409

 

 

 

 

الفصل الثاني والعشرون

ا لصـــــبر

 

من هنا إلى الفصل الثلاثين سُمِّي بالأخلاق، وقيل: الأخلاق مواريث المعاملات، فإنّ الأخلاق ملكات في النفس يصدر معها الأفعال من النفس محمودة بلا رويّة، فإذا تكرّرت المعاملات القلبية مع الله بالنيّات الصادقة ظهرت من دوام تكررها هيئات راسخة في النفس؛ لتنوّرها بنور القلب وصفائه الحاصل ببركة المعاملات، فيسهل عليه بسبب تلك الهيئات صدور الفضائل والخيرات عنها وسلوك الطريقة(1).

قال الله عزّوجلّ: ﴿مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللّهِ بَاق وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾(2).

وقال عزّ من قائل: ﴿قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَاب﴾(3).

وقال عزّ اسمه: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْء مِّنَ الْخَوفِ وَالْجُوعِ وَنَقْص مِّنَ الأَموَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا


(1) شرح منازل السائرين للكاشاني، أبواب الأخلاق، باب الصبر: 84 ـ 85 .

(2) السورة 16، النحل، الآية: 96.

(3) السورة 39، الزمر، الآية: 10.

410

إِلَيْهِ رَاجِعونَ * أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾(1).

وقال تبارك وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾(2).

وقال عزّ وعلا: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾(3).

وإليك بعض روايات الصبر:

1 ـ ورد في حديث صحيح السند عن فضيل بن يسار، عن أبي عبدالله الصادق(عليه السلام) قال: «الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، فإذا ذهب الرأس ذهب الجسد، كذلك إذا ذهب الصبر ذهب الإيمان»(4).

ولعلَّ السرّ في افتراض الصبر رأساً للإيمان واضح:

فأوّلاً: الصبر على الطاعة وترك المعصية رأس الإيمان؛ لأنّ نفس الإنسان معجون خُلِقَ من شهوات وغرائز من ناحية، ومن العقل والحكمة من ناحية اُخرى، فليس هو كالحيوان الذي لا يمتلك إلاّ الشهوات، فلا يفترض بشأنه الصبر على مخالفتها أو تركها أو معاكستها، ولا هو كالملَك الذي لا يمتلك إلاّ العقل والمعرفة، فليست له شهوة يفترض صبره في مقابلتها.

فالصبر يعني: تغليب جيش العقل على جيش الشهوة اللذَين هم مصطفّان للقتال في نفس المؤمن، فمن الطبيعي أن يكون الصبر هو رأس الإيمان.

وثانياً: الصبر على المصيبة، يعني: حفظ الهدوء في مقابل المصيبة بقدر انتسابها


(1) السورة 2، البقرة، الآيات: 155 ـ 157.

(2) السورة 2، البقرة، الآية: 153.

(3) السورة 2، البقرة، الآية: 45.

(4) اُصول الكافي: 2 / 89، كتاب الإيمان والكفر، باب الصبر، الحديث 5.

411

إلى الله سبحانه، وإن كان لابدّ له من الدفاع عن نفسه ـ لو كان منتسباً إلى عدوّ له ـ بقدر انتسابها إلى العدوّ، بل ولابدّ له ـ أيضاً ـ من سلوك طريق العلاج في المصائب الإلهية بقدر ما يسّر الله له من العلاج. فهذا كلّه لا ينافي الصبر في مقابل المصيبة بمعنى حفظ التوازن وعدم الخروج على الله بالجزع والشكوى إلى غير الله. ومن الواضح: أنّ عدم الخروج على الله بذلك يعتبر رأس الإيمان. نعم، لا بأس بالشكوى إلى الله تعالى كما قال يعقوب(عليه السلام): ﴿إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾(1).

2 ـ ورد ـ أيضاً ـ بسند صحيح عن حمزة بن حمران، عن الباقر(عليه السلام) قال: «الجنّة محفوفة بالمكاره والصبر، فمن صبر على المكاره في الدنيا دخل الجنّة. وجهنّم محفوفة باللذات والشهوات، فمن أعطى نفسه لذّتها وشهوتها دخل النار»(2).

وتفسير هذه الرواية واضح: فإنّ احتفاف الجنّة بالمكاره وجهنم باللذات هو الافتتان الوارد في قوله تعالى: ﴿الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَيُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾(3).

ولو كان العكس هو الواقع، أي: أنّ الجنّة كانت محفوفة باللذات، وجهنّم محفوفة بالمكاره لأصبح الناس كلُّهم مؤمنين.

3 ـ عن أبي سيّار، عن الصادق(عليه السلام) قال: «إذا دخل المؤمن قبره كانت الصلاة عن يمينه، والزكاة عن يساره، والبرّ مظلّ عليه ] وفي بعض النسخ مطلّ عليه [ويتنحّى الصبر ناحية، فإذا دخل عليه الملكان اللذان يليان مساءلته قال الصبر


(1) السورة 12، يوسف، الآية: 86 .

(2) اُصول الكافي 2 / 89 ـ 90، كتاب الإيمان والكفر، باب الصبر، الحديث 7.

(3) السورة 29، العنكبوت، الآيات: 1 ـ 3.

412

للصلاة والزكاة والبرّ: دونكم صاحبكم، فإن عجزتم عنه فأنا دونه»(1).

ولعلّ هذا الحديث يؤكّد فكرة تجسّم الأعمال، أو أنّه تمثيل وتقريب إلى الذهن لتأثير المعنويّات والأعمال لو لم نقبل بمسلك تجسّم الأعمال.

