الأربعة الماضية، وإن استفدنا الملكية القهرية وحملنا كلّ الأنماط على أنّ التصرّف في اللقطة يكون على أساس التصرّف في الملك إذاً فبعد استثناء الجارية عن الملك قد يقال: إنّه لا يبقى دليل على جواز استخدامها.
قد يقال: إنّ النمط الأوّل من الروايات إنّما تندكّ في رواية الملكية القهرية بالنسبة لما لم يستثنَ منها، وأمّا الجارية التي استثنيت منها فالنمط الأوّل يبقى على حاله بالنسبة إليها في الدلالة على جواز الاستخدام.
ولكن الظاهر أنّ هذا الكلام غير عرفي، وأنّ العرف يجعل رواية الملكية القهرية قرينة على كون النمط الأوّل ناظراً إلى جواز التصرّف من حيث صيرورة اللقطة ملكاً، فبعد استثناء الجارية لا تبقى للنمط الأوّل دلالة على جواز استخدامها.
ولكن قد يقال في مقابل ذلك: إنّ نفس رواية استثناء الجارية دلّت على جواز بيعها في مقابل ما أنفق عليها، وهذا يدل بالأولويّة العرفيّة على جواز استخدامها في مقابل الإنفاق عليها، إلا أنّ هذا لا ينتج جواز الاستخدام أكثر ممّا يقابل الإنفاق. هذا.
ويؤيّد ما ذكرناه من الاستخدام في مقابل الإنفاق: ما ورد في اللقيطة المحكومة بالحرّية من الاستخدام لقاء الإنفاق من قبيل ما رواه الشيخ(1) بإسناده عن أحمد ابن محمد عن ابن محبوب عن محمد، ورواه الكليني(2) عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد عن ابن محبوب عن محمد بن أحمد قال: «سألت أبا عبدالله(علیه السلام)عن اللقيطة، قال: لا تباع ولا تشترى، ولكن استخدمها بما أنفقت عليها». وكلّ من السندين فيه عيب: أمّا عيب سند الشيخ ففي سنده إلى أحمد بن محمد، وأمّا عيب سند الكليني فهو أنّنا لم نعرف محمد بن أحمد الراوي عن أبي عبدالله(علیه السلام)من هو؟ نعم، قيل: إنّ في بعض نسخ الكافي اقتصر على ذكر محمد من دون توصيفه بكونه ابن أحمد،
(1) تهذيب الأحكام، ج7، ص78، باب اللقطة والضالة، ح49.
(2) الكافي، ج5، ص225، باب بيع اللقيط وولد الزنا، ح4.
ويؤيّده ما في التهذيب من ذكر محمد بلا هذا التوصيف، وحينئذٍ لا يبعد انصراف محمد إلى محمد بن مارد الذي له كتاب يرويه عنه ابن محبوب، ويرويه عن ابن محبوب أحمد بن محمد بن عيسى بلا واسطة حسب نقل النجاشي، وإن كان حسب نقل الشيخ يرويه عنه بواسطة ابن أبي عمير، ومحمد بن مارد ثقة.
هذا. وقد يستدلّ على استثناء الحيوان من الملك _ سواء فرض قهرياً أو اختيارياً _ ومن جواز الأكل بحديث وهب عن جعفر عن أبيه(علیه السلام)في حديث قال: «لا يأكل الضالّة إلا الضالّون»(1)، أو: «لا يأكل من الضالّة إلا الضالّون»(2)، بناءً على كون المقصود من الضالّة هو الحيوان، ولكن سند الحديث ضعيف.
ولو بنينا على حجّية الضعاف إذاً لابدّ من تخصيصه بالخبر الضعيف الذي مرّ عن جرّاح المدائني عن أبي عبدالله(علیه السلام)قال: «الضوالّ لا يأكلها إلا الضالّون إذا لم يعرّفوها»(3)، كما عرفت أنّ بعض الأخبار الصحاح أيضاً دلّ على جواز الأكل بعد التعريف، كما مضى من رواية علي بن جعفر حيث قال: «...فخذها وعرّفها حيث أصبتها، فإن عرفت فردّها إلى صاحبها، وإن لم تعرف فكلها وأنت ضامن لها...»(4).
۲_ لقطة الحرم
فيستفاد استثناؤها من الملك وحلّ التصرّف من بعض الروايات، من قبيل ما مضى من رواية إبراهيم بن عمر عن أبي عبدالله(علیه السلام)قال: «اللقطة لقطتان: لقطة الحرم وتعرّف سنة، فإن وجدت صاحبها وإلا تصدّقت بها، ولقطة غيرها تعرّف سنة فإن جاء صاحبها وإلا فهي كسبيل مالك»(5).
(1) وسائل الشيعة، ج25، ص440، الباب الأول من كتاب اللقطة، ح٥.
(2) المصدر السابق، ص440، ح7.
(3) المصدر السابق، ص442، الباب2 من كتاب اللقطة، ح٤.
(4) المصدر السابق، ص460، الباب13 من كتاب اللقطة، ح۷.
(5) الكافي، ج4، ص238، باب اللقطة الحرم من كتاب الحج، ح1.
ب _ التصدق باللقطة
أمّا التصدّق قد مضى في مستهلّ البحث أنّ حكم اللقطة بعد التعريف هو التملّك أو التصدّق أو الاحتفاظ بها كأمانة أو تسليمها إلى وليّ الأمر.
وأمّا التملّك فقد أشبعنا الكلام فيه، وعرفت أنّ المحتملات فيه ثلاثة: الملكية القهرية، والتملّك الاختياري، ومجرّد الإباحة في التصرّف، وعرفت أنّ مقتضى ظاهر بعض الروايات هو الملكية القهرية، فإن لم يساعد عليها العرف تنزّلنا إلى التملّك الاختياري.
وأمّا التصدّق فإن قلنا في ما مضى بإباحة التصرّف بالمعنى الشامل للتصّرف المُتلف ثبت بذلك جواز التصدّق؛ لأنّه قسم من أقسام التصرّف، ولم يكن التصدّق عدلاً لإباحة التصرّف. وإن قلنا في ما مضى بالتملّك الاختياري فهنا يعقل أن يكون التصدّق عدلاً له.
ويمكن إثبات جواز التصدّق حينئذٍ _ بغضّ النظر عن فرض ورود رواية خاصّة به تشمل لقطة غير الحرم _ بوجهين:
الأوّل: أن يستظهر من روايات التصدّق في لقطة الحرم واللقطة غير القابلة للتعريف جواز التصدّق حتّى في لقطة غير الحرم بعد التعريف، بدعوى أنّ العرف وإن كان يحتمل الخصوصية في لقطة الحرم وفي ما لا يقبل التعريف الموجِبة لوجوب التصدّق، لكنّه يتعدّى في أصل مشروعية التصدّق إلى لقطة غير الحرم بعد التعريف، ويحمل روايات التملّك على أنّها إرفاق بالملتقط في خصوص لقطة غير الحرم بعد التعريف، لا نفي لمشروعية التصدّق.
الثاني: أن يقال _ بغضّ النظر عن روايات التصدّق في لقطة الحرم وما لا يقبل التعريف _ أنّ نفس دليل جواز التملّك يدل بالأولويّة العرفيّة على جواز التصدّق.
وإن قلنا بأنّ المستفاد ممّا مضى هو الملكية القهرية فلا معنى لمشروعية التصدّق
مع فرض الملكية القهرية إلا بمعنى تصدّق الإنسان بما يملكه، وليس هذا هو المقصود قطعاً في التصدّق الذي يقال به في اللقطة، فهنا يجب أن نرى هل يوجد نصّ خاص يدل على مشروعيّة التصدّق في اللقطة غير النصوص الواردة في لقطة الحرم وما لا يقبل التعريف أو لا؟ فإن وجدنا نصاً من هذا القبيل وقع التعارض بينه وبين ما دلّ على الملكية القهرية.
