113

ولو فرض التساوي في القوّة والتساقط رجعنا إلى البرائة من تعيين مكان معيّن للذبح.

وإن قلنا: إنّ النسبة بينهما نسبة التزاحم، فملاك الأُضحية موجود في المقام وملاك الإسراف أيضاً موجود في المقام، فلابدّ من تقديم أقوى الملاكين وهو ملاك الإسراف.

والإنصاف أنّ المقام داخل في التعارض لا التزاحم؛ لأنّ ملاك الأُضحية غير محرز أصلاً.

فإن قيل: إنّ ملاك الإسراف أيضاً غير محرز، فهذا يعني الشكّ في وجود أحد الملاكين إجمالاً، وهذا اعتراف بخروج المقام عن بحث التزاحم ودخوله في مسألة التعارض، فيعود الكلام السابق فيه.

هذه خلاصة بياناته المنقولة في تقرير بحثه.

ثم يذكر الجواب عن عدّة من الأسئلة وجّهت إلى سماحته، نختار منها هنا سؤالين:

الأوّل: أليس فتوى الذبح في غير محلّ الذبح في منى خلاف إجماع المسلمين؟!

الجواب: إنّ المسألة من المسائل المستحدثة التي برزت في القرن الأخير، وقد كانت لحوم الأضاحي تُصرف في السابق في مواردها، ولهذا السبب لا تجد رواية ولا فتوى واحدة في الكتب السالفة عن حكم إتلاف الأضاحي.

والثاني: لئن كان الذبح واجباً مقدّمياً والإطعام واجباً نفسياً لم يجب على الحجّاج ذبح الهدي أصلاً، بل يمكنهم شراء ما يعادل الذبيحة من اللحم من اللحّام وتوزيعه على المحتاجين.

الجواب: إنّ كلّاً من الذبح والصرف واجب، إلّا أنّ أحدهما مقدّمة للآخر كما في الوضوء والطواف، وكما أنّه لو أصبح الطواف غير ممكن لشخص سقط عنه الوضوء، كذلك في المقام لو أصبح الإطعام ممّا يذبح هناك غيرَ ممكن سقط وجوب الذبح هناك.

114

أقول: إنّ أغرب ما في هذا الحديث دليله الرابع على سقوط الذبح هناك، وهو دليل حرمة الإسراف والتبذير.

ونحن بدورنا نسأل: هل المقصود تسجيل إشكال الإسراف والتبذير على الحرق والدفن والإتلاف وترك الأضاحي إلى أن تجيف وما إلى ذلك ممّا هو إشكال على الحكومة؛ فهذا لا كلام فيه ولا علاقة له ببحثنا، أو المقصود تسجيل الإشكال على نفس الذبح؛ لأنّنا نعلم أنّه ينتهي إلى التلف من دون فائدة فيصبح الذبح إسرافاً وتبذيراً؟ والمفروض أن يكون هذا هو المقصود، فعندئذٍ نقول: إنّ النسبة بين دليل وجوب التضحية ودليل حرمة الإسراف والتبذير ليست هي التعارض ولا التزاحم _ وكأنّ مقصوده هو التزاحم الملاكي لا التزاحم المعروف عن مدرسة الشيخ النائيني(رحمه الله)_ بل النسبة هي الورود؛ فإنّنا لو افترضنا دليلاً على وجوب هذا الذبح ارتفع بذلك تكويناً موضوع الإسراف والتبذير، ولو افترضنا عدم تمامية الدليل على هذا الذبح لبعض الوجوه السابقة لم يكن هذا الوجه الرابع وجهاً مستقلّاً في مقابل تلك الوجوه.

نعم، لو أثبت أوّلاً عدم وجوب الذبح بأحد الوجوه الثلاثة الأُولى، فاشتهى أحدٌ الذبح هناك رغم عدم الوجوب وعدم الإجزاء، كان من الصحيح أن يقال له بحرمة هذا العمل بدليل كونه إسرافاً وتبذيراً.

وأمّا ما ذكره من الوجه الثالث؛ وهو أنّ الذبح في الوقت الحاضر لا يمكن أن يكون في منى، وعندئذٍ فلا دليل على خصوصية لمكان آخر فيجوز له الذبح ولو في بلده، فهذا ليس كلاماً مختصّاً به ولا راجعاً إلى الفتوى التي اشتهر بها وهي سقوط الذبح هناك؛ لعدم إمكان الإطعام، وهذا ما يقول به الكل من أنّه مع تعذّر الذبح هناك في أيّ دائرة قلنا بها للذبح _ من منى أو مكّة وما حواليها أو غير ذلك _ جاز الذبح في كلّ مكان.

نعم، قد يكون الخلاف معه في دائرة جواز الذبح هناك ولو لدى الضرورة؛ هل يجزئ مثلاً الذبح في مكّة أو في وادي محسّر؛ فلا تصل النوبة مع إمكان ذلك إلى

115

نعم، قد يكون الخلاف معه في دائرة جواز الذبح هناك ولو لدى الضرورة؛ هل يجزئ مثلاً الذبح في مكّة أو في وادي محسّر؛ فلا تصل النوبة مع إمكان ذلك إلى التخيير في الذبح في كلّ مكان، أو لا؟ وقد مضى رأينا في ذلك.

