17

للحياة مشتمل على وجوب القضاء الحقّ حتماً. نعم، هذا لا يكفي لإثبات وجوب القضاء الحقّ في ظلّ دولة غاصبة عند الإمكان.

وأمّا إذا بحثنا المسألة على المستوى الثاني فقد يقال: إنّه لا يمكن الاستدلال على وجوب القضاء الحقّ عند الإمكان في ظلّ دولة غاصبة بلزوم الاختلال بتركه؛ لوضوح أنّ نفس الدولة الغاصبة تقوم بطريقتها الخاصّة بالمنع عن الاختلال، ولكن مع ذلك لا ينبغي الإشكال في وجوب إقامة القضاء الحقّ حتى في ظلّ دولة غاصبة إن أمكن، وذلك:

أوّلاً _ لأجل ما سيأتي _ إن شاء اللّه _ في محلّه من تحريم الشريعة الإسلامية للتحاكم لدى الطاغوت _ على الأقلّ عند إمكان التحاكم إلى من يقضي بالحقّ _، والمفهوم عرفاً من هذا التحريم بمناسبة الحكم والموضوع أنّ التحاكم عند الطاغوت مفسدة اجتماعية مبغوضة لدى الشارع لا يرخّص فيها إلا لأجل نفي الحرج مثلاً، وعلى المجتمع سدّ هذه المفسدة بشكل لا يوجب اختلال النظام؛ فكما يجب على المترافعين أن لا يترافعا عنده كذلك يجب على من يستطيع التصدّي للقضاء الحقّ أن يتقبّل منهما رفع التنازع إليه.

وثانياً _ لأنّ قضاة الجور كثيراً ما يقضون بالظلم والجور، بينما دفع الظلم ورفع المنكر واجبان كفاية، فيجب كفاية على القادرين على علاج ذلك _ بتصدّيهم للقضاء الحقّ _ التصدّي لذلك.

هذا. وذكر في الجواهر ما مضمونه: أنّ القضاء بما هو منصب من المناصب إنّما يعطى للشخص من قبل الإمام، فلا معنى لوجوبه كفايةً على المسلمين. نعم، يجب القضاء كفايةً على المنصوبين له من قبل الإمام، أو يجب تولّي القضاء من الإمام سنخ غسل الميّت الواجب كفايةً على المسلمين، المتوقّف صحّته على إذن الولي،

18

فيجب كفايةً تحصيل الإذن من الولي كي يُصلّى على الميّت، ولعلّ ذلك ونحوه مرادهم من الوجوب على الكفاية(1).

أقول: من الواضح أنّه حينما يضاف الوجوب إلى القضاء يقصد به وجوب فعل القضاء، ولا نظر لذلك إلى الجانب الوضعي للقضيّة من مدى صحّة القضاء وثبوت هذا المنصب. نعم، إذا وجب فعل القضاء كفايةً، وشروط صحّة القضاء لم تكن موجودة، وجب _ طبعاً _ بالكفاية تحصيل الشروط، وتحصيل المنصب ممّن له حقّ إعطاء هذا المنصب. إذاً فباب وجوب الفعل باب، وباب ثبوت المنصب باب آخر، ولم تكن حاجة إلى الخلط والتطويل.


(1) راجع الجواهر، ج 40، ص 10 _ 11.

19

الفصل الثاني

 

 

شخصيّة القاضي

 

   1- المقدّمة

   2- النصب العامّ للقضاء

   3- شرائط القاضي

   4- قاضي التحكيم

   5 - الخاتمة في من بيده تعيين القاضي.

 

 

21

المقدّمة

قد قسّموا القاضي إلى القاضي المنصوب، وقاضي التحكيم.

ولعلّه ليس المقصود من جعل قاضي التحكيم في مقابل القاضي المنصوب أنّ قاضي التحكيم ليس بحاجة إلى النصب من قبل الإمام، فإنّ نفوذ القضاء هو خلاف الأصل حتى مع فرض التحكيم، وليس الحكم إلا للّه تعالى، ثم لمن أعطاه اللّه إيّاه، ثم لمن نصبه المعيّن من قبل اللّه؛ فكأنّ المقصود من تقسيم القاضي إلى هذين القسمين هو أنّ القاضي: تارةً يكون منصوباً ابتداءً وبالذات من قبل الإمام، فلو رفع أحد المتخاصمين الشكوى إليه فطلب القاضي من الآخر الحضور والخضوع للحكم وجب عليه ذلك؛ لأنّ هذا المنصب ثابت له من قبل الإمام، وأُخرى لا يكون منصوباً من قبل الإمام إلا في طول المحاكمة، فلو تحاكم المتخاصمان عند شخص كان ذلك الشخص مخوَّلاً من قبل الإمام في الحكم، وإن لم يكن منصوباً ابتداءً وبالذات من قبل الإمام للحكم.

وبما أنّنا نعيش اليوم عصر الغيبة الكبرى فلا يكون النصب من قبل الإمام نصباً لشخص معيّن بالخصوص، وإنّما النصب يكون بشكل عام لكلّ من هو متّصف بمواصفات معيّنة. نعم، بناءً على مبنى ولاية الفقيه قد يقال بأنّ للفقيه حقّ تعيين شخصٍ مّا للقضاء، ولو لم توجد فيه المواصفات المذكورة في من ورد من الإمام المعصوم

22

نصبهم بشكل عام للقضاء، وهذا أيضاً يدخل في القاضي المنصوب.