ويمكن الجمع بينهما بوجهين:
أحدهما: حمل رواية التصدّق على استحباب التصدّق بما ملكه بالالتقاط والتعريف.
والثاني: حمل رواية الملك على الملكية الاختيارية. ولعلّ الثاني أوفق بالفهم العرفي.
فلنفحص لنرى هل يوجد نصّ من هذا القبيل أو لا؟
فنقول: إنّ روايات التصدّق على أقسام:
۱_ ما مضى في التصدّق بلقطة الحرم: وقد عرفت أنّ هذا لا يفيدنا في المقام في مقابل رواية الملكية القهرية في لقطة غير الحرم.
۲_ ما مضى في التصدّق بما لا يمكن تعريفه: وقد عرفت أنّ هذا لا يفيدنا في مقابل رواية الملكية القهرية بعد التعريف في ما يمكن تعريفه.
۳_ ما ورد في التصدّق بمال من مات ولم يعرف له وارث، كما ورد عن يونس عن نصر بن حبيب صاحب الخان «قال: كتبت إلى عبد صالح(علیه السلام): لقد وقعت عندي مائتا درهم وأربعة دراهم وأنا صاحب فندق ومات صاحبها ولم أعرف له ورثة، فرأيك في إعلامي حالها وما أصنع بها، فقد ضقت بها ذرعاً؟ فكتب: اعمل فيها وأخرجها صدقة قليلاً قليلاً حتّى يخرج»(1).
وقال الصدوق(رحمه الله) في ذيل الرواية الثانية لهشام بن سالم الماضية: «وقد روى في
(1) وسائل الشيعة، ج26، ص297، الباب6 من أبواب ميراث الخنثى، ح۳.
خبر آخر: إن لم تجد له وارثاً وعرف الله(وجل عز) منك الجهد فتصدّق بها»(1).
وكلتا الروايتين ساقطة سنداً، على أنّ احتمال الخصوصية في موردهما موجود، ولا يمكن التعدّي إلى مورد اللقطة.
نعم، لو حملنا روايات إعطاء مال من مات وليس له أحد لهمشاريجه(2) على التصدّق ففيها ما هو تام سنداً، فعن خلاد السندي بسند تام عن أبي عبدالله(علیه السلام)قال: «كان علي(علیه السلام)يقول في الرجل يموت ويترك مالاً وليس له أحد: اعط المال همشاريجه»(3).
ولكن احتمال الخصوصية هنا واضح جدّاً؛ فإنّ مال من لا وارث له للإمام أو لبيت مال المسلمين، وقد أمر الإمام بإعطائه لهمشاريجه، فكيف يمكن التعدّي منه إلى باب اللقطة؟!
على أنّه لو تمّت دلالة هذه الروايات على التصدّق في موردها ممّا ليس فيها تعريف فلا تصلح دليلاً على التصدّق في مقابل رواية الملكية القهرية بعد التعريف.
٤_ ما مضى من رواية إسحاق بن عمّار الآمرة بالتصدّق بالدراهم التي وجدت مدفونة في بعض بيوت مكة(4).
إلا أنّ هذا الحديث وارد في الكنز، وسواء اقتصرنا على مورده من الكنز في الحرم مثلاً أو تعدّينا إلى مطلق الكنز لا يصلح دليلاً على التصدّق في مقابل الملكية القهرية في اللقطة بعد التعريف.
٥_ ما دلّ على التصدّق بعد التعريف ثلاثة أيّام، وهو ما مضى من حديث أبان
(1) من لا يحضره الفقيه، ج4، ص331، باب میراث المفقود من كتاب الفرائض والمواريث، ح5711.
(2) «همشاريج» معرّب «همشهري» والمراد منها: أهل بلده.
(3) وسائل الشيعة، ج25، ص252، الباب4 من أبواب ولاء ضمان الجريرة والإمامة، ح۱.
(4) المصدر السابق، ص448، الباب5 من كتاب اللقطة، ح۳.
ابن تغلب في من أصاب ثلاثين ديناراً(1)، وما مضى أيضاً من حديث ابن أبي يعفور الحاكم بتصدّق الشاة الملتقطة بعد تعريفها ثلاثة أيام(2).
ولكن مضى أنّهما ضعيفان سنداً، على أنّهما لا يدل على التصدّق في مقابل الملكية القهرية بعد التعريف سنة.
٦_ ما دلّ على التصدّق بعد التعريف سنة؛ وذلك إمّا بالتقييد في متن الحديث بتعريف سنة أو إنّه غير مقيّد بذلك في متن الحديث ولكنّه يقيّد بروايات وجوب التعريف سنة. وقد وردت بهذا الشكل عدّة روايات:
۱_ ما رواه حسين بن كثير عن أبيه قال: «سأل رجل أمير المؤمنين(علیه السلام)عن اللقطة فقال: يعرّفها، فإن جاء صاحبها دفعها إليه وإلا حبسها حولاً، فإن لم يجئ صاحبها أو من يطلبها تصدّق بها، فإن جاء صاحبها بعد ما تصدّق بها إن شاء اغترمها الذي كانت عنده وكان الأجر له، وإن كره ذلك احتسبها والأجر له»(3).
ولعلّ ظاهر هذا الحديث أنّ التعريف لا يجب بمقدار سنة، بل يعرّفها ثم يحبسها عنده سنة بأمل أن يأتي صاحبها فيأخذها، ويمكن تقييده بروايات وجوب التعريف سنة. وعلى أيّ حال فهذا الحديث أمر بالتصدّق بعد انتهاء الحول، إلا أنّه ضعيف سنداً.
۲_ ما رواه حفص بن غياث قال: «سألت أبا عبدالله(علیه السلام)عن رجل من المسلمين أودعه رجل من اللصوص دراهم أو متاعاً واللصّ مسلم، هل يردّ عليه؟ فقال: لا يردّه، فإن أمكنه أن يردّه على أصحابه فعل، وإلا كان في يده بمنزلة اللقطة
(1) المصدر السابق، ص441، الباب2 من كتاب اللقطة، ح۷.
(2) المصدر السابق، ص459، الباب۱۳ من كتاب اللقطة، ح٦.
(3) المصدر السابق، ص442، الباب2 من كتاب اللقطة، ح۲
يصيبها فيعرّفها حولاً، فإن أصاب صاحبها ردّها عليه، وإلا تصدّق بها، فإن جاء طالبها بعد ذلك خيّره بين الأجر والغرم، فإن اختار الأجر فله الأجر، وإن اختار الغرم غرم له وكان الأجر له»(1). إلا أنّ سند الحديث ضعيف.
۳_ ما رواه علي بن جعفر عن أخيه(علیه السلام)قال: «وسألته عن الرجل يصيب اللقطة فيعرّفها سنة، ثم يتصدّق بها فيأتي صاحبها، ما حال الذي تصدّق بها؟ ولمن الأجر؟ هل عليه أن يردّ على صاحبها؟ أو قيمتها؟ قال: هو ضامن لها والأجر له إلا أن يرضى صاحبها فيدعها والأجر له»(2).
فهذه الرواية دالّة على جواز التصدّق باللقطة حيث فرض الراوي التصدّق وسأل ماذا يترتّب عليه؟ والإمام(علیه السلام)أقرّ ما فرض وأجاب على ما يترتّب عليه. وسندها تام.
