374

توضيح ذلك: أنّ المفروض تحقّق وحدة عرفية للزمان بحيث أوجبت أن تصبح الآنات واللحظات المتتابعة كأنّها أمر واحد ممتدّ مستمرّ وقد كان متّصفاً بالفجرية مثلاً ونحن نشكّ في أنّ هذه الصفة بعد باقية لهذا الموجود الواحد أو أنّها زالت وانتفت، فنستصحب بقاءها، فأمّا لو لاحظ العرف الآنات واللحظات بما هي امور متعدّدة وحدوثات تتلو حدوثات، فعندئذ كما لا يجري استصحاب مفاد كان الناقصة؛ لأنّ هذا الحدث لم يكن سابقاً موصوفاً بالفجرية كذلك لا يجري استصحاب كان التامة. أمّا إذا اعترفنا بأنّها أمر واحد عرفاً له حدوث وبقاء فلا محالة عند الشك في بقاء وصف من أوصاف هذا الموجود الواحد كالفجرية مثلاً نستصحب بقاءه، فإنّ مثل هذه الأوصاف والأعراض والحالات حدوثها وبقاؤها يتبع حدوث وبقاء موصوفاتها. وإن شئت قلت: إنّ الشكّ في الفجريّة بالإمكان رفعه بأن يُلحظ المفهوم الوحداني الذي يضمّ الفجر أيضاً، وهو النهار مثلاً، حيث إنّه أمر واحد موصوف أوّلاً بأنّه فجر، وثانياً بأنّه زوال، وثالثاً بأنّه عصر مثلاً، فنقول: إن هذا النهار المشكوك أنّه فجر أو لا كان فجراً سابقاً فالآن كما كان، فتثبت فجريّته.

 

الآثار المترتبة على الاستصحاب بالنحوين

بعد هذا ننتقل إلى ما يمكن أن يترتّب على استصحاب الزمان بنحو كان التامة أو الناقصة من آثار، ونتكلّم في هذه النقطة هنا على نحو الإجمال والكليّة؛ لأنّا سوف ندخل في تفصيلات ذلك في ذيل البحث عن المقام الثاني ـ إن شاء الله ـ.

فنقول: إنّ الزمان بنحو مفاد كان التامة أو الناقصة لو كان قد اُخذ في الموضوع كجزء الموضوع لا كقيد، فاستصحابه بالنحو الذي أُخذ فيه يفيد في ترتيب الأثر لا محالة.

وأما إذا كان قد اُخذ بنحو التقييد، فنحن نعلم أنّ القيد خارج عن حقيقة الموضوع، وأنّ التقيّد هو الجزء التحليلي الحقيقي له، فعندئذ استصحاب الزمان بأحد المفادين لا يثبت إلاّ ذات المقيّد، أمّا التقيّد فثبوته يحتاج إلى ملازمة عقلية خارجة عن مدلول الاستصحاب، فلا يثبت به لا محالة.

هذا حاصل الكلام في الأمر الأوّل وهو استصحاب الزمان.

 

الأمر الثاني: استصحاب الزمانيات:

أي: سائر موجودات عالم الحركة والتجدّد، كالجري والكنس والبحث وغيرها من

375

الحركات، وقد اتّضح حالها ممّا ذكرنا في الأمر السابق، حيث بيّنا أنّ منشأ الوحدة العرفية غير منحصر في الثبات والقرار حتى لا يجري الاستصحاب في الحركة، بل هنالك مناشئ اُخرى فيها ما يشمل ما لا يكون حركة بالدقّة العقلية كحركة عقارب الساعة، بل العرفية ـ أيضاً ـ كالكلام ونحوه، بل فيها ما يشمل مثل البحث في كلّ يوم من الاُمور التي من الواضح عقلاً وعرفاً عدم الاتصال بينها، لكنّه مع ذلك يُرى ذلك واحداً عرفاً باعتبار التسلسل الرتيب بينها. وعليه فلا يبقى مجال للاستشكال في جريان الاستصحاب فيها أيضاً، إذن فكلّ ما ذكر في الأمر السابق جار هنا دون زيادة.

وبهذا ينتهي المقام الأوّل.

 

استصحاب الاُمور القارّة المقيّدة بالزمان

المقام الثاني: في الأمور القارة المقيّدة بالزمان، كالجلوس النهاري، فيكون بذلك منصرماً متجدداً باعتبار تصرّم وتجدد ما قيّد به.

هنا ـ ايضاً ـ يرد الإشكال المذكور في الاُمور الحركية وغير القارّة، حيث إنّ الجلوس في المثال وإن كان قارّاً في نفسه غير أنّه بعدما قيّد بالزمان الذي هو متجدّد ومتصرّم يصبح المقيّد ـ أيضاً ـ عبارة عن مجموعة حدوثات وتجدّدات متصرّمة، فإنّ تعدّد القيد وتكثّره يستدعي تعدّد المقيّد لا محالة.

ويكون الجواب عندئذ هو ما ذكر من المقام السابق من أنّ عمود الزمان في نظر العرف يرى شيئاً واحداً، وأنّ منشأ الوحدة اللازمة في الاستصحاب تحقيقاً لعنوان نقض اليقين بالشكّ غير منحصر في القرار والثبات كما ذكرنا ذلك مفصّلاً.

وعليه فيجري استصحاب بقاء المقيّد بما هو مقيّد عند الشكّ فيه، أو قل: استصحاب التقيّد بعد وجدانية ذات المقيّد.

ولكن جريان هذا الاستصحاب موقوف على أمرين:

1 ـ ان يكون للمقيد بما هو مقيّد حالة سابقة، أي: يكون هناك يقين بتحقّق الجلوس النهاري مثلاً قبل زمان الشكّ، وإنّما يشكّ في أنّ امتداده ـ ايضاً ـ نهاري أو لا، فيستصحب. وأمّا إذا افترض أنّ الجلوس لم يكن سابقاً وإنّما تحقّق في الزمن المشكوك فيه فلا يمكن الاستصحاب؛ لعدم الحالة السابقة للمقيّد بما هو مقيّد، واستصحاب ذات القيد وهو النهار لا يثبت التقيّد المفروض.

376

وأمّا دعوى: أنّ هذا الجلوس لو كان فيما مضى من الزمان لكان نهارياً، فالآن كما كان، فهذا الاستصحاب التعليقي من الاُمور التكونية، أي: في القضية الشرطية التي شرطها وجزاؤها خارجيان معاً، فتكون الملازمة حقيقيّة وخارجية لا شرعية، ومثل هذا الاستصحاب التعليقي غير جار حتّى لو قيل بالاستصحاب التعليقي في الملازمات الشرعية على ما يأتي إن شاء الله تعالى.

2 ـ أنّ لا يؤخذ الزمان بنحو التقطيع والتجزئة قيداً، كما لو اُخذت الساعة الاُولى قيداً مستقلاًّ، والساعة الثانية قيداً آخر وهكذا، والمفروض الشكّ في إحدى الساعات: هل هي من النهار الذي أُخذت ساعاته قيداً أو لا، فإنّه في مثل هذا لا يجري استصحاب المقيّد؛ لأنّه توجد هنا مقيّدات متعدّدة بتعدّد التقيّدات كما هو واضح.

وينبغي بعد هذا أن ندخل في التطبيقات لهذه الكبريات التي عرفتها لنرى ماذا يمكن استفادته من الاستصحاب حينما يكون الزمان مأخوذاً جزءاً أو قيداً فنقول:

إنّ الزمان بنحو مفاد كان التامة أو الناقصة تارةً يؤخذ في طرف التكليف أي في موضوع الحكم، فيكون من موضوع الوجوب أو شرطه، وطوراً يؤخذ في طرف الواجب. وعلى كلّ من التقديرين قد تكون الشبهة موضوعية، وقد تكون حكمية. ونحن الآن نتكلّم على افتراض الشبهة موضوعية.

فإذا كان الزمان مأخوذاً في طرف التكليف فهذا ـ كما أشرنا ـ قد يؤخذ على نحو مفاد كان التامّة كأن يقول: (إن كان الجلوس في النهار فتصدّق) أو (إن كان النهار فتصدق). وقد يفرض بنحو مفاد كان الناقصة، بأن يقول: (إن كان الجلوس في زمان يكون نهاراً فتصدّق) أو (إن كان الزمان نهاراً فصلِّ). فكلا الأمرين معقول ممكن. فما ذكره المحقق النائيني(رحمه الله)(1) من أنّ مفاد كان الناقصة لا يمكن أن يكون مأخوذاً في الحكم والوجوب؛ لأنّ معناه أن يكون الشرط في وجوب الصلاة مثلاً هو أن تكون الصلاة في النهار، وهذا من أخذ الواجب في الوجوب، وهو غير معقول غير صحيح؛ إذ ليس معنى أخذ مفاد كان الناقصة في طرف الوجوب أن يؤخذ الزمن في متعلق الوجوب وهو الواجب، والاصطلاح المألوف في أخذ مفاد كان الناقصة في موضوع الحكم هو ما ذكرناه الذي ليس مستلزماً لأخذ الواجب في طرف الوجوب، فكأنّ هذا المحقق(رحمه الله) يتكلّم وفق مصطلح آخر.


(1) راجع أجود التقريرات: ج2، ص402.

377

وأيّاً ما كان فإذا أخذ الزمان في الوجوب وشكّ في تحقّقه فهذا يكون على نحوين:

الأوّل: أن يكون جزءً من الموضوع ولو بأن يكون جزءه الآخر هو المكلّف نفسه. وفي هذا الفرض يجري استصحاب الزمان المأخوذ جزءً ولو كان مأخوذاً بنحو مفاد كان الناقصة لما عرفت من عدم تمامية ما ذكروه في ذلك المقام من إشكال المثبتيّة.

