51

والتحريك فقد يقال بعدم شموله للعاجز؛ لعدم إمكانيّة بعثه، فلا يدلّ على ثبوت الملاك بشأنه، فيكون مقتضى الأصل الأوّليّ في الأحكام عدم ثبوت ملاكاتها بشأن العاجز، وإن لم يدلّ على كونه بهذا الداعي شمل العاجز، ويكون الأصل الأوّليّ في الأحكام ثبوت ملاكاتها بشأن العاجز، وتترتّب على ثبوت الملاك بشأن العاجز آثار منها عدم جواز التعجيز.

وعلى أيّ حال، فقد تدّعى في المقام دلالة الخطاب على البعث والتحريك، ولذا يكون مختصّاً بالقادر، وتضمّ إلى هذه الدعوى دعوى إجماع الإماميّة(1)على اشتراك ما هو المستفاد من الخطاب بين العالم والجاهل. إذن فالبعث والتحريك يجب أن يكونا ثابتين بشأن الجاهل، وهذا لا ينسجم مع الترخيص الظاهريّ في الخلاف.

والواقع: أنّه إن فرضت دعوى دلالة الخطاب على ذات البعث والتحريك فهذا غير معقول، فإنّ البعث والتحريك أثر للخطاب وفي طوله ولا يعقل كشف الخطاب عنه. وأمّا دعوى دلالة الخطاب على داعي البعث والتحريك فقد تفترض أنّها دلالة عقليّة، واُخرى تفترض أنّها دلالة عرفيّة:

أمّا الدلالة العقليّة: فمن المعلوم أنّ وجود الخطاب إنّما يدلّ عقلاً على وجود


(1) وحتّى لو لم نضمّ إليها دعوى الإجماع على الاشتراك أمكن القول بأنّ الخطابات الواقعيّة عادة لها إطلاق لفرض الجهل، بحيث لا نستطيع أن نثبت بدليل الحكم الظاهريّ عدم الحكم الواقعيّ في مورده، خاصّة في الشبهات الموضوعيّة التي لا يمكن نفي الحكم الواقعيّ فيها إلّا بنفي الموضوع، ولا يدلّ دليل الحكم الظاهريّ على عدم الموضوع، وعليه يقع التصادم بين الحكم الواقعيّ والظاهريّ، إلّا أن نفترض أنّنا نرفع يدنا بالنسبة لحالة الجهل عن ظهور الخطاب على تقدير وجوده في داعي البعث، جمعاً بينه وبين الحكم الظاهريّ.

52

داعي المحرّكيّة بالمقدار الذي يترتّب عليه من المحرّكيّة دون المقدار المترتّب على غيره من المقدّمات؛ إذ صدور أيّ فعل من العاقل المختار إنّما يدلّ عقلاً على وجود داعي أثره في نفس الفاعل دون داعي أثر آخر، وهذا يعني أنّ الخطاب إنّما دلّ عقلاً على داعي سدّ باب عدم التحريك من قبله، وهذا المقدار ثابت حتّى مع وجود الحكم الظاهريّ كما هو واضح.

وأمّا الدلالة العرفيّة: فالتحقيق أنّ الخطاب إنّما يدلّ عرفاً على كونه بداعي المحرّكيّة الفعليّة على تقدير الوصول، ولهذا يختصّ بالقادر؛ إذ لا تعقل المحرّكيّة الفعليّة بشأن غير القادر على تقدير الوصول، ولذا ترى أنّه لا يصحّ أن يقال: (صلّ سواء قدرت أو لا)(1). وأمّا دلالته عرفاً على أزيد من ذلك فممنوعة، وهذا المقدار


(1) إن قلت: كذلك لا يصحّ أن يقال: (صلّ سواء قامت الحجّة على عدم وجوب الصلاة أو لا)، فلئن دلّ عدم صحّة قولنا: (صلِّ سواء قدرت أو لا) على عدم إمكان اتّجاه الحكم إلى العاجز، كذلك يدلّ عدم صحّة قولنا: (صلِّ سواء قامت الحجّة على عدم وجوب الصلاة أو لا) على عدم إمكان ثبوت الحكم الواقعيّ عند تحقّق الحكم الظاهريّ على نفيه.

قلت: ما نحسّه عرفاً من عدم صحّة القول: (صلِّ سواء قامت الحجّة على عدم وجوب الصلاة أو لا) إنّما هو من قبيل ما نحسّه عرفاً: من عدم صحّة القول: (صلِّ سواء جرت البراءة العقليّة لنفي التنجيز أو لا)، أو (صلِّ سواء قطعت بعدم وجوبها أو لا)، أو (صلِّ سواء أتيت بالصلاة أو لا). وكلّ هذا ليس من قبيل: (صلِّ سواء قدرت أو لا)، وإنّما السرّ في عدم مقبوليّة التصريح بالتسوية في هذه الأمثلة: إنّ التصريح بالتسوية بين فرضين في الحكم يفيد عرفاً عدم التعرّض لحال طرف التسوية من حيث الوجود والعدم، أي: عدم اقتضاء الخطاب لهما وجوداً أو عدماً، بينما يكون من الواضح أنّ (صلّ) يقتضي وجود

53

ثابت حتّى مع وجود الحكم الظاهريّ؛ إذ على تقدير الوصول ينتفي الحكم الظاهريّ ويكون الحكم الواقعيّ محرّكاً بالفعل.

ثمّ لو سلّمنا دلالة الخطاب على داعي المحرّكيّة الفعليّة مطلقاً، أي: حتّى على تقدير عدم الوصول، قلنا: هل المقصود مطلق المحرّكيّة ولو لم تكن بدرجة الإلزام، أو المقصود هو المحرّكيّة بدرجة الإلزام؟ فإن قصد الأوّل فهذا ثابت مع وجود الحكم الظاهريّ، فإنّ الحكم عند احتماله يكون محرّكاً في الجملة بعنوان حسن الانقياد وإن لم يكن بدرجة اللزوم، نعم لو كان الحكم الظاهريّ لزوميّاً أيضاً في قبال الحكم الواقعيّ ـ كما لو كان الحكم الواقعيّ هو الوجوب والحكم الظاهريّ هو الحرمة ـ يكون الحكم الواقعيّ ساقطاً عن المحرّكيّة رأساً، لكن هذا الإشكال لم ينشأ من الحكم الظاهريّ بما هو حكم ظاهريّ بل يكون ثابتاً حتّى لو قطع العبد بحرمة ما هو واجب في الواقع(1). وإن قصد الثاني ـ أي: ضرورة فعليّة التحريك الإلزاميّ حتّى مع عدم الوصول ـ لزم عدم انحفاظ الحكم الواقعيّ في موارد قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

 


الإتيان بالصلاة وعدم تركها، وهذا هو السرّ في عدم صحّة قولنا: (صلِّ سواء أتيت بالصلاة أو لا)، وكذلك يقتضي الخطاب بمرتبة من الاقتضاء وصوله وعدم قيام الحجّة على خلافه، وهذا هو السرّ في عدم صحّة قولنا: (صلِّ سواء جرت البراءة العقليّة أو لا)، أو (صلِّ سواء قطعت بعدم وجوبها أو لا)، أو (صلِّ سواء قامت الحجّة على عدم وجوب الصلاة أو لا).

(1) ومن هنا نستطيع أن نقول: إنّه كما لا إشكال في ثبوت الحكم الواقعيّ عند القطع بخلافه كذلك إذن لا إشكال من هذه الناحية في ثبوت الحكم الواقعيّ الوجوبيّ عند كون الحكم الظاهريّ هو الحرمة.

