545

ما قاله الفقهاء الأوّلون في تقديم الشهادة...»(1).

أقول: إنّ الآية المباركة لا دلالة فيها على كون الكتابة مصدراً للإثبات في القضاء عند المرافعة، وأنّ البيّنة مصدر ثانويّ للإثبات، وإنّما الآية أكّدت على ضرورة الكتابة، وقد يكون ذلك للتذكير والمنع عن النزاع.

ثم الكتابة حينما تفيد العلم خصوصاً القريب من الحسّ فإغفالها إنّما هو صادق بشأن الفقه السنّي. أمّا الفقه الشيعي، فقد اعترف بحجّية علم القاضي وتقدّمه على البيّنة. وحينما لا تفيد العلم فالعلم الحسّي للبيّنة كان أقرب إلى الواقع من ظنّ القاضي الناشى‏ء من الكتابة لدى الشارع حتى لو أخذ بعين الاعتبار احتمال خطأ القاضي في فهم البيّنة.

والوجهان اللذان علّل بهما السنهوري شرط الكتابة في إثبات التصرف القانوني المدني _ وقد تقدّم نقلهما عنه في أوّل بحثنا عن طرق الإثبات: من كون التعبير في ذلك عن إرادة تتّجه لإحداث أثر قانوني أمراً دقيقاً قد يغمّ على الشهود، ومن سهولة تهيئة الدليل الكتابي عليه وقت وقوعه _ لا يصلحان نكتتين لاشتراط الإثبات بالكتابة؛ بحيث لو قصّر في الكتابة لانسدّ باب الإثبات ولم تفد البيّنة فيما تزيد قيمته على عشرة جنيهات، وإنّما يصلحان نكتتين للإلزام بالكتابة أو الحثّ عليها، كما صنعته الشريعة الإسلامية مع الاحتفاظ بحقّ الإثبات بالبيّنة على تقدير التقصير في الكتابة.

فعدم شرط العدالة في البيّنة حسب مدرسة الفقه الوضعي له أثره البالغ في فرض تحفظات تجاه البيّنة، بينما الشريعة الإسلامية في نظر الفقه الشيعي منزّهة عن إغفال شرط العدالة.


(1) الوسيط، ج2،بهامش الفقرة: 189.

546

جملة من شرائط البينة في الفقه الوضعي

ومن شرائط البيّنة لديهم الحلف، ولو بدّلوه بشرط العدالة لكان أقوى وأشرف لهم: أما كونه أقوى فلأنّ غير العادل ما أكثر إقدامه على الحلف الكاذب، والعادل يتحرّز عادةً عن الكذب حتى من غير حلف، وأمّا كونه أشرف لهم فلأنّ الدافع الحقيقي لعدم شرط العدالة عندهم واضح، وهو أصل كون العدالة _ حسب ما لديهم من نظرة مادّيّة وانهماك في الشهوات _ أمراً أقرب إلى الخيال الطوبائي منه إلى الحقيقة والواقع.

ومن شرائط البيّنة لديهم العلم الحسّي، ويستثنون فرض موت الشاهد المباشر أو العجز عن الوصول إليه. وهذا في الحقيقة عبارة عن تقييد نفوذ الشهادة على الشاهد بالعجز عن تحصيل الشاهد المباشر.

وقالوا: يجب أن تؤدّى الشهادة شفهاً أمام المحكمة أو القاضي مباشرةً وجهاً لوجه؛ لأنّه إذا كذب اللّسان أو سكت حيث يجب الكلام، فإنّ هيئة المرء وحالته وطريقة شهادته قد تنمّ عن الحقيقة، أو تساعد على اكتشافها، أو تساعد على تقدير الشهادة (المادة 90 إثبات). ويجب أيضاً أن لا يعتمد الشاهد في شهادته إلا على ذاكرته، ولا يصحّ أن يسمع له بتلاوة شهادته من ورقة مكتوبة أو يستعين بأيّة مذكّرة إلا إذا كانت شهادته منصبّة على أمر معقّد أو لمعرفة أرقام وتواريخ مثلاً بعد إذن المحكمة أو القاضي حيث تسوغ ذلك طبيعة الدعوى (المادة 90 إثبات). والأصل في التحقيق وسماع الشهود أن يكون بمعرفة هيئة المحكمة؛ إنّما يجوز لها طبقاً للمادة(72 إثبات) _ عند الاقتضاء _ أن تندب أحد قضاتها لإجرائه(1).


(1) رسالة الإثبات، ج1، ص548 _ 549، الفقرة: 379 مكرّر، من الطبعة السابعة.

547

وقالوا: يجب أداء الشهادة في حضور الخصوم فسحاً لباب السؤال والمناقشة، ويؤدّي كلّ شاهد شهادته على انفراد من باقي الشهود(1).

والخصم هو الذي يعيّن الشهود، ولو سمعت المحكمة شاهداً ولم يعترض الخصم كفى، وإذا اعترض الخصم أمام المحكمة بالدرجة الأولى ثم سكت عنه أمام المحكمة بالدرجة الثانية، لم يكن له التمسّك به أمام محكمة النقض. هذا حينما يكون الإثبات من قبل الخصم، أمّا إذا أمرت المحكمة بالإثبات _ متى رأت في ذلك فائدة للحقيقة _ فلها أن تستدعي للشهادة من تريد(2).

ولا تقبل شهادة الصغير ولا المحكوم عليه بعقوبة جنائيّة مدّة العقوبة؛ لأنّه يستلزم حرمان المحكوم عليه من الحقوق والمزايا(3).

نعم، تسمع شهادة المحكوم عليه بعنوان القرينة كشهادة الصغير، قال أحمد نشأت: «ويسمع على سبيل الاستدلال أيضاً المحكوم عليه بعقوبة جنائيّة مدّة العقوبة طبقاً للمادة (25) من قانون العقوبات التي نصّت على أنّ (كلّ حكم بعقوبة جنائيّة يستلزم حتماً حرمان المحكوم عليه من الحقوق والمزايا الآتية.... ثالثاً _ الشهادة أمام المحاكم مدّة العقوبة إلا على سبيل الاستدلال)».

