81


سكناها وهكذا، فتبيّن: أنّ قوله(عليه السلام): ﴿أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾مسوق لبيان الحجّة على تعيّنه تعالى للعبادة إذا فرض تردّد الأمر بينه وبين سائر الأرباب التي تدعى من دون الله، لا لبيان أنّه تعالى هو الحقّ الموجود دون غيره من الأرباب، أو أنّه تعالى هو الإله الذي تنتهي إليه الأشياء بدءاً وعوداً دونها، أو غير ذلك؛ فإنّ الشيء إنّما يسمّى خيراً من جهة طلبه وتعيينه بالأخذ به بنحو. ثُمّ إنّه(عليه السلام)سمّى آلهتهم أرباباً متفرّقين لأنّهم كانوا يعبدون الملائكة، وهم عندهم صفات الله سبحانه، أو تعيّنات ذاته المقدّسة التي تستند إليها جهات الخير والسعادة في العالم. ﴿أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾أي: إنّه تعالى واحد، لكن لا واحد عدديّ إذا اُضيف إليه آخر صار اثنين، بل واحد لا يمكن أن يفرض قباله ذات إلاّ وهي موجودة به لا بنفسها، ولا أن يفرض قباله صفة له إلاّ وهي عينه، وإلاّ صارت باطلة، كلّ ذلك لأنّه غير محدود بحدّ، ولا منته إلى نهاية، وتبطل بذلك أيّ تفرقة مفروضة بين الذات والصفات.

﴿مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إلاَّ أسْماءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم...﴾بدأ(عليه السلام)بخطاب صاحبيه في السجن أوّلا، ثُمّ عمّم الخطاب للجميع؛ لأنّ الحكم مشترك بينهما وبين غيرهما من عبدة الأوثان، ونفى العبادة إلاّ عن الأسماء

82


كناية عن أنّه لا مسمّيات وراء هذه الأسماء، فتقع العبادة في مقابل الأسماء كلفظة إله السماء، وإله الأرض وإله البحر، وإله البر، والأب والاُمّ وابن الإله، ونظائر ذلك. وقد أكّد كون هذه الأسماء ليس وراءها مسمّيات بقوله: ﴿أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم﴾ فإنّه في معنى الحصر، أي: لم يضع هذه الأسماء أحد غيركم، بل أنتم وآباؤكم وضعتموها، ثُمّ أكّده ثانياً بقوله: ﴿ما أَنْزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَان﴾والسلطان: هو البرهان؛ لتسلّطه على العقول، أي: ما أنزل الله بهذه الأسماء أو بهذه التسمية من برهان يدلّ على أنّ لها مسمّيات وراءها. ﴿إِنِ الْحُكْمُ إلاَّ لِلّهِ﴾إذ الحكم في أمر مّا لا يستقيم إلاّ ممّن يملك تمام التصرّف، ولا مالك للتصرّف والتدبير في اُمور العالم وتربية العباد حقيقة إلاّ الله سبحانه. ومعنى الآية: ما تعبدون من دون الله إلاّ أسماء خالية من المسمّيات، لم يضعها إلاّ أنتم وآباؤكم من غير أن ينزل الله سبحانه من عنده برهاناً يدلّ على أنّ لها شفاعة عند الله، أو شيئاً من الاستقلال في التأثير؛ حتّى يصحّ لكم دعوى عبادتها لنيل شفاعتها، أو طمعاً في خيرها أو خوفاً من شرّها. وأمّا قوله: ﴿ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ﴾فيشير به إلى ما ذكره من توحيد الله، ونفي الشريك عنه. والقيّم هو القائم بالأمر، القويّ على تدبيره. والمعنى: أنّ دين التوحيد وحده هو القويّ على إدارة المجتمع، وسوقه إلى

83


منزل السعادة، والدين المحكم غير المتزلزل الذي فيه الرشد من غيرغىّ، والحقّيّة من غير بطلان، ولكنّ أكثر الناس ـ لاُنسهم بالحسّ والمحسوس وإنهماكهم في زخارف الدنيا الفانية حرموا سلامة القلب، واستقامة العقل ـ لا يعلمون ذلك، وإنّما يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا، وهم عن الآخرة معرضون.

﴿يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً...﴾قوله: ﴿أَمَّا أَحَدُكُمَا...﴾تأويل رؤيا من قال منهما: ﴿إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً﴾ وقوله: ﴿وَأَمَّا الآخَرُ...﴾تأويل لرؤيا الآخر. وقوله: ﴿قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ﴾لا يخلو من إشعار بأنّ الصاحبين، أو أحدهما كذّب نفسه في دعواه الرؤيا، ولعلّه الثاني لمّا سمع تأويل رؤياه بالصلب وأكل الطير من رأسه.

