195

يكون مجرىً للبراءة عن التكليف الآخر، لا لأصالة الاشتغال. هذا إذا كان مقصوده في المقام التمسّك بقاعدة الاشتغال. وأمّا إذا كان مقصوده التمسّك بالاستصحاب، فالاستصحاب إنـّما يجري في مثل ما إذا وجب الجلوس في المسجد إلى أن ينزل المطر مثلاً، فشكّ في نزول المطر، وأمـّا في مثل ما نحن فيه فلا يجري على ما عرفته آنفاً في مناقشاتنا لما في الدراسات.

 

الاضطرار في طرف غير مُعيّن

المقام الثاني: في الاضطرار إلى المخالفة في أحد الطرفين لا بعينه.

ذهب صاحب الكفاية (رحمه الله) إلى أنّ (1) الترخيص التخييريّ الثابت بواسطة الاضطرار إلى أحد الأطراف لا بعينه ينافي التكليف الواقعي المعلوم بالإجمال، فيرتفع ذلك، فيرتفع العلم، فلا تنجيز في المقام، وبعد أنْ رفع الاضطرار بارتكاب أحد الطرفين ارتفع الترخيص التخييري، وجاء احتمال التكليف في الطرف الآخر، لكنّه شكّ بدويّ ينفى بالأصل.

هذا، وينبغي تقييد كلامه (قدس سره) بفرض عدم تأخّر طروّ الاضطرار عن العلم.

وعلى أيّ حال، فليس مُدّعاه (قدس سره) كون الترخيص هنا واقعيّاً ينافي التكليف الواقعيّ، وإنـّما هو ترخيص ظاهريّ؛ إذ لم ينشأ من محض الاضطرار، بل تدخّل فيه الجهل بالحرام، ولو كان عالماً لم يجز له ارتكابه، وكان عليه رفع الاضطرار بالآخر، ويرى هو (قدس سره): أنّ هذا الترخيص الظاهريّ ينافي ذلك التكليف الواقعيّ المعلوم بالإجمال، ولم يذكر في عبارته النكتة في هذه المنافاة(2) .

 


(1) راجع الكفاية: ج 2، ص 212 حسب الطبعة المشتملة على تعليق المشكينيّ.

(2) الظاهر أنّ مقصود المحقّق الخراسانيّ (رحمه الله): أنّ الترخيص ينافي فعليّة الحكم الواقعيّ بالمعنى الذي يقول به من الفعليّة، فيسقط العلم الإجماليّ عن كونه علماً إجماليّاً بالتكليف، كما يقول في مورد الشكّ البدويّ أيضاً، وبأنّ البراءة الشرعيّة تسقط فعليّة التكليف، ومن هنا يتّضح أنـّه لا نكتة لتقييد كلامه (قدس سره) بفرض عدم تأخّر طروّ الاضطرار عن العلم.

وعلى أيـّة حال، فإنْ كان هذا هو مراد المحقّق الخراسانيّ (رحمه الله) في المقام، فقد أورد عليه اُستاذنا الشهيد (رحمه الله) بأنّ هذا الكلام لا يتمّ لا في مورد العجز التكوينيّ، ولا في مورد العجز التشريعيّ، أمـّا الأوّل ـ وهو ما لو اضطر بمستوى العجز التكوينيّ إلى مخالفة أحد طرفي العلم

196

والمحقّق النائينيّ (رحمه الله) ذهب في تقرير الشيخ محمد علي الكاظميّ(قدس سره)(1) إلى منع المنافاة بين هذا الترخيص وذاك التكليف الواقعيّ؛ لأنّ المنافاة إمّا أنْ تُدّعى بينه وبين التكليف الواقعي بما هو، أو تدّعى بينه وبين التكليف الواقعيّ المعلوم، فإنْ ادّعي الأوّل فهذا ما اُبطل في جواب شبهة المنافات بين الأحكام الواقعيّة والظاهريّة، وتبيّن أنـّه مع الشبهة البدويّة يمكن الترخيص تعييناً من دون أنْ ينافي الحكم الواقعيّ على تقدير وجوده، وإنْ ادّعي الثاني فالترخيص في المخالفة الاحتمالية في أطراف العلم الإجمالي لا بأس به، سواء كان تعيينيّاً أو تخييريّاً.

إذن فلا منافاة بين التكليف الواقعيّ والترخيص التخييريّ، فالعلم الإجماليّ بالتكليف ثابت على حاله، غاية الأمر أنـّه هنا لا يمكنه أنْ ينجّز بدرجة وجوب الموافقة القطعيّة، لفرض الترخيص في ارتكاب أحدهما، لكنْ يبقى على تنجيزه لدرجة حرمة المخالفة القطعيّة، وهذا ما يسمى بالتوّسط في التنجيز.

وذهب المحقّق العراقيّ (قدس سره) إلى أنّ الترخيص التخييريّ في المقام لا ينافي التكليف المعلوم إجمالاً بناءً على الاقتضاء، وأمـّا بناء على العلّية، فهو ينافيه لأنّ المفروض أنـّه لا يمكن الترخيص في أطراف العلم الإجماليّ بالتكليف؛ لكونه خلف العلّيّة التامّة لوجوب الموافقة القطعيّة، فيكشف الترخيص عن رفع اليد عن التكليف، لكنّ هذا لا يوجب رفع اليد عن أصل التكليف رأساً؛ لأنـّنا إنـّما قلنا برفع اليد عنه باعتبار المنافاة بينه وبين الترخيص التخييريّ، فلابدّ من أنْ نقتصر فيه على مقدار المنافاة، وهذا الترخيص إنـّما ينافي إطلاق التكليف لا أصله، فيتقيّد التكليف، وبذلك يصير العلم علماً بالتكليف المقيّد بذلك القيد، ومنه يسري النقص إلى مرحلة التنجيز أيضاً، وهذا ما يسمى بالتوسّط في التكليف، إذ النقص طرأ ابتداءً على نفس التكليف(2) .

 


الإجمالي تخييراً ـ؛ فلأنّ الترخيص فيه عقليّ، ويشبه البراءة العقليّة لا البراءة الشرعيّة، ولا ينافي فعلية الحكم، وأمـّا الثاني؛ فلأنّ هذا الحكم هنا وإن لم يكن فعليّاً من جهة العجز الشرعيّ، أي: في قبال الوجوب الاهمّ، وهو وجوب حفظ النفس مثلاً، بمعنى أنّ المولى لا يريد صرف العبد إليه، حتى عن الأهمّ، لكنّ فعليّته من سائر الجهات تكفي لمنجّزيّة العلم بمقدار فعليّته، ومقصود المحقّق الخراسانيّ من شرط الفعليّة من جميع الجهات لا تسقط الفعليّة، بمعنى فقدان المطالبة الحقيقة بجهة من الجهات كالجهل.

(1) فوائد الاُصول: ج 4، ص 31 ـ 32.

(2) راجع المقالات: ج 2، ص 91 . ونهاية الأفكار: القسم الثاني من الجزء الثالث، ص351 ـ 352. والقسم الأوّل من الجزء الثالث: ص 155.

197

أقول: أمّا ما ذكره ـ من تسليم المنافاة في الجملة بين التكليف الواقعي وهذا الترخيص؛ لكون العلم الإجماليّ علّة تامّة لتنجيز وجوب الموافقة القطعيّة ـ فيرد عليه: أنّ معنى كون العلم الإجماليّ علّة تامّة لتنجيز وجوب الموافقة القطعيّة هو كونه كالعلم التفصيليّ فيما له من أثر في مقام التنجير من دون أنْ يكون أثره معلّقاً على عدم مجيء الترخيص، لكنّ العلم ـ سواء كان تفصيليّاً أو إجماليّاً ـ وإن كان دخيلاً في التنجيز، إلّا أنـّه يوجد شيء آخر دخيل في التنجيز أيضاً، وهو القدرة، فلو كلّف المولى عبده بما لا يقدر على بعض مراتب امتثاله، أو تمامها عقلاً أو شرعاً، وعلم العبد بذلك لم تتنجّز عليه تلك المرتبة من الامتثال، أو تمامها؛ إذ لا حقّ للمولى على العبد في خارج نطاق قدرته، وفيما نحن فيه لا يقدر العبد على مرتبة الامتثال القطعيّ إما عقلاً وإمـّا شرعاً، كما إذا كان ترك ارتكاب أحد الطرفين مؤدّياً إلى هلاك النفس، وكان حفظ النفس واجباً أهمّ ومقدّماً على هذا التكليف، وعليه فالتكليف هنا موجودٌ، ولا يتنجّز بمرتبة وجوب الموافقة القطعيّة، لا لنقص في تأثير العلم حتى يقال: إنّ العلم علّة تامّة للتنجيز، بل لانتفاء الشرط الآخر لتنجّز هذه المرتبة، وهو القدرة عليها، فيتنجّز بمرتبة حرمة المخالفة القطعيّة، وهذا هو التوسّط في التنجيز.

وأمـّا ما ذكره من أن هذا الترخيص ينافي إطلاق التكليف لا أصله، فيتّجه التوسّط في التكليف، فهذا ما يلتقي فيه كلام المحقّق العراقيّ (رحمه الله)مع كلام المحقّق النائينيّ (قدس سره) في أجود التقريرات(1)، حيث يختار هناك التوسّط في التكليف، لكنّه لوجه آخر غير وجه المحقّق العراقيّ (رحمه الله)، فإنّ الوجه فيما اختاره المحقّق العراقيّ (رحمه الله)للتوسّط في التكليف هو مسألة علّيّة العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعيّة، كما عرفت، لكنّ المحقّق النائينيّ (رحمه الله) لا يقول بالعلّيّة، إلّا أنّه يقول هنا بأنّ الاضطرار وإنْ كان متعلّقاً بالجامع، لكن أيّ فرد اختاره المكلّف، فكأنّ العرف يرى أنّ الاضطرار ثابت بالنسبة لذلك الفرد، فيكون الترخيص الواقعي فيه، فيقع المنافاة بينه وبين


(1) أجود التقريرات: ج 2، ص 270 ـ 271. واختاره أيضاً المحقّق العراقيّ لإثبات التوسّط في التكليف، حتى على مسلك الاقتضاء، حسب ما ورد في نهاية الأفكار: القسم الثاني من الجزء الثالث، ص 353.