وظاهر من هذا النصّ:

أوّلاً _ أنّه لا يكفي أن يكون المحكوم عليه ارتكب جناية، بل يجب أن يكون محكوماً عليه بعقوبة جنائيّة....

ثانياً _ أن يكون عدم تحليفه مقصوراً على مدّة العقوبة، فإذا أوفى مدّة العقوبة،


(1) راجع نفس المصدر، الفقرة: 379 مكرّراً.

(2) نفس المصدر، الفقرة: 379 (ح) و 379 (ط).

(3) نفس المصدر، الفقرة: 379 مكرّر (ك) و مكرّر (ل).

548

أو صدر عفو عن العقوبة كلّها أو بعضها، وكان قد وفّى البعض الآخر، أو صدر عفو عن الجريمة، وجب تحليفه اليمين. وممّا هو جدير بالملاحظة أنّه يؤخذ من نصّ المادة (25) من قانون العقوبات أنّ الشارع اعتبر الشهادة حقّاً أو مزيّةً كالقبول في خدمة الحكومة، أو التحلّي برتبة أو نيشان المنصوص عليهما في (أوّلاً) و(ثانياً) مع أنّ الشهادة واجب والامتناع عنها معاقب عليه بمقتضى المادة (78) من قانون الإثبات (201 قانون المرافعات السابق)، فالأمر على حقيقته لا يتعدّى عدم الثقة بمجرم حكم عليه بعقوبة جنائيّة... هذا وإذا تتبّعنا النص الحرفي لمادة (25) من قانون العقوبات وقولها: إنّ المحكوم عليه يحرم من الشهادة مدّة العقوبة لترتّب على ذلك نتيجة غير معقولة بالنسبة للمحكوم عليه بالإعدام الذي لا تستغرق مدّة عقوبته بضعة ثوانٍ يستحيل أن يشهد في أثنائها. وهذه النتيجة غير المعقولة هي أنّه يستطيع أن يشهد ويستطيع أن يحلف في المّدة التي تمضي بين الحكم وبين التنفيذ _ أي مدّة العقوبة _ بالرغم من الحكم عليه بأشدّ عقوبات الجناية. إذاً لا مفرّ من اعتبار مدّة إيداعه في السجن من وقت الحكم حتى التنفيذ مدّة عقوبة؛ لأنّ هذه المدّة ليست إلا توطئةً لتنفيذ العقوبة، فلا شكّ أنّه يصحّ اعتبارها مدّة عقوبة. وعلى أيّ حال مثل هذا الشخص يكون غالباً في حالة لا يصحّ فيها الاعتماد على أقواله سواء حلف أو لم يحلف(1).

أقول: إنّ نفوذ شهادة الجاني قبل مدّة الحكم عليه وبعد نهايتها لا يمكن تبريره من حيث فلسفة التشريع إلا بافتراض أنّ الشهادة حقّ من الحقوق سلب في مدّة المحكوميّة، بينما من الواضح أنّ الشهادة لا ينبغي إلا أن تفرض واجباً من


(1) رسالة الإثبات، ج1، الماده: 379 مكرّر (ل).

549

الواجبات، وكم فرق بين هذا القانون الوضعي وقانون الشريعة الإسلامية الغرّاء الذي لا يقبل شهادة الفاسق إلا بعد التوبة ورجوع الملكة لو زالت.

أمّا النقض بمسألة الإعدام فبإمكانهم أن يجيبوا عليه بأنّ الجاني يسلب عنه حقّ الشهادة ليس مدّة تنفيذ الحكم عليه فقط، بل مدّة محكوميته، فهو من حيث صدور الحكم بالقتل مشمول لقانون سلب حقّ الشهادة عنه.

وأمّا ما قالوا: من أنّ المحكمة لها أن تأمر بالإثبات متى رأت في ذلك فائدة للحقيقة فلها عندئذٍ أن تستدعي للشهادة من تريد. فالرأي الصواب في فقهنا الإسلامي هو أنّ المدّعي له الحقّ في رفع اليد عن القضاء بشهادة أي شاهد لا يريده، والاكتفاء بتحليف المنكر. نعم، حينما تكون القضية مشتملةً على أمر آخر غير المرافعة كقضيّة أمنيّة من حقّ حاكم الشرع متابعتها فهنا من حقّ الحاكم أن يأمر بالإثبات وأن يستدعي من يريد من الشهود.

وأمّا شرط التفريق بين الشهود أو الشهادة شفهاً وجهاً لوجه، أو عدم الاعتماد إلا على ذاكرته أو الأداء عند حضور الخصوم أو نحو ذلك من الأمور فهي في وجهة نظر الفقه الإسلامي ليست شروطاً بمعنى عدم نفوذ شهادة الشاهد بدونها، وهي احتياطات اتّخذها الفقه الوضعي بعد إغفال شرط العدالة، ولكن لا يبعد القول بأنّ من حقّ الحاكم فرض أمر من هذا القبيل أو غيره مقدّمة للحكم لأجل تقصّي الحقيقة ممّا هو ليس واجباً بحدّ ذاته في نفوذ الحكم، كما قد يستفاد ذلك من أقضية أمير المؤمنين (عليه السلام) التي لعلّها مستفيضة إجمالاً، والمشتملة على إعمال نكات زائدة على أصل القانون القضائي الواجب من البيّنة واليمين، والتي قد يستظهر منها إعمال ولاية قضائيّة لا إعمال ولاية الإمامة، ولو حملت على إعمال ولاية الإمامة، نتعدّى إلى الفقيه بمبدأ ولاية الفقيه.

550

وقال فقهاء الفقه الوضعي أيضاً باشتراط التمييز، فلو لم يوجد التمييز لهرم أو حداثة أو مرض أو لأيّ سبب آخر، لم تنفذ الشهادة(1).

وقالوا أيضاً: لا يجوز الجمع بين صفتي الشاهد والقاضي، ولا بين صفتي الشاهد وكاتب الجلسة، ولا بين صفتي الشاهد والمترجم، فإذا حصل الجمع لم تنفذ الشهادة وبطل الحكم(2).