أمّا قوله بأنّ موثقة سماعة التي تقول: «يرتفعون إلى وادي محسّر» لا تدل على جواز الإتيان بالأعمال في وادي محسّر وإنّما هي واردة بشأن الوقوف _ وكأنّ مقصوده بالوقوف البيتوتة _ فهو غير صحيح؛ فإنّ الكون في منى طيلة الأيّام الثلاثة أو ضرب الخيام هناك أو الإقامة بالسكن هناك ليس هو الواجب، فيكون معنى «يرتفعون إلى وادي محسّر» أنّهم يقيمون رحلهم أو يسكنون في وادي محسّر كي يأتوا بالأعمال هناك من بيتوتة أو ذبح أو حلق.

وأمّا ما ذكره من الوجه الثاني _ من عدم وجود هذا الفرد من الذبح أو ندرته في زمن النصوص _ فلا أظنّ أن يخفى عليك أنّ الحق المحقّق لدى المحقّقين المتأخّرين في بحث الإطلاق والانصراف عدم قبول الانصراف لمجرّد ندرة الفرد أو عدم وجوده في عصر النصّ، ودليل الوفاء بالعقد يشمل بإطلاقه العقود المستجدة، ولا نحتاج في إثباتها إلى تعدّي العرف بالقطع بعدم الفرق.

وأمّا ما ذكره من الوجه الأوّل فلا يقبل نقاشاً فنّياً؛ إذ لم يذكر نكتةً لاستظهاره من الأمر وحدة المطلوب عدا فاء التفريع، ولم يذكر نكتةً لاستظهار كون الفاء فاء التفريع ولا دليلاً على أنّ التفريع يثبت وحدة المطلوب. ولعلّ خير ما يمكن أن يذكر لإثبات وحدة المطلوب هو دعوى أنّ المركوز عرفاً: أنّ الذبح لا ملاك نفسي فيه وإنّما ملاكه مقدمي باعتباره مقدّمة للإطعام والصرف، كما أشار هو إلى ذلك في مقام ترجيح رفع اليد عن قيد منى على رفع اليد عن قيد الإطعام. ولئن كان هذا هو الدليل على وحدة المطلوب فقد تركز الإشكال الذي أُورد على الشيخ من أنّه بناءً على مقدمية الذبح للإطعام فلنقتصر على شراء اللحوم من القصابين واللحّامين بقدر الذبيحة ونعطيها للفقراء.

116

ومن الغريب جوابه على ذلك: بأنّ كلّاً من الذبح والإطعام واجب كوجوب الوضوء والطواف، إلّا أنّ الأوّل منهما مقدّمة للثاني؛ فالذبح مقدّمة للإطعام والوضوء مقدّمة للطواف، وكما أنّه حينما يسقط الطواف يسقط الوضوء، كذلك حينما يسقط الإطعام يسقط الذبح.

وقد فاته أنّ مقدّمية الوضوء للطواف شرعية، في حين أنّ مقدّمية الذبح للإطعام عقلية، ففي الطواف لا يمكن تبديل الوضوء بشيء آخر، لكن الذبح _ بعد اعتبار مقدّميته فرضاً بحتاً _ يمكن تبديله بشراء اللحم من اللحّام، فلعلّه في زمان النصّ لم يكن اللحامون قادرين على تلبية حاجات تمام الحجاج من اللحم بقدر الذبائح، فكانت الطريقة المعقولة أن يهيّئ كلّ حاجّ حيواناً للذبح، أمّا اليوم فبالإمكان تحصيل الهدف بشراء اللحوم من اللحامين.

وأيضاً لو كان الذبح مقدّمة للإطعام بلا ملاك نفسي فيه، فلماذا يذبح في منى لدى القدرة؟! وأيّ عيب في الذبح قبل منى أو قبل مكّة وتأجيل الإطعام به إلى منى؟!

فكلّ هذا يعني أنّ هناك ملاكاً نفسياً في الذبح، وبعد فرض ثبوت الملاك النفسي في الذبح لا أدري ما هو الذي يُثبت لنا وحدة المطلوب؟! إلّا بمعنى وحدة المطلوب بلحاظ كلّ أعمال الحجّ التي هي مركّب واحد ارتباطي.

ولو نظرنا إلى هذا الجانب لكان معناه سقوط أصل الحجّ، ولو قطعنا النظر عن ذلك فالأصل لدى تعدّد الأمر هو الانحلال؛ لأنّ الارتباط هو القيد الزائد والمؤونة الزائدة في الكلام.

وأمّا استشهاده لمقوّمية الإطعام للهدي بخلاف قيد منى برواية: «إنّما جعل الله هذا الأضحى لتشبع مساكينكم من اللحوم»(1)، فقد اعترض هو على نفسه في

 


(1) وسائل الشيعة، ج14، ص167، الباب4 من أبواب الذبح، ح11.

117

ذلك _ كما مضى _ بأنّ المقصود به الأُضحية المستحبة لكلّ أحد، وأجاب على ذلك: بأنّ الإطلاق شامل لأُضحية الحجّ.

أقول: إنّ أُضحية الحجّ مصداق لمطلق الأُضحية وداخل في جعل الأضحى على العموم، وعليه جعلٌ آخر وجوبي وضمني في الحجّ، وليكن الملاك في الجعل الأوّل منحصراً في إشباع المساكين، ولكن لا يدل ذلك على انحصار ملاك الجعل الثاني أيضاً فيه.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

118

 

 

119

ما هو محل الذبح لغير الصيد من محرّمات الإحرام؟

120

 

 

121

بسم الله الرحمن الرحيم*

الحمد لله ربّ العالمين وصلى الله على محمد وآله الطاهرين وبه نستعين.

