310

وإن كان المقصود الثاني، فلا إشكال في أنّ وجوب الأقلّ المحدود بحدِّ وقوفه على المقدار الأقلّ، والوجوب الممتدّ إلى الجزء الزائد متباينان بما لهما من الحدّين المتبيانين، وقد تعلّق بذلك العلم الإجمالي، إلّا أنّ هذا التباين إنّما هو بلحاظ الحدّ، وحدّ وجوب الأقلّ الذي يعني الوقوف على الجزء التاسع وعدم تعدّيه إلى الجزء العاشر لا يدخل في العهدة، وليس له امتثال، وإنّما الذي يدخل فيها ويتطلّب الامتثال هو ذات الوجوب، وحينما نلحظ ذات الوجوب بقطع النظر عن حدّه لا نرى وجوبين متباينين، بل نعلم بعروض الوجوب على الأقلّ، ونشكّ في انبساطه على الزائد، وإنّما التردّد بين المتباينين في النفس يكون في مرتبة الحدّ غير الواجب امتثاله.

وممّا ذكرنا ظهر وجه الخلل ـ فيما مضى من التصوير البدائي لإرجاع الأمر إلى المتباينين ـ من أنّ الوجوب الارتباطي وجوب واحد، والوحدة تساوق التباين، فإنّه إن لاحظنا الحدّ في المقام صحَّ ذلك، إلّا أنّ الحدّ غير واجب الامتثال، وإنّما الذي يجب امتثاله ذات المحدود، وفي مرتبة ذات المحدود ملغيّاً عنه الحدّ لا يُرى وجوبان حتى يقال: إنّ الوحدة تساوق التباين، بل يُرى أنّ الوجوب عرض على الأقلّ، ويشكّ في امتداده على الزائد وعدمه.

وأمـّا الاتجاه الثاني: فحاصله أنّنا وإن علمنا تفصيلاً بوجوب الأقلّ استقلالاً أو ضمناً، لكنّ الأقلّ المعروض للوجوب استقلالاً غير الأقلّ المعروض للوجوب ضمناً.

ولتكن الآن صياغة بيان ذلك: هي أنّ المعروض للوجوب الاستقلالي هو الأقلّ بإطلاقه وبلا قيد، والمعروض للوجوب الضمني هو حصّة خاصّة من الأقلّ، وهي الحصّة المقيّدة بالاقتران بالزائد على ما هو شأن أجزاء الواجب الارتباطي، والمطلق مع المقيّد متباينان.

وتوضيح حال هذا الاتجاه يتطلّب منّا الحديث عن أصل حقيقة الواجب الارتباطي فنقول:

 

تصوير حقيقة الواجب الارتباطي

إنّ في حقيقة الواجب الارتباطي تصويرات ثلاثة:

التصوير الأوّل: ما يناسب صياغة البيان المذكور آنفاً في إبراز عنصر التباين من

311

أنّ الوجوب الارتباطي يتعلّق بالأجزاء، مع فرض أنّ كلّ جزء جزءٌ في نفسه، وشرط لغيره من الأجزاء، وأنّ كلّ واحد منها مقيّداً بالباقي واجب.

ولا يرد على هذا استلزامه للدور؛ لكون الشرط مقدّماً رتبة على المشروط، فيلزم تقدّم كلّ من الجزءين على الآخر.

فإنّ الجواب عن ذلك: هو أنّ الشرط له معنيان:

أحدهما: ما يتوقّف عليه الشيء، كالصعود على الدرج بالنسبة للكون على السطح، والشرطيّة بهذا المعنى هي التي لا يمكن أن تكون من الطرفين للزوم الدور.

وثانيهما: ما قيّد به الشيء وحصّص به، والشرطيّة بهذا المعنى من الطرفين لا تستلزم الدور؛ إذ ليست ذات كلّ من الركوع والسجود مثلاً متوقّفة على الآخر، وإنّما تكون نسبة كلّ منهما للآخر، ومقارنته له متوقّفة عليه، فيختلف المتوقّف على المتوقّف عليه.

إلّا أنّ الكلام يقع فيما هو الدليل على دعوى أخذ كلّ واحد من الأجزاء مقيّداً بالباقي، والدليل على ذلك يكون أحد أمرين:

الأمر الأوّل: أنّ الوجوب الارتباطي بما أنـّه وجوب واحد يستحيل تعلّقه بالمتكثّر بما هو متكثّر، فلا بُدَّ من فرض وحدة في متعلّقه، وتوحيد هذه الأجزاء يكون بتقييد كلّ منها بالباقي، فهذا التقييد المتقابل يكون قضاءً لحقّ وحدة الوجوب.

والواقع: أنّ استحالة تعلّق الوجوب الواحد بالمتكثّر بما هو متكثّر، وإن كان أصلاً بديهياً عندنا ـ رغم مخالفة المحقّق العراقي (رحمه الله)فيه كما سيأتي إن شاء اللّه ـ لكنّ هذا لا يفيد شيئاً في المقام؛ لأنّ هذه التقييدات المتبادلة لا توحّد تلك الاُمور المتكثّرة، غاية الأمر أنـّه بغضّ النظر عن التقييد تكون تلك الاُمور ذوات أجزاء متكثّرة، وبالنظر الى التقييد تكون مقيّدات متكثرة، وهذا لا يقضي حقّ وحدة الوجوب، والشاهد على ذلك أنـّه يمكن فرض هذه التقييدات المتبادلة بين واجبات مستقلّة، فمثلاً: يشترط في صحّة صلاة العصر إيقاعها بعد صلاة الظهر، ويمكن فرض اشتراط صحّة صلاة الظهر ـ أيضاً ـ بإيقاع صلاة العصر بعدها، من دون أن يلزم من ذلك كونهما واجباً واحداً ومتعلّقاً لوجوب واحد.

والخلاصة: أنـّه يمكن فرض غرضين مستقلّين في أمرين مع افتراض أنّ كلّ واحد من الغرضين لا يحصل إلّا بحصّة من أحد الأمرين مقارنة للآخر، وعندئذ يتحقّق لا محالة وجوبان مستقلاّن لهما امتثالان وعصيانان، وفاعلهما يثاب بثوابين،

312

وتاركهما يستحق عقابين، مع أنّ كلّ واحد منهما مشروط بالآخر، ولم يخلق هذا الاشتراط توحّداً فيما بينهما.

فالتقييدات المتبادلة لا توحّد الكثير، بل نفس التقييد يستدعي التكثّر والتعدّد، حتّى يكون بعضها قيداً لبعض.

الأمر الثاني: أنـّه لا إشكال في أنّ المكلّف لو أتى ببعض أجزاء الواجب الارتباطي دون البعض لم يكن ما أتى به متّصفاً بالمطلوبيّة والوجوب، وإلّا لكان واجباً مستقلاًّ، وعليه نقول: إنّ كلّ جزء من الأجزاء هل هو مقيّد بالباقي، أو مطلق من ناحية الباقي؛ إذ يستحيل الإهمال؟ فإن فرض الإطلاق لزم اتّصاف الجزء بالمطلوبيّة في كلتا حالتيه، أي: حالة انضمامه إلى الباقي وحالة انفراده عنه، وهذا خلف ما عرفت. وإن فرض التقييد فهو المطلوب.

ويرد عليه: أنّ هذا البرهان إنّما ينسجم مع القول بكون الإطلاق عبارة عن لحاظ السريان وعدم القيد، فعندئذ يكون إطلاق الركوع مثلاً عبارة عن لحاظ سريان وجوبه للحصّة المنضمّة إلى الباقي، وللحصّة المنفردة، وهذا خلف ما فرضناه من أنّ المكلّف لو اقتصر على بعض الأجزاء لما كان ذاك البعض مطلوباً، وإلّا لكان واجباً مستقلاًّ.

لكن الصحيح في باب الإطلاق: أنـّه عبارة عن مجرّد عدم لحاظ القيد، وعليه فبالإمكان أن نلتزم هنا بالإطلاق، ونقول مع ذلك: إنّ كلّ واحد من الأجزاء غير متّصف بالمطلوبيّة والوجوب في حالة انفراده عن الباقي، لا لعدم الإطلاق في الموضوع، بل لعدم قابليّة المحمول، وهو الوجوب الضمني لهذا الانبساط؛ لكونه جزءاً من وجوب وحداني ثابت على المجموع، ومشدوداً ظهره بسائر الوجوبات الضمنيّة.

فتحصّل: أنّ كون الوجوب ارتباطيّاً لا يقتضي بوجه من الوجوه تقيّد الأجزاء بعضها ببعض. نعم، نحن لا ننكر إمكان تقيّد بعضها ببعض؛ لعدم استلزام ذلك للدور كما عرفت، لكن هذا الأمر الممكن ثبوتاً يتبع دلالة دليل ذلك الواجب عليه إثباتاً، فإن دلّ عليه دليله، فهو أمر ثابت لذلك الواجب الارتباطي صدفة، من دون أن يكون دخيلاً في صميم ارتباطيّة الوجوب.

التصوير الثاني: أنّ أجزاء الواجب الارتباطي متوحّدة فيما بينها بوحدة متأخّرة رتبة عن عروض الوجوب، وليست فيما بينها وحدة معروضة للوجوب،

313

ولعلّ هذا ممّا امتاز به المحقّق العراقي(رحمه الله)(1). وبيانه: أنّ وحدة الوجوب وتعدّده إنّما تتبع وحدة الملاك وتعدّده، لا وحدة معروضه وتكثّره.