198

إطلاق التكليف، فيحصل التوسّط في التكليف.

أقول: أمّا الوجه الأوّل للتوسّط في التكليف، وهو العلّيّة التامّة لتنجيز العلم الإجماليّ، فقد عرفت ما فيه، وأمـّا الوجه الثاني، وهو فرض انطباق الاضطرار على هذا الفرد عرفاً، فهو أيضاً ممنوع، ولا يكون الاضطرار إلّا بمقدار الجامع، ولا وجه لفرض سريانه إلى الفرد، فالتكليف الواقعيّ ثابت على حاله، ويكون التوسّط في التنجيز.

ثمّ على تقدير المنافاة في الجملة بين التكليف الواقعيّ وهذا الترخيص في أحد الفردين، يقع الكلام في أنّه هل يبقى مقدار من التكليف يوجب العلم به التنجيز بالنسبة للفرد الآخر، أو لا؟ وكيف نتصور بقاء ذلك؟ قد اختلف هنا تصوّر المحقّق النائينيّ (قدس سره) في أجود التقريرات، وتصوّر المحقّق العراقيّ (رحمه الله).

أمـّا المحقّق النائينيّ (رحمه الله)، فقد ذهب في المقام إلى أنّ التكليف يصبح مشروطاً بعدم اختيار الحرام الواقعيّ في مقام دفع الاضطرار، وفصّل (قدس سره)في استلزام ذلك لتنجّز الفرد الآخر بين ما لو فرض هذا الشرط شرطاً متأخّراً ـ أي: أنـّه مهما اختار الفرد الحرام لدفع الاضطرار يكشف ذلك عن أن هذا لم يكن حراماً عليه من أول الامر ـ أو فرض شرطاً مقارناً ـ اي: أنـّه من آن الاختيار ترتفع حرمته ـ، فإنْ فرض الأوّل فلا تنجيز في البين؛ للشكّ في التكليف بالشكّ في ثبوت شرطه (1)، وإنْ فرض الثاني فأصل التكليف معلوم بلحاظ ما قبل الاختيار، غاية الأمر هي التردّد بين الفرد الطويل والقصير، فيثبت التنجيز، واختار هو (قدس سره) الفرض الثاني، أعني كونه شرطاً مقارناً، حيث إنّ القدر المتيقّن من سقوط التكليف هو آن الاختيار، وأمـّا قبله فيتمسّك بإطلاق دليل التكليف.

والسيّد الاُستاذ(2) أشكل على الفرض الثاني، وهو كونه شرطاً مقارناً، وظاهره أنـّه يوافق المحقّق النائينيّ (رحمه الله) بالنسبة للفرض الأوّل في أنـّه لا يثمر التنجيز، وإشكاله على الفرض الثاني هو أنـّه لا يتعقّل تكليف مغيّىً باختيار مخالفته، فإنّ التكليف إنـّما يكون لتوجيه اختيار المكلّف، وعدم اختياره، فلو جعل مغيّىً باختيار مخالفته يلغو،


(1) فيما إذا كان الاضطرار قبل حدوث التكليف، أو قبل العلم به، كما جاء هذا القيد في أجود التقريرات: ج 2، ص 271.

(2) راجع الدراسات: ج 3، ص 252، والمصباح: ج 2، ص 392.

199

ويصبح غير صحيح.

أقول: إنّ الصحيح: أنّ كلاًّ من الفرضين يفيد التنجيز، ولا يرد على شيء منهما هذا الإشكال، إلّا أنّ ذلك بعد توجيه، وذلك بأنْ يكون المقصود بالشرط (وهو شرط عدم اختيار الفرد الحرام واقعاً) هو عدم اختياره وحده، بأنْ تثبت الحرمة في فرضين: فرض اختيار الآخر، وفرض اختيارهما، وهذا مساوق لكون الشرط عدم اختيار الفرد الآخر، وهذا التوجيه يرفع من الفرض الأوّل جهة عدم التنجيز، وجريان الاُصول، إذ جريان الاُصول يصبح ترخيصاً في المخالفة القطعيّة؛ لأنّ مخالفة تمام الأطراف تساوق القطع بحصول الشرط، وبالتالي القطع بثبوت التكليف ومخالفته كما يرفع من الفرض الثاني إشكال كون الحكم مغيّىً باختيار مخالفته، فإنّ هذا مغيّىً بحصّة خاصّة من مخالفته، وهي مخالفته مع عدم ارتكاب الفرد الآخر، وإنْ شئت فقل: إنـّه مغيّىً بعدم ارتكاب الفرد الآخر، وهذا لا يوجب سقوط التكليف عن كونه توجيهاً لاختيار المكلف، وعدم اختياره، وبقطع النظر عن هذا التوجيه الذي ذكرناه يرد ما ذكره من الإشكال على كلا الفرضين، لا على الفرض الثاني فقط.

هذا تمام الكلام حول ما أفاده المحقّق النائينيّ (رحمه الله) في المقام.

وأمـّا المحقّق العراقيّ (قدس سره) فلم يذهب إلى جعل التكليف مشروطاً، بل أورد القيد على متعلّق التكليف، فمتعلّق وجوب الاجتناب عن الحرام الواقعيّ ليس هو سدّ جميع أبواب عدمه، بل هو سدّ بعض أبواب عدمه، بنحو كأنـّه ينقلب وجوب الاجتناب ـ وإنْ كان لا يرضى المحقّق العراقيّ(قدس سره) بهذا التعبير ـ من التعيينيّة إلى التخيير، ومن الخطاب بالفرد المعيّن إلى الخطاب بالجامع، فالعبد مخاطب بترك أحد الأمرين الطاهر أو النجس، فيتنجّز عليه ترك أحدهما، في حين أنـّه يجوز له شرب أحدهما. وكأنـّه (رحمه الله) لم يذكر الصورة التي ذكرها المحقّق النائينيّ من جعل التكليف مشروطاً فراراً من إشكال إنقلاب الوجوب المطلق إلى الوجوب المشروط، والانتهاء إلى شكّ بدويّ وعدم التنجّز، أو من إشكال عدم صحّة تقيّد التكليف باختيار المكلف، ونحن قد عالجنا هاتين المشكلتين.

وعلى أيّ حال، فرجوع الخطاب التعيينيّ إلى الخطاب التخييريّ أمر معقول ثبوتاً، لكن يبقى الكلام في أنـّه ما هو الدليل على ذلك إثباتاً ؟ فإنّ الخطاب الذي دلّ عليه الدليل خطاب تعيينيّ، وقد سقط بمنافاته للترخيص التخييريّ، والخطاب التخييريّ خطاب آخر يحتاج إلى دليل مستقلّ غير موجود، وهذا بخلاف ما اختاره

200

المحقّق النائينيّ (قدس سره) من جعل التكليف مشروطاً، فإنّ هذا على طبق القاعدة، ولا يحتاج إلى دليل خاصّ؛ إذ إطلاق التكليف سقط قطعاً لمنافاته للترخيص، ووجود أصل التكليف في الجملة أمر محتمل، فيثبت ذلك بنفس دليل التكليف.

وهذا الإشكال وإنْ لم يعالجه المحقّق العراقيّ(قدس سره) لكنّ أكبر الظن أنـّه لو أورد عليه، لأجاب بأنّ الدليل عليه هو نفس دليل الوجوب التعيينيّ، لأنـّه بالمطابقة يدلّ على الوجوب التعيينيّ، وبالالتزام يدلّ على الملاك، وقد سقطت دلالته المطابقيّة عن الحجّيّة، لكنّ الدلالة الالتزاميّة غير تابعة عنده في الحجّيّة للدلالة المطابقيّة، فدلالته على ثبوت الملاك باقية على حالها، وعندئذ يستكشف من الملاك خطاب يسدّ بعض أبواب العدم، بعد أنْ وجد مانع عن الخطاب الذي يسدّ جميع أبواب العدم. وهذا نظير ما يقال في جملة من الموارد التي لا يكفي المدلول المطابقي للدليل، لتحصيل الملاك من استكشاف الخطاب من ناحية فعليّة الملاك، كما يقال بذلك في خطاب وجوب حفظ القدرة.

إنْ قلت: إنّ البراءة في أطراف العلم الإجماليّ إنـّما لم تجر عند المحقّق العراقيّ (قدس سره) للمحذور العقليّ، وهو قبح الترخيص في مخالفة العلم، لا لكون الملاك يهتمّ به حتماً بنحو لا تجري في مورده البراءة، وإلّا فكثيراً ما يتّفق في مورد الشبهات البدويّة أنّ المولى يعلم بوجود الملاك والحكم، ومع ذلك يجعل البراءة، فليكن الملاك الثابت بالدلالة الالتزامية فيما نحن فيه ممّا لا يهتمّ به بدرجة يمنع عن جريان البراءة.

قلت: الدليل الأوّليّ للخطاب قد دلّ على أُمور: فقد دلّ على ثبوت الملاك في نفسه، وقد دلّ على الاهتمام به في مقابل عدم سدّ شيء من أبواب العدم، وقد دلّ على الاهتمام التامّ به في مقابل جعل بعض أبواب العدم مفتوحاً، وهذا الأخير ساقط قطعاً؛ لفرض انفتاح أحد أبواب العدم بالترخيص التخييريّ، لكنّ الأوّل والثاني لم يثبت سقوطهما، فنبني على ثبوتهما بظاهر الدليل، ومع العلم بثبوت الملاك والاهتمام به بهذا المقدار، لا معنى لجريان البراءة، ويثبت هنا ـ أيضاً ـ نفس المحذور العقليّ في الترخيص في المخالفة القطعيّة لمثل هذا الملاك المهتمّ به ـ لو كان محذور عقليّ في الترخيص في سائر الموارد ـ والمفروض تقديم ظهور دليل المعلوم بالإجمال على دليل البراءة، وإلّا لأخذ بدليل البراءة في سائر موارد العلم الإجمالي مطلقاً ولو باستكشاف رفع اليد عن أصل الحكم؛ لمكان المنافاة بينه وبين

201

البراءة، فكما يقدّم هناك ظاهر دليل المعلوم بالإجمال على دليل البراءة، إمّا لكون دليل البراءة ظاهراً في كونه مبيِّناً للوظيفة في طول الحكم الواقعي، فلا يمسّ نفس الحكم الواقعي، أو لأيّ سبب آخر، كذلك يقال هنا بتقديم دليل المعلوم بالإجمال على دليل البراءة.

