة على العبد، فليس كُلّ ما هو ثابت في اللّحاظ فهو تضييق وإلزام، فإذا لاحظ المولى الإطلاق أو قلنا: إنّ الإطلاق أمر لحاظي وليس عبارة عن عدم لحاظ القيد، فهذا ـ بالرغم من كونه داخلاً في لحاظ المولى ـ يكون توسعةً لا تضييقاً.

العالم الثالث: عالم التحميل العقلي، فقد يكون الأمر في العالمين الأوّلين دائراً بين المتباينين، لكنّه بحسب عالم التحميل العقلي يكون الأمر دائراً بين الأقلّ والأكثر، وذلك كما في دوران الأمر بين التعيين والتخيير، كما إذا دار الأمر بين وجوب إكرام إنسان، أو وجوب إكرام حيوان، بالمعنى الشامل للإنسان، ففي عالم لحاظ المولى ـ وكذلك في عالم الإلزام ـ يكون الأمر دائراً بين المتباينين، فإنّ العنوان الملحوظ والملزم به في وجوب إكرام الإنسان مباين للعنوان الملحوظ والملزم به في وجوب إكرام الحيوان، لكنّ التحميل العقلي مردّد بين الأقلّ والأكثر، بمعنى أنّ أحد الامتثالين مساوق لامتثال الآخر دون العكس، فالأمر دائر في التحميل العقلي بين التخيير في الامتثال والتوسعة بلحاظ إكرام الإنسان، أو غيره من الحيوانات، وبين تضييق هذه الدائرة للامتثال بتعيين إكرام الإنسان.

العالم الرابع: هو عالم التطبيق الخارجي والامتثال، فقد يكون الأمر فيه دائراً بين الأقلّ والأكثر، بمعنى: أنّ مقداراً ممّا وقع في الخارج يصلح امتثالاً للأمر بالأقلّ، فإذا ضمّ إليه الزائد صار امتثالاً للآخر على كلّ تقدير، وقد لا يكون كذلك، فمثلاً: لو دار الأمر بين وجوب تسعة أجزاء أو عشرة، بضمّ جزء عاشر إلى تلك الأجزاء التسعة، فكما أنّ الأمر بلحاظ عالم التحميل العقلي دائر بين الأقلّ والأكثر، كذلك الأمر بلحاظ عالم التطبيق الخارجي دائر بين الأقلّ والأكثر، فالأجزاء التسعة تصلح امتثالاً للأمر بالأقل، وإذا ضمّ إليها الجزء العاشر كان العمل امتثالاً للأمر على كلّ تقدير، وهذا بخلاف ما لو دار الأمر بين وجوب إكرام إنسان ووجوب إكرام حيوان بالمعنى الأعم من الإنسان، ففي هذا المثال وإن كان الأمر بحسب التحميل العقلي دائراً بين الأقلّ والأكثر كما عرفت، لكنّه بحسب التطبيق الخارجي ليس كذلك، فليس هنا عمل زائد خارجي يضمّ إلى إكرام الحيوان الصالح لامتثال الأمر بالأقلّ

305

ليصلح امتثالاً للأمر على كلّ تقدير، بل لو أردنا مع إكرام حيوان حصول الامتثال على كلّ تقدير، فعلينا أن نضرب صفحاً عمّا صنعناه من إكرام الحيوان، ونكرم إنساناً، لا أن نضمّ إلى إكرام الحيوان شيئاً يصلح امتثالاً للأمر بالأكثر.

وبهذا العرض ظهر أنّ أوسع العوالم في قابليّة دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر هو العالم الثالث، وعليه فنجعل ضابط محلّ البحث هو: أن يدور الأمر بين حكمين يكون امتثال أحدهما مساوقاً لامتثال الآخر دون العكس، وهذا يشمل فرض دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر بحسب الأجزاء، وفرض دورانه بينهما بحسب الشرائط، وفرض دوران الأمر بين التعيين والتخيير العقلي، أي: الحصّة والكلي، وفرض دوران الأمر بين التعيين والتخيير الشرعي.