إلا أنّه قد يقال: إنّ هذه الرواية إنّما تدل على جواز التصدّق كعِدل للملكية بناءً على كون التملّك في اللقطة اختيارياً، أمّا بناءً على استفادة الملكية القهرية من روايات امتلاك اللقطة فهذه الرواية لا تنهض لإثبات التصدّق كعِدل للملكية، فإنّ عدليته للملكية إنّما تتصوّر في ما لو لم يكن حصول الملكية قهراً وبلا اختيار، ولا تدل هذه الرواية على جواز التصدّق في مقابل الملك بحيث تعارض رواية الملكية القهرية أو توجب حمل روايات الملك على الملكية الاختيارية؛ وذلك لأنّ الحكم بالتصدّق لم يصدر ابتداءً من الإمام، بل الراوي فرض التصدّق وسأل عمّا يثبت بعده من ضمان أو أجر، والإمام(علیه السلام)لم يردع عن التصدّق، بل وتكلّم عمّا يثبت بعد التصدّق من ضمان أو أجر.
(1) وسائل الشيعة، ج25، ص463، الباب۱۸ من كتاب اللقطة، ح۱.
(2) المصدر السابق، ص445، الباب2 من كتاب اللقطة، ح۱٤.
وكلّ هذا كما ترى لا يثبت جواز التصدّق بملك المالك السابق الذي ضاع ماله في مقابل تملّكه، بل يحتمل أنّ هذا المال قد أصبح ملكاً قهرياً للملتقط، وأنّ الملتقط قد تصدّق بما هو ملكه والإمام(علیه السلام)حكم بضمانه وكون الأجر له إلا أن يرضى صاحب المال السابق فيتحوّل الأجر إليه، ولا ضمان على الملتقط حينئذٍ.
اللهمّ إلا أن يقال: إنّ المفهوم عرفاً من ثبوت أجر التصدّق لصاحب المال السابق على تقدير رضاه هو عدم حصول الملكية للملتقط، وإلا فقد كان المفروض ثبوت أجر تحوّل ماله إلى الملتقط له وتركه لمطالبته بالمال، لا ثبوت أجر التصدّق، فإنّ التصدّق لم يكن بماله، وإنّما كان بمال الملتقط.
ثم إنّ جواز التصدّق في مقابل الملك إن أثبتناه بفحوى دليل جواز التملّك فهو ثابت في الحيوان كما هو ثابت في غير الحيوان؛ وذلك لأنّنا قلنا بالملك في الحيوان أيضاً، والمقصود من الحيوان ما لا يشمل العبد والأمة، وإن أثبتناه بالنصّ، فإن كان للنصّ إطلاق يشمل الحيوان كما هو الحال في رواية حسين بن كثير عن أبيه الماضية(1) فلا كلام، وإن لم يكن له إطلاق كما هو الحال في رواية حفص بن غياث التي فهم فيها حكم اللقطة على أساس تنزيل الإمام ما أعطاه اللصّ بمنزلة اللقطة فهو لم يكن ابتداءً بصدد حكم اللقطة كي يستفاد منه الإطلاق.
وكرواية علي بن جعفر الماضية(2)حيث كان فيه التصدّق مفروضاً ومفروغاً عنه، فلا إطلاق بالنسبة إليه، فالظاهر أنّ العرف يتعدّى إلى الحيوان، ولا يتعقّل الفرق في التصدّق بين الحيوان وغيره.
هذا تمام الكلام في التصدّق.
(1) المصدر السابق، ص441، ح۲.
(2) المصدر السابق، ص445، ح۱٤.
ج _ الاحتفاظ باللقطة كأمانة
وهذا يمكن إثبات جوازه تارة بمقتضى القواعد، وأُخرى بالنصّ الخاص.
أمّا بمقتضى القواعد: فإمّا بأن يقال: إذا جاز التملّك فبالفحوى العرفيّة يجوز حفظها كأمانة، وإمّا بأن يقال: إنّ دليل التملّك لا يستفاد منه أكثر من الرخصة، ودليل التصدّق في غير لقطة الحرم وما لا يمكن تعريفه أيضاً لا يستفاد منه الوجوب، واحتمال كون جواز الالتقاط منوطاً بالتملّك أو التصدّق غير وارد؛ لما دلّت عليه بعض روايات الالتقاط من كون المناط في جواز الالتقاط هو الالتزام بالتعريف، وعند الشك في وجوب الجامع بين التملّك والتصدّق في مقابل الاحتفاظ كأمانة نجري البراءة عن الوجوب(1) وأصالة جواز الاحتفاظ كأمانة، فإذا احتفظ بها كأمانة وتلفت من دون تفريط لم يكن هناك دليل على الضمان.
إلا أنّ إثبات جواز الاحتفاظ باللقطة كأمانة بمقتضى القواعد يتوقّف على إثبات كون الملكية في اللقطة اختيارية لا قهرية، وإلا فلا معنى للاحتفاظ بها كأمانة، ويبقى ضامناً لو وجد بعد ذلك المالك الأصلي وكان المال تالفاً ولو بلا تفريط.
وأمّا بمقتضى النص الخاص: فلو ثبت حقاً نص خاص يدل على ذلك كان بنفسه دليلاً على عدم كون الملك قهرياً، فيحمل دليل الملك على الملك الاختياري. وما يمكن افتراضه نصّاً خاصّاً بهذا الصدد روايتان:
الأُولى: رواية علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر(علیه السلام): «وسألته عن الرجل يصيب اللقطة دراهم أو ثوباً أو دابّة، كيف يصنع؟ قال: يعرّفها سنة، فإن لم يعرف صاحبها حفظها في عرض ماله حتّى يجيء طالبها فيعطيها إياه، وإن مات أوصى
(1) قد يقال: إنّه لو لم يتملّك المال ولم يتصدّق به لم تصل النوبة إلى الاحتفاظ بالمال كأمانة إذا كان من الممكن إيصال المال إلى وليّ مالكه وهو الحاكم الشرعي، فالعمدة في إثبات جواز الابقاء كأمانة هي فحوى جواز التملّك.
بها، فإن أصابها شيء فهو ضامن»(1) هكذا رواه في الوسائل، ورواه أيضاً في الباب۲٠ من اللقطة(2) عن التهذيب(3) مع حذف كلمة «صاحبها»، وتبديل قوله: «فإن أصابها شيء فهو ضامن» بقوله: «وهو لها ضامن».
وجه الاستدلال بهذه الرواية هو حمل قوله: «حفظها في عرض ماله» على معنى حفظها كأمانة.
ويمكن المناقشة في هذا الاستدلال بعدّة وجوه:
الأوّل: إنّ كلمة «صاحبها» غير موجودة في الفقيه ولا في التهذيب، وعلى تقدير عدم وجود هذه الكلمة لا ندري كيف تقرأ كلمة «فإن لم يعرف»، هل بتخفيف الراء أو بتشديده؟
فإن كان بتخفيف الراء لم يختلف المعنى، فتكون معنى الرواية أنّه لو عرّفها سنة ولم يعرف صاحبها حفظها في عرض ماله. أمّا لو كان بتشديد الراء فيصبح المعنى أنّه لو لم يعرّف اللقطة وجب حفظها في عرض ماله حتّى يأتي صاحبها، وعلى هذا المعنى يسقط الحديث عن الدلالة على المقصود من حفظ المال كأمانة بعد تعريف سنة، ويصبح مفاد الحديث: أنّ التعريف غير واجب، فيجوز ترك التعريف شريطة أن يحتفظ بالمال كأمانة، فكأنّ التملّك والتصدّق هما حكم فرض التعريف، والحفظ كأمانة هو حكم فرض عدم التعريف.
قد يقال في قبال ذلك: إنّ أدلّة وجوب التعريف تصبح قرينة على أنّ كلمة «لم يعرف» هنا تكون بتخفيف الراء.