ثمّ لا يخفى أنـّه لا حاجة إلى هذا الخطاب الجديد بعد ما عرفت من سلامة فكرة تقييد إطلاق التكليف؛ وذلك لأنّ ثبوت أصل التكليف بعد القطع بارتفاع إطلاقه لصورة اختيار الحرام وحده، أو لصورة عدم شرب الآخر يكون على القاعدة، وإذا ثبت أصل التكليف على القاعدة فأي حاجة الى فرض خطاب جديد(1)؟!

 


(1) لا يخفى أنّ المحقّق العراقي (رحمه الله) لم يذكر تبديل فكرة تقييد الإطلاق بفكرة كون الحكم سدّاً لبعض أبواب العدم؛ لالتمام الأبواب فيما نحن فيه، وإنـّما ذكر ذلك في باب التزاحم بين الضدين الواجبين . راجع المقالات: ج 1، ص 120. ونهاية الأفكار: الجزء الأوّل والثاني، ص 367. حيث ذكر: أنـّه إذا لم يمكن اجتماع الأمرين بالضدين على شكل الأمر بأمرين متغايرين غير متضادّين، فقد يعالج الموقف بتقييد كلّ منهما بفرض عدم الإتيان بالآخر، وقد يعالج الموقف بجعل كلّ من الإيجابين ايجاباً ناقصاً، فليس أحدهما مقيّداً بفرض عدم الإتيان بالآخر، لكنّه في نفسه ناقص يسدّ بعض أبواب العدم، اي يصرف المكلف عن سائر الاُمور إلى المأمور به إلّا عن ذاك الضد الواجب، واختار (رحمه الله) العلاج الثاني على العلاج الأوّل، وعلّل هذا الاختيار في نهاية الأفكار بغير ما علّله به في المقالات، ففي نهاية الأفكار عللّ ذلك بأنّ تقييد كلّ من الأمرين بفرض عدم الآخر لايعالج مشكلة الأمر بالضدين، لبقاء المطاردة بملاحظة تحقق القيد قبل الإتيان بواحد منهما، على تحقيق وتفصيل مذكور في نهاية الأفكار.

وهذا ـ كما ترى ـ تعليل بمحذور ثبوتي، وأمـّا في المقالات، فلم يعلّل الأمر بمحذور ثبوتي، بل علّله بمحذور إثباتي، وهو أنّ التقييد خلاف الإطلاق، ولا داعي إليه بعد امكان توجّه الطلب الناقص الذي لا يوجب سدّ جميع أبواب العدم، بما فيها باب الضدّ الواجب، وبه يرتفع المحذور.

وهذا يعني أنـّه (رحمه الله) إمـّا يرى أنّ تفسير الطلب بالطلب الناقص أقلّ محذوراً في مرحلة الإثبات من محذور التقييد، أو يرى أنّ كون الطلب ناقصاً أمر لا بدّ منه على كلّ حال؛ لأنّ التقييد ـ أيضاً ـ يجعل الطلب ناقصاً، فدار الأمر بين الاكتفاء بنقص الطلب أو التقييد، والثاني منفيّ بالإطلاق، وذلك غفلةً منه عن أنّ نقص الطلب بسبب التقييد ليس فيه محذور زائد على أصل التقييد، فالأمر دائر بين محذورين متباينين.

وعلى أيّة حال، فهل من الضروري لمن يُؤوّل الأمر في المتزاحمين إلى الطلب الناقص،

202

وقد تحصل من تمام ما ذكرناه أنّ الصحيح هو التوسط في التنجيز، وبعد التنّزل عنه بفرض المضادّة بين الترخيص والتكليف الواقعي في الجملة تصل النوبة إلى التوسط في التكليف، وأمـّا عدم التنجيز رأساً فضعيف جداً.

 

 


أنْ يقولَ بمثل ذلك فيما نحن فيه أيضاً أو لا؟

الواقع هو أنـّنا لو أخذنا بالمحذور الثبوتي، الذي ذكره في نهاية الأفكار، فهذا لا يوجب بالضرورة القول بذلك فيما نحن فيه أيضاً، لأنّه لو قيد تحريم النجس مثلاً في المقام، بفرض شرب الماء الآخر لم يلزم منه محذور الأمر بضدين، أي أنّ ذاك المحذور الثبوتي غير موجود هنا، ولو أخذنا بالمحذور الإثباتي الذي ذكره في المقالات، فمن الضروري أنْ يقال بمثل ذلك في المقام أيضاً، لأنّ التقييد في المقام أيضاً خلاف أصالة الإطلاق.

وبهذا العرض اتّضح أن المحقّق العراقي (رحمه الله) لا يرى الأمر الذي يسدّ بعض أبواب العدم لا جميعه خطاباً جديداً حتى يقال في مقابله في المقام: إنّ بقاء الخطاب الأوّل لا محذور فيه وأنّ المتيقن هو سقوط إطلاق الخطاب الأوّل، ولكنْ لا وجه لفرض سقوط أصله، فلا نحتاج إلى اكتشاف هذا الخطاب الجديد، بل يرى أنّ هذا الخطاب هو نفس الخطاب السابق، ولذا يرى في المقالات أنـّه لا داعي إلى ارتكاب محذور التقييد، ما دام يمكن فرض الخطاب ناقصاً، أمـّا لو فرض خطاباً جديداً، فمن الواضح أنّ محذوره الإثباتي اشدّ من محذور التقييد، وعليه فليست المسألة في نظره (رحمه الله) داخلة في استكشاف الملاك، بعد سقوط الخطاب من باب عدم استتباع الدلالة الالتزمية للمطابقية في الحجّية.

ولم يكن له نظر أصلاً إلى العدول عن التقييد إلى الطلب الناقص، بنكتة الفرار من إشكال الوجوب المطلق إلى الوجوب المشروط، المستتبع للشكّ البدوي، وعدم التنجّز، أو إشكال عدم صحة تقييد التكليف باختيار المكلّف.

203

 

تنبيهات

بقي التنبيه على أُمور:

 

أقسام الاضطرار

الأمر الأوّل: إنّ الاضطرار يكون على ثلاث درجات:

1 ـ العجز التكويني.

2 ـ العجز التشريعي. كما لو اضطر إلى شرب النجس، لأجل حفظ النفس الذي هو واجب أهم.

3 ـ فرض الترخيص من دون عجز، لنكتة كالحرج والضرر.

والقسم الأوّل غير قابل للترخيص الشرعي أصلاً، وإنـّما الترخيص فيه عقلي نعم يمكن للشارع التصرف في الترخيص بصرفه إلى طرف معيّن.

القسم الثاني: وإنْ كان يكفي فيه علم العبد بالمزاحمة للاهم، ولا حاجة مع ذلك إلى الترخيص الشرعي، لكنّه قابل للترخيص الشرعي، ولو بداعي إيصال اهمّيّة المزاحم إلى المكلّف.

والقسم الثالث: لا يكون الترخيص فيه إلّا شرعيّاً.

وكلامنا حتّى الآن كان في القسم الأوّل والثاني، والمقصود هنا أنْ نرى أنـّه هل يتأتّى في القسم الثالث كلّ ما مضى من النكات والخصوصيّات في القسمين الأوّلين، أو لا؟ فنقول: إنّ الاضطرار بهذا النحو تارةً يكون إلى طرف معيّن، واُخرى إلى أحد الطرفين تخييراً.

أمـّا الاضطرار إلى طرف معيّن، كما لو اضطر إلى شرب الماء للعطش البالغ حدّ الضرر والحرج، وعلم إجمالاً بنجاسة الماء أو الدبس، فهذا حاله في تمام النكات والخصوصيّات حال الاضطرار في القسمين الأوّلين، وإذا كان الاضطرار سابقاً على التكليف فلا محالة ينحلّ العلم الإجمالي؛ لانتفاء التكليف قطعاً في الطرف المرخّص فيه، وإذا كان متأخّراً عن العلم بالتكليف كان ذلك لا محالة علماً بالتكليف المردّد بين الطويل والقصير، وهو منجِّز، وإن كان متوسّطاً بين التكليف

204

والعلم، يأتي هنا ما ذكرناه من لحوقه بالقسم الأوّل، وتأتي شبهة استصحاب كلّيّ التكليف، ويأتي الجواب بأنّه مردّد بين ما يقبل التنجيز وما لا يقبله؛ وذلك لأنّ التكليف في الطرف المضطرّ إليه وان كان العبد غير عاجز عنه عقلاً أو شرعاً حتّى يخرج عن دائرة حقّ المولويّة من هذه الناحية، لكنّه قد وصل إلى العبد الترخيص الشرعيّ فيه، والتكليف الذي يصل إلى العبد الترخيص الشرعيّ في خلافه ليس من حقّ المولى عليه امتثاله.

وأمـّا الاضطرار إلى غير المعيّن، كما لو كان كلا الطرفين ماءً، وهو مضطرّ إلى شرب الماء بدرجة الضرر والحرج، فهنا يكون الكلام في مقامين: أحدهما: في أنّ هذا الاضطرار هل يوجب الترخيص، أوْ لا ؟ والثاني: في أنّ هذا الترخيص إن ثبت هل يكون حاله حال الترخيص في القسمين الأوّلين، أو لا؟

أمـّا المقام الأوّل: وهو في جريان دليل نفي الضرر والحرج عند الاضطرار إلى بعض أطراف العلم الإجمالي لا بعينه، فهذا ما مضى تفصيل الكلام فيه في بحث الانسداد، حيث إنّ المحقّق الخراسانيّ (رحمه الله)بنى هذه المسألة هناك على كون مفاد دليل نفي العسر والحرج والضرر نفي الحكم الناشىء منه الحرج، كما هو مبنى الشيخ الأعظم (قدس سره) أو نفي الموضوع الحرجيّ بلحاظ نفي حكمه، فعلى الأوّل تجري القاعدة؛ لأنّ الحكم المعلوم بالإجمال حكم حرجيّ نشأ منه العسر والحرج ولو بواسطة إجماله وعدم تعيّنه، وعلى الثاني لا تجري؛ لأنّ موضوع الحكم الشرعيّ ليس فيه أيّ حرج وضرر، وما يكون في الإتيان به حرج وضرر هو تمام الأطراف الذي هو موضوع حكم العقل، والقاعدة إنما تحكم على الأحكام الشرعية لا الأحكام العقليّة .