ثمّ إنّنا نأخذ المثال الرئيسي في بحثنا هذا من فرض دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر بحسب الأجزاء، وبعد ذلك ننظر في مقام تطبيقه على تلك المراحل إلى سائر الاقسام أيضاً، فنقول:

 

306

 

 

 

الدوران بين الأقلّ والأكثر في الأجزاء

 

إذا دار الأمر الواجب بحسب الأجزاء بين الأقلّ والأكثر فهل تجري البراءة عن الزائد، أو لا؟ فيه أقوال ثلاثة:

الأوّل: القول بجريان البراءة مطلقاً، وهو ما اختاره الشيخ الأعظم(قدس سره)في الرسائل(1).

والثاني: القول بعدم جريانها مطلقاً، وهو ما اختاره المحقّق الخراساني (رحمه الله)في تعليقه على الكفاية(2).

والثالث: القول بالتفصيل بين البراءة العقليّة والنقليّة، بجريان الثانية دون الاُولى، وهو ما اختاره المحقّق الخراساني(رحمه الله) في الكفاية(3).

والحديث عن البراءة العقليّة لا أساس له على مبانينا، ويكون مبتنياً على مباني القوم، لكنّنا نتوسّع في الحديث فنتكلّم على كلتا البراءتين.

ونذكر أوّلاً بشكل مطلق الموانع التي قد يقال بمنعها عن جريان البراءة، وسيأتي منّا بعد ذلك ـ في حوار مع صاحب الكفاية ـ حديث عن مدى إمكانيّة التفصيل بين البراءتين. فنقول:

 

الموانع العامّة عن جريان البراءة

إنّ أهم الموانع المذكورة عن جريان البراءة في المقام ثلاثة:

 

1 ـ دعوى العلم الإجمالي

المانع الأوّل: هو العلم الإجمالي الظاهر في المقام، وهو العلم الإجمالي


(1) راجع الرسائل: ص 273 ـ 274 بحسب الطبعة المشتملة على تعليق رحمة اللّه.

(2) راجع حقائق الاُصول: ج 2، ص 326 بحسب تعليق الماتن.

(3) راجع الكفاية ج2، ص 235 بحسب الطبعة المشتملة على تعليق المشكيني.

307

بوجوب التسعة أو العشرة مثلاً، والعلم الإجمالي كما قلنا لا يتصوّر إلّا بإرجاع الأقلّ والأكثر إلى المتباينين، ونقول فعلاً في مقام التصوير الابتدائي لكيفيّة إرجاعهما إلى المتباينين: إنّ الوجوب في المقام ارتباطي، والارتباطيّة تساوق الوحدة، والوحدة تساوق التباين؛ إذ لا يتعقّل أقلّ وأكثر، إلّا مع فرض الكثرة، فنحن حينما ننظر بالعين التي نرى بها الوجوب الارتباطي المتعلّق بالأجزاء وجوباً واحداً نرى بتلك العين ثبوت علم إجمالي متعلِّق بأحد وجوبين وحدانيين متباينين، والآن يكفينا تصوير إرجاعهما إلى المتباينين بهذا البيان الابتدائي، وسيظهر تحقيق الحال في ذلك.

 

انحلال هذا العلم

وقد اجيب عن هذا المانع بدعوى انحلال العلم الإجمالي بأحد وجهين:

الأوّل: إثبات الانحلال بإدخال عنصر ثالث في البحث، وذلك بأن يقال: إنّ العلم الإجمالي بوجوب الأقلّ والأكثر ينحلّ بالعلم التفصيلي بوجوب الأقلّ نفسيّاً أو غيريّاً، واتذكّر أنّ هذا هو ظاهر عبارة الشيخ الأعظم (قدس سره) في الرسائل(1).