4 ـ عن عليّ(عليه السلام) قال: «قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): الصبر ثلاثة: صبر عند المصيبة، وصبر على الطاعة، وصبر عن المعصية. فمن صبر على المصيبة حتّى يردّها بحسن عزائها كتب الله له ثلاث مئة درجة ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين السماء إلى الأرض. ومن صبر على الطاعة كتب الله له ستّ مئة درجة ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين تخوم الأرض إلى العرش. ومن صبر عن المعصية كتب الله له تسع مئة درجة ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين تخوم الأرض إلى منتهى العرش»(2).

هذه الرواية قسّمت الصبر إلى ثلاثة أقسام: الصبر على المصيبة، والصبر على الطاعة، والصبر على ترك المعصية.

ولكن أكثر آيات الصبر التي أشرنا في مستهلّ الحديث إلى بعضها واردة في مورد الصبر على المصيبة وإن أمكن دعوى الإطلاق فيها، نعم، يمكن استثناء آيتي:﴿اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ ...﴾.

وقد ورد تفسير الصبر في قوله تعالى: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾ بالصوم(3).

وكأنّ المقصود: التفسير بالفرد المناسب لمورد الآية باعتبار قرنه بالصلاة


(1) اُصول الكافي 2 / 90، كتاب الإيمان والكفر، باب الصبر، الحديث 8 .

(2) المصدر السابق: ص 91، الحديث 15.

(3) راجع تفسير البرهان 1 / 94.

413

لا حصره بذلك. وكذلك ورد تفسيره بالصبر على ترك الحرام(1).

وعلى أيّة حال، فالذي يُفهم من هذه الرواية: أنّ الصبر على الطاعة أفضل من الصبر على المصيبة، وأنّ الصبر على ترك المعصية أفضل من الصبر على الطاعة. وهذا أمر واضح الصحّة؛ فإنّ الصبر على الطاعة صبر على تكاليف الله تعالى، فمن الطبيعي أن يكون أفضل من الصبر على المصائب المادية: من فقد مال أو ولد أو نحو ذلك. والمقصود بالصبر على الطاعة: الصبر على فعل الواجبات، في حين أنّ المقصود بالصبر على ترك المعصية: الصبر على مخالفة الشهوات النفسية وترك اللذائذ المحرّمة. ومن الطبيعي أنّ الثاني أصعب بكثير من الأوّل؛ ولهذا أصبح الصبر عن الثاني أفضل من الصبر على الأوّل. أمّا لو غضضنا النظر عن هذا التحديد فسيتّحد الصبر على الطاعة والصبر عن المعصية؛ لأنّ ترك الطاعة معصية، وترك المعصية طاعة.

ولكن قال بعض: إنّ الصبر على الطاعة فوق الصبر عن المعصية؛ وذلك لأنّ الصابر عن المعصية مشتغل بقلبه في وساوسها، والمشتغل بالطاعة سالم من هذا الوسواس، فمقامه فوق مقام ذلك الآخر، خصوصاً إذا صبر على دوامها، وحافظ عليها من النقص، وفعلها في الأوقات المشروعة من غير تفويت(2).

أقول: بناءً على هذا البيان فالصبر على الطاعة ـ أيضاً ـ فيه اشتغال قلبه بوسوسة ترك الطاعة وراحته، وربّ إنسان يطيع الله في الواجبات في حين أنّه لا يتورّع عن مقارفة المحرمات، بينما المتورع عن مقارفة المحرمات والصابر عنها يكون ملتزماً عادة بالواجبات.

ومن الطريف ـ أيضاً ـ ما قاله بعض المنحرفين عن خط أهل البيت(عليهم السلام): من أنّ


(1) المصدر السابق.

(2) راجع شرح منازل السائرين للتلمساني قسم الأخلاق: 222.

414

الصبر من منازل العامّة دون الخاصّة؛ وذلك لأنّ الخاصّة وصلوا إلى مستوى المحبّة، والمحبّ يلتذّ بالعذاب الذي أراده محبوبه، فليس له ألم حتّى يصبر عليه، فيتناقض الصبر والمحبّة كما قيل:

أُريد وصاله ويريد هجري
فأترك ما أُريد لما يريد

وقيل:

وكلُّ لذيذة قد نلتُ منه
سوى ملذوذِ وجدي بالعذابِ

وأيضاً إنّ الصبر أمر منكر في طريق التوحيد، بل هو أنكر من كلِّ منكر؛ وذلك لأنّ فيه قوّة الدعوى؛ لأنّ الصابر يدّعي قوّة الثبات، فيلزم من هذا أنّه يعتقد أنّ لنفسه قوّة، وأنّ تلك القوّة عظيمة. وهذا مبالغة في البهتان؛ إذ ليس لأحد قوّة أصلاً؛ لأنّ القوّة لله جميعاً، وبذلك يشهد التوحيد، والتوحيد يقتضي فناء النفس، فيكون الصبر أنكر؛ لأنّ إثبات النفس في طريق التوحيد من أقبح المنكرات(1).

أقول: هذا الكلام ناتج من عدم الإيمان بالوجود التعلّقي، ومن الغفلة عن ذاتيّة الآلام المادّية للإنسان لدى المصائب من وجه، والتي لا تنافي الالتذاذ المعنوي بما أراده الله وبالقيام بالواجب من وجه آخر.