الثاني: أن يكون شرطاً وقيداً للموضوع، كما لو كان الجلوس المقيّد بالنهار، أو بكون الزمان نهاراً موضوعاً للوجوب. وفي هذا الفرض لا يجري الاستصحاب لإشكال المثبتية، لا ذلك الذي تخيّل في موارد كون الزمان بنحو مفاد كان الناقصة، فإن ذاك الإثبات كان من ناحية تخيّل أنّ استصحاب النهار مثلاً لا يثبت كون هذا الزمان نهاراً، ولا استصحاب آخر يثبت ذلك. وأمّا هذا الإثبات فبلحاظ أنّ استصحاب القيد لا يثبت التقيّد بصورة أصلاً سواء كان الزمان قد اُخذ بنحو مفاد كان التامة أو الناقصة. وقد خلط المحقّق النائيني في المقام بين هذين الإثباتين(1). ولعلّه ناشئ من خلط سابق في أصل تصوير الزمان المأخوذ بنحو مفاد كان الناقصة.

إذن فلو كان الزمان قد أخذ بنحو مّا قيداً في موضوع الحكم لم يثبت باستصحابه موضوع ذلك الحكم.

نعم، لو كان المقيّد بما هو مقيّد ثابتاً في الحالة السابقة كما إذا كان الجلوس في النهار قد تحقق من قبل جرى الاستصحاب. وأمّا إذا حصل الجلوس في الوقت المشكوك فلا يمكن إثبات نهارية الجلوس باستصحاب بقاء النهار ولا باستصحاب نهارية زمان الجلوس.

وهذا الإشكال في هذه الصورة ممّا لا جواب عليه كبروياً، غير أنّه بالإمكان التخلّص عنه في كثير من الموارد في الفقه بإرجاع التقييد إلى التركيب بنكتة نوعيّة سوف يأتي بيانها ـ إن شاء الله تعالى ـ توجب أن يرى العرف التقييد منحلاًّ إلى التركيب، فلو جعل الجلوس في النهار موضوعاً لحكم فهمه العرف على نحو الانحلال إلى الجلوس في زمان وأن يكون ذلك الزمان نهاراً، فما دامت لم تقم قرينة لفظية أو عقلية على إرادة التقييد لا التركيب نفهم من أمثال هذه الصيغ التقييدية تركيباً، وعلى أساسه يكون الاستصحاب جارياً لا محالة؛ لعدم الاحتياج عندئذ إلى إثبات التقيّد.

ولولا هذه النكتة النوعية لبطل جريان الاستصحاب في أكثر الموارد، فمثلاً إذا شكّ في


(1) راجع أجود التقريرات: ج2، ص400.

378

بقاء إطلاق الماء واُريد به التطهير، جرى استصحاب الإطلاق عند الفقهاء، في حين أنّ ذلك لا يثبت أنّ الغسل تحقق بالماء المطلق إلاّ أن يكون هنالك تحليل وتركيب في النظر العرفي إلى أن يكون الغسل بمائع، وأن يكون المائع ماءً، فيكون الجزء الأوّل وجدانياً، ويحرز الثاني بالتعبّد.

ثمّ إنّ المحقق الخرساني(رحمه الله)ذكر في المقام: أنّ الزمان لو كان دخيلاً في الوجوب لجرى فيه استصحاب الزمان واستصحاب المقيّد بما هو مقيّد، فكأنّه يرى أنّ كلا الاستصحابين يجريان في موضوع واحد(1). في حين أنّه ليس كذلك، بل كلّ منهما يجري فيما لا يجري فيه الآخر؛ إذ لو كان الزمان قيداً لموضوع الحكم لا يجري إلاّ استصحاب المقيّد لو كانت له حالة سابقة. وأمّا استصحاب الزمان فهو مثبت كما قلنا، ولو كان الزمان جزءً لموضوع الحكم جرى استصحاب الزمان ولم يجرِ استصحاب المقيّد؛ إذ الأثر ليس للمقيّد وإنّما هو لمجموع ذات المقيّد المحرز وجداناً والزمان المشكوك وجداناً والثابت تعبداً، فلا معنى لاستصحاب المقيّد.

هذا كلّه في الوجوب.

وأمّا إذا كان الزمان مأخوذاً في طرف الواجب وهو ـ لا محالة ـ يكون دخيلاً في الوجوب بوجه من الوجوه باعتباره من الاُمور غير الاختيارية، كما إذا وجب صوم النهار، أو صوم الوقت الذي هو نهار (الاُولى (كان) الناقصة والثانية تامّة) فالصحيح عدم جريان الاستصحاب فيه بوجه أصلاً، لا استصحاب الزمان ولا استصحاب المقيّد بما هو مقيد، فإذا كان نهار شهر رمضان دخيلاً في الواجب وصام المكلف إلى أن شكّ في انتهاء النهار وبقائه لم يجرِ استصحاب النهار ولا استصحاب الإمساك النهاري.

أمّا عدم جريان استصحاب المقيّد، أعني الإمساك الثابت في النهار، فتوضيحه: أنّ الشكّ في بقاء هذا القيد تارةً يبيّن في قضية تعليقية هي: أنّه لو بقى ممسكاً لكان ذلك إمساكاً نهارياً، واُخرى يبيّن بنحو القضية التنجزية، أي: إنّ إمساكه النهاري هل يبقى أو سوف ينقطع.

أمّا الأوّل فلا يجري الاستصحاب بلحاظه؛ لعدم جريانه في قضية تعليقية من هذا القبيل.

وأمّا الثاني فأيضاً لا يجري؛ لأنّه بالإمكان رفع الشكّ التنجيزي هذا باختيار نقض


(1) راجع الكفاية: ج2، ص317 بحسب الطبعة المشتملة على تعليقة المشكيني في الحاشية.

379

الإمساك الموجب لقطعه على كلّ تقدير بعدم بقاء الإمساك النهاري بنحو القضية التنجيزية، فلا يعقل تنجيز الإمساك عليه وتسجيله باستصحاب الإمساك النهاري بعد أن كان المكلّف قادراً على رفع موضوع هذا الاستصحاب، وهو الشكّ بنفس المخالفة.

وأمّا عدم جريان استصحاب الزمان بنفسه فلأنّك عرفت فيما مضى في فرض أخذ الزمان في الوجوب: أنّ الزمان لو كان قيداً لم يمكن إثباته بالاستصحاب إلاّ بنحو الملازمة العقلية؛ لأنّ التقيّد لازم للمستصحب في هذا الفرض. نعم، لو كان جزءً لثبت بالاستصحاب.

وهنا نقول: إنّ الزمان المأخوذ في طرف الواجب يكون قيداً دائماً، ويستحيل أن يكون جزءً من الواجب، ذلك لأنّه دخيل في الواجب حسب الفرض، فلو كان جزءً كان واجباً مع كونه غير اختياري وخارجاً عن قدرة المكلّف، فلا يتعقّل تعلّق الوجوب به. نعم، تقييد العمل بذلك الزمان داخل في قدرته، ولهذا يُعقل أخذه قيداً. وأمّا اعتباره جزءً للواجب فهو غير عقليّ ولا عرفيّ؛ لأنّ انبساط الوجوب على الزمان الذي هو خارج عن اختيار المكلّف غير معقول حتى عرفاً، فلا يرد ما ذكرناه من أنّ نظر العرف مبنيّ على التركيب والتحليل في باب التقيّدات.

وبهذا البيان ظهر بشكل وآخر بطلان ما ذكره المحقّقون في المقام لأثبات صحة جريان الاستصحاب في الزمان المأخوذ في طرف الواجب.

أمّا المحقّق النائيني فقد ذكر ما حاصله: أنّه إذا كان الأثر لمجموع شيئين، فإن كان من قبيل العرض ومحلّه رجع إلى التقييد، وإلاّ رجع إلى التركيب، وبما أنّ الزمان والصوم عرضان في محلّ واحد، وعلى معروض واحد، فلذلك يرجع إلى التركيب لا التقييد، فيكون الاستصحاب جارياً(1).

أقول بغض النظر عن أنّ الزمان والصوم هل هما عرضان في مستوى واحد أو لا: إنّ رجوع ما عدا العرض ومحلّه إلى التركيب إنّما يكون عند تعقّل التركيب في نفسه، وما نحن فيه لا يعقل فيه ذلك حتّى في نظر العرف؛ لما ذكرناه من أنّ الزمان باعتباره أمراً غير اختياري فلا يمكن أن يكون تحت التكليف، فلا تصل النوبة إلى البحث عن أنّه عرض في عرض الصوم أو في طوله.


(1) راجع أجود التقريرات: ج2، ص402.

380

وأمّا المحقّق العراقي(قدس سره) فقد ذكر في المقام كلامين(1):

أحدهما: ما يرجع من حيث الروح إلى مقالة المحقّق النائيني(رحمه الله) حيث قال: إنّ التقييد في المقام ينحلّ بالنظر العرفي إلى التركيب.

وفيه: أنّ هذا تامّ في غير ما يكون من قبيل الزمان الذي هو خارج عن قدرة المكلّف ممّا يستحيل انبساط الوجوب عليه.

ثانيهما: كلام يشبه كلاماً آخر للمحقّق النائيني(رحمه الله)(2) ونحن نذكر في المقام المجموع المركّب من الكلامين، وهو: أنّ تقيّد الصوم مثلاً بقيد الظرفيّة في النهار يكون مؤونة زائدة تحتاج إلى بيان مفقود، بل الأثر في مثل قوله: (صم في نهار شهر رمضان) يكون للصوم مع النهار، أو قل: للصوم مجتمعاً مع النهار، أو للصوم والنهار الثابت عنده، وما يشبه ذلك من التعبيرات.

وهذا الكلام غير تام ثبوتاً وإثباتاً.

أمّا عدم التماميّة إثباتاً فلأنّها تكفي لإثبات هذه المؤونة المدعاة وهي الظرفية كلمة (في)، وهل يوجد في لغة العرب ما يكون أوضح منها دلالة عليه؟!

وأمّا عدم التماميّة ثبوتاً فلأنّها لا فائدة في المقام للتخلّص عن الإشكال والفرار عنه بتبديل قيد الظرفية إلى قيد آخر هو المعيّة والاجتماع والمصاحبة ونحو ذلك، فإنّ هذا القيد الآخر ـ أيضاً ـ لا يثبت باستصحاب النهار إلاّ بناءً على التعويل على الأصل المثبت.

