465

الدليل العقليّ

4

 

 

 

القُصور في عالم الحجّيّة

 

 

 

 

 

467

 

 

 

 

المرحلة الثالثة: مرحلة الحجّيّة، فقد يدّعى القصور بحسب عالم الحجّيّة من ناحية ورود الردع من الشارع عن الأدلّة العقليّة.

ودعوى الردع عنها تتصوّر على نحوين:

الأوّل: دعوى الردع عن خوض الطريق العقلىّ والتفكير فيه لاستنباط الحكم الشرعىّ؛ باعتبار أنّ هذا الطريق سيوصلنا إلى القطع بخلاف الواقع، فصحيح أنّه بعد حصول القطع يكون القطع حجّة على رغم كونه خلاف الواقع، لكنّه مع ذلك سيعاقب هذا الإنسان على مخالفته للواقع؛ لأنّه فوّته باختياره؛ لسلوكه لذاك الطريق، والامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار.

الثاني: دعوى الردع عن نفس العمل بالقطع الحاصل عن طريق العقل بعد فرض حصوله. ويفترق الوجه الثاني عن الوجه الأوّل في اُمور:

منها: أنّه لو حصل له القطع صدفة بخلاف الواقع عن طريق العقل بلا تفكير وتعمّد في سلوك الطريق العقلىّ، كان معذوراً في العمل بقطعه على الأوّل دون الثاني.

ومنها: أنّ البحث على الأوّل يتمحّض في مرحلة الإثبات؛ إذ لا إشكال في إمكانه ثبوتاً. وعلى الثاني يقع البحث في أصل إمكانه ثبوتاً.

وعلى أىّ حال، فلنذكر أوّلاً البحث الثبوتىّ على الوجه الثاني، ثُمّ نعقّب ذلك بالبحث الإثباتىّ.

أمّا البحث الثبوتىّ: فقد أفاد الاُصوليّون في المقام: أنّ حجّيّة القطع ذاتيّة، وكلّ ما بالعرض ينتهي إلى ما بالذات، وحجّيّة كلّ شيء تكون بالقطع، وحجّيّة القطع تكون بذاته، فلا يمكن الردع عنها؛ فإنّ ذاتىّ الشيء لا يمكن انفكاكه منه. وفرّعوا على ذلك قاعدة قبح العقاب بلا بيان، ومعذّريّة الشكّ عقلاً ما لم تقم حجّة شرعيّة؛ وذلك لعدم وجود ما هو حجّة بالذات، وعدم الانتهاء إليه. ومن هنا وقعوا في حيص وبيص في كيفيّة تصوير حجّيّة

468

الأمارات بالعرض ورجوعها إلى ما بالذات، حتّى أدّى ذلك عند بعضهم إلى القول بجعل العلم والطريقيّة، والالتزام بكفاية صرف اعتبار العلم والطريقيّة في الحجّيّة، وما إلى ذلك ممّا أدّى إليه هذا المبنى.

وقد أوضحنا في أوّل مباحث القطع: أنّ ذاتيّة حجّيّة القطع ـ بالمعنى الذي تتفرّع عليه هذه الاُمور ـ ممّا لا أساس له، ويجب البدء في الحساب من مولويّة المولى، فلو أنكر أحد ـ والعياذ بالله ـ مولويّته رأساً، لم يبق موضوع لبحث حجّيّة القطع بحكمه، ولو سلّمت له المولويّة بمعنى حقّ الطاعة والتعظيم الخاصّ على العباد، فلابدّ أن ينظر في مقدار سعة هذا الحقّ وضيقه. فإن حكم العقل العملىّ باختصاصه بالأحكام المقطوعة، تمّ قبح العقاب عند الشكّ، وإن حكم بسعة دائرة الحقّ لفرض الشكّ، لم يبق أساس لقاعدة قبح العقاب بلا بيان.

وأمّا مسألة إمكان ردع الشارع عن حجّيّة القطع، فيمكن دفع هذه الدعوى بوجهين:

الوجه الأوّل: أن يقال: إنّ حقّ المولويّة تنجيزىّ، وليس معلّقاً على عدم إسقاط المولى له، وحينئذ لا معنىً للردع عن حجّيّة القطع؛ إذ مع فعليّة المولويّة لابدّ من الطاعة، ورفعها غير ممكن لتنجيزيّتها. فالترخيص في مخالفة القطع قبيح، وصدور القبيح عن المولى مستحيل.

إلّا أنّ كون حقّ المولويّة تنجيزيّاً أو تعليقيّاً لا يمكن البرهنة عليه.

فلو سلّم الأخبارىّ تنجيزيّة حقّ المولويّة، كان هذا جواباً كافياً في مقام الاحتجاج معه، أمّا لو ادّعى تعليقيّته، فهذا الجواب إنّما هو دعوى في مقابل دعوى، يدّعي صاحب كلّ من الدعويين وجدانيّتها.

الوجه الثاني: أنّ يقال: إنّ ترخيص الشارع ـ بعد تسليم كون حقّ المولويّة تعليقيّاً ـ إمّا أن يكون بحكم نفسىّ، أو يكون بحكم طريقىّ، وكلاهما مستحيل:

أمّا الأوّل: فلأنّ الحكم النفسىّ ينشأ عن مبادئ الحكم في نفس المتعلّق، والمفروض أنّ هذا الشخص يقطع بحكم آخر خلاف هذا الحكم، فيقطع بمبادئ اُخرى في المتعلّق، ولا يمكنه التصديق بكلا الحكمين؛ للتضادّ بين الأحكام في المبادئ، فيلزم اجتماع الضدّين في اعتقاد المكلّف فقط، أو فيه وفي الواقع.

469

وأمّا الثاني: فلأنّ الحكم الطريقىّ ينشأ ـ كما سيأتي بيانه إن شاء اللَّه تعالى في بحث الجمع بين الحكم الظاهرىّ والواقعىّ ـ بملاك التحفّظ على مبادئ حكم نفسىّ، وبعد فرض قطع العبد بحكم في المقام: من إباحة أو تحريم أو غير ذلك، فهو لا محالة قاطع بعدم وجود مبادئ حكم آخر في هذا الشيء، فلا يمكنه التصديق بالحكم الطريقىّ الذي يأتي لهدف التحفّظ على مبادئ الأحكام النفسيّة. وهذا بخلاف فرض الشكّ الذي نجمع فيه بين الحكم الواقعىّ والظاهرىّ؛ إذ هناك لا يعلم العبد بعدم ثبوت المبادئ في الشيء الفلاني، ويحتمل ثبوت المبادئ والحكم النفسىّ فيه، وعلى فرض ثبوته فيه يكون منجّزاً بالحكم الطريقىّ، واحتمال التكليف المنجّز منجّز. أمّا في المقام فلا يحتمل تكليفاً بالنسبة إلى هذا الشيء ينجّز على فرض ثبوته بالحكم الطريقىّ؛ كي يكون احتمال التكليف المنجّز منجّزاً له(1).

وهذا الجواب يمتاز من الجواب الأوّل بأنّه لا يختصّ بفرض تنجيزيّة حقّ المولويّة(2).

هذا. تبقى هنا صورة واحدة يمكن للمولى فيها الترخيص في مخالفة القطع بناءً على تعليقيّة الحقّ، وهي: فرض تعلّق غرض المولى بصدور الامتثال عن العبد بملاك حبّه للمولى ـ مثلاً ـ فحسب، لا بملاك التنجيز العقلىّ، فيرفع عنه المولويّة كي يكون عمل العبد لو عمله خالصاً لحبّه مثلاً، دون دخل التنجيز في الحساب. لكن هذا الفرض لا واقع له فيما نحن فيه.

وأمّا البحث الإثباتىّ: فنحن بحاجة إليه بالنسبة إلى فرض الردع عن الخوض في الأدلّة العقليّة. أمّا الردع عن حجّيّة القطع، فقد عرفت عدم إمكانه.

