281

هذه هي عمدة ما ذكره الأصحاب من وجوه القول بالانحلال، وقد عرفت عدم تماميّة شيء منها.

هذا تمام الكلام في أصل مسألة ملاقي بعض الأطراف.

وبقي في المقام ذكر اُمور:

 

التبادل في الحكم بين الملاقي والملاقى

الأمر الأوّل: أنـّه حاول بعض من قال بعدم وجوب الاجتناب عن الملاقي أنْ يوقع التبادل بين حكم الملاقي والملاقى في بعض الصور، كما إذا حصلت الملاقاة قبل العلم بالنجاسة، ثم خرج الملاقى عن محلّ الابتلاء، ثم علم إجمالاً بالنجاسة،


وثانياً ـ لو سلّمنا رتبتين للطرف المشترك فالمفروض أنّ التكليف لو كان في الطرف المشترك فهو في كلتا الرتبتين، إذن فالعلم الإجمالي المردّد بينه وبين الطرف المختصّ ـ وهو الملاقي ـ علم إجمالي بالحدوث، فإنّ التكليف لو كان في الملاقي فهو حدوثي، ولو كان في طرف الملاقى فهو أيضاً حدوثي في عالم الرتب، أي: أنـّه حدث في الرتبة الاُولى واستمر إلى الرتبة الثانية، فلو أردنا قياس الرتبة بالزمان كان هذا من قبيل ما لو علمنا إجمالاً: إمـّا بنجاسة هذا الإناء في هذا اليوم، أو بنجاسة الإناء الآخر من الأمس إلى اليوم، ولا شكّ في تنجيز ذلك.

ويمكن بيان الانحلال بالتقدّم الرتبي للمعلوم بتقريب آخر قد يكون أقلّ تعقيداً من التقريب الماضي، وذلك بأن يقال: إنّ نجاسة الملاقي في طول نجاسة الملاقى؛ لأنـّها مسبّبة عنها، وأمـّا نجاسة طرف الملاقى فهي في عرض كلتا النجاستين، فلها إطلاق لكلتا المرتبتين، فمن المحتمل أن يكون المعلوم الثاني بقائياً بحسب عالم الرتب، وذلك بلحاظ طرف الملاقى الذي هو الطرف المشترك، وهذا التقريب مشترك مع التقريب السابق في الروح والجوهر.

ويرد عليه: أوّلاً ـ أنّ كون نجاسة طرف الملاقى في عرض نجاسة الملاقى، وفي عرض نجاسة الملاقي لا يعني ثبوتها في مرتبتين؛ لأنّ عرضيّتها لهما ليست بمعنى تقيّدها بالمرتبتين بأنْ تكون مثلاً معلولة مع نجاسة الملاقى لعلّة واحدة، وفي نفس الوقت معلولة مع نجاسة الملاقي لعلّة واحدة، فإنّ هذا مستحيل، وإنـّما تكون عرضيّتها لهما معنى تحرّرها من قيد كلّ من المرتبتين.

وثانياً ـ الإشكال الأخير الذي أوردناه على التقريب السابق ـ وهو أنـّه بعد فرض كون الطرف المشترك في مرتبتين ـ يكون علمنا الإجمالي مردّداً بين الطرف المختصّ في مرتبته، وهي المرتبة الثانية فحسب، والطرف المشترك في كلتا مرتبتيه فهو على كلا تقديريه علم بتكليف حدوثي.

282

وبعد ذلك رجع الملاقى إلى محلّ الابتلاء، فهنا يقال بعدم وجوب الاجتناب عن الملاقى، ووجوبه عن الملاقي(1).

وهذا البحث لا موضوع له بناءً على مبنانا من عدم الفرق بين الملاقي والملاقى في وجوب الاجتناب، وعدم تماميّة شيء من وجوه الانحلال، إلّا أنـّنا نتكلّم في هذا الفرع مبنيّاً على مبنى القوم.

والكلام في ذلك يقع في جهات ثلاث: الاُولى: في حكم الملاقي عند حصول العلم الإجمالي بالنجاسة، وقبل رجوع الملاقى إلى محلّ الابتلاء. والثانية: في حكم الملاقى بعد رجوعه إلى محلّ الابتلاء. والثالثة: في حكم الملاقي بعد رجوع الملاقى إلى محلّ الابتلاء.

أمـّا الجهة الاُولى: فالحكم فيها يختلف باختلاف المباني، وقد ذكرنا فيما سبق مباني أربعة للانحلال، وعدم وجوب الاجتناب عن الملاقي، وتلك المباني تختلف في جريانها وإثبات عدم وجوب الاجتناب عن الملاقي هنا وعدمه.

فالمبنى الأوّل: كان عبارة عن الانحلال بملاك تعارض الأصل في طرف الملاقى في زمان سابق مع الأصل في الملاقى وتساقطهما، فيبقى الأصل في الملاقي سليماً عن المعارض، ويجري وإن لم ينحل بذلك الأثر العقلي للعلم الإجمالي، وهو اقتضاء التنجيز لا العلّيّة، فإنّ مجرّد الاقتضاء لا يمنع عن جريان أصل واحد في أحد الطرفين، وهذا المبنى ـ كما ترى ـ لا يثبت هنا عدم وجوب الاجتناب عن الملاقي؛ لأنّ الأصل في طرف الملاقى لم يكن في زمان سابق مبتلىً بالمعارض، فالآن يعارض الأصل في الملاقي.

والمبنى الثاني: كان عبارة عن الانحلال ـ بناءً على الاقتضاء أيضاً ـ بملاك تعارض الأصل في طرف الملاقى مع الأصل في الملاقى في رتبة سابقة، فيبقى الأصل في الملاقي سليماً عن المعارض، وهذا المبنى يجري في المقام ويثبت عدم وجوب الاجتناب عن الملاقي، لأنّ الأصل في طرف الملاقى قد ابتلى من الآن بالتعارض مع الأصل في الملاقى، لأنـّه أصبح الآن مجرىً للأصل بالرغم من خروجه عن محلّ الابتلاء، وذلك بلحاظ أثر النجاسة للملاقي، فالملاقى يكون مجرى لأصالة


(1) راجع الكفاية: ج 2، ص 227 حسب الطبعة المشتملة على تعليق المشكيني، ونهاية الدراية: ج 2، ص 260 ـ 261.

283

الطهارة النافية لنجاسة ملاقيه، فيقع التعارض بين الأصلين في الرتبة السابقة، ويتساقطان وتصل النوبة إلى أصالة الطهارة في الملاقي.

والمبنى الثالث: كان عبارة عن انحلال أصل الأثر العقلي للعلم الإجمالي من العلّية أو الاقتضاء بثبوت علم إجمالي منجّز في المرتبة السابقة لطرف الملاقى، وهو العلم الإجمالي الأوّل السابق رتبة على العلم الإجمالي الثاني، وهذا المبنى لا ينفع هنا للترخيص في الملاقي، لعدم وجود علم منجّز في المرتبة السابقة لطرف الملاقى، فيتنجّز طرف الملاقى مع الملاقي بالعلم الإجمالي بنجاسة أحدهما.

والمبنى الرابع: كان عبارة عن انحلال الأثر العقلي للعلم الإجمالي من العلّية أو الاقتضاء بثبوت معلوم منجَّز يكون مقدّماً رتبة على هذا المعلوم، وهذا المبنى أيضاً لا يأتي في المقام، إذ ليس هنا معلوم آخر في الرتبة السابقة على النجاسة المعلومة بين الملاقي وطرف الملاقى منجَّز، حتى يمنع عن تأثير العلم الثاني بالصياغة الضيائية أو الميرزائية، ومجرّد ثبوت نجاسة اُخرى معلومة في المرتبة السابقة على هذه النجاسة المعلومة لا أثر له، فإنّ تلك النجاسة المعلومة بعد فرض عدم تنجّزها حالها حال النجاسة المشكوكة، وإسقاطها للعلم الثاني عن كونه علماً بتكليف جديد يكون على حدّ إسقاط النجاسة المشكوكة للعلم الثاني عن كونه علماً بتكليف جديد، وفي نهاية الأمر لابدَّ لصاحب هذا المبنى دفعاً لهذا النقض الذي هو من الواضحات أنْ يأخذ في المعلوم الأوّل قيد التنجّز.

وأمـّا الجهة الثانية: فيختلف الحكم فيها ـ أيضاً ـ باختلاف المباني:

فعلى المبنى الأوّل لا يجب الاجتناب عن الملاقى بعد دخوله في محلّ الابتلاء، لأنّ الأصل في طرفه قد سقط في الزمان السابق بالتعارض مع الأصل في الملاقي.

