221

الثاني: مقدِّمة التوبة.

الثالث: أركان التوبة وشرائطها.

الرابع: التوبة النصوح.

 

الأمر الأوّل ـ ضرورة التوبة:

إنّ ضرورة التوبة تنبع من ضرورة الإيمان، وفلسفتها نفس فلسفة الإيمان والطاعة.

فمَن يرى أنّ فلسفة الإيمان والطاعة عبارة عن الهروب من النار والطمع في الجنّة، فنفس الفلسفة هي التي تملي عليه التوبة؛ وذلك لأنّ الطريق الوحيد الذي أوجب الله ـ تعالى ـ على نفسه أن يغفر عن ذاك الطريق ولا يوجد فيه التخلّف، إنّما هو: التوبة؛ إذ قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَة ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيب فَأُوْلَـئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً﴾(1) أمّا المغفرة بلا توبة فهي تتحقّق من الله ـ سبحانه وتعالى ـ بلا شك، ولكنّه لم يوجبها على نفسه، بل علّقها على مشيئته في قوله تعالى: ﴿... وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء ...﴾(2) كما أنّ قبول شفاعة الشافعين علّقه على ارتضائه فقال: ﴿وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى ... ﴾(3) وقال أيضاً: ﴿ يَوْمَئِذ لاَّ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً ﴾(4) وقال أيضاً: ﴿ ... مَا مِن شَفِيع إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ... ﴾(5)


(1) السورة 4، النساء، الآية: 17.

(2) السورة 4، النساء، الآية: 48.

(3) السورة 21، الأنبياء، الآية: 28.

(4) السورة 20، طه، الآية: 109.

(5) السورة 10، يونس، الآية: 3.

222

وقالأيضاً: ﴿وَلاَ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ...﴾(1) وقال أيضاً: ﴿وَكَم مِّن مَّلَك فِي السَّمَاوَاتِ لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى﴾(2) وقال أيضاً: ﴿... مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلاَّ بِإِذْنِهِ ...﴾(3) إذن فالطريق الوحيد الذي وعد الله وعداً قطعيّاً بالمغفرة على أساسه إنّما هو التوبة.

وقد ورد عن أمير المؤمنين(عليه السلام) أنّه قال: «لا شفيع أنجح من التوبة»(4).

ومن يرى أنّ فلسفة الإيمان والطاعة عبارة عن إكمال النفس وتهذيبها وتصفيتها فالأمر هنا أوضح ممّا سبق، ونفس الفلسفة تدعوه إلى التوبة؛ لأنّ التوبة ماء يُغسَل به درن القلب وغباره وَرَيْنه. وقد ورد في الحديث عن الباقر(عليه السلام): «ما من عبد إلاّ وفي قلبه نكتة بيضاء، فإذا أذنب ذنباً خرج في النكتة نكتة سوداء، فإن تاب ذهب ذلك السواد، وإن تمادى في الذنوب زاد ذلك السواد حتّى يغطّي البياض، فإذا غطّى البياض لم يرجع صاحبه إلى خير أبداً، وهو قول الله عزّ وجلّ: ﴿... بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَا كَانُوا يَكْسِبُون﴾ »(5).

ومن يرى أن فلسفة الإيمان والطاعة هي: أنّ الله أهل للطاعة، وبغضّ النظر عن جنّة أو نار فهو يطلب رضوان الله، ويتحرّك بحبّه لله، فالأمر هنا أوضح ممّا سبق، ونفس الفلسفة تدعوه إلى التوبة؛ لأنّ الله تعالى يرضى بالتوبة ويفرح بتوبة عبده كما ورد بسند صحيح عن أبي عبيدة قال: «سمعت أباجعفر(عليه السلام) يقول: إنّ الله ـ تعالى ـ أشدّ فرحاً بتوبة عبده من رجل أضلّ راحلته وزاده في ليلة ظلماء


(1) السورة 34، سبأ، الآية: 23.

(2) السورة 53، النجم، الآية: 26.

(3) السورة 2، البقرة، الآية: 255.

(4) البحار 6/19.

(5) السورة 83، المطففين، الآية: 14، والحديث وارد في الوسائل 15/303، الباب 40 من جهاد النفس، الحديث 16 ونحوه الحديث 12، ص: 302.

223

فوجدها، فالله أشدّ فرحاً بتوبة عبده من ذلك الرجل براحلته حين وجدها»(1).

وقد ورد في الحديث أنّه لما أكل آدم من الشجرة تطايرت الحلل عن جسده وبدت عورته فاستحيى التاج والإكليل(2) من وجهه أن يرتفعا عنه، فجاءه جبرئيل فأخذ التاج من رأسه، وحلّ الإكليل عن جبينه، ونودي من فوق العرش اهبطا من جواري، فإنّه لا يجاورني من عصاني، قال: فالتفت آدم إلى حوّاء باكياً وقال: هذا أوّل شؤم المعصية أُخرجنا من جوار الحبيب(3).

إنّ هذا لهو مقام عظيم أن يكون بكاؤه على الخروج من جوار الحبيب قبل أن يكون على فراقه الجنّة. وهذه هي الفلسفة الثالثة التي أشرنا إليها للتوبة والندم.

وإن شئت مقاماً أعظم من هذا المقام في التوبة فلعلّه هو المستفاد من قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ﴾(4)فكأنّ الآية المباركة تشير إلى أنّ توبة المتّقين ليست من صدور الذنب منهم، بل من الهمّ بالذنب، فإنّ الشيطان الذي يطوف حول قلب المؤمن يمسّ قلبه كي ينفذ فيه ويورّطه في المعصية، فيهمّ العبد بالمعصية، ولكن قبل تماميّة النفوذ والتورط في المعصية يتذكّر المتّقي وإذا هو مبصر يرتدع عنها. وقد وردت روايات عديدة بمضمون تفسير الآية بأنّ العبد يهمّ بالذنب ثُمّ يذكر الله فيحول الذكر بينه وبين تلك المعصية(5).

والمقام الأكبر في التوبة من هذا المقام هو: توبة المعصومين التي ليست توبة من الذنب ولا من الهمّ بالذنب، بل من سيّئات المقرّبين التي هي من حسنات


(1) البحار 6/40.

(2) فسّر في المنجد الإكليل بشبه عصابة تزيّن بالجوهر.

(3) المحجة البيضاء 7 / 94 نقلاً عن الإحياء للغزالي.

(4) السورة 7، الاعراف، الآية: 201.

(5) راجع تفسير البرهان 2/56.

224

الأبرار.