وما يمكن الاستدلال به على ذلك من الروايات طوائف خمس:


(1) يكفي لمعقوليّة وصول الحكم الطريقىّ برفع حقّ المولويّة: أن يحتمل هذا العبد خطأ بعض قطوعه في الواقع، ممّا أوجب اضطرار المولى إلى اتّخاذ احتياط في تمام قطوعه برفع حقّ المولويّة عنه. والقاطع كان لا يعقل أن يحتمل خطأ قطعه حين القطع، لكن احتماله لخطأ بعض قطوعه على الإجمال معقول. إذن فبناءً على تعليقيّة حقّ المولويّة لا يتمّ هذا الوجه، وإنّما يتمّ بناءً على تنجيزيّته، ويرجع بروحه إلى الوجه الأوّل.

(2) عرفت أنّه يختصّ بذلك، ويكون مرجع الوجهين بعد فرض الاختصاص بذلك إلى وجه واحد، وكلّ من البيانين مكمّل للبيان الآخر.

470

الاُولى: ما دلّ على تحريم الحكم بغير ما أنزل اللَّه(1).

ويرد على الاستدلال به: أنّ حكم العقل رافع لموضوع ذلك؛ لأنّ المفروض أنّنا قد أدركنا عن طريق العقل كون الحكم الفلاني ممّا أنزل اللَّه وحكم به.

الثانية: ما دلّ على تحريم الحكم والقول بغير علم، أو بلا هدى، أو بلا حجّة(2).

وهذه حالها حال الطائفة الاُولى، فبإدراك العقل يثبت العلم والبيّنة والهدى.

الثالثة: ما دلّ على النهي عن الاستقلال عنهم(عليهم السلام) في الأحكام(3).

والجواب: أنّ الرجوع إلى الأدلّة العقليّة لا يعني الاستقلال عنهم؛ فإنّنا إنّما نخوض فيها بعد مراجعة الأخبار الواردة عنهم؛ كي نعرف هل ورد عنهم نهي عن ذلك، أو لا؟ وهذا ليس استقلالاً عنهم.

الرابعة: ما دلّ على عدم قبول الأعمال من دون ولاية ولىّ اللَّه(4).

ويرد على الاستدلال بذلك:

أوّلاً: أنّ المقصود بتلك الروايات ليس هو البطلان، بل نفي مرتبة القبول والثواب.

وثانياً: أنّ الرجوع إلى الدليل العقلىّ لا ينافي التديّن بولاية ولىّ اللَّه.

الخامسة: الأخبار الرادعة عن الرأي الناهية عنه، أو المبيّنة لعدم معذوريّة المعتمد عليه، بدعوى: شمول إطلاقها للرأي العقلىّ القطعىّ(5).

وهذه الطائفة هي العمدة في الاستدلال.

ولكن يرد على الاستدلال بها:

أوّلاً: أنّ دعوى القطع بكون المراد من الرأي فيها ما كان متعارفاً في ذاك الزمان من الأدلّة العقليّة الظنّيّة ـ من القياس والاستحسانات ـ ليست مجازفة؛ وذلك لشهادة اُمور كثيرة على ذلك، يحصل من مجموعها القطع بذلك بحساب الاحتمالات:

فمنها: الشواهد التأريخيّة الدالّة على إطلاق الرأي في ذلك الزمان على الظنون العقليّة،


(1) راجع الوسائل ج 27 بحسب طبعة آل البيت، الباب 5 من صفات القاضي، مضافاً إلى الآيات القرآنيّة:«ومن لم يحكم بما أنزل الله فاُولئك هم الكافرون ـ الظالمون ـ الفاسقون». سورة المائدة، الآية: 44 و45 و47.

(2) المصدر السابق، الباب 4 من صفات القاضي، مضافاً إلى القرآن: ﴿َلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾. سورة الإسراء، الآية: 36. ﴿إنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً﴾. سورة يونس، الآية: 36.

(3) المصدر السابق، الباب 7 من صفات القاضي.

(4) الوسائل ج 1، الباب 29 من مقدّمة العبادات، ص 118 فصاعداً بحسب طبعة آل البيت.

(5) الوسائل، الباب 6 من صفات القاضي.

471

ممّا يشهد على أنّه كان مصطلحاً خاصّاً بينهم.

ومنها: ورود كثير من تلك الأخبار في مقام الردّ على أصحاب الرأي بذاك المعنى، كأبي حنيفة وابن شبرمة وغيرهما.

ومنها: ما فيها من التعبير تارة بالرأي، واُخرى بالقول بغير علم، ممّا يوحي إلى كون المراد منهما شيئاً واحداً.

وثانياً: أنّ هذه الأخبار لو تمّت دلالتها، فهي معارضة لطائفتين:

الطائفة الاُولى: ما دلّت على حجّيّة العقل، والحثّ على اتّباعه، ومع تعارضهما لابدّ من أحد اُمور ثلاثة:

الأوّل: أن يجمع بينهما بانقلاب النسبة، بأن يقال: إنّ العقل والرأي متساويان، ويشملان العقل والرأي الظنّيّين والقطعيّين، ولكن العقل الظنّىّ من القياس والاستحسان قد ثبت عدم حجّيّته بأخبار كثيرة، ممّا تقيّد روايات حجّيّة العقل واتّباعه، فتصبح روايات حجّيّة العقل واتّباعه بعد التقييد أخصّ من روايات الردع عن العمل بالرأي.

ويرد عليه بعد منع كبرى الجمع بانقلاب النسبة ـ كما يأتي بيانه في محلّه إن شاء الله ـ: منع ثبوت صغراها فيما نحن فيه كما سيظهر لك قريباً.

الثاني: أن يقال: إنّ النسبة بينهما ابتداءً عموم مطلق؛ لأنّ روايات حجّيّة العقل لم ترد لتشريع حكم زائد على أحكام العقل، والعقل بنفسه مستقلّ بالحكم بأصالة عدم حجّيّة العقل الظنّىّ ما لم يشرّع الشارع الحكم بحجّيّته، وأنّ الشكّ في الحجّيّة مساوق للقطع بعدمها(1). فإذا كانت روايات حجّيّة العقل لا تدلّ على تشريع ذلك، فلا محالة لا تدلّ على حجّيّة العقل الظنّىّ.

وبتعبير آخر: أنّ هذه الروايات لم تدلّ إلّا على إمضاء العقل، ولا معنىً لإمضائه إلّا الاعتراف بمنجزيّة ما يراه منجّزاً ومعذّريّة ما يراه معذّراً، والمفروض أنّه لا يرى الظنّ في ذاته منجّزاً أو معذّراً. فإذا كانت روايات حجّيّة العقل بهذا البيان مختصّة بالأحكام القطعيّة للعقل، فهي أخصّ من روايات الردع عن الرأي، فتقدّم عليها بالأخصّيّة.

ويرد عليه: ما سيظهر لك من كون النسبة بينهما عموماً من وجه لا مطلقاً.


(1) قد يقال: إنّه بناءً على إنكار قاعدة قبح العقاب بلا بيان تكون الحجّيّة بمعنى التنجيز ثابتة؛ لكن هذا لا يضرّ بأخصّيّة روايات حجّيّة العقل؛ إذ يكفي في ذلك عدم حجّيّة الظنّ في التعذير، سنخ أنّ الحجّيّة بمعنى التعذير ثابتة للشكّ والظنّ بناءً على القول بقاعدة قبح العقاب بلا بيان، ولكن الحجّيّة بمعنى التنجيز غير ثابتة.

472

الثالث: أن يقال: إنّهما متعارضان بالعموم من وجه، ومتساقطان في مادّة التعارض، وهذا هو الحقّ في مقام العلاج(1)؛ وذلك لأنّه كما أنّ أخبار حجّيّة العقل أخصّ من أخبار الردع عن الرأي؛ لعدم شمولها للحكم العقليّ الظنّىّ، كذلك أخبار الردع عن الرأي أخصّ من ناحية اُخرى من أخبار حجّيّة العقل؛ لأنّها لا تشمل الأحكام البديهيّة للعقل، ولا القريبة من الموادّ البديهيّة التي لا تحتاج إلى مزيد تروّ وتأمّل؛ وذلك لعدم صدق عنوان الرأي الموجود في الأخبار عليها قطعاً؛ لأنّه ظاهر فيما يحتاج إلى مزيد تروّ وتفكّر(2).