وعلى المبنى الثاني قد ظهر أنّ أصالة الطهارة في الملاقى قد سقطت قبل رجوعه إلى محلّ الابتلاء بالتعارض مع أصالة الطهارة في طرفه، إلّا أنـّه يمكن أنْ يقال: إنّ أصالة الطهارة إنـّما سقطت في ذاك الوقت بلحاظ الأثر الثابت بالنسبة للملاقي، وأمـّا بلحاظ باقي الآثار فلم تكن جارية في نفسها، فالآن تجري بلا معارض؛ لأنّ أصالة الطهارة تنحلّ بعدد آثار الطهارة.

إلّا أنّ التحقيق هو التفصيل بين ما لو قلنا فقط بالمبنى الثاني ـ وهو الانحلال بملاك تقدّم الأصل رتبة ـ أو قلنا بالمبنى الأوّل أيضاً ـ وهو الانحلال بملاك تقدّم

284

الأصل زماناً؛ لعدم تناف بين المبنيين ـ فعلى الأوّل يسقط الأصل في الملاقى الآن حتّى بلحاظ باقي الآثار بالتعارض مع الأصل في طرفه؛ لأنّ الأصل في طرفه ليس مبتلىً بالتعارض مع أصل آخر في المرتبة السابقة على الأصل في الملاقى، وعلى الثاني يجري الآن الأصل في الملاقى بلحاظ باقي الآثار؛ لأنّ الأصل في طرفه قد سقط في زمان سابق بالتعارض مع الأصل في الملاقى بلحاظ أثره في الملاقي، فالأصل في الملاقى بلحاظ باقي الآثار يجري فعلاً بلا معارض.

وعلى المبنى الثالث والرابع لا يمكن إثبات عدم وجوب الاجتناب عن الملاقى بأحد المبنيين؛ لأنـّه لا يوجد علم منجِّز سابق رتبة على ما ينجّز الملاقى الآن قد نجّز في الرتبة السابقة طرف الملاقى، فإنّ ما نجّز طرف الملاقى كان هو العلم الإجمالي بنجاسته أو نجاسة الملاقي، وهو ليس سابقاً رتبة على ما يقتضي الآن تنجيز الملاقى، وكذلك لا يوجد معلوم منجَّز سابق رتبة، فإنّ المعلوم المنجّز كان عبارة عن نجاسة الملاقي أو طرف الملاقى، وليس هذا سابقاً رتبة على المعلوم المنجّز الآن، والتقدّم الزماني في المقام لا يفيد، لأنـّه ليس في الطرف المشترك حتّى يمنع عن كون العلم الثاني علماً بحدوث التكليف مثلاً.

وأمـّا الجهة الثالثة: فيختلف الحكم فيها ـ أيضاً ـ باختلاف المباني:

فبناءً على أنّ العبرة في الانحلال بالتقدّم الزماني للأصل، وبقاء المتأخّر فارغاً عن المعارض في زمانه لا بدّ هنا من الاجتناب عن الملاقي بعد رجوع الملاقى إلى محلّ الابتلاء؛ لأنّ أصله قد سقط في زمان سابق، وهو زمان خروج الملاقى عن محلّ الابتلاء بالتعارض مع الأصل في طرف الملاقى.

وبناءً على أنّ ميزان الانحلال هو التقدّم الرتبي للأصل، وبقاء الأصل المتأخّر فارغاً عن المعارض في رتبته لا يجب الاجتناب الآن عن الملاقي، كما لا يجب الاجتناب عنه قبل رجوع الملاقى إلى محلّ الابتلاء؛ لأنّ الأصل في طرف الملاقى مبتلىً بالتعارض مع أصل الملاقى في المرتبة السابقة(1).

 


(1) ولو بنينا على أنّ ميزان الانحلال هو كلّ من التقدّم الرتبي والزماني، بمعنى كفاية كلّ واحد منهما، فالنتيجة في المقام هي: أنّ أصل الطهارة في طرف الملاقى قد تعارض مع أصل الطهارة في الملاقى من قبل رجوعه إلى محلّ الابتلاء ـوذلك بلحاظ ما لها من أثر إثبات طهارة

285


الملاقي ـ وتساقطا، وبقي أصل الطهارة في الملاقي، وكذلك في الملاقى بعد رجوعه إلى محلّ الابتلاء بلحاظ باقي الآثار بلا معارض، أمـّا الأوّل؛ فلأنّ معارضه سقط في رتبة سابقة، وأمـّا الثاني؛ فلأنّ معارضه سقط في زمان سابق، ومن هنا يتّضح أنـّنا لو آمنّا بكلا المبنيين ـ أعني كفاية التقدّم الرتبي وكفاية التقدّم الزماني ـ فهما لا يتعاكسان في التأثير، باعتبار أنّ أصل طهارة الملاقي سابق زماناً، وأصل طهارة الملاقى سابق رتبة، فأيّ العلمين هو الذي يحلّ الآخر؟ فالصحيح: أنّ كلا التقدّمين يؤثّر أثره، ولا تضارب بين الأثرين، فيسقط أصل طرف الملاقى مع أصل الملاقى بلحاظ أثره في الملاقي، ويجري الأصل في الملاقي وفي الملاقى بلحاظ باقي الآثار؛ وذلك لأنّ أصل الطهارة في الملاقى قد انحل إلى أصل بلحاظ أثر طهارة الملاقي، وإلى أصل بلحاظ باقي الآثار، والأوّل يتقدّم بالتقدّم الرتبي، ولا يعاكسه تقدّم زماني، فهو الذي يتعيّن للسقوط بالتعارض مع أصل طرف الملاقى، وينجو كلّ من الأصل في الملاقي، والأصل في الملاقى بلحاظ باقي الآثار من التعارض.

نعم، يمكن فرض التعاكس والتضارب بين المبنيين على تقدير الإيمان بهما معاً في فرع آخر، وهو ما لو علمنا أولاً إجمالاً بنجاسة الملاقي أو طرف الملاقى، ثم علمنا بأنّ النجس المعلوم إنْ كان هو الملاقي فنجاسته إنـّما نشأت من ملاقاته للملاقى، فعلمنا إجمالاً بنجاسة الملاقى أو طرفه، فهنا يكون الأصل في الملاقي سابقاً زماناً، والأصل في الملاقى سابقاً رتبة، ولم يكن الأصل السابق رتبة جارياً في الزمان السابق حتى بلحاظ أثر الملاقي؛ لأنـّنا لم نكن نعلم أصلاً أنّ النجاسة المعلومة لو كانت في طرف الملاقي فقد نشأت من الملاقاة، فهنا قد يتصور أنّ المبنيين يتعاكسان، فمقتضى مبنى كون العبرة في التقدّم الزماني هو جريان الأصل في الملاقى؛ لأنّ الأصل في الملاقي مع طرف الملاقى تساقطا في زمان سابق، ومقتضى مبنى كون العبرة بالتقدّم الرتبي هو جريان الأصل في الملاقي؛ لأنّ الأصل في الملاقى مع طرفه تساقطا في رتبة سابقة، فلو آمنّا بكلا المبنيين فكيف التوفيق في المقام؟

والجواب: أنّ التقدّم الزماني هو الذي يؤثّر في المقام دون التقدّم الرتبي، والسرّ في ذلك هو أنّ التقدّم الرتبي إنـّما يوجب حكومة الأصل على الأصل المتأخّر رتبة عنه، المعاصر زماناً له، ولا يوجب حكومته على الأصل في زمان سابق عليه؛ لأنـّه في ذاك الزمان لم يكن موجوداً، ولا معنىً لحكومة أصل لا وجود له على أصل موجود، فذاك الأصل لو حكم على الأصل الآخر، وتقدّم عليه، فانما يحكم عليه ويتقدّم عليه، من حين وجوده، ولذا نرى أنّ من يؤمن بمبنى الانحلال على أساس التقدّم الرتبي فحسب، دون التقدّم الزماني، إنـّما يقول في هذا الفرع بجريان الأصل في الملاقي ونجاته عن المعارض بعد حصول العلم الإجمالي الثاني؛ لأنـّه ـ عندئذ ـ سقط معارضه بأصل حاكم ومقدّم عليه، ولا يشكّ في وجوب الاجتناب عنه قبل ولادة العلم

286

وبناءً على المبنى الثالث - وهو انحلال الأثر العقلي للعلم بمنجّزيّة العلم السابق رتبةـ قد عرفت أنـّه قبل رجوع الملاقى إلى محلّ الابتلاء يجب الاجتناب عن الملاقي بالعلم الإجمالي بنجاسته، أو نجاسة طرف الملاقى، وذلك لعدم وجود علم منجّز سابق رتبة، لكن بعد رجوع الملاقى إلى محلّ الابتلاء يمكن القول بانحلال العلم الإجمالي بنجاسة الملاقي أو طرف الملاقى، وذلك لمنجّزية العلم الإجمالي بملاقاة الملاقى(1) أو طرفه للنجس، وهذا العلم الإجمالي مقدّم رتبة على العلم الإجمالي بنجاسة الملاقي أو طرف الملاقى، فإنـّه لو ارتفع الآن العلم الإجمالي الأوّل لارتفع الثاني بسبب ارتفاعه.