ثم قد يقال: إنّ من حقّ المتخاصمين أن يتراضيا على المحاكمة عند شخص غير واجد لمواصفات القاضي المنصوب من قبل الإمام المعصوم، ولا المنصوب من قبل الفقيه؛ إذاً فيقع البحث حول شخصية القاضي:

أوّلاً _ في أنّه هل وصلنا نصب عام من قبل الإمام المعصوم للقضاء وفق مواصفات معيّنة أو لا؟

وثانياً _ في أنّه على تقدير الإجابة بالإيجاب على هذا السؤال، فما هي المواصفات المشترطة في من نصبه المعصوم بشكل عام؟ وهل يجوز للفقيه أن ينصب من هو فاقد لتلك المواصفات أو لا؟ وهل يجوز له أن يوكّل في القضاء الفاقد لتلك المواصفات أو لا؟

وثالثاً _ هل يحق للمترافعين تحكيم غير المنصوب من قبل الإمام ولا من قبل الفقيه _ وهو المسمى بقاضي التحكيم _ أو لا؟

23

النصب العام للقضاء

أمّا الأمر الأول، وهو أنّه هل هناك نصب عام من قبل المعصوم للقضاء أو لا؟

فعمدة الدليل على النصب أحاديث ثلاثة:

أحدها: التوقيع الشريف الذي رواه إسحاق بن يعقوب: «أمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا؛ فإنّهم حجّتي عليكم، وأنا حجّة اللّه»(1). أو «وأنا حجّة اللّه عليهم» كما في كمال الدين(2)، أو «وأنا حجّة اللّه عليكم» كما في غيبة الطوسي(3)؛ بناءً على دلالة هذا الحديث على ولاية الفقيه بشكل عام، ومن أغصان الولاية العامة هي ولاية القضاء.


(1) وسائل الشيعة، ج 18، ص101، الباب 11 من صفات القاضي، ح 9.

(2) كمال الدين وتمام النعمة، ج1، ص484.

(3) كتاب الغيبة، ج1، ص291.

24

والثاني: مقبولة عمر بن حنظلة، قال: «سألت أبا عبداللّه (عليه السلام) عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دَين أو ميراث فتحاكما إلى السلطان وإلى القضاة أيحلّ ذلك؟ قال: من تحاكم إليهم في حقّ أو باطل فإنّما تحاكم إلى الطاغوت، وما يحكم له فإنّما يأخذ سحتاً وإن كان حقّاً ثابتاً له؛ لأنّه أخذ بحكم الطاغوت وما أمر اللّه أن يكفر به... . قلت: فكيف يصنعان؟ قال: ينظران من كان منكم ممّن قد روى حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا، وعرف أحكامنا، فليرضوا به حكماً، فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً؛ فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنّما استخفّ بحكم اللّه، وعلينا ردّ، والرادّ علينا الرادّ على اللّه، وهو على حدّ الشرك باللّه»(1).

وقد ردّ السيد الخوئي (رحمه الله) كلا هذين الحديثين بضعف السند، ويقصد بذلك عدم ثبوت وثاقة إسحاق بن يعقوب في الحديث الأول، وعمر بن حنظلة _ كما صرّح به _ في الحديث الثاني، ورغم هذا آمن بأصل فكرة القاضي المنصوب على أساس توقّف حفظ النظام المادّي والمعنوي على القضاء الموجب لوجوبه كفاية.

وقد يقال: إنّ الوجوب الكفائي حكم تكليفي لا يثبت النصب الذي هو حكم وضعي، والحكم لا يحقّق موضوعه وشروطه، فلو كان الشرط في نفوذ القضاء هو النصب فكيف يمكن إثبات ذلك بوجوبه؟!

إلا أنّه بالإمكان الإجابة على ذلك: بأنّه لو كان الوجوب الكفائي للقضاء ثابتاً بنصّ خاص مثلاً مشروطاً بنصب الإمام صحّ القول بأنّ هذا الوجوب لا يثبت النصب، فإذا لم يكن دليل على النصب لم يمكن إثباته بالوجوب الكفائي، ولكنّ الوجوب الكفائي هنا ثبت بعلمنا بعدم رضا الشارع باختلال النظام، وهذا العلم كما


(1) وسائل الشيعة، ج 18، ص99، الباب 11 من صفات القاضي، ح 1.

25

يثبت وجوب القضاء كذلك يثبت نفوذه؛ لأنّنا نعلم إنّ مجرّد الوجوب بلا نفوذ لا يرفع الاختلال، ونفوذه يعني إمضاء الشارع لقضائه. وحينئذٍ لو كان إمضاء الشارع لقضائه بعد فرض ترافع المتنازعين لديه كافياً في رفع الاختلال ثبت بذلك قضاء التحكيم، أمّا لو فرض أنّ مجرّد ذلك لا يرفع الاختلال؛ لأنّه كثيراً مّا يتّفق أنّ أحد المتخاصمين لا يرضى بالتحاكم، فلابدّ من قاضٍ منصوب يحقّ له جلب المتخاصم عند طلب المتخاصم الآخر.

فثبت بذلك على الإجمال أنّ الشريعة الإسلامية نصبت بعض الناس قضاة، فأمّا من هم هؤلاء البعض؟ _ وقد افترضنا عدم نصّ خاصّ يرشدنا إليهم _ فلابدّ من الاقتصار على القدر المتيقّن لو كان، وهذا ما سنبحثه إن شاء اللّه عند بحث الشروط.

وعلى أيّ حال فالصحيح تماميّة سند الخبرين الماضيين:

أمّا توقيع إسحاق بن يعقوب فلما ذكرناه في كتاب «أساس الحكومة الإسلامية»(1) في تصحيح سنده ولا نُعيده هنا. وأمّا مقبولة عمر بن حنظلة فلثبوت


(1) وحاصله: أنّ الرواية رويت بسندين:

الأول: الصدوق في إكمال الدين، عن محمد بن محمد بن عصام، عن محمد بن يعقوب، عن إسحاق ابن يعقوب ....

الثاني: الشيخ في الغيبة، عن جماعة، عن جعفر بن محمد بن قولويه وأبي غالب الزراري وغيرهما كلهم، عن محمد بن يعقوب.

والسند الثاني إلى إسحاق بن يعقوب صحيح مطمأن إليه؛ حيث يرويها جماعة _ منهم المفيد فإنّ الشيخ يروي جميع كتب وروايات ابن قولويه عن جماعة أحدهم المفيد _ عن جماعة _ منهم ابن قولويه والزراري المقطوع بوثاقتهما _ عن الكليني، فلا يبقى في السند غير إسحاق بن يعقوب، ولا اسم له في الرجال فيكون مجهولاً، لكن مجهوليته لا تضر هنا، لأنّها إنما تضرلوجود احتمال الكذب أو التساهل، وهو هنا منتفٍ، لأنّ احتمال الكذب أو التساهل إن فرض في أصل دعوى صدور التوقيع، يردّه: أنّ احتمال ←

26

وثاقته على مبنانا برواية بعض الثلاثة الذين لا يروون إلا عن ثقة، عنه.