وقد ظهر بما ذكرناه: أنّ النسبة بين الطائفتين عموم من وجه، سواء سلّمنا أنّ الأخبار الرادعة عن الرأي لا تشمل الأحكام العقليّة التي هي في المرتبة المتقدّمة على الأحكام الشرعيّة، بخلاف أخبار حجّيّة العقل، أو قلنا بعكس ذلك، أو قلنا بشمولهما معاً لذلك، أو قلنا بعدم شمولهما معاً لذلك؛ فإنّه يكفي في إثبات كون النسبة بينهما عموماً من وجه ما ذكرناه: من عدم شمول أخبار الردع عن الرأي للعقل البديهىّ وما يشبهه. وإذا كانت النسبة بينهما عموماً من وجه سقطتا في مادّة الاجتماع، وبالتالي لا يبقى دليل على الردع عن الأدلّة العقليّة.

هذا كلّه بعد تسليم صحّة سند الطائفتين، إلّا أنّ ما رأيناه من أخبار حجّيّة العقل هو الأخبار التي جمعها المحدّث الكلينىّ(رحمه الله) في الكافي، في باب العقل والجهل، وهي بين ما لا يدلّ على مطلوبنا، وما لا يكون صحيحاً سنداً.

فالأولى في مقام دفع الأخبار الرادعة عن الرأي ـ بعد فرض تسليم شمولها للرأي القطعىّ ـ هو إيقاع المعارضة بينها وبين الطائفة الآتية:

الطائفة الثانية: ما دلّت على الحثّ على اتّباع العلم، وبيانه للناس(3)، بنحو يدلّ على أصل الترخيص في تحصيله، لا على خصوص حجّيّته بعد حصوله. والنسبة بينها وبين ما دلّت على الردع عن الرأي ـ بعد تسليم شمولها للرأي القطعىّ ـ هي العموم من وجه؛ إذ


(1) يعني بعد ما سلّم افتراضاً من التعارض، وشمول الرأي للرأي القطعىّ.

(2) كأنّ هذا الكلام مأخوذ من اشتقاق الرأي من مادّة التروّي، ولا يبعد انصراف مثل قوله «دين اللَّه لا يصاب بالعقول» أيضاً إلى ما يحتاج إلى تعقّل وتروّ، على أنّ ذلك ليس ردعاً عن سلوك طريق العقل، وإنّما هو ردع عمّا يصيبه العقل. وقد عرفت عدم إمكانيّة الردع عن القطع العقلىّ، فلابدّ من حمله على مثل القياس والاستحسان.

(3) راجع اُصول الكافي ج 1، كتاب فضل العلم، الباب 1 ـ 4.

473

الأخبار الدالّة على وجوب اتّباع العلم تشمل العلم الحاصل من العقل والعلم الحاصل منالأخبار، وأمّا الأخبار الرادعة عن الرأي فتختصّ بما يكون حاصلاً من العقل، ولكنّها تعمّ الرأي العلمىّ والرأي الظنّىّ، ومادّة الاجتماع هي الرأي العلمىّ العقلىّ، وتتساقطان فيها بالتعارض، فلا يبقى ما يدلّ على الردع عنها.

 

قطع القطّاع

 

قد عرفت عدم إمكان الردع عن حجّيّة القطع، إمّا بالبيان المشهور، أو بأحد البيانين اللذين اخترناهما. وهذا الكلام يرد ـ تماماً ـ في قطع القطّاع، فلايمكن الردع عنه.

نعم، يمكن أن يقال: إنّ الإنسان لو التفت إلى كونه قطّاعاً، وأنّ هذه الحالة تورّطه كثيراً في تفويت الأغراض اللزوميّة للمولى، يجب عليه بقدر الإمكان علاج نفسه، والابتعاد عن العوامل غير المتعارفة التي تؤدّي به إلى تلك القطوع.

وهذه الدعوى تكون نظير دعوى الأخباريّ: عدم جواز الخوض في الأدلّة العقليّة المورثة للقطع.

وهذه مسألة جديدة يوجد ما يشبهها في الاُصول.

توضيح ذلك: أنّ الخطاب تصحّحه القدرة، وينجّزه العلم، وكما وقع البحث ـ بالنسبة إلى القدرة المؤثّرة في تصحيح الخطاب ـ عن أنّه هل يجوز للعبد تفويت القدرة؛ كي يقبح خطابه، ويستريح من حكم المولى، وذلك إمّا في زمان الواجب (وهذا ما بحث في علم الاُصول، وعبّر عنه بعنوان: الامتناع بالاختيار لاينافي الاختيار)، أو قبل وقت الواجب (وهذا ما بحث في علم الاُصول تحت عنوان: المقدّمات المفوّتة) كذلك نبحث هنا ـ بالنسبة إلى العلم المنجّز للخطاب ـ عن أنّه هل يجوز للعبد تفويت العلم بالأحكام الإلزاميّة للمولى، بجعل نفسه قطّاعاً بالخلاف، أو عدم علاجه لهذا المرض مع الإمكان؛ كي يستريح من تنجّز ذلك الحكم عليه، أو لا؟ وهذا لم يحرّر حتّى الآن في علم الاُصول.

وتحقيق الكلام في ذلك: أنّ هذا مربوط بمدى سعة دائرة مولويّة المولى وضيقها، الذي

474

لايمكن إدراكه إلّا بالوجدان والعقل العملىّ، فإن قلنا: إنّ حقّ المولى إنّما هو إطاعة الأحكام الواصلة مثلاً، وليس من حقوقه عدم إخراج العبد نفسه عن دائرة التنجيز بالشكل الذي يؤدّي إلى تفويت أغراضه اللزوميّة، إذن فلايجب عليه التحرّز من قطوع من هذا القبيل.

وإن قلنا: إنّ دائرة حقّ المولى قد اتّسعت لتحرّز من هذا القبيل، كما هو الصحيح، إذن وجب عليه ذلك، ولو خالف، استحقّ العقاب، لاعلى مخالفة الواقع؛ إذ الواقع المقطوع بخلافه خارج عن دائرة حقّ الامتثال، بل على تعريض نفسه لمثل هذه القطوع، أو تركه للعلاج؛ إذ أصبح هذا بنفسه مخالفة لحق المولى(1).

 

 


(1) الظاهر: أنّ مخالفة ذلك لحقّ المولى هي سنخ التجرّي، وقد خالف حقّ المولويّة في أصل مخالفته للحكم الواقعىّ، وهذا سنخ المعصية.

ولا يقال: إنّ هذا الحكم لم يكن منجّزاً عليه؛ لأنّه كان قاطعاً بالخلاف.

فإنّه يقال: إنّ هذا الحكم قد تنجّز بعلمه الإجمالىّ بأنّ كثيراً من قطوعه خلاف الواقع، وتنجّز ذلك لاينافي تنجّز العمل بالقطع عليه؛ فإنّ التنجّز الثاني الذي هو سنخ تنجّز حرمة التجرّي ليس تنجّزاً لخصوص العمل بالقطع، بل هو تنجّز لجامع ترك مخالفة القطع الذي يمكن أن يتجسّد بفراره من ذاك القطع. فالأمران المتنجّزان عليه كان الجمع بينهما ممكناً بشأنه، وإنّما فوّت على نفسه القدرة على الجمع بسوء الاختيار، والامتناع بالاختيار لاينافي الاختيار.

475

الدليل العقليّ

7

 

 

 

العلمُ الإجمالىّ

 

 

 

○ العلم الإجمالىّ في مرحلة التكليف.

○ العلم الإجمالىّ في مرحلة الامتثال.

○ تنبيهات.