ولكن يمكن الإيراد على ذلك بأنّ هنا علماً إجماليّاً تدريجيّاً منجِّزاً للملاقي، وهو العلم الإجمالي بنجاسة طرف الملاقى في القطعة الاُولى من الزمان، وهي قطعة


الإجمالي الثاني؛ لتعارض أصله مع أصل طرف الملاقى وتساقطهما.

وعليه، فالنتيجة هي: أنـّنا لو آمنّا بكلا المبنيين، فقبل ولادة العلم الإجمالي الثاني لا شكّ في أنّ الأصل في الملاقي مع الأصل في طرف الملاقى تعارضا وتساقطا، وبعد ولادة العلم الإجمالي الثاني يخلق أصل الطهارة في الملاقى، وهو لا يحكم على أصل الطهارة في الملاقي، كي يحلّ محلّه في التعارض مع أصل الطهارة في الملاقى؛ لأنّ حكومته عليه فرع وجود المحكوم في ذاته، وبقطع النظر عن الحكومة، في حين أنّ المحكوم غير موجود؛ لأنّ الإيمان بالمبنى الأوّل ـ وهو كفاية التقدّم الزماني للانحلال ـ يساوق الإيمان بأنّ الأصل الذي مات في زمان سابق لا يحيى مرّة اُخرى.

(1)الوجه في تبديل التعبير بالعلم الإجمالي بنجاسة الملاقى أو طرفه، إلى التعبير بالعلم الإجمالي بملاقاة الملاقى أو طرفه للنجس، هو أنـّه لو ذكر الأوّل لورد عليه: أنّ المنجِّز إنـّما هو العلم ببقاء نجاسة الملاقى أو طرفه، لا بحدوثها، والعلم الإجمالي بنجاسة الملاقي أو طرف الملاقى إنـّما هو متأخّر رتبة عن العلم الإجمالي بحدوث النجاسة في الملاقى أو طرفه، لا ببقائها فيه.

نعم، الصحيح هو: أنّ العلم الإجمالي بملاقاة الملاقى أو طرفه للنجس أيضاً ليس هو المنجِّز؛ لأنـّه علم بموضوع التكليف لا علم بالتكليف، والمنجِّز إنـّما هو العلم بالتكليف، لكن المفروض الغفلة عن هذا الإشكال، وعدم الالتفات إلى أنّ العلم بموضوع التكليف ليس هو المنجِّز، وإلّا لبطل أصل مبنى انحلال العلم بنجاسة الملاقي، أو طرف الملاقى بالتنجّز الحاصل بالعلم السابق رتبة، وهو العلم بنجاسة الملاقى أو طرفه؛ لأنّ العلم بنجاسة الملاقى أو طرفه أيضاً علم بموضوع التكليف لا بالتكليف.

287

ما قبل رجوع الملاقى إلى محلّ الابتلاء، أو نجاسة الملاقي في القطعة الثانية من الزمان، وهي قطعة ما بعد رجوع الملاقى إلى محلّ الابتلاء، وهذا العلم لا يوجد علم سابق عليه رتبة منجِّز للطرف الأوّل منه، حتّى يبقى الملاقي بلا تنجيز، فإنّ الطرف الأوّل لم يكن منجّزاً بالعلم الإجمالي الأوّل المتقدّم رتبة على هذا العلم، بل كان منجّزاً بالعلم الإجمالي الثاني الذي هو في عرض هذا العلم.

ولكن قد يمكن دفع هذا الإيراد، وذلك كما لو ادّعى ـ بناءً على ما هو المفروض من مبناهم من أنّ نسبة التنجّز إلى العلم نسبة الأثر إلى المؤثر ـ أنـّه يشترط في تأثير العلم الإجمالي التدريجي لتنجيز الطرف المتأخّر أنْ يكون باقياً إلى زمان الطرف المتأخّر على قابليّته لتنجيز التكليف على كلّ تقدير، بحيث إنّ الطرف السابق بقطع النظر عن مضيّ أمده، وعدم تعقّل تنجّزه فعلاً يقبل التنجيز بهذا العلم، وبكلمة اُخرى: يشترط في تنجيز العلم الإجمالي التدريجي للطرف المتأخّر أن يكون الطرف المتقدّم بنحو بحيث لو كان متأخّراً لتلقّى التنجيز من هذا العلم، أو قل: يشترط في ذلك أنْ يكون الطرف المتقدّم بحيث لو أمكن محالاً تنجيزه بعلم متأخّر عنه لتنجّز بهذا العلم، وما نحن فيه ليس من هذا القبيل، فإنّ الطرف المتقدّم ـ وهو نجاسة طرف الملاقى فيما قبل رجوع الملاقى إلى محلّ الابتلاء ـ لو فرض إمكان تلقّيه للتنجيز من علم متأخّر عنه لما تلقّى تنجيزه من هذا العلم؛ إذ على هذا الفرض ينجّزه العلم السابق رتبة على هذا العلم، وهو العلم بملاقاة الملاقى أو طرفه للنجس.

 

فرض الشكّ في السراية والسببيّة

الأمر الثاني: قد فصّل في المقام ـ كما سبق ـ في الملاقي لأحد أطراف الشبهة بين القول بالسراية والقول بالسببيّة، فلا يجب الاجتناب عنه بناءً على السببيّة؛ لما مضى عنهم من عدم منجّزيّة شيء من العلمين، أمـّا العلم الأوّل فلأنـّه ليس علماً بتمام موضوع الحكم بالاجتناب عن الملاقي، وأمـّا العلم الثاني فلانحلاله بوجه من الوجوه ـ ونتكلّم هنا فيما نريد أنْ نتكلّم عنه بناءً على الوجه الثاني من وجوه الانحلال، وهو أنّ الأصل في طرف الملاقى تعارض مع الأصل في الملاقى في المرتبة السابقة، وبقي الأصل في الملاقي بلا معارض ـ وهذا بخلاف فرض القول بالسراية، فيجب على هذا الفرض الاجتناب عن الملاقي؛ لمنجّزيّة كلا العلمين، أمـّا

288

الأوّل؛ فلأنّ المفروض أنّ نجاسة الملاقي عين نجاسة الملاقى سرت إلى الملاقي، فالعلم الأوّل كان علماً بما هو تمام الموضوع للحكم، وأمـّا الثاني؛ فلأنـّه ليست في المقام سببيّة ومسببيّة بين نجاسة الملاقى ونجاسة الملاقي، حتى تفرض رتبتان للاُصول، ويفترض تساقط أصل الملاقى مع أصل طرفه في الرتبة السابقة، ووصول النوبة إلى أصل الملاقي.

هذا هو التفصيل الذي يقال في المقام.

والمقصود في هذا الأمر هو أنْ نتكلّم ـ بعد فرض تسليم هذا التفصيل ـ عن حكم فرض الشكّ والتردّد بين السراية والسببيّة، وإنـّما نذكر ذلك لأجل اهتمام المحقّق النائينيّ (رحمه الله) بالبحث عن ذلك(1) فنقول: إذا تردّد الأمر بين السراية والسببيّة بناءً على عدم وجوب الاجتناب عن الملاقي على السببيّة، ووجوبه على السراية، فالعلم الإجمالي الأوّل لا ينجّز في المقام؛ وذلك لأنـّه إذا قلنا بالسراية ـ ولو بالمعنى المعقول ـ وهو وجوب الاجتناب عن النجس بمعنىً بسيط يحصله ترك استعمال النجس، وما يلاقيه، ثبتت هنا مؤونة زائدة غير ثابتة على القول بالسببيّة، وتلك المؤونة الزائدة عبارة عن لزوم ترك ملاقي محتمل النجاسة عند العلم الإجمالي بالنجاسة تحصيلاً للقطع بتحقّق الاجتناب عن النجس، وهذا بخلاف فرض السببية، وإذا كانت السراية مستبطنة لمؤونة زائدة جرت الاُصول المؤمِّنة العقليّة والشرعيّة.

