162

 

2 ـ تعيين موضوع الحجّيّة

وأمّا الجهة الثانية ـ وهي في البحث عن موضوع حجّيّة الظهور ـ فنقول: إنّ للكلام قسمين من الظهور:

القسم الأوّل: هو الظهور التصوّريّ، وهو عبارة عن إلقاء اللفظ معناه الموضوع له في الذهن. وهذا بابه ليس باب الكشف بل باب العلّيّة والإيجاد، ويكفي في إيجاد المعنى في الذهن الوضع، وكون السامع عالماً به، فعندئذ يؤثّر اللفظ أثره من نقش المعنى في الذهن ولو صدر من جدار لا من إنسان واع.

 


أصابعها على عدم كون مقدار دية قطع أربعة أصابع أقلّ من ذلك.

وهذا الكلام قد يجعل إشكالاً على حجّيّة القطع الناشئ عن طريق العقل. ويجاب عليه بأنّ الإمام لعلّه إنّما عاتب أبان على تقصيره في مقدّمات حصول القطع لا على الالتزام بما قطع به.

وقد يجعل إشكالاً على ثبوت إمضاء الشريعة للسيرة العقلائيّة القائمة على حجّيّة الدلالات الالتزاميّة العرفيّة.

والجواب: أنّ الزجر والتأنيب لم يكن لعدم حجّيّة الدلالة الالتزاميّة العرفيّة، بل كان على تحكيمها على النصّ، حيث سمع أبان بالعراق النصّ على كون دية أربعة أصابع أقلّ من دية ثلاثة أصابع، وردّه بعدم معقوليّة ذلك، بل إنّ الإمام(عليه السلام)ذكر له ذلك مباشرة وبقي مع ذلك مصرّاً على الاستغراب، وهذا ما سمّـاه الإمام(عليه السلام)بالقياس وأ نّبه عليه.

وإن شئت قلت: إنّ وضوح الفرق في الجملة بين الرجل والمرأة في الدية في الشريعة الإسلاميّة لا يبقي للنصّ دلالة من هذا القبيل، فلا يبقى إلّا الاستحسان والقياس.

انتهى المنقول عن اُستاذنا الشهيد(رحمه الله).

163

القسم الثاني: هو الظهور التصديقيّ. وهذا بابه باب الكشف والدلالة، ولا يكفي فيه مجرّد الوضع والعلم به بل يكون متوقّفاً على عدم القرينة المتّصلة. ولهذا الظهور شقّان طوليّان:

الأوّل: الدلالة الاستعماليّة، وهي الدلالة على أنّ المتكلّم قد قصد بإيجاده للفظ إخطار المعنى التصوّريّ الذي مضى ذكره في ذهن السامع. وهذه الدلالة غير موجودة في مثل اللفظ الصادر من الجدار، وتوجد في كلام الإنسان الواعي ولو مع القرينة على كون مقصوده الهزل والاستهزاء ونحو ذلك. نعم، لا توجد مع القرينة المتّصلة على عدم إرادة إخطار ذاك المعنى، كما لو قامت قرينة على إرادة إخطار خلاف ذلك كما في القرينة على المجاز، أو قامت قرينة على مجرّد عدم إرادة تفهيم المعنى الموضوع له.

والثاني: الدلالة الجدّيّة، وهي الدلالة الكاشفة عن كون داعي المتكلّم إلى إخطار المعنى الذي أراد إخطاره هو الجدّ لا الهزل ونحوه، فيقصد حقّاً بمثل: (زيد قائم) الحكاية، وبمثل (صلّ) الطلب التشريعيّ، وهكذا. وهي دلالة سياقيّة تنتفي عند صدور اللفظ من الجدار، وكذلك عند قيام القرينة المتّصلة على الخلاف ولو على مثل الهزل والاستهزاء.

والظهور التصديقيّ بكلا شقّيه يكون في مرحلة عدم القرينة المتّصلة، ولا يكون مشروطاً بعدم القرينة المنفصلة.

فتحصّل: أنّ هناك مرحلتين للظهور:

مرحلة الوضع، وهي مرحلة الظهور التصوّريّ.

ومرحلة عدم القرينة المتّصلة، وهي مرحلة الظهور التصديقيّ.

وأمّا مرحلة عدم القرينة المنفصلة فليست مرحلة للظهور أصلاً، وإنّما هي مرحلة الحجّيّة.

164

وكلمات المحقّق النائينيّ(رحمه الله) في ذلك مضطربة، ففي بعضها يجعل مرحلة عدم القرينة المنفصلة مرحلة الحجّيّة والكشف، ولفظ الكشف وإن أمكن حمله على معنى الظهور كما يمكن حمله على معنى الحجّيّة، ولكن قد قرن به كلمة الحجّيّة. وفي بعضها جاء التصريح بجعل ذلك مرحلة للظهور، فذكر(رحمه الله): أنّ الظهور التصديقيّ على قسمين: الظهور فيما قال، والظهور فيما أراد. فالأوّل يكفي فيه عدم القرينة المتّصلة، والثاني مشروط بعدم القرينة المنفصلة(1).

والتحقيق: أنّه إن أراد(قدس سره) بالظهور فيما أراد الدلالة الجدّيّة في قبال الدلالة الاستعماليّة كفى فيه عدم القرينة المتّصلة. وإن أراد بذلك البناء على أنّ هذا هو


(1) هذا التشويش واقع فيما هو المنقول في أجود التقريرات عن المحقّق النائينيّ(رحمه الله)في المجلّد الثاني في بحث الظهور، ص 91. أمّا ما هو المنقول عن المحقّق النائينيّ(رحمه الله) في أجود التقريرات في المجلّد الثاني في التعادل والتراجيح، ص 508، فظاهره أنّ القرينة المنفصلة ترفع المرتبة الثانية من الظهور التصديقيّ. وأمّا ما هو المنقول عن المحقّق النائينيّ(رحمه الله) في أجود التقريرات في المجلّد الأوّل في العامّ والخاصّ،ص 454 و455، فظاهره أنّ القرينة المنفصلة ترفع حجّيّة الظهور ولا ترفع أصل الظهور. وكلّ هذه التشويشات تنتفي إذا افترضنا أنّ المحقّق النائينيّ(رحمه الله)يقصد بالمرتبة الثانية للظهور التصديقيّ الحجّيّة، فكأنّه يرى للكلام دلالة تصوّريّة، ودلالة تصديقيّة، وحجّيّة للظهور. ويرى أنّ القرينة المنفصلة لا تهدم الظهور ولكن تهدم حجّيّة الظهور. وأمّا مسألة الحاجة إلى أصالة عدم القرينة وعدمها فالذي يظهر من المنقول عن المحقّق النائينيّ(رحمه الله)في أجود التقريرات، المجلّد الثاني في بحث التعادل والتراجيح، ص 508، هو عدم حاجة حجّيّة الظهور إلى أصالة عدم القرينة في القرينة المتّصلة فضلاً عن المنفصلة. وكذا ظاهر ما جاء في نفس المجلّد في بحث الظهور، ص 93، حيث افترض أصالة الظهور في عرض أصالة عدم الغفلة عن ذكر القرينة وغير محتاجة إليها، فراجع.

165

مراد المتكلّم فهو مرحلة الحجّيّة لا الظهور. وإن أراد قسماً آخر للظهور فنحن لا نتعقّله.

وبعد هذا نقول: لا إشكال في أنّ المقصود بحجّيّة الظهور هو إثبات لزوم البناء على الدلالة التصديقيّة الجدّيّة، فإنّ الدلالتين الاُوليين لا علاقة لهما بما هما ـ وبالمباشرة ـ بالوظيفة العمليّة أصلاً. والكلام يقع في أنّ موضوع الحجّيّة هل هو الدلالة التصوّريّة مع عدم العلم بالقرينة على الخلاف، أو الدلالة التصديقيّة مع عدم العلم بالقرينة المنفصلة على الخلاف، أو الدلالة التصديقيّة مع عدم القرينة المنفصلة على الخلاف واقعاً؟ اختار المحقّق الإصفهانيّ(قدس سره) الأوّل، والمحقّق النائينيّ(رحمه الله)الثالث، والمختار هو الثاني.

