452

الأصل عند الشكّ في النفسيّة والغيريّة

الجهة الثانية: في أنّه إذا علمنا بوجوب شيء كالوضوء، وشككنا في كونه نفسيّاً أو غيريّاً، فما هو مقتضى الأصل؟

والكلام تارةً يكون في الأصل اللفظيّ، واُخرى في الأصل العمليّ:

أمّا الأصل اللفظيّ: فهو يقتضي النفسيّة، ولذلك خمسة تقريبات، بعضها صحيح، وبعضها غير صحيح، مضت في مبحث دلالة الأمر على النفسيّة، وعناوين تلك التقريبات هي هذه:

1 ـ التمسّك بإطلاق الأمر بالوضوء لغير حالات وجوب ما يفترض كونه مقدّمة له كالصلاة.

2 ـ التمسّك بإطلاق مادّة ما يفترض الوضوء مقدّمة له، وشمولها لما لا يكون مع الوضوء.

3 ـ دعوى: أنّ النفسيّة قيد عدميّ، والغيريّة قيد وجوديّ، والإطلاق يعيّن القيد العدميّ في مقابل القيد الوجوديّ.

4 ـ أصالة التطابق بين عالم الإثبات وعالم الثبوت، حيث إنّه ذكر وجوب الوضوء ذكراً مستقلاًّ غير تبعيّ، فظاهره: أنّه بحسب الثبوت يكون وجوبه وجوباً مستقلاًّ غير تبعيّ.

5 ـ التمسّك بإطلاق المادّة التي تعلّق بها الأمر ـ وهو الوضوء مثلا ـ للحصّة غير الموصلة بناءً على ما هو الصحيح: من أنّ الواجب المقدّميّ إنّما هي الحصّة الموصلة.

وتفصيل الكلام في هذا البحث موكول إلى ما مضى من بحث دلالة الأمر على النفسيّة في مقابل الغيريّة.

453

وأمّا الأصل العمليّ: فنتكلّم فيه بلحاظ عدّة صور:

الصورة الاُولى: أن يكون الوضوء على تقدير كونه واجباً غيريّاً مقدّمة لواجب نفسيّ غير فعليّ، كأن يكون مقدّمة للصلاة، ولكن المكلّف عبارة عن إمرأة حائض فعلا، وهذا معناه: أنّ الوجوب الغيريّ للوضوء غير فعليّ حتماً، والوجوب النفسيّ له مشكوك تجري عنه البراءة بلا إشكال.

الصورة الثانية: أن يعلم إجمالا: إمّا بوجوب الوضوء نفسيّاً، أو بوجوبه غيريّاً مقدمةً لشيء نحن لا نعلم بوجوبه بالفعل، أي: لا نعلم بكونه واجباً حتّى على تقدير نفسيّة وجوب الوضوء، وإنّما نعلم بوجوبه على تقدير كون وجوب الوضوء غيريّاً، وذلك كما لو علمنا إجمالا بأنّه: إمّا يجب الوضوء وجوباً نفسيّاً، أو تجب الزيارة مثلا المقيّدة بكونها مع وضوء، فيكون الوضوء واجباً غيريّاً من دون العلم الفعليّ بوجوب الزيارة.

وفي هذه الصورة يتشكّل علم إجماليّ: إمّا بوجوب الوضوء نفسيّاً، أو بوجوب الزيارة مثلا نفسيّاً.

وهناك تقريبان لدعوى انحلال هذا العلم الإجماليّ، والرجوع إلى الأصل المؤمّن:

التقريب الأوّل: دعوى الانحلال الحقيقيّ؛ لكون أحد طرفي العلم الإجماليّ ـ وهو الوضوء ـ معلوم الوجوب تفصيلا، فيكون الطرف الآخر ـ وهو الزيارة ـ مشكوك الوجوب بدواً، ونفي وجوبه بالبراءة.

وهذا التقريب غير صحيح؛ إذ الانحلال الحقيقيّ غير معقول إذا لم يكن متعلّق العلم التفصيليّ من سنخ متعلّق العلم الإجماليّ، وهنا متعلّق العلم الإجماليّ إنّما هو الوجوب النفسيّ: إمّا للوضوء، أو للزيارة، في حين أنّ متعلّق العلم التفصيليّ ليس هو الوجوب النفسيّ، بل الجامع بين الوجوب النفسيّ والغيريّ للوضوء.

454

التقريب الثاني: الانحلال الحكميّ بإجراء البراءة عن وجوب الزيارة بلا معارضة بالبراءة عن الوجوب النفسيّ للوضوء؛ لأنّ نفي وجوبه النفسيّ إن قصد به التوصّل إلى نفي العقاب بلحاظ ترك الوضوء الذي هو مخالفة قطعيّة، فهذا خارج عن عهدة البراءة، ويكون ذلك غير قابل للرفع عقلا أو عقلائيّاً، فإنّه لو ترك الوضوء فقد خالف حتماً: إمّا الوجوب النفسيّ للوضوء، أو الوجوب النفسيّ للزيارة المقيّدة بالوضوء، وهو يستحقّ العقاب يقيناً، وإن قصد به التأمين عن عقاب آخر، فلا يحتمل عقاب آخر حتّى يؤمّن من ناحيته؛ فإنّ المفروض: أنّه لا يوجد إلّا وجوب نفسيّ واحد، فلا يوجد إلّا عقاب واحد، وهذا بخلاف البراءة عن وجوب الزيارة، فإنّ ترك الزيارة لا يستلزم المخالفة القطعيّة؛ إذ بإمكانه أن يتوضّأ ولا يزور، وحينئذ يشكّ في العقاب، ويكون نفي العقاب بإجراء البراءة عن وجوب الزيارة.

الصورة الثالثة: أن نفترض: أنّنا عرفنا فقط أنّ المولى أمر بالوضوء، ولا ندري: هل هو واجب نفسيّ، أو غيريّ، وعلى تقدير كونه غيريّاً الأمر يدور في واجبه النفسيّ الذي يكون هذا مقدّمة له بين اُمور غير محصورة، فيتشكّل علم إجماليّ بوجوب نفسيّ مردّد بين اُمور غير محصورة إمّا الوضوء، أو أحد اُمور كثيرة. وقد حقّقنا في محلّه: أنّ العلم الإجماليّ في الشبهة غير المحصورة لا ينجّز حتّى حرمة المخالفة القطعيّة، وأنّه تجري البراءة في كلّ الأطراف، فتجري البراءة حتّى عن الوجوب النفسيّ للوضوء.

ولا يقال: إنّ ترك الوضوء بالأخرة يؤدّي إلى المخالفة القطعيّة؛ فإنّه لا بأس بذلك.

الصورة الرابعة: أن نعلم إجمالا أنّ الوضوء: إمّا واجب نفسيّ، أو واجب غيريّ لما هو معلوم الوجوب على كلّ حال كالصلاة مثلا.

455

وقد ذكر المحقّق النائينيّ (رحمه الله) في ذلك: أنّ أصل وجوب الصلاة، وكذلك وجوب الوضوء معلوم، ويقع الشكّ في تقيّد الصلاة بالوضوء، فتجري البراءة عن هذا التقيّد، ونتيجة ذلك نتيجة النفسيّة، فبإمكانه أن يتوضّأ ويصلّي كيفما اتّفق، سواء توضّأ قبل الصلاة أو بعدها(1).