وممّا يناسب ذكره في المقام أنّ بعضهم يقول(1): إنّ التجرّد للخير دأب الملائكة المقرّبين، والتجرد للشر دون التلافي سجيّة الشياطين، والرجوع إلى الخير بعد الوقوع في الشر ضرورة الآدميّين. فالمتجرّد للخير ملك مقرّب عند الملك الديّان، والمتجرد للشرّ شيطان، والمتلافي للشر بالرجوع إلى الخير بالحقيقة إنسان، كما صدر ذلك من أبينا آدم(عليه السلام)، فقد ازدوجت في طينة الإنسان شائبتان، واصطحبت فيه سجيتان، وكلّ عبد مصحّح نسبه إمّا إلى الملك، أو إلى آدم، أو إلى الشيطان. فالتائب قد أقام البرهان على صحّة نسبه إلى آدم بملازمة حدّ الإنسان، والمصرّ على الطغيان مسجّل على نفسه بنسب الشيطان. ولقد قلع آدم(عليه السلام) سنّ الندم، وتندّم على ما سبق منه وتقدّم، فمن اتَّخذه قدوة في الذنب دون التوبة فقد زلّت به القدم. فأمّا تصحيح النسب بالتجرد لمحض الخير إلى الملائكة فخارج عن حيّز الإمكان، فإنّ الشر معجون مع الخير في طينة آدم عجناً محكماً لا يخلصه إلاّ إحدى النارين: نار الندم، أو نار جهنّم، فإحراق النار ضروري في تخليص جوهر الإنسان عن خبائث الشيطان. وإليك الآن اختيار أهون الشرّين، والمبادرة إلى أخفّ النارين قبل أن يطوى بساط الاختيار، ويساق إلى دار الاضطرار إمّا إلى الجنّة أو إلى النار.

أقول: كلّ ما ذكره هذا القائل صحيح عدا افتراض أنّ التمحّض للخير خارج بالنسبة للإنسان عن حيّز الإمكان، فإنّ هذه الفكرة ناتجة من مذهبه ـ بما هو من أهل التسنن ـ من إنكار العصمة، أمّا نحن فنؤمن بمبدأ العصمة للمعصومين، وهم متمحّضون في الخير، وبإمكان غير المعصومين بالذات أن يتمحّضوا في الخير


(1) المحجة البيضاء 7/3 ـ 4 نقلاً عن الإحياء للغزالي، ونحن نقلناه هنا مع تغيير يسير في ترتيب العبارة.

225

اقتداءً بالمعصومين(عليهم السلام) عن طريق تربية النفس، ولم يجعل الله المعصومين إلاّ قدوة للأنام، وأمر الله ـ تعالى ـ الناس بالاقتداء بهم، قال عزّ من قائل: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً﴾(1).

وما ظنّك بإنسان تنزّه عن شرب الماء على رغم عطشه الذي لا يتصوّر ولا يطاق، لا لحرمة شرب الماء ولا لكراهته، بل ولا لأجل الإيثار، فإنّ تركه لشرب الماء على المشرعة لم يكن فيه إيثار على الحسين وأهل بيته، بل لأجل مجرّد المؤاساة لإمام زمانه وأهل بيته، وقال:

هذا الحسينُ واردُ المنونِ
وتشربين باردَ المعينِ

تاللهِ ما هذا فعالُ دينِ(2)

فبالله عليك هل تحتمل بشأن هذا الإنسان أن يعصي الله طرفة عين؟!!

وما ظنّك بامرأة اُثكلت في يوم واحد بأولادها وإخوتها وسائر عشيرتها، وأُسرت وحُملت مع نسائها على الأقتاب، ومررن على مقتل الحسين والأصحاب، فنظرت إلى إمام زمانها عليّ بن الحسين(عليه السلام) تكاد نفسه تخرج من شدّة المصاب، فقالت: ـ مسلّية لإمامها منجيةً له من الموت ـ: مالي أراك تجود بنفسك يا بقيّة جدّي وأبي وإخوتي؟ وأخذت تسلّيه وتذكر له أنّه سيأتي جمع لا تعرفهم فراعنة هذه الاُمّة ـ وهم معروفون في أهل السماوات ـ إنّهم يجمعون هذه الأعضاء المتفرّقة، فيوارونها وهذه الجسوم المضرّجة، وينصبون لهذا الطفّ علماً لقبر أبيك سيّد الشهداء لا يُدرَس أثره ولا يعفو رسمه على كرور الليالي والأيّام ... إلى أن ذكرت له(عليه السلام) حديث أُمّ أيمن. وعن هذا الطريق أنجت إمام


(1) السورة 33، الاحزاب، الآية: 21.

(2) البحار 45/41 تحت الخط.

226

زمانها من الموت(1) فبالله عليك هل تحتمل بامرأة كهذه أن تعصي الله طرفة عين؟! ولنعم ما قيل بالفارسيّة:

زن مگو مرد آفرين روزگار
زن مگو بنت الجلال اخت الوقار
زن مگو خاك درش نقش جبين
زن مگو دست خدا در آستين

وأمّا ما اشتهر من انحصار المعصومين في هذه الاُمّة في أربعة عشر فالمقصود بذلك اُولئك الذين خُلِقوا معصومين دون الذين عصموا أنفسهم بعد الولادة بالتربية وبحول الله اقتداءً بهم.

وفي ختام حديثنا عن ضرورة التوبة نشير إلى كلمتين نُقِلتا عن بعض السلف أو عن بعض العارفين، وهما وإن لم أرهما منتهيين إلى إمام معصوم ولكن فيهما عظة وعبرة، ونشير ـ أيضاً ـ إلى رواية لم أرها إلاّ في نقل الغزالي، ولكن فيها ـ أيضاً ـ عظة وعبرة:

1 ـ رُوِي عن بعض السلف(2) أنّه قال: «ما من عبد يعصي إلاّ استأذن مكانه من الأرض أن يخسف(3) به واستأذن سقفه من السماء أن يسقط عليه كسَفاً، فيقول الله ـ تعالى ـ للأرض والسماء: كفّا عن عبدي وأمهلاه، فإنّكما لم تخلقاه، ولو خلقتماه لرحمتماه، لعلّه يتوب إليّ فأغفر له، لعلّه يستبدل صالحاً فاُبدله حسنات، فذلك معنى قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضَ أَنْ تَزُولاَ وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَد مِّن بَعْدِهِ ...﴾(4) ».


(1) راجع البحار 45/179 ـ 183.

(2) نقله في المحجة 7/94 عن الإحياء للغزالي.

(3) يؤيّده ما ورد في الدعاء بعد صلاة زيارة الإمام الرضا(عليه السلام) خطاباً لله تعالى: سيّدي لو علمت الأرض بذنوبي لساخت بي أو الجبال لهدّتني أو السماوات لاختطفتني أو البحار لأغرقتني... راجع مفاتيح الجنان باب زيارة الإمام الرضا(عليه السلام): 502.

(4) السورة 35، فاطر، الآية: 41.

227

2 ـ رُوِيَ عن بعض العارفين(1) أنّه قال: «إنّ لله ـ تعالى ـ إلى عبده سرّين يسرّهما إليه على سبيل الإلهام: أحدهما إذاخرج من بطن أُمّه يقول له: عبدي قد أخرجتك إلى الدنيا طاهراً نظيفاً، واستودعتك عمرك، وائتمنتك عليه، فانظر كيف تحفظ الأمانة، وانظر كيف تلقاني. والثاني عند خروج روحه يقول: عبدي ماذا صنعت في أمانتي عندك، هل حفظتها حتّى تلقاني على العهد فألقاك على الوفاء، أو أضعتها فألقاك بالمطالبة والعقاب؟ وإليه الإشارة بقوله تعالى: ﴿... أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ ...﴾(2) وبقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لاَِمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ﴾(3) ».