وليس هنا محلّ شرح ذلك فلسفيّاً، ولكنّي أقول هنا: إمّا أنّ القوم جريؤون جدّاً في تأويل القرآن، أو يعتقدون: أنّ أقطابهم أعلى مرتبة من أُولي العزم من الأنبياء الذين نسب الله ـ تعالى ـ إليهم الصبر في قوله: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ...﴾(2)، وكذلك قال يعقوب(عليه السلام) الذي هو نبيّ من أنبياء الله العظام وإن لم


(1) راجع منازل السائرين قسم الأخلاق باب الصبر وشرحه للكاشاني: 86، وشرحه الآخـر للتلمساني: ص 220.

(2) السورة 46، الأحقاف، الآية: 35.

415

يكن من أُولي العزم: ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ﴾(1).

ويعجبني أن أذكر هنا رواية طريفة بشأن صبر يعقوب وآبائه:

فقد ورد في الأثر: «لمّا كان من أمر إخوة يوسف ما كان كتب يعقوب(عليه السلام) إلى يوسف(عليه السلام) وهو لا يعلم أنّه يوسف: بسم الله الرحمن الرحيم من يعقوب إسرائيل الله ابن إسحاق ذبيح الله ابن إبراهيم خليل الله عزّوجلّ إلى عزيز آل فرعون سلام عليك. فإنّي أحمد إليك الله الذي لا إله إلاّ هو. أمّا بعد: فإنّا أهل بيت مولعة بنا أسباب البلاء: كان جدّي إبراهيم أُلقي في النار في طاعة ربّه، فجعلها الله ـ عزّوجلّ ـ عليه برداً وسلاماً، وأمر الله جدّي أن يذبح أبي(2) ففداه بما فداه به، وكان لي ابن وكان من أعزّ الناس عليّ ففقدته، فأذهب حزني عليه نور بصري، وكان له أخ من أُمّه، فكنت إذا ذكرت المفقود ضممت أخاه هذا إلى صدري، فأُذهب عنّي بعض وجدي، وهو المحبوس عندك في السرقة، وإنّي أُشهدك أ نّي لم أسرق ولم ألد سارقاً. فلما قرأ يوسف كتابه بكى، وكتب إليه: بسم الله الرحمن الرحيم اصبر كما صبروا تظفر كما ظفروا. فلمّا انتهى الكتاب إلى يعقوب قال: والله ما هذا بكلام الملوك والفراعنة، بل هو كلام الأنبياء وأولاد الأنبياء، فحينئذ قال: يا بنيّ اذهبوا فتحسّسوا من يوسف»(3).

وكما قلنا لا نريد بحث المسألة فلسفيّاً، لكن يمكن إبطال عدم إمكان اجتماع الصبر والحبّ بتجربة الإنسان العادي الغارق في حبّ نفسه حينما يشرب دواءً مرّاً، ويتحمّل ألم المرارة، ويصبر عليه في سبيل حبّه لنفسه ولشفائه المترتب على


(1) السورة 12، يوسف، الآية: 18.

(2) هذه من روايات تطبيق الذبيح على إسحاق دون اسماعيل على نبيّنا وآله وعليهما الصلاة والسلام.

(3) البحار 12 / 269 والآية في السورة 12، يوسف، الآية: 87 .

416

هذا الدواء، ألا ترى كيف اجتمع الصبر على شرب الدواء وتألّمه به مع حبّه لنفسه، فهو يعتبر صابراً على البلاء على الرغم من أنَّ ما فعله كان صالحاً لنفسه، وهو يحبّ نفسه أشدّ الحبّ وغارق في مشتهيات نفسه ومصالحها أشدّ الغرق، وقد فعل ما فعله لأجل نفسه ؟ ! فسواءٌ فُسِّر ذلك فلسفيّاً على أساس اختلاف مراتب النفس أو جوانبها وزواياها، أو فُسِّر ذلك على أساس كون ذات المؤلم هي المقدّمة للمحبوب التي يسري إليها الحبّ والالتذاذ بها، وأمّا الألم فهو لازم المحبوب ولا يسري إليه الحبّ والالتذاذ، أو فسّر بأيّ تفسير ثالث، فنفس التفسير يسري إلى محل الكلام.

نعم، في حالات الإنذهال في الله تعالى ربّما لا يحسّ العبد بالألم نتيجة فنائه في الله وذهوله عن كلِّ ما سواه، وذلك من قبيل ما يُروى بشأن إخراج السهم من رجل إمامنا أميرالمؤمنين(عليه السلام) في وقت انشغاله بالصلاة(1) وهذا أمر آخر، وهو أمر ممكن وواقع في المحبوب البشري كما حدّثنا القرآن(2) عن صويحبات يوسف وتقطيعهنّ أيديهنّ حين النظر إلى جمال يوسف الظاهري بالباصرة، فكيف لا يكون لدى النظر إلى الجمال الحقيقي بالبصيرة لمن هو حبيب قلوب الصادقين وإله العالمين وغاية آمال العارفين ؟ !

5 ـ حديث صحيح السند عن عبدالله بن سنان وإسحاق بن عمّار، عن الصادق(عليه السلام)قال: «قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): قال الله عزّوجلّ: إنّي جعلت الدنيا بين عبادي قرضاً، فمَنْ أقرضني منها قرضاً أعطيته بكلِّ واحدة عشراً إلى سبع مئة ضعف وما شئتُ من ذلك. ومَنْ لم يقرضني منها قرضاً فأخذت منه شيئاً قسراً فصبر أعطيته ثلاث خصال، لو أعطيت واحدة منهنّ ملائكتي لرضوا بها منّي. قال:


(1) المحجة البيضاء 1 / 398، وتفسير «نمونه» 2 / 428، وأنوار المواهب: 160.