وأمـّا العلم الإجمالي الثاني فإذا تردّدنا بين السراية والسببيّة فقد شككنا في ابتلاء الأصل في الملاقي بالمعارض المتّصل، وهو الأصل في الملاقى وعدمه، وهذا الشكّ منشأه الشكّ في حكومة أصل الملاقى على أصل الملاقي ـ كما هو المفروض بناءً على السببيّة ـ وعدم حكومته عليه ـ كما هو المفروض بناءً على السراية ـ، إذن فهذا يبتني على ما يُختار في باب الحكومة: من أنـّه هل يحتمل ثبوت الحكومة في الواقع عند عدم وصولها، أو أنـّه لا بدّ من وصول الحاكم(2)؟ فإنْ قلنا بالثاني فهنا نقطع بعدم الحكومة، لعدم الوصول فيثبت التعارض بين أصل الملاقي والأصل في طرف الملاقى، وإنْ قلنا بالأوّل فالشكّ في الحكومة ثابت على حاله، وهو يولّد الشكّ في المعارض المتّصل، وعندئذ يبتنى الكلام هنا على ما يختار في


(1) راجع فوائد الاُصول: ج 4، ص 28 ـ 29، وأجود التقريرات: ج 2، ص 261 ـ 262.

(2) هذا يناسب بحثه في مبحث التعادل والتراجيح.

289

باب الشكّ في المعارض المتّصل: هل هو كالشكّ في القرينة المتّصلة يمنع عن التمسّك بالكلام، أو لا(1)؟ فإنْ قلنا بالمنع لم يجرِ الأصل هنا، وإلّا جرى.

 

لو أثمرت إحدى الشجرتين

الأمر الثالث: تعرّض المحقّقون (قدّس الله أسرارهم) لفرع جعلوه مشابهاً لفرع الملاقي لأطراف الشبهة المحصورة، وهو فرع الثمرة وذي الثمرة في باب الأموال، فقالوا: لو استولى شخص على شجرتين مثلاً، وهو يعلم بإنّ أحداهما مملوكة لغيره، ثم أثمرت إحدى الشجرتين، فالعلم الإجمالي الأوّل: وهو العلم الإجمالي بغصبيّة إحدى الشجرتين يكون منجّزاً بلحاظ نفس الشجرتين للأحكام التكليفيّة، أي: حرمة التصرّف ووجوب الردّ إلى المالك، والوضعيّة، أي: الضمان، فلو تلفت إحداهما لزمه بذلك أداء بدلها، وأمـّا الثمرة فلا تتنجّز أحكامها، لا بالعلم الإجمالي الأوّل ولا بالعلم الإجمالي الثاني، وهو العلم بغصبيّة الثمرة أو الشجرة الاُخرى، أمـّا عدم تنجّزها بالعلم الإجمالي الثاني فللانحلال ببعض التقريبات السابقة، وأمـّا عدم تنجّزها بالعلم الإجمالي الأوّل، فلأنـّه ليس علماً بتمام الموضوع للحكم بضمان الثمرة وحرمة التصرف فيها، فإنّ موضوع الحكم مركّب من كون الأصل مغصوباً ومن أثماره؛ إذ قبل وجود الثمرة لا معنى لحرمة التصرّف فيها وضمانها، والجزء الأوّل معلوم بالإجمال، ولكن الجزء الثاني ليس معلوماً بالإجمال، فحال هذه الثمرة في هذا الفرع حال الملاقي في فرع ملاقاة بعض أطراف العلم الإجمالي بالنجاسة.

هذا حاصل ما أفادوه في المقام، مع شيء من النقاش والاعتراض سوف يظهر خلال الكلام إنْ شاء الله.

أقول: تارةً نتكلّم في أصل الشجرتين اللّتين تسالموا على أنّ العلم الإجمالي بغصبيّة إحداهما منجّز لاحكامها، واُخرى في ثمرة إحدى الشجرتين إذا أثمرت دون الاُخرى، فالكلام يقع في مقامين:

 


(1) هذا يناسب بحثه في مبحث الظهور، وقد سبق بحثه في مسألة الشكّ في خروج بعض أطراف العلم الإجمالي عن محلّ الابتلاء.

290

 

حكم الشجرتين

أمـّا المقام الأوّل: وهو الكلام في حكم نفس الشجرتين فلا إشكال في تنجّز الأحكام التكليفيّة للشجرة المغصوبة، من قبيل حرمة التصرّف؛ للعلم بتمام الموضوع لها، وهو مال الغير الذي لا يأذن في التصرّف، وإنـّما يقع مهمّ الكلام في الضمان، وأنـّه مع تلف إحدى الشجرتين هل يجب ردّ البدل أو لا؟ وكأنـّهم ـ كما مضى ـ فرغوا عن أنّ العلم الإجمالي الأوّل علم بما هو تمام الموضوع للضمان؛ لأنّ ضمان المال موضوعه هو: أنْ يكون مال الغير، وأنْ يكون تحت يد الإنسان، وكلا الجزءين محرز في المقام بالعلم الإجمالي الأوّل.

لكن هذا الكلام مبنيّ على خلط شائع في الصناعة الفقهيّة بين الضمان وبين الدين، بمعنى انشغال الذمّة، وأنْ يملك شخص على شخص آخر شيئاً، فقد افترض في كلماتهم ـ على أساس عدم عزل أحد هذين المفهوين عن الآخر ـ أنّ الضمان والدين بالمعنى الذي قصدناه كأنـّهما مفهوم واحد، ولا فرق بينهما. وهذا الخلط أنتج الخلط بين العُهدة التي هي وعاء الضمان، والذمة التي هي وعاء الدين، فلم يميّز بحسب الصناعة الفقهية بين العهدة والذمّة، وإنْ وجد هناك تمييز فإنـّما هو مجرّد تمييز اصطلاحي، فالتمييز الذي فرضته مدرسة المحقّق النائيني(قدس سره)عبارة عن أنّ العهدة وعاء الأعيان، والذمّة وعاء الاُمور الكليّة، ومثل هذا مجرّد اصطلاح يمكن لكلّ أحد أنْ يصطلح ذلك.

والتحقيق: أنـّه يفترق كلّ منهما عن الآخر فرقاً جوهريّاً بحسب تكوينهما الاعتباري، فهذا الوعاء الاعتباري المسمّى بالعهدة اُنشىء إنشاءً لغرض بحسب الارتكاز العقلائي، واُمضي شرعاً، والوعاء الآخر اُنشىء نشأة اُخرى لغرض آخر، فهما مختلفان تكوّناً وغرضاً وعملاً، وبتبعهما يختلف الضمان عن الدين، ولا مجال هنا للتوسّع في بحث الصناعة الفقهيّة للذمّة والعهدة، والضمان والدين، وهو موكول إلى محلّه في الفقه، إلّا أنـّنا نقول هنا بنحو الإجمال: إنّ الضمان والدين بالمعنى الذي ذكرناه متباينان مفهوماً، والنسبة بينهما عموم من وجه، من حيث المورد الخارجي، أمـّا من حيث المفهوم فالضمان مرجعه إلى المسؤولية، والتعهّد والعهدة وعاء للمسؤوليات، وباب الضمان لا يستبطن الملكيّة بوجه أصلاً، والدين مرجعه

291

إلى باب الملكيّة، وأنْ يملك شخص شيئاً على الآخر، وحيث إنّ ملكيّة الشيء على الآخر تحتاج في الصناعة الفقهيّة إلى فرضِ وعاء له، ففرضت الذمة وعاءً لهذا المملوك الذمّي، وهذان المفهومان، أي: الدين والضمان قد يجتمعان مورداً وقد يفترقان: ـ

أمـّا موارد الاجتماع فواضحة، كما لو أتلف شخص مال غيره، فقد اشتغلت ذمته بالمثل أو القيمة، وهذا عبارة عن الدين، ويكون مسؤولاً لا محالة عن أداء ما في ذمّته، وهذا عبارة عن الضمان، وفي موارد الاجتماع تارةً تنشأ العهدة من الذمّة، كما هو الحال في هذا المثال، واُخرى بالعكس على تفصيل لا يسعه المقام.

وأمـّا مورد تحقّق الضمان دون الدين فمصاديقه غير متوفرة كثيراً في الفقه الجعفري بالخصوص، إلّا أنّ من مصاديقه باب الكفالة، فإنّ مرجعها إلى التعهّد بتسليم المدين، فيكون ضامناً أمام الغريم لشخص المدين، أي: يكون شخص المدين على عهدته ومسؤوليته، لابدّ له من إحضاره، ولو قصّر في ذلك، سجن وعوقب، لكن لا يوجد هنا اشتغال للذمّة أصلاً؛ إذ لا يملك على الكفيل شيء.