هذا. ولا يخفى أنّه وإن كان البناء على العمل بالظهور عقلائيّاً في موارد الشكّ في وجود القرينة عدا ما سيأتي استثناؤه ـ إن شاء الله تعالى ـ ممّا لا إشكال فيه، ولكن يقع البحث فلسفيّاً في تحليل جعل الحجّيّة للعقلاء في هذه الموارد، فبناء على ما اختاره المحقّق النائينيّ(رحمه الله)يرجع الأصل العقلائيّ مع الشكّ في وجود القرينة إلى أصلين:

الأوّل: أصالة عدم القرينة.

والثاني: حجّيّة الظهور.

وفائدة الأصل الأوّل هي تنقيح موضوع الأصل الثاني؛ إذ قد اُخذ في موضوع حجّيّة الظهور عدم القرينة المتّصلة والمنفصلة. أمّا القرينة المتّصلة فلأنّ عدمها دخيل في أصل تكوّن الظهور، وأمّا القرينة المنفصلة فلأنّ المفروض في مبناه(رحمه الله)دخل عدمها في حجّيّة الظهور، فلابدّ أوّلاً من إحراز عدم القرينة ولو بالأصل ثُمّ التمسّك بحجّيّة الظهور.

وأمّا بناءً على ما اختاره المحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله) فلا حاجة إلى أصالة عدم

166

القرينة أصلاً، فإنّ موضوع الحجّيّة ـ بحسب مبناه ـ مركّب من الظهور التصوّريّ، وعدم العلم بالقرينة، وكلا الجزءين محرزان بالوجدان.

وأمّا بناءً على المبنى المختار ففي القرينة المنفصلة لا حاجة إلى دفعها بالأصل؛ لأنّ جزء الموضوع هو عدم العلم بالقرينة المنفصلة وهو ثابت بالوجدان، لا عدم القرينة المنفصلة واقعاً.

وفي القرينة المتّصلة نكون بحاجة إلى دفعها بالأصل؛ لأنّ عدمها دخيل في أصل تكوّن الظهور.

ثُمّ إنّ المحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله) برهن على عدم الحاجة إلى أصالة عدم القرينة في القرينة المنفصلة بأنّ من المستحيل دخل عدم القرينة المنفصلة في الواقع في الحجّيّة عند العقلاء؛ لأنّ الشيء بوجوده الواقعيّ وبغضّ النظر عن وصوله ولو بمرتبة الوصول الاحتماليّ لا يعقل مانعيّته عن تأثير الظهور المولويّ في جري العقلاء على وفقه؛ لأنّ جري العقلاء عمل اختياريّ من قِبَل العاقل، والعمل الاختياريّ يستحيل أن يتأثّر بأمر خارج عن صقع النفس وغير واصل ببعض مراتب الوصول، فالذي يمكن أن يمنع العقلاء عن العمل بالظهور ليس هو القرينة بوجودها الواقعيّ، بل إمّا هو العلم بوجود القرينة، أو احتماله. والثاني خلف؛ إذ هو يعني سقوط الظهور عن الحجّيّة بمجرّد احتمال القرينة المنفصلة، وهذا مقطوع البطلان فيتعيّن الأوّل(1).

 


(1) واستمرّ(رحمه الله) ـ في نهاية الدراية، ج 2، ص 66 و67 ـ في تكميل البرهان بإسرائه إلى باب القرينة المتّصلة أيضاً ببيان: أنّ الموضوع للحجّيّة ليس هو الظهور الفعليّ (يعني الظهور التصديقيّ) وإنّما هو الظهور الوضعيّ؛ إذ لو كان الموضوع هو الظهور الفعليّ للزم


167


عدم إمكان التمسّك بالظهور عند الشكّ في وجود القرينة المتّصلة ولو بمعونة أصالة عدم القرينة؛ لأنّ البناء على عدم المانع إنّما يجري مع فرض إحراز المقتضي، بينما الشكّ في وجود القرينة يستدعي الشكّ في أصل المقتضي بناءً على كون المقتضي هو الظهور الفعليّ. إذن فموضوع بناء العرف والعقلاء هو الظهور الوضعيّ الذاتيّ، والذي يمنع عن تأثير هذا الظهور في تحقيق الحجّيّة لا يمكن أن يكون هو عدم القرينة المتّصلة واقعاً؛ لأنّ الشيء بوجوده الواقعيّ لايؤثّر في عمل العقلاء وبنائهم، فيجب أن يكون المانع إمّا هو العلم بالقرينة، أو احتمالها. والثاني باطل، فليس مجرّد الاحتمال صارفاً لهم عن العمل بالظهور، حيث إنّه ليس مفهماً لغيره. فالمتعيّن هو الأوّل.

أقول: إنّ قاعدة المقتضي والمانع ليست قاعدة عقلائيّة؛ لأنّ القواعد العقلائيّة لاتكون إلّا كاشفة، لا تعبّديّة محضة، ولا كاشفيّة لهذه القاعدة، والبناء على عدم القرينة ليس من باب البناء على عدم المانع بعد إحراز المقتضي، وإنّما هو من باب ندرة غفلة السامع عن القرينة، إذن فبالإمكان أن يكون موضوع الحجّيّة هو الظهور الفعليّ بوجوده الواصل ولو وصولاً ظنّيّاً من خلال أصالة عدم الغفلة دون كفاية مجرّد الوصول الاحتماليّ. وكان بإمكانه(رحمه الله) أن يترك الحديث عن قاعدة المقتضي والمانع، ويقول ابتداءً: إنّه عند الشكّ في القرينة المتّصلة لا يخلو الأمر من أحد فروض ثلاثة:

1 ـ عدم ثبوت الحجّيّة.

2 ـ ثبوت الحجّيّة على أساس أصالة عدم القرينة.

3 ـ ثبوت الحجّيّة مادمنا غير جازمين بالقرينة المنفصلة بلا حاجة إلى أصالة عدم القرينة.

والأوّل: باطل؛ لأنّ المفروض مسلّميّة أصل الحجّيّة عند الشكّ في القرينة، وإنّما

168

أقول: إنّ هذا الكلام مبنيّ على ما هو المشهور في تفسير السيرة العقلائيّة على جعل الحجّيّة: من أنّها عبارة عن الجري العمليّ للعقلاء طبق الظهور، فيقال: إنّ الواقع بما هو يستحيل أن يؤثّر في عمل العقلاء. أمّا على ما مضى منّا: من تفسير الحجّيّة العقلائيّة بمعنى أنّ كلّ عاقل من العقلاء لو تقمّص قميص المولويّة لجعل


الكلام في أنّ تخريج ذلك فنّيّاً هل هو على أساس أصالة عدم القرينة المنقّحة لموضوع الحجّيّة، أو على أساس دعوى الحجّيّة ابتداءً.

والثاني: يعني دخل واقع القرينة وعدمها في الحساب؛ إذ لولا دخل ذلك لا معنى للتمسّك بأصالة عدم القرينة، بينما لا يعقل دخل الواقعيّات وبقطع النظر عن الوصول في البناءات والأعمال العقلائيّة.

والثالث: هو المقصود، وهو عبارة اُخرى عن كون موضوع الحجّيّة هو الظهور الوضعيّ زائداً عدم العلم بالقرينة على الخلاف.