نعم، لا إشكال في أنّ وحدة الوجوب تستلزم وحدة الواجب، لكن ليست هذه الوحدة مأخوذة في معروض الوجوب. وتوضيح ذلك: أنّ الشيء المتكثّر بذاته قد يصبح واحداً بوحدة عرضيّة ناشئة من وحدة ما عرض عليه، فمثلاً: اللحاظ الواحد إذا طرأ على أُمور متكثّرة حصلت لها وحدة عرضيّة بلحاظ وحدة ما عرض عليها من اللحاظ، وكذلك الشوق الواحد والملاك الواحد ونحو ذلك. والواجب الارتباطي لا إشكال في أنـّه بذاته عبارة عن أُمور متكثّرة، لكن قد عرضت عليه توحّدات باعتبار وحدة جملة من عوارضها كاللحاظ والوجوب والملاك، وهذه الوحدات يستحيل أخذها في معروض الوجوب؛ أمـّا الوحدة الناشئة من وحدة الوجوب، فهي في طول الوجوب، فلا يعقل أخذها في متعلّقه، وأمـّا الوحدة الناشئة من وحدة الملاك، فهي وإن لم تكن في طول الوجوب، لكن الوجوب تابع للملاك، فيتعلّق بما يتعلّق به الملاك، ومن المعلوم أنّ تلك الوحدة غير دخيلة في متعلّق الملاك ومعروضه؛ لأنّها في طول الملاك، وكذلك أيّ وحدة اُخرى تفرض في المقام كوحدة اللحاظ، فبما أنـّها غير مربوطة بمعروض الملاك لا تؤخذ في معروض الوجوب؛ لأنّ الوجوب يعرض على ما يعرض عليه الملاك.

فقد تحصّل: أنّ معروض الوجوب هو الشيء المتكثّر بما هو متكثّر. وأمـّا الوجه في وحدة هذا الوجوب، فهو وحدة الملاك؛ فإنّ الوجوب يستمدّ وحدته من وحدة الملاك، وإن فرض تكثّر ما عرض عليه الوجوب.

ثمّ إنّه يرد على هذا التصوير: أنّ العارض والمعروض لا بُدَّ أن يكونا في ظرف العروض متسانخين في الوحدة والتكثّر، فلو كان المعروض في ظرف العروض متكثّراً يكون العارض متكثّراً لا محالة، ويدلّ على ذلك أمران:

الأمر الأوّل: أنّ روح الوجوب والحبّ والإرادة ـ وهي من قبيل العلم ـ من الصفات الحقيقيّة النفسيّة ذات الإضافة، أي: أنّ هذه الأعراض مضافاً إلى إضافتها لمحلّها ـ وهي النفس ـ لها إضافة إلى شيء آخر كإضافة العلم إلى المعلوم، وهذه الإضافة داخلة في صميم ذاتها، ولا معنى لتصوير حقيقة العلم مثلاً مستقلاًّ ومنحازاً


(1) راجع نهاية الأفكار: القسم الثاني من الجزء الثالث، ص 377 ـ 379.

314

عن تصوير الإضافة. وبهذا يظهر أنّ المعلوم الخارجي هو معلوم بالعرض والمجاز، ولذا قد لا يكون ثابتاً في الخارج، ويكون العلم خطأ، ومعه ينفصل في الوجود عن العلم رغم أنّ إضافته إلى المعلوم داخلة في صميم ذاته، فلابُدَّ من التفتيش عن معلوم آخر ألصق منه بالعلم، ولا ينفك عنه في صورتي الصواب والخطأ معاً، وذلك هو المعلوم بالذات، وهي الصورة الذهنيّة.

كما يتبرهن بذلك: أنّ تعدّد العلم والمعلوم بالذات إنّما يكون بالتحليل العقلي، ويكون كلاهما موجوداً في الخارج بوجود واحد، وليسا موجودين بوجودين شُدّ احدهما بالآخر بخيط الإضافة، ـ كما يقال بذلك في نسبة سائر الأعراض إلى محلها، وإن كان الصحيح أنّ العرض والمحلّ فيها ـ أيضاً ـ متّحدان وجوداً، وأنّ العرض شأن من شؤون المعروض ـ إذ لو كان الأمر كذلك؛ لأمكن إفراز العلم بحسب التحليل التصوّري، وتصوّره منحازاً عن إضافته إلى معلوله، ولم تكن الإضافة داخلة في صميم ذاته، في حين أنـّه ليس الأمر كذلك، وكذا الحال في جميع الصفات الحقيقيّة النفسيّة ذات الإضافة كالحبّ والإرادة، فإذا ظهر اتّحاد الحبّ والمحبوب بالذات ظهر أنّ تكثّر المحبوب يستدعي ـ لا محالة ـ تكثّر الحبّ، ولا معنى لتكثّر أحدهما ووحدة الآخر؛ لأنّهما موجودان بوجود واحد.

نعم، ما تبرهن بذلك أنّما هو وحدة المحبوب النفسي الموجود في عالم الذهن عند وحدة الحبّ، دون وحدة المحبوب بالعرض الخارجي، وهذا معنى ما قلناه من أنّ العارض والمعروض في ظرف العروض يجب أن يكونا متسانخين في الوحدة والتكثّر، فلو أُريد من فرض تكثّر المحبوب رغم وحدة الحبّ تكثّر أجزائه الخارجيّة، وفي ظرف الخارج، فهذا ليس هو محلّ الكلام، أي: لم يتوهّم أيّ عاقل توحّد أجزاء الصلاة مثلاً خارجاً، ولا إشكال في أنـّها تشتمل على أشياء كثيرة وماهيّات مختلفة، فالمقصود إنّما هو البحث عن المعروض بالذات للحبّ دون المعروض بالعرض، وقد عرفت أنـّه متسانخ حتماً مع الحبّ وحدةً وتكثّراً.

الأمر الثاني: لو غضضنا النظر عن وحدة العارض والمعروض فأيضاً لا محيص عن الالتزام بأنّ تكثّر المعروض يستلزم تكثّر العارض؛ وذلك لأنـّه إذا عرض عارض على عدّة أُمور فإن فرض أنّ ذلك العارض بتمامه عرض على هذا الأمر، وبتمامه عرض على ذاك الأمر، وهكذا، إذن فهذا العارض لم يعرض بوحدته على أُمور متكثّرة بما هي متكثّرة، بل عرض على كلّ واحد من هذه الاُمور مستقلاًّ، وكان

315

المعروض أمراً واحداً لا متكثّراً، وإن فرض أنّ ذلك العارض لم يعرض بتمامه على كلّ واحد من هذه الاُمور مستقلاًّ، بل انبسط على تمام هذه الاُمور، وعرض على الكلّ المتكثّر بما هو متكثّر، فلا محالة يأخذ ـ عندئذ ـ كلّ أمر من هذه الاُمور المتشتّتة والمستقلّة قطعة خاصّة به من ذاك العارض بالاستقلال، ويصبح العارض في المقام عدّة وجودات عرضيّة مستقلّة ومتشتّتة.

التصوير الثالث: أنّ معروض الوجوب الارتباطي بالذات عنوان وحدانيّ ذهنيّ. وتوضيح ذلك: أنـّه قد مضى منّا في بعض الأبحاث السابقة: أنّ العناوين على قسمين؛ فبعضها تستورده النفس من الخارج، كعنوان الإنسان الذي تستورده النفس من الخارج عن طريق أخذ الصورة الذهنيّة من الأفراد، وتقشيرها للخصوصيّات الفرديّة والمائزة بين الأشخاص، وبعضها تصنعه النفس في معملها الخاصّ وتخيّطه وتلبسه الخارج، كعنوان (أحدهما) المنصبّ عليه العلم الإجمالي. ومن هذا القبيل عنوان (المجموع) و (الكلّ)، وعليه نقول: إذا وجد لأحد غرض واحد لا يتحقّق إلّا بمجموع اُمور بحيث لو ترك أيّ فرد من تلك الاُمور لا ينفعه الباقي في غرضه أصلاً، فلا محالة ينقدح في نفسه حبّ واحد وشوق واحد، وبما أنّ هذا الحبّ والشوق الواحد يجب أن يعرض في ظرف عروضه ـ وهو الذهن ـ على شيء واحد ـ كما مضى ـ، فلا محالة تضطرّ النفس إلى اصطناع عنوان المجموع، وإلباسه على ما في الخارج، ليعرض الحبّ عليه. نعم، ما في الخارج متكثّر، لكنّه في غير ظرف العروض فلا بأس بتكثّره.

إذا عرفت ذلك فلنرجع إلى أصل المطلب؛ لنرى أنـّه هل ينجح الاتّجاه الثاني لإبراز عنصر التباين بين الأقلّ والأكثر الارتباطيين بدعوى أنّ الأقلّ المعروض عليه الوجوب الضمني غير الأقلّ المعروض عليه الوجوب الاستقلالي، أو لا؟

فنقول: أمـّا على النظريّة الثانية القائلة بعروض الوجوب الواحد على الكثير بما هو كثير، فعدم نجاح هذا الاتجاه واضح؛ إذ الأقلّ بنفسه موجود في ضمن الأكثر، وإنّما الشكّ في أنّ الوجوب هل عرض على الأقلّ فقط، أو عرض على الزائد أيضاً، بأن كان ذاك الأقلّ مع هذا الزائد بما هما متكثّران معروضاً للوجوب؟.

وأمـّا على النظريّة الاُولى ـ وهي النظريّة القائلة بتقييد كلّ جزء بسائر الأجزاء ـ فقد يتوهّم نجاح هذا الاتجاه؛ إذ الأمر دائر بين وجوب الأقلّ المقيّد بالزائد، ووجوب مطلق الأقلّ، وكذلك الحال على النظريّة الثالثة ـ القائلة بعروض الوجوب

316

على عنوان المجموع الذي هو عنوان وحدانيّ تخيطه النفس، وتُلبسه الخارج ـ إذ الأمر دائر بين وجوب هذا المجموع، أو ذاك المجموع، وهذان عنوانان متباينان، وثوبان مخيطان من قبل النفس متعدّدان، ومختلفان بالسعة والضيق.

لكنّ الصحيح: عدم نجاح هذا الاتجاه على هاتين النظريتين أيضاً.