وثاقة من روى عنه بعض الثلاثة

والأصل في توثيق كلّ من روى عنه أحد الثلاثة هو ما عن الشيخ الطوسي (رحمه الله) في كتاب العدّة في أواخر بحثه عن خبر الواحد؛ حيث قال:

«وإذا كان أحد الراويين مسنداً والآخر مرسلاً نظر في حال المرسل، فإن كان ممّن يعلم أنّه لا يرسل إلا عن ثقة موثوق به فلا ترجيح لخبر غيره على خبره، ولأجل ذلك سوّت الطائفة بين ما يرويه محمد بن أبي عمير، وصفوان بن يحيى، وأحمد بن محمد ابن أبي نصير، وغيرهم من الثقات الذين عرفوا بأنّهم لا يروون ولا يرسلون إلا عمّن يوثق به وبين ما أسنده غيرهم»(1).

فهذا إخبار من قبل الشيخ الطوسي (رحمه الله) يحمل على الحس أو ما هو قريب من الحسّ بأنّه كان من المعروف عند الأصحاب بشأن هؤلاء الثلاثة أنّهم لا يروون إلا عن ثقة، وبتصديق هذا الخبر من الشيخ على أساس حجّية خبر الثقة تثبت شهادة جملة من الأصحاب بأنّ هؤلاء الثلاثة لا يروون إلا عن ثقة. إذاً فنقل واحد من هؤلاء الثلاثة عن شخص توثيق له.


أن يخف على مثل الكليني افتراء التوقيع في زمانه بعيد جداً لا يعتنى به، خاصةً وأنّ التوقيعات لم تكن تصدر إلا إلى الخواص لشدّة التقيّة.

وإن فرض التساهل في نقل الخصوصيات _ بعد انتفاء احتمال الكذب في أصل النقل _ فهو إمّا لمصلحة شخصية تدعو إلى التغيير، وهي غير متصورة في المقام، وإمّا لعدم الضبط والتساهل في النقل وهذا إنّما يكون في النقل الشفهى عادة لا في الكتاب. راجع: ص 155 من كتاب «أساس الحكومة الإسلامية».

(1) العدّة للشيخ الطوسي، ص 386.

27

هذا إضافة إلى أنّ هؤلاء الثلاثة هم من أصحاب الإجماع، فلو قلنا بأنّ أصحاب الإجماع لا يروون إلا عن ثقة ثبت ذلك بشأن هؤلاء الثلاثة.

والأصل في دعوى الإجماع هذه هو الكشّي في رجاله؛ حيث قال في تسمية الفقهاء من أصحاب أبي جعفر وأبي عبداللّه (عليهماالسلام):

«أجمعت العصابة على تصديق هؤلاء الأولين من أصحاب أبي جعفر، وأصحاب أبي عبداللّه (عليهماالسلام)، وانقادوا لهم بالفقه، فقالوا: أفقه الأولين ستة: زرارة، ومعروف بن خرّبوذ، وبريد، وأبو بصير الأسدي، والفضيل بن يسار، ومحمد بن مسلم الطائفي. قالوا: وأفقه الستة زرارة، وقال بعضهم مكان أبي بصير الأسدي: أبو بصير المرادي، وهو ليث بن البختري»(1).

وقال في تسمية الفقهاء من أصحاب أبي عبداللّه (عليه السلام):

«أجمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ عن هؤلاء وتصديقهم لما يقولون، وأقرّوا لهم بالفقه _ من دون أولئك الستة الذين عدّدناهم وسمّيناهم _ ستة نفر: جميل بن دراج، وعبداللّه بن مسكان، وعبداللّه بن بكير، وحماد بن عثمان، وحماد بن عيسى، وأبان بن عثمان. قالوا: وزعم أبوإسحاق الفقيه _ وهو ثعلبة بن ميمون _ أنّ أفقه هؤلاء جميل بن دراج، وهم أحداث أصحاب أبي عبداللّه (عليه السلام)»(2).

وقال في تسمية الفقهاء من أصحاب أبي إبراهيم، وأبي الحسن الرضا (عليهماالسلام):

«أجمع أصحابنا على تصحيح ما يصحّ عن هؤلاء وتصديقهم، وأقرّوا لهم بالفقه والعلم، وهم ستة نفر أُخر، دون الستة نفر الذين ذكرناهم في أصحاب أبي عبداللّه (عليه السلام) منهم:


(1) اختيار معرفة الرجال، ص 238، الرقم 431.

(2) نفس المصدر، ص 375، الرقم 705.

28

يونس بن عبدالرحمن، وصفوان بن يحيى بيّاع السابري، ومحمد بن أبي عمير، وعبداللّه بن المغيرة، والحسن بن محبوب، وأحمد ابن محمد بن أبي نصر. وقال بعضهم مكان الحسن ابن محبوب: الحسن بن علي ابن فضال، وفضالة بن أيوب. وقال بعضهم مكان فضالة بن أيوب: عثمان بن عيسى. وأفقه هؤلاء يونس بن عبدالرحمن، وصفوان بن يحيى»(1).

ومن الواضح في الستة الأُولى أنّ قوله: «أجمعت العصابة على تصديق هؤلاء...» لا يدل إلا على توثيقهم دون توثيق من يروون عنه.

نعم، قد يتوهّم بالنسبة لتعبيره في الستة الثانية والثالثة بتصحيح ما يصحّ عن هؤلاء أنّ معنى ذلك هو أنّ ما صحّ إلى هؤلاء فهو صحيح إلى الإمام، وهذا يعني وثاقة الرواة الذين وقعوا بينهم وبين الإمام، أو أنّهم كانوا متأكّدين من صدق الرواة الذين بينهم وبين الإمام في تلك الروايات؛ ولكنّك ترى أنّ هذه العبارة أيضاً لا دلالة فيها على أكثر من تصحيح ما يصحّ عنهم، بمعنى أنّ ما صحّ سنده إليهم فسنده صحيح بلحاظهم، أي أنّهم ثقاة في النقل، أمّا أنّهم لا ينقلون إلا عن ثقة مثلاً فلم يعلم من ذلك، ويؤيّد هذا المعنى عطف قوله: «وتصديقهم» على قوله: «تصحيح ما يصحّ عنهم»؛ فإنّ الظاهر أنّه من باب عطف المرادف.