54

الثالث: أن يقال: إنّ داعي البعث والتحريك داخل فيما يحكم العقل بوجوب امتثاله، أي: إنّ ما يجب امتثاله عقلاً ويكون ـ على حدّ تعبيرنا ـ داخلاً في دائرة حقّ المولويّة إنّما هو الحكم المبرز بالخطاب الذي يكون بداعي البعث والتحريك، وهذا بحث ثبوتيّ، وتضمّ إلى هذه الدعوى دعوى قيام الإجماع على اشتراك كلّ ما هو دخيل في وجوب الامتثال وحقّ المولويّة على تقدير الوصول بين العالم والجاهل، فلا يصحّ ـ مثلاً ـ ما ذكره المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) في مقام الجمع بين الحكم الظاهريّ والواقعيّ: من تخصيص القدر المشترك بين العالم والجاهل بمجرّد الإنشاء والاعتبار؛ إذ لا يجب امتثال مجرّد الإنشاء ولو على تقدير الوصول. وممّا يكون دخيلاً في وجوب الامتثال وحقّ المولويّة هو كون الخطاب والإبراز بداعي البعث والتحريك، فلو لم يكن بهذا الداعي لم يجب امتثاله. إذن داعي البعث والتحريك مشترك بين العالم والجاهل، وهذا لا يجتمع مع الحكم الظاهريّ المرخّص في الخلاف.

والجواب: بعد وضوح أنّ افتراض تعلّق غرض المولى بذات البعث والتحريك نفسيّاً ليس دخيلاً في حكم العقل بوجوب الامتثال، وإنّما الذي يؤثّر في حكم العقل بوجوب الامتثال هو تعلّق الغرض المقدّميّ بالبعث والتحريك بأن يكون داعي البعث والتحريك بنحو المقدّميّة، ويكون الغرض الأصليّ متعلّقاً بالمحرّك إليه، والحاصل: أنّ غرض المولى المتعلّق بفعل من الأفعال لا يشترط عقلاً في وجوب امتثاله تعلّق غرض نفسيّ للمولى بالبعث والتحريك، وإنّما الشرط العقليّ في وجوب امتثاله هو أن يكون بدرجة تحرّك المولى نحو الخطاب بداعي البعث، فأغراض المولى التي ليست بدرجة تحرّك المولى نحو الخطاب بداعي البعث لا يحكم العقل بوجوب تحرّك العبد نحو إنجازها، أقول بعد وضوح هذا:

إنّ الدخيل في حكم العقل بوجوب الامتثال هو تعلّق داعي البعث المقدّميّ

55

بالخطاب بقدر مقدّميّته، أي: أنّه يشترط في كون الحكم على تقدير الوصول واجب الامتثال كونه بنحو يوجب تعلّق الداعي المقدّميّ بالتحريك بالخطاب لو كانت للخطاب مقدّميّة، وهذا المقدار ثابت حتّى مع وجود الحكم الظاهريّ على خلاف الحكم الواقعيّ، فإنّ الخطاب على تقدير مقدّميّته للتحريك يكون التحريك به مطلوباً بنحو المقدّميّة، غاية الأمر أنّه ساقط عن المقدّميّة بالفعل.

ولو سلّمنا لزوم وجود داعي التحريك بالفعل ولو نفسيّاً فلابدّ من الاكتفاء بمطلق التحريك الثابت مع وجود الحكم الظاهريّ لا خصوص التحريك بدرجة اللزوم، وإلّا سرى الإشكال إلى موارد قبح العقاب بلا بيان أيضاً(1).

بقي هنا أمران:

الأمر الأوّل: أ نّ ما ذكرناه تامّ في فرض انسداد باب العلم، أي: عدم تمكّن المكلّف من تحصيل العلم بالحكم الواقعيّ، أمّا في مورد جعل المولى الحكم


(1) قد تكرّر الاستشهاد في الجواب الإجماليّ والتفصيليّ بقاعدة قبح العقاب بلا بيان، ولكن الظاهر أنّ هذا الاستشهاد في غير محلّه؛ إذ بإمكان الخصم أن يدّعي أنّ الحكم، أو الخطاب، أو ما يجب امتثاله ليس مقيّداً بداعي البعث الفعليّ كي ينقض بمورد قاعدة قبح العقاب بلا بيان، أو بمورد قطع العبد خطأ بعدم الحكم، وليس مقيّداً بداعي البعث الفعليّ على تقدير الوصول كي يتمّ الجمع بين الحكم الظاهريّ والواقعيّ عند عدم تماميّة الوصول، بل هو مقيّد بداعي البعث الفعليّ على تقدير عدم وجود المعذّر العقليّ.

فالمهمّ في المقام في جانب الحكم والخطاب دعوى أنّ المفهوم من كلمة الحكم عرفاً، أو المفهوم من صيغة الخطاب عرفاً إنّما هو داعي البعث الفعليّ على تقدير الوصول، وفي جانب ما يجب امتثاله عقلاً أنّه إنّما يكون مقيّداً عقلاً بداعي البعث بمقدار سدّ باب العدم من ناحية عدم الخطاب لا أكثر من ذلك من دون الاستشهاد على ذلك كلّه بمورد البراءة العقليّة، اللّهمّ إلّا إذا كان المقصود مجرّد التنبيه على الوجدان العرفيّ أو العقليّ.

56

الظاهريّ مع فرض تمكّن العبد من تحصيل العلم بالحكم الواقعيّ فقد يقال: إنّه لم يقع تزاحم بين أغراض المولى حتّى يتمّ ما ذكرناه من الجواب؛ إذ يمكن التحفّظ على كلا الغرضين اللزوميّ والترخيصيّ المتعلّقين بالمباحات وغير المباحات بتحصيل العلم ورفع الاشتباه؛ إذ بذلك يتميّز المباح من غيره، فينحفظ الغرض المتعلّق بالتوسعة في جانب المباح والغرض اللزوميّ المتعلّق بغيره.

ولكن تتميم الجواب ـ حينئذ ـ يكون بفرض أنّ تحصيل العلم وتركه الذي هو أيضاً أحد المباحات قد تعلّق غرض المولى بتوسعة حال المكلّف بالنسبة إليه وجريه على وفق طبعه بدون أن يكون ملزماً بأحد الطرفين، وعندئذ يقع التزاحم بين الأغراض اللزوميّة والأغراض الإباحيّة بما فيها هذا الغرض، فيتمّ ما مضى من الجواب حرفاً بحرف.

الأمر الثاني: أنّ هنا إشكالين آخرين واردين على مبدأ المخطّئة غير مرتبطين بالإشكال في الحكم الظاهريّ بما هو حكم ظاهريّ:

الإشكال الأوّل: أنّ ثبوت الحكم الواقعيّ في فرض العلم بالخلاف لغو؛ لعدم قابليّته في هذه الحالة للمحرّكيّة أصلاً، ولا يمكن قياسه بالحكم الواقعيّ في فرض الشكّ؛ لصلاحه للتحريك ولو لم يبلغ درجة اللزوم؛ وذلك لثبوت حسن الانقياد عند الشكّ. ويمكن تسرية هذا الإشكال ببعض الملاحظات إلى بعض موارد اُخرى، وهذا الإشكال غير مربوط بالحكم الظاهريّ؛ لتحقّقه بفرض القطع بالعدم.

الإشكال الثاني: أنّه لو ثبتت ظاهراً حرمة ما هو واجب واقعاً مثلاً، أو حصل للمكلّف خطأً العلم بحرمته فبقاء الحكم الواقعيّ عندئذ تكليف بغير المقدور، بمعنى أنّ المنقاد بوصفه منقاداً غير قادر على امتثاله؛ لأنّ فرض انقياده مساوق لفرض تركه ذاك العمل؛ لحرمته ظاهراً، أو لعلمه بحرمته، ولا يمكنه الجمع بين هذا الانقياد والحكم الواقعيّ. وهذا الإشكال غير مربوط بالحكم الظاهريّ؛ لما عرفت:

57

من تحقّقه بمجرّد فرض القطع بالحرمة.