والجواب: أنّ بالإمكان افتراض أنّ موضوع الحجّيّة هو الظهور الوضعيّ زائداً وصول عدم القرينة وصولاً علميّاً أو ظنّيّاً ناشئاً من غلبة عدم الغفلة من دون كفاية مجرّد وصوله وصولاً احتماليّاً. أو قل: إنّ موضوع الحجّيّة هو الظهور الفعليّ التصديقيّ الواصل عن طريق مجموع أمرين: أحدهما ثبوت الظهور الوضعيّ، والآخر ثبوت عدم القرينة ثبوتاً علميّاً، أو ناشئاً عن غلبة عدم الغفلة دون كفاية مجرّد احتمال عدم القرينة. وأمّا مسلّميّة الحجّيّة عند الشكّ في القرينة المتّصلة فنحن لا نسلّم بها إلّا بحدود ما إذا كان احتمال القرينة ناشئاً من احتمال الغفلة. أمّا إذا نشأ من القطع بتقطيع النصّ مثلاً، كما لو تمزّق جزء من رسالة المولى واحتملنا وجود القرينة المتّصلة في الجزء التالف فلا نسلّم بحجّيّة الظهور كما سيأتي في المتن إن شاء الله تعالى. وهذا كلّه بغضّ النظر عمّا سيأتي ـ إن شاء الله تعالى ـ في المتن: من إشكال اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) على أصل فكرة أنّ المانع عن الحجّيّة لا يمكن أن يكون أمراً واقعيّاً، وبغضّ النظر عن الوصول.

169

الظهور حجّة على عبيده، فكون واقع مّا بما هو وبغضّ النظر عن الوصول مأخوذاً في موضوع هذا الجعل أمر معقول، كما أنّ الوثاقة مأخوذة في موضوع حجّيّة خبر الواحد. فليكن ما نحن فيه من قبيل حجّيّة خبر الواحد.

نعم، مع هذا نحن نؤمن بالنتيجة التي أرادها المحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله): من عدم الحاجة إلى أصالة عدم القرينة المنفصلة، وكفاية عدم العلم بالقرينة، ولكن ببرهان آخر:

وهو: أنّ الاُصول العقلائيّة تكون بحسب طبع العقلاء وارتكازهم، وباعتراف الأصحاب اُصولاً معتبرة بما لها من الكشف، لا اُصولاً تعبّديّة صرفة. ومن الواضح أنّ عدم صدور القرينة المنفصلة على الخلاف إنّما حصل الظنّ به من ناحية نفس ظهور الكلام وغلبة مطابقته للواقع، فلولا ظهور العامّ في العموم ـ مثلاً ـ وغلبة مطابقته للواقع لكان احتمال صدور الخاصّ واحتمال عدم صدوره متساويين، والذي رجّح احتمال عدم صدور الخاصّ إنّما هو صدور العامّ، إذن فالكشف إنّما هو لنفس الظهور الذي شككنا في وجود قرينة منفصلة على خلافه، ولا كاشفيّة إطلاقاً في الرتبة السابقة على ذلك لأصالة عدم القرينة المنفصلة، فلو افترضنا أنّ العقلاء يجرون في الرتبة السابقة على حجّيّة الظهور أصالة عدم القرينة لكان معنى ذلك أنّ أصالة عدم القرينة أصل تعبّديّ محض لديهم. وهذا خلاف دأب العقلاء في اُصولهم العقلائيّة.

وحاصل الكلام: أنّه لا توجد لدينا نكتتان مستقلّتان كلّ منهما توجب الظنّ النوعيّ بشيء كي يفترض وجود أصلين عقلائيّين: أصالة عدم القرينة، وأصالة الظهور. وإنّما هناك نكتة واحدة هي الظهور توجب الظنّ بأنّ المتكلّم أراد ما هو الظاهر من الكلام، ولم يرد خلافه معتمداً على قرينة منفصلة. إذن فالأصل العقلائيّ هنا منحصر بأصالة الظهور نتمسّك بها ما لم نعلم بالقرينة المنفصلة على الخلاف.

إذن فالوجه الثالث من الوجوه الثلاثة التي أشرنا إليها في مستهلّ البحث ـ وهو كون

170

موضوع الحجّيّة عبارة عن الظهور التصديقيّ زائداً عدم القرينة المنفصلة على الخلاف ـ باطل. وبعد إبطال هذا الوجه بقي الأمر دائراً بين الوجه الأوّل وهو كون الموضوع الدلالة التصوّريّة زائداً عدم العلم بالقرينة، والوجه الثاني وهو كون الموضوع الدلالة التصديقيّة زائداً عدم العلم بالقرينة المنفصلة.

وبالإمكان أن يتوهّم أنّ ما أبطلنا به الوجه الثالث يكفي لإبطال الوجه الثاني أيضاً، ففي القرينة المتّصلة يقال أيضاً: إنّ أصالة عدم القرينة لا كاشفيّة لها عن شيء، فيجب الرجوع رأساً إلى الظهور التصوّريّ عند عدم العلم بالقرينة على الخلاف؛ إذ الرجوع إلى أصالة عدم القرينة رجوع إلى أصل تعبّديّ بحت، وليس هذا من ديدن العقلاء في اُصولهم العقلائيّة.

ولكن الواقع على عكس هذا تماماً فالنكتة التي أبطلنا بها الوجه الثالث تبطل الوجه الأوّل أيضاً، وتعيّن الوجه الثاني؛ وذلك لأنّ التمسّك بالظهور التصوّريّ يعني التمسّك بأصل تعبّديّ بحت؛ لما مضى: من أنّ الظهور التصوّريّ ليس بابه باب الكشف، وإنّما بابه باب العلّيّة والإيجاد. والكشف إنّما يتمّ ببركة نكتة الظهور التصديقيّ، ولولا الظهور التصديقيّ لما كان أيّ كشف للكلام كي يعقل الاعتماد عليه عقلائيّاً، فالاعتماد العقلائيّ إنّما هو على الظهور التصديقيّ، والذي هو متقوّم بعدم القرينة على الخلاف، فلابدّ من إحراز عدم القرينة كي يمكن التمسّك بالظهور التصديقيّ، والذي يحرز لنا عدم القرينة هو أصالة عدم القرينة المتّصلة، وليست هذه أصلاً تعبّديّاً بحتاً بل هي قائمة على استبعاد غفلة السامع عن القرينة؛ لأنّ الغفلة خلاف الطبع العقلائيّ، وأسبابها في قبال أسباب الالتفات وعدم الغفلة نادرة جدّاً، فأصالة عدم القرينة المتّصلة ليست أصلاً تعبّديّاً، ولو لم تجر لم تصل النوبة إلى أصالة الظهور؛ إذ لو اُريد بالظهور الدلالة التصوّريّة فقد عرفت أنّ بابها ليس باب الكشف، ولو اُريد به الدلالة التصديقيّة فقد عرفت أنّ قوامها بعدم القرينة

171

المتّصلة، فبناء العقلاء على الحجّيّة المجعولة الفعليّة للظهور مع الشكّ في القرينة المتّصلة الذي هو مسلّم ومفروغ عنه لا يعقل تفسيره فلسفيّاً إلّا بإجراء أصالة عدم القرينة المتّصلة أوّلاً تنقيحاً لموضوع الظهور ثُمّ إجراء أصالة الظهور.

ومن هنا نستثني من أصالة عدم القرينة المتّصلة ما لو لم يكن احتمال القرينة ناشئاً من احتمال الغفلة، بل كان ناشئاً من جهة اُخرى، كما لو كان السامع مبتلى بثقل السمع فاحتمل عدم سماع بعض الكلمات ممّا يكون قرينة صارفة، أو كان المولى قد أرسل إلى عبده رسالة مكتوبة وتمزّق صدفةً مقدار من المكتوب واحتمل العبد وجود القرينة المتّصلة في المقدار التالف من المكتوب، ففي مثل هذه الموارد ممّا لا يكون احتمال عدم القرينة فيها راجحاً نوعاً على احتمال القرينة لا نسلّم جريان أصالة عدم القرينة، وبالتالي لا نسلّم جريان أصالة الظهور؛ لعدم إحراز موضوعها.