أمّا كونه من باب عطف شيء أقلّ وأخفّ _ وهو مجرّد التوثيق _ على شيء أكبر وأوسع _ وهو صحّة روايته إلى الإمام _ فخلاف الظاهر، وكذلك يؤيّده عطف الكشّي _ للستة الثانية على الستة الأولى بقوله: «من دون أولئك الستة الذين عدّدناهم». وكذلك الستة الثالثة على الثانية ممّا يفهم منه أنّ المقصود من العبائر


(1) اختيار معرفة الرجال، ص 556، الرقم 1050.

29

الثلاث كان على نسق واحد، ومن الواضح أنّ العبارة الأُولى إنّما دلّت على وثاقة نفس الستة دون وثاقة من ينقلون عنه.

وعلى أيّ حال فالمهمّ في المقام هي العبارة التي نقلناها عن الشيخ الطوسي (رحمه الله)؛ حيث يبدو أنّها تدل على أنّ هؤلاء الثلاثة لا ينقلون إلا عن ثقة.

إلا أنّ السيد الخوئي قد ناقش في ذلك في مدخل كتابه «معجم رجال الحديث»(1) بعدّة مناقشات:

الأُولى: حمل نقل الشيخ: تسوية الطائفة بين مراسيل هؤلاء ومسانيد غيرهم، على الحدس والاجتهاد، إذ لو كانت هذه التسوية صحيحة وأمراً معروفاً متسالماً عليه بين الأصحاب لذكرت في كلام أحد من القدماء، وليس منها في كلماتهم عين ولا أثر عدا ما جاء عن النجاشي بخصوص مراسيل محمد بن أبي عمير من سكون الأصحاب إليها معلّلاً بضياع كتبه وهلاكها، فمن المطمأنّ به أنّ منشأ هذه الدعوى هي دعوى الكشّي الإجماع على تصحيح ما يصحّ عن هؤلاء، ويشهد لذلك أنّ الشيخ لم يخصّ ما ذكره بالثلاثة بل عمّمه لغيرهم من الثقاة الذين عرفوا بأنّهم لا يروون إلا عن ثقة، بينما لم يعرف أحد بذلك من غير جهة دعوى الكشّي الإجماع على التصحيح، وممّا يكشف عن كون هذه النسبة اجتهادية وغير ثابتة في نفسها نقض الشيخ نفسه لذلك في كتابيه التهذيب والاستبصار، حيث يناقش فيهما سند بعض الروايات بالإرسال رغم كون المرسل أحد الثلاثة، أو أحد أصحاب الإجماع.

أقول: لا إشكال في أنّ الأصل في الخبر هو الحسّ، فحمل كلام الشيخ على الحدس والاجتهاد، أو التحميل عليه بأنّه استفاد ذلك من كلام الكشّي في تصحيح


(1) معجم رجال الحديث، الجزء الأول، ص 75.

30

ما يصحّ عن جماعة بحاجة إلى مبرّر، وتبرير ذلك بأنّه :«لو كانت هذه التسوية صحيحة وأمراً معروفاً متسالماً عليه بين الأصحاب لذكرت في كلام أحد من القدماء، بينما لا يوجد عين ولا أثر من ذلك» قد أورد عليه الشيخ عرفانيان في كتابه «مشايخ الثقات» بأنّه ما أكثر كتب الأصحاب التي تلفت، ولم تصل بأيدينا؛ فلعلّ هذا كان مذكوراً في الكتب التالفة(1).

أقول: لئن فرضت صحّة استبعاد وجود تسوية من هذا القبيل من قبل الأصحاب بين مراسيل هؤلاء ومسانيد غيرهم من دون أن نجد عيناً ولا أثراً فيما وصل بأيدينا من كتبهم رغم ترقّب ذكر ذلك في كتب الفقه والأصول والرجال، وقد وصلنا من مجموع الأصناف الثلاثة من الكتب عدد معتدٌّ به، لئن فرضت صحّة استبعاد ذلك بالنسبة لنقل التسوية، فمن الواضح عدم صحّته بالنسبة لإخبار الشيخ (رحمه الله) عن أنّهم عرفوا بأنّهم لا يروون ولا يرسلون إلا عمّن يوثق به.

والحاصل أنّه قد جاء في كلمات الشيخ التي نقلناها تعبيران: أحدهما التعبير بالتسوية بين مراسيل هؤلاء والمسانيد، والآخر التعبير بأنّهم عرفوا بعدم النقل عن غير الثقات، فلئن شككنا في الأول فالتشكيك في الثاني أوضح بطلاناً؛ لأنّ معروفيّة عدم نقلهم عن غير الثقات إنّما يترقّب ذكرها في كتب الرجال فحسب سنخ التوثيق والتضعيف، أي لا استغراب في عدم ذكر ذلك في كتب الفقه والأصول، وكتب الرجال الواصلة بأيدينا ليست في الكثرة بمثابة نستبعد معها عدم وصول ذلك إلينا عن غير كتاب العدّة، فلعلّ هذا من سنخ الإجماع على تصحيح ما يصحّ عن جماعة الذي انحصر مدركه الأصلي لدينا في نقل الكشّي، أو سنخ ما جاء في عدّة


(1) مشايخ الثقات، ص 13.