ويأتي عين هذا الإشكال أيضاً فيما لو لم يقطع العبد بحرمة ما هو واجب واقعاً، بل كان يحتمل وجوبه ولم تنجّز الحرمة عليه ظاهراً لكن قطع بحرمة مقدّمته أو تنجّزت عليه حرمتها ظاهراً.

والجواب عن الإشكال الأوّل: أنّه لا يلزم محذور اللغويّة في الحكم، لا بلحاظ المبادئ، ولا بلحاظ الإبراز. والأوّل واضح؛ لأنّ الملاك ثابت في المتعلّق تكويناً، والحبّ والبغض ناشئان عن الملاك قهراً، فإشكال اللغويّة إنّما ينبغي أن يكون بلحاظ الإبراز. والجواب عليه: أنّ المولى لو لم يعلم بعدم ترتّب الفائدة على حكمه بالنسبة لجميع المكلّفين لم يكن الإبراز لغواً؛ إذ هو لم يخصّص الإبراز بالنسبة لشخص خاصّ، وإنّما أبرز له في ضمن الإبراز للمجموع، والمفروض ترتّب الفائدة على ذلك ولو بالنسبة لبعض الأفراد، ولم يكن إطلاق الإبراز مستوجباً لمؤونة زائدة تحتاج إلى غرض عقلائيّ متعلّق به بالخصوص.

أمّا لو علم المولى بأنّ عبيده جميعاً سوف يقطعون بخلاف حكمه مثلاً، ولن يترتّب أيّ أثر على حكمه ومع ذلك أبرز الحكم، فعندئذ لا محيص عن الالتزام بثبوت مصلحة في نفس الإبراز، ولا يكون هذا حاله حال القول بثبوت الملاك في نفس الحكم الواقعيّ دون متعلّقه، فإنّ روح الحكم هنا ثابتة، وإنّما كان الإبراز محتاجاً إلى مصلحة في نفسه لعدم قابليّته للتحريك، وهذا بخلاف ذاك الفرض المساوق لانتفاء روح الحكم.

والجواب عن الإشكال الثاني: أنّه لا يشترط في الحكم إلّا أمران:

الأوّل: كونه بداعي سدّ باب العدم من ناحيته، وهذا ثابت في محلّ الفرض، وإنّما ثبت العدم من باب آخر، وهو علمه بالحرمة مثلاً.

والثاني: القدرة، ولكن لم تكن القدرة مشروطة بعنوانها حتّى يقال فيما نحن

58

فيه بانتفاء الحكم؛ للزوم تكليف العاجز. وإنّما قلنا: إنّ ظاهر الخطاب عرفاً كونه بداعي المحرّكيّة الفعليّة على تقدير الوصول، وهذا لا يتطلّب عدا اشتراط القدرة على تقدير الوصول، وهي ثابتة فيما نحن فيه؛ إذ على تقدير وصول الحكم الواقعيّ إليه يرتفع العلم بالحرمة، أو الحكم الظاهريّ بالحرمة، ويكون قادراً على امتثال الوجوب. وهكذا الكلام في مقدّمة الواجب التي تخيّل حرمتها(1).

المقام الثاني: في دفع الإشكال بناءً على السببيّة، أعني: سببيّة الأمارة لحدوث المصلحة.

والجواب على الإشكال في هذا الفرض منحصر في افتراض أنّ الأمارة ليست سبباً لحدوث الملاك في نفس مصبّ ملاك الواقع وهو ذات الفعل، كي يلزم التنافي بين المبدأين، وإنّما هي سبب لحدوث الملاك في عنوان آخر مباين لعنوان مصبّ الحكم الواقعيّ تمام التباين، أي: لا توجد بينهما في عالم العناوين أيّ جهة اشتراك إطلاقاً، وإن اتّحدا بحسب الخارج، وذلك عبارة عن عنوان الانقياد للأمارة(2) وسلوكها وموافقتها، وبهذا يرتفع محذور اجتماع الضدّين؛ إذ الحكمان


(1) وإن شئت قلت: إنّ اشتراط القدرة إمّا هو على أساس لغويّة تكليف العاجز، أو على أساس قبحه، أو على أساس استحالته. أمّا اللغويّة فترجع إلى الإشكال الأوّل الذي مضى جوابه. وأمّا القبح ـ لو سلّم ـ فهو عبارة عن قبح تحريك من هو عاجز عن الحركة. كما أنّ الاستحالة عبارة عن استحالة تحريك العاجز، وقد عرفت أنّ الخطاب إنّما يدلّ على داعي التحريك الفعليّ على تقدير الوصول.

(2) قد يقال: إنّ هذا التقريب إنّما يتصوّر فيما إذا كان الحكم الظاهريّ إلزاماً، فيحمل على إرادة الإلزام بسلوك الأمارة، أمّا إذا كان ترخيصاً فهو لا محالة ترخيص في مخالفة الواقع، ولا معنى للسلوك هنا. إذن فهذا الجواب ناقص.

59

المتضادّان واردان على عنوانين متباينين، وقد حقّقنا في محلّه عدم استحالة اجتماع الأمر والنهي في مورد واحد إذا تعلّقاً بعنوانين متباينين في عالم العناوين. نعم، لو انحصر امتثالهما خارجاً في مورد واحد وقع التنافي بينهما بلحاظ التنجّز والامتثال. والمفروض فيما نحن فيه عدم تنجّز كليهما؛ إذ الحكم الواقعيّ قبل وصوله ليس منجّزاً(1)، وبعد وصوله يرتفع الحكم الظاهريّ، فلا منافاة بينهما بلحاظ التنجّز والامتثال أيضاً. أمّا إشكال نقض الغرض فحلّه: إنّ غرض الحكم الواقعيّ نقض لأجل الغرض الأهمّ الموجود في سلوك الأمارة، ولا محذور في نقض الغرض لأجل غرض أهمّ بل لابدّ منه.

 


وقد نقل الأخ السيّد علي أكبر ـ حفظه الله ـ من الدورة الأخيرة لدرس اُستاذنا (رضوان الله عليه) الإشكال على هذا التقريب، بأنّه إذا تمّ في مثل ما إذا كان الفعل حراماً في الواقع وقامت الأمارة على وجوبه فلا يتمّ في فرض ما إذا كان الحكم الواقعيّ هو الحرمة والظاهريّ هو الإباحة؛ لأنّ هذه الإباحة التي لها ملاك حقيقيّ إن كان متعلّقها نفس العنوان الذي تعلّق به الحكم الواقعيّ لزم وحدة العنوان، وإن كان متعلّقها هو ما يلازم ذلك العنوان من قبيل عنوان اتّباع الأمارة، فهي غير مؤمّنة عن الإقدام على العنوان الآخر الملازم له المحتمل فيه الحرمة.

إلّا أنّ الظاهر أنّ هذا الإشكال سواء كان بالصيغة التي ذكرناها أو بالصيغة التي نقلناها عن الأخ يمكن دفعه، وذلك بأن يقصد بكون المصلحة في سلوك الأمارة الترخيصيّة المصلحة في نفس أن يصحّ له العمل على طبقها، مثال ذلك: افتراض كون المصلحة في تقليد غير الأعلم الصالح لقيادة المجتمع في مقابل تقليد الأعلم غير الصالح للقيادة رغم أنّ تقليد الأعلم أحفظ للمصالح الواقعيّة في متعلّقات الأحكام.

(1) هذا إنّما يتمّ على مبنى القوم: من قاعدة قبح العقاب بلا بيان، ولا يتمّ على مبنانا، ولعلّه(رحمه الله) كان ناظراً في هذا الكلام إلى مبنى القوم.