وهذا الوجه متوقّف على تسليم كون الأجزاء مقدّمة داخليّة، وتسليم أنّ المقدّمة الداخليّة كالمقدّمة الخارجيّة تتّصف بالوجوب الغيري، وكلا الأمرين ممنوع عندنا، وتحقيقها مع إبطالها موكول إلى بحث مقدّمة الواجب، وسوف تأتي في هذا البحث ـ إن شاء اللّه ـ الإشارة إلى بعض نكاتها.

ثم بعد تسليم مباني هذا الوجه يرد عليه: أنـّه إن أُريد بهذا الانحلال الانحلال الحقيقي، فشرطه أن يتعلّق العلم التفصيلي بأحد طرفي العلم الإجمالي، كما لو علم إجمالاً بنجاسة أحد الإناءين، ثم علم بنجاسة الشرقي منهما، وهنا لم يتعلّق العلم التفصيلي بأحد طرفي العلم الإجمالي، فإنّ طرفي العلم الإجمالي عبارة عن الوجوب النفسي للأقلّ، والوجوب النفسي للأكثر، والعلم التفصيلي تعلّق بالجامع بين أحد طرفي العلم الإجمالي، وهو الوجوب النفسي للأقلّ، وعنصر ثالث غريب، وهو الوجوب الغيري له.

وإن أُريد به الانحلال الحكمي فهو موقوف على فرض منجّز ينجّز الأقلّ؛


(1) راجع الرسائل: ص 274 بحسب الطبعة المشتملة على تعليق رحمة اللّه.

308

حتى يقال بالانحلال الحكمي، إمّا من باب عدم جريان الأصل فيه، وبقاء الأصل في الطرف الآخر سليماً عن المعارض، أو من باب أنّ المنجّز لا يتنجّز مرةً اُخرى، فيسقط العلم الإجمالي عن التأثير، على ما يقوله المحقّق العراقي، لكن هنا لم يتعلّق منجّز بالأقلّ؛ لأنّ الوجوب الغيري لا يقبل التنجيز، فلا مجال هنا لدعوى الانحلال الحكمي بكلا مبنييه.

هذا هو الذي ينبغي أن يقال في إبطال هذا الانحلال، لا ما أفاده المحقّق العراقي في المقام(1)، فقد قال المحقّق العراقي (رحمه الله) هنا بعد ذكر دعوى انحلال العلم الإجمالي بوجوب الأقلّ أو الأكثر بالعلم التفصيلي بوجوب الأقلّ نفسيّاً أو غيريّاً: إنّ هذا الانحلال غير صحيح؛ لأنّ هذا العلم التفصيلي معلول للعلم الإجمالي، فلا ينحلّ العمل الإجمالي به؛ لأنّه أسبق رتبةً منه.

فإن كان مراده بهذا الكلام إبطال الانحلال الحقيقي بدعوى أنّ تأخّر العلم التفصيلي رتبةً يمنع عن انحلال العلم الإجمالي به، ففيه ما عرفت من أنّ هذا العلم التفصيلي بنفسه لا يقتضي انحلال العلم الإجمالي؛ لأنّه لم يتعلّق بأحد طرفيه.

وإن كان مراده بذلك إبطال الانحلال الحكمي، فإن قصد به: أنّ الحكم التفصيلي معلول للعلم الإجمالي، فيستحيل أنْ يحلّه؛ لأنّ المعلول لا يحلّ علّته، ولا يفنيه وإلّا لأفنى نفسه، ورد عليه: أنّ العلم التفصيلي معلول لذات العلم الإجمالي، وليس المفروض انحلال ذات العلم الإجمالي، وإنّما المفروض انحلال أثره؛ لأنّ الكلام في الانحلال الحكمي لا الحقيقي.