31

الشيخ الطوسي من معروفيّة السكوني بالوثاقة، بينما لم نَر من ذلك عيناً ولا أثراً في كتب الرجال، والتفكيك بين الأمرين _ أعني معروفية هؤلاء بأنّهم لا يروون، ولا يرسلون إلا عن ثقة، والتسوية بين مراسيلهم ومسانيد الآخرين _ أمر معقول؛ إذ قد يسلّم شخص بالأول، ولكنّه لا يسلم بالتسوية على أساس دعوى أنّه عند الإرسال نبقى نحتمل أنّ واقع من أرسل عنه لعلّه مجروح من قبل آخرين، ولعلّ واقع من أرسل عنه نعلم بعدم وثاقته، والعامّ المفهوم من قاعدة: «لا يروون، ولا يرسلون إلا عن ثقة» ساقط عن الحجّية بهذا المقدار؛ فالتمسّك به تمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية، ولا أقصد الآن البحث عن مدى صحّة هذا الإشكال، وإنّما مقصودي أنّ التفكيك بين الأمرين أمر معقول.

وبما ذكرنا ظهر الجواب على استشهاد السيّد الخوئي لكون مدّعى الشيخ بشأن الثلاثة مأخوذاً من نقل الكشّي: الإجماع على تصحيح ما يصحّ عن جماعة، بأنّه عمّم الأمر إلى غير هؤلاء الثلاثة، بينما لم يعرف أحد بذلك من غير جهة دعوى الكشي الإجماع؛ فالجواب: أنّه من أين عرفنا أنّه لم يعرف أحد بذلك من غير جهة الكشي مع أنّه لم يصلنا من كتب الرجال إلا القليل؟! وماذا يقول السيد الخوئي في نفس إجماع الكشي الذي لم يصلنا عن غير طريق الكشّي؟!

وأمّا استشهاده بنقض الشيخ نفسه في كتابيه لقاعدة التسوية فقد أجاب عليه الشيخ عرفانيان:

تارةً بأنّ كتاب العدّة متأخّر تأليفاً عن التهذيب والاستبصار، فلعلّه في الزمن الثاني التفت إلى تسوية الأصحاب.

وأُخرى بأنّ مبنى الشيخ في التهذيب والاستبصار الاعتذار عن تعارض الأخبار تارةً بالجمع، وأُخرى بإسقاط أحد السندين، وذلك أمام من طعن علينا بكثرة

32

التعارض في أخبارنا، فلعلّ المناقشة بالإرسال كانت بهذه النكتة(1).

وهذا الجواب الثاني وإن كان قابلاً للمناقشة لكنّ الجواب الأول صحيح.

ويمكن تصحيح الجواب الثاني أيضاً بإرجاعه إلى القول بأنّ مفاد كلام الشيخ في كتابيه _ كقوله في باب العتق: «وأمّا ما رواه ابن أبي عمير عن بعض أصحابنا عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (السائبة وغير السائبة سواء في العتق) فأوّل ما فيه أنّه مرسل، وما هذا سبيله لا يعارض به الأخبار المسندة»(2)_ ليس معارضاً لكلامه الذي جاء في العدة من أنّهم لا يروون، ولا يرسلون إلا عن ثقة؛ وذلك لأنّ من المحتمل أن يكون مقصوده بما في كتابيه أنّه لدى المعارضة يقدّم المسند على المرسل لا عدم حجية المرسل في ذاته، وهذا اجتهاد منه في مقام علاج التعارض؛ باعتبار أنّ عدم معروفية الساقط اسمه لنا يجعلنا نحتمل أنّنا لو عرفناه لرأيناه غير ثقة خلافاً لما بنى عليه ابن أبي عمير مثلاً، فكان هذا سبباً في رأي الشيخ الطوسي لتقديم المستند الذي عرفنا وثاقة كلّ رواته على ذاك المرسل، وهذا _ كما ترى _ لا يعارض ما في العدّة.

أضف إلى ذلك ما عرفته من عدم الملازمة بين الإيمان بأنّ هؤلاء الثلاثة لا يروون إلا عن ثقة _ أي عمّن يثقون به _ والتسوية، فلعلّ الشيخ استشكل في كتابيه في التسوية بين مراسيل هؤلاء الثلاثة ومسانيد غيرهم رغم إيمانه بأنّ الأصحاب سوّوا بينهما بنكتة أنّهم لا يروون إلا عن ثقة، وسيأتي إن شاء اللّه أنّ معنى كونهم لا يروون إلا عن ثقة أنّهم لا يروون إلا عمّن يؤمنون هم بوثاقته، فلا ينافي ذلك التوقّف في مراسيلهم باعتبار عدم معرفتنا بالشخص المحذوف، واحتمال وجود الجرح بشأنه.


(1) مشايخ الثقات، ص 31 _ 30.

(2) التهذيب، ج 8، باب العتق وأحكامه، ح 932؛ الاستبصار، ج 4، باب ولاء السائبة، ح 87.

33

الثانية: أنّه لو فرض ثبوت التسوية من قبل الأصحاب القدامى بين مراسيل هؤلاء ومسانيد غيرهم فمن المظنون كون ذلك على أساس ما نسب إليهم، واختاره جمع من المتأخّرين كالعلّامة من البناء على حجّيّة خبر كلّ إمامي لم يظهر منه فسق، لا على أساس أنّهم لا يروون إلا عن ثقة.

أقول: نحن لا نتمسّك بمجرّد إخبار الشيخ عن تسوية الأصحاب بين مراسيل هؤلاء ومسانيد غيرهم كي يُلقى احتمال من هذا القبيل لدفع الاستدلال، بل نتمسّك بإخبار الشيخ بأنّ هؤلاء عرفوا بأنّهم لا يروون ولايرسلون إلا عن ثقة.

الثالثة: أنّ دعوى أنّ هؤلاء الثلاثة لا يروون ولا يرسلون إلا عن ثقة لا يمكن أن تتمّ إلا عن طريق إخبارهم هُم عن أنّهم لا يروون إلا عن ثقة، ولا طريق آخر لكشف ذلك، بينما لم ينسب إلى أحد من هؤلاء التصريح بشيء من هذا القبيل.

وقد أجاب على ذلك الشيخ عرفانيان بأنّ الأصحاب القدامى، خاصّةً التلامذة المباشرين لهؤلاء الثلاثة بإمكانهم اكتشاف ذلك عن ظاهر حالهم، والقرائن الموجودة في حياتهم وأحوالهم، وليس طريق الكشف منحصراً في تصريحهم(1).