ولكن الصحيح أنّ الكلام المبيّن قد يصلح تفسيراً للكلام المجمل بعد تعيّن عبارة
(1) وسائل الشيعة، ج25، ص445، الباب2 من كتاب اللقطة، ح۱۳.
(2) المصدر السابق، ص446، ح2.
(3) تهذيب الأحكام، ج6، ص397، باب اللقطة والضالة، ح38
ذاك المجمل، أمّا إذا كان المجمل إنّما أصبح مجملاً بعدم تعيّن عبارته فعلى أحد الفرضين يكون معارضاً للمبيّن، فذاك المبيّن لا يستطيع أن ينفي ذلك الفرض، إلا إذا فرضنا العلم الإجمالي بأنّه إمّا ذاك المبيّن غير صحيح، أو أنّ ذاك الفرض غير واقع، ولكن ليس لنا في المقام علم إجمالي كذلك.
نعم، يبقى المبيّن على حجّيته؛ لعدم تيقّن ابتلائه بالمعارض ما لم يحقّق المجمل علماً إجماليّاً منجّزاً أحد طرفيه عبارة عن ابتلاء المبيّن بالمعارض، وتمام الكلام في ذلك موكول إلى علم الأصول.
ولا مخلص عن هذا الإشكال إلا فرض كون أدلّة وجوب التعريف مفيدة للاطمئنان بوجوب التعريف والاطمئنان بأنّ كلمة «لم يعرف» هنا بالتخفيف، وأمّا لو فرضنا الاطمئنان بوجوب التعريف مع عدم الاطمئنان بأنّ كلمة «لم يعرف» هنا بالتخفيف فالنتيجة هي سقوط هذه الرواية عن الحجّية.
وقد يقال: إنّ النقل الذي جاء فيه كلمة «صاحبها» باقٍ على حجّيته، فنتمسّك به، فإنّ النقل الذي حذف فيه كلمة «صاحبها» ليس فيه دلالة على خطاء النقل الذي فيه تلك الكلمة؛ إذ لا يدل على ذلك إلا على تقدير كون كلمة «يعرف» بالتشديد ولم يثبت، إذاً نبقى نتمسّك بحجّية النقل الذي فيه كلمة «صاحبها».
إلا أنّ هذا الكلام غير صحيح؛ لأنّ صاحب الوسائل نقل هذا الحديث مع كلمة «صاحبها» في الباب الثاني من اللقطة عن عبدالله بن جعفر في قرب الإسناد عن عبدالله بن الحسن عن جدّه علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر(علیه السلام)، وهذا السند ضعيف بعبدالله بن جعفر، وهو وإن ذكر أخيراً أنّه «رواه علي بن جعفر في كتابه» وهذا تام السند، لكنّنا لا ندري أنّ نسخة كتاب علي بن جعفر هل هي مشتملة على كلمة «صاحبها» أو لا؟ ويبدو أنّ صاحب الوسائل(رحمه الله) لم يكن يهتمّ بوجود هذه الكلمة وعدمها إلى حدّ يفهم من قوله: «رواه علي بن جعفر» أنّه رواه مع كلمة «صاحبها».
والدليل على ذلك: أنّه ذكر في ذيل نقله للحديث عن قرب الاسناد قوله: «ورواه الصدوق بإسناده عن علي بن جعفر مثله»، بينما نحن نعلم أنّ الصدوق(رحمه الله) رواه من دون هذه الكلمة كما نقل هو في الباب ۲٠ الحديث عن التهذيب من دون كلمة «صاحبها» وعقّبه أيضاً بقوله: «ورواه الصدوق بإسناد، عن علي بن جعفر».
الثاني: إنّ الموجود في نسخة الفقيه بدلاً عن قوله: «حفظها في عرض ماله» قوله: «جعلها في عرض ماله»(1)، وهذا لا يعطي معنى الأمانة بل يعطي معنى الملك أو الإباحة في التصرّف، ولم يثبت أنّ تعبير الإمام(علیه السلام)كان وفق نسخة التهذيب دون الفقيه.
هذا، وبناءً على نسخة الفقيه يتأكّد كون كلمة «لم يعرف» بالتخفيف؛ لوضوح عدم جواز التملّك أو التصرّف ابتداءً بلا تعريف.
الثالث: أنّه حتّى لو افترضنا أنّ التعبير الصادر من الإمام(علیه السلام)هو قوله: «حفظها في عرض ماله»، فهذا غير ظاهر في إرادة الحفظ كأمانة، ويحتمل إرادة الملك أو العارية.
هذا، وإذا كان بعض الرواة قد نقل بتعبير «حفظها في عرض ماله» وبعضهم نقل بتعبير «جعلها في عرض ماله» والثاني ظاهر في الملك أو العارية، والأوّل مجمل، فقد يكون الثاني مفسّراً للأوّل، أو يقال _ على الأقلّ _ : إنّ المجمل لا يعارض المبيّن، فيثبت أنّ المقصود هو الملك أو العارية، لا الأمانة.
الرابع: أنّنا لو غضضنا النظر عن كلّ ما مضى فالمزيّة المفروض ترتيبها على الحفظ كأمانة _ والتي لا تنحفظ في فرض التملّك أو التصدّق وهي عدم ضمان الملتقط إذا تلفت العين بلا تفريط _ لا تترتّب في المقام؛ وذلك لأنّ هذه الرواية بذيلها دالّة على الضمان حيث يقول: «وهو لها ضامن». ولعلّ هذا يؤيّد احتمال أنّ المقصود كان هو الملك أو العارية، لا الأمانة.
(1) من لا يحضره الفقيه، ج3، ص292، باب اللقطة والضالة من كتاب المعيشة، ح4049.
الثانية: رواية الهيثم بن أبي روح صاحب الخان قال: «كتبت إلى العبد الصالح(علیه السلام): إنّي أتقبّل الفنادق فينزل عندي الرجل فيموت فجأة ولا أعرفه ولا أعرف بلاده ولا ورثته فيبقى المال عندي، كيف أصنع به؟ ولمن ذلك المال؟ قال: اتركه على حاله»(1).
وقد ورد في نظير ذلك الحكم بأنّه كسبيل مالك، والحكم بالتصدّق، والحكم بأنّه للإمام، والحكم بإبقائه على حاله؛ وكأنّ المقصود منه حفظه أمانةً.
أمّا الأخير: فهو ما عرفت من رواية الهيثم.
وأمّا الثالث: فكما ورد عن الفضيل بن يسار عن أبي الحسن(علیه السلام)«في رجل كان في يده مال لرجل ميّت لا يعرف له وارثاً كيف يصنع بالمال؟ قال: ما أعرفك لمن هو يعني نفسه»(2). إلا أنّه ضعيف سنداً.
وأمّا الثاني: فكما مضى من رواية نصر بن حبيب صاحب الخان(3). وقد مضى أنّها ضعيفة سنداً.
وأمّا الأوّل: فكالروايات الماضية(4) وصدر الرواية الأُولى منها تدل أيضاً على التصدّق على المساكين، ويمكن استفادة جواز التصدّق على غير المساكين أيضاً بفحوى ما في ذيلها من جواز جعله كسبيل ماله، فإذا كان المال يجوز تملّكه أو الاستفادة منه ولا يجب حفظ عينه للمالك بدليل جواز التصدّق به على المساكين بضمان، إذاً فجواز التصدّق به على غير المساكين أولى من تملّكه.
هذا، والرواية الأخيرة من تلك الروايات المذكورة(5) يحتمل ورودها في الأجر الكلّي
(1) وسائل الشيعة، ج26، ص298، الباب6 من أبواب ميراث الخنثى، ح٤.