﴿وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاج مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ...﴾الضمائر في قوله: ﴿قَالَ﴾و ﴿ظَنَّ﴾و ﴿لَبِثَ﴾راجعة إلى يوسف، أي: قال يوسف للذي ظنّ هو أنّه سينجو منهما: اذكرني عند ربّك بما يثير رحمته، لعلّه يخرجني من السجن.

وإطلاق الظنّ على اعتقاده مع تصريحه لهما بأنّه من المقضيّ المقطوع به،

84

الله الواحد القهّار خير من أرباب متفرّقين:

يبدو أنّهم كانوا مؤمنين بالله، وإنّما كانوا يعبدون الأصنام ليقرّبوهم إلى الله زلفى، ولهذا احتجّ يوسف عليهم باحتجاجين:

الأوّل: أنّ مَن تؤمنون به مِن الإله الواحد القهّار تكون عبادته رمزاً للوحدة، وشدّاً للجمع بعضهم ببعض، في حين أنّ عبادة الأصنام تكون رمزاً للفرقة، و سبباً للتشتيت والاختلاف ﴿أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾.

والثاني: أنّ الأصنام إن هي إلاّ من صنعكم، وتسميتكم إيّاها بالآلهة إن هي إلاّ بجعلكم وافتراضكم، فإن كنتم ترون ربوبيّتها ذاتيّة، فكيف يمكن ذلك فيما صنعتموه و سمّيتموه؟! ﴿مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِإلاَّ أَسْماء سَمَّيْتُمُوهَا﴾ وإن كنتم ترون أنّ ربوبيّتها مجعولة من قبل الله


وتصريحه بأنّ ربّه علّمه تأويل الأحاديث لعلّه من إطلاق الظنّ علىمطلق الاعتقاد، وله نظائر في القرآن كقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ﴾البقرة (46). وقوله: ﴿فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ...﴾الضميران راجعان إلى الذي، أي: فأنسى الشيطان صاحبه الناجي أن يذكره لربّه، أو عند ربّه، فلبث يوسف في السجن بضع سنين، والبضع ما دون العشرة.

85

فـ ﴿ما أَنْزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَان إِنِ الْحُكْمُ إلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إلاَّ إِيَّاهُ﴾.

قوله عزّ من قائل: ﴿قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ﴾ روي في كنز الدقائق(1) عن تفسير عليّ بن إبراهيم: أنّ الخبّاز لم يكن رأى تلك الرؤيا، وكان كاذباً، فحينما سمع ذاك التأويل الُمخيف للرؤيا، جحد الرجل، فقال: إنّي لم أرَ ذلك، فأجابه يوسف(عليه السلام) بقوله: ﴿قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ﴾.

أقول: يحتمل أيضاً أنّ الخبّاز كان صادقاً في رؤياه، ولكن تخيّل أنّ إنكار الرؤيا يدفع عنه الشرّ.

قوله تعالى: ﴿بِضْعَ سِنِينَ﴾: يقال: إنّ البضع ما بين الثلاث إلى التسع، وروي في كنز الدقائق(2) عن تفسير العيّاشيّ، عن الصادق(عليه السلام)قال: «سبع سنين».

* * *

 



(1) كنز الدقائق، ج 6، ص 313.

(2) المصدر السابق.

86

 

 

 

﴿وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَات سِمان يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاَت خُضْر وَأُخَرَ يَابِسَات يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ * قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلاَم وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ * وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّة أَنَاْ أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ * يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَات سِمان يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاَت خُضْر وَأُخَرَ يَابِسَات لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ * قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبَاً فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ﴾(1).

 



(1) الآية: 43 ـ 49.

﴿وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَات سِمان﴾ قوله: ﴿إِنِّي أَرَى﴾حكاية حال ماضية، ومن المحتمل أنّها كانت رؤيا متكرّرة. والسمان: جمع سمينة.

87


والعجاف: جمع عجفاء، بمعنى المهزولة. والإفتاء: إفعال من الفتوى والفتيا، وهي الجواب عن حكم المعنى. تعبرون: من العبر، وهو بيان تأويل الرؤيا، وهو مأخوذ من عبور النهر ونحوه، كأنّ العابر يعبر من الرؤيا إلى ما ورائها من التأويل، وهو حقيقة الأمر التي تمثّلت لصاحب الرؤيا في صورة خاصّة مألوفة له. ومعنى الآية: وقال ملك مصر لملئه: إنّي أرى في منامي سبع بقرات سمان يأكلهنّ سبع بقرات مهازيل، وأرى سبع سنبلات خضر وسنبلات اُخر يابسات، يا أيّها الملأ، بيّنوا لي ما عندكم من حكم رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون.