 

 

 

477

 

 

 

 

الكلام في العلم الإجمالىّ يقع تارة في تنجيز التكليف به، وعدم جريان الاُصول في أطرافه، واُخرى في الاكتفاء به في مقام الامتثال.

وبتعبير آخر: تارة يتكلّم في العلم الإجمالىّ في مرحلة التكليف، واُخرى يتكلّم في العلم الإجمالىّ في مرحلة الامتثال.

 

العلم الإجمالىّ في مرحلة التكليف

 

أمّا العلم الإجمالىّ في مرحلة التكليف، فقد تعارف في علم الاُصول عملاً بحثه مرّتين: مرّة هنا، ومرة اُخرى في باب البراءة والاشتغال، والمناسب فنّاً ـ كما ذكره المحقّق الخراسانىّ(رحمه الله) ـ هو التبعيض: بأن يتكلّم هنا عن مدى تنجيز العلم الإجمالىّ بنحو العلّيّة أو الاقتضاء، وبمستوى مرتبة حرمة المخالفة القطعيّة، أو وجوب الموافقة القطعيّة؛ فإنّ هذا بحث عن أحكام العلم، وبعد فرض الفراغ من عدم علّيّته للتنجّز بمستوى وجوب الموافقة القطعيّة تصل النوبة إلى البحث في باب البراءة والاشتغال عن مدى جريان الاُصول وعدمه في الأطراف.

ولكن بما أنّ الجهتين من البحث مترابطتان غاية الترابط، وتقع الحاجة لدى بيان الجهة الثانية إلى تكرار الكلام في الجهة الاُولى لمدى تأثيره في توضيح الأمر في الجهة الثانية، فالأولى ذكر الجهتين في مورد واحد فراراً من التكرار.

وبما أنّ بعض المباحث والمباني في العلم الإجمالىّ في مرحلة التكليف يتوقّف تنقيحه على تنقيح المباني في الجمع بين الحكم الظاهرىّ والواقعىّ، فالأولى تأخير بحث العلم الإجمالىّ في مرحلة التكليف عن مبحث الجمع بين الحكم الظاهرىّ والواقعىّ.

فمن تلك المباني ما أفاده المحقّق الخراسانىّ(رحمه الله): من أنّه ما دامت رتبة الحكم

478

الظاهرىّ محفوظة مع العلم الإجمالىّ إذن لا مانع من قبل العلم من جريان الاُصول، فلا يصل تأثير العلم الإجمالىّ في التنجيز إلى مستوى العلّيّة؛ فإنّ تنقيح ذلك يبتني على معرفة نكتة الجمع بين الحكم الظاهرىّ والواقعىّ ؛ كي يرى مدى انحفاظ تلك النكتة مع العلم الإجمالىّ.

وعليه فنحن نؤجّل البحث استدلاليّاً عن العلم الإجمالىّ في مرحلة التكليف إلى باب البراءة والاشتغال.

لكنّنا نذكر هنا ما هو المختار في ذلك بنحو الفتوى محوّلين إثباته إلى مبحث البراءة والاشتغال. فنقول: المختار في باب العلم الإجمالىّ في مرحلة التكليف ـ بناءً على ما ذهبنا إليه من إنكار قاعدة قبح العقاب بلا بيان ـ هو: أنّ العلم الإجمالىّ ليس علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعيّة، ولا لحرمة المخالفة القطعيّة، ولكنّه مقتض للتنجّز بكلا المستويين، ومعنى الاقتضاء للتنجّز هو: كون منجّزيّته معلّقة على عدم مجيء الترخيص من قبل الشارع، كما أنّ معنى العلّيّة هو: كون منجّزيّته غير معلّقة.

أمّا بناءً على المبنى المتعارف من قاعدة قبح العقاب بلا بيان، فالمختار هو: التفصيل بين قسمين من العلم الإجماليّ.

توضيح ذلك: أنّ المعلوم بالعلم الإجمالىّ إذا لاحظناه في اُفق العلم فتارة يكون المقدار المعلوم من الواجب هو القدر القابل للانطباق على كلّ واحد من طرفي العلم الإجمالىّ، كما لو علمنا إجمالاً بوجوب الظهر أو الجمعة، فالمقدار الداخل في اُفق العلم من الواجب الذي يشار إليه بمثل عنوان أحدهما نسبته إلى الظهر والجمعة على حدّ سواء، واُخرى يكون المقدار المعلوم من الواجب مشتملاً على قيد لا ينطبق إلّا على الواجب الواقعىّ، وإن تردّدنا نحن في التطبيق.

مثاله: ما لو علمنا بوجوب إكرام العالم بما هو عالم، واشتبه عالم بجاهل، فعلمنا إجمالاً بأنّ أحدهما واجب الإكرام بما هو عالم، فالمقدار الثابت في اُفق العلم الإجمالىّ من الواجب مقيّد بقيد لا ينطبق إلّا على الواجب الواقعىّ، وهو قيد العالميّة، ولكنّنا شككنا في التطبيق.

وفي القسم الأوّل لو علم المكلّف بأحد طرفي العلم الإجمالىّ، وكان في الواقع هو

479

الواجب، فقد حصل له العلم بالإتيان بذات الواجب، وإن لم يحصل له العلم بالإتيان بالواجب بما هو واجب.

وهذا بخلاف القسم الثاني؛ إذ لو أكرم أحدهما، وكان هو العالم واقعاً، لم يحصل له العلم بالإتيان بذات الواجب؛ فإنّ ذات الواجب عبارة عن إضافة الإكرام إلى العالم، وهو لا يعلم بالإتيان بها.

والمختار في القسم الأوّل هو: أنّ العلم الإجمالىّ مقتض للتنجّز على مستوى حرمة المخالفة القطعيّة، وليس علّة لذلك، وليس علّة ولا مقتضيّاً لوجوب الموافقة القطعيّة. وفي القسم الثاني هو أنّ العلم الإجمالىّ مقتض لحرمة المخالفة القطعيّة ولوجوب الموافقة القطعيّة، وليس علّة لشيء منهما.

وينبغي هنا المنع عن عدّة توهّمات:

الأوّل: أن يتوهّم أنّ مقصودنا ممّا مضى هو التفصيل بين الشبهة الحكميّة والشبهة الموضوعيّة. فالشبهة في القسم الأوّل حكميّة، والعلم الإجمالىّ يقتضي فيها حرمة المخالفة القطعية، وليس علّة لذلك، ولا مقتضيّاً لوجوب الموافقة القطعيّة. وفي القسم الثاني موضوعيّة، والعلم الإجمالىّ يقتضي فيها حرمة المخالفة القطعيّة ووجوب الموافقة القطعيّة من دون أن يكون علّة لأحدهما.

ولكنّ الواقع: أنّ الشبهة الحكميّة داخلة تحت القسم الأوّل دائماً، لكن الشبهة الموضوعيّة قد تدخل تحت القسم الأوّل، وقد تدخل تحت القسم الثاني.

وتوضيح ذلك: أنّ الشبهة الموضوعيّة في الحكم تارة تنشأ عن الشبهة في جهة تقييديّة في متعلّق الحكم (والمقصود بالمتعلّق: ما يعمّ المتعلّق مباشرة، ومتعلّق المتعلّق)

ومثاله: ما مضى من فرض العلم بوجوب إكرام العالم، والشكّ في أنّ العلم الذي هو جهة تقييديّة في المتعلّق هل هو موجود في زيد، أو في عمرو؟ وهذا هو الذي جعلناه قسماً ثانياً من قسمي العلم الإجمالىّ.

واُخرى تنشأ عن الشبهة في جهة تعليليّة للحكم، كما لو قال المولى: إن نزل المطر، فأكرم زيداً، وقال: إن جاء العجاج، فأكرم عمراً، وعلمنا إجمالاً بنزول المطر أو مجيء العجاج، فنعلم إجمالاً بوجوب إكرام أحد الشخصين. فهذه شبهة موضوعيّة، ولكنّ العلم

480

الإجمالىّ فيها من القسم الأوّل؛ لأنّ الواجب إنّما هو إضافة الإكرام إلى ذات أحدهما لا إلى عنوان لا ينطبق إلّا على الواجب الواقعىّ.

