26



الوجوب والاستحباب والحرمة والكراهة العقليّة:

بقي شيء في المقام خارج عن حريم البحث الاُصوليّ، وهو: أنّ الوجوب والاستحباب، وكذلك الحرمة والكراهة كما يوجدان في حقل الشريعة كذلك يوجدان في حقل العقل العمليّ، أو الفضائل والرذائل العقليّة، فربّ شيء يكون حسناً عقلاً ولكن لا يجب في منظار العقل فعله، كالعفو الذي هو حسن عقلاً ولكنّه ليس واجباً، وإلّا لما كان القصاص حقّاً. والتفسير الذي حقّقناه للفصل بين الوجوب والاستحباب في حقل الشريعة لا يأتي في حقل الفضائل والرذائل العقليّتين؛ إذ لا يوجد هنا ـ ما دمنا مقتصرين في حقل العقل ـ مولىً آمر وراء أنفسنا يطلب منّا شيئاً، ولكن قد يرغب في نفس الوقت في مرخوصيّتنا وحرّيّتنا، فلابدّ لنا من تفسير آخر للفرق بين الوجوب والاستحباب في حقل الأحكام العقليّة بعد فرض البناء على مبنى واقعيّة الحسن والقبح العقليّين.

فهل نعود إلى التفسير باختلاف الدرجة ونقول: إنّ الحَسَن الشديد الحُسن هو الواجب، والقبيح الشديد القبح هو الحرام، وما بينهما متوسّطات، والوسط الحقيقيّ بينهما يكون مباحاً عقلاً، لايعدّ فضيلة ولا رذيلة، فكأنّ لدينا سُلّماً واحداً وقع في الدرج الأسفل النهائيّ منه أشدّ الرذائل المحرّمة، وفي الدرج الأعلى النهائيّ منه أشدّ الفضائل الواجبة، وبينهما متوسّطات يخفّ قبحها أو حُسنها بمقدار بُعدها عن أحد القطبين، ويكون الوسط الحقيقيّ في هذا السلّم هو رفّ المباحات؟!

إنّ هذا التفسير يشتمل على بعض المفارقات من قبيل:

1 ـ إنّنا لا نمتلك حدّاً مشخّصاً لفصل الواجبات عن المستحبّات. فيا تُرى هل يفترض

27



أنّ الحسن البالغ مرتبة السبعين هو الواجب، وما نقص عنه ولو مرتبة واحدة هو المستحبّ مثلاً، أم ماذا؟

2 ـ إنّ لازم ذلك أن يصحّ القول بأنّ كلّ ما هو حسن فنقيضه قبيح؛ لأنّ الفعل ونقيضه ككفّتي الميزان، وبقدر ما يصعد أحدهما ينزل الآخر، فبقدر ما يقترب الحسن إلى ذروة السلّم يقترب نقيضه إلى أسفله، في حين أنّ هذا خلاف الوجدان، فإنّنا نرى بوجداننا أنّ العفو حَسن وفي مرتبة عالية من الحسن، ولكن القصاص ليس قبيحاً، وكيف يكون قبيحاً وهو حقّ؟! والحقّانيّة لا تجتمع مع القبح.

3 ـ إنّه لو وقع التزاحم بين قبيح في أقلّ مراتب الحرمة وحَسَن غير بالغ مرتبة الوجوب، لزم أن يجوز ارتكاب ذاك القبيح، وتنتفي حرمته؛ وذلك لأنّه سيتنزّل عن قبحه ولو جزئيّاً بالمزاحمة مع الحَسَن، وبهذا التنزّل يخرج عن حريم الحرمة؛ لأنّنا كنّا قد فرضناه في المراتب الدنيا من الحرمة، مثال ذلك ما لو كان كشف سرّ مختصر عن أمر له ألف طرف يؤدّي إلى الإضرار بواحد منهم إضراراً خفيفاً، وفي نفس الوقت يؤدّي إلى نفع تسعماءة وتسعة وتسعين نسمة نفعاً كبيراً، فكانوا راضين بكشف السرّ، ولم يكن تحقيق هذا النفع واجباً علينا، فيا تُرى هل يصبح كشف السرّ هذا جائزاً عقلاً، ولا نكون مُلزَمين أمام ذاك الواحد لأجل أنّه استلزم نفع كثير من الناس ممّا لم يكن واجباً؟ كلاّ، إنّ ضميرنا لا يدلّ على ذلك، ولو كان ضرب يتيم ضربةً مختصرة لا يبكي عليها إلّا دقائق موجباً لنفع آخرين نفعاً هائلاً في غير ما يكون واصلاً حدّ الوجوب كإنجاء النفس من الهلكة مثلاً، فهل يجوز ظلم هذا اليتيم بأقلّ ظلم في سبيل إدخال نفع هائل في جيب آخرين والذي لولا استيجابه لظلم اليتيم، لكان من أفضل الأعمال غير الواجبة؟ كلاّ.

وعليه فلننتقل إلى تفسير ثان للوجوب والاستحباب، أو للحرمة والكراهة في باب

28



الفضائل والرذائل العقليّتين، وهو: أن نفترض للفضائل والرذائل سلّمين متبائنين بدلاً عمّا مضى من افتراض سلّم واحد لها جميعاً، فهناك سلّم للفضائل وهي ما يكون فعلها حسناً، وسلّم آخر للرذائل وهي ما يكون فعلها قبيحاً، وهما سلّمان متوازيان لا يلتقيان ولا يستلزم حسن الشيء قبح نقيضه وبالعكس، ونفترض الفرق بين الوجوب والاستحباب فرق درجة، وكذلك الفرق بين الحرمة والكراهة.

وهذا التفسير أيضاً باطل؛ لأنّه لا يخلو عن بعض المفارقات من قبيل:

1 ـ لم يتّضح لنا ما هو الحدّ الدقيق بين الوجوب والاستحباب والمفروض: أنّ الواجبات والمستحبّات في سلّم واحد، والفرق بينهما فرق درجة، وكذلك لم يتّضح لنا ما هو الحدّ الدقيق بين الحرمة والكراهة والمفروض: أنّ المحرّمات والمكروهات في سلّم واحد والفرق بينهما فرق درجة، ولا أظنّ إمكان الوصول إلى حدّ مائز إلّا بالاعتباط.

2 ـ يلزم من ذلك عدم استبطان الوجوب لعنصر الإلزام؛ لأنّ الإلزام مساوق للذمّ على الترك، والذمّ على الترك مساوق لقبح الترك وقد فرضنا عدم استلزام الحُسن قبح النقيض وبالعكس، ولا معنىً لفرض مساوقة شدّة الحسن لقبح النقيض؛ فإنّ الحسن الشديد لو ساوق قبح النقيض شديداً، لكان الحسن الخفيف أيضاً مساوقاً لقبح النقيض، ولكن بدرجة أخفّ، وهذا رجوع إلى التصوير الأوّل الذي كان السلّم فيه واحداً، أي: كان الحسن والقبح فيه عبارة عن نسبة كلّ من الفعل والترك إلى نقيضه في درجة الرجحان.

وعليه فينحصر الأمر في التفسير الثالث، وهو أن يقال: إنّ للحسن والقبح سلّمين: سلّم للحسن وسلّم للقبح، ويكون سلّم الحسن هو سلّم المستحبّات والمكروهات، أي: أنّ كلّ حسن مستحبّ ونقيضه مكروه، وسلّم القبح هو سلّم الواجبات والمحرّمات، أي: أنّ كلّ قبيح حرام ونقيضه واجب.