هذا ما ذهب اليه المحقّق الخراسانيّ (رحمه الله) .

وقد يقال: إنّ هنا إشكالاً في رفع الحكم الشرعيّ بالقاعدة، حتى بلحاظ مبنى الشيخ الأعظم (رحمه الله) ، وهو أنّ الحكم الشرعيّ هنا إنـّما يكون منشأ للحرج إذا قلنا: إنّ العلم الإجماليّ علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعيّة، وإلّا فالجزء الأخير لعلّة الحرج والضرر هو عدم الترخيص في بعض الأطراف، والقاعدة إنـّما تنفي الأحكام الوجوديّة الحرجيّة، لا عدم الحكم الحرجيّ من قبيل عدم الترخيص في المقام.

وعلى أيّة حال، فقد قلنا هناك أنّ الصحيح عندنا مبنىً آخر في القاعدة، غير مبنى الشيخ الأعظم، ومبنى المحقّق الخراسانيّ (قدس سرهما) وهو أنّ دليل نفي الضرر ينفي

205

الضرر الخارجي الناشىء من الشريعة، وبيّنا أنّ القاعدة تجري في مورد الاضطرار إلى بعض أطراف العلم الإجماليّ، وأنـّها لا تنفي الحكم، وإنـّما تنفي عدم الترخيص في بعض الأطراف، وتنقيح الكلام في هذا المقام مضى هناك فلا نعيده.

وأمـّا المقام الثاني: فقد مضى في القسمين الأوّلين ما ذكره المحقّق الخراسانيّ (رحمه الله) من منافاة الترخيص للحكم الواقعيّ، ومضى أنّ المحقّق العراقيّ (قدس سره)فسّر المنافاة بلحاظ كون العلم الإجماليّ علّة تامّة للتنجيز، قد أجبنا عنه بأنّ عدم تنجّز الموافقة القطعيّة هنا إنـّما يكون مستنداً إلى انتفاء جزء آخر من أجزاء علّة التنجز وهو القدرة، ولا يكون ذلك نقصاً في كون العلم الإجمالي علّة تامّة لأثره، إلّا أنّ ذلك الجواب لا يأتي هنا؛ لأنّ القدرة العقليّة، وكذا الشرعيّة موجودة هنا، فيقع التنافي بناءً على العلّيّة بين الترخيص والحكم الواقعيّ، ويتأتّى ـ عندئذ ـ ما مضى من أنّ التنافي هل هو مع أصل الحكم الواقعي فيرتفع رأساً، أو مع إطلاقه فيحصل التوسّط في التكليف؟

هذا. وبما أنـّنا لا نؤمن بعلّيّة العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعيّة، فعلينا أنْ نغيّر صيغة الإشكال المؤدّي إلى القول بالتوسّط في التكليف بأن نقول بدلاً عن الاعتماد في إثبات التنافي بين الترخيص والتكليف المعلوم إجمالاً في المقام على علّيّة العلم الإجماليّ للتنجيز: إنّ المفروض لدى إجراء قاعدة نفي الحرج في المقام، هو البناء على مبنى الشيخ الأعظم من أنّ المرفوع هو التكليف الناشىء منه الحرج؛ إذ لو كنّا نبني على مبنى المحقّق الخراسانيّ (رحمه الله) من نفي الموضوع الحرجيّ بلحاظ نفي حكمه، لما انتهينا إلى جريان قاعدة نفي الحرج في المقام، وإذا بنينا على أنّ المرفوع هو التكليف الناشىء منه الحرج، وقعت المنافاة بين نفي الحرج والتكليف المعلوم بالإجمال في المقام، وبذلك يرتفع التكليف، فيأتي الكلام في أنـّه هل ارتفع أصل التكليف أو إطلاقه، ويتعيّن الثاني، وهو ارتفاع إطلاق التكليف تمسّكاً في أصل التكليف بدليل ذلك التكليف، وثبوته من دون إطلاق لا يوجب الحرج، فيتّجه هنا التوسّط في التكليف.

إلّا أنـّنا حيثُ اخترنا في تلك القاعدة أنـّها تجري في أطراف العلم الإجمالي، وتنفي عدم الترخيص في بعض الأطراف، لا التكليف، فنحن نلتزم هنا ـ أيضاً ـ بالتوسط في التنجيز.

 

206

 

سقوط التكليف بغير الاضطرار

الأمر الثاني: أنـّه إذا تحقّق في أحد الطرفين سقوط التكليف بغير الاضطرار، كالتلف والامتثال أو العصيان، فهذا حاله حال تحقّق الاضطرار في ذلك الطرف، في أنـّه إنْ كان ذلك قبل العلم، أو مقارناً له، فلا يتحقّق العلم بالتكليف، وإنْ كان بعده، فإنْ لاحظنا معلومنا الفعليّ فليس لنا علم بثبوت التكليف بالفعل؛ لفرض سقوط التكليف على أحد التقديرين، لكنْ لنا أنْ ننتزع فى المقام علماً إجماليّاً يكون علماً بالتكليف في كلّ تقدير، وهو العلم بالتكليف في الطرف الذي وقع فيه التلف مثلاً إلى زمان التلف، أو التكليف في الطرف الآخر إلى ما بعد التلف.

إلّا أنّ المحقّق الخراسانيّ (رحمه الله) فصّل في الكفاية بين التلف والاضطرار إذا كان بعد العلم بالتكليف، فاختار في الاضطرار عدم التنجيز؛ لأنّ الاضطرار قد رفع التكليف على تقدير كونه في الطرف المضطر إليه، فلا علم بالتكليف، واختار في التلف التنجيز. ولكنّه ذكر في حاشيته على الكفاية في الاضطرار ذاك العلم الإجماليّ الذي انتزعناه في المقام المردّد بين الطويل والقصير، وبنى عليه القول بثبوت التنجيز حتّى في فرض الاضطرار، فيظهر من مجموع كلاميه (قدس سره) في الكفاية وحاشيتها: أنـّه (رحمه الله)يقول: بأنـّه بالنظر إلى ذاك العلم الإجمالي المنتزع المردّد بين الطويل والقصير يكون التكليف في المقام منجّزاً بلا فرق بين الاضطرار والتلف، وأمـّا بقطع النظر عن ذلك، وقصره على معلوماتنا الثابتة بالفعل، فيتّجه التفصيل بين الاضطرار والتلف بالتنجيز في الثاني دون الأوّل، وهو في الكفاية لم يكن متوجّهاً إلى العلم الإجمالي المردّد بين الفرد الطويل والقصير، وإنـّما كان ناظراً إلى المعلومات الفعليّة، ففصّل بين الموردين، وفي حاشية الكفاية إنـّما لم يقبل التفصيل؛ لالتفاته إلى وجود علم إجماليّ بالتكليف على كلّ تقدير مردّد بين الطويل والقصير.

والتحقيق: ما ذكرنا من أنـّه لا فرق بين الاضطرار والتلف، فأيّ واحد منهما إذا عرض بعد العلم، ونظرنا إلى العلم الإجماليّ المنتزع، ثبت التنجيز، ولو غفلنا عن ذاك العلم الإجماليّ، ونظرنا إلى معلوماتنا الفعليّة نرى عدم التنجيز في كلا البابين.

207

هذا، والاضطرار إذا كان إلى حدّ العجزالعقليّ لم يوجد بيان (1) فنّي ـ ولو صوريّاً ـ للفرق بينه وبين مثل التلف، فإنّ ملاك سقوط التكليف فيهما شيء واحد، وهو العجز وعدم القدرة عقلاً، غاية الأمر أنّ عدم القدرة تارةً يكون لقصور في العبد، واُخرى لعدم وجود موضوع في الخارج يُعمِل العبد قدرته فيه، والاضطرار بملاك العجز الشرعيّ ملحق بالعجز العقليّ.

وأمـّا إذا كان الاضطرار بمثل العسر والضرر المنفيّين شرعاً، فهنا يمكن دعوى


(1) البيان الموجود في الكفاية عبارة عن أنّ فقد المكلف به ليس من حدود التكليف به وقيوده، بخلاف الاضطرار. راجع الجزء الثاني من الكفاية: ص 218، حسب الطبعة المشتملة على تعليقة المشكينيّ.

وهذا الكلام يمكن توجيهه ـ بنحو يشمل حتى العجز العقليّ ـ بوجهين:

الأوّل ـ أن يكون المقصود بذلك أنّ فقد الحرام لا يسقط فعليّة الحرمة، وإنـّما يسقط فاعليّتها، سنخ ما يقول اُستاذنا الشهيد (رحمه الله) في الامتثال من أنـّه لا يسقط فعليّة الحكم، وإنـّما يسقط فاعليّته، وهذا بخلاف الاضطرار إلى فعل الحرام فإنـّه يسقط فعليّته.

ويرد عليه: أوّلاً ـ أنّ التكليف إنـّما تُعقل فعليّته مع سقوط فاعليّته إذا كانت له الفاعليّة في الظرف المناسب، كما هو الحال فيما يقوله اُستاذنا الشهيد (رحمه الله) من أنّ الامتثال يسقط الفاعليّة، ولا يسقط الفعليّة، فإنّ الحكم العقليّ كانت له الفاعليّة في الظرف المناسب، وبها أثّر في تحقيق الامتثال الذي أسقط الفاعليّة، وأمـّا الحرام الذي يكون ارتكابه في كلّ آن حراماً بحرمة مستقلّة فعند فقده لا معنى لفعليّة الحرمة التي تخصّ آن الفقد؛ إذ لا فاعليّة لها في أيّ ظرف من الظروف.

وثانياً ـ أنـّه بعد التسليم، نقول: إنّ العلم الإجماليّ إنـّما يكون منجّزاً إذا تعلّق بتكليف واجد للفاعليّة على كلّ تقدير؛ ولذا لو علم إجمالاً بأحد تكليفين، بعد سقوط أحدهما من الفاعليّة بالامتثال أو بانتهاء وقته، لم يكن العلم الإجماليّ منجّزاً.