وقد تلخّص من هذا البحث: أنّ في باب القرائن المنفصلة لا أساس لأصالة عدم القرينة، ولا حاجة إليها ونتمسّك رأساً بأصالة الظهور حتّى فيما إذا احتملنا وجود قرينة منفصلة. وفي باب القرينة المتّصلة لو لم نحتملها فلا إشكال في التمسّك بأصالة الظهور ابتداءً، ولو احتملناها جرى أصلان طوليّان: الأوّل: أصالة عدم القرينة، وهذا الأصل ينقّح موضوع الظهور. والثاني: أصالة الظهور التي تجري بعد تنقيح موضوعها بالأصل الأوّل.

وقد يقول القائل: لا دليل على وجود جعلين في المقام؛ إذ بالإمكان إرجاع الجعلين إلى جعل واحد من باب الاختصار في الجعل مثلاً بأن يقول المولى: مهما تكوّن لك الظنّ النوعيّ بالمراد من اجتماع أمرين: أحدهما: الرجحان النوعيّ لعدم القرينة المتّصلة؛ لكون احتمالها من باب احتمال الغفلة، والثاني: الظهور في معنى معيّن على تقدير عدم القرينة المتّصلة..، فقد جعلت لك هذا الظنّ حجّة.

172

والواقع: أنّ البحث لم يكن في افتراض أنّ العقلاء جلسوا على كرسيّ الجعل والتفتوا بالتفصيل إلى كيفيّة الجعل الموصلة للمطلوب من جعل واحد أو جعلين، وإنّما مقصودنا من جعل العقلاء أنّهم يعتبرون ولو بالارتكاز النكتة الكاشفة في باب الظهور قابلة للاعتماد عليها لأجل كشفها، فإذا تعدّدت النكتة الكاشفة، وكانت إحداهما منقّحة لموضوع الاُخرى، قلنا لا محالة: إنّ هنا جعلين باعتبار وجود نكتتين اعتنوا بكلتيهما، وأحد الجعلين ينقّح موضوع الآخر. وما نحن فيه من هذا القبيل. ولا فرق فيما ذكرناه بين فرض دعوى الجعل حقيقة: من تنزيل، أو جعل للحكم المماثل، أو لنفس الحجّيّة ونحو ذلك، وفرض اعتبار الكاشف بمثل الإخبار عن شدّة اهتمام المولى بغرضه المكشوف بتلك النكتة الخاصّة.

وبعد أن تلخّص أنّ موضوع الحجّيّة مركّب من الظهور التصديقيّ وعدم العلم بالقرينة المنفصلة بقي الكلام في أنّ أيّاً من درجتي الظهور التصديقيّ هي الموضوع للحجّيّة، هل الظهور التصديقيّ للاستعمال، أو الجدّيّ؟ يظهر من بعض كلمات المحقّق النائينيّ(رحمه الله) كما عرفت: أنّ للظهور التصديقيّ درجتين: الظهور فيما قال، والظهور فيما أراد. وجعل عدم القرينة المتّصلة مرحلة الظهور الأوّل، وعدم القرينة المنفصلة مرحلة الظهور الثاني، وجعل موضوع الحجّيّة هو المرتبة الأخيرة من الظهور(1).

وقد عرفت أنّ عدم القرينة المنفصلة ليس مرحلة للظهور، وأنّ هنا درجتين للظهور التصديقيّ بالتفصيل الذي مضى منّا، وكلاهما في مرحلة عدم القرينة المتّصلة.

والتحقيق: أنّ كلتا الدرجتين موضوع للحجّيّة، فإنّه لابدّ أن تجري أوّلاً أصالة المطابقة بين المدلول التصوّريّ والمدلول الاستعماليّ، وينقّح بذلك موضوع أصل ثان وهو أصالة المطابقة بين المدلول الاستعماليّ والمدلول الجدّيّ، فيثبت بذلك المراد الجدّيّ للمولى.


(1) مضى منّا ما نحتمله فيما هو مراد المحقّق النائينيّ(رحمه الله) قبل صفحات.

173

 

3 ـ مع الاُصول اللفظيّة الاُخرى

وأمّا الجهة الثالثة ـ وهي في البحث عن نسبة أصالة الظهور إلى سائر الاُصول اللفظيّة الوجوديّة كأصالة الحقيقة وأصالة العموم والإطلاق ونحو ذلك، والعدميّة وهي أصالة عدم القرينة ـ فنقول:

أمّا نسبتها إلى الاُصول الوجوديّة فواضحة، فإنّ مثل أصالة الحقيقة وأصالة العموم وأصالة الإطلاق كلّ واحد منها حصّة من حصص أصالة الظهور على اختلاف بينها في المرتبة: فأصالة الحقيقة تكشف عن المراد الاستعماليّ، وقد يعبّر عنها بأصالة المطابقة بين المعنى التصوّريّ والمراد الاستعماليّ. وأصالة العموم تكشف عن المراد الجدّيّ باعتبار أصالة المطابقة بين المراد الاستعماليّ والمراد الجدّيّ. وأصالة الإطلاق أيضاً تكشف عن المراد الجدّيّ ببركة مقدّمات الحكمة التي ترجع إلى ظهور كون المتكلّم في مقام بيان تمام المراد.

وأمّا نسبتها إلى أصالة عدم القرينة فقد ظهر ما هو الحقّ في ذلك ممّا سبق في الجهة الثانية، حيث اتّضح أنّ أصالة عدم القرينة المنفصلة لا أساس لها، وأنّ أصالة عدم القرينة المتّصلة أصل مستقلّ برأسه تجري إلى صفّ أصالة الظهور، وتستعمل في موارد الشكّ في القرينة المتّصلة لتنقيح موضوع أصالة الظهور، ومع عدم احتمال القرينة المتّصلة تجري أصالة الظهور ابتداءً.

هذا. ولكن قد وقع الخلاف بين الشيخ الأعظم(قدس سره) وصاحب الكفاية(رحمه الله)حول النسبة بين أصالة الظهور وأصالة عدم القرينة، فيظهر من بعض كلمات الشيخ الأعظم(قدس سره)(1) أنّ أصالة الظهور في الحقيقة ترجع إلى أصالة عدم القرينة. واختار


(1) راجع فرائد الاُصول، ص 34 بحسب الطبعة المشتملة على حاشيته(رحمه الله)المنشورة من قبل مكتبة المصطفويّ.

174

المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) العكس، فأرجع أصالة عدم القرينة المتّصلة إلى أصالة الظهور(1)، وقال(2) في وجه ذلك: إنّنا نرى أنّ تمسّك العقلاء بأصالة الظهور دائماً هو بنفس واحد وبنسق واحد، وقد يتّفق أنّنا نقطع بعدم القرينة المتّصلة، ونشكّ مع ذلك في إرادة المعنى الظاهر، ولا إشكال في جريان أصالة الظهور في هذا الفرض، ومن الواضح أنّ أصالة الظهور هنا لا ترجع إلى أصالة عدم القرينة؛ إذ المفروض القطع بعدم القرينة، فلا يعقل إجراء أصالة عدم القرينة، فيثبت بذلك أنّ في صورة احتمال القرينة أيضاً يكون الأصل الجاري هو أصالة الظهور لا أصالة عدم القرينة بإرجاع أصالة الظهور إليها، وإلّا لزم اختلاف مسلك العقلاء في أصالة الظهور باختلاف الصورتين، بينما من الواضح لدينا أنّ تمسّكهم بأصالة الظهور دائماً هو بشكل واحد.