وأمّا المحقق الإصفهاني(رحمه الله)فقد ذكر في المقام: أنّه تارةً يفرض أنّ الواجب هو تحصيل العنوان الانتزاعي الذي يحصل من مجموع الصوم والنهار، وتقيّد أحدهما بالآخر. واُخرى يفرض أنّه لا يطلب شيء غير منشأ الانتزاع.

فإن فرض الأوّل لم يجرِ استصحاب الزمان؛ لأنّه حتّى مع ثبوت القيد وذات المقيّد والتقيّد لا يثبت ذلك العنوان الانتزاعي إلاّ بناءً على الأصل المثبت؛ لأنّ ترتّب العنوان الانتزاعي على منشأ الانتزاع لا يكون إلاّ بالملازمة.

وإن فرض الثاني جرى الاستصحاب، وترتّبت النتيجة المقصودة، حيث يكون ذات المقيّد والتقيّد والقيد كلّها ثابتة، ولا يقصد شيء وراءها.


(1) راجع نهاية الأفكار: القسم الأوّل من الجزء الرابع، ص149 ـ 150.

(2) جاء هذا في كلمات الشيخ النائيني(رحمه الله)مع ردّه بالإشكال الإثباتي حسب ما ورد في تقرير الشيخ الكاظمي: ج4، ص437 حسب طبعة جماعة المدرسين بقم.

381

أمّا ذات المقيّد فالمفروض ثبوته بالوجدان.

وأمّا القيد وهو النهار فقد ثبت بالتعبّد.

وأمّا تقيّد الصوم بالنهار، أي: كون الصوم في النهار، فهذا ثابت بالوجدان؛ وذلك لأنّنا باستصحاب الزمان كما أثبتنا الزمان الواقعي تعبّداً كذلك أثبتنا الزمان التعبدي واقعاً ووجداناً، فيثبت كون الصوم في الزمان التعبدي بالوجدان(1).

ويرد على هذا الكلام:

أوّلاً: أنّ الاستصحاب إنّما يجري إذا ثبت أثر للمستصحب، ولا يجري لمجرّد ثبوت الأثر لذات الاستصحاب، وهذا الأثر في المقام إنّما يجري على ذات الاستصحاب؛ لأنّ المستصحب ليس إلاّ الزمان الواقعي دون التعبّدي.

وثانياً: أنّه لو ثبت التقيّد وجداناً لثبوت الزمان التعبدي وجداناً، وادّعينا أنّه مهما ثبت طرف التقيّد وجداناً ثبت التقيّد كذلك قلنا: لو صحّ هذا ثبت ـ أيضاً ـ أيّ عنوان انتزاعي ينتزع من الاُمور الثلاثة لثبوت منشأ انتزاعه بالوجدان بجميع أركانه الثلاثة، فلماذا فصّل بين ما يكون المطلوب فيه هو العنوان الانتزاعي أو منشأ الانتزاع؟!

وثالثاً: أنّ ثبوت الزمان التعبّدي بالوجدان لا يثبت الظرفية بالوجدان أبداً؛ إذ ليس الزمان التعبّدي الثابت بالوجدان بحسب الحقيقة زماناً آخر ليقع ظرفاً للصوم في قبال الزمان الواقعي الذي ثبت بالتعبد؛ إذ ليس الزمان التعبدي إلاّ عبارة عن التعبد بالزمان الواقعي، وهو ليس إلاّ جعلاً واعتباراً غير صالح للظرفية، فكيف يثبت بذلك كون الصوم في النهار، وهل هذا إلاّ تعويل على الأصل المثبت!

ورابعاً: أنّنا لو فرضنا أنّ القيد الواقعي للواجب هو الجامع بين الزمان الواقعي والزمان التعبدي، لزم من ذلك صحّة العمل واقعاً، وعدم وجوب إعادته في عمل بشرط وقوعه في ذلك الزمان عند انكشاف الخلاف فمثلاً لو ثبت وجوب التصدق في نهار مّا بنحو صرف الوجود، ولم نتصدّق إلى أن شككنا في بقاء النهار، وأثبتناه بالاستصحاب فتصدقنا، ثمّ انكشفت مخالفته للواقع، لزم من ذلك عدم لزوم الإعادة في يوم آخر. وهذا ما لا يلتزم به من قبل أحد.

ولو فرضنا أنّ القيد هو الزمان الواقعي فمجرّد ثبوت الزمان التبعدي بالوجدان لا يثبت


(1) راجع نهاية الدراية: ج 5، ص 157 بحسب طبعة آل البيت.

382

تقيّد الصوم به.

وقد تحصّل من مجموع ما ذكر: أنّه لا يمكن فيما إذا كان الزمان مأخوذاً في طرف الواجب إثبات التقيّد، لا باستصحاب الزمان ولا باستصحاب المقيّد.

هذا ولكنّا بإمكاننا إثبات النتيجة المستهدفه من وراء محاولة إثبات التقيّد وهي تنجيز الواجب على المكلف، فإنّ هذا يثبت في المقام دون حاجة إلى إثبات التقيّد. وتوضيح ذلك: أنّ الواجب تارةً يكون بنحو صرف الوجود كوجوب الصلاة بين الحدّين، وطوراً يكون بنحو مطلق الوجود كوجوب الصوم في تمام آنات ما بين الحدين.

أمّا الأوّل: فتارةً يفرض أنّه وجبت عليه الصلاة في أوّل الوقت، لكنّه أخّرها إلى أن شكّ في بقاء الوقت. وأخرى يفرض أنّه لم تجب عليه الصلاة إلاّ من حيث الشكّ كما إذا لم يكن بالغاً قبله مثلاً.

ففي الفرض الأوّل تجري قاعدة الاشتغال؛ لأنّ الشكّ في الفراغ ـ أو قل: في القدرة على الامتثال ـ بعد اليقين بالتكليف.

وفي الفرض الثاني لا تجري قاعدة الاشتغال ابتداءً، لكنّنا نجري استصحاب بقاء النهار؛ وذلك لأنّ الزمان مهما كان قيداً في الواجب فهو قيد في الوجوب أيضاً، فنستصحبه لا لكي نثبت حصول التقيّد الذي هو دخيل في الواجب، بل لكي نثبت عليه حكمه، وهو وجوب الفعل المقيّد، وعندئذ نشكّ في أنّ هذا الحكم الظاهري وهو وجوب المقيّد هل يمكن امتثاله لبقاء الوقت أو لا يمكن لانتفائه وانتهائه، والمرجع في مورد الشكّ في القدرة على الامتثال مع إحراز أصل التكليف إنّما هو الاحتياط لا البراءة.

ولا بأس أن يلفت النظر إلى أنّه في الفرض الأوّل لا يجري استصحاب النهار لإثبات التكليف بهذه الشاكلة، ولا استصحاب نفس الوجوب؛ إذ انّ هذا الاستصحاب لا ينتج شيئاً إلاّ بالانتهاء إلى قاعدة الاشتغال كما عرفت، وهي ثابتة هناك من أوّل الأمر، فيلغو الاستصحاب.

وأمّا الثاني: وهو ما كان من قبيل مطلق الوجود، فتارةً يفرض أنّ الشك في بقاء الزمان يكون من ناحية عدم الاطلاع على الساعات والأوقات، فنحن وإن كنّا نعلم مثلاً أنّ نهار اليوم هو اثنتي عشرة ساعة لكنّنا لا ندري هل انتهت الساعات الاثنتا عشرة أو لا، وفي مثل هذا الفرض لا ريب في الرجوع إلى أصالة الاشتغال، لأنّ الشكّ يكون في الامتثال والفراغ، لا في أصل التكليف الزائد.

383

وأُخرى يفرض: أنّنا شاكّون في عدد ساعات النهار: هل هي اثنتى عشرة ساعة أو ثلاث عشرة، وقد مضت اثنتى عشرة بالتأكيد، فيشكّ في بقاء النهار بعدها، فهنا ربما يتصوّر صحّة الرجوع إلى البراءة، حيث يشكّ في التكليف الزائد في الساعة الزائدة سواء كان الواجب مركّباً استقلالياً بحسب الساعات، أو ارتباطياً، لكن هنا ـ أيضاً ـ يقال بجريان استصحاب الزمان لإثبات الوجوب وبقائه، وهو وجوب ظاهري يشكّ في القدرة على امتثاله، فتجري قاعدة الاشتغال بلحاظه(1).

 


(1) وهناك فرض آخر أُهمل في المتن، وهو ما إذا كان الهدف من الاستصحاب الاجتزاء بالفرد المأتيّ به في الزمان المشكوك، لا تنجيز الواجب على المكلّف. مثاله ما لو ثبت وجوب التصدّق في نهار مّا، فتصدّق بعد احتمال غروب الشمس، فالأثر المرجوّ من الاستصحاب المثبت لبقاء النهار هو جواز الاكتفاء بهذا التصدّق، وأن لا يجب عليه التصدّق في يوم آخر، ولكنّ الاستصحاب ابتلى ـ على ما مضى ـ بمشكلة الإثبات؛ لأنّه لا يثبت كون التصدّق في النهار إلاّ بالملازمة.

وهنا ـ ايضاً ـ قد يقال: يمكن الوصول إلى الثمرة المطلوبة من دون إجراء الاستصحاب؛ وذلك لأنّ أمره ـ في الحقيقة ـ دائر بين التعيين والتخيير، أي: إنّه هل يتعيّن عليه التصدّق في يوم آخر، أو هو مخيّر بين ذلك وبين التصدّق في هذا الوقت؟ والمختار في موارد دوران الامر بين التعيين والتخيير هو البراءة عن التعيين.

ولكنّ الواقع: أنّ المرجع ـ بناءً على هذا البيان ـ يكون هو الاشتغال؛ لأنّ المفروض هو العلم بوجوب عنوان التصدّق في النهار، والتردّد بين الأقلّ والأكثر ليس في التكليف، بل في مصداقية الامتثال، فيتعيّن عليه اختيار الفرد المتيّقن فرديّته لهذا العنوان وهو التصدق في يوم آخر.