﴿قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلاَم...﴾الأحلام: جمع حُلُم بضمّتين، وقد يسكّن وسطه، هو ما يراه النائم في منامه. والضغث قبضة ريحان أو حشيش أو قضبان، وجمعه أضغاث، وبه شبّه الأحلام المختلفة التي لا تتبيّن حقائقها. وتسمية الرؤيا الواحدة بأضغاث أحلام كأنّه بعناية دعوى كونها صوراً متفرّقة مختلطة مجتمعة من رؤىً مختلفة، لكلّ واحدة منها تأويل على حدة، فإذا اجتمعت واختلطت عسر على المعبّر الوقوف على تأويلها، والإنسان كثيراً ما ينتقل في نومة واحدة من رؤيا إلى اُخرى، ومنهما إلى ثالثة وهكذا، فإذا اختلطت أبعاضها كانت أضغاث أحلام، وامتنع الوقوف على حقيقتها.

88


ومعنى الآية: قالوا ـ أي: قال الملأ للملك ـ: ما رأيته أضغاث أحلام، وأخلاط من منامات مختلفة، وما نحن بتأويل هذا النوع من المنامات بعالمين، أو وما نحن بتأويل جميع المنامات بعالمين، وإنّما نعلم تأويل الرؤى الصالحة.

﴿وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّة﴾الاُمّة: الجماعة التي تقصد لشأن، ويغلب استعمالها في الإنسان، والمراد بها هاهنا عِدّة سنين، وهي المدّة التي نسي فيها هذا القائل ـ وهو ساقي الملك ـ أن يذكر يوسف عند ربّه، وقدسأله يوسف ذلك، فأنساه الشيطان ذكر ربّه، فلبث يوسف في السجن بضع سنين. والمعنى: وقال الذي نجا من السجن من صاحبي يوسف، وادّكربعد عِدّة سنين ما سأله يوسف في السجن حين أوّل رؤياه: أنا اُنبّئكمبتأويل ما رآه الملك في منامه، فأرسلوني إلى يوسف في السجن حتّى اُخبركم بتأويل ذلك.

﴿يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا...﴾في الكلام حذف وتقدير إيجازاً، والتقدير: فأرسلوه، فجاء إلى يوسف في السجن، فقال: يا يوسف أيّها الصدّيق، أفتنا في رؤيا الملك. وذكر الرؤيا، وذكر أنّ الناس في انتظار تأويله. وهذا الاُسلوب من لطائف أساليب القرآن الكريم. وسمّى يوسف صدّيقاً وهو كثير الصدق المبالغ فيه؛ لما كان رأى من صدقه فيما عبّر به منامه ومنام

89


صاحبه في السجن، واُمور اُخرى شاهدها من فعله وقوله في السجن. وقد ذكر متن الرؤيا من غير أن يصرّح أنّه رؤيا، فقال: ﴿أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَات سِمان يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاَت خُضْر وَأُخَرَ يَابِسَات﴾لأنّ قوله: ﴿أَفْتِنَا﴾وهو سؤال الحكم الذي يؤدّي إليه نظره، وكون المعهود فيما بينه وبين يوسف تأويل الرؤيا، وكذا ذيل الكلام يدلّ على ذلك ويكشف عنه. وقوله: ﴿لعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ﴾لعلّ الأوّل تعليل لقوله: ﴿أَفْتِنَا﴾، ولعلّ الثاني تعليل لقوله: ﴿أَرْجِعُ﴾، والمراد: أفتنا في أمر هذه الرؤيا، ففي إفتائك رجاء أن أرجع إلى الناس وأُخبرهم به، وفي رجوعي إليهم رجاء أن يعلموا به، فيخرجوا من الحيرة والجهالة.

﴿قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبَاً...﴾الدأب: إدامة السير، والدأب: العادة المستمرّة دائماً على حالة. وعليه فالمعنى: تزرعون سبع سنين زراعة متوالية مستمرّة. ومعنى الآية: ازرعوا سبع سنين متواليات، فما حصدتم فذروه في سنبله لئلاّيهلك، واحفظوه كذلك إلاّ قليلا، وهو ما تأكلون في هذه السنين.