والثاني ـ أن يكون المقصود بذلك: أنّ فقد الموضوع المحرّم يستحيل أن ينهي روح الحكم من المبغوضية والملاك، بمعنى مفسدة الفعل؛ لأنّ حاله حال الخروج عن محلّ الابتلاء، الذي سيبيّن اُستاذنا الشهيد (رحمه الله) استحالة تأثيره في عالم الملاك؛ لعدم محصّصيّته لفعل المكلف، وهذا بخلاف الاضطرار إلى الارتكاب الذي يأتي فيه احتمال إنهائه للمبغوضيّة والمفسدة؛ لأنـّه يحصّص فعل الملكف إلى حصّة اضطراريّة في قبال الحصّة غير الاضطراريّة.

ويرد على هذا التوجيه نفس النقض الذي سيأتي من اُستاذنا الشهيد من أنـّه لو تَمّ هذا لجرى في فرض التلف قبل العلم أيضاً، مع أنّ المحقّق الخراسانيّ (رحمه الله) لا يلتزم بذلك.

والواقع: هو انحلال العلم الإجماليّ ـ ولو حكماً ـ بناءً على كون وجوب الموافقة القطعيّة نتيجة تعارض الأصلين.

208

الفرق بينه وبين مثل التلف ممّا يرفع القدرة عقلاً، باعتبار ما يوجد بينهما من فارق موضوعيّ، وهو أنّ المخصّص لدليل التكليف في الأوّل شرعيّ، وفي الثاني عقليّ، فيدّعى أنّ هذا الفارق الموضوعيّ يوجب الفرق في الحكم فيما نحن فيه؛ لما يقال من أنـّه مع المخصّص الشرعي لا يثبت الملاك بدليل التكليف، ومع المخصّص العقليّ يثبت الملاك، على اختلاف في تقريب ثبوته بين المحقّق العراقيّ والمحقّق النائينيّ (قدس سرهما).

وعليه ففي ما نحن فيه، إذا كان ما حصل بعد العلم هو الاضطرار إلى طرف مّا، فليس لنا بحسب معلوماتنا الفعليّة علم بالتكليف، لا التكليف الخطابيّ ولا التكليف الملاكيّ، أو قل: ليس لنا علم بالتكليف ولا بالملاك، وأمـّا إذا كان هو فقد القدرة في طرف مّا، فهنا نعلم بوجود التكليف الملاكيّ، وإنـّما نشكّ في الحكم بلحاظ الشكّ في القدرة، فنرجع في ذلك إلى ما ينقّح في محلّه من دعوى لزوم الاحتياط في موارد العلم بالملاك مع الشكّ في القدرة.

لكنّك ترى أنّ هذا لو تمّ لجرى في فرض التلف قبل العلم أيضاً؛ لأنّ المخصّص ـ أيضاً ـ عقليّ، وقد عرفنا بعد التلف ثبوت الملاك، وشككنا في القدرة والعجز، فلا بُدّ من القول بالتنجيز حتّى مع فرض التلف قبل العلم، ولا يلتزم المحقّق الخراسانيّ (رحمه الله) بذلك.

على أنّ هذا التقريب في نفسه باطل؛ لأنّ ما نقّح في محلّه ـ في باب الشكّ فى القدرة ـ إنـّما هو عدم مؤمّنيّة احتمال عدم القدرة في مورد يقطع بوجود الملاك فيه. وأمـّا مع احتمال عدم الملاك في المورد المقدور فلا بأس بالرجوع إلى الأصل العقليّ أو الشرعيّ، وما نحن فيه من هذا القبيل، لأنـّنا نعلم بعدم القدرة في أحد الطرفين بالخصوص، ونعلم بالقدرة في الطرف الآخر، ونشكّ في أنّ الملاك هل هو في هذا أو ذاك؟ فالطرف الأوّل نعلم بعدم لزوم الإتيان به؛ لفرض عدم القدرة، والطرف الثاني نشكّ في أصل ثبوت الملاك فيه، لا أنـّه يعلم بثبوت الملاك فيه، ويشكّ في القدرة، حتّى يتنجز بذلك، وفي مثل ذلك لا بأس بالرجوع إلى المؤمِّن العقليّ والشرعيّ، والعلم الإجماليّ بالجامع بين ما يكون داخلاً تحت دائرة حقّ المولى وما لا يكون داخلاً فيها ليس منجِّزاً، ويكون حاله حال العلم الإجماليّ بأنـّه إمّا كَلَّفنا المولى بالشيء الفلاني، أو كَلَّفنا زيدٌ به.

 

209

 

طروّ الاضطرار بعد العلم بالتكليف

الأمر الثالث: إذا طرأ الاضطرار بعد العلم بالتكليف، فإنْ كان اضطراراً إلى المعيّن، فلا إشكال في أنـّه يرفع التكليف على تقدير كونه في ذاك الطرف، وقد مضى أنّ العلم الإجماليّ ـ عندئذ ـ باق على تنجيزه للطرف الآخر؛ لأنـّه يعلم إجمالاً بثبوت التكليف إمّا في الطرف الأوّل قبل الاضطرار، أو في الطرف الثاني حتّى بعد الاضطرار.

وأمـّا إذا كان اضطراراً إلى غير المعيّن، فقد عرفت أنّ الترخيص الثابت بلحاظ الاضطرار إلى غير المعيّن لا ينافي أصل التكليف الواقعي أصلاً، بل ولا إطلاقه، خلافاً لما ذهب إليه المحقّق الخراسانيّ (رحمه الله) من منافاته للتكليف الواقعيّ، وأنـّه بالاضطرار ينتفي التكليف رأساً، ثمّ بعد ارتكاب أحد الطرفين يحتمل عود التكليف؛ لكونه في الطرف الآخر مع زوال الاضطرار.

والمقصود هنا أنْ نرى أنـّه على تقدير التنزّل وتسليم منافاته لأصل التكليف الواقعي، هل يتشكّل هنا ـ أيضاً ـ علم إجمالي منجِّز نظير العلم الإجماليّ بالتكليف فيما إذا كان الاضطرار إلى المعيّن، أو لا يكون حال الاضطرار إلى غير المعيّن هو حال الاضطرار إلى المعيّن في ذلك؟

والتحقيق: هو التفصيل في المقام بينما إذا علم من أوّل الأمر بأنـّه بعد حصول الاضطرار سوف يرفع اضطراره بأحد الطرفين المعيّن عنده الآن وبينما إذا لم يعلم أنـّه هل سوف يدفع اضطراره بهذا أو بذاك.

ففي القسم الأوّل لا يجوز له ارتكاب الفرد الآخر بعد رفع الاضطرار بالفرد الأوّل؛ لأنـّه كان يعلم إجمالاً بأنـّه إمـّا يحرم عليه الفرد الأوّل قبل الاضطرار، أو يحرم عليه الفرد الثاني بعد رفع الاضطرار.

وفي القسم الثاني يجوز له ارتكاب الفرد الآخر بعد رفع الاضطرار بالفرد الأوّل؛ لأنـّه لم يكن له من أوّل الأمر مثل هذا العلم الإجماليّ، وإنـّما كان يعلم إجمالاً بحرمة أحد الفردين قبل الاضطرار، وكان يشكّ أنّ الحرمة على كلّ واحد من التقديرين، أي: سواء كانت في هذا أو في ذاك هل هي حرمة مختصّة بما قبل الاضطرار، أو ثابتة بعد رفع الاضطرار أيضاً، وهذا تردّدٌ بين الأقلّ والأكثر، فيأخذ

210

بالأقلّ ويجري الأصل في الزائد، وهي الحرمة بعد رفع الاضطرار.

نعم، بعد أن رفع الاضطرار بأحدهما يعلم إجمالاً بأنـّه إمـّا أن يكون الآن الفرد الآخر حراماً عليه، أو أنّ الفرد الذي ارتكبه فعلاً كان قبل الاضطرار حراماً عليه، وهذا العلم غير منجِّز؛ لمضيّ أحد أطرافه، ويجري الأصل في الطرف الآخر بلا معارض.

إنْ قلت: إنـّه من أوّل الأمر كان بالإمكان أنْ يشير إلى الفرد المعيّن في الواقع الذي سوف يرفع الاضطرارية، ويقول: إنـّي أعلم إجمالاً بأنـّه إمـّا ذاك الفرد حرام عليّ الآن، أو الفرد الآخر حرام عليّ بعد رفع الاضطرار.

قلت: إنّ الأصل النافي لحرمة الفرد الآخر بعد رفع الاضطرار ليس معارضاً للترخيص في المخالفة القطعيّة (1) للفرد الأوّل الآن؛ لأنّ الترخيص في المخالفة القطعيّة للفرد الأوّل الآن يكون عبارة عن الترخيص في كلا الفردين الآن؛ إذ ذاك الفرد الذي سوف يرفع اضطراره به عنوان إجمالي، لا يعلم أنـّه هل هو هذا أو ذاك، ومن المعلوم أنّ هذا الترخيص في نفسه مبتلىً بالمحذور العقليّ أو العقلائيّ؛ لكونه ترخيصاً في المخالفة القطعيّة للتكليف المعلوم، فلا يصبح طرفاً للمعارضة مع الأصل النافي لحرمة الفرد الآخر بعد رفع الاضطرار.

نعم، بناءً على علّيّة العلم الإجماليّ لوجوب الموافقة القطعيّة يكون العلم الإجماليّ المذكور في (إنْ قلت) منجّزاً، إلّا إذا قبلنا بانحلال هذا العلم الإجماليّ بتنجّز أحد طرفيه، وهو الفرد الأوّل بعلمه الإجمالي بلحاظ الآن الأوّل بحرمة أحد الطرفين.

 


(1) أمـّا الترخيص في واقع الفرد الأوّل المجهول عندي فلا أثر له.

ولعلّ الأولى في مقام الجواب الاكتفاء بهذا؛ لأنّ دليل البراءة إنـّما يدلّ على الترخيص في واقع المخالفة للفرد، لا في المخالفة القطعيّة للفرد.