وهذا الذي ذكرناه لا يختصّ بباب الزمان، فلو قال مثلاً: صلِّ صلاة الجمعة خلف العادل، فالعدالة قيد للواجب، وعدالة الإمام خارجة غالباً عن اختيار المأموم، فلا ترجع إلى الجزء. أفهل يلتزم أستاذنا(رحمه الله)أنّه لو شكّ في بقاء عدالته لا يجري استصحاب عدالته، وبالتالي لا تجزي الصلاة خلفه؟!

والذي يبدو لي فعلاً هو أنّه لا مانع من استصحاب الزمان في مورد كونه قيداً للواجب، فإذا شكّ مثلاً في وجوب الإمساك للشكّ في بقاء النهار جرى استصحاب بقاء النهار، وكذلك لا مانع من استصحاب العدالة في المثال الذي ذكرناه، وكذلك الحال في كلّ قيود الواجب ولو كانت خارجة عن القدرة.

وتوضيح ذلك: أنّ نفس النكتة التي ترجع التقييدات الى التركيبات في الفهم العرفي ترجع مثل قوله: (أمسك في النهار) الى مثل قوله: (أمسك في وقت يكون نهاراً) تماماً كما هو الحال في ما لو كان جعل الوقت نهاراً أمراً اختيارياً للمكلّف، إلاّ أنّ الفرق هو أنّ هذا التحليل العرفي في فرض اختيارية وصف النهار يحوّل هذا الوصف إلى جزء الواجب، أي: يجب على المكلّف أن يصوم في وقت، وأن يجعل ذلك الوقت نهاراً، أو إلى مقدّمة الواجب، فيترشّح إليه الوجوب التقديري، ولكن بما أنّ هذا الوصف لم يكن اختيارياً، فهذا التحليل لا يؤدّي إلى تحوّل ذلك إلى جزء الواجب أو مقدّمة الواجب، بل يؤدّي إلى تحوّله إلى شرط اتّصاف الوقت بوجوب الإمساك فيه.

والخلاصة: أنّنا إن آمنّا بأنّ قوله: (أمسك في النهار) ـ لو كان وصف النهار أمراً اختيارياً ـ ينحلّ إلى قوله: (أمسك في وقت متّصف بالنهارية) ـ بنكتة أنّه لا علاقة مباشرة بين الإمساك في الوقت ووصف نهارية الوقت إلاّ

384

هذا ما يمكن أن يقال في مقام تنجيز الحكم على المكلف.

غير أنّ هنا شيئاً وهو: أنّه قد يقال في فرض مطلق الوجود مع الشكّ في ساعة جديدة للنهار: أنّه تجري البراءة للشك في تكليف زائد، وبجريانها ترتفع قاعدة الاشتغال؛ لأنّ حكم العقل بالاشتغال معلّق على عدم ترخيص الشارع في الترك، والبراءة ترخيص منه. ولا يحكم عليها استصحاب بقاء الزمان؛ لأنّ هذا الاستصحاب إنّما يثبت بقاء وجوب الصوم بين الحدّين، ولا يثبت وجوب الصوم في هذه الساعة.

وبكلمة اُخرى: الاستصحاب إنّما يثبت وجوب المقيّد، والمفروض أنّنا عجزنا عن إثبات حصول التقيّد للصوم في هذه الساعة، وإنّما نصوم في هذه الساعة لأنّ الشيء الوحيد الذي يحتمل كونه امتثالاً لذاك الحكم الاستصحابي هو هذا، فيجب بحكم قاعدة الاشتغال والبراءة نجريها عن وجوب صوم هذه الساعة بالخصوص، فليست البراءة جارية عمّا يترتب على الاستصحاب حتّى تكون محكومة له.

ويقال هذا الكلام ـ أيضاً ـ في فرض وجوب صرف الوجود إذا كان التكليف يحدث في الزمن المشكوك، فإنّه في مثله يقال بجريان أصالة البراءة عن وجوب الصلاة في هذه الساعة، واستصحاب النهار لا يثبت وجوب هذه الصلاة كي يكون حاكماً على البراءة، ومع


وحدة المصبّ العرفي وهو الوقت ـ آمنّا بذلك حتى على تقدير عدم اختيارية وصف النهار بنفس النكتة، والفرق بينهما بإمكان تعلّق الوجوب بوصف النهار لو كان اختيارياً وعدم إمكانه لدى عدم اختياريته لا يُبطل أصل النكتة، ولا يُبطل هذا التحليل في نظر العرف، وإنّما يوجب عدم ترشّح الوجوب إليه وأن لا يبقى معنىً لكون هذا الوصف قيداً للوقت الذي هو قيد الواجب، إلاّ كونه قيداً لاتّصاف الوقت بوجوب الواجب فيه. وهذا لا يعني طبعاً إخراج أصل التقييد بالوقت النهاري عن كونه تقييداً للواجب، بحيث يصحّ عندئذ الصوم بعد انتهاء النهار بدلاً عن الصوم في النهار، فإذا رجع قوله: (أمسك في النهار) إلى قوله: (أمسك في وقت يكون نهاراً) قلنا: إنّ كون الإمساك الآن إمساكاً في وقت ثابت بالوجدان، واتّصاف ذات الوقت بكونه نهاراً الذي هو قيد لاتّصافه بوجوب إمساكه ثابت بالاستصحاب؛ لأنّنا بنينا على صحّة استصحاب مفاد كان الناقصة في الزمان.

فليس حال الاستصحاب في المقام إلاّ حال استصحاب العدالة مثلاً في مثال (قلّد الفقيه العادل) إذ لا شكّ في أنّ عدالة الفقيه خارجة عادةً عن اختيار المقلّد، ومع ذلك لا شكّ في أنّه لو حصل التردّد في بقاء عدالة الفقيه جاز للمقلّد بقاؤه على تقليده؛ لأنّ تقليده تقليد للفقيه وجداناً، وهو باق على عدالته استصحاباً.

وبنفس البيان يصحّح استصحاب العدالة في ما لو قال: (صلّ الجمعة خلف العادل) فإنّ العرف يحلّل ذلك إلى قوله: صلّ الجمعة خلف إمام متّصف بأنّه عادلّ، والصلاة خلف هذا الرجل صلاة خلفَ إمام بالوجدان وهذا الامام عادل بالاستصحاب، وتكون عدالته شرطاً في مصداقيته لمن تجب الصلاة خلفه.

385

جريان البراءة لا تجري قاعدة الاشتغال عند الشكّ في المقدرة.

وللجواب عن هذا الإشكال في الفرض الأوّل، أعني ما إذا كان التكليف بنحو مطلق الوجود نقول: إن دليل البراءة الشرعية ـ وهي التامّة عندنا لا البراءة العقلية ـ لا يشمل إطلاقه ما إذا لم يكن مصبّ الشكّ أصل التكليف، من دون فرق بين أن يكون مصبّه هو تحقّق الامتثال، كما لو شكّ في أنّه هل صلّى صلاته الواجبة أو لا، أو القدرة على الامتثال، كما لو احتمل سقوط التكليف بالعجز مع علمه بأصل التكليف، أو يكون مصبّه شيئاً آخر كثبوت قيد الواجب في ما نحن فيه بعد علمه بأصل الوجوب ولو ببركة استصحاب الوقت.

ولكن الجواب عن الإشكال في الفرض الآخر، أعني صرف الوجود لا ينحصر في هذا، بل هنا جواب آخر قبله، وهو: أنّ البراءة عن هذه الصلاة التي يؤتى بها في هذه الساعة بهذا العنوان لا معنى لها؛ إذ لا يحتمل وجوبها بما هي كذلك، وإنّما يحتمل وجوب الصلاة بين الحدّين، والبراءة عنه محكومة للاستصحاب.

هذا تمام الكلام في فرض الشك في بقاء الزمان بنحو الشبهة الموضوعية.

وأمّا إذا كان بنحو الشبهة الحكمية فقد ذكروا فيه أبحاثاً كلّها ترتبط بغير المقام ممّا مضى أو يأتي، فقد ذكروا فيه البحث عن صور ثلاث: صورة الشبهة المفهومية وتردّد المفهوم المأخوذ موضوعاً للحكم بين زمان قصير وطويل، وصورة تردّد الموضوع أساساً مع وضوح كلّ المفاهيم بين فترة قصيرة وفترة طويلة، وصورة العلم بكون الموضوع هي الفترة القصيرة، واحتمال كون الفترة الطويلة موضوعاً آخر للحكم.

وكلّ هذه الأحكام والأبحاث لا تختصّ بمسألة الزمان والزمانيات، وإنّما تدخل في مطلق البحث عن الشكّ في بقاء الموضوع، والذي سيأتي البحث عنه إن شاء الله.

وبحثوا ـ أيضاً ـ عن وجود معارض للاستصحاب هنا، وهو استصحاب عدم الوجوب بنحو عدم الجعل. وهذا كما ترى هو شبهة النراقي والسيد الاُستاذ التي مضى الحديث عنها بصورة مفصّلة، وعليه فالأجدر أن نختم هذا التنبيه بهذا المقدار.

 

 

386

 

 

 

الاستصحاب التعليقي

 

التنبيه السادس: يقع البحث في هذا التنبيه عن الاستصحاب التعليقي، والآن يكون البحث في استصحاب الحكم التعليقي في الشبهات الحكمية. وأمّا الاستصحاب التعليقي في الموضوعات فسوف نعقد له بحثاً ضمن تنبيهات هذا التنبيه إن شاء الله تعالى.

فالشك في الحكم الشرعي يُقسَّم في اصطلاح القوم بحثياً إلى ثلاثة أقسام؛ إذ تارةً يكون الشكّ في أصل جعل الحكم بقاءً وهو الذي يسمى بالشك في النسخ واُخرى يكون الجعل معلوماً، لكن يشكّ في سعة دائرة الحكم وضيقه، واحتمال أخذ قيد فيه يضيّقه، كما إذا شكّ في أنّ النجاسة للماء المتغيّر قد اُخذت فيها فعليّة التغيّر، فتكون مخصوصة بفرض وجود التغيّر، أو المأخوذ فيها هو حدوث التغير، فتكون ثابتة بعد ارتفاعه أيضاً. وهذا هو الذي يصطلح عليه بالشبهة الحكمية. وثالثة يكون أصل الجعل ودائرته وأبعاد ما اُخذ فيه كلّ ذلك معلوماً واضحاً وإنّما الشكّ في الحكم ناجم عن عدم معلومية الصغرى الخارجية، كما إذا شكّ في أنّ هذا الماء هل تغير أو لم يتغيّر، أو هل بقي تغيّره أو لم يبقَ تغيّره، فإنّ هذا الشكّ منصبّ على الموضوع والصغرى الخارجية. وهذا هو الذي يصطلح عليه بالشبهات الموضوعية.