وأيضاً يثبت الضمان دون الدين في عقد الضمان على بعض الآراء المتبنّاة لبعض العامّة، فانـّهم يرون أنـّه لا ينتقل ما في ذمة المضمون عنه إلى ذمة الضامن، وإنـّما الذي يثبت على الضامن هو التعهد والمسؤولية. وإنْ كانوا هم لم يعبّروا بهذه المصطلحات، بأنْ يقولوا: إنّ الذي انشغل من الضامن هي عهدته لا ذمّته، وإنـّما ذكروا حقيقة مقصودنا من هذا المصطلح حيث قالوا: إنّ الضامن يكون مطالباً بالدين، وإنْ كان لا ينتقل الدين من ذمّة المضمون عنه إلى ذمّته.

ومن جملة مصاديق ذلك في الفقه عندنا هو ما إذا استقرض العبد باذنِ المولى فالرأي المشهور عندنا أنّ المولى يكون مسؤولاً عن وفاء دين العبد، فالدائن له أن يرجع إليه ويطالبه بذلك من دون أن تنشغل ذمّته، بحيث لو مات المولى لا ينتقل هذا الدين إلى تركته، وهذا معناه ـ بحسب اصطلاحنا ـ أنّ العهدة انشغلت لكنّ الذمّة لم تنشغل، فالضمان ثبت على المولى لكن الدين لم يثبت عليه، وله عدّة موارد اُخرى تظهر بالتتبع في سائر الموارد في الفقه وليس هنا مجالُ بيانها.

وأمـّا مورد تحقق الدين دون الضمان فهذا أوضح من سابقه، كما لو فرض أنّ شخصاً اشترى بثمن في ذمّته فهو مدين للبايع، ولكنّه ما لم يُدفع إليه المبيع لا يكون ضامناً، ولا يكون مطالباً بتفريغ ذمّته؛ لأنّ قانون المعاوضة يقتضي التوأميّة في مقام

292

التسليم والتسلّم، وله موارد اُخرى أيضاً.

إذن فالدين والضمان متباينان مفهوماً، والنسبة بينهما عموم من وجه مورداً، والأوّل يملأ وعاء الذمّة والثاني يملأ وعاء العهدة.

هذه هي أصل الفكرة التي يمكن أن تبيّن هنا الصناعة الفقهيّة لهذه المفاهيم.

فإذا اتّضح لك ذلك قلنا: إنّ الشيء الذي تكون اليد تمام الموضوع بالنسبة له إنـّما هو الضمان لا الدين، فالغاصب بمجرّد وضع يده على مال غيره يصبح ضامناً ضمان المسؤوليّة، وانشغال العهدة التي تنتج وجوب الردّ إلى مالكه، وحرمة تصرّفه فيه، وأمـّا الدين بمعنى انشغال الذمّة وتملّك المغصوب منه شيئاً على الغاصب، فليس وضع اليد على مال غيره هو تمام الموضوع له، بل الجزء الأخير من موضوعه هو التلف، فالعلم الإجمالي الأوّل ليس علماً بتمام موضوعه.

إلّا أنّ المشهور لم يعزلوا أحد هذين المفهومين عن الآخر عزلاً منسجماً مع الصناعة التي بيّناها، ولهذا نراهم في مقام بيان ما يحصل عند ما يتلف مال الغير قد اختلفت كلماتهم، فبعضهم أرجع الضمان إلى الدين، والعهدة إلى الذمّة، وقال: بأنّ الضمان معناه هو انشغال الذمّة بالبدل من القيمة أو المثل، وبعضهم أرجع الدين إلى الضمان، والذمّة إلى العهدة، وهم بين من يقول: بأنّ العين هي التي تكون في العهدة من حين الغصب وحتى بعد التلف، غاية الأمر أنّ الخروج عن عهدة العين في حال وجودها يكون بردّها إلى المالك، وفي حال تلفها يكون بردّ مثلها أو قيمتها إليه، ومن يقول: بأنّ الضمان هو كون مال الغير في عهدته وحينما يغصب العين تدخل في ذمّته كلّ ما لهذه العين من الماليّة والخصوصيّات النوعيّة والصنفيّة والشخصيّة، وإذا تعذّرت الخصوصيّات الشخصيّة كما هو الحال في تلف العين خرجت من العهدة، وبقي الباقي في العهدة، فعليه إرجاع المثل. وإذا تعذّر ذلك ـ أيضاً ـ كما في القيميّات بقيت الماليّة في العهدة فعليه إرجاع القيمة.

ولو تمّت هذه المباني لم يصحّ ـ أيضاً ـ ما ذكر في المقام من أنّ العلم الإجمالي الأوّل هو علم بتمام الموضوع للحكم بالضمان، فلو تلفت إحدى الشجرتين انشغلت الذمّة في المقام.

فمن قال بأنّ الضمان عبارة عن انشغال الذمّة بالبدل لا بدّ له من الالتزام بأنّ الغاصب قبل أنْ تتلف عنده العين المغصوبة ليس ضامناً بالفعل، إذ لا معنى لانشغال الذمّة بالبدل مع وجوب دفع العين خارجاً، لأنّ الغاصب لا يلزمه الدفع مرّتين: مرة

293

بوجوده الخارجي، واُخرى بوجوده البدلي والتغريمي، فلا بدّ له من الالتزام بأنّ الضمان هو انشغال الذمّة منوطاً بالتلف، فلم يحرز في المقام تمام موضوعه بالعلم الإجمالي الأوّل.

وأمـّا من يرجع الدين وانشغال الذمّة إلى الضمان والعهدة، فهؤلاء ـ كما قلنا ـ انقسموا إلى فريقين:

فمنهم من قال بأنّ العين بمجرّد أنْ تغصب تدخل في العهدة، وتبقى بتمام خصوصيّاتها في العهدة حتى بعد التلف، ويجب إخراجها عن العهدة عند وجودها بردّها إلى المالك، وعند تلفها بدفع المثل أو القيمة. وبناءً على هذا التصور نقول: إنّ العهدة وإن كانت فعليّة للعلم إجمالاً بتمام موضوعها لكنّ العهدة بما هي لا تقبل التنجّز، وإنـّما الذي يتنجّز هي العهدة بلحاظ آثارها، وأثرها الذي هو وجوب دفع البدل مشروط بتلف العين، وليس أثراً لها مطلقاً، فالعلم الإجمالي الأوّل ليس علماً بتمام موضوعه.

ومنهم من قال بأنّ العين دخلت في العهدة بتمام خصوصيّاتها بمجرّد الغصب، ولدى تعذّر بعض الخصوصيّات تسقط تلك الخصوصيّة ويبقى الباقي، فبعد التلف تعذّرت الخصوصيّة الشخصيّة، وخرجت عن العهدة وبقيت العين بما هي كلّيّة في العهدة، فكأنـّهم تصوّروا وعاءً واحداً انصبّت العين فيه من أوّل الأمر بتمام خصوصيّاتها، ثم يُنزع من هذه العين بالتدريج رداء الشخصيّة، وتصبح كلّيّة وهؤلاء أيضاً لا بدّ لهم من الاعتراف هنا بأنّ انشغال الذمّة بالكلّي لم يعلم بتمام موضوعه، فإنّ الكلّي الذي كان في عهدته منذ البدء ضمن العين الشخصيّة لم يكن عبارة عن وجود الكلّي على الإطلاق، بل كان عبارة عن الكلّي المتحصّص ضمن العين الشخصيّة، وإنـّما يدخل الكلّي في العهدة ويجب دفعه لدى خروج الخصوصيّة الشخصيّة عن العهدة بالتلف، فلا يكون العلم الإجمالي الأوّل علماً بتمام الموضوع لهذا الانشغال.