3 ـ عن النبيّ(صلى الله عليه وآله): «ما من يوم طلع فجره ولا ليلة غاب شفقها إلاّ وملكان يتجاوبان بأربعة أصوات:

يقول أحدهما: يا ليت هذا الخلق لم يُخلَقوا.

ويقول الآخر: يا ليتهم إذ خُلقوا علموا لماذا خُلقوا.

فيقول الآخر: ويا ليتهم إذ لم يعلموا لماذا خلقوا عملوا بما علموا.

وفي بعض الروايات: (ويا ليتهم إذ لم يعلموا لماذا خلقوا تجالسوا فتذاكروا ما علموا).

فيقول الآخر: ويا ليتهم إذ لم يعملوا بما علموا تابوا ممّا عملوا»(4).

 

الأمر الثاني ـ مقدّمة التوبة:

قد يقال: إنّ مقدّمة التوبة هي اليقظة؛ وذلك أنّ الإنسان بفطرته السليمة مجبول


(1) نقله في المحجة 7/22 عن الإحياء للغزالي.

(2) السورة 2، البقرة، الآية: 40.

(3) السورة 23، المؤمنون، الآية: 8 .

(4) المحجة البيضاء 7/93 ـ94 نقلاً عن الإحياء للغزالي.

228

على التوحيد وعلى آثار التوحيد التي لا تكون إلاّ الخير والصلاح، وكلّ ذنب صدر عن العبد كان غباراً على تلك الفطرة وإخماداً لنورها ورَيْناً عليها، ولا تحصل التوبة إلاّ بالتيقّظ والرجوع إلى الاهتداء بنور الفطرة ومسح الغبار.

والشاهد القرآني على كون التوحيد بجميع ما له من أغصان الخير وأوراقه وثماره أمراً فطرياً للبشر وأنّ مخالفة ذلك مخالفة للفطرة عدّة آيات من قبيل قوله تعالى:

1 ـ ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ﴾(1).

2 ـ ﴿فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاق فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ﴾(2).

3 ـ ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ﴾(3).

سواءٌ فسّرنا هذه الآية ابتداءً بمسألة الفطرة أو فسّرناها بعالم الذر فإنها على الثاني ـ أيضاً ـ تدلّ على أنّ التوحيد صار بسبب ما جرى في عالم الذرّ فطريّاً، وإلاّ فما قيمة عهد نسيه المتعهّد، وكيف يُحتجّ به عليه؟!

وقد ورد في الحديث عن النبيّ(صلى الله عليه وآله): «كلّ مولود يولد على الفطرة حتّى يكون أبواه يهوّدانه وينصّرانه»(4).

فكلّ انحراف عن هذه الفطرة بالذنب لا يمكن أن يتوب العبد منه قبل تيقّظه


(1) السورة 30، الروم، الآية: 30.

(2) السورة 2، البقرة، الآيتان: 137 ـ 138.

(3) السورة 7، الأعراف، الآيتان: 172 ـ 173.

(4) البحار 3 / 281.

229

ورجوعه ولو بمقدار ناقص إلى تلك الفطرة، وهذا ما قد نسمّيه باليقظة.

واليقظة هي أحد التفسيرين للقيام في قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَة أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّة إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَاب شَدِيد﴾(1) فالقيام هنا تارةً يفسّر بالمعنى العام للقيام في سبيل العمل لله تعالى، ولعلّ الأنسب ـ عندئذ ـ أن يكون قوله: ﴿مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّة﴾ بياناً لمتعلق التفكير، أي: تفكّروا حتّى تعرفوا ما بصاحبكم من جنّة وتتّضح لكم طريقة العمل في سبيل الله.

وأُخرى يفسّر بمعنى القومة من السُباة، وهي اليقظة من سِنة الغفلة كما فسّره بذلك العارف المعروف بعبد الله الانصاري(2) ولعلّ الأنسب ـ عندئذ ـ أن يكون قوله: ﴿ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا﴾ هو موطن الوقف في الآية، ويكون قوله: ﴿مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّة﴾كلاماً مستقلاً، والمعنى ـ عندئذ ـ أن اليقظة تكون بالقيام من سِنة الغفلة ثُمّ التفكّر.

وعلى أيّة حال، فاليقظة تكون بعدّة أسباب، منها ما يلي:

أوّلاً: ملاحظة نِعَم الله ـ سبحانه وتعالى ـ التي لا تُحصى، فأوّل النِّعم ببعض المعاني هو الوجود؛ إذ هي الأرضية التي تبتني عليها باقي النِّعم، وببعض المعاني هو الهداية إلى الإيمان؛ لأنّ الإيمان أشرف من كلّ شيء، وببعض المعاني هو العقل، إذ لولاه لما كان مجال للإيمان ولا للالتذاذ الكامل بالنِّعم الاُخرى. وسائر النعم التي تأتي بعد هذه الاُمور لا تُحصى، قال الله تعالى:

1 ـ ﴿... وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ...﴾(3).


(1) السورة 34، سبأ، الآية: 46.

(2) راجع منازل السائرين الباب الأوّل من البدايات، وهو باب اليقظة.

(3) السورة 31، لقمان، الآية: 20.

230

2 ـ ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا ...﴾(1).

وتتجلّى النِّعم عند لحظ المحرومين منها، أو لحظ ذوي العاهات والبلاء.

وليس من الصدف ما نراه من أنّ القرآن العظيم يشير إلى نِعم الله في مواضع لا تُحصى من القرآن، فتأثير تذكّر النِّعم الإلهيّة في حصول اليقظة واضح؛ لأنّه يثير حالة الشكر من ناحية، والتي هي مصدر وجوب الطاعة عقلاً، ويخلق في النفوس الحبّ لله ـ سبحانه وتعالى ـ من ناحية اُخرى، والتي هي المصدر العاطفي للطاعة.

وقد ورد عن الصادق(عليه السلام): أنّه قال: «ما أحبّ الله من عصاه»(2).

ولسنا الآن هنا بصدد ذكر نِعم الله التي لا تُحصى، ولكنّنا نذكر كإشارة إلى ذلك مقطعاً قرآنياً رائعاً من سورة النحل، وهو قوله سبحانه وتعالى: ﴿خَلَقَ السَّماواتِ وَالاَْرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمّا يُشْرِكُونَ* خَلَقَ الاِْنْسانَ مِن نُطْفَة فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ* وَالاَْنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأكُلُونَ* وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ* وَتَحْمِلُ أثْقالَكُمْ إِلى بَلَد لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إلاّ بِشِقِّ الْأَنْفُسَ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ* وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ﴾، والجملة الأخيرة تشير في الأكثر إلى مركوبات اليوم: من قبيل السيّارات والطائرات ونحوها ﴿وعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ﴾ وكأنّ هذا إشارة إلى نِعْمة الإيمان ﴿ومِنْها جَائرٌ﴾ وكأنّ هذا إشارة إلى وجود السُبل المنحرفة والتحذير منها ﴿وَلَوْ شَاء لَهَداكُمْ أجْمَعينَ﴾ وكأنّ هذا إشارة إلى عدم الهداية بالجبر التي تسقط الهداية عن قيمتها ﴿هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاءً لَّكُمْ مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ * يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْم يَتَفَكَّرُونَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ الَّيْلَ وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي


(1) السورة 16، النحل، الآية: 18، والسورة 14، إبراهيم، الآية: 34.