أقول: إنّ عدم اختلاف مسلك العقلاء في أصالة الظهور باختلاف الموارد إنّما يصلح دليلاً على بطلان كلام الشيخ الأعظم(رحمه الله) القائل برجوع أصالة الظهور إلى أصالة عدم القرينة، فيقال: إنّ أصالة الظهور تجري أحياناً مع القطع بعدم القرينة، فلا يمكن رجوعها إلى أصالة عدم القرينة. لكن هذا لا يثبت ما ذهب إليه المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله): من رجوع أصالة عدم القرينة إلى أصالة الظهور، ويبقى احتمال كونهما أصلين مستقلّين، وأنّ أصالة عدم القرينة تجري عند احتمال القرينة لتنقيح موضوع الظهور كما اخترناه(3).

 


(1) راجع الكفاية، ج 2، ص 65 بحسب طبعة المشكينيّ، وتعليقة الآخوند على الرسائل، ص 42 و43.

(2) في تعليقته على الرسائل.

(3) يوجد في عبارة المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) في تعليقته على الرسائل احتمال آخر،

175

وأمّا ما ادّعاه الشيخ الأعظم(رحمه الله) على ما يظهر من بعض كلماته: من رجوع أصالة الظهور إلى أصالة عدم القرينة، فلم يذكر(رحمه الله) في كتابه وجهاً لذلك. ولكن المحقّق العراقي(رحمه الله) ذكر في وجه تصحيح أو إبطال هذا الكلام: إنّ القضيّة مرتبطة بمسألة الإيمان بقبح تأخير البيان عن وقت الحاجة وعدمه، فإن لم نقل بقبح ذلك وجوّزنا ـ بناءً عليه ـ فصل القرينة عن ذي القرينة، إذن فأصالة عدم القرينة المتّصلة لا تكفي للعمل بالظهور كي يقال: إنّ أصالة الظهور ترجع إلى أصالة عدم القرينة؛ إذ حتّى مع افتراض عدم القرينة المتّصلة يبقى احتمال إرادة خلاف الظاهر والاعتماد على قرينة منفصلة قائماً، ولابدّ في دفع ذلك من التمسّك بأصالة الظهور. وإن قلنا بقبح ذلك وأنّ القرينة المنفصلة تكشف دائماً عن قرينة متّصلة لقبح الفصل، إذن فلا منشأ لاحتمال إرادة خلاف الظاهر عدا احتمال القرينة المتّصلة، وهو منفيّ بأصالة عدم القرينة، ولا تبقى


وهو: أن يكون مقصوده بالبرهان الماضي البرهنة فقط على عدم رجوع أصالة الظهور إلى أصالة عدم القرينة. وأمّا جريان أصالة عدم القرينة عند الشكّ فيها في عرض أصالة الظهور فأبطلها بما نراه: من أنّه لا مجال لأصالة عدم قرينة المجاز ـ مثلاً ـ لو قطعنا بعدم إرادة الحقيقة، فهذا يعني أنّ أصالة عدم القرينة مرجعها إلى أصالة الحقيقة.

أقول: ويرد عليه: أنّ ما نراه: من أنّه لا مجال لأصالة عدم القرينة عند القطع بعدم إرادة الحقيقة، صحيح، ولكن قد يكون هذا بنكتة أنّه مع القطع بعدم إرادة الحقيقة لا يبقى أثر عمليّ لأصالة عدم القرينة، فتسقط باللغويّة، أو بنكتة أنّ عدم إرادة الحقيقة المقطوع به ـ بحسب الفرض ـ يكون بحدّ ذاته أمارة نوعيّة على وجود القرينة، وهذا غير فرض رجوع أصالة عدم القرينة إلى أصالة الحقيقة.

176

حاجة إلى أصل آخر يستقلّ عن أصالة عدم القرينة يسمّى بأصالة الظهور(1).

ويرد عليه:

أوّلاً: إنّ احتمال القرينة المتّصلة لا يمكن دفعه بقاعدة قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة ما لم نثبت في المرتبة السابقة حجّيّة الظهور، فإنّ الظهور لو لم يكن حجّة بقطع النظر عن هذه القاعدة كان حال الظاهر بقطع النظر عن هذه القاعدة حال المجمل وحال السكوت، ولا فرق بينه وبينهما بلحاظ التنجيز والتعذير. وليس معنى قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة قبح تأخير تفهيم الحكم عن وقت الحاجة ولو بالإجمال والسكوت، وإنّما مقصودهم من هذه القاعدة قبح الاعتماد على القرينة المنفصلة الدالّة على خلاف ما هو حجّة على المكلّف ويدعو المكلّف إلى نفسه، ويكون حاله حال الإجمال والسكوت، فلو كان ضمّ قاعدة قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة إلى أصالة عدم القرينة المتّصلة كافياً لإحراز مراد المولى ومغنياً عن التمسّك بأصالة الظهور من حيث هو ظهور، فلنفرض الإجمال بدلاً عن الظهور، ولنفرض القطع بعدم القرينة المتّصلة بدلاً عن أصالة عدم القرينة، فهل ترى أنّ هذا يكفي لاستكشاف مراد المولى بضمّ قاعدة قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة؟ طبعاً لا. فإن لم يفدنا ذلك فكيف يفيدنا بضمّ قاعدة تأخير البيان عن وقت الحاجة إلى أصالة عدم القرينة؟ وهل القطع بعدمها أسوء حالاً من أصالة عدمها؟!


(1) لا يخفى أنّه لا يوجد في كلام الشيخ الأعظم(رحمه الله) وكلام المحقّق العراقي(رحمه الله)أيّ إشارة إلى الفرق بين القرينة المتّصلة والمنفصلة. وقبح تأخير البيان عن وقت الحاجة الذي جاء في كلام المحقّق العراقي(رحمه الله) لا يعني قبح تأخير البيان عن كونه متّصلاً بالكلام، وإنّما يعني قبح تأخير البيان عن وقت العمل، أي: أنّه يجب ذكر القرينة قبل انتهاء وقت العمل ولو منفصلة، فإذا شككنا في القرينة ونفيناها بالأصل، كفى ذلك في العمل بالظهور؛ لأنّ عدم القرينة لا متّصلة ولا منفصلة يعني كون المراد مطابقاً لما هو ظاهر الكلام.

177

وثانياً: إنّا لو سلّمنا أنّ قاعدة قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة تشمل السكوت، أو الاقتصار في وقت الحاجة على ما يكون مجملاً، أو غير حجّة، قلنا: إنّه لو فرض عدم حجّيّة هذا الظاهر بقطع النظر عن هذه القاعدة فضمّ هذه القاعدة لا يعني إحراز مراد المولى بها، بل يعني الفراغ عن ارتكاب المولى لهذا القبيح(1).

 


(1) إنّ مراجعة كلام المحقّق العراقي(رحمه الله) في المقالات توضّح أنّ مقصوده (رضوان الله عليه) من قاعدة قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة ليست هي قاعدة قبح فصل القرينة عن الحجّة، بل مقصوده هو المفهوم الأوّليّ من هذه العبارة، وهو قبح ترك البيان إلى انتهاء وقت الحاجة العمليّة، بأن لا يبيّن الأمر لا بالقرينة المتّصلة ولا بالقرينة المنفصلة إلى انقضاء وقت العمل. وقد مضى منّا أنّه لم يرد في كلام المحقّق العراقي، ولا الشيخ الأعظم(رحمهما الله) أيّ إشارة إلى التفصيل بين القرينة المتّصلة والمنفصلة، وعليه فبالإمكان أن يكون مقصوده من قبح تأخير البيان ما يشمل قبح السكوت. وعليه فمن الواضح أنّ الإشكال الأوّل غير وارد.