أقول: لو كان طريق الكشف منحصراً في تصريحهم لدلّت هذه الشهادة من قبل الشيخ على صدور تصريح بذلك من قبلهم، ولا دليل على ضرورة وصول ذلك إلينا بأكثر من هذا المقدار من الوصول. والواقع أنّ طريق الكشف ليس منحصراً في تصريحهم بذلك، بل بإمكان تلامذتهم أن يكتشفوا ذلك عن ظاهر حالهم واستقراء جملة من نقولهم وسنخ اهتماماتهم ونحو ذلك من القرائن، كما يكتشفون عدالتهم أو وثاقتهم بهذا الأُسلوب، ومعنى شهادة الشيخ بأنّهم عُرفوا بأنّهم لا يروون ولا يرسلون


(1) مشايخ الثقات، ص 33.

34

إلا عن ثقة هو الشهادة بأنّ الأصحاب كانوا يعتقدون بأنّ ظاهر حال هؤلاء _ لو لم يكن تصريح منهم _ كان بنحو يورث نقلهم عن أحدٍ الاطمئنان للإنسان المتعارف المطّلع على حالهم بأنّه ثقة عند الناقل، وهذا كافٍ في ثبوت وثاقته عندنا؛ لأنّه إخبار من قبل الشيخ الثقة عن الأصحاب الثقات إمّا بوثاقة من يروي عنه هؤلاء الثلاثة في اعتقاد هؤلاء الثلاثة وهو إخبار بما يقرب من الحس، وإمّا بأمر حسّي (وهو ظهور حالهم) ملازمٍ _ ملازمةً عاديةً بقدر إفادة الاطمئنان _ لكون المروي عنه ثقة عند أحد هؤلاء الثلاثة الثقات، وملازمات الأمارة حجّة، فكأنّنا إطمئنَنّا بإخبار أحد هؤلاء الثلاثة بوثاقة المروي عنه.

أمّا لو استظهرنا أنّ هذه المعروفيّة لو كانت سوف لن تخفى على نفس هؤلاء الثلاثة، إذاً فهذا يعني أنّ هؤلاء الثلاثة كانوا يعلمون بأنّهم حينما ينقلون عن أحد فالناس سوف يفترضون وثاقة المروي عنه، وحينئذٍ سيكون سكوتهم عن قدح المروي عنه شهادة من قبلهم بوثاقته، فتتأكّد بذلك دلالة نقلهم عنه على وثاقته.

الرابعة: أنّ هؤلاء نقلوا أحياناً عن غير الثقات في موارد، ذكر جملةً منها الشيخ نفسه؛ فكيف يدّعى أنّ هؤلاء لا يروون عن الضعفاء؟!

لا يقال: إنّ رواية هؤلاء عن الضعفاء لا تنافي دعوى أنّهم لا يروون إلا عن ثقة؛ إذ معنى ذلك هو أنّهم لا يروون إلا عمّن يعتقدون بوثاقته، فرواية أحدهم عن شخص شهادة منه على وثاقته يؤخذ بها ما لم يثبت خلافها.

فإنّه يقال: إنّ الشيخ أراد بقوله: «لا يروون، ولا يرسلون إلا عن ثقة» الوثاقة في الواقع وفي نفس الأمر، لا في نظر هؤلاء الثلاثة، والدليل على ذلك أنّه لو كان المقصود هو الوثاقة في نظر هؤلاء لما أمكن الحكم بالتسوية بين مراسيلهم ومسانيد غيرهم؛ إذ من المحتمل أن يكون الواسطة من ثبت ضعفه عندنا. هذا ما أفاده

35

السيد الخوئي في المقام.

أقول: من الواضح أنّ الشهادة بأنّهم لا يروون إلا عمّن هو ثقة في الواقع غير معقولة إلا بنحو القضية الخارجية وعلى أساس الاستقراء التامّ؛ ومن البديهي أنّ الاستقراء بلحاظ المراسيل على الأقلّ غير معقول. وبهذه النكتة يصبح ظاهر قوله: «لا يروون، ولا يرسلون إلا عن ثقة» هو الوثاقة بنظر هؤلاء لا الوثاقة في الواقع. وأمّا أنّه هل تصحّ على هذا التسوية بين المراسيل والمسانيد أو لا، فهذا بحث علمي، ومن المعقول افتراض أنّهم اعتقدوا صحّة التسوية، وليس من الواضح عدم صحّتها كي لا نحتمل اعتقادهم بذلك، بل هناك وجه فنّي لصحّة التسوية قابل للبحث والنقاش، وهو أنّه حينما أرسل أحد هؤلاء الثلاثة روايةً فقد حصلت لنا شهادة بوثاقة الشخص المحذوف، واحتمال وجود التضعيف بشأنه وإن كان وارداً لكن هذا لا يعني عدا احتمال وجود المعارض لتلك الشهادة، والدليل لا يسقط بمجرّد احتمال وجود المعارض.

نعم، لو فرض نادراً أنّنا عرفنا في موردٍ ما إنّ أحدهم نقل عمّن كان يرى هو عدم ثبوت وثاقته فقد يتخيّل أنّ هذا يضرّ بتلك الشهادة.

والواقع أنّه حتى لو ثبت ذلك نادراً فإنّه لا يضرّ بالأمر.

توضيح ذلك: أنّه قد اتّضح ممّا سبق أنّ لاستفادة وثاقة المروي عنه من عبارة الشيخ (رحمه الله) أحد الطرق الثلاثة:

الأول: أن يفترض في أنّ تلك العبارة تدل على أنّ هؤلاء الثلاثة قد صرّحوا بأنّهم لا ينقلون إلا عن ثقة؛ إذ لا يمكن معرفة ذلك إلا بتصريحهم مثلاً، وعليه فقد حصلنا على شهادة من هؤلاء الثلاثة بوثاقة المروي عنه بعدد من رووا عنهم، وحينما تسقط بعض هذه الشهادات بثبوت الخطأ لا يستلزم ذلك سقوط باقي الشهادات، إلا أن

36

يكثر نقلهم عن الضعفاء ممّا يكشف عن عدم وجود شهادة من هذا القبيل، ولم تردنا كثرة نقلهم عن الضعفاء، والحمد للّه.