وناقش السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ في ذلك بأنّه يعلم إجمالا: إمّا بالوجوب النفسيّ للوضوء، أو الوجوب النفسيّ الضمنيّ لتقيّد الصلاة بالوضوء، وهذا علم إجماليّ منجّز. ودعوى: أنّ الوضوء معلوم الوجوب على كلّ حال غير مفيدة؛ إذ هو معلوم الوجوب بالجامع بين الوجوب النفسيّ والوجوب الغيريّ، والوجوب الغيريّ غير قابل للتنجّز، والعلم بالجامع بين ما لا يقبل التنجّز وما يقبل التنجّز لا يكون منجّزاً، إذن فالبراءة عن الوجوب النفسيّ الضمنيّ للتقيّد مع البراءة عن الوجوب النفسيّ للوضوء تتعارضان وتتساقطان، فيجب الاحتياط بإيقاع الوضوء قبل الصلاة(2).

أقول: إنّ هذا الإشكال قابل للدفع في صورة وحدة الواقعة، بناءً على مبنى المحقّق النائينيّ (رحمه الله) في باب تنجيز العلم الإجماليّ المختار عندنا.

وتوضيح تسلسل التفكير في المقام:



(1) راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 170 بحسب الطبعة المشتملة على تعليقات السيّد الخوئيّ (رحمه الله)، وفوائد الاُصول، ج 1، ص 222 ـ 223 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

(2) راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 170، تحت الخطّ بحسب الطبعة المشتملة على تعليقات السيّد الخوئيّ (رحمه الله)، والمحاضرات، ج 2، ص 392 بحسب طبعة مطبعة الآداب في النجف الأشرف.

456

أنّه قد يقال: إنّه أيّ فرق بين الصورة الثانية والصورة الرابعة، فكما علمنا إجمالا في الصورة الرابعة بالوجوب النفسيّ للوضوء، أو الوجوب النفسيّ لتقيّد الصلاة بالوضوء، كذلك علمنا إجمالا في الصورة الثانية بالوجوب النفسيّ للوضوء، أو الوجوب النفسيّ للزيارة، وغاية الفرق بينهما: أنّ طرفي العلم الإجماليّ في الصورة الثانية كانا عبارة عن وجوب نفسيّ مستقلّ، ولكن في هذه الصورة أصبح أحد طرفيه عبارة عن وجوب نفسيّ ضمنيّ، وهو وجوب التقيّد وهذا الفرق ليس فارقاً؛ فإنّه كما كنّا نقول في الصورة الثانية: إنّ البراءة عن وجوب الزيارة لا تعارضها البراءة عن الوجوب النفسيّ للوضوء؛ لأنّ ترك الوضوء يستلزم المخالفة القطعيّة، والتأمين عن العقاب مع المخالفة القطعيّة غير معقول، كذلك نقول في المقام: إنّ البراءة عن وجوب التقيّد لا تعارضها البراءة عن الوجوب النفسيّ للوضوء؛ لأنّ ترك الوضوء يستلزم المخالفة القطعيّة، والتأمين عن العقاب مع المخالفة القطعيّة غير معقول.

إلّا أنّ هذا الإشكال بهذا المقدار لو اُلقي على السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ أمكنه أن يجيب ببيان الفرق بين الصورتين، فإنّه في الصورة الثانية البراءة عن الوجوب النفسيّ للوضوء لا تفيد، لا لنفي أصل العقاب؛ للقطع بالمخالفة، ولا لنفي عقاب ثان؛ للقطع بعدم عقاب ثان؛ لعدم وجود وجوبين نفسيّين، وأمّا في الصورة الرابعة، فالبراءة عن الوجوب النفسيّ للوضوء تفيد، لا لنفي أصل العقاب حتّى يقال: إنّ ترك الوضوء يستلزم المخالفة القطعيّة، بل لنفي عقاب ثان فيمن ترك الصلاة والوضوء معاً؛ فإنّ الوضوء لو كان مقدّمة للصلاة لم يعاقب إلّا بعقاب واحد على ترك الصلاة، ولو كان واجباً نفسيّاً كان عليه عقاب آخر لترك الوضوء، فهذا هو الفرق بين الصورتين.

إلّا أنّ التحقيق: أنّ هذا الفرق ليس فارقاً عند فرض وحدة الواقعة، وذلك بناءً

457

على ما بنى عليه المحقّق النائينيّ (رحمه الله) ـ وهو الصحيح ـ من جريان الاُصول الترخيصيّة في أطراف العلم الإجماليّ إذا لم يمكن عقلا للمكلّف الاستناد إليها جميعاً في عرض واحد الذي ينجرّ إلى المخالفة القطعيّة، ومثال ذلك الشبهة غير المحصورة التي لا يمكن للمكلّف ارتكاب جميع أطرافها؛ حيث ذكر المحقّق النائينيّ (رحمه الله): أنّه إذن لا بأس بجريان الاُصول في تمام أطرافها، وما نحن فيه عند فرض عدم تعدّد الواقعة من هذا القبيل، فإنّ المكلّف لا يمكنه أن يستفيد في واقعة واحدة من الأصل في كلا طرفي العلم الإجماليّ، أي: من أصل البراءة عن الوجوب النفسيّ للوضوء، وأصل البراءة عن التقيّد في وقت واحد؛ وذلك لأنّه لا يخلو أمره في واقعة واحدة من أنّه يصلّي أو يترك الصلاة، فإن ترك الصلاة فالبراءة عن التقيّد لا تفيده؛ فإنّ عقاب ترك الصلاة مسجّل عليه لا محالة، وليس هناك عقاب آخر ينتفي بالبراءة عن التقيّد، وإن أتى بالصلاة فالبراءة عن الوجوب النفسيّ للوضوء لا تفيده؛ إذ لا يمكن أن ينفى بهذه البراءة أصل العقاب، ولا عقاب ثان. أمّا الأوّل فلأنّ ترك الوضوء يستلزم المخالفة القطعيّة للمعلوم بالإجمال على كلّ تقدير، ولا تأمين عن العقاب على المخالفة القطعيّة. وأمّا الثاني فلأنّه في فرض الإتيان بالصلاة يقطع بعدم عقاب ثان؛ إذ لا يحتمل في الوضوء أن يكون واجباً نفسيّاً وقيداً للصلاة في وقت واحد، وليس الواجب النفسيّ الذي يترك عند ترك الوضوء إلّا واجباً واحداً وهو الوضوء، أو تقيّد الصلاة بالوضوء؛ لأنّ المفروض إتيانه بأصل الصلاة، وعليه فلا يقع التعارض بين البراءتين.

نعم، لو تعدّدت الواقعة، أمكنه أن يصلّي في إحداهما، ويترك في الاُخرى، فيستفيد من كلتا البراءتين.

وقد تحصّل من استعراضنا لهذه الصور الأربع، والكلام فيها: أنّ ملاك الانحلال الحكميّ موجود في الصورة الثانية، بل والرابعة أيضاً على تفصيل عرفت، وهذا

458

الملاك ـ بحسب الحقيقة ـ قانون كلّيّ للانحلال يسري في مقامات عديدة، والضابط الكلّيّ له: أنّه كلّما تشكّل علم إجماليّ بأحد تكليفين، وكانت مخالفة أحدهما مستلزمة لمخالفة الآخر، دون العكس، ففي مثل ذلك لا تجري البراءة عن هذا التكليف؛ لأنّ مخالفته مساوقة للمخالفة القطعيّة، وتجري البراءة عن الآخر بلا معارض.

وهذا الضابط للانحلال ينطبق في عدّة مقامات، نذكرها هنا على سبيل الإجمال:

الأوّل: ما نحن فيه، وهو ما لو علم إجمالا بوجوب نفسيّ لشيء، أو لشيء آخر يفرض الأوّل مقدّمة وقيداً له، فمخالفة الأوّل تستلزم مخالفة الثاني، دون العكس، فيثبت الانحلال الحكميّ كما عرفت الكلام فيه.