وثالثة تنشأ عن التردّد في القيد المأخوذ في جانب المكلّف، كما لو قال المولى: يجب على الناذر الحانث لنذره الصوم، وقال: يجب على الحاجّ المرتكب لبعض محرّمات الإحرام التصدّق، وعلم شخص إجمالاً بكونه مصداقاً لأحد هذين العنوانين، فيعلم إجمالاً بوجوب التصدّق أو الصوم عليه. وهذه ـ أيضاً ـ شبهة موضوعيّة داخلة في القسم الأوّل دون الثاني؛ لعدم تعلّق التكليف بعنوان خاصّ لا ينطبق إلّا على الواجب الواقعىّ.

الثاني: أن يتوهّم أنّ العلوم الإجماليّة التي يتّفق وجودها خارجاً كلّها من القسم الثاني حتّى مثل العلم بوجوب الظهر أو الجمعة؛ إذ يوجد ـ دائماً ـ عنوان معلوم لاينطبق إلّا على الواجب الواقعىّ، ففي هذا المثال نعلم ـ مثلاً ـ بوجوب ما كان يعلم رسول الله(صلى الله عليه وآله) بوجوبه، وهذا العنوان لا ينطبق إلّا على الواجب الواقعىّ.

والجواب: أنّ هذا العنوان ليس داخلاً تحت الوجوب كي يتنجّز بتعلّق العلم به، وإضافة الوجوب إليه إضافة تبرّعيّة.

الثالث: الخلط الواقع في كلمات الأصحاب بين باب العلم الإجمالىّ بالتكليف وباب العلم التفصيليّ به مع الشكّ في المحصّل، كما وقع في كلام السيّد الاُستاذ: من جعل العلم بوجوب الصلاة مع الشكّ في جهة القبلة من باب الشكّ في المحصّل مع العلم التفصيلىّ بالحكم.

وكأنّ منشأ الاشتباه ما رآه من إباء الوجدان والارتكاز من القول بعدم اقتضاء العلم في هذا المثال للامتثال القطعىّ، في حين أنّه هو يرى عدم اقتضاء العلم الإجمالىّ للامتثال القطعىّ، فأدخل هذا المثال في باب الشكّ في المحصّل مع العلم التفصيلىّ بأصل الحكم.

والواقع: أنّ الشكّ تارة يكون في عنوان المكلّف به، كما في مثال العلم بوجوب الظهر أو الجمعة.

واُخرى في مصداق المكلّف به، كما في مثال تردّد جهة القبلة، أو مثال وجوب إكرام العالم مع تردّد العالم بين زيد وعمرو.

وثالثة في مقدّمة حصول المكلّف به، كما لو علم بوجوب قتل الكافر، وشكّ في حصول القتل بالرصاص الأوّل.

481

فالثالث هو الشكّ في المحصّل، والأوّل والثاني كلاهما من العلم الإجمالىّ بالتكليف، إلّا أنّ الأوّل ضابط للعلم الإجمالىّ الذي لا يقتضي الامتثال القطعىّ، والثاني ضابط للعلم الإجمالىّ الذي يقتضي الامتثال القطعىّ، كما شرحناه. وبهذا يتحفّظ على إباء الوجدان والارتكاز عن عدم اقتضاء العلم في هذا المثال للامتثال القطعىّ(1).

 

العلم الإجمالىّ في مرحلة الامتثال

 

وأمّا العلم الإجمالىّ في مرحلة الامتثال، فالبحث عنه راجع إلى المقام، ولا علاقة له ببحث البراءة والاشتغال؛ فإنّ البحث عن كفاية الامتثال بالعلم الإجمالىّ في الحكم بفراغ الذمّة وعدمها بحث عن حكم العلم يناسب ذكره هنا.

وقد وقع الخلاف بين الأعلام في كفاية الامتثال الإجمالىّ مع التمكّن من الامتثال التفصيلىّ في العبادات بعد الاتّفاق على كفايته في التوصلّيّات.

ودعوى لزوم الامتثال التفصيلىّ في العبادات يمكن تفسيرها بأحد وجوه ثلاثة:

الأوّل: دعوى لزوم ذلك لا لوجوبه في نفسه، بل لتحقيق عنوان آخر يجب تحقيقه في العبادات، كقصد الطاعة مثلاً.

الثاني: دعوى وجوبه بنفسه وجوباً شرعيّاً خطابيّاً بناءً على إمكان أخذه في الخطاب، أو غرضيّاً بناءً على عدم إمكان أخذه في الخطاب.

الثالث: دعوى وجوبه عقلاً: إمّا باقتضاء التكليف ذلك وداعويّته له كما يقتضي العمل


(1) ما جاء في كتاب مصباح الاُصول للسيّد محمّد سرور تقريراً لبحث السيّد الخوئىّ الجزء الثاني صفحة (351) صريح في اقتضاء العلم الإجمالىّ بالتكليف مطلقاً لوجوب الموافقة القطعيّة؛ إذ ذكر عدم شمول البراءة العقليّة لشيء من الأطراف بنكتة تماميّة البيان. فلعلّ ما نقله اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) هنا عن السيّد الخوئىّ: من عدم اقتضاء العلم الإجمالىّ لوجوب الموافقة القطعيّة راجع إلى تأريخ سابق. هذا، والقول بعدم اقتضاءالعلم الإجمالىّ بالتكليف لوجوب الموافقة القطعيّة منقول في أجود التقريرات (ج 2 ص 245) عن المحقّق النائينىّ، فيرى(رحمه الله) أنّ التنجيز للموافقة القطعيّة إنّما هو بنكتة تساقط الاُصول، ولا علّيّة أو اقتضاء للعلم الإجمالىّ لوجوب الموافقة القطعيّة،إلّا بمعنى دخله في تساقط الاُصول. ولكن المنقول عنه في تقرير الكاظمي (ج 4 ص 9) هو اقتضاؤه لوجوب الموافقة القطعيّة. فيحمل هذا الاختلاف على اختلاف الزمان باعتبار ما قاله اُستاذنا الشهيد من كون تقرير الكاظمىّ تقريراً لدورة سابقة، وسيأتي ذلك في بحث البراءة والاشتغال إن شاء الله تعالى.

482

على طبقه، فهو داخل في حقّ الامتثال، أو بأن يقال بكونه حقّاً مستقلّاً للمولى في قبال حقّ الامتثال.

وهذا نظير ما مضى في مسألة الموافقة الالتزاميّة: من أنّ دعوى الوجوب العقلىّ لها تارة تكون بمعنى دعوى اقتضاء التكليف لها، واُخرى بمعنى دعوى حقّ مستقلّ في قبال حقّ الامتثال.

والبحث على الوجه الأوّل ليس بحثاً في حكم من الأحكام أو متعلّقه، فالحكم والمتعلّق معلوم، وقصد الطاعة ـ مثلاً ـ قد فرض الفراغ من وجوبه، وإنّما الكلام فيما يمكن أن يتحقّق معه متعلّق الحكم وما لا يمكن.

وعلى الوجه الثاني بحث فقهىّ صرف، فحال البحث عن وجوب كون الامتثال تفصيليّاً شرعاً وعدمه كحال البحث عن وجوب قصد القربة وعدمه.