(2) البحار 70 / 15.

231

ذَلِكَ لاَ يَات لِّقَوْم يَعْقِلُونَ * وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لاَ يَةً لِّقَوْم يَذَّكَّرُونَ﴾ ويجلب الانتباه الإشارة تحت الآيات الثلاث الأخيرة إلى أنّ هذه آيات لقوم يتفكّرون ـ يعقلون ـ يذّكّرون، فهذه نعم من ناحية، وآيات وعلامات على وجود الله وحكمته ووجوب شكره من ناحية اُخرى ﴿وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَعَلامَات وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ * أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ﴾، وهذه الآية الأخيرة يتجلّى مغزاها حينما نعلم أنّ المشركين ـ آنئذ ـ لم يكونوا ينسبون الخَلقَ إلى أصنامهم، بل كانوا يعترفون بأنّ الخَلقَ لله تعالى ﴿وَإنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لاَ تُحْصُوها إنَّ الله لَغَفُورٌ رحِيمٌ﴾(1).

وحاصل الكلام: أنّ ما في السماوات والأرض من النِّعَم مسخّرات لخدمة البشر. ولنعم ما قيل بالفارسيّة:

ابر و باد و مه و خورشيد و فلك در كارند
تا تو نانى به كف آرى و به غفلت نخورى
همه از بهر تو سرگشته و فرمان بردار
شرط انصاف نباشد كه تو فرمان نبرى(2)

ولابدّ من الالتفات ـ أيضاً ـ إلى عجزنا عن شكر الله تبارك وتعالى؛ لأنّ الشكر يعني: مقابلة نِعْمة المنعم بشيء، يقدّمه المنعم عليه إلى المنعم ممّا يملكه هو مجازاةً لنعمه، ولو بأن يكتفي ببسمة شفة أو شُكر لسان إن لم يكن قادراً على مجازاته


(1) السورة 16، النحل، الآيات: 3 ـ 18.

(2)

السحب والريح والبدر المنير معاً
والشمس والفلك الدوّار في شغل
لكي تنال الغذا في فطنة وحجى
فلا تكن غافلاً ترعى مع الهمل
كلّ لأجلك مشغول بواجبه
فما من العدل أن تبقى بلا شغل

232

بالمال أو بسائر الخدمات.

أمّا أن يقدّم المنعم عليه شيئاً إلى المنعم من النِّعم التي أخذها منه وهي مازالت ملكاً للمنعم، فلا يعدّ شكراً؛ لأنّه كان وما زال ملكاً للمنعم، ولم يكن من قبل المنعم عليه مستقلاًّ. فالعبد كيف يشكر ربّه بشكر لسان أو بمدح وثناء أو بطاعة وعبادة في حين أنّ هذا كلّه لا يكون إلاّ بما هو ملك لله تعالى لا له، وهو سبحانه وتعالى يستوجب شكراً على الشكر.

وقد ورد في مناجاة الشاكرين(1): «... فكيف لي بتحصيل الشكر وشكري إيّاك يفتقر إلى شكر، فكلّما قلت لك الحمد وجب عليّ لذلك أن أقول: لك الحمد...».

وفي الحديث: عن الصادق(عليه السلام) قال: «فيما أوحى الله ـ عزّ وجلّ ـ إلى موسى(عليه السلام)يا موسى اشكرني حقّ شكري، فقال: يا ربّ وكيف أشكرك حقّ شكرك وليس من شكر أشكرك به إلاّ وأنت أنعمت به عليّ؟ قال: يا موسى الآن شكرتني حين علمت أنّ ذلك منّي»(2).

ومن اللطيف ما قيل بالفارسيّة:

بنده همان به كه زتقصير خويش
عذر به درگاه خدا آورد
ورنه سزاوار خداونديش
كس نتواند كه به جا آورد

وقد ورد في الدعاء الذي يقرأ بعد صلاة زيارة الإمام الرضا(عليه السلام): «... لا تُحمَدُ يا سيّدي إلاّ بتوفيق منك يقتضي حمداً، ولا تشكر على أصغر منّة إلاّ استوجبت بها شكراً، فمتى تُحصى نعماؤك يا إلهي؟ وتُجازى آلاؤك يا مولاي؟ وتكافأ صنائعك


(1) وهي المناجاة السادسة من الخمس عشرة المعروفة.

(2) اُصول الكافي 2/98، الحديث 27.

233

يا سيّدي؟ ومن نعمك يحمد الحامدون، ومن شكرك يشكر الشاكرون ...»(1).

وثانياً: معرفة عِظَم الجناية التي ارتكبناها لدى المعصية وخطرها.

وقد قيل(2): إنّ ذلك يكون باُمور ثلاثة: بتعظيم الحقّ جلّ وعلا، ومعرفة النفس، وتصديق الوعيد.

أمّا تعظيم الحقّ جلّ وعلا فهذا ما يوجب فهم عظمة المعصية؛ لأنّ عظمة المعصية تكون بتناسب عظمة المولى الذي عصاه العبد.

وقد ورد عن الصادق(عليه السلام) قال: «قال رسول الله(صلى الله عليه وآله) من عرف الله وعظّمه منع فاه من الكلام (طبعاً المقصود الكلام الذي لا يعنيه) وبطنه من الطعام (والمقصود هو الصوم أو عدم التخمة) وعفى(3) نفسه بالصيام والقيام. قالوا: بآبائنا وأُمّهاتنا يا رسول الله هؤلاء أولياء الله، قال: إنّ أولياء الله سكتوا فكان سكوتهم ذكراً، ونظروا فكان نظرهم عبرة، ونطقوا فكان نطقهم حكمة، ومشوا فكان مشيهم بين الناس بركة. لولا الآجال التي قد كتب الله عليهم لم تقرّ أرواحهم في أجسادهم خوفاً من العقاب وشوقاً إلى الثواب»(4).

وممّا يشير إلى أنّ العاصي يجب أن يلتفت إلى عظمة مَنْ عصاه ما ورد في دعاء أبي حمزة: «... أنا الذي عصيت جبّار السماء...»(5).

وأمّا معرفة النفس فلو عرف الإنسان خسّة نفسه، وفقره الذاتي، واحتياجه الكامل إلى الله سبحانه وتعالى، التفت إلى عِظم الذنب أكثر فأكثر، واتّجه إلى التوبة بشكل أقوى.


(1) مفاتيح الجنان، فصل زيارة الإمام الرضا (عليه السلام).