﴿ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ...﴾ الشداد: جمع شديد من الشدّة بمعنى الصعوبة لما في سني الجدب والمجاعة من الصعوبة والحرج على الناس، أو هو من شدّ عليه: إذا كرّ، و هذا أنسب لما بعده من توصيفها بقوله: ﴿يَأْكُلْنَ مَا

90

رؤيا الملك وتأويل يوسف(عليه السلام):

قوله سبحانه: ﴿وَقَالَ الْمَلِكُ﴾ يحتمل أن يكون المقصود بالملكنفس عزيز مصر، ولكن روي في كنز الدقائق(1) عن مجمع البيان: أنّ


قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ﴾ وعليه فالكلام يشتمل على تمثيل لطيف، كأنّ هذه السنين سباع ضارية تكرّ على الناس لافتراسهم وأكلهم، فيقدّمون إليها ما ادّخروه عندهم من الطعام، فتأكله وتنصرف عنهم. والإحصان: الإحراز والادّخار.

﴿ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ...﴾ يقال: غاثه الله وأغاثه، أي: نصره، ويغيثه بفتح الياء وضمّها، أي: ينصره، وهو من الغوث بمعنى النصرة، وغاثهم الله يغيثهم من الغيث، وهو المطر، فقوله: ﴿فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ﴾إن كان من الغوث، كان معناه: ينصرون فيه من قبل الله سبحانه بكشف الكربة ورفع الجدب والمجاعة، وإن كان من الغيث، كان معناه: يمطرون فيرتفع الجدب من بينهم. وهذا المعنى الثاني أنسب بالنظر إلى قوله بعده: ﴿وَفِيهِ يَعْصِرُونَ﴾من العصر: وهو إخراج ما في الشيء من ماء أو دهن بالضغط، كإخراج ماء العنب والتمر للدبس وغيره، وإخراج دهن الزيت والسمسم للائتدام والاستصباح. والمعنى: ثُمّ يأتي من بعد ذلك ـ أي: ما ذكر من السبع الشداد ـ عام فيه تنبت أراضيهم أو يمطرون أو ينصرون، وفيه يتّخذون الأشربة والأدهنة من الفواكه والبقول.


(1) ج 6، ص 317.

91

عزيز مصر كان وزيراً للملِك فيما رواه الأكثرون، وأنّ الملك كان هو الوليد بن الريّان.

قوله تعالى: ﴿قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلاَم وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ﴾ يحتمل أن يكون هذان جوابين للملأ:

أحدهما: أنّنا لم نعلم تأويل الأحلام.

والثاني: أنّنا حتّى لو كنّا عالمين بتأويل الأحلام، فهذه من أضغاث الأحلام والتي لا تؤوّل.

ويحتمل أن يكون المجموع جواباً واحداً، وذلك بأن يكون اللام في ﴿الأَحْلاَمِ﴾ إشارة إلى تلك الأضغاث.

قوله عزّ من قائل: ﴿ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ﴾ يمكن أن يكون يغاث من الغيث، أي: ينزل عليهم الغيث، ويمكن أن يكون من الغوث، أي: يُنصرون بزوال القحط، ونتيجة المعنى واحدة، ويعصرون يعني: عصر الفواكه والدهون وغير ذلك، وهذا كناية عن وفور النعم.

وهذا المقطع من الزمان ـ وهي السنة الخامسة عشرة ـ لم يكن موجوداً في الرؤيا، ولعلّه(عليه السلام)استنبطه من تخصيص القحط في تأويل الرؤيا بأربع عشرة سنة.

ومن حكمته(عليه السلام) أنّ لغة الجواب لم تكن مجرّد لغة تعبير الرؤيا، بل

92

هي لغة التخطيط العمليّ لخمس عشرة سنة لحياتهم بما ينفعهم، فخطّط للسبعة الاُولى أن يهتمّوا بالزرع دأباً، أي: دوماً، وأن لا يأكلوا منه إلاّ قليلاً تحسّباً لمشكلة السبعة الثانية من السنين، وأن يبقوا الثمار في سنبلها؛ لكي تبقى سالمة بخلاف ما لو اُخرجت، أو طحنت، فيسرعإليها التسوّس، وخطّط للسنة الخامسة عشرة أن يبقوا لها في السنة السابقة قليلاً ممّا في السنبل؛ كي يستطيعوا الزرع في سنة الغيثأو الغوث.

* * *

 

93

 

 

 

﴿وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ * قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوء قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ﴾(1).

 



(1) الآية: 50 ـ 51.