الثاني: إذا علم إجمالا بوجوب أحد ضدّين لهما ثالث، أو حرمة الآخر، كما لو علم إجمالا بوجوب استقبال القبلة، أو حرمة استدبارها، فمخالفة حرمة الاستدبار تستلزم مخالفة وجوب الاستقبال، دون العكس، فتجري البراءة عن وجوب الاستقبال بلا معارض.

الثالث: لو علم إجمالا بوجوب أحد أمرين وجوديّين متغايرين، وكان أحدهما أخصّ مورداً من الآخر، فترك الأعمّ مورداً يستلزم ترك الأخصّ، دون العكس، كما لو علم إجمالا بوجوب استقبال منارة في الصحن عن قرب، أو استدبار حائط الصحن، فترك استدبار حائط الصحن يساوق ترك استقبال المنارة عن قرب، دون العكس(1)، فتجري البراءة عن وجوب الأخصّ.

الرابع: موارد الأقلّ والأكثر الارتباطيّين بالمعنى الأعمّ الشامل للشكّ في الجزء والشرط، ولدوران الأمر بين التعيّين والتخيير، كدوران الأمر بين وجوب إكرام حيوان، أو خصوص الإنسان، فمخالفة وجوب الأقلّ تستلزم مخالفة الأكثر، دون العكس.

نعم، موارد الأقلّ والأكثر بالمعنى الأخصّ، وهو الشكّ في الجزء والشرط



(1) أي: أنّ ترك استقبال المنارة عن قرب لا يساوق ترك استدبار حائط الصحن.

459

تمتاز ببيان الانحلال ببرهان آخر أيضاً؛ ولذا كان الانحلال فيه أوضح، وهو: أنّ البراءة عن المطلق لا تجري بقطع النظر عن البيان السابق؛ وذلك لأنّ وجوب المطلق ينحلّ إلى وجوب ذات المطلق وإلى إطلاقه: أمّا وجوب ذات المطلق، فمعلوم ولو في ضمن المقيّد، وأمّا إطلاقه، فليس ثقيلا وضيّقاً حتّى يشمله دليل البراءة، فإنّ مفاد دليل البراءة هو التوسيع.

وبهذا يتّضح: أنّه عندنا قانونان للانحلال الحكميّ، أحدهما يشمل المقامات الأربعة، وهو كون مخالفة أحدهما مستلزمة لمخالفة الآخر، والثاني يختصّ بقسم من المقام الرابع، وهو الأقلّ والأكثر بالمعنى الأخصّ، وهو: أنّه لا معنى لشمول البراءة لوجوب المطلق؛ إذ ذات المطلق معلوم الوجوب، وإطلاقه ليس ثقيلا حتّى يرفع.

ثُمّ إنّك عرفت: أنّ ملاك الانحلال فيما نحن فيه هو: أنّ ترك محتمل المقدّميّة مخالفة لكلا الواجبين النفسيّين المحتملين، بخلاف ترك الآخر، فمتى ما ثبتت هذه النكتة ثبت الانحلال، ومتى ما لم تثبت لم يثبت الانحلال.

وعليه فنقول: إنّ محتمل المقدّميّة ـ وهو الوضوء مثلا ـ تارةً يفرض: أنّ وقته على تقدير كونه واجباً نفسيّاً، ووقته على تقدير كونه واجباً غيريّاً متّحد، أو أنّ الأوّل أوسع من حيث الابتداء، أو الانتهاء، أو من كلا الجانبين، وعندئذ تنطبق عليه هذه النكتة للانحلال بلا إشكال؛ فإنّه لو ترك الوضوء فقد ترك الواجب الآخر، وهو الزيارة المقيّدة بالوضوء، أو تقيّد الزيارة بالوضوء، في حين أنّه يمكنه أن يترك الواجب الآخر، بأن يترك الزيارة المقيّدة بالوضوء في الصورة الثانية من الصور الأربع التي أشرنا إليها آنفاً في أوّل البحث، أو يزور قبل الوضوء في الصورة الرابعة من تلك الصور من دون أن يترك الوضوء.

واُخرى يفرض: أنّ الوقتين متباينان، أو أنّ الثاني أوسع، وعندئذ تختلّ النكتة، فهناك فرضان لاختلال النكتة:

460

الفرض الأوّل: فرض تباين الزمانين(1)، كما لو علمنا إجمالا: إمّا بوجوب إيقاع الوضوء قبل الزوال نفسيّاً، أو وجوب الزيارة المقيّدة بالوضوء الواقع بعد الزوال، وفي هذا الفرض لا تتمّ نكتة الانحلال، من دون فرق بين الصورة الثانية والصورة الرابعة، ففي الصورة الثانية نقول: يمكنه أن يخالف الوجوب النفسيّ للوضوء من دون مخالفة وجوب الزيارة المقيّدة بالوضوء بعد الزوال، وذلك بأن لا يتوضّأ قبل الزوال، ويتوضّأ بعد الزوال ويزور، كما يمكنه أن يخالف الوجوب النفسيّ للزيارة المقيّدة بالوضوء بعد الزوال دون الوجوب النفسيّ للوضوء، وذلك بأن يتوضّأ قبل الزوال من دون أن يأتي بعد الزوال بزيارة مقيّدة بالوضوء بعد الزوال. وفي الصورة الرابعة، وهي ما لو قطعنا بالوجوب النفسيّ للزيارة، وإنّما تردّدنا بين تقيّدها بالوضوء، أو الوجوب النفسيّ للوضوء، نقول: أيضاً يمكنه مخالفة الوجوب النفسيّ الاستقلاليّ للوضوء من دون مخالفة الوجوب الضمنيّ له، وذلك بأن لا يتوضّأ قبل الزوال، ويتوضّأ بعده ويزور، ويمكنه مخالفة الوجوب الضمنيّ للوضوء من دون مخالفة الوجوب النفسيّ له، وذلك بأن يتوضّأ قبل الزوال، ولا يتوضّأ بعد الزوال ويزور.

الفرض الثاني: أن تكون دائرة الشرط أوسع ـ ولو نتيجةً(2)ـ من دائرة



(1) ولو تبايناً جزئيّاً، بأن كان أحدهما أوسع من حيث الابتداء، والآخر أوسع من حيث الانتهاء، فكانت النسبة بينهما عموماً من وجه.

(2) توضيح المقصود من كلمة (ولو نتيجةً): أنّه إذا وجبت احتمالا بعد الزوال الزيارة المقيّدة بمطلق الوضوء، أي: سواء كان الوضوء قبل الزوال، أو بعد الزوال، ولكن الوضوء المحتمل وجوبه نفسيّاً كان هو وضوء ما قبل الزوال، فهنا ـ بحسب الدقّة ـ إنّما تكون دائرة الشرط أوسع نتيجةً لا حقيقةً؛ إذ الوجوب الضمنيّ للتقيّد بالوضوء يستحيل أن يشمل

461

الوجوب النفسيّ، بأن نفترض: أنّ الوضوء إذا كان واجباً نفسيّاً، فلابدّ من إيقاعه قبل الزوال، وإذا كان شرطاً للزيارة، فالشرط يتحقّق بالوضوء قبل الزوال، ويتحقّق بالوضوء بعد الزوال.

وعليه، ففي الصورة الثانية، وهي ما لو لم نعلم بالوجوب النفسيّ للزيارة من غير هذه الناحية لا تنطبق نكتة الانحلال؛ فإنّه يمكنه أن يخالف الوجوب النفسيّ للوضوء، دون الوجوب النفسيّ للزيارة المقيّدة بالوضوء، وذلك بأن يترك الوضوء



الوضوء قبل الزوال؛ لأنّ وجوب الزيارة المقيّدة به إنّما يحدث بعد الزوال، فواقع المطلب: أنّه لو توضّأ قبل الزوال، لم يتّجه إليه أمر ضمنيّ بالوضوء بعد الزوال، ولو لم يتوضّأ قبل الزوال، توجّه إليه ذلك، فكأنّه ـ بحسب النتيجة ـ دائرة الشرط أوسع.