(2) راجع منازل السائرين الباب 1 من البدايات، باب اليقظة.

(3) لعلّ الصحيح كتبه بالألف، أي: (عفا) أي: طلب معروف نفسه بالصيام والقيام.

(4) البحار 69/288 ـ 289.

(5) مفاتيح الجنان، دعاء أبي حمزة.

234

ومن الروايات الطريفة الواردة بشأن النفس ما روي عن رسول الله(صلى الله عليه وآله)وهو ما يلي:

دخل على رسول الله(صلى الله عليه وآله) رجل اسمه مجاشع، فقال: «يا رسول الله كيف الطريق إلى معرفة الحقِّ، فقال(صلى الله عليه وآله) معرفة النفس. فقال يا رسول الله فكيف الطريق إلى موافقة الحقّ؟ قال: مخالفة النفس. فقال: يا رسول الله فكيف الطريق إلى رضا الحقّ؟ قال: سخط النفس. فقال: يا رسول الله فكيف الطريق إلى وصل الحقّ؟ قال: هجر النفس. فقال: يا رسول الله فكيف الطريق إلى طاعة الحقّ؟ قال: عصيان النفس. فقال: يا رسول الله فكيف الطريق إلى ذكر الحقّ؟ قال: نسيان النفس. فقال: يا رسول الله فكيف الطريق إلى قرب الحقّ؟ قال: التباعد عن النفس. فقال: يا رسول الله فكيف الطريق إلى أُنس الحقّ؟ قال: الوحشة من النفس. فقال: يا رسول الله فكيف الطريق إلى ذلك؟ قال: الاستعانة بالحقّ على النفس»(1).

وتصديق ذيل الحديث وهو ضرورة الاستعانة بالحقّ على النفس وارد في قوله تعالى: ﴿... وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنكُم مِّنْ أَحَد أَبَداً ...﴾(2).

وأمّا تصديق الوعيد فلولاه لم يكن أحد يطيع الله، ولا أحد يتوب إلى الله، إلاّ المعصوم أو من يتلو تلو العصمة. فعلينا أن نلتفت إلى عذاب الله في الآخرة، ونقيسه إلى عذاب الدنيا الذي لا يعتبر بالنسبة لذاك عذاباً اصلاً. ونخاطب ربّنا بقولنا: «... أنت تعلم ضعفي عن قليل من بلاء الدنيا وعقوباتها، وما يجري فيها من المكاره على أهلها، على أن ذلك بلاء ومكروه قليل مكثه، يسير بقاؤه، قصير مدّته، فكيف احتمالي لبلاء الآخرة وجليل وقوع المكاره فيها، وهو بلاء تطول مدّته، ويدوم مقامه، ولا يخفّف عن أهله؛ لأنّه لا يكون إلاّ عن غضبك وانتقامك


(1) البحار 70/72.

(2) السورة 24، النور، الآية: 21.

235

وسخطك، وهذا ما لا تقوم له السماوات والأرض...»(1).

وقد ورد في الحديث عن الصادق(عليه السلام): «أنّ ناركم هذه جزء من سبعين جزءاً من نار جهنّم، وقد اُطفأت سبعين مرّة بالماء ثُمّ التهبت، ولولا ذلك ما استطاع آدميّ أن يطفأها، وإنّه ليؤتى بها يوم القيامة حتّى توضع على النار، فتصرخ صرخة لا يبقى ملك مقرّب ولا نبيّ مرسل إلاّ جثا على ركبتيه فزعاً من صرختها»(2).

أقول: أظنّ أنّ النار الصارخة هي نار جهنّم كما يشهد لذلك قوله تعالى: ﴿إِذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَان بَعِيد ( وقد فسّر بمسيرة سنة )(3) سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً﴾(4).

وفي حديث مفصّل يصف جبرئيل نار جهنّم لرسول الله(صلى الله عليه وآله): «... لو أنّ مثل خرق إبرة خرج منها على أهل الأرض لاحترقوا عن آخرهم...»(5).

والروايات في أوصاف عذاب جهنّم كثيرة لا تُحصى. وقد نسلّي أنفسنا عن كلّ واحدة منها بأنّه خبر واحد يحتمل الصدق والكذب، ولكن ماذا نفعل بتواترها المعنوي أو الإجمالي؟! ثُمّ ماذا نفعل بالقرآن الذي هو مليء بذكر أوصاف عذاب جهنّم بما يقشعرّ جلد الإنسان لمجرّد سماعه، ولو لم تكن إلاّ آية واحدة لكفت، وهي قوله تعالى: ﴿... كُلَّمَا نَضِجَت جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ ...﴾(6) وقد قالوا: إنّ الجلد هو مركز الإحساس بالألم، وليس اللحم؛ ولذا لو غرزت جلدك بإبرة تحسّ بالألم، ثُمّ لا تحسّ بالألم بتعمّق الإبرة في لحمك. وقد اعتاد جبّارُوا الدنيا باختيار سائر التعذيبات على التعذيب بالنار؛ لأنّ النار


(1) مفاتيح الجنان، دعاء كميل.

(2) البحار 8/288.

(3) البحار 8 / 288، نقلاً عن تفسير عليّ بن إبراهيم.

(4) السورة 25، الفرقان، الآية: 12.

(5) البحار 8/305.

(6) السورة 4، النساء، الآية: 56.

236

تنهي المعذّب وتميته، فيستريح من العذاب، ولكن نار جهنم لا تنهي المعذّب ولا تميته، بل الجلد يتبدّل متى نضج الجلد السابق. وقد قال الله تعالى: ﴿لاَ يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا ...﴾(1).

وإنّي أختم الحديث عن مسألة الوعيد هنا برواية واحدة تامّة سنداً، وهي ما ورد(2) عن أبي بصير عن الصادق(عليه السلام) قال: «ما خلق الله خلقاً إلاّ جعل له في الجنّة منزلاً وفي النار منزلاً، فإذا سكن أهل الجنّة في الجنّة وأهل النار في النار نادى مناد: يا أهل الجنّة أشرفوا، فيشرفون على النار، وترفع لهم منازلهم فيها، ثُمّ يقال لهم: هذه منازلكم التي لو عصيتم الله دخلتموها قال: فلو أنّ أحداً مات فرحاً لمات أهل الجنّة في ذلك اليوم فرحاً؛ لما صرفَ عنهم من العذاب، ثُمّ ينادي مناد: يا أهل النار ارفعوا رؤوسكم، فيرفعون رؤوسهم فينظرون إلى منازلهم في الجنّة وما فيها من النعيم، فيقال لهم: هذه منازلكم التي لو أطعتم ربّكم دخلتموها، قال: فلو أنّ أحداً مات حزناً لمات أهل النار حزناً، فيورث هؤلاء منازل هؤلاء، ويورث هؤلاء منازل هؤلاء، وذلك قول الله: ﴿أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾(3) ».

أقول: إنّ هذه الرواية تدلّ على أنّ الجنّة لها علوّ مكاني على جهنم، وكأنّه يشير إلى ذلك ـ أيضاً ـ قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ﴾(4).