أمّا الجمع بين صفتي الشاهد والقاضي، فيعني في لغتهم نفوذ علم القاضي، وقد مضى الحديث عنه مفصّلاً، وأمّا الجمع بين صفتي الشاهد والكاتب أو المترجم، فقد عُلّل ذلك بتأثّره بشهادته ممّا قد تؤثّر على كتابته أو ترجمته(3). وفي الشريعة الإسلامية لا تمنع الكتابة أو الترجمة عن نفوذ الشهادة.

نعم، بناءً على ما مضى من استظهار جواز إلزام القاضي بما هو غير لازم يجوز إلزامه بالفصل بين الشهادة والكتابة أو الترجمة، لا بمعنى المنع عن الشهادة أو نفوذها، بل بمعنى منعه عن الكتابة أو الترجمة والإتيان بكاتب أو مترجم آخر لدى الحاجة.

وقالوا: لا يصحّ الجمع بين صفتي الشاهد وخصم في الدعوى يقرّر أمراً لمصلحة الخصم الأصلي ما لم تكن المحكمة هي التي أحالت الدعوى إلى التحقيق ولم تعلنه كشاهد(4).

وقد مضى تعليقنا على إحالة الحاكم الدعوى إلى التحقيق، ولو صحّ ذلك لم يكن مبرّراً عندنا لقبول شهادة من هو داخل في الخصومة.


(1) راجع رسالة الإثبات، ج 1، الفقرة 379، مكرّر (ك)، الطبعة السابعة.

(2) نفس المصدر، مكرّر (ط)، الطبعة السابعة.

(3) راجع نفس المصدر.

(4) راجع نفس المصدر، الفقرة: 379 مكرّر (ق).

551

ونكتفي بهذا المقدار عن نقل مطالب أصحاب القانون والتعليق عليها، والراغب في متابعة الموضوع بإمكانه مراجعة كتبهم المفصّلة في ذلك، وأخصّ بالذكر كتاب (الوسيط) للسنهوري و(رسالة الإثبات) لأحمد نشأت، وبإمكانه التعليق عليها على نسق ما مضى.

553

البيّنة

3

 

 

هل تجري البيّنة واليمين على عكس القاعدة؟

 

 

  1- في مورد القتل

  2- في مورد اتّهام العامل

 

 

555

هل تجري البيّنة واليمين على عكس القاعدة؟

البحث الثالث _ في أنّه هل يوجد مورد مستثنىً عن القاعدة المعروفة، وهي قاعدة (أنّ البيّنة على المدّعي، واليمين على من أنكر) بأن يكون الحكم على العكس من ذلك؛ أي أنّ البيّنة على من أنكر، واليمين على المدّعي، أو لا؟

في مورد القتل

قد دلّت بعض الروايات على أنّ القتل مستثنىً من هذه القاعدة، فالبيّنة فيه على المنكر واليمين على المدّعي من قبيل:

ما ورد _ بسند تام _ عن أبي بصير عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «إن اللّه حكم في دمائكم بغير ما حكم به في أموالكم، حكم في أموالكم على أنّ البيّنة على المدّعي، واليمين على المدّعى عليه، وحكم في دمائكم أنّ البيّنة على من ادّعي عليه، واليمين على من ادّعى؛ لئلّا يبطل دم امرى‏ءٍ مسلم»(1).

وما ورد عن محمد بن سنان عن الرضا (عليه السلام) فيما كتب إليه من جواب مسألة في


(1) وسائل الشيعة، ج18، ص172، الباب3 من كيفيّه الحكم، ح3، وج19، ص115، الباب 9 من دعوى القتل وما يثبت به، ح4.

556

العلل: «والعلّة في أنّ البيّنة في جميع الحقوق على المدّعي واليمين على المدّعى عليه ما خلا الدم؛ لأنّ المدّعى عليه جاحد، ولا يمكنه إقامة البييّنة على الجحود؛ لأنّه مجهول، وصارت البيّنة في الدم على المدّعى عليه واليمين على المدّعي؛ لأنّه حوط يحتاط به المسلمون لئلّا يبطل دم امرى‏ءٍ مسلم، وليكون ذلك زاجراً وناهياً للقاتل لشدّة إقامة البيّنة على الجحود عليه؛ لأنّ من يشهد على أنّه لم يفعل قليل. وأمّا علّة القَسَامة أن جعلت خمسين رجلاً فلما في ذلك من التغليظ والتشديد والاحتياط؛ لئلّا يهدر دم امريءٍ مسلم»(1). والسند ضعيف.

وما ورد _ بسند تام _ عن بريد بن معاوية عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «سألته عن القَسَامة فقال: الحقوق كلّها: البيّنة على المدّعي، واليمين على المدّعى عليه إلا في الدم خاصّة، فإنّ رسول اللّه (صلى الله عليه و آله) بينما هو بخير إذ فقدت الأنصار رجلاً منهم فوجدوه قتيلاً، فقالت الأنصار: إنّ فلان اليهودي قتل صاحبنا، فقال رسول اللّه (صلى الله عليه و آله) للطالبين: أقيموا رجلين عدلين من غيركم أقيده (أقده خ) برمّته، فإن لم تجدوا شاهدين فأقيموا قسامة خمسين رجلاً أقيده برمّته، فقالوا: يا رسول اللّه ما عندنا شاهدان من غيرنا، وإنا لنكره أن نقسم على ما لم نره، فودّاه رسول الله (صلى الله عليه و آله) وقال: إنمّا حقن دماء المسلمين بالقَسامة، لكي إذا رأى الفاجر الفاسق فرصة (من عدوّه) حجزه مخافة القسامة أن يقتل به، فكفّ عن قتله، وإلا حلف المدّعى عليه قسامة خمسين رجلاً ما قلنا،ولا علمنا قاتلاً، وإلا أغرموا الدية إذا وجدوا قتيلاً بين أظهرهم إذا لم يقسم المدّعون»(2). ويفهم من هذا الحديث:


(1) وسائل الشيعة، ج18، ص171، الباب3 من كيفيّة الحكم، ح6.

(2) نفس المصدر، ج19، ص114، الباب9 من دعوى القتل وما يثبت به، ح3.