وإن قصد به: أنّ العلم الإجمالي أسبق رتبةً من العلم التفصيلي، فقد أثّر أثره في المرتبة السابقة، فالأقلّ قد تلقّى التنجيز في المرتبة السابقة من العلم الإجمالي، فيستحيل أن يتنجّز بالعلم التفصيلي، حتى ينحلّ بذلك العلم الإجمالي؛ لقاعدة: أنّ المنجّز لا يتنجّز، ـ وهذا الوجه هو الوجه المذكور في نهاية الأفكار ـ ورد عليه: أنّ العلم التفصيلي وإن كان متأخّراً رتبةً عن العلم الإجمالي، لكنّه ليس متأخّراً رتبةً عن أثره، وهو التنجيز، بل هما معلولان لعلّة واحدة، وهي: العلم الإجمالي، فلا يصبح أثر العلم التفصيلي متأخّراً عن أثر العلم الإجمالي؛ لعدم صحّة قانون: أنّ ما مع المتقدّم


(1) راجع المقالات: ج2، ص 98، ونهاية الأفكار: القسم الثاني من الجزء الثالث، ص 384 ـ 385.

309

متقدّم. وعليه فحال العلم التفصيلي والإجمالي هنا حال العلم التفصيلي والإجمالي في سائر الموارد. والمفروض عنده(قدس سره)في ذلك هو سقوط العلم الإجمالي عن التأثير. فالصحيح في إبطال الانحلال بهذا التقريب هو ما ذكرناه.

الوجه الثاني: إثبات الانحلال من دون إدخال عنصر ثالث في المقام، وذلك بأن يقال: إنّ الأقلّ قد تعلّق به الوجوب حتماً سواء كان هو الواجب مستقلاً، أم كان الوجوب عارضاً عليه مع زيادة، فعلى كلّ تقدير علمنا بعروض الوجوب عليه، وإنّما الشكّ في أنـّه هل امتدَّ الوجوب إلى الجزء الزائد، أو لا؟، وهذا شكّ بدويّ تجري فيه البراءة.

ومن يريد إنكار هذا الانحلال لا بُدَّ له ـ كما عرفت ـ من إرجاع الأقلّ والأكثر إلى المتباينين، وإبراز عنصر التباين فيه؛ إذ لو تمَّ هذا الثوب الذي ألبسه صاحب القول بالانحلال، وهو: ثوب الأقلّيّة والأكثريّة، فلا إشكال في الانحلال.

 

إبراز عنصر التباين

ولإبراز عنصر التباين في المقام اتجاهان:

الأوّل: هو فرض المقابلة بالتباين بين الوجوبين بلحاظ ما لهما من الحدّ.

والثاني: هو فرض التباين بلحاظ ذات متعلّقي الوجوب، وهما: الأقلّ على إطلاقه، والأقلّ في ضمن الأكثر.

أمـّا الاتجاه الأوّل فحاصله: أنّ الفعل بحدّه الواقف على الجزء التاسع مثلاً مباين لا محالة للفعل بحدّه الممتدّ إلى الجزء العاشر، والتباين في الحدّ كاف في تباين الوجوبين.

ويرد عليه: أنـّه هل المقصود هو النظر إلى حدّ ذات الفعل بما هو في المرتبة السابقة على الوجوب؟ أو المقصود هو حدّ الفعل بما هو معروض للوجوب؟ أو قل: حدّ نفس الوجوب؟.

فإن كان المقصود هو الأوّل، فلا إشكال في أنـّه إذا علم بعروض الوجوب إمّا على الفعل بحدّه المفروض في المرتبة السابقة وقوفه على الجزء التاسع، أو عليه بحدّه الممتدّ إلى الجزء العاشر، فهذا علم بأحد المتباينين، لكن هذا يعني دوران أمر الجزء العاشر بين الجزئيّة والمانعيّة، فيكون خروجاً عمّا نحن فيه.