لا إشکال في أنّ الذبح لأجل الصيد في الإحرام موضعه مکّة أو منى؛ للآية الشريفة: ﴿لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمَّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً...﴾(1)، وللروايات الکثيرة(1).

أمّا الذبح لغير الصيد فقد روى الشيخ(رحمه الله) في التهذيب بإسناده عن صفوان عن إسحاق بن عمّار عن أبي عبدالله(علیه السلام)قال: «قلت له: الرجل يخرج من حجّه وعليه شيء ويلزمه فيه دم يجزيه أن يذبحه إذا رجع إلى أهله؟ فقال: نعم، وقال في ما أعلم: يتصدّق به»(2).

 

*. كتب المقال في ذي الحجة الحرام من سنة 1427هـ بجوار بيت الله الحرام.

1. المائدة: ۹٥.

2. وسائل الشيعة، ج13، ص95، الباب٤۹ من أبواب كفّارات الصيد وتوابعها.

3. تهذيب الأحكام، ج5، ص481، الباب26 من كتاب الحج، ح358.

122

وهذا واضح في أنّ الذبح في ما عدا الصيد يجوز تأجيله إلى رجوعه إلى بلده، ويشمل الحجّ وعمرة التمتع؛ لأنّ خروجه من حجّه معناه إتمام الحجّ، وهذا يشمل حجّ التمتّع، فمن کان عليه دم ممّا فعله في عمرة التمتّع مشمول لقوله: «يخرج من حجّه وعليه شيء ويلزمه فيه دم»، بل لعلّ العرف يتعدّى إلى العمرة المفردة، ويفهم من هذا التعبير أنّ المقصود فرض کونه محرماً من دون فرق بين عمرة التمتّع والعمرة المفردة.

هذا بناءً على نسخة الشيخ الطوسي(رحمه الله).

وأمّا بناءاً على نسخة الکافي، عن أبي علي الأشعري عن محمد بن عبدالجبّار عن صفوان بن يحيى عن إسحاق بن عمّار عن أبي عبدالله(علیه السلام)، قال: «قلت له: الرجل يخرج من حجّته شيئاً يلزمه منه دم، يجزيه أن يذبحه إذا رجع إلى أهله؟ فقال: نعم، وقال في ما أعلم: يتصدّق به»(1) فقد يقال: إنّه من المحتمل کونه مختصّاً بالحجّ، ولا يشمل العمرة.

إلا أنّ العبارة في نسخة الکافي(2) عبارة نابية، ولعلها نتيجةٌ لنقل الراوي بالمعنى، فليس المفروض أن يعبّر عن اجتراح الحاجّ لما فيه الکفّارة بتعبير يخرج من حجّته شيئاً.

وقد روى الشيخ الحرّ في هامش المخطوط نسخة أُخرى بُدّلت فيها کلمة «يُخرج» بکلمة «يجترح»، إلا أنّ هذه العبارة أيضاً نابية فالمفروض أن يقول: «يجترح في حجّته»، لا «من حجّته».

وعليه، فالأصحّ هي نسخة الشيخ الطوسي(رحمه الله)، وهي تشمل الحجّ وعمرة التمتّع على الأقلّ.

ولا إشکال في أنّ الرواية مخصوصة بغير الصيد من الکفّارات، ولا أقصد بذلك تخصيص الرواية بالآية المبارکة، أو بروايات ذبح کفّارة الصيد في مکّة أو في منى، بل

 


(1) وسائل الشيعة، ج14، ص90، الباب4 من أبواب الذبح، ح1.

(2) الكافي، ج9، ص93، باب من يجب عليه الهدي وأين يذبحه، ح4.

123

أقصد خروج کفّارة الصيد تخصّصاً من هذه الرواية؛ لأنّ الآية المبارکة ولّدت إرتکازاً متشرّعياً ووضوحاً في أنّ کفّارة الصيد يجب أن تکون بالغة الکعبة، فيکون عدم شمول هذه الرواية لکفّارة الصيد من الواضحات.

وفي مقابل هذه الرواية التي دلّت بإطلاقها على جواز ذبح کفّارة غير الصيد في بلده _ سواء کان في الحجّ أو في عمرة التمتّع _ وردت صحيحة معاوية بن عمّار: «...وسألته عن کفّارة المعتمر أين تکون؟ قال: بمکّة إلا أن يؤخّرها إلى الحجّ فتکون بمنى، وتعجيلها أفضل وأحبّ إليّ»(1)؛ فإنّ هذه الصحيحة صريحة في شمولها لعمرة التمتّع بدليل قوله(علیه السلام): «إلّا أن يؤخّرها إلى الحجّ»، فالمفروض تقديم هذه الصحيحة على موثّقة إسحاق بن عمّار بالتخصيص، أو الأخذ في الموثّقة بنسخة الکافي، أو حمل نسخة الشيخ على المعنى الوارد في نسخة الکافي.