557

أوّلاً _ أنّ المدّعي له طريقان لإثبات مدّعاه: البيّنة وتهيئة خمسين قسامة. ولعلّ شرط رسول الله (صلى الله عليه و آله) عليهم كون البيّنة عدلين من غيرهم كان بنكتة أنّ المقصود بالطالبين في قوله: «فقال رسول اللّه (صلى الله عليه و آله) للطالبين» هم أولياء الدم، أو بنكتة أنّ كلّ من يطالب بالدم _ ولو لغيره بأن لم يكن هو الولي الشرعي _ يعتبر خصماً، فيجب أن يكون الشهود غيره. والاحتمال الأول هو الموافق للقاعدة.

وثانياً _ أنّ المتّهم بإمكانه أن يبرّى‏ء نفسه بالقسم خمسين مرّة إن لم يمتلك المدّعي أحد الطريقين المثبتين لدعواه، فإذا أضفنا هذا إلى قبول البيّنة من المنكر كما يستفاد من الحديثين الأوّلين، كان للمتّهم أيضاً طريقان للتبرئة: البيّنة والقسم خمسين مرّة.

وثالثاً _ أنّه لو لم يمتلك المدّعي شيئاً من الطريقين لإثبات مدّعاه، ولم يستعدّ المتّهم الفاقد للبيّنة للقسم خمسين مرّة، ثبت عليه الجُرم ولو بمستوى الإلزام بالدية. فهذه نقاط ثلاث لا ينبغي الإشكال فيها في الجملة، إلا أنّه ما زالت حدود هذه الأحكام الثلاثة مكتنفة بالغموض وبحاجة إلى استئناف البحث.

البينة والقسامة من المدّعي

ولنبدأ بالنقطة الأُولى _ وهي أنّ المدّعي بإمكانه إثبات الدعوى بأحد طريقين: البيّنة وخمسين قسامة، وهذا في الجملة ممّا لا إشكال فيه، ولكن ينبغي البحث في حدوده من عدّة نواحٍ:

اشتراط اللوث في القسامة

الأُولى _ أنّ إثبات الدعوى بخمسين قسامة هل يختص بفرض اللّوث، وهو فرض وجود أمارات الاتّهام بالنسبة للمدّعى عليه، أو لا يوجد شِبْهُ إجماع بين الأصحاب

558

_ رضوان اللّه عليهم _ على شرط اللّوث، ولم ينسب التأمّل أو الخلاف إلا إلى الأردبيلي (رحمه الله)، ولا إشكال في أنّ ثبوت القتل بخمسين قسامة خلاف الأصل، ولابدّ فيه من الاقتصار على القدر المتيقّن. إذاً لا سبيل إلى التأمّل في شرط اللّوث إلا دعوى الإطلاق في بعض الأدلّة، كما لو ادّعي الإطلاق فيما مضى من حديث أبي بصير: «... وحكم في دمائكم أنّ البيّنة على من ادّعي عليه واليمين على من ادّعى...» بعد تفسير اليمين على من ادّعى بقسامة خمسين بقرينة باقي الروايات.

وذكر السيد الخوئي: أنّ قيد اللّوث يستفاد من عدّه‏ من روايات الباب:

منها _ ما عن زرارة عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «إنّما جعلت القسامة ليغلّظ بها في الرجل المعروف بالشرّ المتّهم، فإن شهدوا عليه جازت شهادتهم»(1).

وقد عبّر السيد الخوئي عن هذا الحديث بمعتبرة زرارة، وسنده كما يلي: رواه الشيخ والصدوق بإسنادهما عن موسى بن بكر عن زرارة، وسند الصدوق إلى موسى بن بكر لا نعرفه، أما سند الشيخ إلى موسى بن بكر فهو عبارة عن ابن أبي جيد عن ابن الوليد عن الصفّار عن إبراهيم بن هاشم عن ابن أبي عُمير عنه قال: «ورواه صفوان ابن يحيى عنه وابن أبي جيد»، وإن بنى السيد الخوئي على وثاقته لكونه من مشايخ النجاشي، لكنّنا لا نبني على ذلك. وهذا لا يضرّنا في المقام؛ إذ يكفينا أنّ للشيخ سندين تامّين إلى ابن أبي عُمير لجميع كتبه ورواياته، وله أيضاً سند تام إلى ابن الوليد لجميع كتبه ورواياته، ومنه إلى الصفّار لجميع رواياته عدا كتاب بصائر الدرجات. إذاً فالسند من هذه الناحية يتمّ بالتعويض. ويبقى الكلام في موسى بن بكر الذي لم يوثّق في كتب الرجال، والسيد الخوئي وثّقه على أساس أمرين:


(1) وسائل الشيعة، ج19، ص116، الباب 9 من دعوى القتل وما يثبت به، ح7.

559

أحدهما _ وروده في تفسير علي بن إبراهيم. وهذا الوجه غير تام عندنا.

والثاني _ ما ورد في الكافي حيث روى الكليني (رحمه الله) عن حميد بن زياد عن الحسن ابن محمد بن سماعة قال: «دفع إلي صفوان كتاباً لموسى بن بكر، فقال لي: هذا سماعي من موسى بن بكر، وقرأته عليه، فإذا فيه موسى بن بكر عن علي بن سعيد عن زرارة قال: هذا ممّا ليس فيه اختلاف عند أصحابنا عن أبي عبداللّه وعن أبي جعفر (عليهماالسلام) أنّهما سألا عن امرأة تركت زوجها وأُمّها وابنتيها؟ فقال للزوج الربع وللأُمّ السدس وللابنتين ما بقي؛ لأنّهما لو كانا رجلين لم يكن لهما شيء إلا ما بقي، ولا تزاد المرأة أبداً عن نصيب الرجل، لو كان مكانها»(1). فالسيد الخوئي فهم من قوله: «قال: هذا ممّا ليس فيه اختلاف عند أصحابنا»: أنّ صفوان قال: هذا الكتاب _ وهو كتاب موسى بن بكير _ ممّا ليس فيه اختلاف عند أصحابنا، ولكن لا ظهور لهذه العبارة في هذا المعنى، بل لعلّ ظاهرها أنّ صفوان يقول: إنّ صدور نصّ من هذا القبيل _ أي من قبيل هذه الرواية بالذات _ عن الإمام ممّا ليس فيه اختلاف عند أصحابنا، ولا أقلّ من الإجمال. إذاً فهذا ليس دليلاً على الوثاقة.