الثاني: أن يفترض أنّ نفس نقل أحدهم عن شخص شهادةٌ _ بمعونة سكوته عن قدحه _ على وثاقته باعتبار علمه بمعروفيّته بأنّه لا يروي إلا عن ثقة. وعلى هذا الفرض أيضاً توجد لدينا عدّة شهادات بعدد المروي عنهم، وسقوط بعضها لا يوجب سقوط الشهادات الأُخرى ما لم يكثر النقل عن الضعفاء ممّا يكشف عن عدم شهادة من هذا القبيل.

الثالث: أن يقتصر على مجرّد أنّ ظاهر حالهم كان يبعث على الاطمئنان باعتقادهم بوثاقة من يروون عنه، ومن الواضح أنّ هذا الاطمئنان لا يختلّ بمجرّد التخلّف في مورد نادر.

وقد اتّضح بما ذكرناه الجواب على الإشكال حتى لو فرض حمل قوله: «لا يروون إلا عن ثقة» على معنى الوثاقة الواقعيّة، فيرجع ذلك في الحقيقة إلى شهادة العلماء القدامى بوثاقة كلّ من روى عنه أحد الثلاثة، فإنّنا لو افترضنا أنّ هذه الشهادة ثبت خلافها في بعض الموارد فهذا لا يعني سقوط باقي شهاداتهم ما دام لم تبلغ موارد التخلّف من الكثرة إلى حدّ يستكشف منه عدم شهادة من هذا القبيل رأساً.

نعم، هذه الشهادة لن تفيدنا لتصحيح مراسيل هؤلاء الثلاثة؛ لأنّ شهادة الأصحاب بالوثاقة الواقعية لمن روى عنه أحد هؤلاء الثلاثة لا يمكن أن تقبل بالنسبة لمن لم يعرفوه، ولا يمكن أن تكون عن حسّ، والمفروض أنّ المروي عنه في المراسيل غير معروف.

ومن هنا ظهر أنّه لو أُريد جعل دعوى التسوية بين مراسيلهم ومسانيد غيرهم شاهدةً على شيء، فجعلها شاهدة على أنّ المقصود بالوثاقة في المقام هي الوثاقة عند

37

هؤلاء الثلاثة أولى من جعلها شاهدة على أنّ المقصود بها هي الوثاقة الواقعية.

بقي إشكال آخر قد يورد في المقام وهو أنّ نقل الشيخ لتسوية الأصحاب بين مراسيل هؤلاء الثلاثة ومسانيد غيرهم، وأنّهم عرفوا بأنّهم لا يروون إلا عن ثقة يشبه نقل الإجماع، فكما أنّ الإجماع المنقول غير حجّةٍ كذلك هذا النقل لا يكون حجّةً.

والجواب: أنّ نقل الإجماع ليس إلا نقلاً لآراء حدسية لا نستكشف من المقدار الذي نستحصله عن طريق النقل رأي الإمام، وهذا بخلاف معرفة الأصحاب الحسّية أو القريبة من الحسّ بأنّ هؤلاء الثلاثة لا يروون إلا عن ثقة.

مراسيل الثلاثة

هذا. ولا بأس بأن نبحث بالمناسبة في خاتمة هذا البحث حال مراسيل هؤلاء الثلاثة، فقد عرفنا حتى الآن أنّ الذي يروي عنه أحد الثلاثة لو لم يردنا بشأنه تضعيف نحكم بوثاقته.

أمّا إذا حذف اسم الرجل فقال مثلاً: «عن رجل عن الإمام» فقد يستشكل في توثيقه بأحد وجهين:

الأول: أنّ توثيقه بعموم أنّهم لا يروون إلا عن ثقة بعد أن عثرنا على نقلهم أحياناً من المجروحين، تمسّكٌ بالعامّ في الشبهة المصداقية؛ إذ إنّ ذاك الفرد المجروح قد خرج من تحت العامّ، ونحن نحتمل كون هذا الفرد المحذوف هو ذاك، فكيف يمكن التمسّك بعامّ من هذا القبيل؟!

الجواب: أوّلاً، إنّ مفردات موضوع هذا العام هي الروايات، لا الرواة؛ فالشهادة تقول: إنّ هؤلاء لا يروون رواية عن غير الثقة، فلو روى أحدهم رواية عن غير الثقة ثم روى رواية أُخرى عن نفس ذاك الشخص، فهذا يعني تخلّف فردين عن هذا

38

القرار العامّ، لا تخلّف فرد واحد.

وثانياً، إنّه حتى لو فرض أنّ مفردات الموضوع هي الرواة، فحينما نرى أحدهم روى عمّن ضُعّف فهذا لا يعني أنّ تضعيف من ضُعّف تخصيص للعام كي يأتي الكلام بأنّ فرض رواية أُخرى عنه هل هو تخصيص زائد يدفع بالعموم أو لا، وإنّما يعني أنّ تضعيف من ضُعّف شهادة معارضة لهذه الشهادة بالوثاقة؛ إذ ليس هذا تضعيفاً صادراً من نفس ابن أبي عمير مثلاً كاشفاً عن ضيق في مراده الجدّي عن العامّ، وإنّما هي شهادة معارضة من قبل شاهد آخر.

إذاً فالمورد هو مورد الشكّ في المعارض لا الشكّ في المصداقيّة لتخصيص ثابت.

الثاني: ما جعله في كتاب «مشايخ الثقات» للشيخ عرفانيان _ في كلام نسبه إلى أُستاذنا الشهيد (رحمه الله) _ ردّاً على الجوابين الماضيين عن الإشكال الأول، بينما هو يصلح إشكالاً مستقلّاً، ولا يصلح رداً على الجوابين، ولعلّ ذلك مسامحة في التعبير.

وحاصل هذا الوجه: هو أنّ أصالة عدم الاشتباه التي هي أحد جزئي معنى حجّيّة خبر الثقة _ إذ معناها نفي الكذب ونفي الاشتباه _ لا تجري في المقام بعد ما رأيناه في أخبار ابن أبي عمير مثلاً المسندة من أنّه روى أحياناً عن فلان الضعيف؛ إذ لو كان قد اعتقد اشتباهاً بوثاقة فلان، وكان الشخص المحذوف في الرواية المرسلة عبارة عن نفس هذا الشخص الضعيف لم يكن هذا اشتباهاً جديداً يُنفى بأصالة عدم الاشتباه(1).