أمـّا بناءً على النظريّة الاُولى القائلة بأنّ الأقلّ المعروض للوجوب الضمني يختلف عن الأقلّ المعروض للوجوب الاستقلالي بالإطلاق والتقييد. فإن قلنا: إنّ الإطلاق أمر عدمي، وليس شيئاً وراء عدم التقييد، فمن المعلوم أنـّه لا يمكن فرض التباين بين الطرفين بمجرّد الإطلاق والتقييد بوجه من الوجوه، فإنّ الأقلّ المقيّد المعروض للوجوب الضمني هو عين الأقلّ المطلق المعروض للوجوب الاستقلالي، مع إضافة لحاظ التقييد في المقام، وهذه الإضافة غير موجودة في جانب الوجوب الضمني، لا أنـّه وجدت مكانها إضافة اُخرى.

وإن قلنا: إنّ الإطلاق أمر وجودي، وهو لحاظ عدم القيد فهنا يتحقّق التباين بحسب ما هو معروض الوجوب في عالم ذهن المولى؛ لأنّ المطلق ـ وهو الملحوظ بوجوده السعي الشامل بما هو كذلك ـ غير المقيّد، فهما أمران وجوديان متباينان، لكنّ العلم الإجمالي الدائر بين المتباينين بهذا النحو لا يفيد الاُصولي شيئاً، كما يظهر ذلك بذِكر مقدّمة:

وهي أنّنا وإن قلنا: إنّ المعروض بالذات للوجوب هي الصورة الذهنيّة، لكنّها ليست هي الملقاة على عاتق المكلّف مولويّاً بما هي صورة ذهنيّة؛ إذ ليس المطلوب أن يوجد العبد تلك الصورة الذهنيّة في ذهن المولى، وليس ذلك تحت قدرة العبد، على أنّ ذلك تحصيل للحاصل، فإنّ المولى حين الإيجاب قد وجدت في ذهنه تلك الصورة، وإنّما عرض الوجوب على تلك الصورة بما هي مرآة وحاكية، فما يكون في عهدة المكلّف مولويّاً إنّما هو محكيّ هذه الصورة.

فإذا عرفت هذه المقدّمة قلنا: إنّه لو دار الأمر بين المتباينين بلحاظ محكيّ الصورة وذيها ـ الذي هو في عهدة المكلّف مولويّاً ـ لتسجّل على العبد وجوب الاحتياط حتماً. وأمـّا إذا كان هذا الدوران بلحاظ عالم الصورة الذهنيّة للمولى، فلا يقتضي ذلك وجوب الاحتياط؛ إذ ليست تلك الصورة في عهدة المكلّف مولويّاً، والأمر فيما نحن فيه من هذا القبيل؛ وذلك لأنّ التقييد الثابت في عالم الصور الذهنيّة للمولى وإن كان له ما بإزاء في محكيّ الصورة، لكنّ الإطلاق الثابت في عالم الصور

317

الذهنيّة له ليس له ما بإزاء في محكيّ الصورة، وإنّما شغله عبارة عن أن يجعل الصورة أوسع انطباقاً وحكايةً على ما في الخارج، فتنطبق على عدّة فروض لم تكن تنطبق لولا الإطلاق، إلّا على بعضها.

وأمـّا إذا بنينا على النظريّة الثالثة القائلة بعروض الوجوب على أحد عنواني المجموع، وهما عنوانان متباينان، ويختلفان بالسعة والضيق، فقد تبيّن الحال على هذه النظريّة ممّا ذكرناه، فإنّ الذي يقع في عهدة المكلّف مولويّاً ـ كما اتّضح ـ إنّما هو المعنون والمحكيّ، لا العنوان والصورة، وهو مردّد بين الأقلّ والأكثر لا بين المتباينين.

وقد اتّضح بكلّ ما ذكرناه: أنّ كلتا المحاولتين لإبراز عنصر التباين بين الأقلّ والأكثر غير ناجحتين في المقام، وهما: إبراز التباين بلحاظ حدّ الوجوب، وإبرازه بلحاظ متعلّق الوجوب، وهو الأقلّ الواجـب ضمناً مع الأقلّ الواجب استقلالاً، وقد عرفت أنّ حدّ الوجوب لا يقع على عاتق العبد، وكذلك الصورة الذهنيّة للمولى لا تقع بما هي صورة ذهنيّة على عاتق العبد.

وبهذا يظهر: أنّ من ادّعى الانحلال الحقيقي في المقام، إن أراد به الانحلال الحقيقي بلحاظ ما في عهدة المكلّف مولويّاً، فهو صحيح. وإن أراد الانحلال الحقيقي بلحاظ تمام عالم التكوين، فهو غير صحيح، ومن ادّعى الانحلال الحكمي كالسيّد الاُستاذ(1) الذي قال: إنّ العلم الإجمالي منحلّ حكماً؛ لجريان الأصل في نفي الزائد من دون معارض. يقال له: إنّه لو سلّم ثبوت العلم الإجمالي حقيقة المردّد بين المتباينين بلحاظ ما في عهدة المكلّف مولويّاً، فلا مجال للانحلال الحكميّ، ويكون الأصل النافي لأحد المتباينين معارضاً للأصل النافي للآخر، ولا بُدَّ من الاحتياط لا محالة، ولو لم يسلّم ذلك، ورأى أنّ التباين غير ثابت بلحاظ ما في عهدة المكلّف، وإن قلنا بثبوته في الجملة في عالم التكوين، فهذا الانحلال لا بُدَّ من الاعتراف به حتّى على قول من لا يؤمن أساساً بالانحلالات الحكميّة، فإنّه بعد فرض عدم الدوران بين المتباينين بلحاظ ما في عهدة المكلّف مولويّاً لا وجه للزوم الاحتياط.

 


(1) راجع مصباح الاُصول: ج2، ص 433 ـ 434.

318

2 ـ العلم التفصيلي بوجوب الأقلّ

المانع الثاني: العلم التفصيلي بوجوب الأقلّ استقلالاً أو ضمناً، وتقريب المانعيّة: أنـّه لنسلّم أنّ العلم الإجمالي بوجوب الأقلّ أو الأكثر انحلّ بالعلم التفصيلي بوجوب الأقلّ استقلالاً أو ضمناً، لكنّ نفس هذا العلم التفصيلي يقين بالاشتغال، ويستدعي اليقين بالفراغ، ولو اختصرنا على الإتيان بالأقلّ لم نجزم بسقوط التكليف بالأقلّ؛ لأنـّه وإن كنا نعلم بسقوطه على تقدير كونه تكليفاً مستقلاًّ، ولكنّه على تقدير كونه تكليفاً ضمنيّاً لا يسقط إلّا بالإتيان بالأكثر، فلأجل حصول الجزم بسقوط التكليف بالأقلّ لا بُدَّ من الإتيان بالأكثر. ولعلّ أوّل من ذكر هذا الوجه هو صاحب الفصول (رحمه الله).

ويرد عليه:

أوّلاً: أنّ سقوط التكليف بالأقلّ بمعناه الحقيقي غير ممكن حتّى باتيان الأكثر، وبمعنى سقوط فاعليّة التكليف حاصل بنفس الإتيان بالأقلّ، بلا حاجة إلى الإتيان بالزيادة.

وتوضيح المقصود: أنـّه تارة يفترض أنّ المقصود بسقوط التكليف هو معناه الحقيقي الذي يكون إمّا بمعنى سقوط الجعل، أو بمعنى سقوط المجعول. فلو أُريد بذلك سقوط الجعل، فإنّه لا يكون إلّا بمعنى النسخ الحقيقي والبداء المستحيل على اللّه تعالى، ولو أُريد سقوط المجعول وفعليّة التكليف، فهو لا يكون إلّا بانتفاء موضوعه، أو أحد أجزاء موضوعه أو قيوده، ومعلوم أنّ الامتثال لا يحقّق سقوط التكليف بشيء من المعنيين.

أمـّا الأوّل: فواضح؛ فإنّ امتثال التكليف لا يوجب حصول البداء للمولى ونسخ الوجوب.

وأمـّا الثاني: فكيفيّة تصويره في المقام: هو أن يفترض أنّ أحد قيود موضوع الوجوب هو عدم إتيان العبد بمتعلّقه، فلو أتى العبد بمتعلّقه سقطت فعليّة التكليف؛ لانتفاء موضوعه بالإتيان، ولكن من الواضح أنّ أخذ قيد في موضوع الوجوب ليس أمراً جزافاً، وإنّما هو باعتبار دخله في محبوبيّة الفعل ومصلحته، ومن المعلوم أنّ عدم الامتثال ليس دخيلاً في ذلك، فما صدر من العبد في مقام الامتثال يكون محبوباً للمولى وذا مصلحة حتّى بعد صدوره. نعم، قد لايكون تكرار العمل والإتيان بفرد ثان للمتعلّق محبوباً وذا مصلحة، ولكن هذا مطلب آخر، فإنّ وجوب فرد ثان

319

عليه تكليف آخر غير التكليف السابق، قد يكون وقد لا يكون، وهذا غير مسألة سقوط التكليف السابق نعم. الشيء الذي تحقّق بالامتثال: هو أنّ المصلحة قد استوفيت، والمطلوب قد تحقّق، والتكليف قد استنفد مقتضاه من التحريك والفاعليّة، فانتهت فاعليّته، وهذا غير سقوط المطلوبيّة وعدم المصلحة، ويزداد وضوح ذلك بقياس الإرادة التشريعيّة بالإرادة التكوينيّة، فالعطشان المريد للماء إذا شرب الماء وزال عطشه قد استوفى مراده ومصلحته، وليس ما فعله من شرب الماء قد خرج عن المطلوبيّة والاتّصاف بالمصلحة. نعم، بعد صدور ما أراده من الشرب قد سقطت محبوبيّة الشرب ومطلوبيّته عن الفاعليّة والمحرّكيّة؛ لفرض حصول محبوبه، وكذلك الحال في الإرادة التشريعيّة، فالتكليف بالحجّ مثلاً لايسقط بنفسه بإتيان العبد بالحجّ، وإنّما تسقط بذلك فاعليّته ومحركيّته. إذن فسقوط التكليف بمعناه الحقيقي لا يحصل حتّى بالإتيان بالأكثر، فلا معنى لفرض إيجاب الاحتياط بالإتيان بالأكثر لتحصيل الجزم بسقوط التكليف.