نعم، الصحيح عندنا وثاقة الرجل؛ لرواية بعض الثلاثة عنه، فالنتيجة أنّ سند الحديث تام في المقام.

ومنها: ما مضى من حديث بريد بن معاوية، حيث جاء في ذيله: «إنّما حقن دماء المسلمين بالقسامة؛ لكي إذا رآى الفاجر الفاسق فرصة (من عدوه) حجزه مخافة القسامة أن يقتل به، فكفّ عن قتله، وإلا حلف المدّعى عليه قسامة خمسين رجلاً ما قتلنا ولا علمنا قاتلاً، وإلا أُغرموا الدية إذا وجدوا قتيلاً بين أظهرهم إذا لم يقسم


(1) الكافي، ج7، ص97، كتاب الميراث، الباب 19 ميراث الولد مع الزوج و المرأة والأبوين، ح3.

560

المدّعون»، فقدفهم السيد الخوئي من هذا الكلام قيد اللّوث، فإن كان نظره إلى قوله: «إذا وجدوا قتيلاً بين أظهرهم»، فهذا وإن كان دالّاً على قيد اللّوث لكنّه راجع إلى حكم قسم المدّعى عليه، أمّا رجوعه إلى ما يفهم ضمناً أيضاً من الجملة السابقة من قسامة خمسين من قبل المدّعي، فغير معلوم.

نعم، إن كان نظره إلى كلمة «الفاجر الفاسق»فقد يكون لذلك وجه بناء على كون هذا التعبير إشارة إلى الاستهتار بالفسق الذي من الواضح عدم دخله في الحكم من غير ناحية اللّوث.

ومنها _ ما عن زرارة _ بسند تام _ عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «إنّما جعلت القسامة احتياطاً للناس لكي ما إذا أراد الفاسق أن يقتل رجلاً أو يغتال رجلاً حيث لا يراه أحد، خاف ذلك، فامتنع من القتل»(2). فإن كان نظره في الاستدلال بهذا الحديث التمسّك بقوله: «احتياطاً للناس»، فهذا وجه للاستدلال بعدّة روايات سيذكره مستقلّاً عن هذا الوجه، وإن كان نظره إلى كلمة «الفاسق» فدلالتها على المشتهر بالفسق الموجب للوث غير واضحة.

ومنها _ ما ورد _ بسند تام _ عن ابن سنان قال: «سمعت أبا عبداللّه (عليه السلام) يقول: إنّما وضعت القسامة لعلّة الحوط، يحتاط على الناس لكي إذا رآى الفاجر عدوّه، فرّ منه مخافة القصاص»(3). فاستفاد السيد الخوئي من كلمة الفاجر اللّوث والاتّهام بالشرّ.

وهناك وجه آخر ذكره السيد الخوئي لإثبات شرط اللّوث من الروايات يدخل فيه هذا الحديث والأحاديث السابقة وروايات أُخرى _ كالحديث الثاني والثامن من


(1) وسائل الشيعة، ج19، ص114، الباب 9 من دعوى القتل وما يثبت به، ح1.

(2) نفس المصدر، ص116، ح9.

561

الباب (9) من دعوى القتل وما يثبت به من الوسائل _ وهو أنّ المستفاد من هذه الروايات أنّ حكم القسامة جعل حقناً للدماء واحتياطاً فيه، وهذا يناسب شرط اللّوث؛ إذ لو لا هذا الشرط لأوجب هدر الدماء؛ حيث إنّ للفاسق والفاجر أن يدّعي القتل على أحدٍ ويأتي بالقسامة، فيقتصّ منه، فيذهب دم المسلم هدراً(1).

كما استشهد أيضاً السيد الخوئي على شرط اللّوث بكونه أمراً متسالماً عليه.

وبما أنّ الإجماع الصحيح لدينا هو الإجماع الحدسي فقد يتمّ الحدس رغم وجود المدرك للإجماع.

اشتراط اللوث في البيّنة

الثانية _ أنّ نفوذ بيّنة المدّعي هل يكون مشروطاً باللّوث كما كان نفوذ خمسين قسامة مشروطاً به، أو لا؟ لا أظنّ أنّ هناك خلافاً من حيث الفتوى في نفوذ البيّنة ولو لم يكن هناك لوث، ولكن هناك شبهة يمكن طرحها هنا بلحاظ الروايات، وهي أن يقال: أنّ رواية أبي بصير الماضية دلّت على أنّ البيّنة في باب الدم على المنكر واليمين على المدّعي، وهذا يعني فرضاً عدم قبول البيّنة من المدّعي في باب الدم، وهو مطلق لفرض اللّوث وعدمه، خرج من إطلاقه فرض اللّوث وذلك بقرينة رواية بريد الماضية؛ حيث خاطب فيها رسول اللّه (صلى الله عليه و آله) المدّعين بقوله: «أقيموا رجلين عدلين من غيركم»، ولكن هذا وارد في مورد اللّوث، وليس له إطلاق لمورد عدم اللّوث. إذاً فالقدر المتيقّن من التقييد لإطلاق رواية أبي بصير هو فرض اللّوث، ويبقى فرض عدم اللّوث تحت إطلاق الرواية الدالّ فرضاً على عدم قبول البيّنة من المدّعي.


(1) راجع مباني تكملة المنهاج، ص105، ج2.

562

وكذلك دلّ حديث مسعدة بن زياد على قبول البيّنة من مدّعي الدم، وهو ما ورد عن مسعدة _ بسند تام _ عن جعفر (عليه السلام) قال: «كان أبي (رضي الله عنه) إذا لم يقم القوم المدّعون البيّنة على قتل قتيلهم ولم يقسموا بأنّ المتّهمين قتلوه، حلّف المتّهمين بالقتل خمسين يميناً باللّه ما قتلناه ولا علمنا له قاتلاً، ثم يؤدّي الدية إلى أولياء المقتول. ذلك إذا قتل في حي واحد، فأمّا إذا قتل في عسكر أو سوق مدينة، فديته تدفع إلى أوليائه من بيت المال»(1). وهذا أيضاً _ كما ترى _ لا إطلاق له لفرض عدم اللّوث. إذاً فرض عدم اللّوث بقي تحت إطلاق رواية أبي بصير.