هذا. وكأنّ هذا التعبير إنّما جاء في الكلام بلحاظ أنّ نظره (رحمه الله) كان إلى الوجوب الضمنيّ للتقيّد بالوضوء، لا الوجوب الغيريّ للوضوء، وإلّا فالوجوب الغيريّ للوضوء حقيقةً أوسع، لا أنّه أوسع نتيجةً؛ إذ وجوب المقدّمة يمكن أن يسبق وجوب ذيها، كما في المقدّمات المفوّتة، وكأنّ نكتة التفاته إلى الوجوب الضمنيّ للوضوء، لا الوجوب الغيريّ له أنّه فيما سيقرّره من الانحلال العكسيّ تكون البراءة عن الوجوب الضمنيّ للوضوء هي التي تستلزم الترخيص في المخالفة القطعيّة، فلا تجري، أمّا الوجوب الغيريّ، فلا معنى أصلا للبراءة عنه. أو قل: إنّ طرف العلم الإجماليّ الذي نتكلّم عن تنجيزه وعدم تنجيزه في الصورة الرابعة إنّما هو الوجوب الضمنيّ للوضوء، لا الوجوب النفسيّ للزيارة؛ لأنّ المفروض العلم به، ولا الوجوب الغيريّ للوضوء؛ لأنّه لا عقاب على مخالفته، فالمناسب هو صرف النظر إلى الوجوب الضمنيّ للوضوء.

وعلى أيّة حال، فلو قسنا الزمان إلى الوجوب النفسيّ للوضوء والوجوب الغيريّ له، أو إلى ذات الواجبين، لا الوجوبين، استغنينا عن عبارة: (ولو نتيجةً).

462

قبل الزوال، ويتوضّأ بعد الزوال ويزور، ويمكنه العكس، وذلك بأن يتوضّأ قبل الزوال ولا يزور.

وفي الصورة الرابعة، وهي ما لو علمنا بالوجوب النفسيّ للزيارة وشككنا في كون الوضوء قيداً لها، أو واجباً نفسيّاً يتمّ الانحلال عكسيّاً إذا كانت الزيارة مقيّدة بما بعد الزوال، فمخالفة الوجوب النفسيّ الاستقلاليّ للوضوء لا تستلزم مخالفة الوجوب الضمنيّ له؛ إذ بإمكانه أن يترك الوضوء قبل الزوال، ويتوضّأ ويزور بعد الزوال، ولكن مخالفة الوجوب الضمنيّ للوضوء ـ في فرض الإتيان بالزيارة الذي هو فرض تصوّر فائدة للبراءة عن الوجوب الضمنيّ، وفرض مخالفة الوجوب بمقدار الوجوب الضمنيّ ـ تستلزم مخالفة الوجوب النفسيّ للوضوء؛ إذ لو لم يتوضّأ أصلا قبل الزيارة التي فرض وقتها بعد الزوال، فقد ترك الوضوء قبل الزوال، وعليه فتجري البراءة عن الوجوب النفسيّ للوضوء بلا معارض.

463

استحقاق الجزاء على الأوامر الغيريّة

الجهة الثالثة: في استحقاق العقاب والثواب على الأوامر الغيريّة مخالفة وموافقة.

أمّا العقاب: فلا إشكال في أنّ مخالفة الأوامر النفسيّة توجب استحقاق العقاب؛ لأنّها تضييع لحقّ الطاعة للمولى، وتضييع الحقّ يصحّح العقاب من قبل من له الحقّ على من عليه الحقّ، وأمّا مخالفة الأمر الغيريّ، فتوضيح الحال فيها: أنّ العقاب على نحوين:

الأوّل: العقاب بالملاك الانفعاليّ.

والثاني: العقاب بالملاك المولويّ.

ومقصودنا بالعقاب بملاك الانفعال العقاب الناشئ من غضب المولى وتحسّره وتألّمه، فالمولى يضرب العبد عقاباً له على ما سبّبه له من انفعال، وهذا قد يتحقّق من غير المولى أيضاً على من خالف أوامره وتحكّماته، ولا إشكال في أنّ هذا العقاب إنّما يكون بسبب فوات الغرض النفسيّ، لا الغيريّ، بداهة أنّ المولى لو طلب مثلا ماءً بارداً من العبد، فلم يأتِ به، لم يحصل عند المولى إلّا انفعال واحد ولو فرض للفعل ألف مقدّمة، ولا يشتدّ انفعاله ويضعف بكثرة المقدّمات وقلّتها.

وبكلمة اُخرى: إنّ ضمّ ترك المقدّمة إلى ترك ذي المقدّمة كضمّ الحجر إلى جنب الإنسان، فالمولى لا يهمّه أن يأتي العبد بالمقدّمة، أو لا بعد فرض تركه لذي المقدّمة.

ومقصودنا بالعقاب المولويّ: العقاب الناشئ من حكم العقل بالمولويّة ولزوم الطاعة، ولابدّ في تشخيص موضوعه من الرجوع إلى العقل الذي أدرك حقّ الطاعة، والذي يدركه عقولنا أنّ موضوعه أيضاً هو ذاك الانفعال، فإنّ العقل يرى

464

أنّ العبد يجب أن يكون بوجوده وعضلاته امتداداً لعضلات المولى، ويهتمّ بعدم انفعاله كما هو يهتمّ به ـ أو ما يقوم مقام الانفعال في المولى الحقيقيّ، فإنّنا إنّما نعبّر بالانفعال ونحوه في باب المولويّة والعبوديّة بلغة البشر وإن كان لا ينطبق عليه تعالى، فالقصور في العبارة ـ فالعقل يقول: إنّ موضوع العقاب المولويّ هو موضوع العقاب الانفعاليّ، فالعقاب الانفعاليّ حينما يصدر من المولى يكون قد صدر من أهله، ووقع في محلّه، وحينما يصدر من غير المولى يكون ظلماً وعدواناً، فالعقاب سواء كان انفعاليّاً أو مولويّاً إنّما هو على مخالفة الأمر النفسيّ.

نعم، قد يكون من حين مخالفة الأمر الغيريّ بالرغم من عدم انتهاء وقت الواجب النفسيّ(1)، وذلك كما لو ترك المقدّمة في أوّل الزوال، في حين أنّه يصبح بذلك عاجزاً إلى آخر الوقت.

والخلاصة: أنّ العقاب سواء كان انفعاليّاً أو مولويّاً يكون على الغرض النفسيّ، لا على المقدّمة، نعم الغرض النفسيّ للمولى بما هو مولىً قد يختلف عن الغرض النفسيّ له لا بما هو مولىً، أعني بذلك: أنّ غرض الإنسان بما هو هو عبارة عن الملاك الذي هو محبوب ذاتيّ له، وقد يعاقب شخصاً ولو عدواناً على أنّه لم يحصّل له ذلك الملاك، وفوّته عليه، ولكن حينما يأمر إنساناً بشيء باعتباره مولىً فقد يدخّل في عهدته عملا من الأعمال التي هي مقدّمة للوصول إلى ذلك الملاك، من دون أن يأمر بنفس ذلك الملاك، كما هو الحال في أمر المولى بالصلاة والصوم ونحو ذلك، وعندئذ فالعقل يرى أنّ النقطة التي صبّ المولى مولويّته عليها ـ وهي الصلاة والصوم مثلا ـ هي كأنّها الغرض النفسيّ للمولى، فيثبت العقاب على مخالفة هذه النقطة.



(1) وقد يكون قبل حلول وقت الواجب النفسيّ أيضاً، كما في ترك المقدّمات المفوّتة الواجبة.

465

وأمّا الثواب: فأيضاً يوجد عندنا ثواب انفعاليّ وثواب مولويّ.