(2) المصدر السابق، ص301، ح۱۲، وص251، الباب3 من أبواب ولاء ضمان الجريرة، ح۱۳.
(3) المصدر السابق، ص297، الباب6 من أبواب ميراث الخنثى، ح۳.
(4) المصدر السابق، ص254، الباب4 من أبواب ولاء ضمان الجريرة والإمامة، ح۷، وص296، الباب6 من أبواب ميراث الخنثى، ح۱، وص 301، ح10.
(5) المصدر السابق، ص296، الباب6 من أبواب ميراث الخنثى، ح۱.
الباقي في الذمّة ويبدى احتمال الفرق بينه وبين العين الشخصية، ولكن تكفي الروايتان الأُوليان.
وعلى أيّ حال فمقتضى الجمع بين روايات التملّك أو إباحة التصرّف ورواية الحفظ كأمانة هو التخيير بينهما وأنّ الملك ليس قهريّاً. فلئن لم يمكن التعدّي _ في مسألة الملك _ من مورد هذه الروايات إلى مورد اللقطة لاحتمال الخصوصية _ لما مضى من أنّ من المحتمل كون نفس الالتقاط مثقّلاً للتكليف على الملتقط _ فلا يبعد صحّة التعدّي بلحاظ مسألة الحفظ أمانةً، لكنّ هذا التعدّي مشروط بأن نقول بعدم قهرية الملك في اللقطة، فنفس هذه الرواية _ وهي رواية الهيثم بن أبي روح(1)_ لا تصلح دليلاً على عدم كون الملك في اللقطة بعد التعريف سنة قهريّاً، مضافاً إلى كونها ساقطة بضعف السند.
ثم إنّه لا فرق في مسألة حفظ اللقطة كأمانة بين الحيوان وغيره؛ إذ لو أثبتنا ذلك بمقتضى القاعدة فهو جار في الحيوان أيضاً، ولو أثبتنا ذلك بالرواية الأُولى من الروايتين اللتين أوردناهما بصدد إثبات هذا الحكم ففيها التصريح بذكر الدابّة، ولو أثبتنا ذلك بالرواية الثانية فالظاهر إطلاق كلمة «المال» فيها للحيوان، ولا أقلّ من عدم احتمال الفرق عرفاً.
هذا كلّه في حفظ اللقطة كأمانة بعد التعريف في غير الحرم، وقد عرفت أنّه لم يتمّ في ذلك دليل خاص، وإنّما يمكن إثبات جوازه بمقتضى القواعد لو لم نستظهر من أدلّة الملكية الملكية القهرية.
يبقى الكلام في أنّه هل يجوز حفظ لقطة الحرم كأمانة بعد التعريف أو يجب التصدّق بها؟ وهل يجوز حفظ اللقطة التي لا يمكن تعريفها كأمانة أو يجب التصدّق بها؟
(1) المصدر السابق، ص298، ح٤.
أمّا الثاني: فإضافةً إلى ظهور الأمر الوارد فيه بالتصدّق في الوجوب يمكن القول بأنّ جواز الالتقاط والتسيطر على مال الغير خلاف القاعدة الأوّلية، والقدر المتيقّن الذي ثبت جوازه هو فرض تعقّبه بالتصدّق، أمّا فرض إبقائه كأمانة خاصّة مع فرض اليأس عن تحصيل المالك ممّا يجعل الإبقاء كأمانة لغواً وبلا فائدة متصوّرة، فلم يعرف كونه مجوّزاً للالتقاط.
وأمّا الأوّل: فلا يبعد القول فيه أيضاً بوجوب التصدّق؛ لظهور مثل قوله في لقطة الحرم: «تعرّف سنة، فإن وجدت صاحبها وإلا تصدّقت بها»(1)في الوجوب.
هذا تمام الكلام في حفظ اللقطة كأمانة.
د _ تسليم اللقطة إلی ولي الأمر
وأمّا تسليمها إلى وليّ الأمر باعتباره وليّاً على المالك:
فقد يقال: بعد أن عمل الملتقط بوظيفته الواجبة عليه _ وهي الفحص سنة _ يجوز له أن يسلّم اللقطة إلى الحاكم الشرعي بمقتضى القاعدة وبلا حاجة إلى نصّ خاص؛ وذلك لأنّ الحاكم وليّ الغائب، وقد كان المترقّب أن يكون الحكم بالإيصال إلى الحاكم من أوّل زمان الالتقاط، وأن يكون الحكم إيجابياً، لا كعدلٍ للتملّك والتصدّق والحفظ كأمانة؛ فإنّ على اليد تسليم ما أخذت إلى مالكه أو وليّ المالك، ولكن حيث ثبت وجوب التعريف سنة بالنصّ خالفنا مقتضى القاعدة الذي هو عبارة عن كون الحكم بالإيصال إلى وليّ المالك من أوّل زمان الالتقاط، وحيث ثبت جواز التملّك والتصدّق بعد التعريف سنة بالنصّ خالفنا مقتضى القاعدة الذي هو عبارة عن كون الحكم بالإيصال إلی الوليّ وجوبيّاً، بقي جواز التسليم إلى الوليّ بعد انتهاء السنة فهذا ثابت بمقتضى القواعد؛ بداهة أنّ التسليم إلى وليّ المالك يعدّ بمنزلة التسليم إلى
(1) وسائل الشيعة، ج13، ص260، الباب۲۸ من أبواب مقدّمات الطواف، ح٤.
المالك، فهو مُخرِج للملتقط عن العهدة. ودليل التملّك أو التصدّق لا يمنع عن جواز ذلك وإن منع عن وجوبه؛ وذلك لأنّه لم يكن المستفاد منهما وجوب التملّك أو التصدّق؛ ولذا جوّزنا الحفظ كأمانة.
نعم، في لقطة الحرم وفي اللقطة التي لا يمكن تعريفها قد يقال بعدم جواز تسليم المال إلى الحاكم؛ وذلك لأنّنا استظهرنا من دليل التصدّق فيهما وجوبه، فإذا وجب على نفس الملتقط التصدّق بدليل خاص لم يبق مورد لتسليم المال إلى الحاكم.
هذا، وكما أشرنا يترتّب على تسليم المال إلى الحاكم خروج الملتقط من الضمان؛ لأنّ تسليم المال إلى وليّ المالك بمنزلة تسليمه إلى المالك، فمقتضى القاعدة خروجه عن عهدة المال.
هذا غاية ما يمكن أن يقال في مقام إثبات كون التسليم إلى وليّ المالك عدلاً للتملّك والتصدّق والحفظ كأمانة بعد سنة.
وفي مقابل هذا:
تارةً ينكر كون مقتضى القاعدة في المقام جواز التسليم إلى الحاكم الشرعي.
وأُخرى يقال بأنّ التسليم إلى وليّ المالك ليس عدلاً للتملّك والتصدّق والحفظ كأمانة بأن يثبت التخيير بعد التعريف سنة بين أُمور أربعة أحدها التسليم إلى وليّ المالك، بل هو جائز من أوّل الأمر وقبل التعريف، وجائز أيضاً في لقطة الحرم واللقطة التي لا يمكن تعريفها.
وثالثةً يقال بأنّ التسليم إلى وليّ الأمر جائز من أوّل الأمر لا بما هو وليّ المالك ويحفظ مصالح المالك، بل لأنّ المال المجهول المالك عائد إلى وليّ الأمر يصنع به ما يريد.