واُخرى يفترض أنّ المقصود بسقوط التكليف هو سقوط فاعليّته ومحرّكيّته فيقال: إنّ وجوب الأقلّ إن كان استقلاليّاً فقد سقطت فاعليّته بالإتيان بالأقلّ، وأمـّا إن كان ضمنيّاً فالإتيان بالأقلّ ليس مسقطاً لفاعليته، وهذا هو معنى الشكّ في الفراغ.

ويرد على هذا: أنّ فاعليّة التكليف باتجاه الأقلّ حتّى إذا كان ضمنيّاً قد سقطت بالإتيان؛ إذ بعد الإتيان بالأقلّ لا يعقل تحريك وجوبه الضمني نحو الإتيان به، أو نحو سدّ باب العدم من قِبَل الأقلّ؛ لأنّ المفروض حصول ذلك. نعم، تحتمل فاعليّة التكليف حتّى بعد الإتيان بالأقلّ بلحاظ الزائد، لكن احتمال ذلك يكون ناشئاً من احتمال انبساط التكليف على الجزء الزائد، فتجري البراءة.

وثانياً: أنّنا لو سلّمنا أنّ سقوط التكليف الضمني بالمعنى الحقيقي للكلمة يحصل بامتثال ما هو في ضمنه من التكليف الاستقلالي، ولا يحصل بالاقتصار على الإتيان بمتعلّقه، وهو الأقلّ، قلنا ـ كما أفاده السيّد الاُستاذ(1) وغيره من المحقّقين ـ: إنّ الواجب عقلاً على المكلّف ليس هو عنوان إسقاط التكليف عند تماميّة شرائط تنجيزه، وإنّما الواجب عليه عقلاً هو الإتيان بمتعلّق التكليف المنجّز، ففي مورد يفترض سقوط التكليف ملازماً للإتيان بمتعلّق التكليف يحصل لا محالة ذلك


(1) راجع الدراسات: ج 3، ص 273، ومصباح الاُصول: ج 2، ص 432.

320

بالإتيان بمتعلّق التكليف، وفي مورد يفترض عدم ملازمته إيّاه يكفينا الإتيان بمتعلّق التكليف المنجّز، ولا حاجة لنا إلى إحراز سقوط التكليف، والمفروض في المقام: أنّ العلم الإجمالي بوجوب الأقلّ أو الأكثر ليس منجّزاً؛ لانحلاله بالعلم التفصيلي بوجوب الأقلّ، إمّا ضمناً أو استقلالاً، فالشيء المنجّز إنّما هو الأقلّ الذي قد تنجّز بالعلم التفصيلي بوجوبه الضمني أو الاستقلالي، والمفروض أنّنا قد أتينا بهذا المتعلّق للتكليف، وعملنا بالوجوب بالمقدار الذي تنجّز، فلنكن غير محرزين لعنوان سقوط التكليف، وأيُّ ضرر في ذلك؟!!.

إن قلت: إنّنا لا نتكلّم عن عنوان إسقاط التكليف، وإنّما نتكلّم عن قبح مخالفة تكليف المولى وحسن امتثاله، ونقول: لا بُدَّ من تحصيل الجزم بالامتثال، وعدم مخالفة التكليف المعلوم، والوجوب الضمني بما أنـّه مندكّ ضمن الوجوب الاستقلالي وجزء منه، وليس له وجود مستقلّ، كذلك يكون لا محالة امتثاله بامتثال الوجوب الاستقلالي ومندكّاً فيه، ومخالفته بمخالفته، وعليه فلو كان الأقلّ واجباً ضمنيّاً وقد ترك الزائد، فقد خالف ذلك الوجوب الضمني؛ لأنّه خالف الوجوب الاستقلالي، وبما أنـّه يحتمل كون وجوب الأقلّ ضمنيّاً، فهو يحتمل مخالفة هذا الوجوب بترك الزائد، ولابُدَّ من الجزم بترك المخالفة.

قلت بعد غضّ النظر عن أنّ الكلام - أعني: دعوى كون اندكاك الوجوب الضمني في الوجوب الاستقلالي موجباً لكون امتثاله عين امتثاله ومخالفته عين مخالفته ـ مجرّد تنميق من الكلام وشعر وخيال: إنّه بناءً على هذا البيان نقول: إنّ الانحلال يقع في نفس المخالفة. وتوضيح ذلك: أنـّه إذا ترك الزائد فهو وإن كان يحتمل حصول مخالفة الوجوب الضمني، لكنّ احتمال المخالفة هنا ليس من باب أنـّه يعلم بأنّ الشيء الفلاني المعيّن مخالفة، ويشكّ في حصوله، كما لو علم بأنّ عدم قتل الكافر مخالفة، وشكّ في أنّ عدم إطلاق الرصاص الثاني يوجب عدم قتله أو لا؟، أو علم بأنّ ترك الصلاة مخالفة، وشكّ في أنـّه هل ترك الصلاة أو لا؟ حتّى يكون ذلك مجرىً للاشتغال، بل هو من باب أنـّه لا يدري أنّ وجوب الأقلّ هل هو بنحو تكون له مخالفة واحدة، وهي ترك الأقلّ، أو بنحو تكون له مخالفتان: إحداهما: ترك الأقلّ، والاُخرى ترك الزائد، فتجري البراءة العقليّة والنقليّة؟ أمـّا العقليّة فواضح؛ إذ لم يبيّن للعبد كون ترك الزائد مخالفة، فالعقاب على هذه المخالفة عقاب بلا بيان، وهو قبيح حسب ما هو المفروض عند القائل بالبراءة العقليّة، وأمـّا النقليّة فينفى بها

321

الوجوب الضمني للأقلّ، فإنّه الوجوب الذي يوجب المؤونة الزائدة، بخلاف الوجوب الاستقلالي للأقلّ، فهما أقلّ وأكثر من حيث ما يوجبان من المؤونة فتجري البراءة عمّا يوجب المؤونة الزائدة.

 

3 ـ العلم بالغرض

المانع الثالث: مسألة العلم بالغرض، وهذا الوجه مركّب من مقدّمات ثلاث:

1 ـ إنّ الشكّ في المحصّل للواجب مجرى للاشتغال لا البراءة.

2 ـ إنّنا إذا لاحظنا متعلّق الوجوب كان ذلك مردّداً بين الأقلّ والأكثر، لكنّنا إذا لاحظنا الغرض كان من باب الشكّ في المحصّل؛ إذ لا نعلم أنّ الغرض الوحداني المقصود حصوله من العلم بهذا المركّب الارتباطي هل يحصل بالأقلّ أو بالأكثر؟

3 ـ إنّ حال الغرض حال نفس متعلّق الوجوب في حكم العقل بلزوم تحصيله على حدّ لزوم تحصيل متعلّق الوجوب.

فينتج من هذه المقدّمات وجوب الاحتياط في المقام؛ لأنّ الشكّ في المقام بلحاظ الغرض شكّ في المحصّل بحكم المقدّمة الثانية، والشكّ في المحصّل للغرض كالشكّ في المحصّل للواجب؛ لأنّ الغرض أيضاً واجب التحصيل كنفس الواجب بحكم المقدّمة الثالثة، وقد كان الشكّ في المحصّل للواجب مجرىً للاشتغال دون البراءة، ـ كما قلناه في المقدّمة الاُولى ـ فيتعيّن الاحتياط بإتيان الأكثر.

والجواب عن ذلك يكون بوجهين:

الوجه الأوّل: أنـّه قد فرض في المقام العلم بغرض وحداني واجب التحصيل غير دائر بين الأقلّ والأكثر، مع الشكّ في حصوله بالأقلّ، فلزم الاحتياط بفعل الأكثر، لكنّنا نمنع ثبوت مثل هذا العلم؛ إذ من المحتمل كون الغرض المطلوب تحصيله بنفسه مردّداً بين الأقلّ والأكثر، وفي مقام إبداء هذا الاحتمال نبدي خمس فرضيات:

الفرضيّة الاُولى: ما يستوحى من كلام المحقّق النائيني (رحمه الله)(1) حيث أفاد (قدس سره)


(1)راجع فوائد الاُصول: ج 4، ص 54 ـ 57، وأجود التقريرات: ج 2، ص293ـ294، وراجع أجودالتقريرات: ج 1، ص 38 ـ 40، وفوائد الاُصول: ج 1، ص 67 ـ 72.

322

في مقام الجواب عن شبهة الغرض: أنّ الغرض إنّما يجب تحصيله إذا كانت نسبته إلى المقدّمة التي هي فعل المكلّف نسبة المعلول إلى العلّة، كالإحراق بالنسبة إلى الإلقاء في النار، فعندئذ يجب تحصيل الغرض، بل الذي يفهمه العرف من الأمر بمثل هذه المقدّمة إنّما هو الأمر بتحصيل الغرض، فلو قال المولى: ألق ِ هذا الشيء في النار فهم منه الأمر بإحراقه، وأمـّا إذا كان الغرض متوقّفاً حصوله على مقدّمات خارجة عن قدرة المكلّف زائداً على توقّفه على الفعل الداخل تحت قدرة المكلّف، وكانت نسبة الغرض إلى فعل المكلّف نسبة ذي المقدّمة إلى المقدّمات الإعدادية، كما هو الحال في المصالح المترتّبة على الواجبات الشرعيّة مثل الصلاة، فلا يجب على العبد تحصيله؛ لأنّ تحصيله خارج عن قدرته، وإنّما الذي يجب تحصيله في مثل ذلك إنّما هو خصوص تلك المقدّمات الداخلة تحت قدرة العبد، والدليل على كون الغرض في أمثال هذه الاُمور من قبيل القسم الثاني ـ أي: الخارج عن قدرة العبد ـ لا القسم الأوّل، هو تعلّق الأمر في لسان الأدلة بنفس الأفعال؛ فإنّه في المورد الذي يشكّ في أنّ الغرض هل هو من قبيل القسم الأوّل أو الثاني، سيتكشف الحال فيه من ظاهر لسان الدليل، فإن كان الأمر في لسان الدليل متعلّقاً بنفس الغرض فهذا ظاهر في كونه من القسم الأوّل، وعدم توقّفه على أُمور اُخرى خارجة عن قدرة المكلّف، وإن كان متعلّقاً بنفس الأفعال فهذا ظاهره أنّ الغرض ليس بنفسه تحت قدرة المكلّف(1)، وإنّما الذي يكون تحت قدرته ويجب عليه تحصيله هو هذه الأفعال والمقدّمات.