أمّا الثواب الانفعاليّ، فهو الثواب الثابت على أساس الحافز الانفعاليّ للتعويض، إلّا أنّ الانفعال هنا انفعال موافق، وفي طرف العذاب كان انفعالا معاكساً، وهذا الحافز الانفعاليّ يحصل للشخص بأزاء قضاء حاجته، ومهما كانت لقضاء حاجته مقدّمات فسوف لن يكون له إلّا انفعال واحد وفرح واحد، باعتبار أنّه استوفي له غرض واحد، وحيث إنّ الانفعال هو الحافز للمثوبة، فلا يثيبه بهذا الملاك إلّا بثواب واحد، فلا ثواب على المقدّمات.

نعم، هذا السبب الواحد والحافز الواحد للثواب يحفّزه نحو ثواب متناسب في حجمه من حيث الصغر والكبر مع ما بذله الفاعل من الجهد في سبيل تحصيل غرض هذا الإنسان، فبكثرة المقدّمات يكبر حجم الثواب، لا بمعنى زيادة في السبب وأنّه يتعدّد الثواب بتعدّد أسبابه، بل بمعنى زيادة في المسبّب، من قبيل الثواب على واجب ارتباطيّ مركّب من أجزاء، فإنّ الواجب الارتباطيّ كلّما كثر أجزاؤه زاد ثوابه، مع وضوح: أنّه ليس كلّ جزء من أجزائه سبباً مستقلاًّ لثواب مستقلّ.

وأمّا الثواب المولويّ، فهو تعويض بحكم العقل، في حين أنّ الثواب الانفعاليّ كان تعويضاً بمقتضى الطبع، فالثواب المولويّ ثواب بلحاظ استحقاق الفاعل على من فعل لأجله بمرتبة من مراتب الاستحقاق التي قد تكون استحبابيّة، وقد تكون وجوبيّه، فإثابة المولى الحقيقيّ لعبده عند إطاعة أوامره استحبابيّة وإثابة غير المولى لمن خدمه وأحسن إليه قد تكون وجوبيّة، وهذا أيضاً يتقدّر موضوعه بموضوع الثواب الانفعاليّ، فالعقل ينظر إلى الإثابات الطبيعيّة، ويقول في باب المولويّة: إنّها صدرت من أهلها، ووقعت في محلّها، من دون أن يضيف العقل إثابات جديدة، فهنا أيضاً لا يوجد إلّا سبب واحد للثواب، ولا يوجد إلّا ثواب واحد.

466

نعم، هذا الثواب يتناسب طرديّاً في حجمه مع مقدار التعب، وبذل الجهد، ودرجة الصعوبة في فعل العبد، فكثرة المقدّمات توجب ـ لا محالة ـ ازدياد الثواب، من قبيل: أنّ كثرة أجزاء الواجب الارتباطيّ توجب ازدياد الثواب، مع وضوح عدم كون كلّ جزء من أجزائه سبباً مستقلاًّ للثواب.

نعم، هناك فارقان بين الثواب الانفعاليّ والثواب المولويّ:

الأوّل: أنّ موضوع الثواب الانفعاليّ هو واقع خدمة الشخص، وإيصال الفائدة إليه، وتحصيل غرضه، في حين أنّ موضوع الثواب المولويّ هو أن يفعل العبد شيئاً بداعي خدمة المولى، وإيصاله إلى غرضه ولو لم يكن واقعاً خدمة للمولى وموصلا له إلى غرضه، وكذلك أيّ مخدوم آخر، فيكفي في استحقاق الثواب المولويّ على الفعل أن يكون خدمة بالوجود الواصل من الخدمة على اختلاف درجات الوصول: من قطع، أو ظنّ، أو احتمال وإن كان مخطئاً في ذلك.

بل وحتّى لو عرف العبد بعد ذلك أنّ هذا الفعل لم يؤدِّ إلى غرض المولى، كان مثاباً مادام أنّ داعيه كان هو خدمة المولى، إلّا إذا كان عدم أدائه إلى غرض المولى من باب تعمّده لقطع الفعل، أي: أتى ببعض المقدّمات، ثُمّ حصل له البداء من خدمة المولى، فقطعها قبل الوصول إلى النتيجة من دون انكشاف عذر له.

نعم، لو قطع العمل بانكشاف عذر له، من قبيل العجز عن الإيصال إلى النتيجة، لم يضرّ ذلك باستحقاق الثواب، ومن قبيل ما لو ظهر له مثلا أنّ في الفعل مشقّة أكثر ممّا استعدّ نفسيّاً لتحمّلها، فترك تكميل الفعل، فهذا أيضاً درجة من العذر، يختلف معه حال هذا الشخص عن حال من قطع الفعل في الأثناء متعمّداً، ومن دون أيّ عذر من هذا القبيل.

والثاني: أنّه في الثواب الانفعاليّ لا يترتّب الثواب بمجرّد الشروع في المقدّمة، بل يكون الثواب عند الوصول إلى الغرض، أمّا في الثواب المولويّ، فبقدر ما يأتي

467

بالمقدّمة بقصد التوصّل يستحقّ الثواب مشروطاً بشرط متأخّر، وهو أن يأتي أخيراً بالنتيجة، أو يكون تركه لها عن عجز، أو عن صعوبة أكثر ممّا كان يتوقّع.

وعلى أيّ حال، فموضوع الثواب المولويّ إنما هو خدمة المولى بتحصيل غرضه بوجودها الواصل إلى العبد، وهذه الخدمة أو تحصيل الغرض لا تتعدّد بتعدّد المقدّمات، وليس الثواب على المقدّمات بنحو الاستقلال وإن كانت كثرة المقدّمات دخيلة في كثرة الثواب من باب: أنّ أفضل الأعمال أحمزها.

وبهذا صحّ كلام المشهور القائل بأنّه لا عقاب ولا ثواب على الأمر المقدّميّ.

غير أنّ السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ خالف(1) المشهور في الثواب، وقال: كلّما كثرت المقدّمات كثرت أسباب الثواب، فمن أتى بمقدّمة وذيها، استحقّ ثوابين، ومن أتى بالواجب بلا حاجة إلى مقدّمة، استحقّ ثواباً واحداً.

وهذا الكلام تارةً يستشهد له بشهادة الوجدان بالفرق في الثواب بين من طوى مقدّمات كثيرة جدّاً حتّى استطاع أن يصل إلى تحصيل الماء للمولى مثلا، وبين من كان الماء إلى جنبه، فأخذه وقدّمه للمولى.

وهذا الاستشهاد في غير محلّه؛ فإنّه لا كلام في أنّ الثواب يزداد بازدياد المقدّمة، ولم ينكر المشهور ذلك، وإنّما الكلام في أنّه: هل هناك أسباب متعدّدة للثواب، أو سبب واحد، وهو ذو المقدّمة، إذا صعب تحصيله ازداد ثوابه؟ وهذا الشاهد لا يشهد لأكثر من ازدياد حجم الثواب، وازدياد حجم الثواب ليس ملازماً لتعدّد أسباب الثواب، وإلّا فماذا تقول في أجزاء الواجب الارتباطيّ



(1) راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 174، تحت الخطّ بحسب الطبعة المشتملة على تعليقات السيّد الخوئيّ (رحمه الله)، والمحاضرات، ج 2، ص 397 بحسب طبعة مطبعة الآداب في النجف الأشرف.

468

الواحد الذي لا كلام في أنّه ليس إلّا سبباً واحداً لثواب واحد يختلف حجمه باختلاف مقدار الأجزاء.

واُخرى يستدلّ له بأنّ الثواب المولويّ يكون بملاك تعظيم المولى، والإتيان بالمقدّمة بقصد التوصّل إلى ذي المقدّمة تعظيم للمولى، وبعد هذا إذا أتى بذي المقدّمة كان تعظيماً آخر، فيتعدّد الثواب.