إذن فعلى تمام هذه التصوّرات لا بدّ من الالتزام ـ حسب هذه الصناعة ـ بعدم تنجيز العلم الإجمالي، فينبغي أنْ يفصل بين ما إذا كانت الاُصول الجارية في كلّ من الشجرتين في نفسها تقتضي مالكيّة الغير لها، كما لو اشترى إحداهما من الغير، ثم اشتبه ما اشتراه، فجرى استصحاب مالكيّة الغير في كلّ من الشجرتين، أو كانت الاُصول فيهما ترخيصيّة، كما لو فرض أنّ حالتهما السابقة هي كونها من المباحات

294

الأصليّة، أو كان الأصل في إحداهما ترخيصيّاً، وفي الاُخرى إلزاميّاً، ففي الفرض الأوّل يتنجّز عليه وجوب أداء البدل، لا بالعلم الإجمالي بل بالاستصحاب، وفي الفرض الثاني لا يتنجّز عليه ذلك، وفي الفرض الثالث يتنجّز عليه ذلك لدى تلف الشجرة التي تكون مورداً للأصل اللإلزامي، ولا يتنجّز لدى تلف الاُخرى؛ لجريان الأصل المؤمّن عنه، ولا يعارضه الأصل في الطرف الآخر؛ لأنّ موضوع الحكم بالضمان في الطرف الآخر لم يتحقّق. نعم، لو تلفتا معاً علم بانشغال الذمّة إجمالاً.

ولكنّ التحقيق ـ رغم هذا ـ هو منجّزيّة العلم الإجمالي الأوّل، لكن لا من باب أنـّه علم بتمام الموضوع لانشغال الذمة، فإنـّه كما بيّنّا، إنـّما علم بتمام الموضوع للعهدة، التي مرجعها إلى كون العين في مسؤوليّة صاحب اليد، لا بتمام الموضوع، لانشغال الذمّة الذي يحصل بعد التلف، بل من باب أنّ العرف حينما يسمع خطاب الذمّة بعدما يسمع خطاب العهدة يفهم من خطاب الذمّة في المقام أنـّه تحفّظ على بعض مراتب المصلحة اللزوميّة للعهدة، فالموجود في المقام إنـّما هو ملاك واحد لزومي علم به إجمالاً بمجرّد أخذ الشجرتين، وتنجّز على العبد، وعند تلف مال الغير وإنْ كان يتبدّل الخطاب بخطاب آخر، لكن الملاك هو نفس الملاك السابق بقي بعضه بعد تعذّر البعض الآخر، لا أنّ هناك ملاكاً آخر إلزاميّاً غير الملاك الأوّل الذي هو ملاك الاهتمام بحقّ شخص آخر، وقمع مادة الفساد، بل هذا بعض مراتب ذلك الملاك، فما أدركه هؤلاء المحقّقون (قدّس الله أسرارهم) بفطرتهم الاُصوليّة من أنّ العلم الإجمالي منجّز للحكم بالضمان صحيح، إلّا أنـّه لا يقوم على أساس تصوّر إرجاع الذمّة إلى العهدة، بل يقوم على أساس أنّ خطاب العهدة وخطاب الذمّة بحسب الحقيقة تعبيران عن ملاك واحد.

على أنـّنا في غنىً عن إثبات التنجيز بهذا العلم الإجمالي؛ لأنـّه يكفي عندنا العلم الإجمالي الثاني للتنجيز، وهو العلم بانشغال الذمّة ببدل التالف، أو انشغال العهدة بضمان الموجود وحرمة التصرّف فيه، ووجوب تسليمه من قبيل العلم الإجمالي بنجاسة الملاقي، أو الإناء الآخر الذي قلنا بمنجّزيّته في تلك المسألة، وأبطلنا وجوه الانحلال.

 

حكم الثمرة

وأمـّا المقام الثاني: وهو في تنجّز الحكم بضمان الثمرة وانشغال الذمّة بها إذا

295

أثمرت إحدى الشجرتين، فنقول: إنّ تلك الثمرة تقع طرفاً لعلم إجمالي جديد، وهو العلم بغصبيّتها أو غصبيّة الشجرة الاُخرى، وقد أثبتنا في مسألة الملاقي تنجيز مثل هذا العلم الإجمالي، ومعه لا حاجة إلى التكلّم في تنجيز العلم الأوّل.

إلّا أنّ الأصحاب حيث أنكروا تنجيز العلم الثاني احتاجوا إلى الحديث عن العلم الأوّل، كما فعلوا ذلك في مسألة الملاقي، وقد فصّلوا في كلا المقامين بين الانبساط والسببيّة، فكما قالوا هناك: إنـّه بناءً على أنّ نجاسة الملاقي انبساط وامتداد لنجاسة الملاقى يكون العلم الأوّل منجّزاً، وبناءً على أنـّها مسبّبة عن نجاسة الملاقى لا يكون منجّزاً، كذلك قالوا هنا: إنـّه بناءً على أنّ ملكيّة الثمرة انبساط وامتداد لملكيّة الأصل يكون العلم الأوّل منجّزاً، وبناءً على كونها مسبّبة عنها لا يكون منجّزاً.

وقد تقدّم منّا هناك توضيح عدم تماميّة هذا التفصيل، فلو قلنا بعدم التنجيز بناءً على السببيّة، نقول به ـ أيضاً ـ على الانبساط، فلنتكلّم هنا على السببيّة، هل يكون العلم الإجمالي الأوّل منجّزاً أو لا؟ فإنْ ثبت التنجيز ثبت على كلا المبنيين، وإلّا بطل على كلا المبنيين، وقد ذكر المحقّقون أنـّه ليس منجّزاً، وهذه الدعوى ـ أعني دعوى عدم التنجيز ـ يمكن بيانها ببيان ساذَج ابتدائي: هو أنّ المعلوم إجمالاً بالعلم الأوّل إنـّما هو وضع اليد على أحد الأصلين الذي هو ملك الغير، وهذا لا يكفي في ضمان الثمرة، بل لا بدّ من العلم تفصيلاً أو إجمالاً بوقوع اليد على ثمرة الأصل المغصوب، ولم يعلم بذلك.

وهذايرد عليه ما ذكره المحقّق النائينيّ(رحمه الله)(1) من أنّ المختار في مباحث الضمان هو أنـّه لا يشترط في ضمان الثمرة وضع اليد عليها، بل يكفي وضع اليد على الأصل، فلو أنّ إنساناً غصب شجرة، ثم غصب إنسان آخر تلك الشجرة منه، وأثمرت عند الغاصب الثاني، فهنا الثمرة لم تقع تحت يد الغاصب الأوّل لكنّها داخلة في ضمانه.

ولهذا بيّن السيّد الاُستاذ(2) دعوى عدم التنجيز ببيان آخر أعمق، وهو أنّ وضع اليد على الأصل المغصوب الذي هو المعلوم بالعلم الإجمالي الأوّل ليس تمام الموضوع لضمان الثمرة، بل يشترط في ضمانها كون الثمرة ثمرة لمملوك الغير


(1) راجع أجود التقريرات: ج 2، ص 257.

(2) راجع الدراسات: ج 3، ص 262، والمصباح: ج 2، ص 408.

296

ومنسوبة إليه، وهذا غير معلوم. نعم لو أثمرت كلتا الشجرتين، لكُنّا نعلم إجمالاً بأنّ إحدى الثمرتين منسوبة إلى الأصل المملوك للغير الواقع تحت يد الغاصب، فيكون الموضوع معلوماً.

ولكن يمكن أنْ يقال في المقام بتنجيز العلم الإجمالي الأوّل لضمان الثمرة أيضاً، وإنّ تمام الموضوع لضمانها قد أُحرز بالعلم الأوّل، وهو العلم بغصبيّة إحدى الشجرتين، وذلك بناءً على عدم قصر النظر على الوجود الحقيقي الخارجي لثمرة الأصل المغصوب الذي لم يحرز تحقّقه بمجرّد إثمار إحدى الشجرتين، وأنّ الارتكاز العقلائي يفترض للثمرة قبل وجودها الخارجي وجوداً تقديريّاً عنائيّاً، وهذا الوجود يكون موضوعاً للأحكام الشرعيّة، فلو قلنا بهذا فقد يتغيّر الحساب في النتيجة، ولأجل توضيح هذا نبيّن مقدّمةً: ـ

وحاصلها هو: أنـّه قد تفترض مالكيّة شخص لشيء بالفعل لوجود المالك، ووجود المال المملوك خارجاً، فكلّ من المالك والمملوك والملكيّة موجود بالفعل، وهذه هي الصورة الاعتياديّة.

وهناك صور اُخرى تختلف عن هذه الصورة الاعتياديّة:

فقد يفترض أنـّه لا قصور في المالك من حيث كونه مالكاً، لكنّ المال المملوك غير موجود حتّى الآن، فالقصور في جانب المملوك، كما في مثال ثمرة الشجرة قبل وجودها، فمالك الأصل يُرى بحسب الارتكاز العقلائي أنّ ملاك مالكيّته تامّ بنفس ملكيّة الأصل؛ لأنّ تمام الملاك بالارتكاز العقلائي لملكيّة المنفعة هو كونه مالكاً للأصل، ولكنّ القصور في المملوك؛ لعدم وجوده.