(2) السورة 12، يوسف، الآية: 31.

417

ثُمّ تلا أبو عبدالله(عليه السلام)قول الله عزّوجلّ: ﴿الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ * أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ ]فهذه واحدة من ثلاث خصال [وَرَحْمَةٌ]ثنتان[ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ]ثلاث[﴾(1). ثُم قال أبو عبدالله(عليه السلام): هذا لمن أخذ الله منه شيئاً قسراً»(2).

6 ـ رواية الوشاء عن بعض أصحابه، عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال: «إنّا صُبَّر، وشيعتنا أصبر منّا. قلت: جعلت فداك كيف صار شيعتكم أصبر منكم ؟ ! قال: لأ نّا نصبر على ما نعلم، وشيعتنا يصبرون على ما لايعلمون»(3).


(1) السورة 2، البقرة، الآيتان: 156 ـ 157.

(2) اُصول الكافي 2 / 92 ـ 93، كتاب الإيمان والكفر، باب الصبر، الحديث 21.

(3) المصدر السابق: ص 93، الحديث 25.

419

 

 

 

 

الفصل الثالث والعشرون

ا لــر ضــــا

 

روي: إنّ الحسين(عليه السلام) لمّا عزم على الخروج إلى العراق قام خطيباً فقال: «الحمد لله، وما شاء الله، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله، وصلَّى الله على رسوله وسلّم. خُطَّ الموت على ولد آدم مخطّ القلادة على جيد الفتاة. وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف، وخير لي مصرع أنا لاقيه، كأ نّي بأوصالي يتقطّعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلا، فيملأن منّي أكراشاً جوفاً وأجربة سغباً، لا محيص عن يوم خطّ بالقلم، رضى الله رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه، ويوفّينا اُجور الصابرين ...»(1).

قال بعض: إنّ الرضا من أوائل مسالك أهل الخصوص وأشقّها على العامّة(2)ومن هنا يعتقد هذا الباحث: أنّ مقام الرضا أعلى مرتبة من مقام الصبر؛ لأنّه جَعَل الصبر في البحث الماضي من منازل العامّة. والظاهر: أنّ مقصوده بالرضا في المقام هو: الرضا الذي يكون من ثمرات الحبِّ. ونحن وإن لم نوافق فيما مضى على كون الصبر مخصوصاً بالعامّة، ولكن من الصحيح هنا القول بأنّ الرضا مقام فوق مقام الصبر؛ لأنّ الصبر قد يكون صبراً على مضض، ولكنّ الرضا يعني: عدم المضض،


(1) البحار 44 / 366 ـ 367. والظاهر أن الصحيح تقطّعها عسلان الفلوات.

(2) منازل السائرين، قسم الأخلاق، باب الرضا.

420

ويعني: حبّه لما يريده الله تعالى كما مضى عن الحسين(عليه السلام) قوله: «... رضى الله رضانا أهل البيت نصبر على بلائه ويوفّينا أُجور الصابرين».

والرضا على قسمين:

الأوّل: الرضا الذي يكون من ثمار الحبّ، فإنّ رضا المحبّ في رضا محبوبه، وإن كان رضا محبوبه في موت المحبّ لأحبّ الموت، أو في ابتلائه لأحبّ الابتلاء.

وقد ورد في الحديث: «إذا أحبّ الله عبداً ابتلاه، فإن صبر اجتباه، فإن رضي اصطفاه»(1).

وفي حديث طريف نقلاً عن أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: « سألت النبيّ(صلى الله عليه وآله) عن سُنّته فقال: المعرفة رأس مالي، والعقل أصل ديني، والحبّ أثاثي، والشوق مركبي، وذكر الله ـ عزّوجلّ ـ أنيسي، والثقة كنزي، والحزن رفيقي، والعمل سلاحي، والصبر ردائي، والرضا غنيمتي، والفقر فخري، والزهد حرفتي، واليقين قوّتي، والصدق شفيعي، والطاعة جنّتي، والجهاد خُلُقي، وقرّة عيني في الصلاة»(2).

والرضا الذي هو من ثمرات الحبّ لله هو أفضل قسمي الرضا.

والثاني: قسم آخر للرضا أقلّ مرتبة من ذاك، وهو: الرضا الذي يكون من ثمرات العلم بأنّ الله ـ تعالى ـ لا يقدّر لعبده إلاّ ما فيه خيره.

وفي الحديث عن الصادق(عليه السلام): «قال الله عزّوجلّ: عبدي المؤمن لا أصرفه في شيء إلاّ جعلته خيراً له، فليرض بقضائي، وليصبر على بلائي، وليشكر نعمائي، أكتبه يا محمّد من الصديقين عندي»(3).


(1) المحجة البيضاء 8 / 88 .

(2) المصدر السابق: ص 101.

(3) اُصول الكافي 2 / 61، كتاب الإيمان والكفر، باب الرضا والقضاء، الحديث 6.

421

وأيضاً عن الصادق(عليه السلام) بسند صحيح: «إنّ فيما أوحى الله ـ عزّوجلّ ـ إلى موسى بن عمران(عليه السلام): يا موسى بن عمران. ما خلقت خلقاً أحبّ إليّ من عبدي المؤمن، فإنّي إنّما أبتليه لما هو خير له، وأُعافيه لما هو خير له، وأزوي عنه ما هو شرّ له لما هو خير له. وأنا أعلم بما يصلح عليه عبدي، فليصبر على بلائي، وليشكر نعمائي، وليرض بقضائي، أكتبه في الصدّيقين عندي إذا عمل برضائي وأطاع أمري»(1).