29



وبكلمة اُخرى: إنّ الحسن مهما بلغ ذروته لا يستبطن الإلزام، وإنّما الإلزام عنصر مستبطن في القبح، فإنّ الإلزام عبارة اُخرى عن استحقاق الذمّ على المخالفة، وهو عبارة اُخرى عن قبح المخالفة، إذن فالفرق بين الواجب والمستحبّ في منطق العقل العمليّ عبارة عن أنّ المستحبّ ما لا يحكم العقل العمليّ بقبح تركه وإن حكم بحسن فعله، وعنصر الحسن غير عنصر قبح الترك، ومهما صعد الحسن في سلّمه لايعني قبح الترك، فالمستحبّ ما يكون حسناً وليس تركه قبيحاً كالعفو، والواجب ما يكون تركه قبيحاً سواء كان فعله حسناً بحسن آخر أو كان حسن فعله عبارة اُخرى عمّا فيه من الاحتراز عن القبيح، وأيضاً نقول: المكروه العقليّ ما يكون تركه حسناً من دون أن يكون فعله قبيحاً، وذلك من قبيل القصاص في مورد يحسن العفو، والحرام العقليّ ما يكون فعله قبيحاً سواء كان تركه حسناً بحسن آخر أو كان حسن تركه عبارة اُخرى عمّا فيه من الاحتراز عن القبيح، ومثال ذلك إيذاء شخص بلا سبب، فإنّه قبيح وحرام عقلاً، وتركه لا حسن فيه إلّا بمعنى مجانبة القبح؛ ولذا ترى أنّ فاعل الإيذاء يستحقّ الذمّ والتقاصّ من قبل الشخص المؤذى، ولكن تارك الإيذاء لا يستحقّ شكراً من قبل الشخص الذي لم يؤذه.

والآن نعود مرّةً اُخرى إلى حديثنا عن الوجوب والاستحباب الشرعيّين؛ لنفتح قوساً آخر لكلام خارج عن حريم علم الاُصول:

ملاك الانبعاث عن التكليف في النظر العرفانيّ:

قد عرفنا ممّا سبق أنّ المقياس الثبوتيّ للوجوب الشرعيّ هو إرادة المولى سبحانه وتعالى أن نكون مقيّدين ومتعبّدين:

چرا پاى كوبم چرا دست يازم *** مرا خواجه بى دست وپا مى پسندد

30



لا حبّ الفعل ولا المصلحة الكامنة في الفعل. نعم، الحبّ والمصلحة في الفعل قد يتطلّبان من المولى أن يريدنا متقيّدين ومكبّلين ومتعبّدين خشية فوات المتعلّق؛ لأنّ انبعاث العباد من إرادته سبحانه للتقيّد وعدم الحرّيّة أكثر بكثير من انبعاثهم من مجرّد حبّه تعالى للمتعلّق؛ وذلك: إمّا بسبب قبح مخالفة الأوّل دون الثاني، وهذا هو توجيه مخالفة أهل العرفان للثاني أحياناً دون الأوّل، وإمّا بسبب أنّ الذي تكون في مخالفته العقاب هو الأوّل دون الثاني، وهذا هو توجيه مخالفة أهل العدالة للثاني أحياناً دون الأوّل.

والذي يناسب مقام أهل العرفان الحقيقيّ هو كفاية حبّه تعالى للمتعلّق للانبعاث إليه، وكذلك كفاية بغضه تعالى للمتعلّق للانزجار منه حتّى فيما إذا اقتضت الرغبة الملحّة للربّ تعالى حرّيّة العبد، وعدم تقيّده وإلزامه؛ والوجه في أنّ هذا هو المناسب لأهل العرفان أحد تعبيرين: إمّا لأنّ العارف بالله لايحبّ إلّا ما يحبّه الله، ولا يبغض إلّا ما يبغضه الله، فلا رغبة له أصلاً في ترك المستحبّ أو فعل المكروه. وإمّا (1) لأنّه لو أخذ بالرخصة وترك المستحبّ، أو فعل المكروه، فقد تحقّق أحد الأمرين المحبوبين لله، وهو حرّيّته، ولو عمل بالمستحبّ وترك المكروه فقد تحقّق كلا المحبوبين لله، وهما: حرّيّته وملاك المتعلّق؛ لأنّه إنّما أتى بالمحبوب بمحض حرّيّته، لا بكونه مقيّداً مكبوتاً.

وبكلمة اُخرى: إنّ حبّ المولى لرخصة العبد وحرّيّته له معنيان:

أحدهما: حبّه لكونه في سعة عمليّة من المتعلّق، أي: أن يصل إلى ما يشتهيه نفسيّاً من فعل أو ترك، وهذا خارج عن بحثنا، ومرتبط بالمباحات التي لم تكن فلسفة إباحتها مجرّد عدم وجود ملاك للإلزام، بل كانت هناك مصلحة في التسهيل العمليّ للمكلّف بأن يصل


(1) والتعبير الأوّل أولى عرفانيّاً من الثاني.

31



إلى ما يشتهيه، وليكن هذا معنىً آخر أو شعبة اُخرى لمصلحة التسهيل، وإلى هذا ينظر بعض الأدلّة الدالّة على ذمّ الالتزام بترك بعض المباحات كقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ)(1)، وقوله تعالى: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ القِيَامَة)(2)، وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)(3)، والتعبير الوارد في بعض الروايات: «إنّ الله يغضب على من لا يقبل رخصه»(4)، وفي بعضها الآخر: «لأنّ الله عزّ وجلّ يحبّ أن يؤخذ برخصه كما يؤخذ بعزائمه»(5).

وثانيهما: حبّه لمجرّد أن لا يكون العبد مُلزماً، أو أن لا يكون شاعراً بالإلزام، ويا حبّذا أن يفعل الفعل المحبوب لله بمحض اختياره ومن دون إلزام، وهذا هو المعنى الذي كان مقصوداً في بحثنا، وهذا طبعاً يلازم تقيّد العارف بالله بفعل المستحبّات وترك المكروهات، إلّا بمقدار ما يقع فيما بينها من التزاحم بلحاظ ضيق في قدرة العبد.

وممّا يبعث بالاستغراب: أنّ النصّ الذي يكون صحيحاً سنداً من نصوص: «أن الله يحبّ أن يؤخذ برخصه كما يؤخذ بعزائمه» ظاهره الأوّليّ وروده في مورد المكروهات،


(1) سورة المائدة، الآية: 87.

(2) سورة الأعراف، الآية: 32.

(3) سورة التحريم، الآية: 1.

(4) البحار، ج 80، ص 335، آخر الحديث 6.

(5) البحار، ج 93، ص 5.

32



فقد روى في الكافي(1) عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن عمر بن اُذينة، عن فضيل بن يسار قال: «سمعت أبا عبدالله(عليه السلام)يقول لبعض أصحاب قيس الماصر... وعاف رسول الله(صلى الله عليه وآله)، أشياء وكرهها ولم ينه عنها نهي حرام، إنّما نهى عنها نهي إعافة وكراهة، ثُمّ رخّص فيها، فصار الأخذ برخصه واجباً على العباد كوجوب ما يأخذون بنهيه وعزائمه...».

وهذه الرواية لو أبقينا أصل ظهورها في النظر إلى المكروهات على حاله، لابدّ أن يحمل ما فيها من ضرورة الأخذ بالترخيص: إمّا على الأخذ التشريعيّ، أي: أنّ العبد يجب أن يتعبّد بالترخيص كما يتعبّد بوجوب الواجبات وحرمة المحرّمات وإن كان يتركه ترك إعافة وكراهة، وإمّا على ما نريد أن نشير إليه الآن من ضرورة التدرّج في تربية النفس، وعدم تحميل النفس ما لا تتحمّله من كثرة العبادات المستحبّة، وزجرها عن كلّ المكروهات ممّا قد يؤدّي إلى بغض النفس للعبادة، أو للالتزام بامتثال الأوامر الاستحبابيّة والنواهي التنزيهيّة.

وهناك روايات عديدة في ضرورة التدرّج مع النفس في تحميلها العبادات المستحبّة من قبيل:

1 ـ ما ورد عن الصادق(عليه السلام) عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) أنّه قال لعليّ(عليه السلام): «يا عليّ، إنّ هذا الدين متين، فأوغل فيه برفق، ولا تبغض إلى نفسك عبادة ربّك، إنّ المنبتّ ـ يعني المفرط ـ لا ظهراً أبقى ولا أرضاً قطع، فاعمل عمل من يرجو أن يموت هرماً، واحذر حذر من يتخوّف أن يموت غداً»(2).


(1) اُصول الكافي، ج 1، ص 266 ـ 267.

(2) الوسائل، ج 1، ب 26 من مقدّمة العبادات، ح 7، ص 110 بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت.

33



2 ـ وعن أحدهما(عليهما السلام) قال النبيّ(صلى الله عليه وآله): «إنّ للقلوب إقبالاً وإدباراً، فإذا أقبلت فتنفّلوا، وإذا أدبرت فعليكم بالفريضة»(1).

3 ـ وعن مولانا أمير المؤمنين(عليه السلام): «إنّ للقلوب إقبالاً وإدباراً، فإذا أقبلت فاحملوها على النوافل، وإذا أدبرت فاقتصروا بها على الفرائض»(2). وكأنّ هذا أيضاً يعود إلى فكرة حبّ المولى لكون عبده في سعة بالمعنى الأوّل من المعنيين اللذين شرحناهما.

وبهذه المناسبة، أعني: بمناسبة ما أشرنا إليه: من أنّ المناسب لحال أهل العرفان هو كفاية حبّ المولى تعالى للمتعلّق لانبعاثه إليه لا بأس بالإشارة إلى أنّ المطيعين يمكن تقسيمهم بشكل رئيس من ناحية ما يدفعهم إلى الطاعة إلى ثلاث درجات.

تقسيم المطيعين من ناحية الباعث إلى الطاعة:

ولتوضيح ذلك نقدّم مقدّمة عن أصل الباعث النفسيّ الذي يبعث بالإنسان إلى العمل.

فقد ذكر اُستاذنا الشهيد (رحمه الله) في مقدّمة كتاب فلسفتنا(3) ما حاصله: أنّ المحرّك الرئيس للإنسان في كلّ نشاطاته هو حبّ الذات، فهو الواقع الطبيعيّ الذي يكمن وراء حياة الإنسانيّة كلّها، ويوجّهها بأصابعه والذي نعبّر عنه بحبّ اللذّة وبغض الألم، ولا يمكن تكليف الإنسان أن يتحمّل مختاراً مرارة الألم دون شيء من اللذّة في سبيل أن يلتذّ الآخرون وينعّموا، إلّا إذا سلبت منه إنسانيّته واُعطي طبيعة جديدة لا تتعشّق اللذّة


(1) الوسائل، ج 4، ب 100 من أعداد الفرائض، ح 8، ص 69 بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت.

(2) نهج البلاغة، الحكمة رقم 304، ص 1225، بحسب طبعة فيض الإسلام.

(3) راجع فلسفتنا، ص 35 ـ 50 وفق طبعة مطبعة كرم في بيروت.

34



ولا تكره الألم، وحتّى الألوان الرائعة من الإيثار التي نشاهدها في الإنسان ونسمع بها عن تأريخه تخضع ـ في الحقيقة ـ أيضاً لتلك القوّة المحرّكة الرئيسة: (غريزة حبّ الذات) فالإنسان قد يؤثر ولده أو صديقه على نفسه، وقد يضحّي في سبيل بعض المثل والقيم، ولكنّه لن يقدم على شيء من هذه البطولات ما لم يحسّ فيها بلذّة خاصّة ومنفعة تفوق الخسارة التي تنجم عن إيثاره لولده وصديقه، أو تضحيته في سبيل مثل من المُثُل التي يؤمن بها، وهكذا يمكننا أن نفسّر سلوك الإنسان بصورة عامّة في مجالات الأنانيّة والإيثار على حدّ سواء، ففي الإنسان استعدادات كثيرة للالتذاذ بأشياء متنوّعة: مادّيّة كالالتذاذ بالطعام والشراب وألوان المتع الجنسيّة وما إليها، أو معنويّة كالالتذاذ الخلقيّ والعاطفيّ بقيم خلقيّة، أو أليف روحيّ، أو عقيدة معيّنة حين يجد الإنسان تلك القيم، أو ذلك الأليف، أو هذه العقيدة جزءاً من كيانه الخاصّ.

وهذه الاستعدادات التي تهيّء الإنسان للالتذاذ بتلك المتع المتنوّعة تختلف في درجاتها عند الأشخاص، وتتفاوت في مدى فعليّتها باختلاف ظروف الإنسان وعوامل الطبيعة والتربية التي تؤثّر فيه، فبينما نجد أنّ بعض تلك الاستعدادات تنضج عند الإنسان بصورة طبيعيّة كاستعداده للالتذاذ الجنسيّ مثلاً نجد أنّ ألواناً اُخرى منها قد لا تظهر في حياة الإنسان، وتظلّ تنتظر عوامل التربية التي تساعد على نضجها وتفتّحها. وغريزة حبّ الذات من وراء هذه الاستعدادات جميعاً تحدد سلوك الإنسان وفقاً لمدى نضج تلك الاستعدادات، فهي تدفع إنساناً إلى الاستئثار بطعام على آخر وهو جائع، وهي بنفسها تدفع إنساناً آخر لإيثار الغير بالطعام على نفسه؛ لأنّ استعداد الإنسان الأوّل للالتذاذ بالقيم الخلقيّة والعاطفيّة الذي يدفعه إلى الإيثار كان كامناً، ولم تتح له عوامل التربية المساعدة على تركيزه وتنميته، بينما ظفر الآخر بهذا اللون من التربية، فأصبح يلتذّ بالقيم

35



الخلقيّة والعاطفيّة، ويضحّي بسائر لذّاتها في سبيلها.

إذن فكلّ الويلات المنتشرة في العالم قامت على أساس مجموع أمرين:

الأوّل: هو حبّ الذات الكامن في نفس الإنسانيّة، أو قل: تعشّق اللذّة وكره الألم.

والثاني: انحصار المصالح التي تحقّق اللذّة وتعالج الألم في مصالح مادّيّة دنيويّة ضيّقة يقع التكالب عليها بين الناس، والتزاحم والمنافسات، فتحصل ما تحصل من المصائب والمحن والظلم والرزايا التي يضجّ بها العالم اليوم.

وتدّعي الشيوعيّة: أنّها ستعالج ذلك عن طريق القضاء على الأمر الأوّل، وهو حبّ الذات، فيصبح الفرد عندئذ متعشّقاً للمجتمع لا لنفسه.

إلّا أنّ هذا الحلّ حلّ طوبائيّ بحت؛ لأنّ حبّ الذات ذاتيّ للإنسان، ولا معنى لانتزاعه عنه إلّا بانتزاع ذاتيّته وتبديلها إلى شيء آخر غير الإنسان.

ويقول الإسلام: إنّ علاج المشكل يجب أن يكون بمعالجة الأمر الثاني، وذلك بتوسيع نطاق المصالح في دائرة عريضة لا يؤدّي التسابق فيها إلى التزاحم والتعارض والتكالب، فيحصل كلّ فرد على مصالحه وملاذّه بقدر ما اُوتي له من قوّة من دون أن ينقص من الآخر شيء.

وبالفعل هذا هو الذي فعله الإسلام بتوسيعه لدائرة المصالح من بُعدين:

أحدهما: بيان: أنّ مصالح الفرد ليست محصورة في دائرة المصالح المادّيّة الدنيويّة الضيّقة، بل له جنّة عرضها السماوات والأرض اُعدّت للمتّقين.