وهذا الوجه أيضاً غير تامّ، وجوابه: أنّ هذين الفردين وإن كانا تعظيمين للمولى، لكن الثواب المولويّ الذي يدركه العقل لا يتكثّر بتكثّر التعظيمات، بل يتكثّر بتكثّر موضوعات الثواب الانفعاليّ، فمجموع تعظيمات عديدة إذا كانت موضوعاً واحداً للثواب الانفعاليّ، كان الثواب المولويّ أيضاً مترتّباً على ذاك الموضوع، وإلّا لنقضنا أيضاً بالواجب الارتباطيّ؛ فإنّ الإتيان بكلّ جزء تعظيم، مع أنّه لا إشكال في أنّه ليس موضوعاً مستقلاًّ لثواب مستقلّ(1)، وهل يمكن أن



(1) إمّا أن نقول: إنّ موضوع حكم العقل بالثواب هو نفس موضوع الثواب الانفعاليّ، ونقصد بذلك رضا المولى الناشئ من حصول هدفه واقعاً، وهذا يعني اختصاص استحقاق الثواب بالمطيع إطاعة واقعيّة، دون المنقاد الخاطئ في إصابة الواقع. وإمّا أن نقول: إنّ موضوع حكمه بالثواب خضوع العبد وانقياده لمولاه، والذي لا فرق في ذلك بين المطيع والمنقاد الذي لم يصب الواقع، أو قل: هو رضا المولى الناشئ من الانقياد، أو الخضوع والتعظيم، لا من خصوص الإطاعة الواقعيّة. وإمّا أن نقول: إنّ كلّ واحد منهما موضوع للثواب.

أمّا الثواب المفترض ترتّبه على موضوع رضا المولى الناشئ من حصول هدفه، فوحدته برغم كثرة المقدّمات أو الأجزاء واضحة، فإن موضوع الثواب الانفعاليّ أي: الرضا الناشئ من حصول الهدف لا يتعدّد بتعدّد المقدّمات أو الأجزاء بلا إشكال.

469



وأمّا الثواب المفترض ترتّبه على مطلق الانقياد، أو الخضوع والتعظيم، فأيضاً لا يتعدّد بتعدّد المقدّمات أو الأجزاء، لكن لا ببيان: أنّ التعظيم والانقياد برغم تعدّده لا يكثّر عدد الثواب؛ لأنّ الجميع ناتج من موضوع واحد للثواب الانفعاليّ، وهو رضا المولى وانشراحه الذي ينشأ من حصول الهدف، بل ببيان: أنّ هذا الخضوع والانقياد من حين البدء بالمقدّمة الاُولى وإلى حين الانتهاء من ذي المقدّمة، أو من حين البدء بالجزء الأوّل إلى حين إنهاء الجزء الأخير ليس منحلاًّ إلى عدّة خضوعات وتعظيمات بعدد الأجزاء، أو المقدّمات وذي المقدّمة، بل هو تعظيم وخضوع واحد مستمرّ مادام موضوع الثواب الانفعاليّ ـ أو قل: الهدف النفسيّ ـ للمولى واحداً، إلّا أنّ هذا الخضوع يطول ويقصر بكثرة الأجزاء وقلّتها، أو بكثرة المقدّمات وقلّتها، وبذلك يزداد أو ينقص حجم الثواب الواحد. هذا.

وقد يستشهد لتعدّد الثواب بأنّه لو أتى بالمقدّمة بقصد التوصّل إلى ذيها، ثُمّ لم يتمكّن من الإتيان بذي المقدّمة لمانع، استحقّ الثواب على ما جاء به.

وهذا الاستشهاد أيضاً غير صحيح، وإلّا لاتى مثل ذلك في أجزاء المركّب الارتباطيّ، فإنّ من أتى ببعضها بداعي الإتيان بالكلّ، ثُمّ عجز عن الباقي، كان مستحقّاً للثواب، مع أنّه لا إشكال هنا في وحدة الثواب.

والواقع: أنّه لو أتى بالمقدّمة أو بالجزء بقصد إطاعته سبحانه، ثُمّ عجز عن ذي المقدّمة، أو عن الكلّ، فهذا يستحقّ الثواب، لكن لا من باب تعدّد الأسباب، بل من باب: أنّ ذاك السبب الواحد ـ وهو ذلك الخضوع والانقياد ـ وجد على أيّ حال، إلّا أنّه لم يستمرّ بقاءً، فبقدر ما كان موجوداً يوجب استحقاق الثواب، فإنّا وإن قلنا بأنّ السبب الموجود للثواب من حين الشروع في المقدّمة إلى الانتهاء من ذي المقدّمة واحد، ولكن هذا ليس بمعنى:

470

يفترض: أنّ المقدّمة أحسن حالا من الجزء، بحيث لو فرض الوضوء مقدّمة، كان تعظيماً، ولو صار جزءاً، لم يكن تعظيماً؟! طبعاً هذا لا معنى له.

وتظهر الثمرة بين ما نقوله من وحدة الثواب ووحدة سببه وإن زاد حجمه بكثرة المقدّمات، وما يقال من تعدّد الثواب وتعدّد سببه: أنّه بناءً على ما نقوله، يصحّ أن ندّعي ما هو مطابق للوجدان: من أنّ من أتى بمقدّمات كثيرة بداعي خدمة شخص، ثُمّ أحجم عن إيصالها إلى النتيجة، لا لأجل العجز أو تلاقي الصعوبة، بل لمجرّد حصول البداء، وتغيّر حالته النفسيّة، لم يكن مستحقّاً للثواب، فمن أخذ مالاً، وطوى مقدّمات إلى أن وصل إلى باب دار زيد، لكي يوصله إلى زيد فبدا له حين وصوله إلى باب داره أن لا يطرق الباب، ولا يوصله إليه، فرجع إلى بيته، أفهل يوجد هناك عاقل يقول بأنّ هذا يستحقّ الثواب من قبل زيد؟!

في حين أنّه لو قلنا بأنّ كلّ مقدّمة من المقدّمات سبب مستقلّ للثواب، فلا معنى لعدم استحقاقه للثواب على تلك المقدّمات لمجرّد ترك سبب آخر مستقلّ للثواب حتّى بناءً على القول بالمقدّمة الموصلة، فإنّه قد أتى بتلك المقدّمات بقصد التوصّل، فيدخل في باب الانقياد، وحصول البداء له بعد ذلك لا يضرّ بكون ما أتى به سابقاً من المقدّمات بقصد التوصّل تعظيماً للمولى، أمّا لو لم نبنِ على المقدّمة



أنّ كلّ الأجزاء الطوليّة لهذا السبب الواحد دخيلة في أصل الثواب، بحيث إذا انتفى الجزء البقائيّ انتفى الثواب، وبمعنى: أنّه ما لم يتأتَّ الجزء الأخير، لم يتأتَّ السبب الكامل، بل وحدة السبب هنا من قبيل وحدة وجود زيد الثابت في اليوم الأوّل، وفي اليوم الثاني؛ حيث إنّ زيداً بكامله موجود في اليوم الأوّل، وبكامله موجود في اليوم الثاني، فالسبب كان موجوداً بكامله، ولذا استحقّ الثواب. وهذا السبب الواحد بطوله وقصره يؤثّر في مقدار الثواب من باب: أنّ أفضل الأعمال أحمزها.

471

الموصلة، فيلزم استحقاق الثواب على المقدّمة حتّى لو أتى بها قاصداً من أوّل الأمر لترك ذي المقدّمة.

وقد تحصّل: أنّ حجم العوض يختلف سعةً وضيقاً بكثرة المقدّمات وقلّتها، لكن لا من باب تعدّد أسباب الثواب، بل من باب: أنّ أفضل الأعمال أحمزها.