وأيضاً عن ابن أبي يعفور بسند صحيح، عن الصادق(عليه السلام) قال: «عجبت للمرء المسلم لا يقضي الله ـ عزّوجلّ ـ له قضاءً إلاّ كان خيراً له، وإن قُرِّض بالمقاريض كان خيراً له، وإن ملك مشارق الأرض ومغاربها كان خيراً له»(2).

وبعد هذا المرور السريع بقسمي الرضا: ما كان من ثمار حبّ الله عزّوجلّ، وما كان من ثمار العلم بحكمة الله وموافقة تقديره لصالح العبد، يناسب المرّ السريع ـ أيضاً ـ برضوان الله تعالى، والذي هو أكبر من نِعَم الجنّة المادّية بصريح القرآن، والذي هو من الغايات القصوى لأولياء الله العارفين.

قال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّات تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْن وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾(3).

وإن أُريد توضيح الفكرة بمستوى الفهم العادي قلنا: ربّ إنسان يجتمع بحبيبه على مائدة فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذّ الأعين بالمقدار المتصوّر في الموائد الدنيويّة، وفي بستان زاهر أورقت فيه الأشجار وأينعت فيه الأثمار، وازدهرت


(1) المصدر السابق: ص 61 ـ 62، الحديث 7.

(2) المصدر السابق: ص 62، الحديث 8 .

(3) السورة 9، التوبة، الآية: 72.

422

فيه الورود، وعلى ماء جار زلال صاف كالزجاج والمرآة، إلاّ أنّه كان يحتمل وجود كدورة ولو مختصرة عنه في قلب حبيبه وعلى الخصوص نفترض ذاك الحبيب وليّاً لكثير من نعمه وعظيماً في صفاته الخلقيّة والإنسانيّة، ثُمّ تطرأ على لسان هذا الحبيب كلمة تكشف عن رضاه عنه، فتراه يثلج قلبه، ويبرد فؤاده، ويلتذّ برضا حبيبه عنه لذّة تُنسيه كلّ ما كان غائراً فيها من تلك اللذائذ الأُخرى، فكيف بالعبد المؤمن بالقياس إلى الله سبحانه وعلا، علماً بأنّ معرفته بالله في الجنّة لاتقاس بمعرفته به في الدنيا.

وقد ورد في الحديث عن عليّ بن الحسين(عليهما السلام) قال: «إذا صار أهل الجنّة في الجنّة، ودخل وليّ الله إلى جناته ومساكنه، واتّكى كلَّ مؤمن على أريكته، حفّته خدّامه، وتهدّلت عليه الأثمار، وتفجّرت حوله العيون، وجرت من تحته الأنهار، وبسطت له الزرابيّ، ووضعت له النمارق، وأتته الخدّام بما شاءت هواه من قبل أن يسألهم ذلك، قال: ويخرج عليه الحور العين من الجنان، فيمكثون بذلك ما شاء الله، ثُمّ إنّ الجبّار يشرف عليهم، فيقول لهم: أوليائي واهل طاعتي وسكّان جنّتي في جواري ألا هل أُنبّئكم بخير ممّا أنتم فيه ؟ فيقولون: ربّنا وأيّ شيء خير ممّا نحن فيه: فيما اشتهت أنفسنا، ولذّت أعيننا من النعم في جوارك الكريم ؟ ! قال: فيعود عليهم القول فيقولون: ربّنا نعم، فائتنا بخير ممّا نحن فيه، فيقول لهم تبارك وتعالى: رضائي عنكم ومحبّتي لكم خير وأعظم ممّا أنتم فيه، قال: فيقولون: نعم يا ربّنا، رضاك عنّا ومحبّتك لنا خير وأطيب لأنفسنا. ثُمّ قرأ عليّ بن الحسين(عليهما السلام)هذه الآية: ﴿وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّات تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْن وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾»(1).


(1) تفسير البرهان 2 / 145.

423

 

 

 

 

الفصل الرابع والعشرون

ا لشــــكر

 

قال الله سبحانه وتعالى: ﴿مَا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ وَكَانَ اللّهُ شَاكِراً عَلِيماً﴾(1).

وقال عزّ من قائل: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾(2).

أثبتت هاتان الآيتان المباركتان خير أَثَرين لشكر الله سبحانه وتعالى:

الأوّل: نفي العذاب عن الشاكر؛ إذ ورد في الآية الأُولى: ﴿مَا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ ...﴾.

ومن الطريف في هذه الآية: أنّ الله ـ سبحانه ـ فرض بلطفه ورحمته أنّ العبد المؤمن كأنّه يُسدي بطاعته وبشكره نعمة على المولى سبحانه وتعالى يستحقّ عليها الشكر فيقول: وكان الله شاكراً عليماً.

والثاني: الزيادة في النعمة؛ إذ ورد في الآية الثانية: ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ ...﴾.

وفي الحديث عن الصادق(عليه السلام): «من أُعطي أربعاً لم يحرم أربعاً: مَنْ أُعطي الدعاء لم يحرم الإجابة، ومَنْ أُعطي الاستغفار لم يحرم التوبة، (الظاهر: أنّ


(1) السورة 4، النساء، الآية: 147.