60

هذا. وما ذكرناه: من فرض الملاك في سلوك الأمارة مأخوذ من الشيخ الأعظم(قدس سره)إلّا أنّه ذكر ذلك في مقام الجواب عن الإشكال بلحاظ العقل العمليّ، لا فيما نحن فيه: من دفع إشكال العقل النظريّ. وقد ذكره الشيخ(رحمه الله)بصياغة سيأتي ـ إن شاء الله ـ أنّ الاقتصار على المقدار الذي ذكره لا يصلح جواباً عن ذلك ما لم تبدّل تلك الصياغة بالصياغة التي ذكرناها.

 

الإشكال من ناحية العقل العمليّ:

وأمّا القسم الثاني من قسمي الإشكال في الجمع بين الحكم الظاهريّ والواقعيّ: فهو الإشكال فيه بلحاظ العقل العمليّ من ناحية أنّ تفويت المصلحة على العبد وإلقاءه في المفسدة قبيح من الحكيم.

وهذا الإشكال لم يبق له موضوع بناءً على ما بيّنّا: من كون ما نحن فيه من باب تزاحم الأغراض وتقديم ما هو الأهمّ، وإنّما يتّجه الإشكال بناءً على غير هذا المبنى.

وقد تصدّى الشيخ الأعظم(قدس سره) لدفع الإشكال بمحاولة تصوير سببيّة للأمارة لوجود الملاك بنحو يتدارك به ما فات، وفي نفس الوقت لا يورّطنا في محذور التصويب، فذكر(قدس سره) للسببيّة أقساماً ثلاثة:

القسم الأوّل: ما سمّي بالتصويب الأشعريّ وجعل أردأ أنحاء التصويب، وهو القول بأنّ الأفعال ـ بغضّ النظر عن قيام الأمارات والاُصول ـ لا حكم لها ولا تشتمل على ملاك من ملاكات الأحكام، وإنّما قيام الأمارة أو الأصل هو السبب لتحقّق ذلك.

القسم الثاني: ما أسموه بالتصويب المعتزليّ وقالوا: إنّه خلاف الإجماع، وهو الالتزام بأنّ الأفعال بذاتها تشتمل على مصالح ومفاسد وتكون محكومة بحكم من

61

الأحكام، ولكن بقيام الأمارة أو الأصل على الخلاف تتبدّل الملاكات والأحكام إلى ما يوافق الأمارة أو الأصل.

القسم الثالث: ما عبّر عنه المحقّق النائينيّ(رحمه الله) بالمصلحة السلوكيّة، وهو القول بأنّ قيام الأمارة والأصل سبب لثبوت الملاك في جري العمل على طبقه، من دون أن يتبدّل الملاك الموجود في ذات الفعل أو حكمه.

هذا. وإنّما نلتزم بالمصلحة السلوكيّة بمقدار ما أوجبته الأمارة من فوات ملاك الواقع؛ لأنّ المصلحة السلوكيّة إنّما أثبتناها بالدلالة الالتزاميّة لدليل حجّيّة الأمارة المنضمّ إلى حكم العقل بقبح التفويت، وهذا لا يدلّ على أزيد من ذلك، فلو صلّى الجمعة وفقاً للأمارة مثلاً، ثُمّ انكشف خطأ الأمارة وأنّ الواجب هو الظهر، وكان ذلك بعد ذهاب وقت الفضيلة فالمصلحة السلوكيّة تثبت بمقدار الفضيلة الفائتة، ولو لم ينكشف الأمر إلّا بعد القضاء فالمصلحة السلوكيّة تكون بمقدار تدارك مصلحة الوقت أيضاً.

وبناءً على اختيار هذا القسم من السببيّة نكون قد جمعنا بين عدم التصويب وعدم ورود إشكال تفويت الملاك. أمّا الأوّل فلأنّ المفروض بقاء المتعلّق على ما عليه من مصلحة وحكم. وأمّا الثاني فلأنّ المفروض تدارك ما فات بالمصلحة السلوكيّة.

هذا ما يظهر من كلام الشيخ الأعظم(رحمه الله) في المقام.

ثُمّ أورد(رحمه الله) على نفسه بأنّ المصلحة المفروضة في العمل بالأمارة إن لم تكن تساوي المصلحة الفائتة لم يحصل التدارك التامّ، وإن كانت تساويها لزم انقلاب الواجب التعيينيّ إلى الواجب التخييريّ؛ إذ الملاك نسبته إلى الواجب الواقعيّ والجري على وفق الأمارة واحدة، فلا وجه لوجوب أحدهما تعييناً، فلزم التصويب في التعينيّة.

62

وأجاب(قدس سره) عن ذلك بأنّه كيف يكون الحكم الظاهريّ في المقام موجباً للتصويب وزوال الواقع مع أنّ المفروض فيه ثبوت الواقع؟(1).

وذكر المحقّق النائينيّ(رحمه الله) في شرح هذا الكلام ما حاصله: أنّ العمل بالأمارة العمياء ليس ذا ملاك، وإنّما الملاك ثابت في العمل بأمارة كانت بصدد تعيين ما هو ثابت في الواقع من الحكم، فهذا الحكم الظاهريّ يكون مترتّباً على ذاك الحكم الواقعيّ(2)، فيستحيل أن ينافيه.

أقول: استحالة نفي الشيء لما يترتّب عليه صحيحة؛ إذ تأثيره في النفي إن كان قبل وجوده فهذا يعني تأثير المعدوم في عالم الوجود وهو مستحيل، وإن كان بعد وجوده ففرض وجوده يساوق فرض وجود ما هو مترتّب عليه، وهذا يعني أنّهما اجتمعا في الوجود ولم يكن منافياً له. ولكن هذا لا يفيدنا في المقام؛ إذ لو لم نثبت سابقاً عدم التنافي بينهما قلنا: إنّ ترتّب أحد المتنافيين على الآخر بنفسه مستحيل، وإن شئت فقل: إنّ هذا وإن لم يكن ينافي ذاك ولكن ذاك ينافي هذا.

ولعلّ مقصود الشيخ الأعظم(رحمه الله) كان شيئاً آخر لم نعرفه.

هذا. وكان ينبغي أن يفرض الشيخ الأعظم(رحمه الله) كون ملاك الواقع وملاك السلوك سنخين مطلوبين معاً متنافيين في مقام الاستيفاء. فإن لم يتصوّر في المقام ما مضى منّا: من القسم الثالث للتزاحم، وأنّ الأحكام الظاهريّة تكون في مقام حفظ الواقع،


(1) عبارة الرسائل في هذا الإشكال والجواب غير فنّيّة، وهذا التحديد للسؤال والجواب بهذا الوضوح جاء في عبارة أجود التقريرات.

(2) نظر المحقّق النائينيّ(رحمه الله) في ترتّب الحكم الظاهريّ على الواقعيّ إمّا إلى أنّ الواجب هو العمل بأمارة تكون بصدد تعيين الحكم الواقعيّ، أو إلى أنّ ملاك السلوك يتدارك مصلحة الواقع الفائتة، أو إلى كليهما.

63

وقد وقع التزاحم بين نفس الأحكام الظاهريّة بلحاظ عالم المحرّكيّة، فلا أقلّ من تصوير القسم الثاني من التزاحم في المقام. فإذا استبدلت فكرة التدارك بفكرة التنافي في المقام ارتفع الإشكال، فإنّ تقديم ملاك السلوك على ملاك الواقع في مقام الاستيفاء لا يعني زوال ملاك التعيين. والصحيح عندنا جواز اجتماع الأمر والنهي في مورد واحد على عنوانين مادام العنوانان متعدّدين بغضّ النظر عن الاعتبار والتعمّل العقليّ، وإن انحصر موردهما بمادّة الاجتماع إن لم يكن كلاهما منجّزاً، حتّى لا تقع المنافاة بينهما في مقام الامتثال. وما نحن فيه من هذا القبيل.