واُخرى يفترض أنّ المال المملوك موجود بالفعل، ولا قصور فيه من حيث كونه مملوكاً، وإنـّما القصور في المالك لعدم وجوده، كما في الوقف على بعض المباني في تفسيره بالنسبة للبطون المتأخّرة.

وثالثة يفترض أنّ المالك والمملوك موجودان، ولا قصور فيهما بما هما مالك ومملوك، إلّا أنّ الملكيّة بنفسها تتوقف على إعمال عناية تكون تحت سلطنة المالك، وإنشاء اعتبار يوجب ربط المملوك به، فالملكيّة مقدّرة، والقصور في نفس الملكيّة، وذلك كما لو فرض أنّ الميّت أوصى بمال إلى شخص، وقلنافرضاً ـ ولا نقول به ـ بأنّ الوصيّة تحتاج إلى قبول الموصى له، وأنـّها عقد لها إيجاب وقبول، فقبل القبول لا تكون الملكيّة فعليّة بالرغم من أنّ المالك من حيث كونه صالحاً

297

للمالكيّة موجود، والمملوك من حيث كونه صالحاً للملك موجود، إلّا أنّ نفس الملكيّة بحاجة إلى عناية، وتلك العناية هي تحت سلطان المالك، لأنّ الموصي قد مات وخرج المال عن سلطانه، وليس المال ـ أيضاً ـ تحت سلطنة الوارث بوجه من الوجوه، فالملكيّة هنا محضاً تحت سلطان هذا المتأهل للمالكيّة، فبإمكانه أنْ يُعمل العناية الإنشائيّة فتصبح الملكيّة فعليّة، فهنا القصور يكون في جانب الملكيّة.

ففي هذه الأقسام الثلاثة يمكن أنْ تدّعى دعوىً نذكرها هنا، وتكون من ناحية السعة والضيق في ذمّة التحقيق؛ إذ يمكن دعواها في كلّ هذه الأقسام الثلاثة، ويمكن دعواها في خصوص القسمين الأوّلين منها، ويمكن دعواها في خصوص القسم الأوّل تبعاً للتدقيق في نكات الارتكاز العقلائي في هذه الأقسام، وتلك الدعوى هي أنْ يقال في أيّ واحد من هذه الاُمور الذي يكون مفروغاً عنه في ظرفه وموطنه، ولكنّ الملكيّة لا تكون فعليّة بلحاظ قصور فيه: إنّ الارتكاز العقلائي ينتزع بلحاظ ذلك الوجود المتأخّر حقّاً ثابتاً بالفعل، وإنْ شئت فسمّه بالمرتبة الضعيفة من السلطنة، أو المرتبة الضعيفة من الملكيّة، وقد يصبح هذا الأمر المنتزع منشأً لآثار بحسب الارتكاز العقلائي، وقد تكون ممضاة شرعاً:

فمثلاً بالنسبة للقسم الأوّل ينتزع الارتكاز العقلائي نحواً من الحقّ، إنْ شئتم عبّروا عنه بأنـّه حقّ أنْ يملك ثمرة الأصل.

وإنْ شئتم قلتم: إنّ الثمرة يقدّر لها الآن وجود تقديري عنائي تعتبر ملكاً من الآن، ويترتب على مثل هذه العناية المبيع عقلائياً، فإنـّه من المعاملات العقلائية التي أُمضيت شرعاً مع قيود وحدود، فالمبيع إنـّما هو الوجود التقديري للثمرة، أو حقّ أنْ يملك الثمرة لا نفس الثمرة(1)، وإلّا لزم فيما لو لم تثمر الشجرة صدفة الالتزام إمّا بأنـّه لا استحقاق للثمن، أو بأنّ المعاملة تستبطن تمليكاً مجّانيّاً على تقدير، وتمليكاً معاوضيّاً على تقدير آخر، مع أنّ كلّ هذا على خلاف الارتكاز العقلائي الذي يرى أنّ البيع في المقام قد تمّ، وأنّ حكم هذه المعاملة هو حكم البيع سواءً وجدت بعد هذا ثمرة أو لم توجد، فتترتّب عليه أحكام البيع من حيث الخيار،


(1) أو قل: إنّ المبيع نفس الثمرة لكنّ الذي يترتّب على بيعها ليس هو انتقال ملكيّتها الاستقباليّة إلى المشتري، بل هو انتقال نفس الحقّ المتعلّق بها الآن الثابت للبايع، وهو حقّ أنْ يملكها مثلاً.

298

والفسخ، والغبن، والعيب، وغير ذلك، ولا يترتّب عليه حكم الهبة والتمليك المجّاني، فهذه معاملة بيعيّة منجّزة بحسب الارتكاز العقلائي، والبيع المنجّز بحاجة إلى بيع منجّزة لا محالة، وهو حقّ أنْ يملك الثمرة، أو بتعبير آخر: الثمرة بوجودها التقديري العنائي، وهو وجود محفوظ سواءً كان هناك وجود حقيقي في الخارج أو لا، وهذا الوجود العنائي يشبه الوجود العنائي للمنفعة المتّصلة، كمنفعة البيت على ما ذهب إليه جملة من الفقهاء في مقام تصوير الإجارة، من أنّ مالك البيت يملّك الوجود العنائي لمنفعته ـ وإنْ لم يكن هذا صحيحاً عندنا في باب الإجارة ـ .

وبالنسبة للقسم الثاني ـ أيضاً ـ يمكن أنْ يقال بمثل هذا الكلام ـ إنْ ساعد عليه الارتكاز ـ، وقد مَضى أنّ مثاله الوقف على البطون المتأخّرة على بعض المباني في تصويره، فوجود المال المملوك فعليّ، لكن المالك لم يملك لقصور فيه؛ لأنـّه غير موجود فعلاً، لكن مع هذا ينتزع له نحو من الحقّ، فتأهّل المال وتهيّوؤه للمملوكيّة لشخص سوف يوجد يكون منشأ لاعتبار حقيّ أو لملكيّة بنحو من الأنحاء، مضافة إلى الوجود العنائي أو التقديري للمالك، فيكون هذا المال مملوكاً لمالك تحقيقي ومملوكاً تقديرياً أيضاً، ولا مانع من اجتماع مالك تحقيقي مع مالك تقديري، وإنـّما الممنوع اجتماع مالكين تحقيقيّين، ومن هنا قال كثير من الفقهاء ـ ومنهم الشيخ الأنصاري (قدس سره) في المكاسب(1) ـ بأنّ حقّ البطون المتأخّرة الثابت في الوقف يمنع عن بيع الوقف، وإنْ استشكل في ذلك المحقّقون المتأخّرون، فبالإمكان تسليم مثل هذا الحقّ لو ساعد الارتكاز بمثل هذا البيان.

وكذلك الأمر بالنسبة للقسم الثالث، فيمكن أنْ يقال بانتزاع نحو من الحقّ للموصى له والسلطنة، وهذا النحو من الحقّ والسلطنة تكون له ـ أيضاً ـ آثار، ولعل هذا يناسب فتوى جماعة من الفقهاء في مثل هذا الفرض، بأنّ الوارث لا يجوز له أن يتصرّف في مثل هذا المال قبل أنْ يتعيّن مصير الوصية قبولاً وردّاً، حتّى بناءً على القول بانتقال المال إلى الوارث قبل القبول، وخروجه بعده؛ لأنّ الملكيّة بوجودها التقديري وتهيّوء المال لكونه مملوكاً للموصى له تهيّوء كاملاً متوقّفاً على محض سلطنته وإعماله لهذه السلطنة يوجب نحو حقّ له يمنع الوارث عن التصرّف فيه.

والخلاصة: أنّ هذه دعوى عريضة في الفقه، ولها مصاديق كثيرة فيه،


(1) راجع المكاسب: ص 164 بحسب الطبعة المشتملة على تعليقة الشهيدي.

299

وتحقيقها وتنقيح نكاتها وسعتها وضيقها موكول إلى الفقه.