وعندئذ نقول: إنّه تارةً يفرض: أنّ المكلف يأتي بالمقدّمة بقصد التوصّل إلى ذي المقدّمة لأمتثال أمره، أي: أنّ المحرّك له إلى المقدّمة هو الأمر بذي المقدّمة، وهذا لا إشكال في أنّه دخيل في حجم العوض وسعة الثواب.

واُخرى يفرض: أنّه يأتي بالمقدّمة لغرض دنيويّ لا يمتّ إلى المولى بصلة، ثُمّ يبدو له الإتيان بذي المقدّمة، وهذا لا إشكال في أنّه ليس دخيلا في حجم العوض، ولا يوجب سعة الثواب، ولكن الكلام يقع في أنّه: هل يمكن التقرّب بالأمر الغيريّ المتعلّق بالمقدّمة، فهو لا يتقرّب بالأمر النفسيّ المتعلّق بذي المقدّمة، ولا يكون إتيانه بالمقدّمة لمجرّد داع دنيويّ بعيد عن المولى، ولكن يتقرّب إليه بالإتيان بداعي الأمر الغيريّ المتعلّق بالمقدّمة، وإن فرضنا أنّ الثواب المترتّب عليه ليس ثواباً مستقلاًّ، بل هو توسيع لحجم ثواب ذي المقدّمة؟

المشهور: أنّ هكذا تقرّب غير معقول في ذاته، ويمكن أن يقرّب ذلك بعدّة وجوه:

الوجه الأوّل: مبنيّ على المقدّمة الموصلة، حيث يقال: إنّ الأمر الغيريّ متعلّق بالمقدّمة الموصلة، فقصد امتثال الأمر الغيريّ معناه: قصد الإتيان بالمقدّمة مع الإيصال إلى ذي المقدّمة، وذلك بالإتيان بذي المقدّمة، فقصد امتثاله ملازم دائماً لقصد التوصّل؛ لأنّ التوصّل قيد أو جزء في متعلّق الأمر الغيريّ.

وهذا الوجه مغالطة؛ فإنّ قصد الإتيان بمتعلّق الأمر الغيريّ وإن فرض استبطانه لقصد التوصّل إلى ذي المقدّمة، لكن الكلام في أنّ قصد هذا التوصّل هل كان

472

بمحرّكيّة الأمر الغيريّ من باب: أنّ هذا التوصّل قيد أو جزء في متعلّقة، أو كان بمحرّكيّة الأمر النفسيّ، فنحن بحاجة إلى برهان على أنّ الانبعاث عن الأمر الغيريّ لا يمكن أن ينفكّ عن الانبعاث عن الأمر النفسيّ، وهذا البيان لا يكون برهاناً على ذلك.

الوجه الثاني: مبنيّ أيضاً على المقدّمة الموصلة، وحاصله: أنّه لو كان الوجوب لمطلق المقدّمة، لأمكن فرض تحريك الأمر الغيريّ دون النفسيّ، فيفرض: أنّ الأمر بالصلاة لا يحرّكه نحو الصلاة المقيّدة بالوضوء، وبالتالي لا يحرّكه نحو الوضوء، لكن الأمر الغيريّ بالوضوء يحرّكه نحو الوضوء؛ وذلك لأنّ الصلاة أشدّ مؤونة عليه من الوضوء؛ لتوقّفها على الوضوء، فهي تستبطن مؤونة الوضوء وزيادة، وأمّا على المقدّمة الموصلة، فالمؤونة التي يستبطنها امتثال الأمر النفسيّ مع المؤونة التي يستبطنها الأمر الغيريّ متّحدتان دائماً؛ إذ لا يحصل امتثال الأمر الغيريّ إلّا بأن يتوضّأ ويصلّي، حتّى يكون آتياً بالحصّة الموصلة، كما لا يحصل امتثال الأمر النفسيّ إلّا بأن يأتي بالصلاة المقيّدة بالوضوء، ومحرّكيّة الأمر إنّما هي بلحاظ ما يترتّب عليه من آثار: من الثواب والتجنّب عن العقاب، ولا توجد مزيّة في الآثار في الأمر الغيريّ مرغّبة في العدول عن التحرّك من الأمر النفسيّ إلى التحرّك من الأمر الغيريّ، وكلاهما يحرّك نحو الوضوء، أمّا الغيريّ فلتعلّقه به، وأمّا النفسيّ فلأنّه يقتضي سدّ أبواب عدم تحقّق ذي المقدّمة، ومنها عدم المقيّد بعدم الوضوء، فلا يعقل اختصاص التحريك بالغيريّ، وهذا تقريب صحيح بناءً على المقدّمة الموصلة.

الوجه الثالث: ما ذكره جملة من الأصحاب، كالمحقّق الإصفهانيّ (رحمه الله)(1): من أنّ



(1) نهاية الدراية، ج 2، ص 113 ـ 114 بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت.

473

الأمر الغيريّ غير مستقلّ في الوجود، بل هو تابع في الوجود للأمر النفسيّ، فكذلك يتبعه في التحريك، ولا يمكن أن يكون له تحريك مستقلّ، فالمحرّك حقيقة هو الأمر النفسيّ.

وكأنّ هذه الاصطلاحات مأخوذة من الحكماء، حيث قالوا: إنّ كلّ ممكن غير مستقلّ في الوجود، بل يتبع في وجوده واجب الوجود، فلا يستقلّ في الإيجاد والفاعليّة أيضاً، ومن هنا صحّ القول بأنّه لا فاعل حقيقة إلّا الله، فكأنّ هذا المطلب اُريد تطبيقه هنا، فالأمر الغيريّ حيث إنّه غير مستقلّ في الوجود في مقابل الأمر النفسيّ فلا يكون مستقلاًّ في المحرّكيّة والفاعليّة، بل فاعليّته من شؤون فاعليّة الأمر النفسيّ، في حين أنّ إسراء هذا البيان من مورد كلام الحكماء إلى ما نحن فيه غير صحيح؛ لأنّ الفاعل والموجد للوضوء خارجاً إنّما هو الإنسان، لا الأمر الغيريّ، وتعبيرنا بفاعليّة الأمر الغيريّ مسامحة، وإنّما الأمر بالوضوء يوجب فوائد مترتّبة على الوضوء: من استحقاق ثواب والتجنّب عن عقاب، فيكون هذا علّة غائيّة للفعل، فلابدّ من النظر إلى أنّ تلك الفوائد هل تترتّب على قصد الأمر الغيريّ مستقلاًّ، أو لا.

الوجه الرابع: أنّك قد عرفت: أنّ الأمر الغيريّ لا يترتّب على موافقته ثواب، ولا على مخالفته عقاب، إذن فلا أثر ولا تقرّب يترتّب على الفعل الذي يكون بتحريك هذا الأمر، فكيف يعقل تحريك هذا الأمر وحده، والتقرّب بالإتيان بالفعل بداعويّة هذا الأمر وحده؟!

فإن قلت: إنّ امتثال الأمر الغيريّ وإن لم يكن مقرّباً وموجباً للثواب بلحاظ الأمر الغيريّ، ولكن قد مضى: أنّ الإتيان بالمقدّمة يزيد في حجم ثواب العمل على وفق الأمر النفسيّ، فيقع الكلام في أنّ الذي يزيد في حجم ثواب العمل بالأمر النفسيّ هل هو خصوص الإتيان بالمقدّمة بداعي الأمر النفسيّ لذي

474

المقدّمة، أو يكفي في زيادة حجم الثواب في العمل بالأمر النفسيّ الإتيان بالمقدّمة بداعي الأمر الغيريّ، وهذا الوجه لا يبرهن على الأوّل.