310

وإن كان المقصود الثاني، فلا إشكال في أنّ وجوب الأقلّ المحدود بحدِّ وقوفه على المقدار الأقلّ، والوجوب الممتدّ إلى الجزء الزائد متباينان بما لهما من الحدّين المتبيانين، وقد تعلّق بذلك العلم الإجمالي، إلّا أنّ هذا التباين إنّما هو بلحاظ الحدّ، وحدّ وجوب الأقلّ الذي يعني الوقوف على الجزء التاسع وعدم تعدّيه إلى الجزء العاشر لا يدخل في العهدة، وليس له امتثال، وإنّما الذي يدخل فيها ويتطلّب الامتثال هو ذات الوجوب، وحينما نلحظ ذات الوجوب بقطع النظر عن حدّه لا نرى وجوبين متباينين، بل نعلم بعروض الوجوب على الأقلّ، ونشكّ في انبساطه على الزائد، وإنّما التردّد بين المتباينين في النفس يكون في مرتبة الحدّ غير الواجب امتثاله.

وممّا ذكرنا ظهر وجه الخلل ـ فيما مضى من التصوير البدائي لإرجاع الأمر إلى المتباينين ـ من أنّ الوجوب الارتباطي وجوب واحد، والوحدة تساوق التباين، فإنّه إن لاحظنا الحدّ في المقام صحَّ ذلك، إلّا أنّ الحدّ غير واجب الامتثال، وإنّما الذي يجب امتثاله ذات المحدود، وفي مرتبة ذات المحدود ملغيّاً عنه الحدّ لا يُرى وجوبان حتى يقال: إنّ الوحدة تساوق التباين، بل يُرى أنّ الوجوب عرض على الأقلّ، ويشكّ في امتداده على الزائد وعدمه.

وأمـّا الاتجاه الثاني: فحاصله أنّنا وإن علمنا تفصيلاً بوجوب الأقلّ استقلالاً أو ضمناً، لكنّ الأقلّ المعروض للوجوب استقلالاً غير الأقلّ المعروض للوجوب ضمناً.

ولتكن الآن صياغة بيان ذلك: هي أنّ المعروض للوجوب الاستقلالي هو الأقلّ بإطلاقه وبلا قيد، والمعروض للوجوب الضمني هو حصّة خاصّة من الأقلّ، وهي الحصّة المقيّدة بالاقتران بالزائد على ما هو شأن أجزاء الواجب الارتباطي، والمطلق مع المقيّد متباينان.

وتوضيح حال هذا الاتجاه يتطلّب منّا الحديث عن أصل حقيقة الواجب الارتباطي فنقول:

 

تصوير حقيقة الواجب الارتباطي

إنّ في حقيقة الواجب الارتباطي تصويرات ثلاثة:

التصوير الأوّل: ما يناسب صياغة البيان المذكور آنفاً في إبراز عنصر التباين من

311

أنّ الوجوب الارتباطي يتعلّق بالأجزاء، مع فرض أنّ كلّ جزء جزءٌ في نفسه، وشرط لغيره من الأجزاء، وأنّ كلّ واحد منها مقيّداً بالباقي واجب.

ولا يرد على هذا استلزامه للدور؛ لكون الشرط مقدّماً رتبة على المشروط، فيلزم تقدّم كلّ من الجزءين على الآخر.

فإنّ الجواب عن ذلك: هو أنّ الشرط له معنيان:

أحدهما: ما يتوقّف عليه الشيء، كالصعود على الدرج بالنسبة للكون على السطح، والشرطيّة بهذا المعنى هي التي لا يمكن أن تكون من الطرفين للزوم الدور.

وثانيهما: ما قيّد به الشيء وحصّص به، والشرطيّة بهذا المعنى من الطرفين لا تستلزم الدور؛ إذ ليست ذات كلّ من الركوع والسجود مثلاً متوقّفة على الآخر، وإنّما تكون نسبة كلّ منهما للآخر، ومقارنته له متوقّفة عليه، فيختلف المتوقّف على المتوقّف عليه.