211

 

 

 

خروج بعض الأطراف عن الابتلاء

 

التنبيه العاشر: في فرض خروج بعض الأطراف عن محلّ الابتلاء قبل العلم أو مقارناً له، لا بمعنى الخروج عن تحت القدرة نهائيّاً الذي ظهر حاله في ذيل تنبيه الاضطرار، بل بمعنى كون عدم الارتكاب من قبل المكلّف مضموناً بحسب الطبع الأوّليّ للمطلب، وبقطع النظر عن جهات اُخرى بما فيها الجهات المولويّة، وذلك يكون لأحد أمرين:

الأوّل: أنْ يوجد في قدرة العبد عليه خفاء ناشىء من صعوبته الناشئة من كثرة مقدّماته الطويلة العسرة، فكأنـّه يتراءى للنظر العرفيّ أنـّه غيرُ قادر عليه، فالرجل العادي الذي يزارع مثلاً يتراءى أنـّه غير قادر على نيل الحكومة، والاُمور المرتبطة بمقاماتها رغم أنـّه قد يكون عقلاً قادراً على ذلك.

والثاني: أنْ يفترض عدم الخفاء في القدرة عليه، لكنّه ممّا يتنفّر الإنسان منه بطبعه، وذلك من قبيل أكل الخبائث.

وتختلف كلمات الأصحاب في ظهورها في إرادة أيّ قسم من هذين القسمين، فالمحقّق العراقيّ (رحمه الله) يريد من الخروج عن محلّ الابتلاء القسم الأوّل (1) . ولكنّ كلمات المحقق النائيني (قدس سره) (2) وفاقاً لكلمات الشيخ الأعظم (رحمه الله) (3) تلائم التعميم، وإرادة جامع الخروج عن محلّ الابتلاء بكلا قسميه.

والأصحاب ربطوا هذا البحث بمسألة اُخرى، وهي: أنـّه هل يكون التكليف مشروطاً بالدخول في محلّ الابتلاء، أو لا؟ فمَنْ قال باشتراطه بذلك اختار في المقام


(1) راجع المقالات: ج 2، ص 92. ونهاية الأفكار: القسم الثاني من الجزء الثالث، ص338 و 349.

(2) راجع فوائد الاُصول: ج 4، ص 22. وأمـّا أجود التقريرات: ج 2، ص 255 ـ 256 فصريح في تخصيص المسألة بعدم القدرة العاديّة.

(3) راجع الرسائل: ص 251 حسب الطبعة المشتملة على تعليق رحمة الله.

212

عدم التنجيز، ومَنْ قال بعدم اشتراطه بذلك اختار هنا التنجيز، ومن هنا تركّز البحث والنقاش في أنّ التكليف هل يكون مشروطاً بالدخول في محلّ الابتلاء، أو لا؟ فالمشهور اختاروا عدم التنجيز؛ لاشتراط التكليف عندهم بذلك، والسيّد الاُستاذ أنكر اشتراط التكليف بذلك، فأثبت التنجيز في المقام(1) .

والصحيح أنـّه لا علاقة بين المسألتين، وأنّ التنجيز في المقام يدور وجوداً وعدماً مدار نكتة اُخرى، فعلى بعض التقادير يكون العلم الإجماليّ منجّزاً، سواء قلنا باشتراط التكليف بالدخول في محلّ الابتلاء أو لا، وعلى بعض التقادير لا يكون منجّزاً مطلقاً، والمختار هو عدم التنجيز، وعدم اشتراط التكليف بالدخول في محلّ الابتلاء، فالمشهور أصابوا في القول بعدم التنجيز، ولكنّهم أخطأوا في القول باشتراط التكليف بالدخول في محلّ الابتلاء، وجعل ذلك مدركاً للقول بعدم التنجيز، الأمر الذي أدّى بالسيّد الاُستاذ إلى القول بالتنجيز في المقام، حيث رأى عدم اشتراط التكليف بالدخول في محلّ الابتلاء.

وتفصيل الكلام في ذلك: أنّ دخل وصف الدخول في محلّ الابتلاء يتصوّر فى مقامات أربعة:

الأوّل: الملاك.

والثاني: الخطاب بعد فرض الفراغ عن عدم دخله في الملاك.

والثالث: التنجيز بوقوعه طرفاً للعلم الإجماليّ، أو بتعلّق العلم التفصيليّ به بعد فرض الفراغ عن عدم دخله في الملاك والخطاب، أو في خصوص الملاك.

والرابع: المورديّة للأصل المؤمّن الشرعيّ بعد فرض الفراغ عن ثبوت الملاك والخطاب أو الملاك وحده مع قابلية التنجيز عقلاً. فإنْ قلنا بمورديّة هذا الطرف الخارج عن محلّ الابتلاء للأصل المؤمّن الشرعيّ كان الأصل في الطرف الآخر الداخل في محلّ الابتلاء مبتلىً بالمعارض، فيتساقط الأصلان ويتمّ التنجيز، وإلّا جرى الأصل المؤمّن في الطرف الداخل في محلّ الابتلاء بلا معارض.

أمـّا المقام الأوّل: فالصحيح أنّ وصف الدخول في محلّ الابتلاء يستحيل دخله في الملاك، وليس من قبيل وصف القدرة الذي يمكن عقلاً دخله في الملاك بان ينتفي الملاك عند عدم القدرة، وضرورة صدور الفعل، أو استحالته. والفرق


(1) راجع مصباح الاُصول: ج 2، ص 395 ـ 396. والدراسات: ج 3، ص 254 ـ 255.

213

بينهما أنّ القدرة تحصّص الفعل(1) المتحقق من العبد إلى حصتين: الحصّة الناشئة بلا قدرة، كحركة يد المشلول القهرية، والحصة الناشئة عن القدرة كحركة يد الانسان السالم الاختيارية، فمن المعقول أنْ تكون الحصةُ الاُولى ذات مفسدة، دون الحصة الثانية. وأمـّا وصف الدخول في محلّ الابتلاء فلا يحصّص فعل العبد إلى حصتين، حتى يفرض أنّ إحداهما مشتملة على المفسدة، والاُخرى غير مشتملة عليها، إذ فرض تحقق الفعل مساوق لفرض دخوله في محلّ الابتلاء، لأنّ خروجه عنه عبارة عن عدم ترقّب وقوعه من العبد، وفرض وقوعه مساوق لفرض ترقب وقوعه بتحمل الصعاب، أو بعدم تنفر النفس من الخبائث مثلا، أو باجبار النفس على الاقدام على ما تتنفر منه، ونحو ذلك(2).

 


(1) قد تقول: إنّ القدرة أو عدمها ـ بمعنى ضرورة صدور الفعل ـ هي التي تحصّص الفعل إلى حصّتين: حصّة تصدر عن اختيار، وحصّة تصدر بلا اختيار. أمّا القدرة في مقابل العجز عن الفعل، واستحالة صدور الفعل، فلا تحصّص الفعل إلى حصّتين، فبناءً على استحالة دخل الدخول في محلّ الابتلاء في الملاك يستحيل أيضاً دخل العجز التكويني عن الفعل في الملاك.

والجواب: أنّ ذات القدرة، التي ليس لها إلّا معنى واحد ـ وهي السلطنة على الفعل والترك معاً ـ تحصص الفعل بوجودها وعدمها إلى حصتين: فعل مقترن بالقدرة، وفعل مقترن بعدمها، ومعنى دخل القدرة في الملاك: انّ حاجة المولى لا تتقوّم بخصوص الترك مثلاً، بل تتقوّم بالجامع بين عدم القدرة والترك، فمع فرض حصول عدم القدرة ترتفع الحاجة إلى الترك، فعدم القدرة وإن كان قد يتجسّد في العجز عن الفعل وضرورة الترك، لكنّ معنى دخل القدرة في الملاك: أنّ المولى لم يكن بحاجة إلى هذا الترك ما دامت القدرة مفقودة، لأنّ عدم القدرة أشبع حاجة المولى، فلو كان ينتفي الترك فرضاً رغم عدم القدرة لم يكن يضرّ ذلك بالمولى شيئاً، وفرض انتفاء التركِ لا يساوق فرض القدرة، إذ أنّ انتفاء الترك له مصداقان: فقد يتجسّد بالفعل عن قدرة، وقد يتجسّد بالفعل لا عن قدرة، وهذا بخلاف الخروج عن محلّ الابتلاء، مع ثبوت القدرة، فإنّ انتفاء الترك هنا مساوق للدخول في محلّ الابتلاء، فلا يمكن أنْ يقال: إنّ الخروج عن محلّ الابتلاء أشبع حاجة المولى، إلّا بمعنى أنّ الخروج عن محلّ الابتلاء ضمن الترك للمولى، أمّا اشباعه لحاجة المولى، بمعنى أنـّه لا يهمه صدور الفعل، وانتفاء الترك، فلا معنى له، لأنّ صدور الفعل أو انتفاء الترك يستبطن في احشائه عدم الخروج عن محلّ الابتلاء.

(2)قد تقول: إنّ هذا الكلام إنّما يأتي فيما إذا فرضت المفسدة في الفعل، فعندئذ لايعقل كون الدخول في محلّ الابتلاء دخيلاً في الملاك، لأنّه لايحصص الفعل إلى حصتين، أمّا إذا افترضت المصلحة في الترك، فمن الواضح أنّ دخول الفعل في محلّ الابتلاء يحصص الترك إلى حصتين:

214

وأما المقام الثاني ـ هو دخل وصف الدخول في محلّ الابتلاء في الخطاب وعدمه فالواقع أنّ هذا غير مربوط بغرض الاُصولي أصلاً؛ لأنّ ما يستهدفه الاُصوليّ من هذا البحث إنْ كان هو كشف الملاك وعدمه، حيث إنّ الخطاب لو ثبت كشفَ عن الملاك، وإلّا فلا دليل على الملاك، فهذا لا موقع له بعد ما عرفنا في المقام الأوّل من استحالة دخل هذا الوصف في الملاك، فالملاك ثابت على كلّ حال، وإنْ كان هو بيان عدم قابلية الخارج عن محل الابتلاء للتنجّز، لأنّ العلم بالملاك وحده لا يوجب التنجيز، ويشترط في التنجيز ثبوت الخطاب، ورد عليه: إنّ هذا إنـّما يتمّ حينما يكون انتفاء الخطاب من باب قصور الملاك عن تحريك المولى نحو الخطاب، فإنّ المطلوب من العبد عقلاً، والمنجَّز عليه ليس هو الاهتمام العملي باغراض المولى، أكثر من اهتمام المولى نفسه بانجاز مقاصده عن طريق الخطاب والتشريع، أمـّا إذا كان انتفاء الخطاب لمانع خارجي، كعدم القدرة على التكلّم أو استهجان الخطاب، كما يُدّعى فيما نحن فيه، في حين أنّ الملاك في ذاته لا قصور فيه، فهنا يحكم العقل


حصة ناشئة عن اختيار الترك، رغم سهولة الفعل على العبد، وحصة مقترنة بصعوبة الفعل على العبد، ويمكن افتراض اختصاص المصلحة بخصوص الحصة الاُولى.