﴿وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ...﴾في الكلام حذف وإضمار إيجازاً، والتقدير: وجاء الرسول وهو الساقي، فنبّأهم بما ذكره يوسف من تأويل الرؤيا، وقال الملك بعد ما سمعه: ائتوني به. وظاهر أنّ الذي أنبأه من جدب سبع سنين متوالية كان أمراً عظيماً، والذي أشار إليه من الرأي البيّن الصواب أعظم منه، وأغرب عند الملك المهتمّ بأمر اُمّته المعتني بشؤون مملكته، ولذلك أمر بإحضاره ليكلّمه ويتبصّر بما يقوله مزيد تبصّر. وقد راعى(عليه السلام)أدباً بارعاً في قوله للرسول: ﴿ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ﴾فلم يذكر امرأة العزيز بما يسوؤها، وإنّما أشار إلى النسوة اللاتي راودنه، ولم

94

يوسف(عليه السلام) ينتزع الاعتراف ببراءته:

قوله تعالى: ﴿قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ...﴾من حكمته(عليه السلام) أنّه حينما جاء الرسول قاصداً إخراجه من السجن لم يقبل


يذكرهنّ أيضاً بسوء إلاّ بأمر يظهر بالتحقيق فيه براءته و نزاهته من أيّ مراودة وفحشاء تنسب إليه، ولم يذكرهنّ بشيء من المكروه إلاّ ما في قوله: ﴿إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ﴾ وليس إلاّ نوعاً من بثّ الشكوى إلى ربّه.

﴿قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ... الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ﴾الخطب: الأمر العظيم الذي يكثر فيه التخاطب. وحصحص الحقّ، أي: وضح، وذلك بانكشاف ما يظهره. وقوله: ﴿قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ﴾ جواب عن سؤال مقدّر على ما في الكلام من حذف وإضمار إيجازاً، والتقدير: كأنّ سائلا يسأل، فيقول: فما الذي كان بعد ذلك؟ وما فعل الملك؟ فقيل: رجع الرسول إلى الملك، وبلّغه ما قاله يوسف، وسأله من القضاء، فأحضر النسوة، وسألهنّ عمّا يهمّ من شأنهنّ في مراودتهنّ ليوسف: ما خطبكنّ إذ راودتنّ يوسف عن نفسه؟ قلن: حاش لله ما علمنا عليه من سوء. فنزّهنه عن كلّ سوء، وشهدن أنّهنّ لم يظهر لهنّ منه ما يسوء فيما راودنه عن نفسه. فعند ذلك تكلّمت امرأة العزيز وهي الأصل في هذه الفتنة، واعترفت بذنبها، وصدّقت يوسف(عليه السلام) فيما كان يدّعيه من البراءة، قالت: الآن حصحص ووضح الحقّ، وهو: أنّه أنا راودته عن نفسه، وأنّه لمن الصادقين.

95

هو بذلك؛ لأنّ هذا كان يعني: أنّ يوسف غلام مجرم قد أدخله الجرم السجن، ثُمّ عفا عنه الملك وأفرج عنه، فأراد يوسف(عليه السلام) أن يأخذ منهم الاعتراف ببراءته، فامتنع من ترك السجن إلى أن يحقّقوا مع النسوة اللاتي قطّعن أيدهنّ: ما بالهنّ في كيدهنّ؟

ويبدو أنّ من أدبه ـ سلام الله عليه ـ أنّه لم يعرّض بزليخا امرأة العزيز، وإنّما عرّض بتلك النسوة برغم أنّ الأساس والأصل في سجنه طوال سنين كانت هي زليخا؛ وذلك لأنّها كانت ربّة البيت، واعتنت به على أحسن ما يكون في بيتها عدداً من السنين، وأكرمت مثواه، فكأنّها استحقّت عنده عدم التعريض المباشر بها برغم كلّ الجفاء والإيذاء بعد ذلك.

وحينما استنطقهنّ الملك اعترفن بطهارة يوسف ونزاهته، وحينما رأت امرأة العزيز ذلك قالت: ﴿الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ﴾.

* * *

96

 

 

 

﴿ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ * وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾(1).

 



(1) الآية: 52 ـ 53.

﴿ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ...﴾أي: إنّ اعترافي على نفسي بذلك ليعلم يوسف أنّي لم أخنه بالغيب؛ لأنّ العزيز سألها ولم يكن يوسف حاضراً. والخيانة: مخالفة الحقّ بنقض العهد في السرّ. والكيد: الاحتيال في إيصال الضرر إلى صاحبه، واللام في قوله ﴿لِيَعْلَمَ﴾ لام (كي)، ومعناها تعليق ما دخلت عليه بالفعل الذي قبله، بمعنى: أنّه وقع من أجله، وقوله: ﴿وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ﴾أي: لا يدعوهم إليها، ولا يرغّبهم فيها، وإنّما يفعلونها بسوء اختيارهم، فبناءً على أنّ الجملة هذه من كلام امرأة العزيز ـ كما يقتضيه ظاهر العبارة ـ فإنّها من أجل اعترافها الصريح بنزاهة يوسف، وما أخطأته في حقّه تقيم دليلين:

الأوّل: أنّ وجدانها ـ ويحتمل بقايا علاقتها بيوسف ـ لا يسمح لها أن

97

الآيتان من كلام يوسف(عليه السلام) أو امرأة العزيز؟

ذهب السيّد الطباطبائيّ(رحمه الله) في الميزان(1) إلى أنّ هاتين الآيتين هما من كلام يوسف الذي أرسله من السجن إلى المِلك، وعليه فالمعنى: أنّ يوسف(عليه السلام) طلب في ضمن ما أرسله: أنّكم قوموا بالفحص؛ ليعلم العزيز أنّي لم أخنه بالغيب في امرأته، وليس مقصودي بذلك تنزيه النفس، وإنّما ذلك منسوب إلى لطف الله بي؛ فإنّ النفس بحدّ ذاتها أمّارة بالسوء إلاّ ما رحم ربّي، فقوله: ﴿أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ﴾ لمّا لم يكن يخلو


تستر الحقّ أكثر من هذا.

الثاني: أنّه من مشاهدة الدروس المليئة بالعبر على مرور الزمن تجلّت لها هذه الحقيقة: وهي أنّ الله يرعى الصالحين، ولا يوفّق الخائنين في مرادهم أبداً؛ ولهذا بدأت الحجب تنقشع عن عينيها شيئاً فشيئاً، وتلمس الحقيقة، فلا عجب أن تعترف بهذا الاعتراف الصريح.

وتواصل امرأة العزيز القول: ﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي﴾والتبرئة: إزالة الشيء عمّا كان لازماً له؛ لأنّ النفس أمّارة بالسوء، أي: تنزع إلى السوء، فلست اُبرّئ نفسي من ذلك، والأمّارة: الكثيرة الأمر بالشيء.


(1) ج 11 من طبعة إسماعيليان، ص 196 ـ 199.

98

من شائبة دعوى الحول والقوّة، في حين أنّه هو من المخلَصين المتوغّلين في التوحيد الذين لا يرون لغيره تعالى حولاً ولا قوّة، بادر إلى نفي الحول والقوّة عن نفسه، ونسبةِ ما ظهر منه من عمل صالح وصفة جميلة إلى رحمة ربّه.

واستدلّ على هذا التفسير بوجوه، مهمّها وجه واحد، وهو: أنّ جملة﴿إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾تشتمل على معارف جليلة توحيديّة لا تصدر إلاّ عن بيوت الأ نبياء، ومَن في خطّ الأنبياء، لا عن بيوت المشركات وامرأة محاطة بها الأهواء.

ولكن الشيخ ناصر مكارم ـ حفظه الله ـ أصرّ(1) على أنّ هذا الكلام كلام امرأة العزيز.

وعليه فالمعنى: أنّ امرأة العزيز اعترفت بالحقّ قائلةً: إنّني أقول ذلك ليعلم يوسف أنّي لم أخنه بالغيب، وما اُبرّئ نفسي ممّا صدر عنّي من المراودة عن نفسه؛ فإنّ النفس لأمّارة بالسوء إلاّ ما رحم ربّي.

وخلاصة ما أفاده ـ حفظه الله ـ في المقام مايلي:

ذكر بعض من المفسّرين: أنّ الآيتين الأخيرتين من كلام يوسف



(1) تفسر الأمثل، ج 7، ص 230.

99

ذكره في السجن لرسول الملك، فهو يقول: إنّي أطلب أن تحقّقوا مع النسوة؛ كي يعلم العزيز أنّي لم أخنه بالغيب في امرأته، وفي نفس الوقت لا اُبرّئ نفسي، فالنفس بحدّ ذاتها أمّارة بالسوء إلاّ ما رحم ربّي.

قال حفظه الله: والظاهر: أنّ الدافع لهؤلاء إلى هذا التفسير هو: أنّهم لم يريدوا أن ينسبوا هذا المستوى من التنبّه والمعرفة إلى امرأة العزيز، في حين أنّه لا يبعد أن يصبح الإخفاق والانصدام لشخص في مقابل أهوائه وطيشه سبباً لتحقّق حالة الصحو والإحساس بالذنب والخجل(1)، وقد شوهد كثيراً أنّ الإخفاق في العشق المجازيّ أدّى إلى الانتهاء إلى التعشّق الحقيقيّ، وهو تعشّق الله سبحانه وتعالى، ويشهد لحصول هذا التنبّه لزليخا عدد من الروايات الواردة في حكاية حالها في السنين المتأخّرة من حياتها(2).