إلّا أنّ الكلام يقع فيما هو الدليل على دعوى أخذ كلّ واحد من الأجزاء مقيّداً بالباقي، والدليل على ذلك يكون أحد أمرين:

الأمر الأوّل: أنّ الوجوب الارتباطي بما أنـّه وجوب واحد يستحيل تعلّقه بالمتكثّر بما هو متكثّر، فلا بُدَّ من فرض وحدة في متعلّقه، وتوحيد هذه الأجزاء يكون بتقييد كلّ منها بالباقي، فهذا التقييد المتقابل يكون قضاءً لحقّ وحدة الوجوب.

والواقع: أنّ استحالة تعلّق الوجوب الواحد بالمتكثّر بما هو متكثّر، وإن كان أصلاً بديهياً عندنا ـ رغم مخالفة المحقّق العراقي (رحمه الله)فيه كما سيأتي إن شاء اللّه ـ لكنّ هذا لا يفيد شيئاً في المقام؛ لأنّ هذه التقييدات المتبادلة لا توحّد تلك الاُمور المتكثّرة، غاية الأمر أنـّه بغضّ النظر عن التقييد تكون تلك الاُمور ذوات أجزاء متكثّرة، وبالنظر الى التقييد تكون مقيّدات متكثرة، وهذا لا يقضي حقّ وحدة الوجوب، والشاهد على ذلك أنـّه يمكن فرض هذه التقييدات المتبادلة بين واجبات مستقلّة، فمثلاً: يشترط في صحّة صلاة العصر إيقاعها بعد صلاة الظهر، ويمكن فرض اشتراط صحّة صلاة الظهر ـ أيضاً ـ بإيقاع صلاة العصر بعدها، من دون أن يلزم من ذلك كونهما واجباً واحداً ومتعلّقاً لوجوب واحد.

والخلاصة: أنـّه يمكن فرض غرضين مستقلّين في أمرين مع افتراض أنّ كلّ واحد من الغرضين لا يحصل إلّا بحصّة من أحد الأمرين مقارنة للآخر، وعندئذ يتحقّق لا محالة وجوبان مستقلاّن لهما امتثالان وعصيانان، وفاعلهما يثاب بثوابين،

312

وتاركهما يستحق عقابين، مع أنّ كلّ واحد منهما مشروط بالآخر، ولم يخلق هذا الاشتراط توحّداً فيما بينهما.

فالتقييدات المتبادلة لا توحّد الكثير، بل نفس التقييد يستدعي التكثّر والتعدّد، حتّى يكون بعضها قيداً لبعض.

الأمر الثاني: أنـّه لا إشكال في أنّ المكلّف لو أتى ببعض أجزاء الواجب الارتباطي دون البعض لم يكن ما أتى به متّصفاً بالمطلوبيّة والوجوب، وإلّا لكان واجباً مستقلاًّ، وعليه نقول: إنّ كلّ جزء من الأجزاء هل هو مقيّد بالباقي، أو مطلق من ناحية الباقي؛ إذ يستحيل الإهمال؟ فإن فرض الإطلاق لزم اتّصاف الجزء بالمطلوبيّة في كلتا حالتيه، أي: حالة انضمامه إلى الباقي وحالة انفراده عنه، وهذا خلف ما عرفت. وإن فرض التقييد فهو المطلوب.

ويرد عليه: أنّ هذا البرهان إنّما ينسجم مع القول بكون الإطلاق عبارة عن لحاظ السريان وعدم القيد، فعندئذ يكون إطلاق الركوع مثلاً عبارة عن لحاظ سريان وجوبه للحصّة المنضمّة إلى الباقي، وللحصّة المنفردة، وهذا خلف ما فرضناه من أنّ المكلّف لو اقتصر على بعض الأجزاء لما كان ذاك البعض مطلوباً، وإلّا لكان واجباً مستقلاًّ.

لكن الصحيح في باب الإطلاق: أنـّه عبارة عن مجرّد عدم لحاظ القيد، وعليه فبالإمكان أن نلتزم هنا بالإطلاق، ونقول مع ذلك: إنّ كلّ واحد من الأجزاء غير متّصف بالمطلوبيّة والوجوب في حالة انفراده عن الباقي، لا لعدم الإطلاق في الموضوع، بل لعدم قابليّة المحمول، وهو الوجوب الضمني لهذا الانبساط؛ لكونه جزءاً من وجوب وحداني ثابت على المجموع، ومشدوداً ظهره بسائر الوجوبات الضمنيّة.