والجواب على ذلك هو ما جاء أصله في نفس الكلام الذي نقله الشيخ عرفانيان عن أُستاذنا الشهيد (رحمه الله) نذكره هنا مع قليل من الفرق، وهو أنّ ندرة


(1) مشايخ الثقات، ص 42.

39

مشاهدتنا لرواية ابن أبي عمير مثلاً عمّن وصلنا تضعيفه تجعلنا نطمئنّ في كلّ رواية مرسلة له بأنّها ليست عن أولئك الذين وصلنا تضعيفهم، فمثلاً حينما لم نر في مشايخه من وصلنا تضعيفه إلا بمقدار واحد من المائة أو اثنين من المائة أصبح احتمال كون هذه الرواية المرسلة مرويّة عن ذاك عبارة عن واحد أو اثنين من المائة، بل سيكون أقلّ من ذاك:

أوّلاً، لاحتمال كونها مرويّة عن إنسان آخر غير أولئك المشايخ الذين عرفناهم، ولم يصلنا طبعاً تضعيف ذاك الإنسان المجهول اسمه لدينا.

وثانياً، لأنّ احتمال كون المحذوف هو أحد الأشخاص الذين كثرت روايات ابن أبي عمير عنهم _ وهم جملة من الثقات _ أقوى من احتمال كونه هو ذاك الضعيف الذي قلّت رواية ابن أبي عمير عنه.

وهذا الجواب يصلح جواباً للوجه الأول من الإشكال أيضاً.

إلا أنّ أُستاذنا الشهيد (رحمه الله) حسب نقل الشيخ عرفانيان أورد على ذلك: بأنّ هذا الجواب إنّما ݣݣݣيتمّ لو لم يكن هناك مقوٍّ لاحتمال كون هذه الرواية المرسلة مرويّة عن ذاك الضعيف يجعله أقوى من سائر البدائل المحتمله، ممّا قد يخلّ بحصول الاطمئنان، والمقوّي الذي يمكن دعوى وجوده في المقام هو نفس حذف اسم الوسيط؛ إذ يحتمل نشوء ذلك من درجة من عدم الاعتناء بالوسيط وعدم الوثوق به.

نعم، يستثنى من هذا الإشكال ما لو عبّر ابن أبي عمير مثلاً بتعبير: عن غير واحد، أو عن جماعة، أو عن رهط، ونحو ذلك، لا بتعبير: عن رجل، أو عن بعض أصحابه، ونحو ذلك؛ إذ هذا التعبير يتناسب مع الاهتمام لا مع عدم الاهتمام، بل في هذا الفرض يشتدّ الاطمئنان لبُعد كون كلّ المحذوفين العَرْضيّين _ وهم ثلاثة على الأقلّ _ من

40

أولئك الذين وصلنا ضعفهم(1).

أقول: إنّ هذا الإشكال غريب في المقام، فترك ذكر اسم الوسيط لا أعرف كيف ينشأ _ في احتمال معقول _ من عدم الوثوق به، وإنّما ينشأ عادةً من نسيانه، ولو لم يكن ناسياً له فعدم ذكره لعلّه أنسب بوثوقه من عدم وثوقه به؛ باعتبار أنّه لو لم يكن واثقاً به كان ينبغي له ذكره كي يتكفّل السامع بنفسه عِب‏ء الوثوق بالرواية أو عدم الوثوق بها.

هذا تمام الكلام في روايات الثلاثة مسنداً ومرسلاً.

وقد تحصل بذلك أنّ مقبولة عمر بن حنظلة في المقام تامّة سنداً.

دلالة الحديث

وأمّا دلالةً، فقد يقال: بأنّها لم تدل على أكثر من قاضي التحكيم حيث قال: «فليرضوا به حكماً، فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً»، فصحيح أنّ هذا نصب من قبل الإمام، لكنّه نصب لمن رضوا به حكماً؛ أي نصب بعد التحكيم، وقد قلنا: إنّ قاضي التحكيم أيضاً لابدّ من نصبه، إلا أنّ نصبه يكون في طول التحكيم، بينما كلامنا الآن في النصب العامّ من قبل المعصوم قبل التحكيم.

والجواب: أنّ (فاء) التعليل في قوله: «فإنّي قد جعلته حاكماً» الذي علّل به قوله:«فليرضوا به حكماً»، ظاهر عرفاً في أنّ النصب ثابت في الرتبة السابقة على التحكيم، فكأنّه يقول: هذا منصوب من قبلي حاكماً فتحاكموا إليه. وهذا هو القاضي المنصوب.

هذا، وقد يقال: إنّ هذا الحديث لا يفيدنا في زماننا؛ لأنّه إنّما دلّ على النصب من قبل الإمام الصادق (عليه السلام) بوصفه وليّاً للأمر فيختص بزمانه، أمّا في زماننا هذا فنحن


(1) مشايخ الثقات، ص 45.

41

بحاجة إلى النصب من قبل إمام العصر، أي يجب أن نرجع إلى التوقيع مثلاً لإثبات منصب القضاء للفقيه لا إلى المقبولة.

والجواب: أنّ ظاهر هذا الحديث بإطلاقه هو الجعل المستمر إلى أن ينسخ، والإمام المعصوم تكون ولايته شاملة لما بعد وفاته لإطلاق دليل ولايته، ولم يثبت نسخ هذا النصب من قبل إمام متأخّر.

هذا تمام الكلام في الحديث الثاني من أحاديث النصب.

الحديث الثالث: ما ورد عن أبي خديجة بسند تام عن الصادق (عليه السلام): «إيّاكم أن يحاكم بعضكم بعضاً إلى أهل الجور، ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضايانا فاجعلوه بينكم، فإنّي قد جعلته قاضياً فتحاكموا إليه»(1). وسيأتي إن شاء اللّه أنّ حمل هذا الحديث على قاضي التحكيم خلاف الظاهر.


(1) وسائل الشيعة، ج 18، ص4، الباب الأول من صفات القاضي، ح 5.