(1) خاصّة أنّه لم يثبت أنّها لم تكن تؤمن بالله تعالى، فلعلّها كانت تؤمن به، وكانت تعبد الأصنام بتخيّل أنّها تقرّبها إلى الله زلفى. (من المؤلّف دام ظلّه).

(2) من قبيل ما روي في الأماليّ عن الإمام الباقر(عليه السلام) من قول امرأة العزيزليوسف: «الحمد لله الذي جعل العبيد ملوكاً بطاعته، وجعل الملوك عبيداً بمعصيته». راجع الأماليّ للشيخ الطوسي(رحمه الله)، ص 456، بحسب نشر دار الثقافة بقم. وراجع البحار، ج 12، ص 269. (من المؤلّف دام ظلّه).

100

وقال حفظه الله: إنّ ربط هاتين الآيتين بكلام يوسف في السجن خلاف الظاهر، وبعيد غاية البعد، ولا يلائم أيّ معيار من معايير الفصاحة والبلاغة القرآنيّة:

فأوّلاً: قد ابتدأت الآية بكلمة ﴿ذَلِكَ﴾ وهي إشارة إلى كلام سابق لتعليله بعلّته، والكلام السابق هو كلام امرأة العزيز، و يكون إرجاعها إلى كلام يوسف الوارد مع الفاصل الكبير عجيباً وبعيداً غاية البعد.

وثانياً: كيف تلائم جملة: ﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ﴾كلام يوسف الذي هو بصدد إثبات براءة نفسه، وإنّما يناسب هذا الكلام مَن يكون قد صدرت عنه أقلّ زلّة، ونحن نعلم أنّ يوسف(عليه السلام)لم تصدر عنه أقلّ زلّة(1).

ومن طريف ما يحكى في التحوّل من التعشّق المجازيّ بعد الإخفاق في هذا الطريق قصّة الشاعر الأديب البارع الإيرانيّ المعروف بشهريار(رحمه الله).

والمحكيّ مايلي: إنّه(رحمه الله) كان في عنفوان شبابه يتعشّق بنتاً، ويريد الزواج بها، لا أنّه(رحمه الله) كان يقصد الفجور لا سمح الله، ولكن أهلها امتنعوا عن تزويجها إيّاه إلى أن زوّجوها من شخص آخر، فانصدم شهريار، وترك هذه الحالة، وبعدها أنشأ القصيدة الاُولى، أو



(1) وستأتي تتمّة كلام سماحة الشيخ ناصر مكارم حفظه الله بعد نقل قصّة شهريار.

101

القصيدتين المعروفتين بشأن عليّ(عليه السلام):

إحداهما: القصيدة الرائعة المعروفة المبدوّة بقوله:

على اى هماى رحمت تو چه آيتى خدا را
كه به ما سوا فكندى همه سايه ى هما را(1)

والثانية: قصيدته الرائعة المعروفة الاُخرى المبدوّة بقوله:

على اى شير خدا شاه عرب
الفتى داشته با اين دل شب
شب ز اسرار على آگاه است
دل شب محرم سرّ الله است(2)



(1) راجع المجلّد الأوّل من ديوانه، ص 98.

والشاعر في هذا البيت يصف عليّاً(عليه السلام) بأنّه (هماى رحمت) و (هما) تعني: طائر السعد، وكان يعتقد القدماء بأنّ من يقع ظلّ هذا الطائر على رأسه فسيكون سعيداً، وكان مضرب المثل في الـيُمن والسعادة.

فالشاعر يخاطب عليّاً(عليه السلام):

يا عليّ يا طائر الرحمة أيّ آية أنت من آيات الله
حيث أظللت جميع الخلائق بظلّك

(2) راجع نفس المصدر، ص 615. ←

102

وإنّي أعتقد أنّ هذا المرحوم لو فرض غارقاً في الذنوب، فإنّ الله تعالى قد غفرها له بسبب هاتين القصيدتين.

و تشهد لذلك قصّة غريبة تنقل عن المرحوم آية الله العظمى السيّد المرعشيّ النجفيّ(رحمه الله)، والناقل للقصّة هو نجل السيّد المرعشيّ، أعني: سماحة السيّد محمود المرعشيّ حفظه الله، فإنّ له مقالاً منشوراً في مجلّة (شهاب) الفصليّة(1) الصادرة عن مكتبة المرحوم آية الله المرعشيّ النجفيّ، وترجمته باللغة العربيّة ما يلي:

كان يقول سماحة آية الله العظمى المرعشيّ النجفيّ(رحمه الله)مراراً وتكراراً: إنّني توسّلت إلى الله في ليلة من الليالي أن أرى وليّاً من أولياء الله، فرأيت في تلك الليلة في عالم الرؤيا: أنّي جالس في مسجد الكوفة


وإليك معنى البيتين:

يا عليّ ـ يا أسد الله وملك العرب ـ
إنّ لك اُلفة مع جوف الليل
الليل مطّلع على أسرار عليّ
وجوف الليل مَحْرم سرّ الله

(1) العدد 11، ص 59 ـ 60.