هذا ما أفاده المحقّق النائيني(رحمه الله) في المقام.


(1) وإلّا لزم الأمر بالنتيجة أو تقييد الأمر بالمقدّمة بالذي تترتب عليه النتيجة؛ إذ لو لم يفعل ذلك لزم نقض غرض المولى؛ لأنّه بعد إن لم يكن هناك ظهور عرفي في إرادة المسبّب، كما في مثل الأمر بالإلقاء في النار الظاهر في إرادة الإحراق يكون إطلاق الكلام موجباً لعدم اهتمام العبد بتحصيل المسبّب، واقتصاره على فعل المقدّمة، سواء ترتّبت عليها النتيجة أو لا، هذا ما يستفاد من كلمات المحقّق النائيني (رحمه الله)، ولكن الواقع أنّ تعلّق الأمر بالمقدّمة دون النتيجة إنّما يكون ظاهراً في عدم إيجاب حصول النتيجة، سواء كان ذلك من باب خروجها عن قدرة المكلّف أو من باب ما سيأتي من اُستاذنا الشهيد في الفرضيّة الثانية من عدم اهتمام المولى بالنتيجة بأكثر من سدّ باب العدم من ناحية تلك المقدّمة.

323

وأورد عليه السيّد الاُستاذ(1): بأنّ هذا إنّما يتمّ في الغرض الأقصى، ولكن هنا غرض أدنى مباشر لفعل المكلّف الذي هو مقدّمة إعداديّة، وذلك الغرض هو نفس حصول الإعداد بمقدار هذه المقدّمة للغرض الأقصى، وهذا الغرض نسبته إلى الفعل نسبة المعلول إلى علّته، فعاد الإشكال.

هذا ما أفاده السيّد الاُستاذ.

ولكنّنا نكمل هنا تسلسل البحث بأن نقول: إنّ الغرض الإعدادي الأدنى لم يثبت كونه أمراً وحدانيّاً يترتّب على مجموع الأجزاء، فلعلّه يترتّب على كلّ جزء من هذه الأجزاء غرض إعدادي، بأن يكون كلّ واحد منها مُعِدّاً بقدره للمكلّف للوصول إلى الغرض الأقصى، وإنّما صار المجموع واجباً واحداً ارتباطيّاً بالرغم من تعدّد الأغراض المباشرة بتعدّد الأجزاء؛ لأنّ تلك الاغراض إنّما تكون غرضيّتها لأجل ذلك الغرض الأدنى الوحداني، فالواجب واحد ارتباطي لوحدة الغرض الأقصى، ولكن مع ذلك تكون الاغراض المباشرة المترتّبة على نفس الأفعال متعدّدة بتعدّد الأفعال.

وهذا هو ما قلناه منذ البدء من احتمال دوران الغرض بين الأقلّ والأكثر.

إلّا أنّ هذه الفرضيّة فيها نقطة ضعف: وهي أنّ المحقّق النائيني(قدس سره)فرض الغرض الأقصى بنحو يستدعي الإتيان بكلّ ما له من مقدّمات اختياريّة، وإنّما لم يجب تحصيله بإتيان تمام المقدّمات؛ لأنّ بعض مقدّماته غير اختياريّة، وإذا كان الأمر كذلك فعند الشكّ في كون فعل اختياري خاصّ داخلاً في مقدّمات ذلك الغرض وعدمه يكون ذلك مجرى للاشتغال، وحكم العقل بوجوب حفظ الغرض بهذا المقدار، أي: بمقدار سدّ أبواب عدمه، ولو الاحتماليّة الداخلة تحت قدرة المكلّف.

الفرضيّة الثانية: هي عين الفرضيّة الاُولى ـ أعني فرضيّة تعدّد الأغراض المباشرة المترتّبة على الأجزاء المتعدّدة ـ لكن بعد تجريدها عن نقطة الضعف التي عرفت، بأن يفرض أنّ الغرض الأقصى ليس بنحو يطلب سدّ جميع أبواب عدمه الاختياريّة، فالشارع إنّما أوجب بعض الأفعال الاختياريّة التي هي مقدّمة لذلك الغرض؛ لإتمامها لمصلحة التسهيل، أو غيرها من النكات، فقد ترى المولى يأمر


(1) راجع الدراسات: ج 3، ص 276 ـ 277، ومصباح الاُصول: ج 2، ص 437.

324

عبده مثلاً بالتفتيش عن كتاب في المكتبة الفلانيّة لغرض تحصيل ذاك الكتاب، ولكن ليس اهتمامه بهذا الغرض بدرجة يطلب من عبده التفتيش في جميع المكتبات حتى المكتبات الموجودة في غير بلده، فيقتصر على طلب التفتيش في المكتبة الفلانيّة الموجودة في بلده، وعليه فليس من المحتّم افتراض لزوم الإتيان بجميع الاُمور الاختياريّة التي هي في الواقع الدخيلة في تحصيل الغرض إعداديّاً؛ كي لا تجري البراءة في فرض الشكّ في داخل أمر اختياري ما في ذلك، بل نشكّ في أصل مطلوبيّة تمام هذه الإعدادات المتعدّدة وعدمها، وهذا هو ما قلناه من دوران الغرض بين الأقلّ والأكثر.

الفرضيّة الثالثة: أن يفترض أنّ الغرض عبارة عن نفس الأفعال: إمّا بذاتها كالسجود، بناءً على أن يكون وجوبه لحسنه الذاتي، وكونه بذاته كمالاً للعبد لا لغرض آخر متولّد منه، أو بعنوان منطبق على تلك الأفعال، كما لو فرضنا أنّ إيجاب الصلاة مثلاً لم يكن لأجل غرض متولّد من نفس متعلّق التكليف بما هو، بل لأجل أن يتّصف الإتيان به بعنوان طاعة المولى، التي هي بنفسها كمال للعبد، فالغرض إذن مردّد بين الأقلّ والأكثر. بل لو كان الغرض حصول الطاعة فعند جريان البراءة عن الزائد تحصل الطاعة بالباقي.

الفرضيّة الرابعة: أن يفرض الغرض مردّداً بين المرتبة الضعيفة والمرتبة الشديدة، كأن يتردّد الأمر بين أن يكون الغرض هو الارتواء الضعيف الذي يحصل بكأس واحد من الماء، والارتواء الشديد الذي يحصل بكأسين من الماء، بمعنى أن يكون الارتواء الشديد بمرتبته مطلوباً واحداً، لا بمعنى مطلوبيّة المرتبة الضعيفة مع مطلوبيّة المقدار الزائد كي ينافي ذلك فرض ارتباطيّة الواجب، فإذا تردّد الغرض بين المرتبة الضعيفة لشيء والمرتبة الشديدة له جرت البراءة بلحاظ المقدار الزائد؛ لأنّ المرتبة الضعيفة مطلوبة إمّا استقلالاً أو ضمناً، وكون الزائد مطلوباً غير معلوم.

الفرضيّة الخامسة: أن يفرض أنّ كلّ جزء من هذه الأجزاء يترتّب عليه أثر مستقلّ، والغرض كان عبارة عن نفس تلك الآثار، فتردّد أمر الغرض بين الأقلّ والأكثر.

ولا ينافي ذلك فرض ارتباطيّة الواجب؛ وذلك لإمكان افتراض أنّ الغرض عبارة عن مجموع تلك الآثار، لا عن كلّ واحد منها، كما لم يكن ينافيه فيما مضى من الفرضية الثالثة ـ وهي افتراض كون الغرض عبارة عن نفس الأفعال ـ حيث كان

325

المقصود هناك ـ أيضاً ـ كون مجموع الأفعال هو الغرض، لا كلّ جزء جزء منها كي ينافي الارتباطيّة. فمثلاً: قد يقال: إنّ الجرءة وحدها ليست كمالاً، والتروّي وحده ليس كمالاً، ومجموعهما كمال، فلنفترض تلك الأفعال في الفرضية الثالثة، أو تلك الآثار في هذه الفرضية من هذا القبيل.

فهذه فرضيات خمس أو أربع ـ بعد إسقاط الفرضية الاُولى لما كان فيها من نقطة ضعف ـ في صالح تردّد الغرض بين الأقلّ والأكثر.

ومع فرض تردّده بين الأقلّ والأكثر تجري البراءة العقليّة والنقليّة: أمـّا العقليّة فظاهر، فإنّ عقاب العبد تجاه الجزء الزائد من الغرض غير المبيّن عقاب بلا بيان، وهو قبيح عندهم.

وأمـّا النقليّة فيمكن أن يستشكل فيها في مثل «رفع ما لا يعلمون» باعتبار أنّ التعبير (بالرفع) يناسب أن يكون النظر إلى ما هو فعل المولى من الإلزام والتحريك، ونحو ذلك من العناوين التي ينتزعها العرف من أمر المولى، لا إلى الغرض فإنّ الرفع يناسب الفعل الاختياري للمولى الذي يكون بيده وباختياره رفعه ووضعه.