وأمّا الإشكال الثاني فقد يدّعي القائل بقبح تأخير البيان: أنّ المقصود قبح تأخير البيان العرفيّ بغضّ النظر عن حجّيّته. وهذا يعني أنّ ظاهر كلام المولى بجميع قرائنه المتّصلة والمنفصلة يجب أن يكون وافياً بالمقصود وفق المفهوم العرفيّ من الكلام، وليست الحجّيّة مأخوذة في موضوع ذلك بأن يثبت أنّ المولى ارتكب القبيح، ونتيجة ذلك: إنّنا إذا اطّلعنا على ظاهر كلام المولى بجميع قرائنه المتّصلة والمنفصلة أورث ذلك القطع بمراده. أمّا إذا شككنا في القرينة فأصالة عدم القرينة حجّة، وهي تكفي عن أصالة الظهور كأصل مستقلّ إذا لم يكن الشكّ في المراد إلّا بلحاظ الشكّ في القرينة المتّصلة أو المنفصلة المنفيّة بالأصل.

ولعلّ الشيخ الأعظم(رحمه الله) لا ينظر أصلاً إلى دعوى قاعدة قبح تأخير البيان، بل ينظر إلى قطعنا بأنّ الشارع قد بيّن تمام مراده بمجموع بياناته المتّصلة والمنفصلة، القطع الناشئ إمّا

178

 

4 ـ تحديد دائرة الحجّيّة

وأمّا الجهة الرابعة ـ وهي في بيان التفصيلات في الحجّيّة وعدمها بين بعض أقسام الظهور وبعض ـ فهناك عدّة تفصيلات:

 

دعوى اختصاص الحجّيّة بمن قصد إفهامه:

التفصيل الأوّل: ما اختاره المحقّق القمّيّ(رحمه الله) من التفصيل بين مَن قصد إفهامه ومَن لم يقصد إفهامه، فيكون الظهور حجّة بالنسبة للأوّل دون الثاني. ونكتة ذلك


من معرفتنا بديدنه، أو من باب أنّ عدم بيانه لتمام مراده نقض لغرضه، ونقض الغرض مستحيل.

وأمّا ما ذكره اُستاذنا الشهيد(رحمه الله): من أنّ الشيخ الأعظم(رحمه الله) لم يذكر وجهاً لإثبات مدّعاه: من إرجاع أصالة الظهور إلى أصالة عدم القرينة، فالأمر بالعكس، فقد ذكر الشيخ الأعظم(رحمه الله)في رسائله ما نصّه:

«القسم الأوّل (يعني من الأمارات): ما يعمل لتشخيص مراد المتكلّم عند احتمال إرادته خلاف ذلك، كأصالة الحقيقة عند احتمال إرادة المجاز، وأصالة العموم، وأصالة الإطلاق، ومرجع الكلّ إلى أصالة عدم القرينة الصارفة عن المعنى الذي يقطع بأنّه المراد للمتكلّم الحكيم لو حصل القطع بعدم القرينة». وهذا كما ترى ظاهر فيما أشرنا إليه: من أنّنا باعتبار قطعنا بأنّ المولى بيّن مراده بمجموع الكلام وقرائنه المتّصلة والمنفصلة نعلم أنّه لا مجال لاحتمال إرادة خلاف الظاهر عدا احتمال عدم القرينة، فأصالة عدم القرينة هي التي تثبت مطابقة المراد لظاهر الكلام، ولا يوجد لدينا أصل آخر باسم أصالة الظهور.

ويرد عليه: ما عرفته سابقاً من أنّه لا كاشف عن عدم القرينة المنفصلة إلّا نفس ظهور الكلام فيما يخالف مفاد القرينة، إذن يجب الرجوع مرّة اُخرى إلى أصالة الظهور.

179

ـ على ما شرحه شرّاح هذه النظريّة ـ: أنّ مَن قصد إفهامه لا يحتمل وجود قرينة متّصلة لم يلتفت إليها إلّا من باب الغفلة، وهذا ينفى بأصالة عدم القرينة؛ لأنّ الغفلة على خلاف الطبع العقلائيّ، وينقّح بذلك موضوع الظهور التصديقيّ، فيتمسّك بأصالة الظهور. أمّا مَن لم يقصد إفهامه فيحتمل وجود قرينة متّصلة بين المتخاطبين لم يلتفت هو إليها رغم عدم الغفلة، فإنّ من المعقول أن ينصب شخصان متخاطبان قرينة يختصّان بعلمها، ولا يلتفت إليها الشخص الثالث الذي لم يكن مقصوداً بالإفهام، فلا تجري بشأنه أصالة عدم القرينة كي يحرز موضوع أصالة الظهور.

وقد أجاب على ذلك أكثر الاُصوليّين ـ كالمحقّق النائينيّ(رحمه الله) والسيّد الاُستاذ ـ بأنّ أصالة عدم القرينة أصل عقلائيّ مستقلّ في قبال أصالة عدم الغفلة، فيُجريها غير المقصود بالإفهام كما يُجريها المقصود بالإفهام على حدّ سواء.

وقد انقدح بطلان هذا الكلام ممّا سبق، فإنّ الأصل العقلائيّ إنّما يكون حجّة عند العقلاء من باب الكاشفيّة النوعيّة لا التعبّد الصرف، وأصالة عدم القرينة لا كاشفيّة لها إلّا من ناحية أصالة عدم الغفلة، فلو احتملت القرينة المتّصلة من ناحية ثقل سمع السامع، أو تمزّق جزء من مكتوب المولى لم تجر أصالة عدم القرينة.

والتحقيق ـ رغم ما ذكرناه ـ: هو بطلان التفصيل بين مَن قصد إفهامه ومَن لم يقصد، ولنفسّر الآن ذلك بمعنى المخاطب وغير المخاطب فنقول: إنّ مناشئ الشكّ لغير المخاطب في مراد المتكلّم واحتمال إرادته لخلاف الظاهر التي لا توجب انثلام الحجّيّة بالنسبة للمخاطب منحصرة في خمسة، ولا يصلح شيء منها ملاكاً للتفصيل بين المخاطب وغير المخاطب بحجّيّة الظهور في شأن الأوّل دون الثاني، وبهذا يبطل التفصيل:

المنشأ الأوّل: احتمال إخلال المتكلّم بذكر القرينة ولو منفصلاً، كما لو قطع بعدم

180

وجود القرينة المتّصلة ولا المنفصلة، ولكن احتمل مع ذلك أنّ المتكلّم قد أراد خلاف الظاهر، كما لو احتمل كونه في مقام الإخفاء المطلق للمراد.

وهذا الاحتمال كما ترى نسبته إلى المخاطب وغير المخاطب على حدّ سواء، فكلّ منهما قد يحتمل هذا الاحتمال، ولا يمكن للمخاطب ولا لغير المخاطب رفع هذا الاحتمال بأصالة عدم القرينة؛ إذ ليس بابه باب احتمال القرينة بل المفروض هو القطع بعدم القرينة، وكلاهما ـ أي: المخاطب وغير المخاطب ـ يرجعان في المقام إلى أصالة الظهور، فإنّ من الظهورات السياقيّة العقلائيّة هو ظهور حال المتكلّم في أنّه في مقام إبراز مراده بكلامه، وهذا الظهور السياقي نسبته إلى المخاطب وغيره على حدّ سواء(1).

المنشأ الثاني: أن يحتمل القرينة المنفصلة، كما لو قطع بعدم القرينة المتّصلة، واحتمل إرادة المتكلّم للإخفاء الموقّت لا الإخفاء المطلق، فاحتمل وجود قرينة منفصلة.

وهذا كما ترى نسبته إلى المخاطب وغيره على حدّ سواء، وهنا تجري أصالة عدم القرينة؛ لما مضى: من أنّه لا أساس لهذا الأصل في القرائن المنفصلة، وتجري أصالة الظهور، فإنّ ظاهر حال المتكلّم العاقل إنّه يعتمد في مقام بيان مراده على شخص كلامه لا على مجموع كلماته التي تكلّم بها طيلة حياته. وهذا الظهور أيضاً نسبته إلى المخاطب وغيره على حدّ سواء.