والجواب: أنّه إنْ قُصد بافتراض اختصاص المصلحة بخصوص الترك المقترن بسهولة الفعل كون هذا القيد من قبيل قيد الواجب، بحيث يجب على العبد أنْ يسعى في سبيل إدخال ماهو خارج عن محلّ ابتلائه في محلّ ابتلائه، ثم يتركه، فهذا أمر معقول، ولكنْ ليس هذا هو المفروض في المقام.

أما إذا فرض أنّه ليس المطلوب إدخاله في محلّ الابتلاء، وأنّ المصلحة إنّما هي في جامع الترك، فلا يعقل افتراض كون الدخول في محلّ الابتلاء دخيلاً في الملاك؛ لأنّ هذا يعني أنّ حاجة المولى ليست في خصوص الترك، بل في الجامع بين الخروج عن محلّ الابتلاء والترك، فالخروج عن محلّ الابتلاء أشبع حاجة المولى، فلا يهمّه ـ عندئذ ـ التركُ أو إنهاء الترك.

وهذا ـ كما ترى ـ لامعنى له؛ فإنّ الخروج عن محلّ الابتلاء إنّما يشبع حاجة المولى بمعنى ضمانة للترك، لابمعنى كونه بديلاً عن الترك، بحيث لايغيظ المولى كسر الترك، فإنّ كسر الترك يتضمّن في احشائه معنى الدخول في محلّ الابتلاء، وإنْ شئت فقل: إنّ اختصاص المصلحة بخصوص الترك المقترن بدخول الفعل في محلّ الابتلاء، إنْ كان بمعنى وجوب إدخاله في محلّ الابتلاء فهو خلف المفروض، وإنْ كان بمعنى تضييق في الوجوب، لافي الواجب، فهذا التضييق لابُدّ أنْ يؤدّي إلى تحصيص في الضد العام المبغوض أيضاً؛ لأنّ تضييق الوجوب يضيّق ـ لامحالة ـ حرمة الضدّ العامّ، والضدّ العامّ للترك ـ وهو الفعل ـ لايقبل التحصيص إلى حصتين، بالدخول في محلّ الابتلاء والخروج عنه كما عرفت.

215

بوجوب الامتثال. إذن فدخل وصف الدخول في محلّ الابتلاء في الخطاب وعدمه غير مرتبط بغرض الاُصولي أصلاً.

نعم، يبقى أن نتكلّم في هذا الأمر في ذاته، وهذا ما سنبحثه بعد الانتهاء عن المقامات الأربعة.

وأمـّا المقام الثالث: وهو دخل وصف الدخول في محلّ الابتلاء في قبوله للتنجز وعدمه ـ فالصحيح أنّ دخله في ذلك محال، بمثل ما مضى من برهان استحالة دخله في الملاك، بيان ذلك: أنّ التنجّز معناه حكم العقل باستحقاق العبد للعقاب على المخالفة، والوجه في هذا الحكم هو دخول تلك المخالفة في دائرة حقّ المولى المقتضي لتركها، فإذا كان الشيء محصّصاً للمخالفة كالعلم، أمكن أنْ يقال: إنّ هذه الحصّة من المخالفة يكون من حقّ المولى تركها، والحصة الاُخرى لا يكون من حقّ المولى تركها، فيقال: إنّ المخالفة المقترنة بالعلم داخلة في دائرة حقّ المولويّة الموجب للترك، ولكنّ المخالفة غير المقترنة بالعلم ليست داخلة في تلك الدائرة، وفيما نحن فيه لا توجد لدينا حصّتان من المخالفة إحداهما المخالفة مع الدخول في محلّ الابتلاء، والاُخرى المخالفة مع الخروج عن محلّ الابتلاء، حتّى يقال: إنّ ما يستحق المولى تركه إنـّما هو القسم الأوّل لا الثاني.

وأمـّا المقام الرابع: وهو كون الدخول في محلّ الابتلاء دخيلاً في مورديّة الشيء للأصل المؤمّن الشرعي وعدمه ـ فالصحيح هو دخله في ذلك، وانصراف أدلّة الاُصول عمّا هو خارج عن محلّ الابتلاء، وذلك بارتكاز العقلاء.

توضيح ذلك: أنّ الذي يفهم عرفاً من أدلّة الأحكام الظاهريّة هو ما مضى منّا من أنـّها تكون في مقام بيان شدّة الاهتمام وعدمها بالأغراض الواقعيّة لدى تزاحم الأغرض الإلزاميّة والترخيصيّة، أعني: مصلحة كون المكلّف في سعة وحرّية فى تصرفه، ففي مورد لا يتعقّل العرف التزاحم تنصرف عنه أدلّة الاُصول، ولهذا قلنا: إنّ أدلّة الاُصول لا يدلّ شيء منها على إجراء الأصل في تمام أطراف العلم الإجمالي؛ لأنّ العرف لا يتعقّل قابلية الغرض الترخيصي لمزاحمة الغرض الإلزامي المعلوم بالإجمال، فلا نجري الأصل في أطراف العلم الإجمالي بالرغم من أنـّنا لا نرى استحالة الترخيص في تمام أطراف العلم الإجماليّ، ونقول فيما نحن فيه أيضاً: إنّ دليل الأصل لا يشمل الطرف الخارج عن محلّ الابتلاء؛ لأنـّه لا يتعقّل العرف تزاحم الغرض الإلزامي والغرض الترخيصي فيه، فالتزاحم وإنْ كان معقولاً في المقام بحسب التدقيق العقلي بين الغرضين؛ إذْ لو رخّص المولى فى شرب الإناء المحتمل

216

نجاسته، الذي هو في آخر الصين، ويكون العبد قادراً عقلاً على تحصيله، فهو بالدقّة العقليّة قد فتح باباً لتفويت الغرض اللزومي، وإن أوجب الاحتياط بالنسبة له، فهو بالدقّة العقليّة ضيّق على العبد، لكنّ هذا التزاحم الدقّي العقلي غير مفهوم عند العرف، فالعرف يرى أنّ الغرض الإلزامي في نفسه مضمون الحصول، وانّ مصلحة كون العبد في سعة لا تفوت بعدم الترخيص في ارتكاب هذا الإناء، ولا يحصل من ذلك أيُّ ضيق على العبد، ومن هنا يصبح دليل الأصل منصرفاً عن الطرف الخارج عن محلّ الابتلاء(1) فيجري الأصل في الطرف الآخر


(1) قد تقول: إنّ تخصيص الترخيص في المخالفة بفرض كون المخالفة داخلة في محلّ الابتلاء غير معقول؛ لأنّ الدخول في محلّ الابتلاء لا يحصّص المخالفة إلى حصّتين كي يرخّص في أحداهما، وهذا سنخ ما قاله اُستاذنا الشهيد (رحمه الله) من أنّ شرطيّة الدخول في محلّ الابتلاء في تنجيز حرمة المخالفة غير معقول؛ لأنـّه لا يحصّص المخالفة إلى حصّتين، أو أنّ دخله في وجود الملاك في الفعل غير معقول؛ لأنـّه لا يحصّص الفعل إلى حصّتين.

والجواب عن ذلك هو: أنّ متعلّق التنجيز هو ذات المخالفة، ولا يمكن فرض ضيق فيه إلّا بضيق متعلّقه، فلا يمكن فرض اختصاص التنجيز بصورة الدخول في محلّ الابتلاء، إلّا بتحصيص المخالفة، وكذلك متعلّق الملاك يفترض ذات الفعل، ولا يمكن فرض ضيق فيه إلّا بضيق متعلّقه، فلا يتعقّل فرض اختصاصه بصورة الدخول في محلّ الابتلاء، إلّا بتحصيص الفعل. وأمّا الترخيص الشرعي فهو أمر يكون قوامه بجعل الشارع، وهو أمر اختياري للشارع، وتخصيصه بفرض الدخول في محلّ الابتلاء لا يتوقّف على تحصيص الفعل أو المخالفة؛ لإمكان تضييق الجعل مباشرة من دون تقييد المتعلّق، وذلك بأنْ يجعل الترخيص مشروطاً بالدخول في محلّ الابتلاء، لا أنْ يجعل الترخيص مخصوصاً بالحصّة الداخلة في محلّ الابتلاء. نعم، حينما يكون المتعلّق قابلاً للتحصيص فتضييق الجعل يؤدّي لا محالة إلى تحصيص المتعلّق، فلو قيّد الجعل وجوب الصلاة بزوال الشمس أصبح الواجب ـ لا محالة ـ هي تلك الصلاة المقترنة بتحقّق زوال الشمس، لكنّ المفروض فيما نحن فيه أنّ المتعلّق غير قابل للتحصيص. وبكلمة اُخرى: أنّ الترخيص لم يكن نابعاً من ضعف في ذات الملاك الإلزامي الموجود في المتعلّق، كي يقال: إنّ ذلك لا يعقّل إلّا في فرض تحصّص المتعلّق إلى حصّتين، حتى يمكن تصوير ضعف الملاك في إحداهما، وإنـّما كان نابعاً من التزاحم الحفظي بين الملاكين، فانصرف إلى ما إذا كان هذا التزاحم ملحوظاً عرفاً، وهو في فرض الدخول في محلّ الابتلاء.

وقد تقول: لا شكّ في أنـّه لو أراد شرب ما كان خارجاً عن محلّ ابتلائه جاز له ذلك، بقطع النظر عن الأصل المعارض، وذلك لأنّ إرادته لذلك تساوق دخوله في محلّ ابتلائه، وهذا يعني

217


أنّ الترخيص ثابت له بالفعل وقبل الإرادة، لأنّ الترخيص كسائر الأحكام التكليفية لا يعقل تقييده بالإرادة، فإنّ الأحكام إنـّما جعلت لكي تكون موجّهة للإرادة، ولا معنى لتخصيصها بالإرادة.