وقد يقال: إنّ رواية أبي بصير إنّما دلّت على أنّ البيّنة على المنكر، أي أنّ المنكر هو الذي يطالب بالبيّنة وأنّه لو لم يمتلك بيّنة ولا حَلَفَ خمسين مرّة _ على ما ظهر من الروايات الأُخرى _ ثبت الحقّ إلى جانب المدّعي. وهذا لا ينافي نفوذ بيّنة المدّعي لو أقامها، فيتمسّك هنا بإطلاق دليل نفوذ البيّنة.

ولكنّ الظاهر أنّنا لا نمتلك إطلاقاً تامّاً لنفوذ البيّنة من غير نفس روايات أنّ البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر، فإذا خرج من إطلاقها الدم، لم يكن دليل على قبول البيّنة فيه من المدّعي.

ويمكن التخلص عن هذه الشبهة بوجوه:

الأول _ أنّ رواية أبي بصير نصّت على أنّ البيّنة في الدماء على المدّعى عليه واليمين على من ادّعى، والجملة الثانية قيّدت ببعض الروايات _ على ما مضى _ بفرض اللّوث. وهذا يوجب الإجمال في الجملة الأولى بحكم وحدة السياق؛ أي: أنّ إطلاق الجملة الأُولى لفرض عدم اللّوث والظهور في وحدة السياق يتعارضان؛ لأنّ


(1) وسائل الشيعة، ج19، ص115، الباب 9 من دعوى القتل وما يثبت به، ح3.

563

المقيّد المنفصل للجملة الثانية دلّ على كذب أحدهما إجمالاً، فتصبح الجملة الأُولى بحكم المجمل، فنرجع في غير فرض اللّوث إلى القاعدة العامّة التي تقتضي أنّ البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر المستفادة ممّا ورد _ بسند تام _ عن جميل وهشام عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه (صلى الله عليه و آله): البيّنة على من ادّعى واليمين على من ادّعي عليه»(1). هذا بناءً على أنّ المقيّد منفصل. وهو بعض الروايات الدالّة على اشتراط قسامة خمسين من طرف المدّعي باللّوث.

أما إذا افترضنا المقيِّد متّصلاً، وهو قوله في آخر حديث أبي بصير: «لئلا يبطل دم امرى‏ءٍ مسلم» بأن استظهرنا من هذا الاختصاص بفرض اللّوث فلا يأتي تقريب التعارض بين الإطلاق ووحدة السياق؛ لأنّ المقيِّد المتّصل لو اختصّ بإحدى الجملتين لا نثلمت وحدة السياق، ولكن لو كان هذا الذيل وهو قوله: «لئلّا يبطل دم امرى‏ءٍ مسلم» دالاً على قيد اللّوث فهذا يكون مقيِّداً لكلتا الجملتين، وهما قوله: «البيّنة على من ادّعي عليه، واليمين على من ادّعى»، فالمشكلة محلولة من أساسها، ونرجع في فرض عدم اللّوث إلى القاعدة الأصليّة، وهي أنّ البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر.

والثاني _ أن يقال: إنّ ما ورد من أنّ البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر، وكذلك ما ورد في خصوص الدم من أنّ البيّنة على من أنكر واليمين على المدّعي يدل _ بإيحاء من كلمة البيّنة وارتكازيّة كفاية البيّنة في الاحتجاج مع الخصم وغيره _ على أنّ شهادة العدلين بيّنة كافية على الواقع في حدود المرتكزات العقلائيّة، ولا شكّ أنّ نفوذ بيّنة مدّعي الدم بلا لوث داخل في الارتكاز العقلائي.


.نفس المصدر، ج18، ص170، الباب 3 من كيفيّة الحكم، ح1.

564

الثالث _ أن يقال: إننّا لا نحتمل فقهياً أن تكفي يمين واحدة من المنكر، ولا تكون البيّنة على المدّعي؛ فإمّا إنّ البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر، وهذا يعني كفاية يمين واحدة من المنكر، أو إنّ البيّنة على المنكر واليمين على من ادّعى، وفي هذه الحال لا تكفي يمين واحدة من المنكر، فإذا ضممنا هذه المقدمة إلى ما دلّ عليه ذيل رواية بريد من عدم حاجة المنكر في التبرئة إلى أن يحلف خمسين مرّة إذا لم يكن لوث، كانت النتيجة أنّ البيّنة عند عدم اللّوث على المدّعي، وذيل رواية بريد هو هذا: «وإلا حلف المدّعى عليه قَسَامة خمسين رجلاً ما قتلنا، وإلا أُغرموا الدية إذا وجدوا قتيلاً بين أظهرهم إذا لم يقسم المدّعون». فتخصيص الحكم بما إذا وجدوا قتيلاً بين أظهرهم يدل على تخصيصه بفرض اللوث.

وهذا الوجه الثالث مع الوجه الأول يمتازان عن الوجه الثاني بأنّهما يثبتان أنّ البيّنة عند عدم اللّوث على المدّعي لا على المنكر، فلو لم يأتِ المدّعي ببيّنة كفى المنكَر في البراءة مجرّدُ أن يحلف مرّةً واحدةً، بينما الوجه الثاني لا يثبت إلا نفوذ بيّنة المدّعي لو أقامها، أمّا أنّ عليه البيّنة بحيث لو لم يأتِ بها كفى المنكر أن يحلف مرّةً واحدةً، فلا يثبت بهذا الوجه.