فأنحاء الشكّ في الحكم ثلاثة بحثيّاً. وإنّما قلنا بحثياً لأنّه ربما يبرهن على أنّ القسم الأوّل وهو الشك في النسخ يرجع بشكل وآخر إلى القسم الثاني. فلا يكون قسيماً له.

وأيّا كان فموضوع كلامنا الآن هو القسم الثاني وهو الشك في الحكم من حيث سعته وضيقه الذي يسمّى بالشبهة الحكمية، فإنّه هنا تارةً يكون الشكّ باعتبار أن المكلف يشك في اعتبار قيد زائد على قيود الحكم، كما إذا شكّ في أنّ وجوب إكرام العالم مشروط بعدالته ـ ايضاً ـ أم لا، وقد كانت كلّ القيود المتيقّنة والمشكوكة ثابتة، فكان هذا الشخص بالأمس عالماً وعادلاً أمّا اليوم فقد زالت عدالته فيحصل عنده الشك في وجوب اكرامه تبعاً لأحتمال دخل العدالة. ومثل هذا الشك الحكمي يكون الاستصحاب فيه استصحاباً تنجيزيّاً، حيث إن القضية المستصحبة تنجيزية في الحالة السابقة لا تعليقية. وطوراً تكون الخصوصيات المأخوذة في موضوع الحكم متيقنها ومشكوكها غير حاصلة كلّها سابقاً، بل حصل

387

المشكوك ولم يحصل المتيّقن إلاّ بعد زوال القيد المشكوك. ففي المثال المذكور نفرض أنّ زيداً بالأمس كان عادلاً لكنه لم يكن عالماً أما اليوم الذي زالت فيه عدالته فهو عالم. ففي مثل هذا يكون المورد مورد الاستصحاب التعليقي، حيث لا قضية تنجزية، بل القضية هي أنّه لو كان قد أصبح عالماً بالأمس لوجب إكرامه جزماً لِوجدان شرائطها لحكم متيقنها ومشكوكها، فالآن ـ أيضاً ـ كذلك. فهذا هو الاستصحاب التعليقي، وأن شئت قلت في تعريفه: استصحاب الحكم عند الشكّ في بقاء الحكم المرتّب على موضوع مركب من جزئين ـ على أقلّ تقدير ـ عند فرض وجود أحد جزئيه وتبدّل بعض حالاته المحتملة الدخل قبل وجود الجزء الآخر.

ولقد كان المشهور قبل الميرزا(رحمه الله)جريان هذا الاستصحاب إلاّ أنّ الميرزا(رحمه الله)قد برهن على عدم جريانه، فأصبح المشهور من بعده عدم الجريان.

وصورة هذا الاستصحاب: أنّه توجد قضية متيّقنة معلّقة هي: لو كان عالماً لوجوب إكرامه فيستصحب بقاؤها إلى الحالة الثانية، ليحكم فيها بوجوب الإكرام لتحقّق الشرط وهو العلم حسب الفرض، فيكون جريانه كجريان الاستصحاب في سائر الشبهات الحكمية.

وهذا الاستصحاب يقع مهمّ البحث فيه وفي مناقشاته في مقامين:

أحدهما: يبحث فيه عن أصل جريانه وتماميّة أركانه.

والثاني: يبحث فيه عن وجود معارض له وعدم وجوده.

ولنشرع في كل من المقامين تفصيلاً:

 

تمامية الأركان في الاستصحاب التعليقي

المقام الأوّل: في تمامية الأركان في الاستصحاب التعليقي.

ومنطلق الإشكال في هذه النقطة أنّه لا يقين بالحدوث كي يجري الاستصحاب، وثمّة عبائر للميرزا(رحمه الله) يبدو على ملامحها في توضيح هذا الإشكال أنّ الاستصحاب يشترط فيه أن يكون المستصحب أمراً في صفحة الوجود، ومربوطاً بلوح الوجود وعالمه، وهذا ليس شيئاً في صفحة الوجود كي تكون الحالة السابقة موجودة.

ومن الواضح أنّ هذا الكلام باطل، فإنّه لا يشترط في الاستصحاب سوى حالة سابقة يتعقّل تعلّق اليقين بها،سواء كانت من لوح الوجود أو من لوح الواقع الذي هو أوسع من

388

الوجود، والذي تدخل فيه الملازمات، وما يشابهها، فإنّ الملازمة بين تعدد الآلهة وفساد العالم مثلاً أمر واقعي صالح لتعلّق اليقين به على حدّ الموجودات. إذن فهذه العبائر ليست إلاّ ضرباً من المسامحة في التعبير، ولا يراد بها واقع المطلب، وإنّما المراد الواقعي أنّنا لا نكتفي في الاستصحاب بمجرّد اليقين بالحدوث، بل لا بدّ أن يكون متعلّق اليقين أمراً يحمل حكماً وأثراً شرعياً عملياً لكي يجري الاستصحاب بلحاظه، والمدّعى: أنّ المقام لا يوجد فيه يقين بقضية حادثة لها أثر شرعي عملي حتّى يجري فيها الاستصحاب، فاليقين بالحدوث بالنحو الذي هو شرط في الاستصحاب وركن فيه غير موجود في الاستصحابات التعليقية.

ولتوضيح هذا البيان نقول:

هنالك أمران تشريعيان في نظر الميرزا(رحمه الله):

أحدهما: الجعل، وهو القضية الحقيقة التي يعتبرها الشارع ويفرض فيها الموضوع موضع التقدير ليحكم عليه بالمحمول على ذلك التقدير. وهكذا الحال في القضايا الحقيقية الاُخرى غير الجعلية أيضاً.

والثاني: المجعول، وهي القضية الفعلية التي تتحقّق حينما يتحّقق الموضوع فعلياً في الخارج حيث تكون فعلية الموضوع بتمام شرائطه واجزائه موجباً لفعلية المحمول أيضاً، وبذلك تتكون قضية فعلية منجّزة.

وفي المقام إن اُريد استصحاب الأمر التشريعي الأوّل وتسميته بالاستصحاب التعليقي، فهذا جوابه: أنّه لا شكّ في بقاء تلك القضية الحقيقة المجعولة من قبل الشارع؛ إذ المفروض عدم احتمال النسخ ـ ولو فرض ذلك كان من استصحاب عدم النسخ وهو استصحاب تنجيزي ـ. وإن اُريد استصحاب الأمر التشريعي الثاني، وهي القضية الفعلية في الخارج، فهذا وإن كان الشك فيه موجوداً غير أنّ اليقين بالحدوث غير متحقّق بالنسبة إليه؛ إذ لم تكن الخصوصيات والقيود المأخوذة من الحكم كلّها قد تحقّقت في السابق حدوثاً كي يصبح الحكم فعلياً أيضاً.

إذن فبلحاظ أحد الأمرين التشريعيين وهو الجعل لا شكّ في البقاء، وبلحاظ الأمر الثاني وهو المجعول لا يقين بالحدوث، وليست لدينا هنا قضية تشريعية اُخرى غيرهما.

نعم، هنالك قضية ثالثة قد تمّ فيها اليقين بالحدوث والشكّ في البقاء، وهي القضية التعليقية القائلة بأنّ زيداً لو كان عالماً بالأمس لوجب إكرامه، فإنّنا على علم بهذه الشرطية بالنسبة للسابق، وعلى شكّ منها في الوقت الحاضر، غير أنّ هذه القضية لا جدوى في تعلّق

389

اليقين والشك بها على اعتبار أنّها قضية عقليّة، وليست شيئاً من القضيتين التشريعيتين، أمّا أنّها ليست الثانية فواضح، فإنّها فعلية، وهذه تعليقية، وأمّا أنّها ليست الاُولى فلأنّ القضية الشرعية الجعلية والتي نسمّيها بالقضية الحقيقية ليس التعليق فيها على العلم في المثال فحسب، وإنّما التعليق فيها على كلّ الخصوصيات والقيود المأخوذة في موضع الحكم، لأنّ الحكم يرتّب على مجموع ما اعتبر دخيلاً، فتلك هي القضية التعليقية. ولهذا لم نكن في شكّ من جهتها. وأمّا هذه القضية التعليقية فهي قضية عقلية منتزعة في طول جعل القضية الحقيقيّة من قبل الشارع، فإنّه حيث علم أنّ العلم دخيل في الموضوع، وعلم أنّ زيداً في الحالة السابقة كانت الشرائط والقيود حتى المحتملات منها قد تحقّقت في حقّه عدا هذا القيد المتيّقن وهو العلم، فكان هو الجزء الأخير من القيود، هنالك حكم العقل بأنّ هذا الجزء لو تحقق ترتّب عليه الحكم؛ لأنّ الحكم يترتّب حيث تتمّ شرائطه وقيوده. وعليه فلا معنى لإجراء الاستصحاب بلحاظ هذه القضية الثالثة.

هذه هي الصورة التي تفهم من كلام الشيخ النائيني لإبطال جريان الاستصحاب التعليقي.

يبقى بعد ذلك أن نستعرض أهمّ المناقشات التي اُثيرت حول مقالة الميرزا(رحمه الله)هذه لنرى كيف أنّها انحرفت في فهمها المقصود للميرزا(رحمه الله) فأطالت عليه بالنقد والنقاش.

فنقول: ربما يناقش كما ناقش المحقّق العراقي(قدس سره)(1) في هذا البيان بأنّ الاستصحاب لو كان يشترط في جريانه وجود موضوع ومحمول في الخارج، بحيث يكون المستصحب شاغلاً لصفحة الوجود، وقلنا: إنّ هذا لا يكون إلاّ بعد فعلية الموضوع فكيف يجري استصحاب عدم النسخ وبقاء الجعل مع أنّه ـ أيضاً ـ ليس أمراً في صفحة الوجود لعدم فرض فعلية الموضوع.