(2) السورة 14، إبراهيم، الآية: 7.

424

المقصود توبة الله عليه)، ومَنْ أُعطي الشكر لم يحرم الزيادة، ومن أُعطي الصبر لم يحرم الأجر»(1).

ووجوب شكر المنعم وجوب عقليّ قبل أن يكون وارداً من الشرع، حتّى بالنسبة للمنعم المخلوق الذي لم يكن إلاّ واسطة فيض من قبل الخالق وكان المنعم الحقيقي هو الخالق تبارك وتعالى.

وفي الحديث عن عمّار الدُهني قال: «سمعت عليَّ بن الحسين(عليهما السلام)يقول: إنّ الله يحبّ كلَّ قلب حزين، ويحبّ كلَّ عبد شكور. يقول الله تبارك وتعالى لعبد من عبيده يوم القيامة: أشكرت فلاناً ؟ فيقول: بل شكرتك يا ربّ، فيقول: لم تشكرني إذ لم تشكره. ثُمّ قال: أشكركم لله أشكركم للناس»(2).

وعن الرضا(عليه السلام): «مَنْ لم يشكر المنعم من المخلوقين لم يشكر الله عزّوجلّ»(3).

وحقيقة الشكر مكافأة المنعم عن نعمته، وذلك إمّا ببذل نعمة له كالمال أو ـ في الأقلّ ـ الثناء والحمد لله. وأقلّ المراتب بعرفان النعمة بالقلب وبحبّه إيّاه.

وعن الباقر(عليه السلام) عن أبيه، عن جدّه قال: «قال عليّ(عليه السلام): حقٌ على من أُنعم عليه أن يحسن مكافأة المنعم، فإن قصر عن ذلك وسعه فعليه أن يحسن الثناء، فإن كلَّ عن ذلك لسانه فعليه معرفة النعمة ومحبّة المنعم بها، فإن قصر عن ذلك فليس للنعمة بأهل»(4).

فإذا وجب شكر المنعم المخلوق الذي لم يكن في واقع الأمر إلاّ واسطة لفيض


(1) البحار 71 / 44.

(2) المصدر السابق: ص 38.

(3) المصدر السابق: ص 44.

(4) المصدر السابق: ص 50.

425

النعمة والمفيض الحقيقي هو الله فكيف لا يجب شكر الله سبحانه وتعالى ؟ !

إلاّ إنّ شكره سبحانه وتعالى بالنحو المألوف فيما بين المخلوقين أنفسهم غير معقول. ويمكن بيان ذلك بعدّة تعابير:

1 ـ إنّ الشكر عبارة عن مكافأة المنعم بنعمه، ولا معنى لمكافأته سبحانه وتعالى؛ فإنّه غنيّ عن العالمين، وهو المنعم على الخلق ولا يُنعم عليه، ولا ينفعه شكرنا إيّاه، بل تعود منفعة شكرنا إيّاه إلينا.

2 ـ إنّ الشاكر لو أراد أن ينعم على المنعم بشيء جزاءً لنعمته فعليه أن ينعم عليه بما يملكه، ولا أقلّ من الإنعام عليه بلسانه بالثناء، أو بقلبه بعرفان النعمة وببذل الحبّ، ولكنّا نحن لا نملك شيئاً أمام الله سبحانه كي نبذله إيّاه، فلو شكرناه بلساننا فلساننا مملوك له، ولو شكرناه بقلبنا فقلبنا مملوك له. وليس لنا شيء كي نكافئ الله سبحانه به على نعمه.

3 ـ إن تمكّنّا من الشكر ووُفِّقنا له، فهو نعمة جديدة أنعم الله بها علينا، وبحاجة إلى شكر جديد.

وعن الصادق(عليه السلام): «ما أنعم الله على عبد بنعمة بالغة ما بلغ فحمد الله عليها إلاّ كان حمد الله أفضل من تلك النعمة وأعظم وأوزن»(1).

إذن فشكر الله يجب أن ينتهي إلى أحد معنيين:

1 ـ معرفة العبد: بأنّ هذه النعمة من الله، وبعجزه عن شكره، وإقراره بذلك، وبالثناء عليه تبارك وتعالى برغم غناه عن ثنائنا.

وعن الصادق(عليه السلام): «أوحى الله إلى موسى(عليه السلام): يا موسى اشكرني حقَّ شكري، فقال: يا ربّ كيف أشكرك وليس من شكر أشكرك به إلاّ وأنت أنعمت به عليّ.


(1) المصدر السابق: ص 51.

426

فقال: يا موسى شكرتني حقَّ شكري حين علمت أن ذلك منّي»(1).

2 ـ أن يبذل العبد نعمه سبحانه وتعالى في طاعته، ولا يبذلها في معصيته.

وعن الصادق(عليه السلام) قال: «شكر النعمة اجتناب المحارم، وتمام الشكر قول الرجل: الحمد لله رب العالمين»(2).

ولا يعصي أحد الله سبحانه وتعالى إلاّ بنعمته؛ فإن عصى بلسانه فلسانه نعمة من الله عليه، وإن عصى بيده أو بأيّ جارحة من جوارحه فكلُّ الجوارح نعم الله عليه، أو بأيّ قوّة من قواه فكلّها نعم الله عليه، أو بأيّ مال من أمواله فهي جميعاً من نعم الله عليه ﴿وَإنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لاَ تُحْصُوها ...﴾(3). ومَثَلُ معصية الله بنعمه مَثَلُ مَنْ أنعم عليه شخص بسيف فضرب به وجه المنعم أو ابنه.