فإذاً النتيجة: هي التفصيل بين الحجّ وعمرة التمتّع بأن يجوز الذبح في کفّارة الحجّ في بلده، ويجب في عمرة التمتّع کون الذبح في مکة أو منى، بل بلحاظ العمرة المفردة أيضاً يمکن القول بدلالة هذه الصحيحة على أنّ ذبحها في مکّة بدعوى أنّ قول السائل: «کفّارة المعتمر» تشمل العمرة المفردة وعمرة التمتّع. نعم، جواز تأخيرها إلى منى يکون في من يحجّ حجّ التمتّع بدليل ذيل الصحيحة.

على أنّ في العمرة المفردة توجد صحيحة أُخرى تدل على الذبح بمکة أو بمنى، وهي صحيحة منصور بن حازم: قال: «سألت أبا عبدالله(علیه السلام)عن کفّارة العمرة المفردة أين تکون؟ فقال: بمکة إلّا أن يشاء صاحبها أن يؤخّرها إلى منى، ويجعلها بمکّة أحبّ إليّ وأفضل»(2).

 


(1) وسائل الشيعة، ج14، ص89، الباب4 من أبواب الذبح، ح4.

(2) المصدر السابق، ج13، ص96، الباب 49 من أبواب الذبح، ح4.

124

إلّا أنّ هذه الصحيحة لا تخلو من تشويش؛ لأنّ عنوان التأخير إلى منى غير صادق في العمرة المفردة، إلا أن يُفسّر التأخير بمعنى مجرّد إرادة ذهابه إلى منى فيؤخّر الذبح إلى منى.

ويمکن أن يقال _ في مقابل كل هذا الکلام _ : أنّ أصعبية العمرة من الحجّ في الكفّارة ليست عرفية إلى حدّ يرى العرف التعارض بين الصحيحتين والموثقة، فلو تعارضت لم يبق لنا دليل على عدم جواز تأخير الکفّارة إلى الرجوع إلى البلد.

وأخيراً لم تبق إلّا روايتان بخصوص کفّارة التظليل تدلان على ذبحها في منى، وهما صحيحتا ابن بزيع:

الأُولى: «سألت أبا الحسن(علیه السلام)عن الظلّ للمحرم من أذى مطر أو شمس فقال: أرى أن يفديه بشاة ويذبحها بمنى»(1).

والرواية الثانية: عن الرضا(علیه السلام)«سأله رجل عن الظلال للمحرم من أذى مطر أو شمس _ وأنا أسمع _؟: فأمره أن يفدي شاة ويذبحها بمنى»(2).

إلّا أنّ هاتين الصحيحتين منصرفتان إلى الحج وعمرة التمتّع دون العمرة المفردة؛ وذلك بسبب الأمر بالذبح بمنى، فإنّ صاحب العمرة المفردة لا يذهب إلى منى.

فلا يبقي دليل على ذبح کفّارة التظليل في العمرة بمکّة عدا فعل علي بن جعفر الوارد في الرواية الثانية من نفس الباب(3) وهو لا يصلح دليلاً؛ لأنّ فعل علي بن جعفر ليس حجّة، ولو کان حجّة فليست فيه دلالة على وجوب التعجيل بمکّة وعدم جواز تأجيل الذبح لحين الوصول إلى بلده.

وقد تحصّل _ من کلّ ما ذکرناه _ : أنّ کلّ ذبح للکفّارة غير کفّارة الصيد والتظليل لا إشکال في جواز تأجيله إلى البلد.

 


(1) وسائل الشيعة، ج13، ص154، الباب6 من أبواب بقية كفّارات الإحرام، ح3.

(2) المصدر السابق، ح6.

(3) المصدر السابق، ح2.

125

وتؤيّد ذلك روايتان غير تامّتين سنداً:

الأُولی: رواية علي بن جعفر عن أخيه موسی بن جعفر(علیه السلام)قال: «لکلّ شيء جرحت من حجّك فعليك فيه دم تهريقه حيث شئت»(1).

والثانية: مرسلة أحمد بن محمد عن بعض رجاله عن أبي عبدالله(علیه السلام)قال: «من وجب عليه هدي في إحرامه فله أن ينحره حيث شاء إلا فداء الصيد فإنّ الله(وجل عز) يقول: ﴿هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ﴾(2)»(3).

 


(1) وسائل الشيعة، ج13، ص158، الباب8 من أبواب بقية كفّارات الإحرام، ح5.

(2) المائدة: 5.

(3) وسائل الشيعة، ج13، ص96، الباب49 من أبواب كفّارات الصيد، ح3.

126

 

 

127

نظرة الإسلام إلى الحقوق الزوجيّة

128

 

 

129

بسم الله الرحمن الرحيم*

الحمد لله، والصلاة والسلام على عباده الذين اصطفى محمد وآله الطاهرين، واللّعن على أعدائهم أجمعين.

إنّ من رأي الإسلام أنّ سعادة الحياة البشرية تكون بتطبيق نظام الأُسرة دون الشيوعية الجنسية؛ لأنّ النظام الأُسري يؤمَّن حاجتين مهمَّتين من الحاجات البشرية، بل من أهمّها، وهما:

۱_ حاجة الإنسان إلى استقرار الحياة ونظمها.

۲_ حاجة الإنسان الروحية إلى الحب والوداد، والعطوفة والرحمة.