فتحصّل: أنّ كون الوجوب ارتباطيّاً لا يقتضي بوجه من الوجوه تقيّد الأجزاء بعضها ببعض. نعم، نحن لا ننكر إمكان تقيّد بعضها ببعض؛ لعدم استلزام ذلك للدور كما عرفت، لكن هذا الأمر الممكن ثبوتاً يتبع دلالة دليل ذلك الواجب عليه إثباتاً، فإن دلّ عليه دليله، فهو أمر ثابت لذلك الواجب الارتباطي صدفة، من دون أن يكون دخيلاً في صميم ارتباطيّة الوجوب.

التصوير الثاني: أنّ أجزاء الواجب الارتباطي متوحّدة فيما بينها بوحدة متأخّرة رتبة عن عروض الوجوب، وليست فيما بينها وحدة معروضة للوجوب،

313

ولعلّ هذا ممّا امتاز به المحقّق العراقي(رحمه الله)(1). وبيانه: أنّ وحدة الوجوب وتعدّده إنّما تتبع وحدة الملاك وتعدّده، لا وحدة معروضه وتكثّره.

نعم، لا إشكال في أنّ وحدة الوجوب تستلزم وحدة الواجب، لكن ليست هذه الوحدة مأخوذة في معروض الوجوب. وتوضيح ذلك: أنّ الشيء المتكثّر بذاته قد يصبح واحداً بوحدة عرضيّة ناشئة من وحدة ما عرض عليه، فمثلاً: اللحاظ الواحد إذا طرأ على أُمور متكثّرة حصلت لها وحدة عرضيّة بلحاظ وحدة ما عرض عليها من اللحاظ، وكذلك الشوق الواحد والملاك الواحد ونحو ذلك. والواجب الارتباطي لا إشكال في أنـّه بذاته عبارة عن أُمور متكثّرة، لكن قد عرضت عليه توحّدات باعتبار وحدة جملة من عوارضها كاللحاظ والوجوب والملاك، وهذه الوحدات يستحيل أخذها في معروض الوجوب؛ أمـّا الوحدة الناشئة من وحدة الوجوب، فهي في طول الوجوب، فلا يعقل أخذها في متعلّقه، وأمـّا الوحدة الناشئة من وحدة الملاك، فهي وإن لم تكن في طول الوجوب، لكن الوجوب تابع للملاك، فيتعلّق بما يتعلّق به الملاك، ومن المعلوم أنّ تلك الوحدة غير دخيلة في متعلّق الملاك ومعروضه؛ لأنّها في طول الملاك، وكذلك أيّ وحدة اُخرى تفرض في المقام كوحدة اللحاظ، فبما أنـّها غير مربوطة بمعروض الملاك لا تؤخذ في معروض الوجوب؛ لأنّ الوجوب يعرض على ما يعرض عليه الملاك.

فقد تحصّل: أنّ معروض الوجوب هو الشيء المتكثّر بما هو متكثّر. وأمـّا الوجه في وحدة هذا الوجوب، فهو وحدة الملاك؛ فإنّ الوجوب يستمدّ وحدته من وحدة الملاك، وإن فرض تكثّر ما عرض عليه الوجوب.

ثمّ إنّه يرد على هذا التصوير: أنّ العارض والمعروض لا بُدَّ أن يكونا في ظرف العروض متسانخين في الوحدة والتكثّر، فلو كان المعروض في ظرف العروض متكثّراً يكون العارض متكثّراً لا محالة، ويدلّ على ذلك أمران:

الأمر الأوّل: أنّ روح الوجوب والحبّ والإرادة ـ وهي من قبيل العلم ـ من الصفات الحقيقيّة النفسيّة ذات الإضافة، أي: أنّ هذه الأعراض مضافاً إلى إضافتها لمحلّها ـ وهي النفس ـ لها إضافة إلى شيء آخر كإضافة العلم إلى المعلوم، وهذه الإضافة داخلة في صميم ذاتها، ولا معنى لتصوير حقيقة العلم مثلاً مستقلاًّ ومنحازاً


(1) راجع نهاية الأفكار: القسم الثاني من الجزء الثالث، ص 377 ـ 379.