المنشأ الثالث: أن يشكّ غير المخاطب في القرينة المتّصلة من باب احتمال الغفلة، كما لو علم أنّه لم تفته قرينة على أساس فرضيّة خفائها عن غير المخاطب، وإن فاتته قرينة فإنّما هو على أساس الغفلة.


(1) ويلحق بهذا الفرض احتمال غفلة المتكلّم عن ذكر القرينة، فكلّ من المخاطب وغيره يجري أصالة عدم الغفلة.

181

وهذا الاحتمال كما ترى يتّفق بشأن المخاطب أيضاً كما يتّفق بشأن غير المخاطب، وكلاهما يجريان أصالة عدم الغفلة؛ لكون الغفلة خلاف الطبع.

المنشأ الرابع: أن يحتمل غير المخاطب أن يكون هناك رمز واصطلاح خاصّ بين المتكلّم والمخاطب وضعاه للتفهيم والتفهّم بينهما، وهو غير مطّلع على ذلك، فقد يكون المتكلّم مريداً لخلاف الظاهر العامّ لكلامه اعتماداً على ذاك الرمز أو الاصطلاح الموجود بينهما.

وهذا الاحتمال وإن كان مختصّاً بغير المخاطب ولكنّه مدفوع بالأصل العقلائيّ، وهذا الأصل ليس تعبّديّاً صرفاً بل يكون باعتبار الكشف النوعيّ والظهور العرفيّ، فإنّ الظاهر من العاقل حينما يتكلّم إذا كان يعيش في مجتمع يؤمن باللغة أنّه يتكلّم بلغة ذاك المجتمع لا أنّه يتكلّم باصطلاحات مخصوصة، فإن تكلّم مَن يعيش في مجتمع ويتعايش مع غيره ممّن يتخاطب باللغة باصطلاحات خاصّة وضعها بينه وبين مخاطبه يكون خلاف مقتضى الطبع العقلائيّ، ولا شكّ في المقام في جريان السيرة العقلائيّة على حجّيّة الظهور إن وجد مثل هذا الاحتمال.

المنشأ الخامس: أن يحتمل غير المخاطب وجود قرينة حاليّة بين المتكلّم والمخاطب، فإنّه قد تكون قسمات وجه المتخاطبين وانطباعاتهما، أو حركات اليد، أو استحضارهما لكلام سابق، أو حالتهما النفسيّة الخاصّة، أو نحو ذلك قرينة حاليّة على المقصود لا يفهمها مَن لم يكن حاضراً مجلس التخاطب، أو مجلس الكلام السابق.

وهذا الاحتمال أيضاً يختصّ بغير المخاطب ولا يأتي عادة في المخاطب، ومهما وجد هذا الاحتمال عقلائيّاً لم يكن له رافع أصلاً. وأمّا ما يرى بحسب الخارج: من أنّ غير المخاطب يعوّل عادة على ظهور الكلام، فليس هذا من باب التمسّك بأصل عقلائيّ يدفع هذا الاحتمال، وإنّما هو من باب أنّ الغالب عدم

182

وجود مثل هذه القرينة الحاليّة. أمّا لو فرض في مورد أنّه كان هناك تصوّر تفصيليّ في ذهن العقلاء عن قرينة حاليّة من هذا القبيل، وكان وجودها محتملاً احتمالاً عقلائيّاً فعندئذ لا يتمسّك بظهور كلام المتكلّم أصلاً.

ولكن هذا المنشأ لا يصلح ملاكاً للتفصيل بين المخاطب وغير المخاطب، وإنّما هو ملاك للتفصيل بين الحاضر وغير الحاضر، فإنّ احتمال وجود القرينة الحاليّة وعدم الاطّلاع عليها من غير جهة الغفلة إنّما يختصّ بمن لم يكن حاضراً مجلس التخاطب، أو مجلس الكلام السابق.

ثُمّ إنّ هذا الاحتمال لا يضرّ بحجّيّة الروايات الواصلة إلينا باعتبار عدم حضورنا مجلس التخاطب، فإنّ هذا إنّما يضرّ في مثل ما لو سمعنا الكلام من المسجّل، كما لو سئل الإمام(عليه السلام) عن الأرض هل تطهر إذا أصابتها الشمس؟ فقال(عليه السلام): (تطهر)، وسمعنا ذلك من المسجّل واحتملنا أنّ الإمام(عليه السلام) تكلّم بكلمة (تطهر) بعنوان الاستنكار الظاهر من حالته ووجهه الشريف لا بعنوان الإخبار عن مطهّريّة الشمس من دون ماء، فهذا الظهور ليس حجّة لنا. أمّا لو حكى لنا القصّة ثقة يكون كلامه حجّة بمقتضى أدلّة حجّيّة خبر الواحد فنحن وإن لم يمكننا دفع هذا الاحتمال بإجراء أصالة عدم القرينة في كلام الإمام(عليه السلام) لكنّنا ندفعه بشهادة الراوي على عدمها. إمّا بالتصريح ـ كما لو صرّح بذلك ـ أو بنفس السكوت وعدم النقل، فإنّه ظاهر في العدم، وشهادة ضمنيّة بعدم القرينة، ومقتضى أمانته ووثاقته أنّه ينقل تمام ما له دخل في تحصيل المعنى من كلام الإمام(عليه السلام)بالنسبة لشخص ذلك المجلس، ولهذا أشار الرواة في كثير من الروايات إلى القرائن الحاليّة(1).

 


(1) وإن شئتم قلتم: إنّ المخاطب للإمام وإن كان هو زرارة مثلاً، فظاهر كلامه حجّة

183

ثُمّ لو تنزّلنا وافترضنا فرقاً في النكتة العقلائيّة بين المخاطب وغير المخاطب، أو أنكرنا شهادة الراوي بعدم القرينة الحاليّة فسقط التمسّك بالأصل العقلائيّ في المقام قلنا: إنّنا نتمسّك بسيرة المتشرّعة؛ إذ لا إشكال في أنّ المتشرّعة لم يكونوا يفرّقون في حجّيّة الظهور بين المخاطب وغيره، ولو كان المتشرّعون غير المخاطبين لا يسلكون في مقام العمل وأخذ الأحكام الشرعيّة مسلك الاعتماد على الظهور لكان لهم مسلك آخر يصلنا، فبذلك تثبت الحجّيّة على نحو العموم، ولو فرض قصور السيرة العقلائيّة عن إثبات ذلك.

بقي هنا شيء، وهو: أنّنا إلى الآن فرضنا أنّ مقصود المفصّل هو التفصيل بين المخاطب وغير المخاطب، أي: تخصيص الحجّيّة بالمشافهين، والآن نفرض أنّ مصبّ التفصيل هو عنوان مَن قصد إفهامه ومَن لم يقصد، وهذا لا يساوي عنوان المشافهة أو المخاطب، فقد يكون الشخص مقصوداً بالإفهام رغم أنّه ليس


له لا لغيره؛ لأنّ غيره يحتمل وجود قرائن حاليّة، ولكن زرارة قد خاطب شخصاً آخر، فظاهر كلامه حجّة له، والمفروض به أن يبرز في ظاهر كلامه كلّ ما كان من قرائن حاليّة بينه وبين الإمام، وذاك الشخص الآخر خاطب شخصاً ثالثاً، فظاهر كلامه حجّة له، وهكذا إلى أن نصل إلى الكتب الواصلة بأيدينا، ونحن بالنسبة لأصحاب الكتب مخاطبون لهم أو بحكم المخاطبين، فظواهر نقولهم حجّة لنا، ولو كانت هناك قرائن في الأثناء لدى مَن بيننا وبين الإمام من الوسائط لكان عليه النقل.