فمن أهمّ حاجاته الروحية والنفسية أن يُحِبّ وأن يُحَبّ، وأن يقيم علاقة الودّ والتعاطف مع آخرين. فالطفل بطبيعته الروحية بحاجة إلى من ينظر إليه بعين الرأفة والمحبّة، ويحنو عليه بقلب رؤوف، ويلاطفه بأعذب الكلمات، ويداعبه بيد العطوفة والرحمة. والمرأة تحسّ بالحاجة الماسّة الروحية إلى جذب عواطف الرجل وامتلاك قلبه. والرجل يحسّ بالحاجة إلى ريحانة ينشأ معها علاقة الودّ والرعاية إلى

 

*. كتب سنة 1408هـ.

130

جنب علاقة الجنس، قال الله تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لَّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيݧݧݧݨَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُوُنَ﴾(1).

والعلاقات الجنسية لا تلبّي إلّا حاجة الجسم والجانب المادي، ولا يرتوي بذلك الجانب الروحي؛ ولذا تراهم يحاولون إشباع هذه الحاجة الماسّة _ بعد فقدهم للنظام الأُسري بشكله الصحيح الإسلامي _ عن طريق الروابط غير المشروعة التي لا تفي بتأمين شيء من الحاجتين اللّتين أشرنا إليهما، وكذلك ترى الطفل الذي لا يتربّى تحت عطوفة كعطوفة الأب والأُمّ، ينشأ معقّداً في حياته بتعقيدات نفسيّة خطرة؛ بسبب أنّه لم تشبع حاجته النفسيّة إلى رأفة الوالدين وعطوفتهما، وبسبب أنّه لم يكن مَن قام بشأنه من هيئة حكومية أو نحو ذلك مندفعاً اندفاعاً حقيقيّاً إلى تربيته وتلبية حاجاته الجسديّة والروحية بالشكل الكامل.

وبعد أن رأى الإسلام لهذه الأُمور وأمثالها سعادة الحياة الأُسريّة في نظام الأُسرة، حرّم الإباحيّة والشيوعيّة الجنسيّة، وأقام المجتمع على أساس تركّبه من وحدات أُسريّة، واتّخذ الاحتياطات بهذا الصدد، ومن أهمّها مسألة الحجاب، أقول: بعد هذه الرؤية من قبل الإسلام أصبح الإسلام بصدد تنظيم حقوق الزوجية، فنظّمها على وفق ما تتطلّبه أُسس خمسة:

الأساس الأوّل: الإيمان بأنّ الحياة الموحّدة المشتركة بحاجة إلى قيادة موحّدة، وهذا هو أساس جعل الإسلام القيمومة في الحياة الزوجية دون حياة الأخ وأُخته، أو الأب وبنته غير المتزوّجة. فتخصيصُ فكرة القيمومة بالحياة الزوجية دون غيرها يدل على أنّ الإسلام لا ينظر إلى الأُنثى كوجود ناقص يحتاج إلى قيّم ووليّ، بل يراها حرّة في تصرّفاتها وفي قيمومتها على نفسها وعلى حياتها كالرجل؛ ولذا لم يَفترِض قيمومة

131

للأخ على الأُخت، أو للأب على البنت؛ لأنّه لم يكن المفروض في نظر الإسلام على الأُخت أو البنت أن تشكّل حياةً موحّدة مع الأخ أو الأب، بل ترك ذلك إلى الأحوال والملابسات. فلو اتّفقا بحسب الأحوال والملابسات على الاشتراك في الحياة الموحّدة، لأصبحت عادةً القيمومة بيد أقواهما وأقدرهما وأعقلهما، لا كفرض من قبل القانون الإسلامي، بل كاختيار عملي من قبلهما، كما كان أصل الاشتراك في الحياة الموحّدة اختياريّاً منهما، وهذا بخلاف الحال في الزوج والزوجة اللذين هما النواة الأساسيّة في الإسلام للمجتمع الأُسري الذي هو النواة في الإسلام للمجتمع كلّه. فاشتراكهما في حياة موحّدة أمرٌ مفروض من قبل الإسلام، وكذلك تطبيق فكرة القيادة الموحّدة لهذه الحياة أصبح أمراً مفروضاً من قبل الإسلام.

الأساس الثاني: أفضليّة الرجل على المرأة في غلبة الجانب العقلي فيه على الجانب العاطفي، بعكس ما هو الحال في المرأة من ناحية، وفي القوّة المزاجيّة وقدرته على الصمود أمام المشاكل والتغلّب عليها والاحتجاج لدى الخصم من ناحية أُخرى، قال الله تعالى: ﴿أَوَ مَن يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ﴾(2)، وقال تعالى: ﴿الرَّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النَّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ﴾(3)، فهذا الأساس الثاني هو الذي أوجب أن تكون القيمومة المفترضة في الأساس الأوّل بيد الزوج دون الزوجة، وهذه القيمومة اقتضت:

أوّلاً: أن تكون رؤوس خيوط الحياة الزوجية بيد الزوج على شكل الحتم والوجوب، وعلى هذا الأساس جُعلت النفقة بيد الزوج، وجعل خروج الزوجة من البيت مشروطاً بإذن الزوج، وجعل التمتّع الجنسي في حالاته الغالبة بيد الزوج،

 


(1) الزخرف: ۱۸.

(2) النساء: ۳٤.

132

وجعل إنهاء الحياة الزوجية بالطلاق، وكذلك الرجوع إليها في العدّة بيده، وكان المهر الذي فرض في أصل عقد هذه الحياة عليه وليس عليها(1).