هذا. والمقصود من قولنا: (بغضّ النظر عن الاعتبار والتعمّل العقليّ) إخراج التعدّد الذي يكون كذلك، من قبيل تعدّد الإنسان والحيوان الناطق المفترقين بالإجمال والتفصيل.

والحاصل: أنّه إذا التزمنا بالمصلحة السلوكيّة بالشكل الذي شرحناه لم يرد محذور التصويب ولا محذور التفويت. أمّا الأوّل فلما عرفت: من عدم المنافاة بين الحكمين وكونهما على موضوعين. وأمّا الثاني فلأنّ التفويت يكون بملاك التزاحم وتقديم الأهمّ عند عدم إمكان الجمع بينهما.

64

 

مقتضى الأصل عند الشكّ في الحجّيّة

وأمّا الأمر الثالث ـ وهو بيان ما يقتضيه الأصل عند الشكّ في الحجّيّة ـ: فقد جاء في عبائر الأصحاب(قدس سرهم) أنّ الشكّ في الحجّيّة مساوق للقطع بعدم الحجّيّة.

 

تمهيد:

ونحن نقدّم قبل الشروع في البحث عن ذلك مقدّمة مستفادة ممّا مضى منّا في الأمر الثاني، فنقول: قد عرفت أنّ أدلّة الأحكام الظاهريّة إنّما تكون حجّة باعتبار ما تكشف عنه: من اهتمام المولى وعدمه بأغراضه عند الشكّ، لا باعتبار منشآتها ومعتبراتها. ولكن ظاهر المشهور هو الثاني، ولذا وقع منهم في هذا المقامبحث طويل في أنّه ما هو المُنشأ والمعتبر بالدليل الظاهريّ؟ وما هو المناسب لإثبات المنجّزيّة والمعذّريّة به؟ هل هو الطريقيّة، أو الحكم المماثل، أو الحجّيّة، أوغير ذلك؟

ويترتّب على هذا الاختلاف بيننا وبين ما يظهر من المشهور أنّه إذا كان هناك حكمان ظاهريّان أحدهما يقتضي التنجيز والآخر يقتضي التعذير، فهل يتعارضان بقطع النظر عن وصول كليهما، أو لا يتعارضان إلّا عند وصول كليهما؟ فبناءً على المبنى المشهور يتّجه الثاني؛ إذ لا تعارض بين إنشائين واعتبارين بما هما إنشاءان واعتباران، وإنّما يتنافيان من ناحية ما يترتّب عليهما من المنجّزيّة والمعذّريّة، وإنّما يترتّب ذلك بعد الوصول لا قبله، فإذا دلّت البراءة الشرعيّة ـ مثلاً ـ على ترك الدعاء عند رؤية الهلال وقد دلّ خبر الواحد على وجوبه، وشككنا في حجّيّة خبر الواحد فالبراءة لا تدلّ على عدم حجّيّة خبر الواحد؛ إذ لا

65

تنافي بينهما إلّا من حيث التعذير والتنجيز المترتّبين على الوصول، والمفروضعدم وصول حجّيّة خبر الواحد.

وأمّا بناءً على المبنى المختار فتقع المنافاة بين الحكمين الظاهريّين بقطع النظر عن الوصول؛ إذ من الواضح أنّ اهتمام المولى بغرضه عند الشكّ وعدمه نقيضان لا يجتمعان، والمفروض أنّ المدلول التصديقيّ العرفيّ لأدلّة الأحكام الظاهريّة الموجبة للتنجيز والتعذير هو الاهتمام بالغرض عند الشكّ وعدمه، كما أنّ المدلول التصديقيّ لأدلّة الأحكام الواقعيّة نفس الغرض، وأمّا نفس الجعل والاعتبار بما هو فلا أثر له ولا يكون موضوعاً لحكم العقل لا في الأحكام الواقعيّة ولا في الأحكام الظاهريّة. وعلى هذا فدليل البراءة في المثال الذي ذكرناه ـ المقتضي بإطلاقه تشريع البراءة عن الدعاء عند رؤية الهلال سواء دلّ خبر الواحد على وجوبه أو لا ـ يدلّ لا محالة على عدم حجّيّة خبر الواحد؛ إذ هو يدلّ على عدم اهتمام المولى بغرضه عند الشكّ حتّى لو اقترن الأمر بورود خبر الواحد الدالّ على الوجوب، بينما حجّيّة خبر الواحد لو كانت مشرّعة فهي تدلّ على اهتمام المولى بغرضه عند الشكّ المقترن بورود خبر الواحد على الوجوب، فهما متنافيان لا محالة.

نعم، سنتمسّك عندئذ بدليل حجّيّة الإطلاق الذي هو دليل ثالث من أدلّة الأحكام الظاهريّة غير دليل البراءة وغير دليل حجّيّة خبر الثقة، ونثبت بذلك جريان البراءة في المقام، سواء وجد خبر الواحد أو لا؛ لأنّ دليل البراءة مطلق، وهذا الإطلاق حجّة لنا مادمنا غير جازمين بحجّيّة خبر الواحد، وحجّيّته في طول الشكّ في حجّيّة خبر الواحد، أي: أنّ نسبة هذا الحكم الظاهريّ الثالث إلى حجّيّة خبر الواحد في الواقع كنسبة الحكم الظاهريّ إلى الواقعيّ وليس في عرضه، فهما غير متعارضين، كما أنّ الحكم الظاهريّ والواقعيّ غير متعارضين. ولا منافاة بين افتراض أنّ الشكّ في الدعاء عند رؤية الهلال وحده لا يكون رافعاً لاهتمام

66

المولى بغرضه عند دلالة خبر الواحد على الإلزام فيحاول حفظ الغرض عن طريقجعل حجّيّة خبر الواحد، وافتراض أنّ الشكّ في الدعاء عند رؤية الهلال مضافاً إلى الشكّ في حجّيّة خبر الواحد رافع لاهتمام المولى بغرضه، ففي هذه الحالة تجري البراءة. والحاصل: أنّ المتصوّر في المقام ثلاثة أحكام في ثلاث طبقات:

أوّلاً: وجوب الدعاء عند رؤية الهلال الذي هو حكم واقعيّ محتمل مشتمل على تقدير وجوده على غرض إلزاميّ.

ثانياً: حكم ظاهريّ يعكس اهتمام المولى أو عدم اهتمامه بذاك الغرض بمجرّد الشكّ في الحكم الواقعيّ، وهذا الحكم الظاهريّ قد تردّد بين حجّيّة خبر الواحد التي تعكس الاهتمام، وحجّيّة البراءة التي تعكس عدم الاهتمام.

ثالثاً: حكم ظاهريّ موضوعه الشكّ في أنّ الحكم الظاهريّ الأوّل هل هو حجّيّة خبر الواحد، أو البراءة؟ أو قل: إنّ موضوعه الشكّ في اهتمام المولى وعدم اهتمامه بغرضه عند الشكّ في الواقع، وهذا الحكم الظاهريّ عبارة عن حجّيّة الإطلاق والتي تعيّن البراءة في مقابل حجّيّة خبر الواحد.

هذه هي المقدّمة التي أردنا تقديمها في المقام.