103

و فيه مولانا أميرالمؤمنين(عليه السلام) مع ثلّة من الناس، فأمر أميرالمؤمنين(عليه السلام)بإحضار شعراء أهل البيت، فأحضروا عدداً من شعراء العرب، فأمر(عليه السلام)بإحضار شعراء الفرس، فأحضروا الشاعر الإيراني (محتشم) و عدداً آخر، فقال(عليه السلام): أين شهريارنا؟ فجاء شهريار، فقال(عليه السلام): أنشدنا شعرك، فأنشد شهريار:

على اى هماى رحمت توچه آيتى خدا را
كه به ما سوا فكندى همه سايه ى هما را...

إلى آخر الأبيات، ثُمّ قال سماحة آية الله العظمى المرعشيّ النجفيّ(رحمه الله): حينما تمّت أبيات شهريار استيقظت من النوم، ولمّا كنت لم أرَ ـ حتّى ذاك الوقت ـ شهريار، فسألت في اليوم التالي: من هو شهريار الشاعر؟ فقيل لي: هو شاعر يسكن (تبريز)، فقلت: ادعوه لي إلى قم. فدعوه وجاءني بعد عدّة أيّام، فرأيته هو الشخص الذي شاهدته في الرؤيا عند أمير المؤمنين(عليه السلام)، فسألته متى أنشأت أبيات «على اى هماى رحمت...»؟فسألني شهريار متعجّباً كيف عرفت بإنشائي لهذه الأبيات مع أنّيلم اُبرزها حتّى الآن لأحد، و لم أتحدّث عنها إلى أحد؟! فقال المرحومآية الله العظمى: رأيت في عالم الرؤيا قبل عدّة ليالي أميرالمؤمنين(عليه السلام)في مسجد الكوفة، فأحضر(عليه السلام)شعراء أهل البيت، فحضر عنده شعراء العرب، ثُمّ طلب(عليه السلام) حضور شعراء الفرس، فحضروا، فقال(عليه السلام): أين

104

شهريارنا؟ فحضرت أنت، فأمرك بإنشاد أبياتك، فأنشدتَ أنت أبياتاً أتذكّر مطْلَعها «على اى هماى رحمت...» فغمرت شهريار حالة الخشوع، و تقلَّب حاله بشكل عجيب، و قال: إنّي أنشأتها في الليلة الفلانيّة، وكما قلتُ لكم: إنّي لم اُخبر أحداً حتّى الآن بذلك.

قال المرحوم آية الله المرعشيّ: حينما عيّن لي شهريار تأريخ الأبيات وساعة إنشائها تبيّن لي أنّ رؤياي مقارنة بآخر مصراع من بيته.

قال السيّد محمود المرعشيّ ـ حفظه الله ـ في آخر مقاله: إنّ الوالد كان يقول مراراً وتكراراً بعد نقل هذه القصّة: إنّي متأكّد من أنّ شهريار اُلهم هذه الأبيات حتّى استطاع إنشاءَها بهذه المضامين الراقية، و هو من أولاد الزهراء أيضاً، سلام الله عليها(1).

 


(1) أقول: يعزّ عليّ أن يخلو هذا الكتاب من نقل هذه الأبيات:

على اى هماى رحمت تو چه آيتى خدا را
كه به ما سوا فكندى همه سايه ى هما را
دل اگر خدا شناسى همه در رخ على بين
به على شناختم من به خدا قسم خدا را
به خدا كه در دو عالم اثر از فنا نماند
چو على گرفته باشد سر چشمه ى بقا را ←
105


مگر اى سحاب رحمت تو ببارى ارنه دوزخ
بشرار قهر سوزد همه جان ما سوا را
برو اى گداى مسكين در خانه ى على زن
كه نگين پادشاهى دهد از كرم گدا را
به جز از على كه گويد به پسر كه قاتل من
چو اسير توست اكنون به اسير كن مدارا
به جز از على كه آرد پسرى ابو العجايب
كه علم كند به عالم شهداى كربلا را
چو به دوست عهد بندد زميان پاك بازان
چو على كه مى تواند كه به سر برد وفا را
نه خدا توانمش خواند نه بشر توانمش گفت
متحيّرم چه نامم شه ملك لا فتى را
به دو چشم خون فشانم هله اى نسيم رحمت
كه زكوى او غبارى به من آر توتيا را ←