(1) السورة 35، فاطر، الآية: 36.

(2) البحار 8/287.

(3) السورة 23، المؤمنون، الآيتان: 10 ـ 11.

(4) السورة 7، الأعراف، الآية: 40.

237

وثالثاً: مطالعة الزيادة والنقصان الواقعين فيما مضى من عمره؛ كي يتحسّر على ما حصل منه من نقصان، ويسعى في عدم تضييع ما بقي من عمره، ويتدارك ما فاته في الماضي.

وقد ورد في هذا المضمون حديث شريف عن الإمام زين العابدين(عليه السلام)قال: «كان أمير المؤمنين(عليه السلام) يقول: إنّما الدهر ثلاثة أيّام أنت فيما بينهنّ مضى أمس بما فيه فلا يرجع أبداً، فإن كنت عملت فيه خيراً لم تحزن لذهابه، وفرحت بما أسلفته منه، وإن كنت قد فرّطت فيه فحسرتك شديدة لذهابه وتفريطك فيه. وأنت في يومك الذي أصبحت فيه من غد في غرّة، ولا تدري لعلّك لا تبلغه، وإن بلغته لعلّ حظك فيه التفريط مثل حظّك في الأمس الماضي عنك، فيوم من الثلاثة قد مضى أنت فيه مفرّط، ويوم تنتظره لست أنت منه على يقين من ترك التفريط، وإنّما هو يومك الذي أصبحت فيه، وقد ينبغي لك إن عقلت وفكّرت فيما فرّطت في الأمس الماضي ممّا فاتك فيه من حسنات أن لا تكون اكتسبتها، ومن سيّئات أن لا تكون أقصرت عنها، وأنت مع هذا مع استقبال غد على غير ثقة من أن تبلغه، وعلى غير يقين من اكتساب حسنة أو مرتدع عن سيّئة محبطة، فأنت من يومك الذي تستقبل على مثل يومك الذي استدبرت، فاعمل عمل رجل ليس يأمل من الأيّام إلاّ يومه الذي أصبح فيه وليلته، فاعمل أو دع، والله المعين على ذلك»(1).

نعم، من لم يطالع الزيادة والنقصان فيما مضى من عمره كان دائماً مغبوناً؛ لأنّه لن يتدارك ما كان له من النقص، ولا يتوفّق لجعل يومه خيراً من أمسه.

وقد ورد بسند تامّ عن هشام بن سالم عن الصادق(عليه السلام) أنّه قال: «من استوى يوماه فهو مغبون، ومن كان آخر يوميه خيرهما فهو مغبوط، ومن كان آخر يوميه شرّهما فهو ملعون، ومن لم ير الزيادة في نفسه فهو إلى النقصان، ومن كان إلى


(1) أُصول الكافي 2/453، باب محاسبة العمل، الحديث 1.

238

النقصان فالموت خير له من الحياة»(1).

وأيضاً ورد عن الصادق(عليه السلام) أنّه قال: «المغبون من غبن عمره ساعة بعد ساعة»(2).

وأيضاً ورد عن الصادق(عليه السلام) أنّه روى عن عليّ بن أبي طالب(عليه السلام) أنّه قال: « ... لا خير في العيش إلاّ لرجلين: رجل يزداد في كلّ يوم خيراً، ورجل يتدارك منيته بالتوبة»(3).

 

الأمر الثالث ـ أركان التوبة وشرائطها:

وهنا نفتتح الحديث بالكلام المرويّ عن إمامنا أمير المؤمنين(عليه السلام)، فقد رُوي أنّه قال ـ لقائل بحضرته: أستغفر الله ـ: «ثكلتك أُمّك أتدري ما الاستغفار؟ إنّ الاستغفار درجة العلّيين، وهو اسم واقع على ستة معان: أوّلها الندم على ما مضى، والثاني العزم على ترك العود إليه أبداً، والثالث أن تؤدّي إلى المخلوقين حقوقهم حتّى تلقى الله أملس ليس عليك تَبِعَة، والرابع أن تَعْمد إلى كلّ فريضة عليك ضيّعتها فتؤدّي حقّها، والخامس أنّ تَعْمدَ إلى اللحم الذي نبت على السُّحت فتذيبه بالأحزان حتّى يلصق الجلد بالعظم، وينشأ بينهما لحم جديد، والسادس أن تُذيقَ الجسم ألم الطاعة كما أذقته حلاوة المعصية، فعند ذلك تقول: أستغفر الله»(4).

والأوّلان من هذه الاُمور ركنان للتوبة، والثالث والرابع شرطان لقبول التوبة، والأخيران شرطان لكمال التوبة، وإليك قليل من التفصيل عن الأركان والشرائط.


(1) الوسائل 16/94، الباب 95 من جهاد النفس، الحديث 5.

(2) المصدر السابق، الحديث 4.

(3) المصدر السابق: ص 93، الحديث 3.

(4) البحار 6/36 ـ 37 نقلاً عن النهج، راجع ـ أيضاً ـ نهج البلاغة: 745، رقم الحكمة: 417.

239

الركن الأوّل ـ الندم:

وكونه ركناً للتوبة من الواضحات، فإنّ التوبة تعني: الرجوع إلى الله سبحانه وتعالى، أو الرجوع إلى الفطرة الطاهرة التي تدنّست بالذنب، وهذا لا يمكن أن يكون من دون الندم على ما فات.

ولنعم عبد يندم على ذنبه قبل أن يمضي على ذلك سبع ساعات؛ وذلك لأنّ الروايات العديدة دلّت على أنّ كاتب السيّئات لا يكتب السيّئة التي تصدر عن العبد لمدّة سبع ساعات، وهذا يعني: أنّه إذا وقعت التوبة قبل السبع ساعات فلن يرى العبد ذنبه في يوم القيامة في صحيفة عمله، بينما لو وقعت التوبة بعد السبع ساعات فقد يرى ذنبه في صحيفة عمله يوم القيامة، وإن كان يرى بعد ذلك توبته أيضاً.

فعن الصادق(عليه السلام) قال: «قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): أربع من كنّ فيه لم يهلك على الله بعدهنّ إلاّ هالك: يهمّ العبد بالحسنة فيعملها، فإن هو لم يعملها كتب الله له حسنة بحسن نيّته، وإن هو عملها كتب الله له عشراً. ويهمّ بالسيّئة أن يعملها، فإن لم يعملها لم يكتب عليه شيء، وإن هو عملها أُجّل سبع ساعات، وقال صاحب الحسنات لصاحب السيّئات وهو صاحب الشمال: لا تعجل عسى أن يُتبعها بحسنة تمحوها، فإنّ الله ـ عزّ وجلّ ـ يقول: ﴿ ... إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ ...﴾(1) أو الاستغفار، فإن قال: أستغفر الله الذي لا إله إلاّ هو عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم الغفور الرحيم ذا الجلال والإكرام وأتوب إليه، لم يكتب عليه شيء، وإن مضت سبع ساعات ولم يتبعها بحسنة واستغفار قال صاحب الحسنات لصاحب السيّئات: اكتب على الشقيّ المحروم»(2).