 

أصالة عدم الحجّيّة:

وبعد ذلك نقول: إنّ الصحيح عند الشكّ في الحجّيّة هو: أنّ الأصل عدم الحجّيّة. وأقصد بذلك أنّ مجرّد ورود أمارة مشكوكة الحجّيّة تقتضي خلاف ما تقتضيه الوظائف العقليّة أو الشرعيّة لولا حجّيّتها لا يوجب أيّ تغيير في تلك الوظائف. ولتوضيح ذلك نمثّل فعلاً بالأمارة المقتضية للإلزام فنقول:

إذا دلَّ خبر الواحد على وجوب الدعاء عند رؤية الهلال وقد شككنا في حجّيّته فهذا لا يوجب تغييراً في الوظيفة العقليّة، ولا في الوظيفة الشرعيّة:

أمّا الأوّل: فلأنّ الوظيفة العقليّة النافية للإلزام على مبنى المشهور عبارة عن

67

قاعدة قبح العقاب بلا بيان، ومن المعلوم أنّه لا ينتفي موضوعها باحتمال ثبوتالحكم الظاهريّ الإلزاميّ ولا يكفي ذلك في ثبوت البيان، وإلّا لكفى نفس احتمال الواقع فيه. فاحتمال الحكم الظاهريّ لا يزيد على احتمال الحكم الواقعيّ، وضمّ اللابيان إلى اللابيان لا يثمر البيان. هذا حال قاعدة قبح العقاب بلا بيان بلحاظ الواقع.

وأمّا بلحاظ نفس حجّيّة خبر الواحد والحكم الظاهريّ فلا معنى لجريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان؛ لعدم ترقّب العقاب على الحكم الظاهريّ بما هو حكم ظاهريّ. هذا كلّه بناءً على مبنى المشهور: من قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

أمّا بناءً على مبنانا: من منجّزيّة احتمال اهتمام المولى بغرضه، فأيضاً من الواضح أنّ ورود هذا الخبر لم يؤثّر أيّ أثر في تغيير الوظيفة العقليّة، فإنّنا نحتمل اهتمام المولى بوجوب الدعاء عند رؤية الهلال، سواء ورد هذا الخبر واحتملنا حجّيّته أو لا.

وأمّا الثاني: فالوظيفة الشرعيّة النافية للإلزام إمّا هي مثل البراءة الشرعيّة والاستصحاب، أو العمومات والإطلاقات. فإن فرضنا أنّ الوظيفة الشرعيّة كانت هي البراءة فاحتمال حجّيّة هذا الخبر لا يمنع عن جريان البراءة؛ لأنّ دليل جريان البراءة مطلق يشمل فرض دلالة خبر مورث للعلم على الإلزام. وإن دلّ دليل على حجّيّة خبر الواحد فهو إمّا مخصّص لدليل البراءة، أو حاكم عليه، والحكومة ترجع في الحقيقة إلى التخصيص كما نبيّن ذلك ـ إن شاء الله ـ في محلّه. فالشكّ في حجّيّة خبر الواحد مساوق للشكّ في تخصيص دليل البراءة، والمرجع هو الإطلاق. هذا بلحاظ الواقع.

وأمّا بلحاظ الحجّيّة المشكوكة فالبراءة الجارية بالنسبة للواقع دليل اجتهاديّ

68

على نفي حجّيّة الخبر المشكوكة، فعند جريان البراءة بلحاظ الواقع لا تصل النوبة إلى البحث عن جريان البراءة وعدمه بلحاظ الحجّيّة المشكوكة؛ وذلك لما ذكرناه في المقدّمة: من تنافي الحكمين الظاهريّين العرضيّين بقطع النظر عن الوصول، فالدليل على ثبوت أحدهما بالمطابقة دليل على نفي الآخر بالالتزام، فيثبت بالدليل الاجتهاديّ عدم حجّيّة الخبر في هذا المورد، ومع فرض القطع بعدم الفرق يثبت عدم حجّيّة الخبر مطلقاً. والحاصل: أنّنا شككنا في أنّ المولى هل اهتمّ بغرضه بجعل حجّيّة الخبر، أو نفي الاهتمام به بجعل البراءة، وإطلاق دليل البراءة عيّن الثاني في مقابل الأوّل.

هذا. وما ذكرناه: من نفي حجّيّة الخبر بالدليل الاجتهاديّ ـ وهو دليل البراءة ـ لا يتمّ على مبنى القوم؛ لعدم المنافاة بين الحكمين الظاهريّين بأنفسهما، فليس أحدهما ملازماً لعدم الآخر(1)، وهذا بخلاف ما نقّحناه في المقدّمة.

إن قلت: كيف يمكن ثبوت الشكّ في حجّيّة هذا الخبر مع التمسّك بإطلاق الدليل الاجتهاديّ في نفيه؟ وقد مضى أنّ الحكم الظاهريّ إنّما يكون معذّراً عن الواقع من باب كونه موجباً للقطع بعدم اهتمام المولى بالواقع. وعلى هذا نقول: هل أوجب إطلاق دليل البراءة ولو بمعونة دليل حجّيّة الإطلاق القطع بعدم اهتمام المولى بالواقع، أو لا؟ فإن فرض الثاني فالحكم الظاهريّ لم يمارس عمله المطلوب منه. وإن فرض الأوّل لم يبق مجال لاحتمال حجّيّة هذا الخبر؛ إذ إنّما يجعله المولى حجّة على فرض الاهتمام بالواقع المفروض حصول القطع بعدمه.


(1) وعندئذ نقول: إنّ الحكم الظاهريّ غير الواصل ـ وهو حجّيّة الخبر ـ لا أثر له ولا قيمة لاحتماله، فإنّ احتماله ليس بأشدّ من احتمال الواقع، فنأخذ بالحكم الظاهريّ الواصل ـ وهو البراءة ـ بلامزاحم.

69

قلت: هذا الكلام ظهر جوابه ممّا مضى في المقدّمة، فإنّ الحكم الظاهريّ بحجّيّة إطلاق دليل البراءة يكون في طول الشكّ في كون الحجّيّة للخبر أو للبراءة، ونسبته إلى حجّيّة الخبر كنسبة الحكم الظاهريّ إلى الواقعيّ، وليس كنفس الحكم الظاهريّ بالبراءة ابتداءً الذي كان في عرض حجّيّة الخبر، ولا منافاة بين احتمال عدم كون الشكّ في الواقع المقرون بورود خبر الواحد على الإلزام رافعاً لاهتمام المولى بالواقع، والقطع بكون هذا الشكّ منضمّاً إلى الشكّ في حجّيّة الخبر رافعاً لذلك.

وإن فرضنا أنّ الوظيفة الشرعيّة كانت هي استصحاب عدم وجوب الدعاء، فأيضاً يأتي عين ما ذكرناه في البراءة الشرعيّة حرفاً بحرف، ويكون الشكّ في حجّيّة الخبر مساوقاً للشكّ في تخصيص دليل الاستصحاب، فيتمسّك بإطلاقه. هذا بلحاظ الواقع.

وأمّا بلحاظ حجّيّة الخبر فالاستصحاب الجاري بلحاظ الواقع يكون دليلاً اجتهاديّاً على نفي الحجّيّة بالبيان الماضي، ولا تصل النوبة إلى البحث عن أنّه هل يمكن استصحاب عدم الحجّيّة، أو لا؟

وأمّا إن فرضنا أنّ الوظيفة الشرعيّة النافية للتكليف كانت هي العموم أو الإطلاق للدليل الدالّ على عدم وجوب الدعاء الشامل للدعاء عند رؤية الهلال، فأيضاً يكون المرجع بلحاظ الواقع هو هذا العموم أو الإطلاق، ولا يمنع احتمال حجّيّة خبر الواحد عن ذلك؛ لأنّ دليل حجّيّة العموم أو الإطلاق دلّ على كونه حجّة ما لم تعلم معارضته بحجّة أقوى منه، والمفروض عدم وصول حجّيّة هذا الخبر، فيبقى العموم أو الإطلاق باقياً على حجّيّته. نعم، هذا العموم أو الإطلاق ليس دليلاً اجتهاديّاً على عدم حجّيّة هذا الخبر كما كان كذلك في البراءة والاستصحاب؛ وذلك لأنّ هذا العموم أو الإطلاق لا يدلّ على حكم ظاهريّ في عرض حجّيّة الخبر، وإنّما يدلّ على عدم وجوب الدعاء عند رؤية الهلال واقعاً، ولا منافاة بين عدم وجوبه واقعاً وحجّيّة الخبر الدالّ على وجوبه. وأمّا حجّيّة هذا

70

العموم أو الإطلاق فليست في عرض حجّيّة خبر الثقة(1)، فلا منافاة بينهما كما يظهر توضيحه ممّا مضى. هذا كلّه فيما لو كانت الأمارة المشكوك حجّيّتها دالّةً على الإلزام.