وأمّا على الوجه الثالث، فهو بحث عن الأحكام العقليّة للقطع مربوط بما نحن فيه. وعلى أىّ حال، فالتقريبات التي ذكروها في المقام لأجل إثبات الامتثال التفصيلىّ يرجع بعضها إلى الوجه الأوّل، وبعضها إلى الوجه الثاني، وبعضها إلى الوجه الثالث. ومقتضى استيفاء البحث لتمام التقريبات والخصوصيّات في المقام هو الكلام في تمام الوجوه الثلاثة فنقول:

أمّا الوجه الأوّل: وهو دعوى الفراغ من وجوب شيء آخر غير تفصيليّة الامتثال في العبادات يتوقّف على تفصيليّة الامتثال، فهذا ما يستفاد من صدر عبارة المحقّق النائينىّ(رحمه الله)الواردة في التقريرات حيث يفهم منها: أنّ العقل يحكم بالاستقلال بأنّ قصد الطاعة الذي اعتبر في العبادات إنّما يحسن لدى التمكّن من الامتثال التفصيلىّ إذا كان قد انبعث من أمر المولى بالتفصيل، أمّا الانبعاث من مجرّد احتماله، فلا حسن فيه ما دام متمكّناً من الامتثال التفصيلىّ، ويشترط في العبادة أن يكون الانبعاث وقصد الطاعة بنحو حسن عقلاً.

وجاء في أجود التقريرات دليل على اختصاص الحسن لدى التمكّن من الانبعاث التفصيلىّ بالانبعاث التفصيلىّ، (ولم يذكر هذا الدليل في تقرير المحقّق الكاظمىّ(رحمه الله)) وهو: أنّ احتمال الأمر متأخّر رتبة عن نفس الأمر، إذن فيكون التحرّك والانبعاث عن احتمال الأمر متأخّراً رتبة عن التحرّك والانبعاث عن نفس الأمر، وبما أنّ التحرّك

483

والانبعاث في الامتثال التفصيلىّ يكون عن نفس الأمر، إذن فهو الأمر الحسن عند التمكّن منه، ولاتصل النوبة إلى الانبعاث من احتمال الأمر، إلّا لدى العجز عن الانبعاث من أصل الأمر.

أقول: إنّ تأثير تأخّر احتمال الأمر عن نفس الأمر رتبة في اختصاص الحسن بالانبعاث من نفس الأمر مع الإمكان دعوى لا برهان عليها... نعم، قد يدّعي المحقّق النائينىّ(رحمه الله)وجدانيّتها، وهي ليست إلّا كدعوى حكم العقل والوجدان بعدم حسن الامتثال الإجمالىّ مع التمكّن من الامتثال التفصيلىّ. وليس في ضمّ هذه الدعوى إلى دعوى عدم حسن الامتثال الإجمالىّ مع التمكّن من التفصيلىّ أثر في المقام.

ثمّ إنّنا لم نعرف لماذا يفترض أنّ الانبعاث في الامتثال التفصيلىّ انبعاث من نفس الأمر الذي هو مقدّم رتبة على احتماله، في حين أنّ الأمر بوجوده الواقعىّ لا يكون محرّكاً، وإنّما المحرّك هو ما في نفس المكلّف من العلم بالأمر أو احتماله، والعلم بالأمر حاله حال احتمال الأمر، ولا يتوهّم أيّ تقدّم رتبىّ له على الاحتمال.

وعلى أىّ حال، فما مضى من التقريب كان هو المستفاد من صدر كلام المحقّق النائينىّ(رحمه الله)، ولكن جاء في ذيل كلامه ما يناقض هذا المعنى حيث ذكر: أنّه لو تنزّلنا من القطع بعدم حسن الامتثال الإجمالىّ عند التمكّن من الامتثال التفصيلىّ، وشككنا في ذلك، دخل المورد في مسألة دوران الأمر بين التعيين والتخيير، والأصل في تلك المسألة يقتضي التعيين. وهذا الذيل كما ترى يناسب افتراض كون الامتثال التفصيلىّ ـ على تقدير وجوبه ـ واجباً في نفسه، لا محقّقاً لعنوان آخر واجب، وهو قصد الطاعة بشكل حسن أو حسن الانبعاث، وإلّا فلا علاقة لذلك ببحث البراءة والاشتغال في دوران الأمر بين التعيين والتخيير، بل يدخل في مسألة القطع بشغل الذمّة والشكّ في الفراغ، والاشتغال اليقينىّ يستدعي الفراغ اليقينىّ(1).

وعلى أىّ حال، فلو سلّمنا دخول المسألة في باب البراءة والاشتغال، فبغضّ النظر عن النقاش في مبنى أصالة التعيين، وأنّ الصحيح عند الدوران بين التعيين والتخيير هو أصالة


(1) إرجاع المقام إلى باب الدوران بين التعيين والتخيير إنّما ورد في تقرير الكاظمىّ(رحمه الله). أمّا الوارد في أجود التقريرات، فهو أنّه مع فرض الشكّ ليس المورد مورداً للبراءة؛ لأنّ البراءة لا تجري في الاُمور المشكوك اعتبارها في الطاعة العقليّة. ولعلّه يقصد بذلك مسألة الشكّ في حصول الامتثال والفراغ.

484

التخيير، ننكر رجوع الأمر في المقام إلى باب التعيين والتخيير، بل الأمر دائر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين، فإنّنا نعلم بوجوب الإتيان بمتعلّق الأمر بقصد القربة بالمعنى الذي سيأتي إن شاء الله، ونشكّ في وجوب أمر زائد، وهو التحرّك عن نفس الأمر أو العلم به وعدمه، والأصل عند دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين هو البراءة.

أمّا أصل ما جاء في صدر التقرير لكلام المحقّق النائينيّ(رحمه الله): من افتراض اشتراط العبادة بقصد أمر حسن عقلاً، فيرد عليه:

أوّلاً: أنّ الذي ثبت في الفقه في العبادات إنّما هو لزوم قصد التقرّب إلى الله مع كون الفعل قابلاً للتقرّب به، وكلا الأمرين ثابتان فيما نحن فيه، ولو كان الامتثال إجماليّاً مع التمكّن من الامتثال التفصيلىّ. ودليل العباديّة منحصر في الغالب بالإجماع، والقدر المتيقّن منه ما ذكرناه، ولا دليل على اشتراط كون العبادة بقصد أمر حسن عقلاً (1).

وثانياً: لو سلّمنا ذلك، فلانسلّم ما دلّ عليه وجدان المحقّق النائينيّ(رحمه الله): من عدم حسن الامتثال الإجمالىّ مع التمكّن من الامتثال التفصيلىّ، بل وجداننا يشهد بحسن ذلك.

ثُمّ إنّ إجماليّة الامتثال والانبعاث عن احتمال الأمر تارة يكون على أساس كون الأمر احتماليّاً وغير معلوم أصلاً.

واُخرى يكون على أساس العلم الإجمالىّ والدوران بين المتباينين.

وثالثة يكون على أساس الدوران بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين.

وما أفاده المحقّق النائينىّ(رحمه الله): من كون التحرّك عن نفس الأمر أو عن العلم به مقدّماً على التحرّك عن احتمال الأمر يتأتّى في الفرض الأوّل(2) بلا إشكال.

فلو لم يفحص لمعرفة ما إذا كان هناك أمر حقيقة أو لا، واكتفى بالإتيان بالفعل


(1) عبّرنا في صدر البحث وقبل الشروع في الإشكال على أصل التقريب بما يستفاد من عبارة التقرير: من اشتراط حسن الانبعاث والتحرّك، ولكنّ اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) عبّر بتعبير (قصد عنوان حسن). فإن كان المقصود من هذا التعبير ما يرجع إلى ذاك التعبير، فهذا الإشكال غير وارد عليه؛ لأنّ التحرّك والانبعاث لو لم يكن حسناً، لما كان مقرّباً، ولابدّ في العبادة من المقرّبيّة.

(2) وهو فرض كون الأمر احتماليّاً غير معلوم ولو بالعلم الإجمالىّ. نعم، لو كان هذا الاحتمال غير منجّز كما في الشبهة الموضوعيّة أو الحكميّة بعد الفحص، فقد ذهب من يدّعي تقدّم الامتثال التفصيلىّ إلى جواز الاكتفاء في هذا الفرض بالإجمالىّ. وسيأتي الكلام عن ذلك.

485

احتياطاً، فقد تحرّك عن احتمال الأمر، لا عن نفس الأمر أو العلم به.

وأمّا في الفرض الثاني فقد ذكر السيّد الاُستاذ (معترضاً على اُستاذه المحقّق النائينىّ(رحمه الله)): أنّ هذا الوجه لا ينطبق في المقام؛ لأنّ التحرّك في الحقيقة تحرّك عن أمر معلوم لا عن احتمال الأمر؛ فإنّه إنّما أتى بعملين لعلمه الإجمالىّ بثبوت الأمر بأحدهما.

أقول: إنّ أصل العلم بالأمر لا يحرّك الشخص ابتداءً نحو هذا الفرد أو ذاك الفرد، وإنّما يحرّكه نحو أىّ فرد بواسطة احتمال انطباقه على ذاك الفرد، فالاحتمال هو الجزء الأخير للعلّة المحرّكة، وهذا فرض متوسّط بين فرض كون المحرّك ابتداءً الأمر المعلوم، وفرض كون تمام المحرّك هو الاحتمال. وبما أنّ دعوى عدم حسن التحرّك عن احتمال الأمر مرجعها إلى الوجدان فسعة دائرتها وضيقها ـ أيضاً ـ بيد الوجدان، فبإمكان المحقّق النائينىّ(رحمه الله) أن يدّعي أنّ عدم الحسن شامل لهذا الفرض، كما أنّ بإمكان من يدّعي مثل هذا الوجدان أن ينكر شموله لهذا الفرض.

وبما ذكرنا ظهر الحال بالنسبة إلى الفرض الثالث، فإن قلنا بانحلال الأمر المتعلّق بالمركّب إلى الأوامر الضمنيّة، كان الجزء الأخير للمحرّك نحو الجزء المشكوك هو احتمال الأمر الضمنىّ بالنسبة إليه، وإن قلنا بعدم انحلاله كان الجزء الأخير للمحرّك نحوه احتمال انطباق الأمر المعلوم عليه.

وعلى أىّ حال، فسعة دائرة عدم الحسن وضيقها: بأن تشمل أو لاتشمل هذا الفرض ترجع إلى الوجدان، فمدّعي الوجدان قد يدّعي شموله لهذا الفرض، وقد ينكر ذلك(1).

وأمّا الوجه الثاني: وهو دعوى وجوب الامتثال التفصيلىّ خطابيّاً، أو غرضيّاً، فله تقريبان:

الأوّل: دعوى قيام الدليل ووجوب التفصيليّة في مقام الإتيان بالعبادة. وهو ما يدّعى في المقام: من قيام الإجماع على بطلان الاحتياط مع التمكّن من الامتثال التفصيلىّ، وهو كما ترى.

الثاني: أن يقال: صحيح أنّه لم يقم دليل على وجوب ذلك، لكنّه لم يقم دليل على


(1) وبالفعل قد أفتى المحقّق النائينىّ(رحمه الله) بجواز الاكتفاء بالامتثال الإجمالىّ في هذا الفرض، فكأنّ هذا راجع إلى دعوى ضيق دائرة الوجدان الذي يحسّ به.

486

عدم الوجوب أيضاً، فيبقى احتمال الوجوب منجّزاً مادام لا يمكن التأمين، لا بالإطلاق ولا بالبراءة.

أمّا الأوّل: فلعدم إمكان أخذ هذا القيد في الخطاب كقصد القربة؛ لأنّه ممّا لا يتأتّى إلّا من قبل الأمر ومترتّب عليه، وما لا يمكن أخذه في الخطاب لا يتمّ الإطلاق بلحاظه بحسب عالم الإثبات.

وأمّا الثاني: فلأنّ هذا الوجوب عقلىّ، وليس وجوباً شرعيّاً؛ لعدم إمكانيّة أخذه في متعلّق الخطاب. والبراءة إنّما ترفع الحكم الشرعىّ.

والواقع: أنّ وجوب تفصيليّة الامتثال أو ما شابه ذلك كقصد القربة وجوب شرعىّ حتّى بناءً على عدم إمكان أخذه في متعلّق الخطاب. فدخل الشيء في غرض الشارع عبارة عن الوجوب الشرعىّ، وأمّا العقل فهو يحكم بوجوب امتثال ما هو دخيل في غرض المولى ولا يرضى بفوته. وهذا غير كون متعلّق غرض المولى واجباً عقليّاً.

وشبهة عدم جريان البراءة نشأت عن التصوير المتعارف لحقيقة الحكم الظاهرىّ، أمّا بعد معرفة حقيقة الحكم الظاهرىّ ورجوعه إلى مدى اهتمام وعدم اهتمام المولى بغرضه ـ كما مرّت الإشارة إلى ذلك، وسيأتي تفصيلاً في بحث الجمع بين الحكم الظاهرىّ والواقعىّ ـ فيتّضح جليّاً ما ذكرناه هنا: من إمكانيّة الرفع الظاهرىّ في المقام بالبراءة.

على أنّ عدم تماميّة الإطلاق في المقام غير مقبول حتّى إذا تمّ ذلك في قصد القربة؛ وذلك لأنّ ما نسبه المحقّق النائينىّ(رحمه الله) ـ على ما ببالي ـ إلى الميرزا الشيرازىّ الكبير كوجه في مقام تصوير تقييد الخطاب في باب قصد القربة، يتمّ في المقام، وإن لم يكن تامّاً فى باب قصد القربة.

وتوضيح ذلك: أنّ المنسوب إلى الميرزا الشيرازىّ هو أنّ قصد القربة ـ و إن كان مترتّباً على الأمر، ولايتأتّى إلّا من قبله، فلا يمكن تقييد الأمر به ـ يمكن تقييده بمانعيّة الدواعي(1) الاُخرى. أقول: هذا الكلام لم يكن تامّاً في قصد القربة، لكنّه يتمّ في المقام.


(1) ما جاء في أجود التقريرات ( ج 1 ص 111 ) نقلاً عن المحقّق النائينيّ(رحمه الله) هو أنّه حكي عن بعض تقريرات العلّامة الشيرازيّ(قدس سره): أنّ نفس الداعي القربيّ لم يمكن أخذه في المتعلّق، إلّا أنّه يمكن أخذ عنوان ملازم له فيه. واُستاذنا الشهيد(رحمه الله) ذكر في بحث التعبّديّة والتوصّليّة تصويراً لهذا العنوان الملازم، وهو: افتراض أن يكون هذا العنوان عبارة عن عدم كون الفعل بداع نفسانيّ، أي: سائر الدواعي غير قصد الامتثال.

487

وتوضيح الفرق: أنّه في باب قصد القربة كما لا يتصوّر قبل الأمر صدور الفعل بداعي القربة ـ بحسب الفرض ـ كذلك لا يتصوّر صدوره لابداع آخر غير داعي القربة؛ لأنّ هذا مساوق لصدور الفعل بلا داع، وهذا غير معقول في الأفعال الاختياريّة، ولكن يصحّ نظير هذا الكلام فيما نحن فيه؛ وذلك بأن يؤخذ في متعلّق الأمر قيد عدم الامتثال الإجمالىّ بدلاً من أخذ قيد الامتثال التفصيلىّ، فيكون الواجب هي الصلاة المقيّدة بعدم كون الإتيان بها بقصد الامتثال الإجمالىّ، وهذا ممكن قبل الأمر. وفائدة هذا القيد هي: انتفاء ما يقابله بحسب الخارج؛ إذ بعد هذا القيد يصبح الامتثال الإجمالىّ مستحيلاً، فالتقييد في بعض الموارد يفيد رفع الحكم عن الفرد الفاقد للقيد، كما في أكرم الرجل العالم، وفي بعض الموارد يفيد إعدام ذاك الفرد في الخارج، كما فيما نحن فيه، وكما فيما مضى في باب أخذ العلم بالحكم مانعاً عن الحكم.