وثانياً: استحباب إعطاء الزوجة زمام أمورها الشخصية بيد الزوج. أمّا لماذا صار هذا مستحبّاً ولم يصبح واجباً؟ فهذا ما يتّضح من مجموع ما سنذكره في ضمن بحثنا عن الأساسين الرابع والخامس إن شاء الله.

الأساس الثالث: الشهوة الجنسية، فبعد أن كان الإسلام ديناً واقعيّاً يهدف إلى تلبية الحاجات الجسديّة كالروحيّة سواء بسواء، ولا يجوّز طغيان أحد الجانبين على حقوق الجانب الآخر، هدف إلى تهذيب الطرق الموصلة إلى إشباع تلك الحاجات، والمنع من السرف في بعض الجوانب على حساب باقي الجوانب ومن الأساليب غير المشروعة، ولم يهدف إلى إقصاء بعض القوى، أو سدّ الباب أمام تلبية حاجة طبيعية بمثل الرهبنة أو الزهد بمعناه غير الصحيح.

ومن حاجات البشر الملحّة هي حاجته إلى إشباع الرغبة الجنسية، فكان لابدّ من إشباعها في النظام الإسلامي؛ حفاظاً على واقعية الإسلام، وكونه دين فطرة، وتلبيةً للحاجات، وحفظاً للنسل، ولم يجوّز إشباعها عن طريق الإباحيّة الجنسيّة؛ لما مضى من أنّ الإسلام رأى سعادة الحياة البشرية في النظام الأُسري؛ فلأجل التجاوب مع الرغبة الجنسيّة من ناحية، ولأجل الحثّ على النظام الأُسري الذي هو الطريق الوحيد لإسعاد المجتمع من ناحية أُخرى، ولأجل تفادي المضاعفات المترتّبة على شهوة الجنس حينما لا تُروى بالشكل المشروع من ناحية ثالثة، حثّ الإسلامُ على الزواج، بل على الزواج المبكَّر، وجعله من أعظم المستحبّات، ومن سُنَنِ الإسلام

 


(1) وذكر المرحوم الشهيد آية الله المطهّري(رحمه الله) نكتة أُخرى لجعل المهر على الزوج دون الزوجة، وهي: كون ذلك مناسباً لمزاج الرجل والمرأة، فمزاج الرجل أقرب إلى الطلب والتعشّق بالمرأة، ومزاج المرأة أقرب إلى تقبّل طلب الرجل وتعشّقه بها.

133

التي من رغب عنها فقد رغب عن سُنّة رسول الله(صلى الله عليه و آله).

ولمّا كانت شهوة الرجل على شكل الثوران الآني بين الفينة والفينة وبنحو يصعب عليه ضبط نفسه وضبط أعصابه والانشغال بسائر وظائفه، وعلى العكس من ذلك وضعُ الزوجةِ، كان هذا سبباً آخر لإعطاء زمام أمر الاستمتاع الجنسي بيد الزوج؛ ولأجل إيجاد نوع من التعادل والتلاؤم بين الزوجين جَبَرَ الإسلام عدم التماثل الموجود في شكل الشهوتين بحثّ الزوجة على تلبية طلبات الزوج في كلّ ما يريد من ناحية الجنس وإيجابِ ذلك عليها ما عدا بعض الموارد، ولم يكن من الضروري عادة أن يوجب على الزوج إشباعَ رغبة الزوجة في الجنس؛ فإنّ هذا أمرٌ فطري وطبيعي في الزوج يحقّقه بفطرته، ومع هذا اتّخذ الإسلام بهذا الصدد احتياطات: من قبيل إيجابُهُ على الزوج المبيت معها ليلة واحدة من كلّ أربع ليال، وجعلُهُ حقّ الجماع مرّة واحدة في كلّ أربعة أشهر حقّاً إلزاميّاً للزوجة، وترغيبُهُ للزوج على شكل الندب والاستحباب لإشباع الحاجة الجنسيّة للزوجة.

الأساس الرابع: الأُلفة والمودّة، فالتعايش بين الزوج والزوجة لا يهنأ ولا يروي الحاجة الروحيّة حينما يُقام على أساس قوانين صارمة ومحدّدة، وليس التعايش بينهما من قبيل التعايش بين رئيس المصنع وعمّاله مثلاً، الذي قد لا يقصد من ورائه عدا إشباع المصالح الاقتصادية للطرفين، وإنّما تهنأُ الحياةُ الزوجيّةُ حينما تُقام على أساس الأُلفة والمحبّة.

وممّا أعمله الإسلام في سبيل الحفاظ على هذا الأساس أُمور أربعة:

الأوّل: تعظيم الزوج وتبجيلُهُ في عين الزوجة، وجعل حقوق احترامه عليها حتّى ورد في بعض الروايات عن رسول الله(علیه السلام): «لو أمرت أحداً أن يسجد لأحد، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها»(1). وهذا يعني: أنّ الإسلام يحاول أن يحرّك الزوجة عاطفيّاً

 


(1) وسائل الشيعة، ج20، ص162، الباب81 من أبواب مقدمات النكاح وآدابه، ح1.

134

نحو التجاوب مع الزوج؛ حفاظاً على حبل المودّة والأُلفة عن طريق تحسيسها بعظمة الزوج باعتباره أقوى الموجودَين وأفضلهما.