ويأتي عين ما ذكرناه فيما لو كانت الأمارة المشكوك حجّيّتها دالّة على الترخيص وكانت الوظيفة بقطع النظر عنها إلزاميّة، فالوظيفة العقليّة لا تختلف بمجرّد احتمال حجّيّتها. وأمّا الوظيفة الشرعيّة فإن كانت ثابتة بحكم ظاهريّ في رتبة حجّيّة الخبر فالمرجع نفس ذلك الحكم الظاهريّ، ويدلّ بالالتزام على نفي تلك الحجّيّة. وإن كانت ثابتة بعموم أو إطلاق فالمرجع نفس ذاك العموم أو الإطلاق، ولكن لا يثبت بالدليل الاجتهاديّ عدم تلك الحجّيّة؛ لعدم التنافي بين مفاد ذاك العموم أو الإطلاق وحجّيّة خبر الواحد.

هذا. وقد تحقّق من تمام ما ذكرناه: أنّ ما جاء في عبائر الأصحاب(قدس سرهم)من (أنّ الشكّ في الحجّيّة مساوق للقطع بعدم الحجّيّة) متين، فإنّ الظاهر أنّه ليس مقصودهم من ذلك أخذ القطع بالحجّيّة في موضوع الحجّيّة، وإنّما مقصودهم أنّ الشكّ في الحجّيّة مساوق من حيث النتيجة للقطع بعدم الحجّيّة، أو أنّ المقصود بالحجّيّة الثانية هو ترتّب الآثار العقليّة: من التنجيز والتعذير، لا ثبوت الخطاب الظاهريّ من قبل المولى، بخلاف الحجّيّة الاُولى.

هذا تمام الكلام في هذا الوجه لكيفيّة تأسيس الأصل في المقام.


(1) فإنّ حجّيّة العموم أو الإطلاق موضوعها هو العموم أو الإطلاق الذي لم تعلم معارضته بحجّة أقوى منه، إذن فالشكّ في حجّيّة خبر الواحد الذي عارض العموم أو الإطلاق مأخوذ في موضوع حجّيّة العموم أو الإطلاق، وهذه الحجّيّة تؤمّننا عن احتمال اهتمام المولى بغرضه الواقعيّ بجعل حجّيّة الخبر من دون أن تنفيها؛ ذلك لأنّ نسبتها إليها كنسبة الحكم الظاهريّ الترخيصيّ إلى الواقع الذي يؤمّننا من قبله ولكن لا ينفيه؛ لعدم المنافاة بين الحكم الواقعيّ والظاهريّ.

71

 

تأسيس الأصل بوجوه اُخرى:

وقد قرّب الأصل بوجوه اُخرى:

منها: ما أفاده الشيخ الأعظم(قدس سره) من التمسّك بالأدلّة الشرعيّة الدالّة على حرمة الإسناد إلى الشارع بغير علم.

وهذا الوجه إنّما يرجع إلى وجه فنّيّ إذا فرض فيه اُمور ثلاثة:

الأوّل: أن يكون جواز الإسناد لازماً مساوياً للحجّيّة؛ إذ لو لم يكن لازماً لها أصلاً أو كان أخصّ لم يكن نفيه دالّاً بالملازمة على نفيها؛ لأنّ نفي الأخصّ لا يدلّ على نفي الأعمّ، كما أنّ نفي شيء مّا لا يدلّ على نفي ما لا تلازم بينهما أصلاً.

الثاني: أن يكون جواز الإسناد لازماً لواقع الحجّيّة لا للحجّيّة الواصلة؛ إذ على الثاني نقطع بعدم جواز الإسناد لفرض عدم وصول الحجّيّة بلاحاجة إلى التمسّك لإثبات عدم جواز الإسناد بتلك الأدلّة، ولا يكون عدم جواز الإسناد مثبتاً لعدم الحجّيّة لفرض كفاية عدم وصولها فيه.

الثالث: أن لا يكون نفس احتمال الحجّيّة مانعاً عن التمسّك بعموم دليل عدم جواز الإسناد بغير العلم، وإلّا لم يمكننا التمسّك به لنفي الحجّيّة.

فيجب البحث في هذه الاُمور الثلاثة:

أمّا الأمر الأوّل: فلا مجال له بناءً على مبانينا في بحث قيام الأمارة مقام القطع الموضوعيّ، فإنّه يظهر بمراجعة ما ذكرناه هناك أنّه لا ملازمة بين حجّيّة الأمارة وقيامها مقام القطع الموضوعيّ، وبالإمكان قيامها مقام القطع الموضوعيّ بدليل مّا. إلّا أنّ هذا يصبح من مقارنات الحجّيّة لا من لوازمها، فقد يفرض دلالة دليل على جواز إسناد مفاد أمارة إلى الشارع لكن هذا لا يعني أنّ جواز الإسناد من لوازم حجّيّته حتّى يفرض أنّ دليل نفي جواز إسناده دليل على عدم حجّيّة تلك الأمارة.

72

وأمّا بناءً على مباني القوم فإن كان قيام الأمارة مقام القطع الموضوعيّ ملازماً للحجّيّة فإنّما هو ملازم لها على بعض الفروض في ألسنة جعل الحجّيّة، وهو لسان جعل الطريقيّة ولسان تنزيل المؤدّى منزلة الواقع، وقد وقع البحث في إنتاجهما لقيام الأمارة مقام القطع الموضوعيّ وعدمه. وأمّا جعل المنجّزيّة والمعذّريّة وكذا جعل الحكم المماثل فلا علاقة لهما بقيام الأمارة مقام القطع الموضوعيّ وجواز الإسناد أصلاً، حيث قد عرفت أنّ نسبة جعل الحجّيّة إلى تمام تلك الألسنة على حدّ سواء. فجواز الإسناد إن كان لازماً للحجّيّة فإنّما هو لازم لبعض أنحاء جعل الحجّيّة، وليس لازماً مساوياً لجعل الحجّيّة بتمام أنحائها، فلا يكون نفيه نفياً لها بالملازمة.

وأمّا الأمر الثاني: فيختلف الحال فيه باختلاف مباني القول بالملازمة، وقد عرفت أنّ مباني القول بالملازمة أمران:

الأوّل: مبنى جعل الطريقيّة بناءً على ما يقال: من أنّ جعل الأمارة طريقاً مثمر لترتّب آثار القطع الطريقيّ بالشيء بالنسبة لأحكامه وأحكام متعلّقه، ولترتّب آثار القطع الموضوعيّ بالنسبة لأحكام نفس هذا القطع، ومن تلك الأحكام جواز الإسناد إلى المولى الذي أخذ في موضوعه العلم بصحّة المسند إليه وصدقه. وبناء على هذا المبنى يكون جواز الإسناد أثراً لواقع الحجّيّة لا للقطع بها، فإنّ المفروض أنّ دليل حجّيّة الأمارة وجعل العلم الاعتباريّ حاكم على دليل حرمة الإسناد بغير علم، ومن المعلوم أنّ هذا العلم الاعتباريّ محفوظ حتّى مع الشكّ فيه، فهذه الحكومة ليست إلّا كسائر الحكومات كما في قوله: «الطواف بالبيت صلاة». وقوله: «لاربا بين الوالد وولده» ممّا لا تكون الحكومة فيه مختصّة بفرض العلم.