أمّا الأوّل _ وهو إنكار كون مقتضى القاعدة جواز التسليم إلى الحاكم فالمستند في ذلك إمّا هو دعوى كون الملكية بعد التعريف قهرية فلا موضوع للتسليم إلى وليّ المالك، أو هو إنكار الصغرى؛ أعني ولاية الحاكم على الغائب _ طبعاً في غير المعصوم
الذي هو خارج عن محلّ البحث، ويجوز تسليم كلّ شيء إليه؛ فإنّه أولى بالمؤمنين من أنفسهم _ أو هو دعوى أنّ أدلّة اللقطة بعد أن عيّنت الوظائف تجاه المال الملتقط بشأن الملتقِط لم يبقَ مجال لإعمال الوليّ ولايته.
أمّا دعوى كون الملكية بعد التعريف قهرية فقد مضى الكلام فيها في ما سبق، فمن يستظهر ذلك لا يبقى هنا لديه موضوع للتسليم إلى وليّ المالك. ومن يستظهر كون الملكية اختيارية يبقى لديه مجال لذلك.
وأمّا إنكار الصغرى فهو إمّا على أساس إنكار ولاية الفقيه، أو على أساس التشكيك في دائرة ولايته، ومجال بحثه المفصّل ليس هنا. وسنتعرّض لشيء من ذلك في نهاية البحث إن شاء الله.
وأمّا دعوى أنّ تعيين الوظائف تجاه اللقطة في الروايات لم يُبقِ مجالاً لإعمال الوليّ ولايته فجوابه اتّضح ممّا سبق؛ فإنّه بعد أن فرض عدم استظهار الوجوب من دليل التملّك والتصدّق لا يفهم عرفاً من دليلهما إبطال العمل بما هو ثابت بإطلاق دليل الولاية من أنّ الوليّ قائم مقام المولّى عليه وأن دفع المال إليه كدفعه إلى المالك مُخرج للشخص من عهدة المال.
وأمّا الثاني _ وهو دعوى جواز تسليم المال إلى وليّ الأمر من أوّل الأمر بما هو وليّ للمالك يلحظ مصالح المالك بلا حاجة إلى التعريف في ما يعرّف ولا إلى التصدّق في ما لا يعرّف ولا في لقطة الحرم، فغاية ما يمكن أن يقال في وجهه: إنّه مع إمكانية إيصال المال إلى وليّ المالك الذي هو بمنزلة إيصاله إلى المالك لا يفهم العرف من الأمر بالتعريف أو التصدّق إيجاب التعريف أو التصدّق تعيينيّاً في مقابل الإيصال إلى وليّ المالك، بل يفهم بمناسبات الحكم والموضوع كونه عِدلاً لإيصال المال إلى وليّ المالك سنخ أنّ الأمر عند توهّم الحظر يفيد الإباحة لا الوجوب.
والصحيح أنّ ظاهر تلك الأدلّة بمناسبات الحكم والموضوع ينحلّ إلى أمرين:
أحدهما: تعيين الإجراء الذي يجب أن يتّخذ بإزاء هذا المال بحيث حتّى لو أنّ الوليّ أخذ هذا المال كان الإجراء الذي لابدّ أن يتّخذه هو التعريف أو التصدّق، والثاني: أنّ الملتقط هو الذي قد انشغلت عهدته بهذا الإجراء لأجل ما صنعه من وضع يده على هذا المال، فيجب عليه: إمّا أن يقوم هو بهذا الإجراء، أو يسلّم المال إلى من يثق بأنّه يقوم به، أو يثبت له _ ولو ثبوتاً تعبّديّاً _ قيام شخصٍ ما بهذا الإجراء.
وما مضى من استظهار العِدلية لإيصال المال إلى وليّ المالك لو تمّ فإنّما هو في مقابل الظهور الثاني، فهو الذي يكون من سنخ الأمر عند توّهم الحظر لا الأوّل، أي أنّ أصل التعريف أو التصدّق لابدّ من تحقّقه، ولكن يجوز للملتقط أن يعتمد على الوليّ بتسليم المال إليه ما دام يحتمل أنّه سيقوم الوليّ بالإجراء اللازم، ولا تبعد صحّة هذا الاستظهار.
وأمّا الثالث: وهو دعوى جواز تسليم اللقطة إلى وليّ الأمر من أوّل الأمر لا بما هو وليّ للمالك يراعي ما ينبغي من إجراء بشأن مال المالك، بل باعتباره هو صاحب الأموال المجهولة المالك وأنّ كلّ ما مضى من الأمر بالتصدّق أو إباحة التملّك أو إيجاب التعريف إنّما هي أوامر وردت من قبل المالك وهو الإمام(علیه السلام)لا أحكام شرعية ذكرها الإمام باعتباره أميناً على الأحكام، من دون فرق في ذلك بين الحيوان وغيره، فيمكن الاستدلال عليها بعدّة روايات:
۱_ ما مضى عن الفضيل بن يسار عن أبي الحسن(علیه السلام)«في رجل كان في يده مال لرجل ميّت لا يعرف له وارثاً كيف يصنع بالمال؟ قال: ما أعرفك لمن هو، يعني نفسه»(1)، فإذا ثبت بهذا الحديث أنّ مجهول المالك للإمام كان في زمن الغيبة أمره بيد نائبه وهو الفقيه.
(1) وسائل الشيعة، ج26، ص301، الباب6 من أبواب ميراث الخنثى، ح۱۲، وص251، الباب3 من أبواب ولاء ضمان الجريرة، ح۱۳
إلا أنّ احتمال الخصوصية في ذلك وارد، أوّلاً: لأنّ في مورد الحديث يوجد احتمال كون المال لميّت بلا وارث، ولعلّ هذا الاحتمال دخيل في الحكم بكونه للإمام.
وثانياً: لأنّه في المورد لم يكن التقاط وإمكانية التعريف، فلعلّ الالتقاط في مورد يجوّز تملّك اللقطة ولو بعد الفحص يعطي للملتقط أولويّة بالنسبة للمال تمنع عن دخوله في ملك الإمام، ولعلّ إمكانية التعريف واحتمال الوصول إلى المالك يوجبان عدم دخول المال في ملك الإمام. وعلى أيّ حال فالحديث ضعيف السند.
۲_ رواية الشيخ بسنده إلى علي بن مهزيار عن محمد بن رجاء الخيّاط قال: «كتبت إليه: إنّي كنت في المسجد الحرام، فرأيت ديناراً فأهويت إليه لآخذه فإذا أنا بآخر، ثم بحثت الحصى فإذا أنا بثالث فأخذتها فعرّفتها فلم يعرفها أحد، فما تأمرني في ذلك جعلت فداك؟ قال: فكتب إليّ: قد فهمت ما ذكرت من أمر الدينارين تحت ذكري موضع الدينارين، ثم كتب تحت قصّة الثالث: فإن كنت محتاجاً فتصدّق بالثالث، وإن كنت غنيّاً فتصدّق بالكلّ»(1).
ورواه الصدوق بإسناده عن محمد بن عيسى عن محمد بن رجاء الخيّاط قال: «كتبت إلى الطيّب(علیه السلام)»(2)، وذكر نحوه.
ورواه الكليني عن محمد بن يحيى عن محمد بن أحمد عن محمد بن عيسى عن محمد بن رجاء الأرجاني قال: «كتبت إلى الطيّب(علیه السلام): إنّي كنت في المسجد الحرام، فرأيت ديناراً فأهويت إليه لآخذه، فإذا أنا بآخر، ثم بحثت الحصى فإذا أنا بثالث فأخذتها، فعرّفتها فلم يعرفها أحد فما ترى في ذلك؟ فكتب: فهمت ما ذكرت من أمر الدنانير، فإن كنت محتاجاً فتصدّق بثلثها، وإن كنت غنيّاً فتصدّق بالكلّ»(3).
(1) تهذيب الأحكام، ج6، ص395، باب اللقطة والضالة، ح28.
(2) من لا يحضره الفقيه، ج3، ص293، باب اللقطة والضالة من کتاب المعيشة، ح4051.