(1) السورة 11، هود، الآية: 114.

(2) الوسائل 16/64 ـ 65، باب 85 من جهاد النفس، الحديث 1.

240

والمقصود طبعاً بالاستغفار: طلب المغفرة المقترن بالتوبة بقرينة ما في ذيل الصيغة التي ذكرها للاستغفار، وهو قوله: وأتوب إليه، وبقرينة روايات أُخر من قبيل ما ورد عن الباقر(عليه السلام) من قوله: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له، والمقيم على الذنب وهو مستغفر منه كالمستهزئ»(1).

وورد في حديث تام السند التأجيل من الغدوة إلى الليل، فعن زرارة بسند تام قال: سمعت أبا عبدالله(عليه السلام)يقول: «إن العبد إذا أذنب ذنباً أُجّل من غدوة إلى الليل، فإن استغفر الله لم تُكتَب عليه»(2).

وفي رواية أُخرى عن رسول الله(صلى الله عليه وآله): «صاحب اليمين أمير على صاحب الشمال، فإذا عمل العبد سيّئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال: لا تعجل، وأنظره سبع ساعات، فإن مضت سبع ساعات ولم يستغفر قال: اكتُب فما أقلّ حياء هذا العبد»(3).

والركن الثاني ـ العزم على ترك العود:

وكون هذا ركناً ـ أيضاً ـ من الواضحات؛ إذ بدونه لا يصدق عنوان الرجوع إلى الله أو الرجوع إلى الفطرة الصافية.

والندم في الغالب يستبطن العزم على عدم العود.

وقد ورد في الحديث عن ربعي، عن الصادق(عليه السلام)، عن أمير المؤمين(عليه السلام): «إن الندم على الشرّ يدعو إلى تركه»(4) وعليه تحمل روايات فرض الندامة، هي: التوبة، من قبيل مرسلة الصدوق قال: من ألفاظ رسول الله(صلى الله عليه وآله) «الندامة توبة»(5).


(1) الوسائل 16/74، الباب 86 من جهاد النفس، الحديث 8 .

(2) الوسائل 16 / 65، الباب 85 من جهاد النفس، الحديث 4.

(3) الوسائل 16/70.

(4) الوسائل 16 / 61، الباب 83 من جهاد النفس، الحديث 3.

(5) المصدر السابق: ص62، الحديث 5.

241

وما عن عليّ الجهضمي عن الباقر(عليه السلام): «كفى بالندم توبة»(1).

وأمّا باقي الشرائط:

فمنها: تدارك ما هضمه من حقوق الله وحقوق الناس، وقد مضى ذلك في حديث عليّ(عليه السلام) في نهج البلاغة لمن قال بحضرته: أستغفر الله، ونظيره وارد ـ أيضاً ـ عن عليّ(عليه السلام) في حديثه لكميل في نقل تحف العقول حيث قال في عدّ معاني التوبة: «... والثالث أن تؤدّي حقوق المخلوقين التي بينك وبينهم، والرابع أن تؤدّي حقَّ الله في كلِّ فرض...»(2) حتّى أنّه ورد في سند صحيح عن هشام بن الحكم، عن الصادق(عليه السلام) شرط هداية من أضلّه وإليك نصّ الحديث:

عن هشام بن الحكم (وفي بعض النقول: عن هشام بن الحكم وأبي بصير جميعاً) عن الصادق(عليه السلام) قال: «كان رجل في الزمن الأوّل طلب الدنيا من الحلال فلم يقدر عليها، وطلبها من الحرام فلم يقدر عليها، فأتاه الشيطان فقال له: ألا أدلّك على شيء تكثر به دنياك وتكثر به تبعك؟ فقال: بلى، قال: تبتدع ديناً، وتدعو الناس إليه. ففعل، فاستجاب له الناس وأطاعوه، فأصاب من الدنيا، ثُمّ إنّه فكّر فقال: ما صنعت؟! ابتدعت ديناً، ودعوت الناس إليه ما أرى لي من توبة إلاّ أن آتي من دعوته إليه فأردّه عنه، فجعل يأتي أصحابه الذين أجابوه، فيقول: إنّ الذي دعوتكم إليه باطل، وإنّما ابتدعته، فجعلوا يقولون: كذبت هو الحقّ، ولكنّكشككت في دينك، فرجعت عنه. فلمّا رأى ذلك عمد إلى سلسلة فوتّد لها وتداً، ثُمّ جعلها في عنقه وقال: لا أحلّها حتّى يتوب الله عزّ وجلّ عليَّ، فأوحى الله عزّ وجل إلى نبيّ من الأنبياء قل لفلان: وعزّتي لو دعوتني حتّى تنقطع أوصالك ما استجبت


(1) المصدر السابق: ص62، الحديث 6.

(2) البحار 6/27 نقلاً عن تحف العقول.

242

لك حتّى تردّ من مات على ما دعوته إليه فيرجع عنه»(1).

وإنّنا نرجو أن يكون مفاد هذا الحديث خاصّاً بمورده، وهو: ابتداع الدين، أمّا لو كان مفاده عامّاً لكلّ من ضيّع حقاً ثُمّ عجز عن أدائه، أو لكل من ضيّع حقاً من حقوق الناس ثُمّ عجز عن أدائه، فإنّني أخشى أن يكون كثير منّا مبتلى بمفاده، فتبقى توبتنا ناقصة، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون. وعلى أيّة حال، فالتوبة واجبة حتّى بمقدارها الناقص، ونرجو أن تنفعنا ولو نفعاً ناقصاً.

ثُمّ إنّه لا يبعد أن يكون قيد العمل الصالح الوارد في بعض آيات التوبة إشارة إلى هذا الشرط من قبيل قوله تعالى:

1 ـ ﴿إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ...﴾(2).

2 ـ ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى﴾(3).

3 ـ ﴿ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَة ثُمَّ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾(4).

وقد يُفترض أنّ تدارك الذنب بأداء حقوق الله، وحقوق الناس، داخل في الإنابة لا في التوبة، فالتوبة: رجوع إلى الله اعتذاراً عن الذنب. والإنابة: رجوع إليه إصلاحاً لما فرّط فيه. والتوبة: رجوع إليه عهداً. والإنابة: رجوع إليه وفاءً(5).

إلاّ أنّ الظاهر: أنّ التوبة والإنابة لهما معنىً واحد، وهو: الرجوع.

وعلى أ يّة حال، فليس هذا إلاّ مشاحّة في الاصطلاح.


(1) الوسائل 16/54، الباب 79 من جهاد النفس، الحديث 1.

(2) السورة 19، مريم، الآية: 60.

(3) السورة 20، طه، الآية: 82 .

(4) السورة 16، النحل، الآية: 119.

(5) راجع منازل السائرين لعبدالله الأنصاري باب الإنابة، وهو الباب الرابع من أبواب البدايات.