314

عن تصوير الإضافة. وبهذا يظهر أنّ المعلوم الخارجي هو معلوم بالعرض والمجاز، ولذا قد لا يكون ثابتاً في الخارج، ويكون العلم خطأ، ومعه ينفصل في الوجود عن العلم رغم أنّ إضافته إلى المعلوم داخلة في صميم ذاته، فلابُدَّ من التفتيش عن معلوم آخر ألصق منه بالعلم، ولا ينفك عنه في صورتي الصواب والخطأ معاً، وذلك هو المعلوم بالذات، وهي الصورة الذهنيّة.

كما يتبرهن بذلك: أنّ تعدّد العلم والمعلوم بالذات إنّما يكون بالتحليل العقلي، ويكون كلاهما موجوداً في الخارج بوجود واحد، وليسا موجودين بوجودين شُدّ احدهما بالآخر بخيط الإضافة، ـ كما يقال بذلك في نسبة سائر الأعراض إلى محلها، وإن كان الصحيح أنّ العرض والمحلّ فيها ـ أيضاً ـ متّحدان وجوداً، وأنّ العرض شأن من شؤون المعروض ـ إذ لو كان الأمر كذلك؛ لأمكن إفراز العلم بحسب التحليل التصوّري، وتصوّره منحازاً عن إضافته إلى معلوله، ولم تكن الإضافة داخلة في صميم ذاته، في حين أنـّه ليس الأمر كذلك، وكذا الحال في جميع الصفات الحقيقيّة النفسيّة ذات الإضافة كالحبّ والإرادة، فإذا ظهر اتّحاد الحبّ والمحبوب بالذات ظهر أنّ تكثّر المحبوب يستدعي ـ لا محالة ـ تكثّر الحبّ، ولا معنى لتكثّر أحدهما ووحدة الآخر؛ لأنّهما موجودان بوجود واحد.

نعم، ما تبرهن بذلك أنّما هو وحدة المحبوب النفسي الموجود في عالم الذهن عند وحدة الحبّ، دون وحدة المحبوب بالعرض الخارجي، وهذا معنى ما قلناه من أنّ العارض والمعروض في ظرف العروض يجب أن يكونا متسانخين في الوحدة والتكثّر، فلو أُريد من فرض تكثّر المحبوب رغم وحدة الحبّ تكثّر أجزائه الخارجيّة، وفي ظرف الخارج، فهذا ليس هو محلّ الكلام، أي: لم يتوهّم أيّ عاقل توحّد أجزاء الصلاة مثلاً خارجاً، ولا إشكال في أنـّها تشتمل على أشياء كثيرة وماهيّات مختلفة، فالمقصود إنّما هو البحث عن المعروض بالذات للحبّ دون المعروض بالعرض، وقد عرفت أنـّه متسانخ حتماً مع الحبّ وحدةً وتكثّراً.

الأمر الثاني: لو غضضنا النظر عن وحدة العارض والمعروض فأيضاً لا محيص عن الالتزام بأنّ تكثّر المعروض يستلزم تكثّر العارض؛ وذلك لأنـّه إذا عرض عارض على عدّة أُمور فإن فرض أنّ ذلك العارض بتمامه عرض على هذا الأمر، وبتمامه عرض على ذاك الأمر، وهكذا، إذن فهذا العارض لم يعرض بوحدته على أُمور متكثّرة بما هي متكثّرة، بل عرض على كلّ واحد من هذه الاُمور مستقلاًّ، وكان