(3) الكافي، ج8، ص145، باب لقطة الحرم من كتاب الحج، ح4.
وتقريب الاستدلال بهذا الحديث هو أن يقال: إنّ المفهوم عرفاً من قوله: «فعرّفتها فلم يعرفها أحد» ليس هو التعريف سنة، وإنّما هو ما يتمّ به مسمّى التعريف ولو لمرّة واحدة، فجوابه(علیه السلام)يخالف فرض وجوب التعريف سنة، ويخالف أيضاً فرض وجوب التصدّق بلقطة الحرم، حيث اكتفى هنا بالتصدّق بالثلث في فرض الاحتياج، ولا محمل لذلك إلا فرض كون أمر اللقطة راجعاً إلى الإمام(علیه السلام)، فهو(علیه السلام)_ بشكل عامّ _ قد أمر بالتعريف والتصدّق بلقطة الحرم لكنّه سمح للسائل في قصّته بترك التعريف سنة وبالاكتفاء بالتصدّق بالثلث إذا كان محتاجاً.
إلا أنّه قد يقال: إنّ بالإمكان الجمع بين هذه الرواية وباقي الروايات بوجه آخر، وهو أن يقال: إنّ دلالة هذه الرواية على عدم اشتراط التعريف سنة ليس إلا بظهورٍ يمكن رفع اليد عنه بتصريح الروايات الأُخرى بلزوم التعريف سنة، وأمّا تجويزه للاكتفاء بالتصدّق بقسم من المال عند الاحتياج فليكن مقيّداً لإطلاق دليل التصدّق.
ولو لم يتمّ هذا الجمع فلعلّنا نقول بالتعارض لا بالحمل على كون أمر اللقطة متروكاً للإمام. وعلى أيّ حال فالحديث ساقط سنداً.
۳_ ما مضى عن داود بن أبي يزيد عن أبي عبدالله(علیه السلام)، قال: «قال رجل: إنّي قد أصبت مالاً، وإنّي قد خفت فيه على نفسي، ولو أصبت صاحبه دفعته إليه وتخلّصت منه؟ قال: فقال أبو عبدالله: والله إن لو أصبته كنت تدفعه إليه؟، قال: إي والله، قال: فأنا والله، ما له صاحب غيري، قال: فاستحلفه أن يدفعه إلى من يأمره، قال: فحلف، فقال: فاذهب فاقسمه في إخوانك ولك الأمن ممّا خفت منه، قال: فقسمته بين إخواني»(1).
فقد يقال: إنّ الحديث مطلق _ ولو بملاك ترك الاستفصال _ يشمل فرض كون المال الذي أصابه لقطة.
(1) وسائل الشيعة، ج25، ص450، الباب7 من كتاب اللقطة، ح۱.
إلا أنّ الصحيح أنّ قوله: «قد أصبت مالاً» لو جزمنا بظهوره في الجامع بين الالتقاط وغيره تمّ ما ذكر من الإطلاق، إمّا على أساس مقدّمات الحكمة لو كان سؤاله بنحو القضيّة الحقيقية، أو على أساس ترك الاستفصال لو كان سؤاله راجعاً إلى واقعة شخصية.
أمّا إذا قلنا: إنّ السؤال بعد أن كان عن واقعة شخصية فقوله: «أصبت مالاً» له ظهور في غير الالتقاط، أو مجمل على الأقلّ؛ إذ لو كانت واقعته الشخصية عبارة عن الالتقاط لكان المناسب جدّاً أن يقول مثلاً: «إنّي أصبت لقطة»، ولا أقلّ من احتمال الإجمال، فلا يتمّ الإطلاق بمقدّمات الحكمة ولا بملاك ترك الاستفصال، أمّا عدم تماميّته بمقدّمات الحكمة فواضح، وأمّا عدم تماميّته بملاك ترك الاستفصال؛ فلأنّ الحقّ المحقّق في محلّه أنّ إجمال السؤال يسري إلى الجواب، لا أنّ الجواب يكتسب الإطلاق في مورد إجمال السؤال بملاك ترك الاستفصال، كما ولعلّ ظاهر تحيّره وخوفه على نفسه وأنّه لو أصاب صاحبه لدفعه إليه أنّه لم يكن يمكنه التعريف؛ وإلا لكان في مثل هذه الحالة يباشر التعريف، ولا أقلّ من الإجمال من هذه الناحية أيضاً.
إذاً فالقدر المتيقّن من هذا الحديث هو أنّ المال المجهول المالك غير اللقطة وغير ما يمكن تعريفه للإمام، وعليه فيحمل ما ورد من الأمر بالتصدّق في مجهول المالك غير اللقطة وغير ما يمكن تعريفه، وهو حديث يونس بن عبدالرحمان الماضي(1)، على أنّه(علیه السلام)أمر بالتصدّق بما هو راجع له، وليس بياناً لكون الحكم الشرعي هو التصدّق، فيسقط ما مضى من استدلالنا به _ بناءً على التعدّي من مورده _ على كون حكم اللقطة غير القابلة للتعريف هو التصدّق.
(1) وسائل الشيعة، ج25، ص450، الباب7 من كتاب اللقطة، ح۲.
هذا، وقد يقبل بالإجمال الثاني(1) أو ظهوره في ما لا يمكن تعريفه، ولا يقبل بالإجمال الأوّل أو ظهوره في غير اللقطة، فيتمّ الإطلاق بملاك ترك الاستفصال بلحاظ كون مجهول المالك لقطة أو غير لقطة، ولكن لا يتمّ الإطلاق بلحاظ إمكانية التعريف وعدمه، فالقدر المتيقّن هو مجهول المالك الذي لا يمكن تعريفه فهو للإمام، فإمّا أن يحمل ما مضى من رواية زرارة _ «سألت أبا جعفر(علیه السلام)عن اللقطة، فأراني خاتماً في يده من فضّة، قال: إنّ هذا ممّا جاء به السيل، وأنا أُريد أن أتصدّق به»(2)_ على أنّه(علیه السلام)يسمح بالتصدّق باللقطة التي لا يمكن تعريفها بما هو مالك لها لا أنّ حكمها الشرعي هو التصدّق، وإمّا أن يقال: إنّ رواية داود بن يزيد إنّما دلّت على كون اللقطة التي لا يمكن تعريفها للإمام بالإطلاق بملاك ترك الاستفصال، بينما رواية زرارة ظاهرة في كون الحكم الشرعي للّقطة التي لا يمكن تعريفها هو التصدّق، فيقيّد بها إطلاق رواية داود بن يزيد بناءً على مبنى أنّه عند تعارض المطلق والمقيّد لا يسمح بتوجيه المقيّد وحمله على غير ظاهره، بل يقيّد المطلق بالمقيّد.
هذا، لو لم نقل بأنّه مع عدم إمكانية تعريف اللقطة يكون التفصيل بينها وبين مجهول المالك الذي لا يمكن تعريفه _ بأن يكون الثاني للإمام دون الأوّل _ غير عرفيّ، وإلا فحتّى لو افترضنا عدم الإطلاق في رواية داود يثبت أنّ اللقطة غير القابلة للتعريف للإمام، وتحمل رواية زرارة على سماح الإمام بالتصدّق بها بوصفه مالكاً لا على أنّ حكمها الشرعي هو التصدّق.
وإذا أردت استيعاب الكلام بشكل أوضح في ما يرجع إلى الإمام من أقسام
(1) وقد يقال: إنّ الإجمال الثاني يولّد الإجمال الأوّل أو يؤكّده؛ لأنّ عدم إمكانية التعريف _ الذي هو محتمل على أساس الإجمال الثاني _ يناسب كون المال في مورد الحديث غير لقطة؛ لأنّ اللقطة الغالب فيها إمكانية التعريف، ومجهول المالك غير اللقطة الغالب فيه عدم إمكانية التعريف.