وكأنّ هذا الإشكال مبنيّ على تصوّر أنّ الميرزا(رحمه الله)يعتبر في جريان الاستصحاب أن يكون المستصحب أمراً خارجيّاً وجوديّاً، لكنّه قد اتّضح أنّه لا يقصد هذا المعنى، وإنّما مقصوده ما ذكرناه من أنّ المستصحب لا بدّ وأن يكون أمراً يعقل تعلّق اليقين به، ويكون قضيّة يترتّب عليها أثر عملي، وهنا لا توجد إلاّ قضايا ثلاث: إحداها: القضية الحقيقة الجعليّة. وهي لا شكّ في بقائها. والثانية: القضية الفعلية الخارجية. وهي لا يقين بحدوثها.


(1) راجع نهاية الافكار: القسم الأوّل من الجزء الرابع، ص 168.

390

والثالثة: قضية عقلية لا معنى للاستصحاب بلحاظها.

فهذا النقض من قبل المحقق العراقي (قدس سره) على مقالة الميرزا(رحمه الله) لا محصّل له.

وأغرب منه نقض آخر أورده أيضاً(1) حاصله: أنه لو كان الموضوع يشترط فعلية وجوده حتّى يجري استصحاب الحكم فكيف يجري الفقيه استصحاب الحكم في الشبهات الحكمية الكلّيّة دون أن يكون ثمّة موضوع في الخارج، فهو يجري استصحاب بقاء نجاسة الماء المتغيّر بعد زوال تغيره قبل أن يجد ماءً في الخارج قد تغيّر برهة من الزمن، ثمّ زال عنه تغيّره، بل يكتفي في ذلك بفرض ماء، وفرض تغيّره، وأنّه على ذلك التقدير كان يتنجس، فبعد زواله ـ أيضاً ـ باق على نجاسته، ولو لا كفاية فرض الحالة السابقة لما جرى الاستصحاب عند الفقيه إلاّ في موارد نادرة لا تأتي في الحسبان.

وهذا الكلام غريب جداً، فإنّ ثمّة أمرين: أحدهما: أن المستصحب ينبغي أن يكون قضيّة فعلية لا تعليقية، كي يُسرّى إلى الحالة الثانية اللاحقة. والثاني: أنّ هاتين الحالتين السابقة المتيّقنة واللاحقة المشكوكة هل يجب إحرازهما بالنظر التصديقي، بأن يكونا في الخارج بالفعل، أو يكفي للمجتهد أن يلحظهما بالنظر التصوّري، والمختار المشهور عند المحقّقين أنّ النظر التصوّري كاف في جريان الاستصحاب، ولا يحتاج إلى إحراز للحالتين السابقة واللاحقة بالنظر التصديقي، بأن يقعا في الخارج بالفعل. ولقد بيّنا فيما سبق من المباحث ـ عند البحث عن التفصيل بين الشبهة الحكمية والموضوعية ـ النكتة الفنيّة في كفاية النظر التصوّري. وعليه فكفاية فرض الحالة السابقة المتيّقنة واللاحقة المشكوكة لجريان الاستصحاب بشأن الحالة الثانية شيء وإثبات حكم بالاستصحاب على شيء لاحقاً لفعلية قيد فرض تعليق الحكم عليه سابقاً شيء آخر. ففي الأوّل الحالة السابقة محفوظة ولو بالنظر التصوّري على شكل القضية الفعلية لا التعليق على أمر مفروض الفقدان، وفي الثاني ليس الإشكال كون الحالة السابقة مجرّد حالة فرضية وتصويرية كي ينقض بموارد استصحاب الفقيه في الشبهات الحكمية، بل الإشكال هو أنّ القيد المعلّق عليه الحكم لو اُخذ في نفس عالم التصوّر والفرض الثابت للفقيه في سائر موارد الاستصحاب في الشبهات الحكمية مفروض الوجود، بأن فرض في تصوّر الفقيه أنّ زيداً كان عالماً مثلاً في زمان عدالته فإذن أصبح الاستصحاب استصحاباً لحكم تنجيزي لا لحكم تعليقي، وهذا خارج عن محل


(1) راجع نفس المصدر.

391

الكلام. ولو لم يؤخذ هذا القيد في الحالة السابقة حتّى بالنظر التصوّري فبقي الحكم بلحاظ الحالة السابقة تعليقياً واُريد إثبات الحكم في الحالة اللاحقة التي فقدت قيداً آخر كان مفروض الوجود في الحالة السابقة ومحتمل الدخل في الحكم وهو العدالة، فهذه الحالة ليست لاحقة لتلك الحالة، أي: لا توحّد بين القضية المشكوكة والمتيّقنة، والقضية المتيقنة لا زالت متيّقنة، والمشكوكة كانت مشكوكة من أوّل الأمر، وإن جعل مصبّ الإشارة نفس هذا الوجود الخارجي وقيل: إنّ هذا لو كان بالأمس عالماً لوجب إكرامه والآن كما كان، فقد توحّدت القضية المتيّقنة والمشكوكة، ولكن هذه قضية عقلية انتزاعية.

ولعمري إنّ الفرق بين مورد كلام الشيخ النائيني(رحمه الله) ومورد نقض الشيخ العراقي(رحمه الله)واضح، وكأنّه اشتباه نشأ من الخلط بين التقديرية الموجودة في القضية الحقيقية المجعولة على موضوع مقدّر الوجود والتقديرية في نظر الفقيه في استصحاب الحكم الكلّي.

ثمّ إنّ السيد الحكيم(رحمه الله)اختار في المستمسك(1) التفصيل بين ما لو قال المولى مثلاً: (العنب الغالي يحرم) أو قال: (العنب إذا غلى يحرم) فذكر: أنّ القيد إذا كان راجعاً إلى الموضوع لم يجرِ الاستصحاب، وإذا كان راجعاً إلى الحكم جرى الاستصحاب، وذكر في وجهه: أنّه إذا كان راجعاً إلى الموضوع لم يجرِ الاستصحاب باعتبار عدم حصول اليقين بالحكم. وأمّا إذا كان راجعاً إلى الحكم دون الموضوع فقد حصل اليقين بالحكم. ولا يقال: إنّ الشيء الثابت إنّما هو الجعل، ولم يتحقّق للحكم ثبوت في مرحلة الوجود الخارجي بلون من الألوان، فإنّ هذا تفكيك بين الجعل والمجعول، بأن يوجد الجعل ولا يوجد المجعول إلاّ متأخراً عن الجعل، وهذا مستحيل، فإنّهما متلازمان.

وذكر: أنّ المحقق النائيني(رحمه الله)قال بعدم جريان الاستصحاب التعليقي مطلقاً من باب أنّ القيد دائماً يرجع إلى الموضوع وإن كان بحسب الظاهر قيداً للحكم، فالقضية الشرطية مرجعها إلى القضية الحملية، والشرط يرجع إلى الموضوع، حيث برهن على أنّ انفكاك الحكم عن الموضوع وتأخّره عنه محال، فلو فرض قيد للحكم دون الموضوع كان هذا معناه تأخّر الحكم عن الموضوع وعدم وجوده عند وجوده حينما يكون ذلك القيد مفقوداً.

وذكر في مقام الردّ على هذا الذي نسبه إلى المحقّق النائيني(رحمه الله): أنّه إن كان يقصد برجوع قوله (العنب إذا غلى يحرم) إلى قوله (العنب الغالي يحرم) أنّه عبّر عن القضية الحملية بلسان


(1) راجع المستمسك: ج1، ص415 ـ 419 بحسب الطبعة الرابعة بمطبعة الآداب في النجف الأشرف.

392

القضية الشرطية من باب المجاز، أو الكناية والمسامحة في التعبير ونحو ذلك، فهذا خلاف ظاهر الكلام بلا قرينة، وإن قصد بذلك أنّ روح هذه العبارة ترجع إلى تلك العبارة وأنّهما في الروح واحد ببرهان عقلي، فليكن هذا صحيحاً، وليكن البرهان تامّاً، ولتكن روح القضيتين واحدة، لكن هذا لا دخل له بجريان الاستصحاب وعدمه، فإنّه في جريان الاستصحاب ينظر إلى نفس القضية التشريعية، لا إلى مآلها ومرجعها بحسب الروح، فمثلاً لو قال المولى: (إن كان شهر رمضان فصم) جرى استصحاب بقاء شهر رمضان عند الشك فيه، ووجب الصوم، وأمّا إن قال: (صم في شهر رمضان) لم يجرِ استصحاب بقائه ؛لأنّ ذلك لا يُثبت كون الصوم في شهر رمضان بنحو مفاد كان الناقصة، في حين أنّ روح القضيتين واحدة.

أقول: إنّ ما ذكره في المستمسك توجد فيه مواقع للنظر:

فأوّلاً: يرد عليه: أنّه لو تمّ ما ذكره من البرهان على جريان الاستصحاب إذا كان القيد راجعاً إلى الحكم من استحالة انفكاك المجعول عن الجعل، لم يفرّق فيه بين فرض رجوع القيد إلى الحكم أو إلى الموضوع، فإنّه عند رجوع القيد إلى الموضوع ـ أيضاً ـ يكون الجعل ثابتاً حين إنشاء القضية، فيكون المجعول ثابتاً لاستحالة الانفكاك بينهما.

وثانياً: يرد عليه: أنّه لو فرض عدم جريان الاستصحاب التعليقي إذا رجع القيد إلى الموضوع، وفرض برهان على رجوع القيد دائماً إلى الموضوع، فلا بدّ من القول بعدم جريان الاستصحاب التعليقي دائماً، ولا معنى لقوله: إن الاستصحاب تلحظ فيه نفس القضية التشريعية دون مآلها بحسب الروح، فإنّ القضية التشريعية التي يدور مدارها الاستصحاب ليست إلاّ المفاد الشرعي الذي يستفاد من الكلام بماله من القرائن الحالية والمقالية والعقلية المتصلة والمنفصلة. والبرهان العقلي على رجوع القيد إلى الموضوع قرينة على صرف القضية عن ظاهرها، وهي الشرطية إلى الحملية وقياس المقام بمثال (إن كان شهر رمضان فصم) و(صم في شهر رمضان) قياس مع الفارق، فإنّ هاتين القضيتين مفاد إحداهما غير مفاد الاُخرى، ولا توجد أيّ قرينة لإرجاع إحداهما إلى الآخرى. ومعنى وحدتهما في الروح ليس إلاّ وحدتهما في النتيجة العملية، أي: إنّ المكلّف على أيّ حال يصوم في شهر رمضان لا في شهر شعبان أو شوال مثلاً.