الثاني: محاولة الإسلام لتحريك الزوج نحو التجاوب مع زوجته والحفاظ على مصالحها عن طريق إشعارها بعاطفته وترقيقها أمام الزوجة باعتبارها أضعف الموجودَين كما ورد عن أبي عبدالله(علیه السلام)، قال: «اتّقوا الله في الضعيفين. يعني بذلك: اليتيم والنساء»(1)، وورد عن أمير المؤمنين(علیه السلام): «المرأة ريحانة، وليست بقهرمانة»(2)، وورد عن أبي عبدالله(علیه السلام)، قال: «قال رسول الله(صلى الله عليه و آله): إنّما المرأة لعبة، من اتّخذها فلا يضيّعها»(3)، وورد عن أبي جعفر(علیه السلام)، قال: «قال رسول الله(صلى الله عليه و آله): أيضرب أحدكم المرأة، ثم يظلّ معانقها!!»(4)، وورد عن رسول الله(صلى الله عليه و آله): «خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي»(5)، وعنه(صلى الله عليه و آله): «أوصاني جبرئيل بالمرأة حتّى ظننت أنّه لا ينبغي طلاقها، إلّا من فاحشة مبيّنة»(6)، إلى غير ذلك.

الثالث: أنّ الإسلام جعل الأعمال التي تقوم بها الزوجة خدمة للزوج في غير دائرة التمتُّع وفي غير الجوانب الراجعة إلى الحياة المشتركة أعمالاً استحبابيّة، ولم يجعلها حقوقاً واجبة، فخدمة الزوجة للزوج مثلاً في البيت من طبخ وغسل وما شابه ذلك تعتبر أمراً مندوباً إليه ولا تعتبر واجباً. فعدمُ تصعيد هذه الأعمال إلى مستوى الوجوب إضافة إلى اشتماله على الاحتفاظ بحقّ الحرّية للمرأة يشتمل على نكتتين أُخريين أيضاً:

 


(1) وسائل الشيعة، ج20، الباب۸٦ من أبواب مقدمات النكاح وآدابه، ح۳.

(2) المصدر السابق، ص168، الباب 87 من أبواب مقدّمات النكاح وآدابه، ح1.

(3) المصدر السابق، ص167، الباب۸٦ من أبواب مقدّمات النكاح وآدابه، ح2.

(4) المصدر السابق، ح۱.

(5) المصدر السابق، ص171، الباب 88 من أبواب مقدّمات النكاح وآدابه، ح8.

(6) المصدر السابق، ص170، ح4.

135

إحداهما: ما سيأتي في بيان الأساس الخامس، والأُخرى: مرتبطة بهذا الأساس الرابع، وهي: أنّه لو كانت تلك الحقوق واجبة لأصبحت الحياة الزوجية قائمة على أساس الصرامة والجبر، لا على أساس المودّة والصفاء والحبّ، وكانت علاقتهما أشبه شيء بعلاقة التاجر بعمّاله أو المالك بمملوكه في نظام الرقّ.

الرابع: أنّ الإسلام جعل الزواج مستحبّاً، ولم يجعله واجباً على الرغم من أنّ المصلحة المترتّبة عليه ربّما لا تقلّ في غالب الأحيان عن المصلحة المترتّبة على بعض الواجبات، وجعل الطلاق مكروهاً، ولم يجعله محرّماً على الرغم من كونه مبغوضاً إلى حدّ الحرمة غالباً، فقد يكون السبب في ذلك _ إضافةً إلى ما سيأتي في الأساس الخامس _ هو: أنّه لو لم تكن الرغبةُ الجنسيّة ولا الاستحبابُ الأكيد الثابت للزواج، أو الكراهةُ الأكيدة الثابتة للطلاق من قِبل الشارع في مورد ما كافية لتحريك الشخص نحو الزواج، أو منعه من الطلاق لما كان ينبغي في ذلك المورد إيجاب الزواج، أو تحريم الطلاق؛ لأنّ الحياة الزوجيّة إن أُقيمت على أساس هكذا إيجاب أو تحريم، فربّما لا تُضفى عليها المودّة والرحمة، فتصبح حياة لا تُطاق.

الأساس الخامس: عنصر المرونة في الإسلام، فمن كمالات الإسلام وفضائله الجليلة اشتمالُه على عنصر المرونة والمطّاطيّة ممّا يجعله قابلاً للتطبيق في كلّ زمان ومكان، ومع كلّ الملابسات والأحوال، وقد أعمل الإسلام في نظامه عنصر المرونة بثلاثة أشكال:

الشكل الأوّل: فرض منطقة الفراغ، وجعل ملأها بيد وليّ الأمر، كما شرحنا ذلك في أبحاثنا عن ولاية الفقيه.

الشكل الثاني: تقييد نفس مواضيع الأحكام في غير منطقة الفراغ بقيود مرنة تجعلها تختلف بحسب التطبيق الخارجي باختلاف الأحوال والملابسات: من قبيل تقييد كثير من الأحكام الإلزامية بعدم العسر والحرج، أو تقييد كثير من الأحكام بعدم الضرر، ممّا يختلف في مدى صدقه أو عدم صدقه خارجاً بحسب اختلاف الأحوال

136

والملابسات، وأحياناً إعطاء مواضيع مرنة في حدّ ذاتها: من قبيل مفهومي الغنى أو الفقر المختلفَين في المصداق باختلاف الزمان والمكان.