قلت: إنّ هذا الذي يأتي بالمقدّمة لا يخلو الأمر من أنّه: إمّا كان متحرّكاً بالأمر النفسيّ إلى الإتيان بذي المقدّمة، أو لا:

فعلى الأوّل، فلا محالة يكون هذا الأمر النفسيّ المحرّك له نحو ذي المقدّمة محرّكاً له نحو المقدّمة، فلم يكن الإتيان بالمقدّمة بتحريك الأمر الغيريّ وحده، وعلى الثاني لا ثواب على العمل وفق الأمر النفسيّ حتّى يتكلّم في أنّ الإتيان بالمقدّمة بداعي الأمر الغيريّ هل يزيد في حجم الثواب، أو لا.

إذن، فتبرهن بذلك: أنّه لا يمكن التقرّب بقصد الأمر الغيريّ وحده، ولا يكون الأمر الغيريّ كافياً للتحريك.

وهذا الوجه أيضاً يمكن المناقشة فيه بأنّه إذا فرض مثلا أنّ شخصاً أتى بالمقدّمة بتحريك الأمر الغيريّ دون الأمر النفسيّ، لكنّه يعلم بأنّه سوف يحدث له بعد الإتيان بالمقدّمة داع إلى امتثال الأمر النفسيّ، فيأتي بذي المقدّمة بتحريك الأمر النفسيّ، ففي مثل هذا المورد يمكن البحث عن أنّه: هل هذه المقدّمة تؤثّر في حجم ثواب امتثال أمر ذي المقدّمة، أو لا.

الوجه الخامس: أنّ العبد إنّما يكون مورداً للمجازاة بحكم العقل إذا جعل نفسه كأنّه هو المولى امتداداً وتنزيلا، وهذه الحالة تستدعي التطابق بين إرادة العبد وإرادة المولى لو كان هو المباشر، وطبعاً لو كان المولى هو المباشر، لكانت إرادته للوضوء غيريّة لا نفسيّة، فالعبد إنّما يستحقّ الجزاء لو تعلّقت إرادته بالوضوء غيريّة، وكان مراده النفسيّ الصلاة، دون ما لو كانت إرادته المتعلّقة بالوضوء نفسيّة.

وبكلمة اُخرى: إنّك قد عرفت أنّ موضوع الثواب المولويّ هو العمل بداعي

475

تحقيق ما هو موضوع الثواب الانفعاليّ، وموضوع الثواب الانفعاليّ إنّما هو تحقيق الفائدة للشخص، وتحصيل غرضه وتفريحه، ومن الواضح: أنّ الإتيان بالمقدّمة بداعي الأمر المقدّميّ ليس إتياناً بها بداعي تحقيق الفائدة للمولى وتفريحه، وهذا بخلاف الإتيان بالمقدّمة بداعي امتثال الأمر النفسيّ المتعلّق بذي المقدّمة.

وهذا هو أحسن الوجوه وألطفها في مقام بيان هذا التلازم، وهو لا يختصّ بفرض القول بالمقدّمة الموصلة(1)، بخلاف بعض الوجوه السابقة.

ولا يعترض على هذا الوجه بما اعترض به المحقّق العراقيّ (رحمه الله)(2)، حيث قال بأنّ هذا منقوض بأنّ إرادة المولى للصلاة غيريّة؛ لأنّه إنّما يريدها باعتبار ما فيها من مصالح وفوائد، في حين أنّ إرادة العبد للصلاة نفسيّة، فلو اشترطنا تطابق الإرادتين في استحقاق الثواب، لزم عدم الاستحقاق هنا.

وهذا النقض غير وارد؛ لأنّ المدّعى في الصيغة المطروحة لهذا التقريب يمكن أن يبيّن ببيان لا يرد عليه هذا النقض، بأن نقول: إنّ اللازم هو التطابق بين الإرادتين من تلك النقطة التي يبدأ بها المولى مولىً.

وتوضيح ذلك: أنّه عندنا ثلاث نقاط: الوضوء، والصلاة، وفائدة الصلاة.



(1) كما أنّ هذا الوجه يمتاز بأنّه يثبت ابتداءً عدم إمكانيّة التقرّب بالأمر الغيريّ، وعدم إمكان محرّكيّته، لا وحده، ولا مع تحريك الأمر النفسيّ والتقرّب به، في حين أنّ ما كان صحيحاً من الوجوه السابقة كان يثبت ابتداءً أنّ الأمر الغيريّ وحده لا يفيد في التحرّك والمقرّبيّة، وأمّا إثبات عدم صلاحيّته لذلك مع ضمّه إلى الأمر النفسيّ بذي المقدّمة، فيحتاج إلى إضافة، بداهة عدم زيادة التقرّب عند قصد كلا الأمرين عليه عند قصد الأمر النفسيّ فقط، فيكون ضمّ الأمر الغيريّ إلى الأمر النفسيّ في فرض الوجه الأوّل أو الثاني كضمّ الحجر إلى جنب الإنسان.

(2) المقالات، ج 1، ص 326 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلاميّ بقم.

476

والمولى وإن كان مراده بما هو كائن عاقل هو الفائدة، ولكن أوّل إرادة ثابتة له بما هو مولىً إنّما هي الصلاة، حيث إنّه سجّل على العبد الصلاة، لا تلك الفائدة، فبدأ مولويّته من النقطة الثانية، فإرادته بما هو كائن عاقل تبدأ من الفائدة، وبما هو مولىً تبدأ من الصلاة، واللازم تطابق كيفيّة الإرادتين من حين تبدأ الإرادة المولويّة للمولى وبدأ المولى كمولىً.

فهذه دعوى صحيحة مقبولة وجداناً، ولا نقض عليها، وتفسّر لنا كيف لا يعقل قصد الأمر الغيريّ من دون الأمر النفسيّ(1).



(1) لا يخفى: أنّه لو ادّعينا وجدانيّة أنّه لا يأتي استحقاق الثواب، أو قل: التقرّب إلى المولى، أو حجم ذلك من قبل كلّ أمر، إلّا بمحرّكيّة ذاك الأمر، وضممنا إلى ذلك الوجه الرابع، وهو: أنّ الأمر الغيريّ لا ثواب على موافقته، أصبح ذلك دليلا على المدّعى: من عدم معقوليّة قصد الأمر الغيريّ، وصيرورة ذلك سبباً في زيادة حجم الثواب.

وبكلمة اُخرى: إنّ اُستاذنا الشهيد (رحمه الله) ذكر هنا بحثين تباعاً، فبحث أوّلا: أنّ كثرة المقدّمات لا تعدّد الثواب، بل الثواب واحد وإن كان يزيد حجمه بقدر ما يحتاجه الواجب النفسيّ من المقدّمات، وبحث ثانياً: أنّ التقرّب بالأمر الغيريّ ومن دون الانبعاث من الأمر النفسيّ في حين الإتيان بالمقدّمة غير معقول، وأقام على كلّ واحد من المطلبين برهاناً مستقلاًّ عن الآخر، في حين أنّه بعد الالتفات إلى وضوح: أنّ كلّ أمر يكون منشأً للثواب والتقرّب، أو لحجمهما إنّما يكون كذلك بقصده ومحرّكيّته، ولو كان أمران كلّ واحد منهما كذلك، لأصبحا ثوابين مستقلّين، لا ثواباً واحداً كبير الحجم، إذن يكون المدّعيان متلازمين، وهما: وحدة الثواب والتقرّب في المقام من ناحية، وعدم إمكان التقرّب بقصد الأمر الغيريّ من ناحية اُخرى، وكلّ برهان على أحدهما برهان على الآخر.

فلو دلّ دليل على عدم تعدّد الثواب ـ وهو يعني عدم تعدّد سبب الثواب؛ لأنّ تعدّد