إذا عرفت ذلك قلنا: إنـّه يمكن أنْ يُدّعى في المقام أنّ الثمرة لها وجود عنائي، وهي تحت الضمان بالفعل، فالمنفعة التي يصلح للمالك أنْ يبيعها الغاصب يضمنها الغاصب للأصل، إلّا أنّ هذه المنفعة ليس لها ثمن مستقلّ عن ثمن نفس الأصل؛ لأنـّه تلحظ في مقام تسعير الأصل هذه المنفعة المقدّرة، فتوجب زيادة تسعير نفس الأصل، ولهذا لو أراد المالك بيع الأصل قبل بيع الثمرة المقدّرة الوجود كان أغلى قيمة منه لو أراد بيعه بعد بيع الثمرة المقدّرة الوجود، فهذا يعني أنّ هذا الوجود التقديري للثمرة يدخل في تسعير نفس الأصل، فلا تكون له ماليّة زائدة، بل تكون ماليّته مندمجة في ماليّة الأصل، وبعد خروج التقدير إلى الفعليّة تكون لها ماليّة تخصّها غير مندمجة مع ماليّة الأصل.

وملخص الكلام: أنـّه لا بأس بأنْ يقال بناءً على هذا: إنّ الثمرة داخلة تحت الضمان منذ البدء، وقبل وجودها بهذا البيان، فإنْ ساعد الارتكاز على ذلك ـ وهو قريب ـ فبها ونعمت، وإلّا فالعلم الإجمالي غير منجّز، ولكن نحن يكفينا العلم الإجمالي الثاني.

هذا تمام الكلام في دوران الأمر بين المتباينين.

301

أصالة الاحتياط

2

 

 

دوران الأمر

 

بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين

 

 

* مراحل الدوران.

* الدوران بين الأقلّ والأكثر في الأجزاء.

* الدوران بين الأقلّ والأكثر في الشرائط.

* الدوران بين التعيين والتخيير.

* تنبيهات.

 

 

 

303

 

 

 

 

 

 

مراحل الدوران

 

قد وقع الكلام في جريان البراءة وعدمه عن المقدار الزائد إذا كانا ارتباطيّين، بعد عدم الإشكال في جريان البراءة عنه في غير الارتباطيّين.

وواقع الأمر أنـّه لو فرض دوران الأمر بحسب الروح والجوهر بين الأقلّ والأكثر، فلا محالة ينحلّ العلم، ويكون الزائد مشكوكاً بالشكّ البدوي ومجرىً للبراءة، كما هو الحال في الأقلّ والأكثر غير الارتباطيين.

وقد أُقيم في المقام بعض الوجوه للزوم الاحتياط، ممّا لو تمّ لثبت لزوم الاحتياط حتّى مع فرض دوران الأمر بحسب الروح والجوهر بين الأقلّ والأكثر، ولكن سيظهر في ثنايا البحث عدم تماميّة شيء من ذلك.

ولو فرض رجوع الأمر بحسب الروح والجوهر إلى التردّد بين المتباينين - وإن كان بحسب الظاهر والصورة مردّداً بين الأقلّ والأكثر- إذن لا يكون الأمر منحلاًّ، ولا تجري البراءة.

وقد يكون الأمر بحسب بعض العوالم والمراحل دائراً بين الأقلّ والأكثر، وبحسب بعضها مردّداً بين المتباينين، فنحن هنا نفرض جميع تلك العوالم أو المراحل التي يمكن دعوى دوران الأمر فيها بين الأقلّ والأكثر؛ لنرى بعد ذلك أنّ الدوران بين الأقلّ والأكثر يتمّ في أيّ عالم من تلك العوالم؟ وأنـّه هل يكفي الدوران بين الأقلّ والأكثر في ذاك العالم لجريان الأصل، أو لا؟ فإليك فهرست تلك العوالم كي يساعدنا على بيان المطلب، وتوضيحه فيما بعد، والمشي حسب مصطلحاتها:

العالم الأوّل: هو عالم جعل المولى ولحاظه، فيمكن دعوى أنّ ما في نفس المولى وعالم لحاظه في موارد الأقلّ والأكثر الارتباطيين يكون في الحقيقة مردّداً بين مقدار لا شكّ فيه وبين وجود ذاك المقدار مع زيادة شيء آخر وقع الشكّ فيه.

304

العالم الثاني: عالم الوجوب والإلزام، فقد يفترض أنّ ما في عالم نفس المولى ولحاظه مردّد بين المتباينين، ويكون مثلاً في مقابل اللحاظ الزائد في جانب الأكثر لحاظ آخر في جانب الأقلّ، لكن اللّحاظ الزائد الموجود في جانب الأكثر عبارة عن الإيجاب والإلزام، واللحاظ الزائد الموجود في جانب الأقلّ ليس عبارة عن الإلزام، بل هو توسعة على العبد، فليس كُلّ ما هو ثابت في اللّحاظ فهو تضييق وإلزام، فإذا لاحظ المولى الإطلاق أو قلنا: إنّ الإطلاق أمر لحاظي وليس عبارة عن عدم لحاظ القيد، فهذا ـ بالرغم من كونه داخلاً في لحاظ المولى ـ يكون توسعةً لا تضييقاً.

العالم الثالث: عالم التحميل العقلي، فقد يكون الأمر في العالمين الأوّلين دائراً بين المتباينين، لكنّه بحسب عالم التحميل العقلي يكون الأمر دائراً بين الأقلّ والأكثر، وذلك كما في دوران الأمر بين التعيين والتخيير، كما إذا دار الأمر بين وجوب إكرام إنسان، أو وجوب إكرام حيوان، بالمعنى الشامل للإنسان، ففي عالم لحاظ المولى ـ وكذلك في عالم الإلزام ـ يكون الأمر دائراً بين المتباينين، فإنّ العنوان الملحوظ والملزم به في وجوب إكرام الإنسان مباين للعنوان الملحوظ والملزم به في وجوب إكرام الحيوان، لكنّ التحميل العقلي مردّد بين الأقلّ والأكثر، بمعنى أنّ أحد الامتثالين مساوق لامتثال الآخر دون العكس، فالأمر دائر في التحميل العقلي بين التخيير في الامتثال والتوسعة بلحاظ إكرام الإنسان، أو غيره من الحيوانات، وبين تضييق هذه الدائرة للامتثال بتعيين إكرام الإنسان.

العالم الرابع: هو عالم التطبيق الخارجي والامتثال، فقد يكون الأمر فيه دائراً بين الأقلّ والأكثر، بمعنى: أنّ مقداراً ممّا وقع في الخارج يصلح امتثالاً للأمر بالأقلّ، فإذا ضمّ إليه الزائد صار امتثالاً للآخر على كلّ تقدير، وقد لا يكون كذلك، فمثلاً: لو دار الأمر بين وجوب تسعة أجزاء أو عشرة، بضمّ جزء عاشر إلى تلك الأجزاء التسعة، فكما أنّ الأمر بلحاظ عالم التحميل العقلي دائر بين الأقلّ والأكثر، كذلك الأمر بلحاظ عالم التطبيق الخارجي دائر بين الأقلّ والأكثر، فالأجزاء التسعة تصلح امتثالاً للأمر بالأقل، وإذا ضمّ إليها الجزء العاشر كان العمل امتثالاً للأمر على كلّ تقدير، وهذا بخلاف ما لو دار الأمر بين وجوب إكرام إنسان ووجوب إكرام حيوان بالمعنى الأعم من الإنسان، ففي هذا المثال وإن كان الأمر بحسب التحميل العقلي دائراً بين الأقلّ والأكثر كما عرفت، لكنّه بحسب التطبيق الخارجي ليس كذلك، فليس هنا عمل زائد خارجي يضمّ إلى إكرام الحيوان الصالح لامتثال الأمر بالأقلّ

305

ليصلح امتثالاً للأمر على كلّ تقدير، بل لو أردنا مع إكرام حيوان حصول الامتثال على كلّ تقدير، فعلينا أن نضرب صفحاً عمّا صنعناه من إكرام الحيوان، ونكرم إنساناً، لا أن نضمّ إلى إكرام الحيوان شيئاً يصلح امتثالاً للأمر بالأكثر.

وبهذا العرض ظهر أنّ أوسع العوالم في قابليّة دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر هو العالم الثالث، وعليه فنجعل ضابط محلّ البحث هو: أن يدور الأمر بين حكمين يكون امتثال أحدهما مساوقاً لامتثال الآخر دون العكس، وهذا يشمل فرض دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر بحسب الأجزاء، وفرض دورانه بينهما بحسب الشرائط، وفرض دوران الأمر بين التعيين والتخيير العقلي، أي: الحصّة والكلي، وفرض دوران الأمر بين التعيين والتخيير الشرعي.

ثمّ إنّنا نأخذ المثال الرئيسي في بحثنا هذا من فرض دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر بحسب الأجزاء، وبعد ذلك ننظر في مقام تطبيقه على تلك المراحل إلى سائر الاقسام أيضاً، فنقول: