المولفات

المؤلفات > مباحث الاُصول القسم الأوّل - الجزء الثاني

34



ولا تكره الألم، وحتّى الألوان الرائعة من الإيثار التي نشاهدها في الإنسان ونسمع بها عن تأريخه تخضع ـ في الحقيقة ـ أيضاً لتلك القوّة المحرّكة الرئيسة: (غريزة حبّ الذات) فالإنسان قد يؤثر ولده أو صديقه على نفسه، وقد يضحّي في سبيل بعض المثل والقيم، ولكنّه لن يقدم على شيء من هذه البطولات ما لم يحسّ فيها بلذّة خاصّة ومنفعة تفوق الخسارة التي تنجم عن إيثاره لولده وصديقه، أو تضحيته في سبيل مثل من المُثُل التي يؤمن بها، وهكذا يمكننا أن نفسّر سلوك الإنسان بصورة عامّة في مجالات الأنانيّة والإيثار على حدّ سواء، ففي الإنسان استعدادات كثيرة للالتذاذ بأشياء متنوّعة: مادّيّة كالالتذاذ بالطعام والشراب وألوان المتع الجنسيّة وما إليها، أو معنويّة كالالتذاذ الخلقيّ والعاطفيّ بقيم خلقيّة، أو أليف روحيّ، أو عقيدة معيّنة حين يجد الإنسان تلك القيم، أو ذلك الأليف، أو هذه العقيدة جزءاً من كيانه الخاصّ.

وهذه الاستعدادات التي تهيّء الإنسان للالتذاذ بتلك المتع المتنوّعة تختلف في درجاتها عند الأشخاص، وتتفاوت في مدى فعليّتها باختلاف ظروف الإنسان وعوامل الطبيعة والتربية التي تؤثّر فيه، فبينما نجد أنّ بعض تلك الاستعدادات تنضج عند الإنسان بصورة طبيعيّة كاستعداده للالتذاذ الجنسيّ مثلاً نجد أنّ ألواناً اُخرى منها قد لا تظهر في حياة الإنسان، وتظلّ تنتظر عوامل التربية التي تساعد على نضجها وتفتّحها. وغريزة حبّ الذات من وراء هذه الاستعدادات جميعاً تحدد سلوك الإنسان وفقاً لمدى نضج تلك الاستعدادات، فهي تدفع إنساناً إلى الاستئثار بطعام على آخر وهو جائع، وهي بنفسها تدفع إنساناً آخر لإيثار الغير بالطعام على نفسه؛ لأنّ استعداد الإنسان الأوّل للالتذاذ بالقيم الخلقيّة والعاطفيّة الذي يدفعه إلى الإيثار كان كامناً، ولم تتح له عوامل التربية المساعدة على تركيزه وتنميته، بينما ظفر الآخر بهذا اللون من التربية، فأصبح يلتذّ بالقيم