الشكل الثالث: جعل بعض الأحكام غير الإلزامية، فليس عدم الإلزام دائماً من باب عدم اشتمال متعلّق الحكم على ملاك الإلزام، بل قد يكون الترخيص وعدم الإلزام في الإسلام بملاك المرونة، أو تكون المرونة أحد ملاكاته، وقد يكون من هذا القبيل ما سنذكره من عدّة أمثلة:

الأوّل: مسألة الزواج، فعلى الرغم من أنّ الزواج من أحبّ الأشياء في الإسلام حتّى ورد بسند تام عن صفوان، عن الصادق(علیه السلام)أنّه قال: «قال رسول الله(صلى الله عليه و آله): ما من شيء أحبّ إلى الله(وجل عز) من بيت يعمر في الإسلام بالنكاح»(1)، وورد عن رسول الله(صلى الله عليه و آله): «من رغب عن سنّتي، فليس منّي»(2)، نرى أنّ الإسلام لم يجعل الزواج واجباً، وهذا لا يعني عدم بلوغ المصالح والآثار المترتّبة عليه إلى مستوى الوجوب، وإنّما يعني: الإلتفات إلى عنصر المرونة.

وتوضيح ذلك: صحيح أنّ الزواج بشكل عام موجبٌ لسعادة الحياة ولاستمرار حياة الأُمّة بما هي أُمّة، ولكن توجد موارد استثناء عديدة على أساس أحوال ومكتنفات نفسيّة أو خارجية تجعل الزواج موجباً للشقوة في الحياة، ولم يكن بالإمكان تحديدها بشكل دقيق ومضبوط في مقياس مفهوم لنا؛ فإنّ هذه المسألة قد تصبح من أشدّ المسائل الحياتيّة تعقيداً، وترتبط بدقائق الأُمور النفسيّة أو الخارجية، فكان أفضل أُسلوب لتنزيل النظام التشريعي من قبل الشريعة الإسلامية بشكل يحفظ المصالح المتضاربة في أكثر الموارد، هو إعمال عنصر المرونة عن طريق التنزّل من

 


(1) وسائل الشيعة، ج20، ص16، الباب الأوّل من أبواب مقدّمات النكاح وآدابه، ح۱٠، وج22، ص7، الباب الأوّل من أبواب مقدّمات الطلاق وشرائطه، ح۱.

(2) المصدر السابق، ص21، الباب الثاني من أبواب مقدّمات النكاح وآدابه، ح۹.

137

إيجاب النكاح إلى بيان أنّ النكاح في حدّ ذاته من أحبّ الأشياء عند الله، علماً بأنّ المسلم المتديّن لا يخلو عادة من إحدى حالات ثلاث:

۱_ فإمّا أن يكون من الواضح لديه أنّ الزواج يسعد حياته، وأنّه غير مبتلىً بالحالات الاستثنائية التي توجب عسر النكاح عليه، أو إيجابه للشقاء في الحياة، وهذا عادة يتزوّج بلا حاجة إلى مرغَّب شرعي.

۲_ وإمّا أنّ النكاح يستوجب في نظره تحمّل المشاقّ، ولكنّه حينما يضمّ الترغيب الشرعي للنكاح واستحبابه الأكيد، وأنّه في حدّ ذاته من أحبّ الأشياء لله إلى ما يعرفه هو من فوائد النكاح وحاجته الحياتيّة إليه يكفي ذلك في قبوله لتلك المشاقّ وتحمّله لها. وهذا الإنسان المؤمن تكفيه تلك الروايات الحاثّة على النكاح في إقدامه على ذلك.

۳_ وإمّا أنّ النكاح يستوجب في نظره تحمّل مشاقّ لا يستعدّ هو لتحمّلها ما لم يكن النكاح واجباً. وهنا لم يكن بالإمكان إعطاءُ ضابط عام يفهمه المكلّف لتشخيص أنّ الزواج هل يسعده، وأنّ رجحانه من حيث الدين والدنيا هل يفوق الشقاء الذي يراه، أو العكس هو الصحيح؟ فكان الأفضل عدم تشريع حكم إلزامي في المقام؛ كي لا يقع المكلّف في حرج من ناحية تشخيص وظيفته الشرعية، ويمارس الأمر على وفق موازينه العقلائية التي قد تختلف من نظر إلى آخر، أو من حدس إلى حدس آخر.

الثاني: مسألة الطلاق، فعلى الرغم من أنّ الطلاق في حدّ ذاته من أبغض الأشياء عند الله، حتّى ورد بسند تام عن صفوان عن الصادق(علیه السلام)أنّه قال: «قال رسول الله(صلى الله عليه و آله): ما من شيء أبغض إلى الله(وجل عز) من بيت يخرب في الإسلام بالفرقة» يعني الطلاق. ثم قال الصادق(علیه السلام): «إنّ الله(وجل عز) إنّما وكّد في الطلاق وكرّر فيه القول من بغضه الفرقة»(1) لکنّه لم يحرّم الطلاق، ولم يذكر مقياساً للتمييز الكامل بين موارد رجحان عدم الطلاق فيحرّمه مثلاً، وبين حالات استثنائيّة فيحلّله فيها؛ إذ لم يكن

 


(1) المصدر السابق، ص16، الباب الأوّل من مقدّمات النكاح ومقدماته، ح۱٠؛ وج22، ص7، الباب الأوّل من مقدمات الطلاق وشرائطه، ح۱.