ومن هنا يظهر أنّ أصل مبحث اختصاص حجّيّة الظواهر بالمشافهين، أو بمن قصد إفهامه ليس له أثر مهمّ في الشريعة؛ لأنّنا بالنسبة لمن قبلنا مشافهون، أو مقصودون بالإفهام إلى أن يصل الأمر إلى الإمام(عليه السلام).

184

مخاطباً، وقد يكون الشخص مخاطباً مع أنّه ليس مقصوداً بالإفهام(1).

ويظهر من التأمّل فيما ذكرناه مفصّلاً في تحقيق عدم الفرق بين المخاطب وغيره في الحجّيّة أنّ التفصيل بين المقصود بالإفهام وغيره أيضاً لا أساس له.

نعم، يوجد فرق بين المقصود بالإفهام وغيره في أمر عقليّ لا يكون فارقاً من زاوية حجّيّة الظهور، وهو: أنّ بعض الاحتمالات الخمسة الماضية لا يتطرّق بالنسبة للمقصود بالإفهام، كما ترى أنّ احتمال الإخفاء المطلق أو الموقّت غير موجود بشأن المقصود بالإفهام؛ إذ هو خلف كونه مقصوداً بالإفهام. وهذا فرق في الدلالة العقليّة دون حجّيّة الظهور، فالمقصود بالإفهام وغير المقصود بالإفهام كلاهما ينفيان احتمالات إرادة خلاف الظاهر، إلّا أنّ المقصود بالإفهام ينفي بعضها بالدلالة العقليّة وبعضها بالتعبّد، وغير المقصود بالإفهام ينفي جميعها بالتعبّد. وهذا الفرق كما ترى غير فارق في المقام.

وهنا أيضاً يأتي ما ذكرناه: من أنّه لو فرض أنّ نكتة السيرة العقلائيّة لا تقتضي شمول السيرة لكلا القسمين رجعنا إلى سيرة المتشرّعة، فإنّهم لا يفرّقون بين مَن قصد إفهامه ومَن لم يقصد.

ثُمّ لو سلّمنا التفصيل بين المقصود بالإفهام وغيره تصل النوبة إلى البحث في الصغرى، فهل إنّنا مقصودون بالإفهام في كلمات الأئمّة(عليهم السلام)أو لا؟ وهنا يكفي للمحقّق القمّيّ(رحمه الله) الشكّ؛ إذ معه لم يحرز موضوع الحجّيّة كي يحكم بالحجّيّة،


(1) كأنّ مقصود المفصّل في المقام هو الثاني، أي: التفصيل بين مَن قصد إفهامه ومَن لم يقصد، إلّا أنّه يرى أنّ هذا ينتج التفصيل بين المشافه وغير المشافه؛ لأنّ المشافه مقصود بالإفهام، إمّا بدعوى القطع، أو بدعوى ظهور حال المشافه في كونها للإفهام بخلاف غير المشافه.

185

فلابدّ لمدّعي الحجّيّة إثبات أنّنا مقصودون بالإفهام.

وهنا يذكر أنّ كوننا مقصودين بالإفهام من الواضحات؛ إذ من المعلوم أنّ الأدلّة إنّما هي بصدد بيان أحكام مشتركة بيننا وبين زرارة مثلاً، لا بصدد بيان أحكام خاصّة به، فلمّـا كان الحكم عامّاً وجب كون القصد عامّاً.

ولكن لا يخفى أنّ مجرّد كون الحكم عامّاً لا يعني كوننا مقصودين بالإفهام، فمن الممكن أن يكون الحكم مشتركاً بيننا وبين مثل زرارة مع اختصاص المقصود بالإفهام بمثل زرارة، فإنّ وجه تخصيصه بالإفهام هو أنّ الإمام(عليه السلام) كان يتكلّم بطريقة يختصّ فهمها بالمخاطبين لأجل قرائن كانت موجودة بينه وبينهم، وليس معنى ذلك أنّه(عليه السلام) كان يتكلّم بحكم مختصّ بهم.

يبقى أنّه إذا كان غير المخاطبين غير مقصودين بالإفهام مع أنّ الحكم يشملهم فماذا يصنعون في مقام استنباط الحكم؟ والجواب: أنّهم يستنبطونه بحسب القواعد الموضوعة لهم، فمثلاً صاحب القوانين يرى أنّ ما هو الحجّة بشأنهم هو الظنّ المطلق؛ لأجل عدم حجّيّة الظهور لهم، وانسداد باب العلم والحجّة عليهم. بخلاف المخاطبين الذين كانوا مقصودين بالإفهام، وكان الظهور حجّة لهم. فهنا طريقان للاستنباط: أحدهما: التمسّك بالظهور، وهو ثابت للمخاطبين. والآخر: التمسّك بالظنّ المطلق، وهو ثابت لغيرهم. وهنا شيء واحد بالإمكان أن يقال في المقام، وهو: أنّ هذا المطلب غير محتمل في نفسه، أي: أنّنا لا نحتمل أنّ الشارع فرض طريقين للاستنباط أحدهما يختصّ بالمخاطبين والثاني بغيرهم؛ إذ لو كان كذلك لما اتّفقت سيرة المتشرّعة في تمام الأعصر على العمل بالظهور دون رادع ولا زاجر. إلّا أنّ هذا رجوع إلى ما مضى منّا: من إثبات حجّيّة الظهور لغير المخاطبين أو غير المقصودين بالإفهام بالتمسّك بسيرة المتشرّعة، وليس إثباتاً لكوننا مقصودين بالإفهام.

186

هذا بالنسبة للروايات. أمّا بالنسبة للكتاب الكريم فلا شكّ أنّنا مقصودون بالإفهام، وأنّ هذا الكتاب المنزل للعالم لم يعتمد فيه على قرينة حاليّة لعصر النزول، فيكون ظاهره حجّة لنا.

أمّا لو احتملنا القرينة الحاليّة بالنسبة للكتاب لم يندفع هذا الاحتمال بشهادة الراوي؛ لأنّ الرواة إنّما كانوا بصدد نقل ألفاظ الوحي فقط، وليس لهم شهادة ضمنيّة بعدم القرينة الحاليّة، بل يشهدون بأنّهم ليسوا بصدد نقل الاُمور المكتنفة بنزول الوحي وإنّما جمعوا نفس ألفاظ الوحي.

 

دعوى اختصاص الحجّيّة بالمعاصرين للخطاب:

التفصيل الثاني: هو التفصيل بحسب الزمان بدعوى اختصاص حجّيّة الظهور بأهل عصر الخطاب لا بمعنى اختصاصها بالمخاطبين أو بمن قصد إفهامهم، بل بمعنى اختصاصها بمقطع زمنيّ تكون اللغة ثابتة فيه نسبيّاً، ولا نقصد بالمقطع الزمنيّ ذات المقطع الزمنيّ الذي صدر فيه النصّ بمعنى أنّ كلّ مَن كان حيّاً حين صدور النصّ كان ظهور النصّ حجّة له، وكلّ مَن جاء بعد ذلك لم يكن ظهور النصّ حجّة له، وإنّما نقصد المقطع الزمنيّ الذي لا يؤثّر مرور الزمان فيه تأثيراً ملحوظاً في تغيّر اللغة.

وتوضيح المقصود: أنّ اللغة رغم ثبوتها نسبيّاً بمعنى دوام الظهور الوضعيّ والسياقي لفترة معتدّ بها من الزمن هي في تطوّر دائم وتتحرّك حركة بطيئة، وبمضيّ الدهور يشتدّ التغيير، وليس نظرنا فعلاً إلى تغيّر أصل اللغة بمعنى انتقال اللسان من لغة إلى لغة اُخرى كما في العربيّة الفصحى والعربيّة الدارجة اليوم، وإنّما نظرنا إلى التطوّر الواقع داخل لغة واحدة.

والوجه في هذا التطوّر هو: أنّ اللغة لا ينظر إليها بنظر الموضوعيّة، وإنّما هي