وأختم الحديث هنا عن الشكر بذكر رواية عن الصادق(عليه السلام)، عن آبائه (عليهم السلام)، قال: «قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): ضغطة القبر للمؤمن كفّارة لما كان منه من تضييع النعم»(4).

 


(1) المصدر السابق. وقد مضى تخريجه عن الكافي في بحث اليقظة ص216.

(2) المصدر السابق: ص 40.

(3) السورة 14، إبراهيم، الآية: 34.

(4) البحار 71 / 50.

427

 

 

 

 

الفصل الخامس والعشرون

ا لحيـــــاء

 

قال سبحانه وتعالى: ﴿أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى﴾(1).

الحياء انقباض النفس عن القبيح خجلاً، وهو من الناس قد ينتج كتم القبيح، ولكن من الله لا يمكن أن يكون إلاّ بترك القبيح؛ لأنّ العالَم بأسره في محضر الله تعالى، والله تعالى يعلم بكلِّ شيء علماً حضوريّاً، فلا يُعقَل الكتمان عنه.

وفي الحديث: «يا أبا ذر، أُعبد الله كأنّك تراه، فإن كنت لا تراه فإنّه يراك ...»(2).

وعن عليّ بن الحسين(عليهما السلام): «خفِ الله تعالى لقدرته عليك، واستحي منه لقربه منك »(3).

قيل: إنّ شخصاً من أهل الحال كان قد تاب بعد معصية، وكان يبكي، فقيل له: لِمَ تكثر البكاء ألا تعلم بأنّ الله ـ تعالى ـ غفّار ؟ ! قال: نعم، يمكن أن يعفو عنّي،


(1) السورة 96، العلق، الآية: 14.

(2) البحار 77 / 74.

(3) المصدر السابق 71 / 336.

428

ولكن ماذا أفعل بخجل رؤيته لي في حال المعصية ؟ !(1).

گيرم كه تو از سر گنه در گذرى
زان شرم كه ديدى كه چه كردم چه كنم(2)
 

وعن الصادق(عليه السلام): «الحياء من الإيمان، والإيمان في الجنّة»(3).

وعن أحدهما(عليه السلام) قال: «الحياء والإيمان مقرونان في قرن، فإذا ذهب أحدهما تبعه صاحبه»(4).

وعن الصادق(عليه السلام): «لا إيمان لمن لا حياء له»(5).

وعن رسول الله(صلى الله عليه وآله): «رحم الله عبداً استحيى من ربّه حقّ الحياء: فحفظ الرأس وما حوى، والبطن وما وعى، وذكر القبر والبلى، وذكر أنّ له في الآخرة معاداً»(6).

وعن مصباح الشريعة عن الصادق(عليه السلام): «والحياء خمسة أنواع: حياء ذنب، وحياء تقصير، وحياء كرامة، وحياء حبّ، وحياء هيبة. ولكلُّ واحد من ذلك أهل، ولأهله مرتبة على حدة»(7).

وقد ورد في بعض الأحاديث ما يشهد لكون أوّل شرّ في العبد انتزاع الحياء منه. فعن رسول الله(صلى الله عليه وآله): «أوّل ما ينزع الله من العبد الحياء، فيصير ماقتاً ممقّتاً، ثُمّ ينزع منه الأمانة، ثُمّ ينزع منه الرحمة، ثُمّ يخلع دين الإسلام عن عنقه، فيصير شيطاناً لعيناً»(8).

وإلى جانب الحياء الممدوح يوجد لدينا حياء مذموم: فالحياء الممدوح هو: الاستحياء من الأمر القبيح، والحياء المذموم هو: الاستحياء من الأمر الحسن كمن


(1) و (2) تفسير «نمونه» 27 / 168.

(3) البحار 71 / 329.

(4) و (5) المصدر السابق: ص 331.

(6) و (7) المصدر السابق: ص 336.

(8) المصدر السابق: ص 335.

429

يحتلم ثُمّ لا يغتسل استحياءً من أهل البيت الذين لو اغتسل لعرفوا أنّه قد احتلم مثلاً، وكمن يستحي من السؤال؛ لأنّه ينكشف بذلك جهله مثلاً وما إلى ذلك.

وقد ورد عدد من الروايات فيها إشارة إلى الحياء القبيح، وذلك من قبيل:

1 ـ ما عن الصادق(عليه السلام)، عن آبائه(عليهم السلام) قال: «قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): الحياء على وجهين: فمنه الضعف، ومنه القوّة، وإسلام وإيمان»(1).

2 ـ عن الصادق(عليه السلام): «من رقّ وجهه رقّ علمه»(2).

3 ـ عن رسول الله(صلى الله عليه وآله): «الحياء حياءان: حياء عقل، وحياء حمق: فحياء العقل هو العلم، وحياء الحمق هو الجهل»(3).

أي حياء العقل ينشأ من العلم، وحياء الحمق ينشأ من الجهل، أو حياء العقل يوجب العلم، وحياء الحمق يوجب الجهل.

 

 


(1) البحار: 71 / 334.

(2) المصدر السابق: ص 330.

(3) المصدر السابق: ص 331.

431

 

 

 

 

الفصل السادس والعشرون

ا لصـــــد ق

 

قال الله تعالى: ﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلاَ نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ * طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الاَْمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ﴾(1).