وأمّا الوجه الثالث: وهو دعوى وجوب الامتثال التفصيلىّ عقلاً، فتارة يقصد بذلك دعوى اقتضاء نفس التكليف لذلك باعتباره مقتضيّاً للامتثال، واُخرى يقصد به دعوى حكم العقل بحقّ مستقلّ للمولى غير حقّ الامتثال:

أمّا الأوّل: فيرد عليه: أنّه بعد فرض عدم دخل تفصيليّة الامتثال في خطاب المولى ولا في غرضه، لا معنىً لاقتضاء التكليف لها اقتضاءً امتثاليّاً بحكم العقل. وقد مضى توضيح ذلك في باب الموافقة الالتزاميّة، ونقول هنا ـ أيضاً ـ: إنّ للتكليف اقتضاءين للامتثال:

أحدهما: الاقتضاء الذاتىّ، وهو: اقتضاؤه له بمقدار رغبة العبد في نفسه لتحصيل أغراض المولى بغضّ النظر عن حكم العقل العملىّ بوجوب الطاعة. وهذا الاقتضاء ثابت في التماس العبد من المولى أيضاً، فالالتماس له محرّكيّة ذاتيّة للمولى بقدر ما في نفس المولى من الرغبة في تحصيل أغراض عبده. ومن الواضح: أنّ هذا الاقتضاء غير معقول فيما نحن فيه؛ إذ المفروض عدم تعلّق غرض المولى بتفصيليّة الامتثال، فرغبة العبد لتحصيل أغراض المولى لا أثر لها في المقام.

وثانيهما: الاقتضاء العرضىّ الثابت بحكم العقل الذي هو عبارة عن دركه لوجوب تحصيل غرض المولى الذي يهتمّ به. وهذا في الحقيقة متمّم للاقتضاء الذاتىّ. فالعبد إن

488

لم يكن يمتلك رغبة نفسيّة في تحصيل غرض المولى بمقدار يحرّكه نحو الطاعة، فحكم العقل بحسن الطاعة وقبح المعصية يحرّكه نحوها. أمّا إذا فرض أنّ شيئاً ما غير دخيل في غرض المولى، وأنّه خارج عن دائرة الاقتضاء الذاتىّ للتكليف، فليس من المعقول اقتضاء التكليف له بحكم العقل.

وأمّا الثاني: فتقريبه: أنّ الإطاعة الإجماليّة بالتكرار مع التمكّن من الإطاعة التفصيليّة لعب واستهزاء بأمر المولى. وللمولى حقّ مستقلّ يحكم به العقل غير حقّ الامتثال، وهو: حقّ عدم الاستهزاء واللعب بأوامره، ويترتّب على ذلك بطلان العبادة حتّى بناءً على عدم استحالة اجتماع الأمر والنهي؛ وذلك على ما حقّقناه في محلّه: من أنّ النهي في العبادة يوجب البطلان؛ لاستحالة قصد التقرّب بالقبيح، سواء قلنا باستحالة اجتماع الأمر والنهي، أو لا.

ويرد عليه:

أوّلاً: النقض بالامتثال الإجمالىّ في التوصّليّات بناءً على ما ذهبوا إليه: من استحالة اجتماع الأمر والنهي؛ وذلك لأنّ كون التكرار لعباً واستهزاءً بأمر المولى لو تمّ لم يكن مختصّاً بالعبادات، ففي التوصّليّات ـ أيضاً ـ يكون ذلك لغواً أو استهزاءً، وبالتالي يكون قبيحاً، فيخرج عن تحت عنوان المأمور به؛ لاستحالة اجتماع الأمر والنهي، وبالتالي لا يقتضي الإجزاء، ويكون باطلاً.

وثانياً: ما ذكره المحقّق الخراسانىّ(رحمه الله): من منع لزوم اللعب من التكرار والاحتياط؛ إذ قد يكون ذلك بداع عقلائىّ، كما لو كان أسهل عليه من تحصيل العلم. (وللمحقّق الخراسانىّ(رحمه الله)) جواب آخر سيأتي إن شاء الله.

واُورد على هذا الجواب في (الدراسات): أنّ فرض كون التكرار والاحتياط بداع عقلائىّ لا يكفي لتصحيح العبادة؛ فإنّ العبادة بحاجة إلى قصد القربة، ولا يكفي فيها مجرّد عدم داعي اللعب، فإذا لم يكن الداعي هو قصد القربة، تبطل العبادة، سواء كان الداعي هو داعي اللعب، أو داعياً عقلائيّاً. ومن هنا اُفيد في (الدراسات) أنّ الصحيح في الجواب عن الإشكال إنّما هو الجواب الثاني من جوابي المحقّق الخراسانىّ(رحمه الله).

أقول: لو كان الإشكال الذي أجاب عنه المحقّق الخراسانىّ عبارة عن دعوى: كون سالك الاحتياط تاركاً لقصد القربة اعتباطاً ومنبعثاً عن قصد اللعب، لكان كلام

489

(الدراسات) في محلّه ؛ إذ يقال: إنّ تبديل داعي اللعب بداع عقلائىّ لا يؤثّر شيئاً، فالمهمّ إنّما هو تحقيق القربة؛ ولكن الإشكال الذي جاء في الكفاية وأجاب عنه لم يكن هو هذا، وإنّما هو عبارة عن أنّه مع اللعب بأمر المولى يستحيل قصد القربة.

وهذا الإشكال كما ترى ينتفي بتبديل داعي اللعب بداع عقلائىّ.

وثالثاً: أنّنا لو سلّمنا لزوم اللعب، كما هو كذلك في غير فرض ثبوت داع عقلائىّ، لم نسلّم كونه لعباً بأمر المولى، بل هو لعب في نفسه غير مربوط بأمر المولى، نظير ما لو اشتهى أحد بلا داع عقلائىّ أن يصلّي صلاة الظهر على قمّة جبل عال واقع في مكان خاصّ، فذهب إلى هناك، وصلّى متقرّباً إلى الله تعالى. فهذا صحيح أنّه صدر عنه اللعب، لكنّه لم يكن لعباً بأمر المولى واستهزاءً به كي يكون قبيحاً عقلاً.

هذا. والمحقّق الخراسانىّ(رحمه الله) صاغ جوابه عن الإشكال ـ غير الجواب الذي مضى عنه ـ بصياغة: أنّ اللعب إنّما يضرّ إذا كان لعباً بأمر المولى، لافي كيفيّة الطاعة بعد حصول الداعي إليها، كما في المقام.

أقول: إن كان المقصود باللعب في كيفيّة الطاعة: ما يكون زائداً على الطاعة ومن مقارنات الطاعة، فصحيح أنّ هذا لا يضرّ بالقربة، أمّا إذا كان المقصود بذلك: كون تلك الكيفيّة مصداقاً للطاعة، فهذا لا ينبغي الشكّ كبرويّاً في أنّه يضرّ بالقربة.

أمّا الكلام في ذلك صغرويّاً، فلنوضّح أوّلاً أنّه ينبغي أن يكون المقصود بالطاعة في المقام الطاعة العقليّة، لا ذات الإتيان بالواجب؛ إذ لو كان الواجب في علم الله هو الجمعة ـ مثلاً ـ في مورد العلم الإجمالىّ بوجوب الظهر أو الجمعة، فمن الواضح: أنّ تكرار العمل بمعنى الإتيان بصلاة الظهر منضمّاً إلى الجمعة ليس لعباً في كيفيّة الإتيان بالجمعة؛ إذ ليس ضمّ الظهر إلى الجمعة كيفيّة للإتيان بالجمعة إلّا بنحو من المسامحة.

إذن فينبغي أن يكون المقصود هو افتراض اللعب في كيفيّة الطاعة العقليّة، بمعنى: أنّ العقل بعد الجزم بالتكليف يحكم بوجوب تحصيل الفراغ القطعىّ بأحد طريقين:

الأوّل: الإتيان بصلاة الجمعة ـ مثلاً ـ منضمّاً إلى تحصيل العلم التفصيلىّ بوجوبها.

والثاني: الإتيان بصلاة الجمعة منضمّاً إلى الإتيان بصلاة الظهر.

واختيار الثاني على الأوّل بلا داع عقلائىّ لعب.