كيفية قسامة خمسين

الثالثة _ أنّ قَسَامة خمسين من قبل المدّعي هل ينحصر شكلها في إحضار خمسين نفراً _ ولو بأن يكون أحدهم نفس المدّعي _ كلّهم يحلفون باللّه على أنّ فلاناً قتل فلاناً أو بالإمكان الاقتصار على عدد أقلّ مع تكثير عدد القسم إلى أن يتمّ خمسون قسماً، ولو بقي المدّعي وحده حلف خمسين مرّة؟

اُدُّعي الإجماع على الثاني، وذكر أنّه لم يُرَ مخالف في ذلك، ولكن الأمر بالقياس

565

إلى الروايات مشكل، فهناك عدّة روايات صوّرت قَسَامة خمسين بخمسين شخصاً يحلفون على القتل، من قبيل: ما عن عبداللّه بن سنان _ بسند تام _ قال: «قال أبو عبداللّه (عليه السلام): في القَسَامة خمسون رجلاً في العمد، وفي الخطأ خمسة وعشرون رجلاً، وعليهم أن يحلفوا باللّه»(1). وما عن ابن فضّال ويونس عن الرضا (عليه السلام) فيما أفتى به أمير المؤمنين (عليه السلام) «... والقَسَامة جعل في النفس على العمد خمسين رجلاً، وجعل في النفس على الخطأ خمسة وعشرين رجلاً...»(2) وما عن أبي بصير _ بسند فيه البطائني _ قال: «سألت أبا عبداللّه (عليه السلام) عن القسامة أين كان بدوها؟ فقال: كان من قبل رسول اللّه (صلى الله عليه و آله) لمّا كان بعد فتح خيبر تخلّف رجل من الأنصار عن أصحابه، فرجعوا في طلبه فوجدوه متشحّطاً في دمه قتيلاً، فجاءت الأنصار إلى رسول اللّه (صلى الله عليه و آله) فقالوا: يا رسول اللّه قتلت اليهود صاحبنا. فقال: ليقسم منكم خمسون رجلاً على أنّهم قتلوه...»(3).

فهذه الرواية قد تدل على عدم كفاية أقلّ من خمسين رجلاً مع تكثير الحلف عليهم.

وبالإمكان أن يقال في قبال ذلك: إنّ هذه الروايات لا تدل على عدم كفاية ذلك، غاية ما هناك أنّها لا تدل على الكفاية أيضاً، فلو حصلنا على ما دلّ على كفاية ذلك لم يكن تعارض بينه وبين هذه الروايات، وذلك لأنّ هذه الروايات أمرت بإحضار خمسين رجلاً للحلف، وهذا الأمر كما يناسب عدم كفاية ماهو أقلّ إطلاقاً، كذلك يناسب كون كفاية الأقلّ عدداً مع تكثير عدد الحلف عليهم في طول العجز عن


(1) وسائل الشيعة، ج19، ص119، الباب 11 من دعوى القتل وما يثبت به، ح1.

(2) نفس المصدر، ص120، ح2.

(3) نفس المصدر، ص118، الباب 10 من دعوى القتل وما يثبت به، ح5.

566

تحصيل العدد المطلوب.

ولا يمكن تتميم دلالة هذه الروايات على عدم كفاية العدد الأقلّ مع تكثير الحلف عليهم حتى بعد العجز عن تحصيل العدد المطلوب بأن يقال: إنّه لو جاز الاكتفاء بالعدد الأقلّ لدى حلفهم تمام الخمسين، فجواز ذلك إمّا يفترض على سبيل التخيير بأن يكون المدّعي مخيّراً بين إحضار خمسين رجلاً يحلفون وإحضار ما هو أقلّ من ذلك مع تكميل عدد الحلف أو يحلف هو خمسين مرّة، وإمّا أن يفترض على سبيل الترتيب والطوليّة؛ أي لو عجز عن تحصيل العدد المطلوب قسّم الحلف خمسين مرّة على ما هو أقلّ من ذلك ولو انحصر الأمر به حلف خمسين مرّة. أمّا التخيير فهو خلاف ظاهر الروايات المتقدّمة الآمرة بحلف خمسين رجلاً. وأمّا الترتب فهو بعيد غاية البعد؛ إذ يلزم من ذلك أنّ مدّعي القتل لو لم يملك خمسين رجلاً يحلفون له فحلف هو خمسين مرّةً نفذ حلفه، ولو ملك خمسين رجلاً يحلفون له ولكن تكاسل عن إحضارهم واستعدّ هو للحلف خمسين مرّةً لم يقبل منه ذلك ولم ينفذ حلفه، بينما احتمال صدقه في الثاني أقوى منه في الأوّل.

ويمكن الجواب على ذلك بأنّه من المعقول أن يكون السبب في إلزامه بإحضار الخمسين بالدرجة الأُولى كون هذا أكثر إثباتاً للجرم على المجرم وأكبر إقناعاً لأولياء المجرم وأخمد للفتنة، فإن لم يحصل ذلك جاء التنزّل إلى ما هو أقلّ ولو بأن يحلف المدّعي وحده خمسين مرّة.

نعم، يبقى الكلام في أنّ غاية ما ثبت حتى الآن هي أنّ هذه الروايات لم تدل على عدم كفاية العدد الأقلّ من الرجال مع التحفّظ على عدد الخمسين يميناً، ولكن لم يثبت بها شيء إلا القَسَامة بمعنى خمسين رجلاً يحلفون، وكفاية ما عدا ذلك بحاجة إلى دليل، ولم يصرّح بها في شيء من الروايات، فكيف يمكن إثبات ذلك

567

بالروايات؟

وقد يستدلّ على ذلك _ أي تكثير عدد الحلف على العدد الأقلّ إلى أن يتمّ الخمسون يميناً _ إضافة إلى الإجماع المدّعى بعدّة وجوه:

الأول _ ما ذكره السيد الخوئي من أنّه ورد في غير واحد من الروايات: أنّ القَسَامة إنّما جعلت احتياطاً للناس؛ لئلّا يغتال الفاسق رجلاً فيقتله حيث لا يراه أحد، فإذا كانت علّة جعل القسامة ذلك، فكيف يمكن تعليق القود على حلف خمسين رجلاً؟ فإنّه أمر لا يتحقق إلا نادراً، فكيف يمكن أن يكون ذلك موجباً لخوف الفاسق من الاغتيال(1)؟!