الثاني: مبنى تنزيل المؤدّى منزلة الواقع بناءً على ما يقال: من أنّ ذلك يدلّ

73

بالملازمة على تنزيل العلم بالظاهر منزلة العلم بالواقع، وهذا ينتج كون جواز الإسناد أثراً للحجّيّة الواصلة لا لواقع الحجّيّة؛ إذ قبل الوصول لا يكون هناك علم بالظاهر كي يقوم مقام العلم بالواقع.

وأمّا الأمر الثالث: فهو مبنيّ على ما سنحقّقه ـ إن شاء الله ـ في محلّه: من أنّ الحكومة هل ترجع بروحها إلى التخصيص وإنّما الفرق بينهما في كيفيّة التعبير، أو أنّها تختلف في جوهرها عن جوهر التخصيص وتكون رافعة للموضوع كما يظهر من عبائر المحقّق النائينيّ(رحمه الله)، فعلى الأوّل ـ وهو المختار ـ يتمّ الأمر الثالث، فإنّ الشكّ في الحجّيّة يساوق عندئذ الشكّ في تخصيص دليل حرمة الإسناد بغير العلم، فنتمسّك بإطلاقه. بينما على الثاني يكون التمسّك بإطلاق هذا الدليل عند الشكّ في الحجّيّة تمسّكاً بالعامّ في الشبهة المصداقيّة لنفس العامّ؛ لأنّ العامّ إنّما دلّ على حرمة الإسناد بغير العلم، والشكّ في الحجّيّة يساوق الشكّ في كون هذا الإسناد إسناداً بالعلم أوبغير علم.

ومنها: استصحاب عدم الحجّيّة، وبناءً على ما عرفته فيما سبق لا تصل النوبة إلى هذا الاستصحاب(1) فيما لو ثبت بلحاظ الواقع حكم ظاهريّ في عرض تلك الحجّيّة كالبراءة والاستصحاب؛ لكون دليل الحكم الظاهريّ دليلاً اجتهاديّاً على عدم الحجّيّة، فلابدّ من فرض موضوع الكلام خصوص ما لم يكن فيه حكم ظاهريّ في عرض الحجّيّة ينفيها دليله بالملازمة.

وقد ذكر في مقام الإشكال على هذا الاستصحاب تقريبان:

التقريب الأوّل: ما فهمه المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) من كلام الشيخ الأعظم(قدس سره)،


(1) لو قلنا بأنّ الدليل الاجتهاديّ المطابق للاستصحاب يرفع موضوع الاستصحاب كما هو المعروف، وإن كان المختار خلافه.

74

وهو: أنّ الأثر المترقّب ترتّبه في المقام عبارة عن حرمة الإسناد، بينما هي أثر لنفس الشكّ في الحجّيّة لا لواقع عدم الحجّيّة حتّى يستصحب ذلك إثباتاً لهذا الأثر، وموضوع هذا الأثر ـ وهو الشكّ ـ ثابت، فيترتّب عليه الأثر.

وأورد المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) على ذلك في تعليقته على الرسائل بوجهين:

الأوّل: إنّ وجود الأثر للمستصحب إنّما يشترط فيما لو كان المستصحب موضوعاً من الموضوعات، أمّا استصحاب الحكم نفياً وإثباتاً فلا حاجة في تصحيحه إلى أثر آخر مترتّب عليه، وما نحن فيه من هذا القبيل، فإنّ الحجّيّة حكم نستصحب عدمها.

الثاني: إنّا لا نسلّم عدم ترتّب الأثر على المستصحب، فإنّ حرمة الإسناد كما تكون أثراً للشكّ في الحجّيّة كذلك تكون أثراً لواقع عدم الحجّيّة، كما يستفاد ممّا دلّ على حرمة الحكم بغير ما أنزل الله. إذن فهناك أمران:

أحدهما: قاعدة الشكّ المقتضية لحرمة الإسناد بمجرّد الشكّ في الحجّيّة.

والثاني: استصحاب عدم الحجّيّة. وهو حاكم على الأوّل كحكومة استصحاب الطهارة على قاعدة الطهارة.

ودفع المحقّق النائينيّ(رحمه الله) الإشكال الأوّل بأنّ عدم الحجّيّة وإن كان في نفسه نفياً لحكم شرعيّ لكنّه ليس بنفسه موضوعاً لجري العمل عليه كما في الأحكام التكليفيّة. والاستصحاب أصل في مقام الجري العمليّ، وروحه يرجع إلى تعيين الوظيفة العمليّة، فلابدّ من إجرائه فيما يتطلّب ابتداءً الجري العمليّ عليه بحكم العقل، أوتترتّب عليه ثمرة كذلك، فعدم الحجّيّة حاله حال الموضوعات في احتياج جريان الاستصحاب فيه إلى الأثر.

75

أقول: إنّ تحقيق هذا الكلام إثباتاً ونفياً سيظهر من تحقيقنا للتقريب الثاني من تقريبي الإشكال في استصحاب عدم الحجّيّة(1).

وأيضاً دفع المحقّق النائينيّ(قدس سره) الإشكال الثاني بأنّه بعد أن ظهر أنّ استصحاب عدم الحجّيّة يكون لأجل إثبات حرمة الإسناد لا لإثبات نفس عدم الحجّيّة وإن كان بنفسه حكماً من الأحكام، قلنا: إنّه لو سلّم ترتّب هذا الأثر على الشكّ في الحجّيّة وعلى واقع عدم الحجّيّة كان استصحاب عدم الحجّيّة تحصيلاً للحاصل، بل من أردأ أنحاء تحصيل الحاصل؛ لأنّه تحصيل لما هو حاصل وجداناً بالتعبّد، فإنّ إجراء الاستصحاب في المقام يكون لإثبات حرمة الإسناد تعبّداً مع أنّها ثابتة في الرتبة السابقة على الاستصحاب وجداناً؛ وذلك لأنّ الاستصحاب متأخّر رتبة عن الشكّ لكونه مأخوذاً في موضوعه، فلابدّ من ثبوت الشكّ حتّى يجري الاستصحاب، وبمجرّد ثبوت الشكّ تثبت حرمة الإسناد وجداناً بثبوت موضوعه وجداناً؛ إذ المفروض أنّ المولى حكم حكماً واقعيّاً على فرض الشكّ بحرمة الإسناد.


(1) الواقع أنّه إنّما اشترط في الأصل العمليّ أن يترتّب على مفاده أثر شرعيّ عمليّ، أو أن يكون مفاده بنفسه أثراً شرعيّاً عمليّاً استطراقاً لترتّب التنجيز والتعذير العقليّين عليه، والحجّيّة المفروض استصحاب عدمها في المقام لو نظرنا إليها من زاوية حرمة الإسناد فقط جاء القول بأنّ الحجّيّة ليست حكماً عمليّاً فهي بحاجة إلى أثر شرعيّ عمليّ كي يصحّ استصحاب عدمها. أمّا إذا نظرنا إليها من زاوية أنّ الحجّيّة الشرعيّة تولّد التنجيز والتعذير العقليّين؛ لأنّ استصحاب عدم الحجّيّة يرفع موضوع قبح العقاب بلا بيان مثلاً، ويبدّله إلى بيان العدم، وبيان العدم بنفسه يحقّق التعذير، فهذا ما سيأتي تحقيقه في البحث عن التقريب الثاني من تقريبي الإشكال إن شاء الله.