وهذا الاستشكال غير صحيح، إلّا أنّ الجواب عنه يرجع إلى ما سيأتي ـ إن شاء اللّه ـ من الوجه الثاني من وجهي الجواب عن شبهة الشكّ في المحصّل في المقام، في حين أنّ المقصود ـ الآن ـ تتميم المطلب بقطع النظر عن ذاك الوجه، فلنقتصر في المقام على القول بأنّ هذا الاستشكال لو تمّ في مثل حديث الرفع لم يضرّنا شيئاً؛ إذ تكفينا في المقام أدلّة البراءة التي لا تكون بلسان الرفع، بل تكون بمثل لسان عدم العقاب، من قبيل قوله تعالى:﴿وما كُنّا معذّبين حتّى نبعث رسولاً﴾(1) لو تَمّت دلالتها على البراءة، وقوله تعالى: ﴿وما كان اللّه ليضلّ قوماً بعد إذ هداهم حتّى يبيّن لهم ما يتّقون﴾(2) فمثل هذه الأدلّة حالها حال البراءة العقليّة، وتنفي العقاب من دون بيان، ومن المعلوم أنّ العقاب بلحاظ الجزء الزائد من الغرض غير المبيّن عقاب بلا بيان.

ثمّ إنّ هناك إشكالاً آخر: وهو أنّنا لو كنّا نعلم أنّ الغرض أمر مركّب مردّد بين الأقلّ والأكثر سنخ ما هو حال أجزاء المتعلّق لصحّ إجراء البراءة بلحاظ الجزء الزائد


(1) سورة 17، الإسراء، الآية 15.

(2) سورة 9، التوبة، الآية 115.

326

المشكوك من الغرض، ولكنّ المفروض أنـّنا لا نعلم بذلك، بل نحتمل كونه كذلك، ونحتمل أيضاً كونه غرضاً واحداً بسيطاً دار أمره بين الترتّب على الأجزاء التسعة مثلاً، أو الأجزاء العشرة المتعلّقة للتكليف، فلم يثبت الانحلال ودوران الغرض بين الأقلّ وحده، وهو مع الزائد عليه كي تجري البراءة بلحاظ الزائد.

والجواب: أنـّه إذا دار الأمر مثلاً بين الغرض البسيط الوحداني الموقوف على الأكثر، والغرض المركّب الذي يحرز حصول المقدار المعلوم منه بالإتيان بالأقلّ، جرت البراءة بلحاظ ذلك الغرض البسيط، ولا تعارض بالبراءة بلحاظ الغرض المركّب المستدعي للإتيان بالأقلّ؛ لأنّ إجراء البراءة عن ذاك المقدار من الغرض المركّب لا معنى له؛ إذ ليست فيه مؤونة زائدة غير المؤونة المعلومة بالتفصيل، بخلاف الغرض البسيط الموقوف على الأكثر.

فإن قلتَ: على هذا لا أثر لفرض احتمال كون الغرض مركّباً ومردّداً بين الأقلّ والأكثر؛ إذ حتّى مع فرض وحدة الغرض وبساطته نقول: إنّنا علمنا إجمالاً بثبوت غرض وحداني إمّا في الأكثر أو في الأقلّ فتجري البراءة بلحاظ الغرض في الأكثر، ولا تعارَض بالبراءة بلحاظ الغرض في الأقلّ؛ لأنّ الأوّل هو المشتمل على المؤونة الزائدة دون الثاني الذي ليست فيه مؤونة عدا المؤونة المعلومة بالتفصيل، وهي ضرورة الإتيان بالأقل.

قلت: إنّ تردّد الأمر بين غرض بسيط وغرض مركّب هو تردّد بين سنخين من الغرض، فإنّ تركّبه أو بساطته داخل في ذات الغرض، فيعقل إجراء ا لبراءة عن أحد الغرضين، وهو الغرض المستدعي لمؤونة زائدة على المكلّف إضافة إلى المؤونة المتيقّنة، وأمـّا تردّد الأمر بين توقّف الغرض الوحداني على الإتيان بالأكثر، وتوقّفه على الإتيان بالأقل فليس هذا تردّداً بين سنخين من الغرض، فإنّ كون محصِّله عبارة عن الأكثر أو الأقلّ ليس داخلاً في ذات الغرض، فجهة الشكّ متمحّضة في المحصّل، أي: أنـّنا نشير إلى ذاك الغرض الوحداني ونقول: لا ندري هل يكفي الأقلّ في تحصيله أو لا؟ فعندئذ لا مجرى للبراءة بقطع النظر عمّا سوف يأتي ـ إن شاء اللّه ـ من الوجه الثاني.

نعم، لو كان هنا شيئان نعلم أنّ أحدهما متوقّف على الأكثر، والآخر متوقّف على الأقلّ، ولم ندرِ أنّ غرض المولى هل هو الأوّل أو الثاني؟ جرت البراءة عن الأوّل، ولكن الأمر ليس كذلك، فأيّ غرض يفترض في المقام يكون مردّداً عندنا بين

327

أن يحصُل بالأقلّ وأن يحصُل بالأكثر.

الوجه الثاني: أنّنا لو سلّمنا العلم بغرض وحدانيّ مردّد أمر تحصيله بين أن يكون بالأقلّ أو بالأكثر حكمنا مع ذلك بالتأمين بلحاظ البراءة العقليّة ـ لو قلنا بها ـ والشرعيّة.

أمـّا البراءة العقليّة فتقريب جريانها في المقام: هو أنّ أحد ملاكات البراءة العقليّة عند القائلين بها هو أخذ المولى على عاتقه بيان المطلب، فمتى ما التزم المولى ببيان شيء على تقدير وجوبه مثلاً، ولم يصلنا البيان قَبُحَ العقاب على ترك ذاك الشيء، رغم أنّنا نحتمل صدور البيان، وهذا الملاك وإن لم يكن موجوداً في الشبهات الموضوعيّة؛ لأنّ المولى غير ملتزم ببيان حال الموضوع، والمقدار الذي التزم به قد وصل وهو بيان كبرى الحكم، لكنّ الذي يؤمّن بالبراءة العقليّة في الشبهات الموضوعيّة يؤمّن بملاك آخر ـ أيضاً ـ يتمّ في الشبهات الموضوعيّة(1).

وعلى أية حال فكلامنا الآن يدور حول هذا الملاك الذي بيّناه، فنقول: إذا أمر المولى بتحصيل غرض، كما لو أمر بقتل كافر، ولم يكن بصدد بيان ما هو المحصِّل لهذا الغرض، هل هو إطلاق رصاص واحد مثلاً أو إطلاق رصاصين؟ بل أوكَلَ ذلك إلى العبد، فهنا لا تجري البراءة؛ لأنّ الذي التزم المولى ببيانه وإلقائه إلى العبد إنّما هو الغرض، وقد بيّنه ووصل البيان، وإنّما الشكّ في المحصّل، ولم يكن المولى ملتزماً ببيان المحصّل، وأمـّا إذا لم يُلق ِ المولى نفس الغرض إلى المكلّف، وإنّما التزم ببيان نفس الأعمال المباشريّة للمكلّف المحصّلة لتلك الأغراض، كما هو الحال فيما نحن فيه، لأنّ المولى أخذ يبيّن نفس الأفعال اللازم صدورها من المكلّف، من الصلاة وأجزائها وغير ذلك، فحينما لم تصل جزئيّة شيء كالسورة يصبح العقاب على تركه قبيحاً حسب هذا المبنى.

وأمـّا البراءة الشرعيّة فقد فرغنا فيما مضى عن أنـّه لو كنّا نحن ومسألة التكليف ومتعلّقه، مع غضّ النظر عن إشكال الغرض الوحداني في المقام فلا إشكال في جريان البراءة عن الإلزام والتحريك الزائد؛ لما عرفته مفصّلاً من انحلال العلم


(1) مضى من اُستاذنا الشهيد (رحمه الله) في التنبيه الثالث من تنبيهات البراءة والاحتياط دعوى أنّ من يعمّم البراءة العقليّة للشبهات الموضوعيّة لا يؤمن بملاك خاص بالشبهات الحكميّة ويعتقد أنّ البراءة في الشبهتين إنّما تكون بملاك مشترك.

328

الإجمالي بالأقلّ والأكثر إلى العلم التفصيلي بوجوب الأقلّ، والشكّ البدوي في وجوب الزائد، وإنّما الذي لم يوجد لنا مؤمّن تجاهه ـ فأوجب الإشكال ـ هو الغرض، وهنا نقول: إنّ نفس ما يؤمّن عن إلزام الشارع وتحريكه نحو الزائد هو الذي يؤمّن عن الغرض، فإنّ التأمين عن إلزام الشارع وتحريكه أو تنجيزه دائماً يكون بلحاظ ما يحفظه ذلك الإلزام من الغرض، ففي الشبهات البدويّة الاستقلاليّة مثلاً حينما نُجري البراءة عن إيجاب شيء والإلزام به تكون نفس تلك البراءة مؤمّنة عمّا يحفظه ذلك الإلزام من غرض، لا أنـّنا نُجري براءة اُخرى عن الغرض مثلاً، ولا فرق فيما قلناه ـ من أنّ البراءة عن الإلزام هي بنفسها تؤمّن عمّا يحفظه ذلك الإلزام من غرض ـ بين أن يكون ما يحفظه ذلك الإلزام عبارة عن نفس الغرض رأساً، كما في الشبهات البدويّة، أو عن توقّفه على شيء زائد، كما في المقام، فالبراءة في باب الشكّ في المحصّل للغرض إنّما لا تجري فيما إذا تعلّق الإلزام والتحريك ابتداءً بنفس الغرض، أو تعلّق بالفعل، وكانت نسبة الغرض إلى ذلك الفعل بحيث يفهم العرف من كلام المولى أنـّه في الحقيقة أمر بأصل الغرض، كما يرى العرف أنّ أمر المولى بالإلقاء في النار هو أمر بالإحراق، وأمـّا في مثل ما نحن فيه فلا مانع من جريان البراءة.