والثاني: تربية الجانب الخُلقيّ النبيل في الإنسان، وتنمية قابليّاته الأخلاقيّة الكامنة في نفسه: من صفات الإيثار والعطف والرحمة والوفاء والصدق وما إلى ذلك، وتتصادق كلتا المصلحتين: الاُخرويّة والخُلقيّة في تحصيل رضا الله سبحانه وتعالى.

36



وهذا هو الاُسلوب المعقول القابل للتطبيق، فإذا أصبح المجتمع لا يعرف إلّا رضا الله سبحانه وتعالى والذي يكون كفيلاً له بكلتا اللذّتين، وجامعاً له المصلحتين، تنتهي كلّ ألوان الظلم والتعسّف والويلات والدركات، ويسود العالم العدل والرفاه والخيرات والبركات.

أقول: قد تقول: لم يبقَ إذن فرق في القيمة المعنويّة والخلقيّة بين عمل الظالم الجائر الخسيس اللئيم، وعمل الإنسان الشهم النبيل الشريف ما داما جميعاً يتحرّكان من وراء اللذّة وحبّ الذات.

ولكن الجواب إلى هذا الحدّ واضح، فإنّ الفرق في القيمة بينهما يبقى في أنّ الرذل والخسيس هو الذي يلتذّ بالرذائل والخسائس والسفاسف، والشريف وطيّب النفس هو الذي يلتذّ بالفضائل والحسنات وصفات الإيثار والنُبل، والفرق بين العملين أو الوصفين أو الشخصين يبقى كالفرق بين الأرض والسماء، فهما شريكان في أصل الالتذاذ واندفاع كلّ منهما وراء ما يلتذّ به، ولكنّهما يختلفان اختلافاً عظيماً يصعب تصوّر مداه فيما يلتذان به ويقصدانه، وأقصى ما يمكن أن يتوقّع من المجتمع العامّ في الاهتمام بتحصيل رضا الله هو الوصول إلى هذا المستوى الذي لو كان هناك أمل في وصول الجميع، أو الأكثريّة القاطعة إليه، فإنّما هو بلحاظ زمان حضور المعصوم وعمله المباشر في تربية البشريّة.

ولكن هذا كلّه لا يمنع عن بيان: أنّ الخاصّة من العارفين بالله يكون طريق التعالي لهم مفتوحاً بما هو أكثر من ذلك.

ولتوضيح ذلك نبدأ بالحوار الذي جرى بيني وبين اُستاذي الشهيد ـ رضوان الله عليه ـ حول ما مضى نقله عن مقدّمة فلسفتنا، حيث قلت له (رحمه الله): إنّ هذا البيان يقلّل من قيمة البطولات الإسلاميّة والتضحيات، والالتزام بالمُثُل وبالفضائل؛ وذلك لأنّها ـ حسب

37



الفرض ـ تنشأ من نفس المنشأ الذي تنشأ منه الرذائل وشتّى ألوان الظلم والخيانات والإجرامات، وهو حبّ الذات واللذّة، وكُره الألم (صحيح: أنّه لا يقاس بين من يلتذّ بالفضائل ومن يلتذّ بالرذائل، ولا بين اتّصاف الشخص بهذه أو بتلك، أو بين إتيانه بهذه لداعي الالتذاذ بها أو بتلك لداعي الالتذاذ بها) ولكن مع ذلك نرى ـ على أيّ حال ـ أنّ هذا إسقاط للقيم العالية والمُثُل العليا التي تصدر بروح الفداء والتضحية والنُبل والشهامة عن درجة كنّا نفترضها ونتصوّرها؛ إذ تبيّن: أنّها ـ على أيّة حال ـ تنشأ من دافع حبّ الذات والأنا والالتذاذ.

فأجاب ـ رضوان الله عليه ـ على ذلك بأنّ مقصودنا ممّا قلناه: من أنّ اللذّة والألم هما اللذان يدفعان الإنسان النبيل إلى النبل والفضيلة كما يدفعان الإنسان اللئيم إلى اللؤم والرذيلة ليس هو كون تلك اللذّة أو اندفاع الألم هما العلّتين الغائيّتين للفعل، وإنّما قصدنا كونهما العلّتين الفاعليّتين، فالذي يضحّي في سبيل مَثَل، أو مبدأ، أو في سبيل محبوب له كولد له، أو صديق، أو الله سبحانه وتعالى، فهو لا يفعل ما يفعل لغاية التذاذه هو، أو ارتياحه من الألم النفسيّ، بل يفعل ذلك لأجل ذاك المثل أو المبدأ أو المحبوب؛ لأنّه يعشق ذلك، ولكن هذا العشق أو الحبّ قد جعل في الفعل لذّة أو في الترك ألماً، والإنسان خُلق بنحو لولا هذه اللذّة أو ذاك الألم، لما اندفع نحو ما يندفع، فهذه اللذّة أو ذاك الألم هو الذي يؤثّر فاعليّاً في اندفاعه نحو محبوبه أو في فراره عن مبغوضه، إذن ففرقٌ بين الغاية التي يندفع باتّجاهها وهي ما يحبّه ويريده، وبين الدافع الذي يدفعه بذاك الاتّجاه دفعاً فاعليّاً، وهو اللذّة الكامنة في الفعل، والقيمة الخُلقيّة تنشأ من شرافة الغاية وسموّ الهدف.

أقول: إنّ حصر العلّة في اللذّة والألم غير صحيح، سواء كان الملحوظ هي العلّة الغائيّة أو العلّة الفاعليّة:

38



أمّا لو كان الملحوظ هي العلّة الغائيّة، فإنّنا نستطيع توضيح بطلان ذلك بإلفات النظر إلى مقدّمتين:

الاُولى: أنّ اللذّة والألم غير الحبّ والبغض كما هو واضح، فإنّ الحبّ والبغض يتحقّقان قبل تحقّق المحبوب والمبغوض، واللذّة والألم يتحقّقان بتحقّقهما ولو في علم الشخص، أي: بالوجود العلميّ والذهنيّ لتحقّقهما، سواءٌ طابق الواقع أو لا، فهما ليسا وليدي الحبّ والبغض، بل هما وليدا العواطف المرافقة للحبّ والبغض، لا وليدا نفس الحبّ والبغض؛ ولذا قد ترى نادراً التفكيك بينهما كمن ينتزع قرطي بنت الحسين(عليه السلام)ويبكي، فهذا لديه عاطفة أوجبت ألمه وبكاءه، لكنّه كان انتزاع القرط لديه بعد التكاسر بين مجموع المصالح والمفاسد في نظره محبوباً، فالعاطفة التي أوجبت بكاءه انفصل مسيرها صدفة عن مسير الحبّ الذي تعلّق بعد تكاسر المصالح والمفاسد بالفعل.

والثانية: أنّ كون الشيء غاية للإنسان عبارة اُخرى عن مطلوبيّته له ومحبوبيّته، وتعلّق شوقه المؤكّد به، إذن فالعلّة الغائيّة ليست هي تحقّق اللذّة واندفاع الألم، بل هي متعلّق الحبّ الذي هو أقدم من اللذّة، أو نقيض متعلّق البغض الذي هو أقدم من الألم.

ويشهد لما قلناه أنّنا نحسّ في وجداننا وضميرنا بأنّ من أحسن إلى شخص استحقّ شكراً من قبل ذاك الشخص أكثر ممّا قد يشكر الإنسان شخصاً أحبّ أن يُحسن إليه فعجز عن ذلك، فهذا الشكر إن كان في مقابل اتّصاف هذا الشخص بصفة الفضيلة وهي حبّه للإحسان إلى الضعيف مثلاً، فهما سيّان في هذا الاتّصاف، وإنّما ترك من ترك منهما الإحسان إلى هذا الشخص بسبب العجز، فيبقى الفارق بين الشكرين بلا مقابل، إذن فهذه الزيادة تكون في مقابل فعل الإنسان، ولو كانت الغاية له من هذا الفعل التذاذ نفسه دون ارتياح الشخص الضعيف، لما استحقّ هذه الزيادة من الشكر.

39



نعم، لا ننكر أنّ نفس اللذّة والألم أيضاً قد يكون محبوباً أو مبغوضاً، فيريد الشخص الاُولى ويهرب من الثانية، أي: أنّ اللذّة والهرب من الألم أيضاً يدخلان في غايته من دون أن يولّد ذلك لذّة غير تلك اللذّة، أو ألماً غير ذاك الألم، وإلّا لتسلسل.

وقد تلخّص: أنّ الغاية دائماً هي المحبوب أو نفي المبغوض، لا اللذّة ونفي الألم وإن كانا هما أيضاً قد يتعلّق بهما الحبّ والبغض، فيدخلان في الغاية بهذا الاعتبار.

وأمّا لو كان الملحوظ هي العلّة الفاعليّة، قلنا: إنّ كون اللذّة والألم هما العلّة الفاعليّة للتحرّك نحو الفعل أو نحو الفرار لا يتصوّر إلّا بأحد معان ثلاثة:

إمّا بمعنى كونهما دافعين للإنسان من دون اختياره، فمن يلتذّ بشيء يتحرّك نحوه بلا اختيار، ومن يتأ لّم من شيء يندفع نحو الفرار منه من دون اختيار.

وإمّا بمعنى دخلهما في القدرة مع فرض حفظ الاختيار بعد تحقّق القدرة، فاللذّة الموجودة في الشيء تخلق في الإنسان القدرة على الاندفاع إليه، فيندفع إليه باختياره، والألم الموجود في الشيء يخلق في الإنسان القدرة على التحرّك نحو الهرب منه، فيهرب منه اختياراً، ولولا اللذّة والألم، لما كان الإنسان قادراً على التحرّك نحو المحبوب، أو باتّجاه الفرار من المبغوض.

وسواء قلنا: إنّ اللذّة والألم دافعان قهريّان، أو قلنا: إنّهما يؤثّران في القدرة على الاندفاع لا ينافي ذلك أن تكون الغاية هي ما يندفع إليه من المحبوب أو نفي المبغوض، لا نفس اللذّة أو نفي الألم وحده.

وإمّا بمعنى كون اللذّة والألم دخيلين في تحقّق الإرادة برغم فرض انحفاظ القدرة والاختيار بغضّ النظر عنهما.

وكلّ هذه الفروض باطلة:

40



أمّا الفرض الأوّل، وهو فرض الاندفاع وراء اللذائذ والفرار من الآلام قهراً، فهذا يساوق الجبر وإنكار الاختيار، وهذا خلف موضوع علم الأخلاق بعد فرض كون الحسن والقبح أمرين واقعيّين مدركين بالعقل، لا أمرين اعتباريّين مجعولين من قبل العقلاء أو الشريعة، وقد كان هذا هو فرض بحثنا في المقام، فنحن وإن كنّا لا نمانع عن كون بعض القضايا الأخلاقيّة اجتماعيّة أو شرعيّة، لكن لو لم نؤمن بقضايا أخلاقيّة واقعيّة وبالحسن والقبح الذاتيّين والعقليّين، لم يبقَ موضوع لبحثنا هذا.

وأمّا الفرض الثاني، وهو دخل اللذّة والألم في القدرة، فهذا يعني: أن لا يقدر الإنسان إلّا على الفعل الذي يلتذّ منه، ولا يقدر الفرار إلّا من الفعل الذي يكون مبغوضاً له، ومن المعلوم أنّ فرض تعلّق القدرة بأحد النقيضين دون الآخر هو عين الجبر تماماً، فإنّ القدرة لابدّ أن تتعلّق بطرفي النقيض سواء بسواء.

وأمّا الفرض الثالث، وهو عدم تحقّق الإرادة نحو الشيء إلّا بفرض الالتذاذ به أو التأ لّم من فقده برغم انحفاظ اختياره وقدرته لولا اللذّة والألم، وبرغم فرض حبّه أو بغضه للمتعلّق في المرتبة السابقة على اللذّة والألم، فهذا أيضاً أمر غير معقول، سواء فسّرنا الإرادة بمعنى الشوق الأكيد كما هو المعروف، أو فسّرناها بما يشابه أن يقال بأمر وسط بين الشوق الأكيد والفعل، وهو حملة النفس، بدعوى: أنّها هي مركز القدرة والسلطنة:

أمّا على الأوّل، فلوضوح: أنّ الشوق الأكيد هو الحبّ الأكيد الذي هو في الرتبة السابقة على اللذّة.

وأمّا على الثاني، فلوضوح: أنّ توقّف حملة النفس على اللذّة والألم مع انحفاظ كامل القدرة والاختيار في المرتبة السابقة عليهما، وتماميّة الحبّ والشوق أمر غير معقول، إلّا بمعنى: أنّ الغاية المحبوبة كانت عبارة عن نفس اللذّة والألم، وهذا رجوع إلى الشقّ الأوّل الذي أبطلناه.

41



وبهذا تمّ برهان كامل على أنّ العلّة الغائيّة والعلّة الفاعليّة متّحدان، غاية الأمر: أنّ العلّة الغائيّة تكون بوجودها العلميّ ـ ولو الخاطئ ـ محرّكة.

نعم، لا إشكال ـ كما أشرنا إليه ـ في أنّ اللذّة والألم قد يدخلان بنفسهما في العلّة الغائيّة، ويكونان محبوباً أو مبغوضاً.

وقد يقول قائل: إنّ حبّ الدعة والراحة الموجود في الإنسان لابدّ أن يتكاسر مع حبّ آخر، ويقع مقهوراً تحت شعاعه كي يتحرّك الإنسان نحو ما يكون في وضعه الأوّليّ موجباً لسلب الدعة والراحة، والمقصود بعلّيّة اللذّة والألم هو: أنّه لولاهما، لما كان المحبوب الأصليّ من المُثُل والقيم والمبادئ ورضا الله وما إلى ذلك قادراً على الغلبة على حبّ الراحة، فلكي يغلب حبَّ الراحة، أو قل: «لكي تصبح راحة الشخص في خلاف راحته الظاهريّة» لابدّ أن ينضمّ إلى تلك الغاية الشريفة غاية اللذّة أو الفرار من الألم، وعند ذلك تكون الغلبة لمجموع الغاية الشريفة النبيلة مع اللذّة ودفع الألم على حبّ الراحة، فيقوم الإنسان بالعمل النبيل، ويكون الشخص بقدر ما كان من حصّة الدخل في الغاية لذاك المبدأ النبيل والشريف مستحقّاً للمدح والثواب، وبهذا قد جمعنا بين القول بأنّه لابدّ لتحريك الإنسان من وجود اللذّة والألم في المتعلّق من ناحية، وبين نُبل التضحيات في سبيل المبادئ والعقائد الحقّة والمُثل والقيم العليا ورضا الله سبحانه وتعالى من ناحية اُخرى. فليكن هذا نوع توجيه لكلام اُستاذنا الشهيد (رحمه الله)، إلّا أنّ هذا التوجيه ليس شاملاً لمورد ما قد يتّفق من عدم وجود زحمة وأقلّ صعوبة في التحرّك، أو كان المطلوب هو الترك ولم يكن في الترك أيّ زحمة ومشقّة، وإنّما يمكن تطبيق هذا التوجيه في موارد صعوبة العمل وفق ما هو مطلوب أخلاقيّاً.

والظاهر: أنّ هذا التوجيه أيضاً غير صحيح. وتوضيح ذلك:

42



إنّ عدم تحرّك الشخص من دون لذّة أو ألم لكون حبّه للمحبوب غير كاف لتحريكه، ولكن مع دخول الحبّ كجزء للعلّة في الحساب كافياً له قد يكون صحيحاً بشأن بعض السالكين، ويكون هذا الشخص أعلى درجة ممّن لا يتحرّك إلّا من وراء اللذّة والألم، ولكن ليس هذا هو آخر الدرجة الممكنة من درجات مرقاة الكمال في سلّم الفضائل، والدليل على ذلك مؤتلف من مقدّمتين:

الاُولى: أنّ التقدير المعنويّ لمقدار تلك اللذّة المعنويّة يقول لنا بفهم الوجدان: إنّ درجة تلك اللذّة توازي درجة الحبّ لذلك المبدأ النبيل، وكلّما اشتدّ حبّه اشتدّ بقدره الالتذاذ به، وكلّما ضعف حبّه ضعف بقدره الالتذاذ به.

والثانية: أنّ هذا الالتذاذ قد يفوق في بعض الحالات لذّة الراحة التي كانت تثبت في ترك التحرّك نحو ذاك المحبوب، وآية ذلك: أنّ الإنسان عندئذ لا يحسّ بالراحة النفسيّة في الترك، بل يحسّ بأنّ راحته النفسيّة في الفعل فحسب، في حين أنّ من لم يصل حبّه إلى هذا المستوى يحسّ بالتعب النفسيّ في عمله، ولكنّه يتحمّل هذا التعب في سبيل محبوبه.

والنتيجة: أنّه إذن سيكون حبّه لذاك المحبوب غالباً على حبّه للدعة والراحة؛ لأنّه يوازي لذّته الغالبة على لذّة الدعة والراحة، ويكون وحده كافياً للغلبة على المزاحم(1).


(1) قد تقول: إنّه يوجد في طرف الدعة والراحة شيئان: حبّه للدعة والراحة، والتذاذه بهما، وفي طرف المبدأ النبيل أيضاً يوجد شيئان: حبّه للمبدأ النبيل، والتذاذه بتحقيقه. فصحيح: أنّ التذاذه بالمبدأ النبيل غالبٌ على التذاذه النفسيّ بالدعة والراحة، وبالتالي يكون حبّه لذاك المبدأ غالباً على حبّه للدعة والراحة، لكن هذا لا يعني غلبة حبّه للمبدأ، أو لله، أو لرضوان الله، أو ما إلى

43



نعم، لا شكّ أنّه يحصل ـ إضافة إلى ما حصل عليه من الفضيلة ـ على لذّة فائقة أيضاً، ولكنّها واقعة تحت الشعاع لما يطلبه من مبدأ أو فضيلة، أو رضا الله سبحانه وتعالى، فذاك المبدأ أو حبّ الله هو محرّكه الحقيقيّ، وتترتّب على ذلك صدفةً اللذّة والانبساط كزيادة خير.

وقد اتّضح بكلّ ما شرحناه: أنّ المطيع تنقسم إطاعته ـ بحسب الدوافع النفسيّة ـ إلى ثلاثة أقسام:

الأوّل: دافع اللذّة أو الألم الثابتين بالثواب والعقاب، وتلك طاعة التجّار أو العبيد.

والثاني: المزدوج من دافع حبّ الطاعة ورضوان الله، ودافع اللذّة والألم، وتلك طاعة الخواصّ.

والثالث: دافع حبّ الله سبحانه وتعالى وتحصيل رضاه، وتلك طاعة خاصّة الخواصّ حيث يكون التذاذه بالطاعة أيضاً مندكّاً تحت داعويّة أصل الطاعة.


ذلك على مجموع حبّه للدعة والراحة والتذاذه بهما، فقد يُدّعى: أنّ الغلبة على المجموع لا تكون إلّا بعد انضمام الالتذاذ بذاك المحبوب الشريف إلى حبّه.

والجواب: أنّ هذا غفلة عن الفرق بين حبّ الدعة والراحة وحبّ الله، أو حبّ رضوان الله، أو حبّ الفضائل ونحو ذلك، أو قل: هذا غفلة عموماً عن اللذائذ المادّيّة؛ وذلك لأنّه في اللذائذ المادّيّة لايتصوّر محرّكان ينضمّ أحدهما إلى الآخر؛ لأنّ الحبّ في المادّيات ليس إلّا حبّاً للذّة، أو للفرار عن الألم، ولولا التذاذه بالدعة والراحة لما أحبّهما، فليس حبّهما شيئاً جديداً يضاف إلى اللذّة في الداعويّة، في حين أنّه في الحبّ المعنويّ تكون اللذّة في طول الحبّ، وليس العكس؛ فلأنّ الشخص يحبّ ابنه مثلاً وراحة ابنه يلتذّ براحته، لا العكس.

44



والالتفات إلى ما قلناه لو لم ينفعنا في ارتقائنا السلوكيّ إلى الله سبحانه وتعالى في مرقاة هذه الكمالات، فلا أقلّ من أن يكون نفعه لنا عبارة عن الاعتصام في مقابل صفة العُجب؛ لأنّنا ما لم نصل إلى المرحلة الثالثة، وهي داعويّة نفس الطاعة ورضوان الله دون الالتذاذ بهما، أو على الأقلّ الثانية، وهي الدافع المزدوج، فنحن ـ في الحقيقة ـ قد عبدنا لذّتنا وعشقنا ذاتنا، فأيّ استحقاق لنا للثواب؟! وأيّة عبوديّة تكون هذه العبوديّة؟!

وأنا لا أقصد بنفي استحقاق الثواب نفيه من باب: أنّنا مملوكون ملكيّة حقيقيّة لله، فلا نستحقّ شيئاً منه تعالى في قبال طاعتنا إيّاه، ولا نفيه من باب: أنّ الاستحقاق إنّما يكون لمن أعطى من نفسه شيئاً لغيره، ونحن كلّ ما أعطيناه لله سبحانه كان من الله لا من أنفسنا كي نستحقّ شيئاً بالمقابل، فإنّ أمثال هذه الاُمور لاتختصّ بنا، بل تشمل حتّى المعصومين(عليهم السلام).

بل أقول بغضّ النظر عن هذه النكتة: إنّنا غير مستحقّين للثواب بعقليّة مكافأة الإحسان، لأنّنا ـ في الحقيقة ـ لم نعمل له، بل عملنا لأنفسنا، فلا مكافأة على أعمالنا إلّا بفضل الله ورحمته ورأفته.

نعم، تصحّ في العرف الفقهيّ عباداتنا؛ لأنّها تشتمل على القربة بالمعنى المقصود في الفقه، حيث قرّروا فيه كفاية الداعي إلى الداعي القربيّ، وهذا موجود في المقام؛ لأ نّا نعمل بداعي الامتثال والطاعة وإن كان الداعي لنا إلى هذا الامتثال والطاعة ثوابه، أو الفرار من عقابه، أو الالتذاذ بطاعته، إلّا أنّ هذا ـ كما ترى ـ حيلة شرعيّة علّمتنا نفس الشريعة إيّاها وقبلها الله منّا بقبول حسن بلطفه وكرمه، وإلّا لهلكنا جميعاً، إلّا أنّ هذا لا يعني: أنّ الاستحقاق إذن أصبح واقعيّاً (بعد غضّ النظر عن المملوكيّة وعدم الواجديّة الذاتيّة)، فغير الواصل إلى ابتغاء رضا الله لأنّه رضاه لا لنعيم الجنّة، ولا للفرار عن الحجيم إن كان مطيعاً

45

هذا بناءً على كون مقصود المحقّق النائينيّ (رحمه الله): أنّ الدخيل في موضوع حكم العقل بلزوم الامتثال هو عدم صدور الترخيص ولو منفصلاً، كما هو ظاهر عباراته ولعلّه صريحها. وأمّا لو فرض كفاية عدم الترخيص المتّصل في حكم العقل بالوجوب، لزم من ذلك: أنّه عند ورود الترخيص المنفصل يقع التعارض بين البيان المنفصل وحكم العقل، وهذا غير معقول، بينما على مسلكنا يكون التعارض بين دلالتين لفظيّتين، ولابدّ من إعمال قواعد التعارض والجمع، ولا بأس بذلك.

وأمّا الاحتمال الثالث: وهو أن تكون الدلالة على الوجوب لفظيّة بمقدّمات الحكمة، فقد قرّب ذلك المحقّق العراقيّ (رحمه الله) بما يرجع حاصله إلى أنّ الأمر مادّة أو صيغة يكون دالّاً بمدلوله الوضعيّ على إرادة المولى وطلبه، وهذه الإرادة أمرها دائر بين أن تكون إرادة قويّة وهي الوجوب، أو ضعيفة وهي الاستحباب، والإرادة القويّة تكون ما به الامتياز لها عن الإرادة الضعيفة أيضاً هي الإرادة،



فهو في مرحلة العرفان يكون صاعداً من مستوىً تحت الصفر إلى مستوى الصفر، لا أكثر من ذلك، ومن يلتفت إلى ذلك كيف يبتلي بالعجب؟!

أمّا من صعد من هذه المرتبة إلى ابتغاء مرضاة الله تعالى وإرادة ذاته عزّ وجل، فهو ليس بحاجة إلى ما قلناه في الارتداع عن العجب، بل الذي يردعه عن العُجب قول إمامنا زين العابدين(عليه السلام): «وما قدر أعمالنا في جنب نعمك، وكيف نستكثر أعمالاً نقابل بها كرمك»(1).

اللّهمّ ارزقنا توفيق الطاعة، وبُعد المعصية، وعرفان الحرمة، إنّك أنت السميع المجيب بمحمّد وآله الطاهرين(عليهم السلام).


(1) دعاء أبي حمزة الثمالي لأسحار ليالي شهر رمضان.

46

فإنّها تمتاز عن الضعيفة بقوّة الإرادة ودرجة زائدة من الإرادة، بينما الإرادة الضعيفة ما به الامتياز لها عن القويّة ليست هي الإرادة، بل عدم الإرادة؛ فإنّ ضعف الإرادة عبارة عن عدم تلك الدرجة الزائدة من الإرادة، إذن فلو كانت ما في نفس المولى هي الإرادة القويّة فكلّ ما في نفسه إرادة؛ لأنّ ما به الاشتراك وما به الامتياز كلاهما إرادة، فاللفظ دالّ على كلّ ما في نفس المولى؛ إذ هو دالّ على الإرادة، ولو كانت ما في نفس المولى هي الإرادة الضعيفة فليس كلّ ما في نفسه الإرادة؛ لأنّ ما به الاشتراك بين الضعيفة والقويّة وإن كانت هي الإرادة، لكن ما به الامتياز للضعيفة عبارة عن عدم الإرادة، فاللفظ لا يدلّ على كلّ ما في نفس المولى، وإذا دار الأمر بين أن يكون ما في نفس المولى كلّه هو المبرز باللفظ أو يكون بعض ما في نفسه شيئاً لم يبرز باللفظ، فمقدّمات الحكمة تعيّن الأوّل(1).

وهذا البيان وإن كان صناعيّاً في نفسه لا ترد عليه جملة ممّا اُورد عليه، لكن يرد عليه: أنّ الإطلاق ومقدّمات الحكمة إنّما هي عبارة عن ظهور عرفيّ وحاليّ يقتضي: أنّه متى ما دار الأمر بين كون مرام المتكلّم سنخ مرام يفي به كلامه وليست فيه مؤونة زائدة في نظر العرف، وكونه سنخ مرام فيه مؤونة زائدة في نظر العرف لم يفِ بها الكلام، كان مقتضى الإطلاق هو الأوّل. وأمّا لو فرض: أنّ أحدهما ليست فيه مؤونة والآخر فيه مؤونة في نظر العقل لا العرف، فهذا لا يكفي لتعيين ما ليست فيه مؤونة في مقابل ما فيه مؤونة بمقدّمات الحكمة، وما ذكر من أنّ الإرادة الشديدة ما به الامتياز وما به الاشتراك فيها كلّه إرادة بخلاف الإرادة الضعيفة؛ حيث إنّ ما به الامتياز فيها عبارة عن عدم الإرادة، فهذا يكون بحسب التحليل



(1) راجع المقالات، ج 1، ص 208 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلاميّ، ونهاية الأفكار، ج 1، ص 192 بحسب طبعة جامعة المدرّسين بقم.

47

العقليّ، وأمّا بالنظر العرفيّ فلا يرى أنّ أحدهما فيه مؤونة في مقابل الآخر.

وبهذا ظهر: أنّ المقصود ليس دعوى: أنّ العرف غير ملتفت تفصيلاً إلى ما ذكره المحقّق العراقيّ (رحمه الله)حتّى يقال ـ كما ذكر المحقّق العراقيّ في مقالاته ـ: إنّ هذا المطلب وإن لم يلتفت إليه العرف تفصيلاً، لكنّه مركوز في نفسه، بل المقصود: أنّه حتّى إذا شرح له هذا المطلب لا يرى مؤونة في أحدهما في مقابل الآخر بما هو إنسان عرفيّ، فهو لا يصدّق بالفرق بينهما في المؤونة بما هو عرف وإن كان قد يصدّق بذلك بما هو فيلسوف.

نعم، هنا بيان آخر لتحليل الإطلاق أمتن من هذا البيان، وهو يتوقّف على مقدّمة حاصلها: أنّه كان المعروف بين جملة من المتقدّمين أنّ الوجوب مركّب من طلب الفعل مع النهي عن الترك، والاستحباب مركّب من طلب الفعل والترخيص في الترك، فهما يشتركان في الجزء الأوّل، وأحدهما يمتاز بالمنع من الترك، والآخر يمتاز بالترخيص في الترك، فإذا بنينا على هذا لم يمكن إجراء الإطلاق؛ إذ الأمر يدلّ على الجزء المشترك وهو طلب الفعل، وأمّا أنّه: هل انضمّ إليه النهي عن الترك، أو الترخيص في الترك، فلا يفي به كلام المولى، ولكن في مقابل هذا الكلام وجه آخر، وهو: أنّ الاستحباب وإن كان مركّباً من جزءين وجوديّين: الطلب والترخيص في المخالفة، لكن الوجوب ليس مركّباً من جزءين وجوديّين، وإنّما هو مركّب من جزء وجوديّ وهو الطلب وجزء عدميّ وهو عدم الترخيص في المخالفة، لا وجوديّ وهو النهي عن المخالفة؛ إذ النهي عن المخالفة لا يكفي في كون الطلب وجوبيّاً، فإنّنا ننقل الكلام إلى ذاك النهي، فإنّه أيضاً كالأمر ينقسم إلى إلزاميّ وهو ما منع مثلاً عن مخالفته، وكراهتي وهو ما رخّص في مخالفته.

فإذا فرض: أنّ الوجوب مركّب من الجزء المشترك بين الوجوب والندب وهو الطلب، وجزء عدميّ وهو عدم الترخيص في الترك، والاستحباب مركّب من ذاك

48

الجزء المشترك وجزء وجوديّ وهو الترخيص في الترك، قلنا: إنّ الأمر يدلّ على الجزء المشترك وهو الطلب، وما هو مرام المولى: إمّا هو الطلب مقيّداً بخصوصيّة وجوديّة وهي الترخيص في الترك، أو هو الطلب مقيّداً بعدم تلك الخصوصيّة، وكلّما دار أمر القيد في مرام المولى بين خصوصيّة وجوديّة وعدمها، فإذا نصب قرينة على الخصوصيّة الوجوديّة ثبتت، وإلّا فنفس عدم نصب القرينة على الخصوصيّة الوجوديّة قرينة على الخصوصيّة العدميّة، كما هو الحال في المطلق والمقيّد على رأي المشهور، حيث إنّ الإطلاق اللحاظيّ عبارة عن لحاظ عدم القيد. هذا.