243

ومنها: أن يكون ذلك قبل انكشاف اُمور الآخرة أو قبل معاينة الهلاك كما ورد في القرآن: ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ ...﴾(1).

وقال ـ أيضاً ـ عزّ من قائل في قِصَّة فرعون: ﴿ ... حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لاَ إِلـهَ إلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ * آلاْ نَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾(2).

والأحاديث بهذا الصدد كثيرة من قبيل:

ما عن رسول الله(صلى الله عليه وآله): «من تاب قبل موته بسنة قَبلَ الله توبته، ثُمّ قال: إنّ السنة لكثير، من تاب قبل موته بشهر قَبِلَ الله توبته، ثُمّ قال: إنّ الشهر لكثير، ثُمّ قال: من تاب قَبلَ موته بجمعة قَبل الله توبته، ثُمّ قال: وإنّ الجمعة لكثير، من تاب قبل موته بيوم قَبلَ الله توبته، ثُمّ قال: إنّ يوماً لكثير، من تاب قبل أن يعاين قَبلَ الله توبته»(3).

وقد ورد في سند صحيح عن زرارة، عن أبي جعفر(عليه السلام) قال: «إذا بلغت النفس هذه ـ وأهوى بيده إلى حلقه ـ لم يكن للعالم توبة، وكانت للجاهل توبة »(4).

وقد يقال: إنّ من نعم الله ـ تعالى ـ على عبده أنّ الموت يبدأ بالرجل، وينتهي إلى الرأس دون العكس، فتكون للإنسان مهلة التوبة قبل أن يغرغر بروحه، ويعاين أمر الآخرة.

ومن الأحاديث الصحيحة سنداً الدالّة على سَعَة الوقت بمعنى قبول التوبة متى


(1) السورة 4، النساء، الآية: 18.

(2) السورة 10، يونس، الآيتان: 90 ـ 91.

(3) الوسائل 16/87، الباب 93 من جهاد النفس، الحديث 3.

(4) الوسائل 16 / 87، الباب 93 من جهاد النفس، الحديث 2.

244

ما وقعت قبل ساعة الموت وإن كانت هي من الواجبات الفورية ما ورد عن محمّد بن مسلم، عن الباقر(عليه السلام): «يا محمّد بن مسلم ذنوب المؤمن إذا تاب منها مغفورة له، فليعمل المؤمن لما يستأنف بعد التوبة والمغفرة، أما والله إنّها ليست إلاّ لأهل الإيمان، قلت: فإن عاد بعد التوبة والاستغفار من الذنوب وعاد في التوبة ؟ قال: يا محمّد بن مسلم أترى العبد المؤمن يندم على ذنبه ويستغفر منه ويتوب ثُمّ لا يقبل الله توبته؟! قلت: فإنّه فعل ذلك مراراً يذنب ثُمّ يتوب ويستغفر ؟ فقال: كلّما عاد المؤمن بالاستغفار والتوبة عاد الله عليه بالمغفرة، وإنّ الله غفور رحيم يقبل التوبة ويعفو عن السيّئات، فإيّاك أن تقنّط المؤمنين من رحمة الله»(1).

ولعلّ السرّ في شرط عدم حضور الموت لقبول التوبة أحد أمرين:

أوّلا: أنّ الإيمان النافع هو الإيمان بالغيب، أمّا الإيمان بالشهود فلا قيمة مهمّة له، فإنّ الإيمان بالشهود أمر سهل يفعله كلّ أحد، وإنّما الخروج من الامتحان يكون بالإيمان بالغيب واتّباعه؛ ولهذا قال سبحانه وتعالى: ﴿بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِّلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ...﴾(2)أمّا إذا حضر الموت وانكشفت اُمور الآخرة فقد تحوّل الغيب إلى الشهود، وعندئذ لا قيمة مهمّة لحدوث إيمان أو توبة؛ ولعلّه لهذا السبب قال الله تعالى: ﴿وَقَالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِيَ الأمْرُ ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ﴾(3).

إذ إن نزول الملك الذي هو من عالم الغيب يعني تحوّل الغيب إلى الشهود، وعندئذ تنقطع المهلة، ويُقضى الأمر. وأيضاً قال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ * لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * مَا


(1) الوسائل 16/79 ـ 80، الباب 89 من جهاد النفس، الحديث 1.

(2) السورة 2، البقرة، الآيات 1 ـ 3.

(3) السورة 6، الأنعام، الآية: 8 .

245

نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إلاَّ بِالحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذاً مُّنظَرِينَ﴾(1).

وثانياً: أنّ فتح باب التوبة لم يكن يعني: أنّ التائب لا يستحقّ العقاب على معصيته؛ فإنّ العاصي خالف الحقّ، ومخالفُ الحقّ يستحقُّ الجزاء ولو تاب، وذلك من قبيل ما لو أنّ أحداً قَتَل ابنك، ثُمّ تندّم على ما فعل وتاب لم تُسْقِط توبتُه حقَّ قِصاصك عليه، فكذلك من خالف حقّ الربّ تبارك وتعالى فاستحقّ العقاب لا يُسْقِط بتوبته استحقاقه للعقاب، وإنّما يعني فتحُ باب التوبة: أنّ الله تعالى يريد تطهير روحك، وتنظيف قلبك من الدنس الذي تدنّستَ به بسبب المعصية، وجعل العقاب رحمةً بك؛ كي يؤدّي إلى أن تحرق روحك بنار التوبة قبل نار جهنّم، فإذا تبت فقد طهرت من الدنس، ورجعت إلى الفطرة الصافية، وكان هذا هو المقصود لله سبحانه، فيقبل توبتك؛ لأنّ التوبة تعني: التحوّل والانقلاب الحقيقيين في واقع نفسك، وهذا لا يكون حينما تكون التوبة نتيجة رؤية البأس والهلاك؛ إذ عندئذ يندم الإنسان لما يرى أمامه من العذاب الفعلي، وهذا لا يعني حصول التحوّل والانقلاب الحقيقيين في نفسه ورجوع الصفاء والطهارة إليه.

وعلى أيّة حال، فالعلاجات الروحيّة الواردة في القرآن أو عن المعصومين(عليهم السلام)حالها حال وصفات أطبّاء الجسم، أي: إنّه كما تكون وصفة الطبيب نافعة حينما تستعمل في محلّها، أمّا لو استعملت وصفة الطبيب التي وضعها للتيفو مثلاً في ذات الجَنْب، والوصفة التي وضعها لذات الجَنْب في التيفو، لا تنفع بل تضرّ، كذلك الوصفات الروحيّة الواردة في الكتاب والسنّة، فمثلاً هذه المهلة والسَعَة التي عرفتها في باب التوبة قد وضعت لعلاج مرض اليأس؛ لأنّه لولاها ليأس الذين لم يمارسوا التوبة فور حصول المعصية ولأدّى ذلك إلى تماديهم في الغيّ وهلاكهم، فجعل باب التوبة مفتوحاً أمامهم ما لم يحضرهم الموت. أمّا لو استعملها أحد في


(1) السورة 15، الحجر، الآيات: 6 ـ 8 .