هذه هي عمدة الوجوه لمنع جريان البراءة في الأقلّ والأكثر الارتباطيين مع إبطالها. وهذه الوجوه التي ذكرناها كانت هي الوجوه المشهورة للمنع، والتي تفيد المنع عن جريان البراءة في مطلق موارد دوران أمر الأجزاء بين الأقلّ والأكثر.

 

الموانع الخاصّة عن جريان البراءة

ولنذكر الآن وجوهاً اُخرى للمنع كلّ منها يختصّ ببعض أقسام دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر:

 

1 ـ فيما يجب إتمامه:

الوجه الأوّل: ما ذكره المحقّق العراقي (رحمه الله) وأبطله(1)، وهو يختصّ بخصوص


(1) راجع المقالات: ج2، ص 99 ـ 100، ونهاية الأفكار: القسم الثاني من الجزء الثالث، ص 418.

329

الواجب الذي يجب بالدخول فيه إتمامه ما لم يعص ِ بالإبطال، ويفوت بالدخول في بعض أجزائه محلّ تدارك ذاك الزائد المتروك، وذلك كما في الصلاة، فلو شكّ في جزئيّة السورة مثلاً فهو وإن كان من أوّل الأمر تجري في حقّه البراءة عن السورة، لكنّه إذا ترك السورة إلى أن دخل في الركن فلم يمكن تدراكها، وبنينا على ما هو المشهور من عدم جريان قاعدة (لا تعاد) في صورة الجهل، ولو مع معذّريّة جهله وعدم تقصيره ـ أو يفترض الكلام بدلاً عن مثل السورة فيما لا تجري فيه قاعدة (لا تعاد) كالطهارة مثلاً، أو يفترض الكلام في واجب آخر غير الصلاة فُرِضَ وجوب إتمامه على تقدير الشروع فيه ـ فعندئذ يحصل له العلم الإجمالي بأنّه إمّا يجب عليه إتمام هذا الفرد من الصلاة، وذلك على تقدير صحّته لعدم جزئيّة السورة، أو استئناف الصلاة بالإتيان بها مع سورة، وذلك على تقدير بطلان هذا الفرد لجزئيّة السورة، فيجب عليه الامتثال القطعي لهذا العلم الإجمالي، بإكمال هذه الصلاة ثم استئنافها مع السورة، فقد ابتلى بأزيد ممّا كان يبتلي به لو كان بانياً على الاحتياط من أوّل الأمر، إذ قد ابتلى بذاك الاحتياط زائداً إكمال ما بيده من الصلاة.

والمحقّق العراقي (رحمه الله) صوّر العلم الإجمالي بالشكل التالي: وهو أنـّه يحصل له بعد الركوع العلم الإجمالي التالي: إمّا قد انقلب وجوب طبيعي الصلاة إلى وجوب هذا الفرد بالخصوص، أو يجب عليه طبيعي الصلاة مع السورة، فكأنـّه (قدس سره)اعتقد أنّ وجوب إتمام الصلاة على تقدير الشروع فيها مرجعه إلى انقلاب وجوب الطبيعي إلى وجوب هذا الفرد(1).

ولكنّ الأولى هو التقريب الذي بيّناه نحن، فإنّ هذا الانقلاب وإن كان معقولاً بوجه من الوجوه: بأن يفرض أنّ الواجب من أوّل الأمر كان هو الصلاة التي لم يشرع قبلها في صلاة، وهذا العنوان بعد الشروع يصبح منحصراً بما تكون بيده من الصلاة، ولكن المستفاد فقهيّاً هو أنّ وجوب الإتمام تكليف زائد مستقلّ يتوجّه إلى المكلّف بالشروع في الصلاة غير مربوط بوجوب أصل طبيعي الصلاة، فالمكلّف إذا شرع في الصلاة فقد وجب عليه الإتمام، مضافاً إلى ما هو واجب عليه من الإتيان بطبيعي الصلاة، لا أنـّه انقلب تكليفه بالإتيان بطبيعي الصلاة إلى تكليفه بإتيان هذا الفرد الذي بيده.


(1) عبارته (رحمه الله) في المقالات لها ظهور في ذلك، وتقبل التوجيه، ولكن عبارة نهاية الأفكار ساكتة عن ذلك.

330

وعلى أيّة حال فالمحقّق العراقي (رحمه الله) بعد أن ذكر في المقام هذا الإشكال المانع عن جريان البراءة بعد الشروع في الركوع أجاب عنه بجوابين، نحن نذكر الثاني منهما أوّلاّ، والأوّل ثانياً فنقول:

الجواب الأوّل: ما يكون حاصل النكتة فيه بعد حذف الزوائد: أنّ هذا العلم الإجمالي إنّما حصل في طول عمله بما كان معذوراً فيه من ترك السورة، وما وقع من المكلّف معذوراً فيه وخالياً عن القبح يستحيل أن ينقلب في المرتبة المتأخّرة عن وقوعه إلى القبيح وغير المعذور عنه.

ويرد عليه: أنّ هذا العلم الإجمالي إنّما هو في طول تركه للسورة في هذه الصلاة، وما يتكلّم في أنـّه هل هو معذور فيه أو لا ليس هو تركه للسورة في هذه الصلاة، بل تركه لها في هذه الصلاة ليس مخالفاً لأمر المولى بالصلاة مع السورة في نفسه، بلا حاجة إلى التمسّك بالبراءة؛ إذ يمكنه أن يصلّي بعد هذه الصلاة صلاة مع السورة، والأمر بالصلاة مع السورة إنّما أوجب طبيعيّ الصلاة مع السورة في تمام الوقت، لا خصوص هذه الصلاة، فلو كان هذا العلم الإجمالي في طول ترك السورة في تمام الوقت، وهو الذي يؤمّننا عنه دليل البراءة، صَحّ ما ذكر: من أنّ العلم الإجمالي الحاصل في طول ذلك لا يوجب قبح ما تحقّق في السابق خالياً عن القبح في المرتبة السابقة، فلا يؤثّر هذا العلم الإجمالي إلّا مع فرض عامل جديد في المقام، وهو الأمر بالقضاء، فإنّه ـ عندئذ ـ يعلم إجمالاً بوجوب إتمام هذه الصلاة أو القضاء.

الجواب الثاني: أنّ هذا العلم الإجمالي الحاصل بعد دخوله في الركوع لا ينجّز؛ لأنّ أحد طرفيه ـ وهو وجوب الاتمام بالإتيان بالركوع وما بعده من الأجزاء إلى آخر الصلاة ـ كان منجّزاً عليه من قبل؛ لأنّه قبل أن يركع يُوجد له ـ إضافة إلى علمه الإجمالي الثابت من قبل الصلاة بوجوب طبيعي تسعة أجزاء أو عشرة في تمام الوقت ـ علم إجمالي آخر، وهو العلم بوجوب السورة في خصوص هذه الصلاة وما بعدها من الأجزاء إلى آخر الصلاة، أو وجوب الركوع فيها وما بعده من الأجزاء إلى آخر الصلاة؛ وذلك لعلمه بوجوب الاتمام، وهذا العلم الإجمالي مردّد أيضاً بين أقلّ وأكثر، وينحلّ إلى العلم بالأقلّ، وهو وجوب الركوع وما بعده من الأجزاء إلى آخر الصلاة الذي هو في نفس الوقت أحد طرفي العلم الإجمالي الحاصل له بعد الدخول فى الركوع، والشكّ في الزائد، وهو السورة، فالأقلّ قد تنجّز عليه قبل الركوع،

331

والمنجَّز لا يتنجّزُ مرّة ثانية، فالعلم الإجمالي الأخير الحاصل في الركوع لا ينجّز شيئاً؛ إذ يجب أن يكون تنجيز طرفي العلم الإجمالي في عرض واحد.

ويرد عليه: أنـّه (قدس سره) لا يقول بكبرى الانحلال الحكمي بتنجّز أحد طرفي العلم الإجمالي بعلم إجمالي آخر سابقاً زماناً، وإنّما يقول بذلك لدى تعلّق منجّز تفصيلي بأحد طرفي العلم الإجمالي، أمـّا إذا كان المنجّز الأوّل ـ أيضاً ـ علماً إجماليّاً يشترك مع العلم الإجمالي المتأخّر في أحد الطرفين فهو يقول: إنّ العلم السابق بوجوده البقائي، والعلم الحادث بوجوده الحدوثي يؤثّران في عرض واحد، وفيما نحن فيه وإن علم تفصيلاً قبل الركوع بوجوب الركوع من هذه الصلاة عليه وما بعده، إمـّا استقلالاً أو ضمن وجوب السورة وما بعدها، لكنّه بعد أن ركع قد سقط عنه الوجوب الضمني ـ ولو بمعنى سقوط فاعليّته ـ بالمخالفة بترك السورة، فلم يبقَ منجّز للركوع وما بعده إلّا طرفيّته للعلم الإجمالي بالوجوب الضمني أو الاستقلالي، وهذه حالها حال طرفيّته للعلم الإجمالي الجديد الحاصل بعد الركوع، فالعلم الأوّل بوجوده البقائي، والعلم الثاني بوجوده الحدوثي يؤثّران في عرض واحد حسب مبانيه هو (قدس سره).

نعم، نحن حيث لا نقول بعلّيّة العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعيّة، كما يقول هو (رحمه الله) بذلك، يكفينا في حَلّ الإشكال ما ذكره من الجواب بتنجّز أحد طرفي العلم الإجمالي؛ لأنّه عندئذ يبقى الأصل في الطرف الآخر سليماً عن المعارض(1).