وثالثاً: يرد عليه: أنّ المحقّق النائيني(رحمه الله)لا يقول بما نسبه إليه، ولم يذكر أيّ برهان على رجوع قيد الحكم إلى قيد الموضوع، وكيف يقول برجوع قيد الحكم إلى قيد الموضوع مع أنّه

393

هو الذي يرى الميزان في باب المفاهيم كون القيد راجعاً إلى الحكم أو إلى الموضوع، فإذا كان القيد راجعاً إلى الحكم كانت القضية ذات مفهوم، وإذا كان راجعاً إلى الموضوع وكانت القضية وصفية أو لقبية فلا مفهوم لها؟! فلو أرجع كلّ القيود إلى الموضوع لا نسدّ عنده باب المفاهيم رأساً، مع أنّه ليس كذلك.

صحيحٌ أنّه هو يسمّي كل القيود بقيود الموضوع، لكنه لا يقصد بالموضوع ما قصده به السيد الحكيم(رحمه الله)في المستمسك، ممّا هو معروض الحكم من قبيل الماء بالنسبة للطهارة أو النجاسة، أو من قبيل العالم بالنسبة لوجوب الإكرام، وإنما يقصد بذلك القيود المقدّرة الوجود التي رتّب عليها حكم مقدّر الوجود، ويصبح الحكم فعلياً بصيرورتها فعلية، توضيح ذلك: أنّه(رحمه الله)يرى أنّ الأحكام مجعولات ومخلوقات للمولى لا للأسباب الشرعية من قبيل زوال الشمس وغروبها مثلاً؛ إذ لا يتعقّل كونها مخلوقة لها إلاّ بناءً على دعوى أنّ الشارع أعطى لها السببية فأصبحت سبباً للحكم حقيقةً، فحينما تزول الشمس مثلاً يكون زوالها سبباً للحكم فيوجد الحكم، ولكن جعل السببية محال، إذن فالمولى هو الذي يوجد هذه الأحكام مباشرةً، ثم هنا طريقان لتصوير إيجاد المولى لها:

أحدهما: أن يفترض أنّه متى ما يوجد مصداق للموضوع بحسب الخارج يجعل المولى الحكم على طبقه ويوجده، وهذا وإن كان ممكناً عقلاً لكنه غير محتمل خارجاً.

والثاني: أنّه يُنشي من أوّل الأمر حكماً مقدّر الوجود على موضوع مقدّر الوجود، ويصبح الحكم فعلياً متى ما أصبح الموضوع فعلياً.

هذا ما يقوله المحقّق النائيني(رحمه الله) فكلّما يكون دخيلاً في الحكم بمعنى أخذه مقدّر الوجود، ودخل فعليته في فعلية الحكم يسمّيه موضوع الحكم، وأيّ ربط لهذا بما ذكره في المستمسك من رجوع قيد الحكم إلى قيد الموضوع بالمعنى المقصود لصاحب المستمسك؟!

والمحقّق النائيني(رحمه الله)يقول في كلماته: إنّ القضية الحملية ترجع إلى القضية الشرطية، ويقصد بذلك بيان كون الموضوع مقدّر الوجود، فحيث إنّ الشرط يكون بمعنى التقدير، وتكون التقديرية في القضية الشرطية بارزة وفي القضية الحملية مستترة يُرجع القضية الحملية إلى القضية الشرطية، ولم يذكر أبداً كون القضية الشرطية راجعة إلى القضية الحملية إلاّ في مقام تأكيد العكس، أعني: رجوع القضية الحملية إلى الشرطية واتّحادها معها.

ثمّ إنّنا نذكر تعميقاً لفهمنا لما ذكره المحقّق النائيني(رحمه الله)من الوجه في عدم جريان الاستصحاب التعليقي اُموراً:

394

الأوّل: إنّ المحقق النائيني(رحمه الله)ذكر في مقام بيان عدم جريان الاستصحاب أنّ قيود الحكم ترجع إلى الموضوع، فقبل تحقّقها لا تحقُّقَ للحكم حتى يستصحب(1) فكأنّما يبدو من هذا الكلام أنّه لو لم ترجع قيود الحكم إلى الموضوع جرى الاستصحاب، وأنّه ذكر(رحمه الله)رجوع القيود إلى الموضوع دفعاً لفرضية لو تمت لجرى الاستصحاب التعليقي، فما هي تلك الفرضية؟

فنقول: لو كان المقصود بما جاء في هذا الكلام من كلمة الموضوع وقيود الحكم ما مضى عن المستمسك إذن يستفاد منه ما نسبه إليه في المستمسك من التفصيل بين ما لو كان القيد راجعاً إلى الحكم أو راجعاً إلى الموضوع، مع دعوى رجوع القيد دائماً إلى الموضوع، ولكن قد مضى أنّه ليس مقصوده(رحمه الله)ذاك المعنى من الموضوع وقيود الحكم وإنّما يقصد بالموضوع القيود المقدّرة الوجود التي قدّر عليها الحكم.

وقد فهم تلميذه المقرّر الكاظمي(رحمه الله)من كلامه أنّ المقصود هو التحرّز عن مبنى كون الأحكام مجعولة للأسباب الشرعية لا للمولى بنحو القضية الحقيقية المجعولة على القيود المقدّرة الوجود. ولهذا اعترض(رحمه الله)عليه تحت الخط بأنّه لا فرق بين ما إذا قلنا بأنّ الحكم مجعول للمولى بنحو القضية الحقيقية على الموضوع المقدر الوجود أو قلنا بأنّه مجعول للأسباب الشرعية، فإنّه على الثاني ـ أيضاً ـ ليس للحكم وجود قبل وجود السبب حتّى يستصحب.

أقول: لو كان مقصود المحقّق النائيني(رحمه الله)ما ذكره المقرّر الكاظمي(رحمه الله)فبالإمكان أن يدفع إشكال المقرّر بأن يقال: إنّ المحقق النائيني(رحمه الله)أبطل فرضية استصحاب القضية التعليقية بأنّها عقلية؛ إذ تارةً يفرض استصحاب جعل الحكم، واُخرى يفرض استصحاب الحكم الفعلي، وثالثة يفرض استصحاب القضية التعليقية. فالمحقق النائيني(رحمه الله)أبطل الأوّل بعدم الشكّ في البقاء، والثاني بعدم اليقين بالحدوث، والثالث بأنّها قضية عقلية. أمّا لو قلنا بأنّ الأحكام مجعولة للأسباب وأنّ الشارع جعلها أسباباً، إذن فالقضية التعليقية ليست عقلية، بل هي شرعية، فلا يتمّ تقريب المحقّق النائيني(رحمه الله).

نعم، بالإمكان أن يُذكر تقريب آخر لإبطال الاستصحاب، لكنّ المقصود أنّ التقريب الذي جاء به المحقّق النائيني(رحمه الله)يتوقّف على أن لا يفترض أنّ الأحكام مجعولة للاسباب وأنّ


(1) راجع فوائد الاُصول: الجزء الرابع ص171 بحسب الطبعة التي هي من منشورات مؤسسة النصر ومكتبة الصدر، وص467 بحسب طبعة جماعة المدرسين بقم.

395

الشارع جعلها أسباباً.

إلاّ أنّني أظنّ أنّ مقصود المحقّق النائيني(رحمه الله) لم يكن هو الاحتراز عن مبنى جعل السببية، وكون الأحكام مجعولة لتلك الأسباب، بل مقصوده هو الاحتراز عمّا يقوله المحقّق العراقي وصاحب المستمسك من ثبوت الحكم بالفعل قبل وجود تلك القيود، فلو قيل بذلك بأيّ بيان من البيانات كأن يقال مثلاً بأنّ القيد في الحقيقة إنّما هو الوجود اللحاظي في نفس المولى، وهو فعليّ كما قال بذلك المحقّق الخراساني(رحمه الله)في مقام تصوير الشرط المتأخر، إذن فما دام أنّ الحكم كان ثابتاً بالفعل جرى استصحابه.

وأمّا أنّ هذا الكلام هل هو صحيح كتقريب لجريان الاستصحاب في المقام أو لا فسيأتي الحديث عنه ـ ان شاء الله ـ.

الثاني: أنّ الإشكال على استصحاب القضية التعليقية المذكور في تقرير الشيخ الكاظمي(1) وفي أجود التقريرات(2) هو أنّ القضية التعليقية عقلية، إلاّ أنّ الشيخ الكاظمي اختصّ بذكر إشكال آخر(3) أيضاً، وهو: أنّ القضية التعليقية مقطوعة البقاء، فإنّنا نعلم الآن ـ أيضاً ـ أنّ العنب إذا غلى يحرم، وأنّه مهما انضمّت القيود بعضها إلى بعض ثبت الحكم.

وهذا الإشكال لا يرد حينما نريد إجراء الاستصحاب بعد العلم بوجود الزبيب خارجاً؛ لأنّنا نشير إلى هذا الوجود الخارجي ونقول: هذا الوجود كان سابقاً إذا غلى يحرم، ونعلّق الحرمة في هذا الكلام على غليانه فحسب دون عنبيّته؛ لأنّ عنبيّته سابقاً مقطوع بها. ومن الواضح أنّ حرمة هذا الوجود الآن على تقدير غليانه مشكوكة وليست مقطوعاً بها.

نعم، يرد هذا الإشكال على استصحاب الفقيه قبل وجود الموضوع خارجاً، فإنّه عندما يتصوّر زبيباً فرضيّاً يضطّر أن يأخذ في طرف المعلّق عليه العنبيّة والغليان معاً كي يفرض القطع بالحرمة حدوثاً، ومع افتراض ذلك معلّقاً عليه تكون الحرمة مقطوعة بقاءً أيضاً.