أقول: إن كان الحلف مشروطاً بالعلم الحسّي أو ما يقرب من الحسّ صحّ هذا الكلام، ولكن الحلف يكفي فيه مجرّد العلم ولو الحدسي، وهذا كثيراً ما يحصل لأقرباء المدّعي وأصدقائه ببعض القرائن الحدسية المدعمة عندهم بنفس دعوى المدّعي، بل قد يحلفون كاذبين لمجرّد تعاطفهم مع المقتول والمدّعي، والقاضي يحكم وفق حلفهم لعدم علمه بالكذب؛ لأنّه لا تشترط فيهم العدالة كما كانت تشترط في البيّنة كي لا يقبل حلف من يحتمل بشأنهم الكذب لعدم إحراز العدالة، فالفاسق سيخشى من تحقق شيء من هذا القبيل ويمنعه ذلك عن القتل.

أمّا الوجه في نفوذ الحلف _ وإن لم يكن عن علم حسّي _ فلأنّ وجوه اشتراط الحسّ في الشهادة لا تأتي هنا، فالوجه في اشتراط الحسّ في باب البيّنة: إمّا هو عدم الإطلاق في دليل نفوذ البيّنة، أو الروايات الخاصّة، أو انصراف دليل نفوذ البيّنة عن نفي احتمال الخطأ في الحدس كما هو الحال في دليل حجّية خبر الواحد. وكلّ هذا


(1) مباني تكملة المنهاج، ص109، ج2.

568

لا يأتي في المقام، فدليل نفوذ القَسَامة مطلق، ولم يقيَّد بما إذا كان الحلف عن علم حسّي، وروايات شرط الحسّ خاصّة بباب الشهادة، ولو فرض إطلاقها لباب الحلف باعتبار اقتران الحلف بالشهادة كفانا ما مضى من ضعف تلك الروايات سنداً . والانصراف المدّعى في دليل نفوذ الشهادة وخبر الواحد لا يأتي في المقام، بل المفهوم عرفاً أنّ تكثير عدد الحالفين هنا تعويض عن شروط الشهادة من العدالة والحسّ وغيرهما، بل إنّ مطالبة الرسول (صلى الله عليه و آله) في قصّة من قتل بخيبر بخمسين رجلاً يحلفون مع وضوح عدم الحسّ في تلك القصّة دليل على عدم اشتراط الحسّ، ومن المستبعد أنّه لم يكن يوجد في كلّ الخمسين المفترض حلفهم على قتل اليهود للرجل المسلم شخصان عادلان ولو بحسن الظاهر، فما هو شرط البيّنة المفقود في المقام حتى طلب الرسول (صلى الله عليه و آله) حلف خمسين رجل؟! من الواضح أنّه لا يوجد شرط مفقود عدا كون الشهادة عن حسّ.

الثاني _ ذيل رواية ابن فضّال ويونس التي مضى صدرها؛ حيث جاء في ذيلها التصريح في باب الدية في الجروح بمضاعفة اليمين على المدّعي إذا فقد من يحلف معه وذلك إلى ستّ مرّات؛ حيث إنّ أكبر عدد للقَسَامة في الجرح قَسَامة ستة رجال(1).

وقد أورد السيد الخوئي على الاستدلال بهذا الحديث بأنّه مختصّ بباب الدية في الجروح، ولا يمكن التعدّي منه إلى القصاص في النفس(2)، وهذا الإيراد في محلّه.

الثالث _ التمسّك بما مضى في رواية بريد من قوله (صلى الله عليه و آله): «أقيموا قسامة خمسين


(1) راجع‏ وسائل الشيعة، ج19، ص120، الباب 11 من دعوى القتل وما يثبت به، ح2.

(2) راجع مباني تكملة المنهاج، ص109، ح2.

569

رجلاً أقيده برمّته»؛ حيث ذكر في الجواهر(1): أنّه يمكن استفادة كفاية الأقلّ مع الحفاظ على عدد الخمسين في القسم من هذه الجملة بناءً على قراءتها بإضافة (قسامة) إلى (خمسين) لا بالتنوين.

أقول: إن سُلّم ظهور: «أقيموا قَسَامة خمسين رجلاً» في كفاية القسم خمسين مرّةً من دون تقيّد بعدد الحالفين، وفرض الوثوق بأنّ كلمة «قَسَامة» مضافة إلى «خمسين»، وليست منوّنةً، إذ لو كانت منوّنةً؛ لكانت كلمة «خمسين رجلاً» عطف بيان أو بدلاً من كلمة «قسامة»، فكأنّما قال: أقيموا خمسين رجلاً يقسمون، مع أنّ هذا الاستعمال يعدّ ركيكاً، فالإقامة بمعنى الأداء تتعدّى إلى القَسم لا إلى المُقسِم، إن سُلّم هذان الأمران فمع ذلك هذا الوجه لا يتمّ؛ لأنّ هذه القصّة ذكرت في عدّة روايات وجاء التعبير في بعضها بعبارة: «ليقسم منكم خمسون رجلاً»(2) وهذا ظاهر في خمسين رجلاً حالفين كما هو واضح، فبناءً على الاطمئنان بوحدة القصّة لا يتمّ الاستدلال بهذا الوجه.

الرابع _ التمسّك برواية أبي بصير الماضية؛ حيث جاء فيها: «أنّ اللّه حكم في دمائكم بغير ما حكم به في أموالكم، حكم في أموالكم أنّ البيّنة على المدّعي واليمين على المدّعى عليه، وحكم في دمائكم أنّ البيّنة على المدّعى عليه واليمين على من ادّعى». فتفسير قوله: «اليمين على من ادّعى» بمعنى أنّ عليه أن يحقّق اليمين _ ولو بأن يكون عليه أن يحضر آخرين يحلفون _ خلاف الظاهر، وإنّما ظاهره _ خاصّة بالمقابلة مع قاعدة أنّ اليمين على من ادّعي عليه _ هو أنّ اليمين بنفسه يكون ثابتاً


(1) ج42، ص246.

(2) جاء ذلك في رواية أبي بصير، وهي الرواية الخامسة من وسائل الشيعة، ج19، ص118، الباب 10 من دعوى القتل وما يثبت به، وفي رواية زرارة التامّة سنداً، وهي الرواية الثالثة من نفس الباب، ص117.