 


(1) وقد ورد في الجزء الثاني من الحلقة الثالثة، ص 177 ـ 178 جواب آخر عن الإشكال، وهو مبتن على مبنى فقهي كان يبني عليه اُستاذنا الشهيد(رحمه الله): وهو أنّ دليل حرمة قطع الصلاة لا إطلاق له للصلاة التي لا يجوز للمكلّف بحسب وظيفته العمليّة الاقتصار عليها في مقام الامتثال، أي: متى ما وجب عليه الاحتياط بالإعادة جاز له قطع ما بيده من الصلاة، إذن ففيما نحن فيه تكون البراءة عن وجوب السورة هي الموجبة لاحتمال حرمة القطع؛ إذ لولاها لم يجز للمكلّف بحسب الوظيفة العمليّة الاقتصار على هذه الصلاة التي ترك السورة فيها، وبالتالي كان يجوز له قطعها، وعليه فظرفيّة حرمة القطع للعلم الإجمالي موقوفة على جريان البراءة عن السورة، فلا معنى لافتراض البراءة عن حرمة القطع معارضة للبراءة عن السورة بسبب العلم الإجمالي.

332

 

2 ـ في خصوص العبادات

الوجه الثاني: ما كنّا نذكره في قديم الزمان وجهاً للمنع عن جريان البراءة في الأقلّ والأكثر الارتباطيين في العبادات، وكان ذلك في الحقيقة نقضاً على الأصحاب في مبنى فقهيٍّ لهم في مسألة ما إذا قصد المكلّف في عبادته خصوصيّةً في الحكم، أو في المتعلّق، فتبيّن خلافها، فهل تَصحّ عبادته أو لا؟ مثلاً لو أتى بعمل بقصد الاستحباب فتبيّن كونه واجباً أو بالعكس، أو صلّى في المسجد بقصد وجوب خصوص الصلاة في المسجد ثم تبيّن أنّ الوجوب متعلّق بطبيعة الصلاة لا بخصوص الصلاة في المسجد، فصاحب العروة(قدس سره) فصّل في ذلك بين ما إذا كان قصده بنحو الاشتباه في التطبيق، أو كان بنحو التقييد، بحيث لا داعي له إلى الامتثال على تقدير كون الواقع خلاف ما تخيّله، فعلى الأوّل يَصحّ عمله، وعلى الثاني يبطل للإخلال بقصد القربة؛ لأنّ ما قصد القربة بلحاظه لم يكن ثابتاً في الواقع، وما كان ثابتاً في الواقع لم يقصد القربة بلحاظه فقد قصد هو أمراً أو ملاكاً خاصّاً غير موجود، ولم يقصد ما هو الموجود من أمر أو ملاك. وأكثر المعلّقين على العروة وافقوا المصنّف على هذا التفصيل.

وعلى هذا المبنى نقول في المقام: ليس الأقلّ هنا إذا دار الأمر بين وجوب الصلاة مع سورة أو بلا سورة مثلاً محفوظاً دائماً ضمن الأكثر كي نجري البراءة عن الزائد المشكوك، بل النسبة بين الأقلّ والأكثر عموم من وجه، فمادّة الاجتماع هي: ما إذا أتى بالأكثر لا بنحو التقييد، فعندئذ قد حصل الأقلّ والأكثر معاً، ومادّة الافتراق من جانب الأقلّ: هي ما إذا أتى بالأقل بأن صلّى بلا سورة في هذا المثال، فقد حصل الأقلّ ولم يحصل الأكثر، ومادّة الافتراق من جانب الأكثر هي: ما إذا أتى بالأكثر بنحو التقييد بأن قصد في هذا المثال وجوب الصلاة مع سورة، بحيث إنّه لايريد الامتثال لو كان الواجب واقعاً هو الأقلّ، ولنفرض أنـّه قصد امتثال الأمر بالأكثر رجاءً لا بنحو الجزم والتشريع كي يبطل العمل من هذه الناحية، فإذا صلّى بهذا الشكل فقد حصل امتثال الأكثر، ولكنّه لم يحصل امتثال الأقلّ على تقدير وجوبه، فالأقلّ مقيّد بعدم تقييد القصد بالأكثر، بناءً على تصوير تعلّق الوجوب الشرعي بوجه من الوجوه بقصد القربة، فالأقلّ لم يعد بالدقّة أقلّ، بل كلّ منهما مشتمل على زيادة منفيّة بالبراءة، فتتعارض البراءتان.

333

وبما أنّنا لانؤمن بما ذكروه من التفصيل، ولا نتعقّل صورتين نسمّي إحداهما بالاشتباه في التطبيق، والاُخرى بالتقييد، فنحن في فسحة من هذا الإشكال، ونجري البراءة في باب الأقلّ والأكثر من حيث الأجزاء بلا مشكلة في المقام، وأمـّا شرح الكلام في هذا التفصيل وتنقيح القول فيه فهو موكول إلى الفقه.

 

3 ـ في فرض مبطليّة الزيادة

الوجه الثالث: ما يختصّ بما تكون الزيادة فيه مبطلة كما في الصلاة، فهنا يمكن إبراز علم إجمالي مانع عن جريان البراءة، ببيان: أنّنا لو شككنا مثلاً في جزئيّة السورة وعدمها فقد تشكّل لدينا علم إجمالي بالتكليف دائر بين المتباينين، أحد طرفيه جزئيّة السورة ووجوبها، والطرف الآخر مانعيّة الإتيان بالسورة بقصد الجزئيّة، وبكلمة اُخرى: نعلم إجمالاً بوجوب الصلاة مع السورة، أو وجوب الصلاة الخالية عن السورة قصد بها الجزئيّة.

والجواب: أنّ هذا العلم الإجمالي منحلّ بالعلم التفصيلي بمبطليّة الإتيان بالسورة بقصد الجزئيّة للصلاة في هذا الفرض ـ أعني فرض الشكّ في جزئيّتها ـ؛ وذلك لأنّ الإتيان بالسورة بقصد الجزئيّة مع الشكّ فيها تشريع ولو كانت جزءاً في الواقع، والسورة المشرّع بها ليست جزءاً، بل هي زيادة مبطلة.

هذا تمام الكلام في أصل جريان البراءة في الأقلّ والأكثر من حيث الأجزاء.

 

محاورات حول ما جاء في الكفاية

بعد هذا نذكر اُموراً ترجع إلى المطالب التي ذكرها المحقّق الخراساني(قدس سره)في الكفاية:

 

حول دعوى الانحلال

الأمر الأوّل: أنّ المحقّق الخراساني (قدس سره) برهن على عدم انحلال العلم الإجمالي بوجوب الأقلّ والأكثر بالعلم التفصيلي بوجوب الأقلّ بلزوم الخلف والتهافت، ولتوضيح ما ذكره في المقام نقدّم أمرين:

الأوّل: أنّ هنا أمراً مصادراً مفروغاً عنه في نظر المحقّق الخراساني (رحمه الله)دمجه

334

في برهانه وبيانه، ولم يذكره مستقلاّ، ونحن نفرزه هنا، وهو أنّ الواجب الارتباطي يستحيل أن يتبعّض في التنجّز بأن يتنجّز بعض أجزائه، ولا يتنجّز البعض الآخر، بل هنا تنجّز واحد للمجموع، فإمّا أن يتنجّز الكلّ أو لا يتنجّز شيء منه.

والثاني: أنّ الانحلال في المقام تارة يفرض حقيقيّاً بلحاظ مجموع ما في عالم الواقع حتّى الحكم، فيقال: إنّه لا علم إجمالي في المقام، كما هو الحال في الأقلّ والأكثر الاستقلاليّين؛ إذ نعلم لا محالة فيهما بوجوب الأقلّ بحدّه، ونشك في وجوب الزائد، ولا ينبغي الإشكال في انتفاء هذا الانحلال في الأقلّ والأكثر الارتباطيين؛ إذ من الواضح أنّنا لا نعلم تفصيلاً بوجوب الأقلّ بحدّه، كي ينحلّ العلم الإجمالي بوجوب الأقلّ بحدّه، أو وجوب الأكثر بحدّه، ولعلّه لم يستشكل أحد في نفي هذا الانحلال، وليس هذا الانحلال هو المنظور إليه في كلام المحقّق الخراساني (رحمه الله).

واُخرى يفرض حقيقيّاً بلحاظ خصوص عالم الإيجاب والعهدة بغضّ النظر عن الحدود، باعتبار أنّ حدود الوجوب ليست داخلة في العهدة، وإنّما الذي يدخل في العهدة هو ذات الوجوب.

وثالثة يفرض حكميّاً بلحاظ عالم التنجّز، ويقال: قد علمنا بصلاحية الأمر الموجود في المقام لتنجيز الأقلّ على كلّ تقدير، وأمـّا الزائد فلا نعلم بصلاحية الأمر لتنجيزه على كلّ تقدير؛ لاحتمال تعلّقه بالأقلّ، فلم يعلم وجود أمر يقتضى تنجيزه، فهو باق تحت قاعدة (قبح العقاب بلا بيان).

وهذا الانحلال الأخير سنحتاج إليه حتماً فيما بعد في غير فرض كون الدوران بين الأقلّ والأكثر بلحاظ الأجزاء، وعندئذ نتكلّم عنه ـ إن شاء اللّه ـ بجميع صيغه، ونختار منها صيغته الفنّيّة، والآن لا نحتاج إلى تصوير هذا الانحلال بأكثر ممّا ذكرناه استطراقاً إلى فهم كلام صاحب الكفاية.

وأكبر الظن أنّ المحقّق الخراساني(قدس سره) إنّما يكون ناظراً إلى مناقشة هذا الوجه الثالث من الانحلال دون الوجه الثاني، فكأنّه يأخذ حدود الوجوب بعين الاعتبار، فيفرغ عن بطلان الانحلال الحقيقي، ويتكلّم عن الانحلال الحكمي بالمعنى الذي عرفت.

وحاصل مرامه (رحمه الله) في المقام: هو أنّ الانحلال يتوقّف على تنجّز الأقلّ على كلّ تقدير، وأحد تقديريه هو تعلّق الأمر بالأكثر، فلا بُدّ من الفراغ عن تنجّز الأمر بلحاظ الأقلّ ولو كان متعلّقاً بالأكثر، وهذا يساوق تنجّز الأمر بالأكثر بلحاظ الزائد