ولعلّ النظر في الإشكال كان إلى هذا النحو من إجراء الاستصحاب.

الثالث: قد عرفت أنّ المحقّق النائيني(رحمه الله)ذكر ثلاث فرضيات:

1 ـ استصحاب جعل الحكم.

2 ـ استصحاب الحكم الفعلي.


(1) راجع فوائد الاُصول: ج4، ص469 بحسب طبعة جماعة المدرسين.

(2) راجع أجود التقريرات: ج2، ص412.

(3) راجع فوائد الاُصول: ج4 ص469 بحسب طبعة جماعة المدرسين.

396

3 ـ استصحاب القضية التعليقية.

وأبطل الأوّل بالعلم بالبقاء، والثاني بعدم العلم بالحدوث والثالث بأنها قضية عقلية.

ثمّ ذكر بعد انتهائه من هذه الفروض فرضية، وهي استصحاب السببية وناقشها(1). وقد يقال: إنّ هذه هي عين الفرضية الثالثة وهي استصحاب القضية التعليقية، فما معنى ذكرها مستقلاًّ ومناقشتها؟

وتحقيق الكلام في ذلك: أنّه تارةً يقصد بالسببية تلك الحالة الثابتة حتى في زمان عدم وجود السبب ولا المسبب. وهذا مرجعه إلى القضية التعليقية فيتسجّل ما عرفته من الإشكال، وهو: أنّه لا معنى لذكرها كفرضية رابعة. واُخرى يقصد بها السببية بمعنى التأثير الفعلي الذي لا يتحّقق إلاّ بعد تحقّق تمام السبب خارجاً، وهذا يكون فرضية رابعة. والذي يناسب تقرير الكاظمي(رحمه الله)هو الأوّل، حيث إنّه اعترف بأنّ السببية كانت موجودة حدوثاً، وذكر في مقام مناقشة استصحابها أنّها عقلية وأنها متيّقنة البقاء، والذي يناسب أجود التقريرات هو الثاني، حيث إنّه اعترض على استصحاب السببية بأنّه إن قصد استصحاب جعل السببية فهو مقطوع البقاء لعدم احتمال النسخ، وإن قصد استصحاب السببية الفعلية فهي فرع تحقق السبب خارجاً بتمام قيوده وأجزائه، فهي ليست متيّقنة الحدوث.

وبعد أن عرفنا كلام المحقق النائيني(رحمه الله)في مقام إبطال الاستصحاب التعليقي نشرع في تمحيصه، ونعقد الكلام في ذلك في مقامين:

الأوّل: في ما هو المختار عندنا من مناقشته، وهي مناقشة في إطلاق كلامه لا في أصل كلامه، فيثبت بها التفصيل في جريان الاستصحاب التعليقي.

والثاني: في مناقشات اُخرى لو تمّت لأبطلت أصل كلام المحقّق النائيني(رحمه الله)لا إطلاقه.

أما المقام الأوّل: فالمدعى في المقام هو التفصيل بين ما لو كان كل قيود الموضوع في عرض واحد، أو كان بعضها مأخوذاً في موضوع بعض، فلا يجري الاستصحاب في الأوّل، ويجري في الثاني.

وتوضيح المقصود: أنّنا نوافق على رجوع قيود الحكم إلى الموضوع، وأقصد بالموضوع ما هو مصطلح المحقّق النائيني(رحمه الله)من القيود المأخوذة في الحكم مقدّرة الوجود المحكوم عليها


(1) راجع فوائد الاُصول: ج4 ص471 و472 بحسب طبعة جماعة المدرسين، وأجود التقريرات: ج2، ص412 ـ 413.

397

بنحو القضية الحقيقية، لا الموضوع بالمعنى الذي مضى عن صاحب المستمسك، ولكن ليس هناك برهان يقتضي كون تلك القيود مأخوذة كلّها في عرض واحد، بل قد يؤخذ قيد في موضوع تقدير القيد الآخر. فتارةً يقول: (العنب الغالي يحرم)، أو يقول: (إذا كان العصير عنباً وكان غالياً يحرم) فقيد العنبيّة والغليان يكونان في عرض واحد، ومرجع القضية الاُولى إلى القضية الثانية لرجوع القضايا الحملية إلى القضايا الشرطية كما ذكر المحقّق النائيني(رحمه الله) فحينما يقول (العنب الغالي يحرم) كأنما قال: (إذا كان عنبٌ وكان غالياً يحرم)، فكلّ من قيد العنبية وقيد الغليان مقدّر في عرض تقدير الآخر.

واُخرى يفرض أحد القيدين موضوعاً لتقدير القيد الآخر وذلك: إمّا بأن يذكر القيد الثاني بنحو القضية الشرطية المحمولة على القيد الأوّل، بأن يقول: (العنب إذا غلى يحرم) أو بأن يذكره لا بنحو الشرط، بل بنحو القيد، يجعله في قضية محمولة على القيد الأوّل بأن يقول مثلاً: (العنب يحرم الغالي منه) ففي القسم الأوّل وهو ما كان القيدان في عرض واحد لا يجري الاستصحاب، وفي القسم الثاني يجري.

وهذا التفصيل يختلف عن التفصيل بين فرض أخذ القيد الثاني بلسان القضية الشرطية وأخذه بلسان القضية الحملية الذي مضى نقله عن المستمسك، فمفروض هذا التفصيل هو إلحاق مثل قوله: (العنب يحرم الغالي منه) بقوله: (العنب الغالي يحرم) ومفروض تفصيلنا هو الحاق ذلك بقوله: (العنب إذا غلى يحرم).

وقد اختار السيّد الطباطبائي اليزدي(رحمه الله) في باب الاستصحاب التعليقي التفصيل الذي مضى عن المستمسك، أعني التفصيل بين ما لو أخذ القيد الثاني بلسان القضية الشرطية المحمولة على القيد الأوّل فقال مثلاً: (العنب إذا غلى يحرم) جرى الاستصحاب، ومتى ما اُخذ بلسان القضية الحملية لم يجرِ الاستصحاب.

وذكر في وجه ذلك: أنّه لو اُخذ القيد الثاني بلسان القضية الشرطية فهذا يعني جعل الملازمة؛ لأنّ القضية الشرطية مفادها الملازمة بين الشرط والجزاء، فتصبح الملازمة شرعية وتستصحب، ولو اُخذ بلسان القضية الحملية فهذا جعل للمحمول على الموضوع والملازمة لا تكون إلاّ عقلية انتزاعية(1).


(1) راجع رسالة السيّد الطباطبائي اليزدي(رحمه الله)في منجزات المريض المطبوعة في ملاحق تعليقته على المكاسب ص17.

398

وهذا البيان يرد عليه: أنّه إن قصدت به مجعوليّة الملازمة وشرعيّتها مباشرةً، فهذا غير معقول مطلقاً، فإنّ الملازمة من الاُمور التكوينية لا التشريعية، وإن قصدت به شرعيّتها باعتبار شرعيّة منشأ انتزاعها، فهذا ثابت حتّى في القضية الحملية ولو كان بلسان: (العنب الغالي يحرم).

وأمّا التفصيل الذي نحن نتبنّاه فهو: أنّه لو كان القيد الثاني الذي لم يوجد في الزمان السابق ثمّ وجد بعد طروّ تغيّر على حالة القيد الأوّل مأخوذاً مع القيد الأوّل في عرض واحد، كأن يقول: (العنب الغالي يحرم) أو يقول: (العصير إذا كان عنباً وكان غالياً يحرم) لم يجرِ الاستصحاب، ولو كان القيد الأوّل مأخوذاً بعنوان الموضوع لتقدير القيد الثاني سواءً كان بلسان قضية شرطية محمولة على القيد الأوّل كقوله: (العنب إذا غلى يحرم) أو بلسان قضية حملية محمولة عليه كقوله: (العنب يحرم الغالي منه) جرى الاستصحاب.

وإذا أردنا أن نتكلّم بلغة الشيخ النائيني(رحمه الله)الذي يقول: هل يستصحب الجعل أو المجعول أو التعليقية العقلية الانتزاعية؟ قلنا: نستصحب المجعول، وقول الشيخ النائيني(رحمه الله): إنّ المجعول لم يكن فعلياً لعدم الغليان مثلاً إنّما يأتي فيما إذا كان الغليان مع العنبية مثلاً قيدين في عرض واحد، فلا يوجد عندئذ إلاّ حكم واحد وهو الحرمة وموضوعه العنب الغالي، وهذا الحكم لم تفترض فعليّته لعدم افتراض الغليان. أمّا إذا كان الغليان مأخوذاً كموضوع أو كشرط للحرمة، وكان العنب مأخوذاً في موضوع القضية التي كان موضوعها أو شرطها الغليان، كما لو قال: (العنب يحرم الغالي منه) أو قال: (العنب إذا غلى يحرم) ففي الحقيقة يوجد في المقام حكمان، أو قل: قضيّتان: إحداهما: قضيّةٌ أمّ، وهي: (إذا غلى يحرم) أو (يحرم الغالي منه) وقد جعلت هذه القضية على العنب. والثانية: قضّيةٌ بنت وهي: (يحرم) وقد جعلت على الغليان، والثانية هي التي لم تفترض فعليّتها لعدم افتراض فعلية موضوعها، وهو الغليان، ولكنّ الاُولى افترضت فعلية لافتراض فعلية موضوعها، وهو العنب، فنحن نستصحب القضيّة الأُمّ أو الحكم الأُمّ(1).

 


(1) لا يخفى أنّ هذا البيان يستنبط من كلام الشيخ الإصفهاني(رحمه الله)بفرق أنّه(رحمه الله)لم يوضّح أنّ الأمر الذي هو جزء من القضية الأُم وربطت به القضية البنت قد يكون على شكل الموضوع في القضية الحملية، ومحموله القضية البنت. واُخرى يكون على شكل الشرط، وجزاؤه القضية البنت.

ولولا أنّه(رحمه الله)اعتقد بوجود وجه آخر لحلّ مشكلة الاستصحاب التعليقي زائداً على هذا الوجه، وأنّ ذاك