(2) وسائل الشيعة، ج25، ص451، الباب7 من كتاب اللقطة، ح۳.
مجهول المالك قلنا: إنّ مجهول المالك على أقسام:
۱_ ما ليس لقطة ولا يمكن تعريفه.
۲_ ما تكون لقطة ولا يمكن تعريفها.
۳_ ما تكون لقطة ويمكن تعريفها، لكن لا يجوز تملّكها بعد التعريف؛ لأنّها لقطة الحرم.
٤_ ما تكون لقطة ويمكن تعريفها ويجوز تملّكها بعد التعريف.
٥_ ما ليس لقطة ويمكن تعريفه.
أمّا القسم الأوّل: فهو القدر المتيقّن ممّا دلّت رواية داود على أنّه للإمام.
وأمّا القسم الثاني: فإمّا أنّه داخل أيضاً في القدر المتيقّن أو لا يبعد التعدّي إليه عرفاً.
وأمّا القسم الثالث: فهو غير داخل في القدر المتيقّن من رواية داود حتماً، ولكن لا يبعد التعدّي عرفاً إليه بعد انتهاء التعريف، فإنّ ما يحتمل عرفاً منعه عن صيرورة مجهول المالك ملكاً للإمام وكونه موجباً للتفريق في الحكم عن مورد رواية داود هو أحد أمرين: إمّا إمكانية التعريف وأمل الحصول على المالك فلا يصبح ملكاً للإمام؛ وذلك حفاظاً على حقّ المالك. وإمّا حقّ الملتقط باعتباره قد عمل بوظيفة التعريف وتحمّل عبئه، فأصبح مستأهلاً لحقّ التملّك، فلا يصبح ملكاً للإمام؛ حفاظاً على حقّ الملتقط.
والأمر الثاني غير موجود في هذا القسم، والأمر الأوّل غير موجود أيضاً بعد التعريف.
وأمّا القسم الرابع: فقبل التعريف يوجد فيه الأمر الأوّل من الأمرين اللذين أشرنا إليهما، وبعد التعريف يوجد فيه الأمر الثاني، فلا يمكن التعدّي من مورد رواية داود إليه.
وأمّا القسم الخامس: فهو أيضاً خارج عن القدر المتيقّن من مورد رواية داود، واحتمال الفرق موجود على الأقلّ؛ لإمكانية التعريف وأمل الحصول على المالك، كما أنّه خارج أيضاً عن دليل وجوب التعريف؛ فإنّه ورد في اللقطة، ونحن نحتمل أنّ الالتقاط هو الذي أثقل عليه المسؤولية وحمّله الفحص.
والظاهر أنّه لابدّ من الرجوع في هذا القسم _ وهو مجهول المالك الذي يمكن تعريفه وليس لقطة _ إلى مقتضى القاعدة من وجوب إيصال المال إلى وليّ المالك أو مراجعته فيه وهو الفقيه، وعلى الفقيه بعد تقبّله للمال أن يقوم بالدور الذي يقوم به الوليّ تجاه المولّى عليه من مراعاة مصالحه، فعليه أن يفحص عن المالك إلى حصول اليأس، وبعده يلحقه حكم مجهول المالك غير اللقطة الذي لا يمكن التعريف عنه؛ أي: أنّه يلحق حكماً بمورد رواية داود؛ إذ لا يخلو الأمر ثبوتاً من أحد فرضين:
الأوّل: أن يجوز له كشخص أن يتملّكه؛ إلحاقاً له باللقطة.
والثاني: أن لا يجوز له ذلك.
وعلى الثاني لا يبقى احتمال الفرق عرفاً بينه وبين مجهول المالك غير اللقطة الذي لم يكن يمكن تعريفه من أوّل الأمر، فهو ملك للإمام، وبما أنّ دليل جواز تملّك اللقطة لا يشمل هذا الذي ليس لقطة، فالقدر المتيقّن ممّا يُخرج هذا الفقيه عن عهدة المال أو أيّ إنسان استولى على هذا المال عن عهدته هو التعامل معه معاملة ملك الإمام(علیه السلام).
ثم إنّ أدلّة أحكام اللقطة تقصر أحياناً عن تعيين الوظيفة، فمثلاً لو كانت اللقطة طعاماً لا يقبل البقاء حتّى يمكن الفحص عن مالكه فأدلّة اللقطة قاصرة عن حكم ذلك بعد ضعف سند رواية السكوني(1) ومرسلة الصدوق(2) الماضيتين. ومقتضى القاعدة في مثل ذلك الرجوع إلى وليّ المالك واتخاذ الوليّ الموقف الذي يكون في صالح المولّى عليه، كأن يجيز في أكل الطعام مع الضمان.
أمّا في الموارد التي لا قصور لروايات اللقطة عن بيان حكمها فالظاهر عدم وجوب مراجعة الفقيه فيها واستئذانه.
(1) وسائل الشيعة، ج25، ص468، الباب۲۳ من كتاب اللقطة، ح۱.
(2) من لا يحضره الفقيه، ج3، ص297، باب اللقطة والضالة من کتاب المعيشة، ح4046.
استدراك البحث في مسألة ولاية الفقيه والشوری
وبما أنّه انتهی بحثنا إلی ولاية الفقيه لا بأس بتعرض إجمالي لولاية الفقيه بهدف استدراك بعض النكات التي فاتتنا في كتابنا «أساس الحكومة الإسلامية»، كما أنّه لا بأس بالتعرض لما قد يدّعی من ولاية الشوری والتي قد تفترض بديلاً عن ولاية الفقيه، فلا يتم البحث عن ولاية الفقيه إلا بالبحث عن ولاية الشوری وتضعيفها أو تصحيحها وملاحظة النسبة بينها وبين ولاية الفقيه، وتعرضنا لولاية الشوری أيضاً يكون بمقدار استدراك بعض النكات الفائتة في كتابنا «أساس الحكومة الإسلامية»، إذاً فهذا البحث بكلا جانبيه ليس بحثاً تاماً في نفسه بل هو تكملة لأبحاثنا في الكتاب(1).
أما ولاية الشوری فخير دليل عليها هو قوله تعالی: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَیٰ بَیْنَهُمْ﴾(2) وقد وقعت هذه الجملة ضمن آيات تعدّ جملة من صفات جماعة يكون ما عندالله خيراً وأبقی لهم، أولاها صفة الإيمان، والواقع أنّ الاستدلال بهذه الآية علی ولاية الشوری _ بعد وضوح أنّ الوظيفة في زمن المعصوم(علیه السلام)في شكل الحكم الإسلامي كانت هي الرجوع إلی قيادة المعصوم(علیه السلام)ولیست إلی ولاية الشوری _ مشكل، وتوضیح ذلك أنّ قوله تعالی: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَیٰ بَیْنَهُمْ﴾ لابدّ أن يفسّر بأحد تفسيرين:
التفسير الأول: أن يكون المقصود توصيف الجماعة بصفة الالتزام بالشوری بالفعل، وهذا هو الظاهر من سیاق الآية التي تعدّ صفات فعلية لهم وهو المتبادر إلی الذهن
(1) لم يتطرق سماحة السيد المؤلف في هذا الاستدراك إلی بحث ولاية الفقيه، وللإطلاع علی مجمل آرائه في هذا المجال لابدّ من مراجعة سائر کتبه مثل ولاية الأمر في عصر الغيبة وکتاب البيع الذي سوف يطبع بمشيئته تعالی ضمن الفصل الذي عقده للبحث عن أولياء العقد.
(2) الشوری: 38.