الصدق قد يُطلق على ثلاثة معان:

الأوّل: الصدق في مقابل الكذب. وهو الصدق في الحديث: بأن لا يتحدَّث إلاّ بما يعتقده مطابقاً للواقع. والكذب حرام.

وإليك بعض الروايات:

1 ـ ورد عن الصادق(عليه السلام) قال: «قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): ثلاث من كنَّ فيه كان منافقاً وإن صام وصلَّى وزعم أنَّه مسلم: من إذا ائتمن خان، وإذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف. قال الله ـ عزَّوجلَّ ـ في كتابه: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ﴾(2) وقال: ﴿أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ﴾(3) وفي قوله: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ


(1) السورة 47، محمَّد (صلى الله عليه وآله)، الآيتان: 20 ـ 21.

(2) السورة 8، الأنفال، الآية: 58.

(3) السورة 24، النور، الآية: 7.

432

كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً﴾»(1).

2 ـ وعن محمَّد بن مسلم في سند تامٍّ، عن الباقر(عليه السلام) قال:« إنَّ الله ـ عزَّ وجلَّ ـ جعل للشرِّ أقفالاً، وجعل مفاتيح تلك الأقفال الشراب، والكذب شرُّ من الشراب»(2).

وكأنّ المقصود بذلك: أنَّ مَنْ شرب الشراب فَقَدَ العقل، وإذا فَقَدَ العقل جاء احتمال ارتكابه لأيِّ جريمة من الجرائم، ولكنَّ الكذب شرٌّ من الشراب؛ لأنَّ الشخص لو التزم بالصدق ترك الجرائم؛ لأنَّه في غالب الأحيان إمَّا أن يتوقَّف على الكذب الموجب لإغفال الناس عمَّا يعجزه عن ارتكاب الجرم، أو يتوقَّف حفظ ماء وجهه أمام الناس على الكذب؛ لكي لا ينفضح بجرمه. ففتح باب الجرائم يكون بالكذب. والسكران إنَّما يفعل الجرم عن غير شعور وعمد. ولكنَّ الكاذب يفعل الجرم عن عمد وقصد، ويتقصَّد ما يشاء من الجرائم مهما بلغ في السعة والكثرة، فكان الكذب شرَّاً من الشراب.

3 ـ وعن الحسين بن أبي العلاء بسند تامٍّ، عن الصادق(عليه السلام) قال: «إنّ الله ـ عزَّوجلَّ ـ لم يبعث نبيّاً إلاّ بصدق الحديث وأداء الأمانة إلى البرِّ والفاجر»(3).

4 ـ وعن إسحاق بن عمَّار وغيره بسند تامٍّ، عن الصادق(عليه السلام) قال: «لا تغترُّوا بصلاتهم ولا بصيامهم؛ فإنَّ الرجل ربَّما لهج بالصلاة والصوم حتّى لو تركه استوحش، ولكن اختبروهم عند صدق الحديث وأداء الأمانة»(4).

والثاني: الصدق في مقابل الخُلف. وهو الصدق في الوعد، فلو كان الوعد عن


(1) السورة 19، مريم، الآية: 54، والحديث في الوسائل 15 / 340، الباب 49 من جهاد النفس، الحديث 4.

(2) الوسائل 12 / 244، الباب 138 من أحكام العشرة، الحديث 3.

(3) البحار 71 / 2.

(4) المصدر السابق.

433

علم بأنَّه سيُخلف لكان كذباً بالمعنى الأوَّل، ولكنَّ الشخص ربَّما لا يقصد الخُلف حين الوعد، ثُمَّ يبدو له أن يخلف. وهذا الوعد إن كان على مستوى التعاهد والتعاقد فخُلفه حرام بلا إشكال؛ لأنَّ الوفاء بالعقد والعهد واجب. قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ...﴾(1).

وقال عزّوجلّ: ﴿... أَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً﴾(2).

وإن لم يكن على هذا المستوى، بل كان وعداً ابتدائيَّاً بحتاً، فالمشهور لدى الفقهاء كراهة خلفه وعدم حرمته، ولكن شبهة الحرمة قويَّة لأجل الروايات المشدِّدة في ذلك مع صحّة أسانيد بعضها:

وقد ورد عن شعيب العقرقوفي بسند تام، عن الصادق(عليه السلام) قال: «قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): مَنْ كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليفِ إذا وعد»(3).

وعن هشام بن سالم بسند تامٍّ قال: «سمعت أبا عبدالله(عليه السلام) يقول: عدّة المؤمن أخاه نذر لا كفَّارة له. فمَنْ أخلف فبخلف الله بدأ، ولمقته تعرَّض، وذلك قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ﴾»(4).

وعن سماعة بن مهران بسند تامٍّ، عن الصادق(عليه السلام) قال: «قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): مَنْ عامل الناس فلم يظلمهم، وحدَّثهم فلم يكذبهم، ووعدهم فلم يخلفهم، كان ممَّن حَرُمت غيبته، وكملت مروءته، وظهر عدله، ووجبت أخوّته»(5).

وعن منصور بن حازم بسند تامٍّ، عن الصادق(عليه السلام) قال: «إنَّما سُمِّي إسماعيل(عليه السلام)


(1) السورة 5، المائدة: الآية: 1.

(2) السورة 17، الإسراء، الآية: 34.

(3) الوسائل 12 / 165، الباب 109 من أحكام العشرة، الحديث 2.

(4) المصدر السابق: الحديث 3، والآية: 32 في السورة 61، الصف.

(5) الوسائل: 12 / 279، الباب 152 من أحكام العشرة، الحديث 2.