والجواب: أنـّه ليس المفروض تخصيص الترخيص بالإرادة، وإنـّما المفروض اختصاصه بذاك الجوّ النفسي الذي يترقّب فيه حصول الإرادة، فيأتي حكم الشرع في فرض ذاك الجوّ، لكي يوجّه الإرادة بالمنع أو الترخيص، فيقول: إنْ دخل في محلّ ابتلائك جاز لك فعله، أو حرم عليك فعله، ولا عيب في تصوير الحكم بهذا الشكل.

وقد تقول: لئن فرضنا انصراف دليل الأصل عن الفرد الخارج عن محلّ الابتلاء لزم القول بانصراف دليل الأمارة أيضاً عنه؛ لأنّ حُجّية الأمارة ـ أيضاً ـ كحجّية الأصل قائمة على أساس التزاحم الحفظي، فهل تلتزمون بذلك؟ وإذا تعارضت بيّنة الطهارة في الإناء الخارج عن محلّ الابتلاء مع بيّنة الطهارة في الإناء الداخل في محلّ الابتلاء لدى العلم الإجمالي بنجاسة أحدهما، فهل تقولون بحجّيّة البيّنة الثانية بلا معارض؟!

والجواب: أنـّه لا بأس بالالتزام بعدم حجّيّة البيّنة الاُولى في مدلولها المطابقي بنفس النكتة التي قلنا بعدم حُجّيّة الأصل في الخارج عن محلّ الابتلاء، ولكن إذا دلّت بالالتزام على نجاسة الإناء الآخر أصبحت طرفاً للمعارضة مع بيّنة طهارة ذاك الإناء على أساس التكاذب، وتساقطتا.

ولا يأتي هنا إشكال تبعية الدلالة الالتزاميّة للمطابقيّة في الحجّيّة، فإنّ هذا الإشكال إنـّما يكون فيما إذا كان عدم الحجّيّة بلحاظ نقص فيه، كالابتلاء بالمعارض مثلاً، لا بلحاظ عدم وجود أثر في المتعلّق، فلو دلّت الأمارة على أنّ عدد السماوات سبع، وكان ذلك ملازماً لحكم شرعي، فهي حُجّة في إثبات الحكم الشرعي، وإن لم تكن حجّة في إثبات عدد السماوات، لعدم الأثر.

نعم، لو لم تتم هذه الدلالة الالتزامية لكون العلم الإجمالي قائماً على أساس حساب الاحتمالات، مع فرض عدم إخلال مقدار الكشف الفعلي لأمارة الطهارة بذاك الحساب المولّد للعلم الإجمالي، فلا بأس بالقول بحجّيّة البيّنة القائمة على طهارة الإناء الداخل في محلّ الابتلاء.

هذا غاية ما أمكننا توجيه كلام اُستاذنا الشهيد (رحمه الله) به في المقام، من القول باختصاص الترخيص بفرض الدخول في محلّ الابتلاء.

ولكنّ الإنصاف أنّ اختصاص الترخيص بفرض الدخول في محلّ الابتلاء مع عدم تحصّص المخالفة ـ بواسطة الدخول في محلّ الابتلاء، والخروج عنه ـ إلى حصّتين غير معقول، وما مضى منّا من فرض تضييق الجعل، رغم عدم تحصّص المتعلّق لا معنى له، فإنّ تضييق الجعل لا يتصوّر إلّا بأحد معنيين:

218


الأوّل ـ تخصيصه بحصّة خاصّة من المتعلّق، وهذا رجوع إلى فرض تحصّص المتعلّق، وهو خُلْفٌ.

والثاني ـ ترك الجعل لدى الخروج عن محلّ الابتلاء، وإيجاده لدى الدخول في محلّ الابتلاء، وهذا أمر معقول، فالجعل رغم أنـّه لم يتضيّق بلحاظ مساحة معروضه، لكنّه تضيّق بالتقطيع الزمني، فهو غير موجود في زمان الخروج عن محلّ الابتلاء، وموجود في زمان الدخول في محلّ الابتلاء. لكن هذا خلف تماميّة الشريعة والجعول منذ زمن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فالجعل بهذا المعنى ثابت قبل وجودنا، وقبل دخول الاُمور في محلّ الابتلاء.

ولو مشينا على مصطلح الجعل والمجعول، ومبنى التفكيك بينهما، قلنا: إنّ تضييق المجعول لا يُعقل إلّا بأخذ قيد في متعلّقه، وهو خلف فرض عدم تحصّص المتعلّق، وتضييق الجعل مع عدم تقييد المجعول لا يعقل إلّا بمعنى ترك الجعل في فترة من الزمن، والمفروض ثبوت الجعل منذ تماميّة الشريعة.

وإلى هنا ننتهي إلى نتيجة: أنّ الأصلين يتعارضان ويتساقطان، رغم خروج أحد الطرفين عن محلّ الابتلاء.

ولكنّ الصحيح ـ رغم كلّ ما ذكرناه ـ جريان الأصل في الطرف الداخل في محلّ الابتلاء، بناءً على أنّ تساقط الأصلين إنـّما هو لأجل الارتكاز العقلائي، لا لأجل محذور عقلي في الجمع بينهما.

وتوضيح ذلك: أنّ الجمع بين الترخيصين لا يضرّ في الفهم العرفي بالغرض الإلزامي للمولى بأكثر من فرض اختصاص الترخيص ببعض الأطراف، أي أنّ الجمع بين الترخيصين لا يؤدّي إلى معرّضيّة الغرض الإلزامي للفوت القطعي؛ لأنـّه من المضمون عدم ارتكاب المخالفة في الطرف الخارج عن محلّ الابتلاء.

فإلى هنا نصل إلى أنـّه لا مانع لدى العرف والعقلاء من إجراء كلا الأصلين مشروطاً بخروج الإناء الأبيض مثلاً عن محلّ الابتلاء، إلّا أنـّنا نقول: إنّ مشروطيّة الترخيص في الإناء الأسود مثلاً بخروج الإناء الأبيض عن محلّ الابتلاء أمرٌ معقولٌ، ولكنّ مشروطيّة الترخيص في الإناء الأبيض بخروجه عن محل الابتلاء غير معقول؛ لأنّ خروجه عن محلّ الابتلاء لا يحصّص شربه إلى حصّتين كما عرفت، وإن كان يحصّص شرب الإناء الآخر إلى حصّتين: حصة مقارنة بخروج الأبيض عن محلّ الابتلاء، وحصة مقارنة بدخوله في محلّ الابتلاء. فالنتيجة هي: أنّ الترخيص في الطرف الخارج عن محلّ الابتلاء يسقط، وفي الطرف الداخل في محلّ الابتلاء يبقى على حاله.

وبكلمة اُخرى: أنّ الترخيص في الإناء الأسود مشروطاً بخروج الأبيض عن محلّ الابتلاء

219

بلا معارض (1).

 


لا معارض له؛ لأنـّه حتّى لو فرض جريان الأصل في الإناء الأبيض تلزمُ من الجمع بينهما مخالفة الارتكاز؛ لمضمونيّة عدم حصول المخالفة القطعيّة، على أساس مشروطيّة الأصل في الإناء الأسود بخروج الأبيض عن محلّ الابتلاء، ولكنّ الترخيص في الإناء الأبيض غير جار، لا مطلقاً ولا مشروطاً بخروجه عن محلّ الابتلاء. أمّا الثاني؛ فلعدم معقولية هذا الشرط؛ لعدم التحصيص. وأمـّا الأوّل؛ فلأنّ الترخيص المطلق في الإناء الأبيض يعارض الترخيص المطلق في الإناء الأسود. نعم، الترخيص في الإناء الابيض أيضاً جار مشروطاً بخروج الأسود عن محلّ الابتلاء.

والخلاصة: أنّ الترخيص في كلٍّ منهما جار مشروطاً بخروج الآخر عن محلّ الابتلاء، وهذا أمرٌ معقول؛ لأنّ خروج أحدهما عن محلّ الابتلاء وعدمه يحصّص شرب الآخر إلى حصتين: حصّة مقارنة لخروج الأوّل عن محلّ الابتلاء، وحصّة مقارنة لعدم خروجه. وهذان الترخيصان المشروطان لا يؤدّيان إلى معرّضيّة الغرض الإلزامي للفوت القطعي، كي يصطدما بالارتكاز المانع عن ذلك.

ولا يرد على هذا ما سبق إيراده على شبهة المحقّق العراقي، وهي شبهة التنجيز القائلة بأنـّه لو قيّد إطلاق الأصل في كلّ من الطرفين بفرض ترك الآخر لم تلزم مخالفة قطعيّة، حيث سبق الإيراد على ذلك بأنّ هذا يؤدّي بحسب المدلول التصديقي الجدّي إلى الترخيص في الجامع، لا إلى ترخيصين مشروطين، وهذه مؤونة زائدة، ففي المقام ليس الأمر كذلك، وإنـّما هما ترخيصان مشروطان .

(1) وقد اتّضح بهذا العرض أنّ الخروج عن محلّ الابتلاء يستحيل تأثيره على الملاك، وكذلك يستحيل تأثيره على التنجيز العقلي، ولكنّه يؤثّر ـ حسب رأي اُستاذنا الشهيد ـ على الدخول في إطلاق التأمين الشرعي.

وأمـّا الخروج عن تحت القدرة، فقد عرفت إمكان تأثيره على الملاك، كما أنّ بالإمكان عدم تأثيره عليه.

فلو فرض عدم تأثيره على الملاك، بأن كان الملاك ثابتاً حتى مع العجز، فهل يؤثّر على التنجيز، أو لا؟

التحقيق في ذلك: أنّ عدم القدرة إنْ كان بمعنى العجز عن الامتثال، فمن البديهي تأثيره على التنجيز، فالملاك الذي يعجز العبد عن تحقيقه لا يتنجّز عليه، وكذلك الخطاب الصادر من مولىً جاهل بعجز العبد لا يتنجّز على العبد العاجز عن العمل به، والعجز عن الامتثال يحصّص المخالفة إلى حصّتين: وهي الحصّة المقارنة للاضطرار، والحصّة المقارنة للاختيار، والثانية هي التي تدخل تحت دائرة حقّ المولوية دون الاُولى.