ولكن الصحيح: أنّ افتراض كون الوجوب في الأمر مستفاداً من الإطلاق ـ سواء فرض بالتقريب الذي نقلناه عن المحقّق العراقيّ (رحمه الله) أو فرض بهذا التقريب الثاني الذي بيّنّاه ـ لا يتمّ بنحو نستغني به عن الدلالة الوضعيّة على الوجوب؛ إذ يرد عليه: أنّه لو تمّ الإطلاق بأحد التقريبين فإنّما يجري في بعض الموارد لا في سائر الموارد؛ إذ يحتاج الإطلاق في المقام إلى مؤونة لا توجد دائماً. وتوضيح ذلك يتوقّف على بيان إجماليّ لكبرى الإطلاق وصغرياته، وتفصيله موكول إلى بحث المطلق والمقيّد، فنقول: إنّ أساس مقدّمات الحكمة وروحها هو أصل عقلائيّ وظهور حاليّ، وهو أصالة كون مرام المتكلّم لا يزيد على مقدار مدلول كلامه، وأنّه يبيّن كلّ مرامه. ولتطبيق هذه الكبرى على المصاديق ثلاث حالات:

الحالة الاُولى: أن تكون الكبرى منطبقة على المورد حقيقةً وبالدقّة العقليّة بلاحاجة إلى فرض مسامحة عرفيّة، وذلك من قبيل الإطلاق الذاتيّ في أسماء الأجناس على مبنانا، حيث نقول في مثل (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ): إنّنا لانحتاج إلى الإطلاق اللحاظيّ بمعنى فرض لحاظ عدم القيد في مقابل التقييد اللحاظيّ، بل من الجائز أن يكون المقصود من البيع هو الجامع بين المطلق اللحاظيّ، والمقيّد اللحاظيّ، وهو ذات الطبيعة الموضوع لها اسم البيع، والمطلق الذاتيّ بذاته يسري

49

إلى كلّ أفراد الطبيعة، فيثبت الحكم لكلّ الأفراد بلاحاجة إلى الإطلاق اللحاظيّ، فلو كان مقصود المولى هو ذات الطبيعة، فمرامه لا يزيد على مدلول كلامه حقيقةً، ولو كان مقصوده البيع العقديّ مثلاً، فمرامه يزيد على مدلول كلامه، فتطبّق على ذلك أصالة كون مرامه لايزيد على مدلول كلامه، ويثبت المطلق الذاتيّ في مقابل المقيّد، وهو المطلوب.

الحالة الثانية: أن لا تنطبق الكبرى على المورد حقيقةً، لكنّها تنطبق بالمسامحة العرفيّة، وذلك في مورد نقطع بأنّ مرامه يزيد على مدلول كلامه، إلّا أنّ الزيادة مردّدة بين ما لا يراه العرف مؤونة زائدة وما يراه كذلك، فكأنّه يرى العرف ـ على تقدير إرادة الأوّل ـ: أنّ مرامه لا يزيد على مدلول كلامه، فيتعيّن في مقابل الثاني بأصالة كون مرامه لا يزيد على مدلول كلامه بعد إدخال المورد في مصاديق هذه الكبرى بالمسامحة العرفيّة، وذلك من قبيل الإطلاق اللحاظيّ في أسماء الأجناس كالبيع في (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) بناءً على رأي جماعة يقولون: إنّ موضوع الحكم الشرعيّ: إمّا هو المطلق اللحاظيّ، أو المقيّد اللحاظيّ، ولا يعقل أن يكون ذات الطبيعة المحفوظة في ضمن المطلق والمقيّد، فبناءً على هذا المبنى لا نشكّ في أخذ خصوصيّة زائدة في مرامه غير موجودة في كلامه؛ لأنّ اسم الجنس لا يدلّ وضعاً إلّا على الطبيعة الجامعة بين المطلق والمقيّد، ولكن العرف يرى بالمسامحة: أنّه لو كان مراده هو المطلق فقد بيّن تمام مرامه، ولو كان مراده هو المقيّد لم يبيّن تمام مرامه، فيعيّن الأوّل بتطبيق قانون أصالة عدم زيادة مرام المتكلّم على مدلول كلامه.

الحالة الثالثة: أن لا تنطبق الكبرى على المورد حتّى بالمسامحة، وعندئذ نحتاج إلى الاستعانة بمؤونة زائدة على مقدّمات الحكمة، كما هو الحال فيما إذا قطعنا بأنّ مرامه يزيد على مدلول كلامه، وكانت الزيادة مردّدة بين زيادة أخفّ

50

وزيادة أشدّ، ولكن الزيادة الأخفّ ليست بنحو يتسامح فيها العرف، ويفرضها عدم الزيادة، كما في الحالة الثانية، بل كلتا الزيادتين ملحوظتان للعرف، فلا معنى لتطبيق أصالة عدم زيادة مرامه على مدلول كلامه ولو بالمسامحة العرفيّة، فنحتاج إلى مؤونة زائدة على كبرى مقدّمات الحكمة، وهي: أن نعرف صدفةً بقرينة من القرائن أنّ المتكلّم بالرغم من سكوته عن كلتا الزيادتين هو في مقام بيان الزيادة، إذن فقد اعتمد في مقام بيان الزيادة على نفس السكوت، فإذا دار الأمر بين جعل عدم بيان الأشدّ قرينة على الأخفّ، أو جعل عدم بيان الأخفّ قرينة على الأشدّ، تعيّن الأوّل طبعاً في نظر العرف على الثاني، ففي مثل ذلك لم تنطبق تلك الكبرى الأوّليّة وهي أصالة كون مرامه لا يزيد على مدلول كلامه؛ إذ ـ على أيّ حال ـ قد زاد مرامه على مدلول كلامه حتّى عرفاً، وإنّما استعنّا بعناية زائدة على مقدّمات الحكمة، وهي إحراز أنّ المولى في مقام بيان الزيادة بالرغم من سكوته عنها، وهذا الإحراز أمر اتّفاقيّ قد يحصل وقد لا يحصل، ومثال ذلك ما نحن فيه، فإنّ الأمر إنّما يدلّ على الطلب، ومرام المولى فيه زيادة على الطلب ملحوظة حتّى عند العرف، وتلك الزيادة مردّدة بين زيادة أخفّ وهي عدم الترخيص في الخلاف وزيادة أشدّ وهي الترخيص في الخلاف، أو بين زيادة أخفّ وهي شدّة الإرادة وزيادة أشدّ وهي عدم الإرادة الزائدة، حيث إنّ الأمر إنّما هو موضوع للجامع بين الإرادة الشديدة والخفيفة، فشدّة الإرادة وإن كانت من سنخ الإرادة لكنّها خارجة عن الموضوع له، فهنا لابدّ من الاستعانة بعناية زائدة غير أصالة كون مرام المولى لا يزيد على مدلول كلامه، وتلك العناية هي إحراز كون المولى بالرغم من سكوته بصدد بيان الزيادة، فقد فرض سكوته عن إحدى الزيادتين بياناً للزيادة الاُخرى حتّى تتعيّن عندئذ في نظر العرف الزيادة الأخفّ وهي شدّة الإرادة، أو عدم الترخيص في الخلاف، وهذه العناية الزائدة ـ كما ترى ـ لا تحصل دائماً وفي