196

الروايات(1) في اللغو الوارد في قوله تعالى:﴿... وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً﴾(2)ولكن ألا تصدّقني في فهمي القاصر عن القرآن الكريم على أنّ اللغو في هذه الآية الكريمة وفي الكريمة الاُخرى، وهي قوله تعالى:﴿بِسْمِ الله الرَّحْمن الرَّحِيم قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِمُعْرِضُونَ﴾(3) عبارة عن مطلق اللغو؟ فقد جُعل التحرز عن اللغو من صفات عبادالرحمن ومن صفات المتقين، إلاّ أنّ الحدّ الأدنى لهذا التحرز الذي أوجبه الفقه على عامّة الناس هو التحّرز عن الغناء.

والثالث: قد فسّر الفقهاء الآية الشريفة: ﴿وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾(4) بأنّ المقصود هو: الاستماع والانصات لقراءة القرآن من قبل إمام الجماعة، وقد دلّ على ذلك صحيح زرارة(5).

وهذا ـ أيضاً ـ ممّا يحدس أنّه من باب الاكتفاء بالأقلّ لعامة الناس، وأنّ الاستماع والانصات لقراءة القرآن مطلوب على كلّ حال، ويلتزم به العارفون بالله كما ورد التزام سيّد العارفين أمير المؤمنين(عليه السلام) بذلك حينما قرأ ابن الكوّا وهو خلف أمير المؤمنين(عليه السلام) في صلاة الصبح: ﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾(6) « ... فأنصت عليّ(عليه السلام)تعظيماً للقرآن حتّى فرغ من الآية، ثُمّ عاد في قراءته، ثُمّ أعاد ابن الكوّا الآية،


(1) الوسائل 17/308، الباب 99 ممّا يكتسب به، الحديث 19، وص316، باب 101 من تلك الأبواب، الحديث 2.

(2) السورة 25، الفرقان، الآية: 72.

(3) السورة 23، المؤمنون، الآيات: 1 ـ 3.

(4) السورة 7، الأعراف، الآية: 204.

(5) الوسائل 8/355، الباب 31 من صلاة الجماعة، الحديث 3.

(6) السورة 39، الزمر، الآية: 65.

197

فأنصت عليّ(عليه السلام)أيضاً، ثُمّ قرأ، فأعاد ابن الكوّا، فأنصت عليّ(عليه السلام) ثُمّ قال: ﴿فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ﴾(1). ثُمّ أتمّ السورة، ثُمّ ركع»(2).

ولنعد الآن إلى ما كنّا فيه من الحديث عن أنّ الاكتفاء بقشر ظاهري عن الإسلام من عبادة جافّة وطقوس باهتة غير صحيح، فإنّه وإن كان ذاك القشر ـ أيضاً ـ يتلألأ نوراً، ولكن لو نفذنا إلى روح الإسلام وباطنه الوضّاء لرأينا نوراً أوسع وأكثر تلألأً وضياءً وإشراقاً، وهذا الباطن على رغم وضوحه وبروزه من شبكة القشر ونسيجه قد يخفى على أُناس عميت بصائرهم لا أبصارهم: ﴿فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الاَْبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾(3).

وهذه الروح الوضّاءة لها جانبان:

أحدهما: ما أشرنا إليه حتّى الآن من جانب العرفان، أو قل: التوهج بحبّ الله والسعي إلى رضوان الله الذي هو أكبر من جنّات عدن، والاحتراق بنار الوجد والعشق لله سبحانه وتعالى.

وثانيهما: أنّ الإسلام دين مسيّر للحياة، ونظام كامل شامل لإدارتها بأحسن وجه، كافلاً لسعادة البشر في الدنيا، كما هو كافل لسعادته في الآخرة.

فربّ إنسان يتعبّد بظاهر العبادات الواردة في الشرع، ولكنّه يغفل عن حقيقة إدارة الإسلام للحياة، وأنّ تطبيقه يجعل المسلمين سادة العالَم، ويمكّنهم من فتح كنوز الطبيعة ونعمها وخيراتها وبركاتها ﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الاَْرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الاَْرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ


(1) السورة 30، الروم، الآية 60.

(2) الوسائل 8/367، الباب 24 من صلاة الجماعة، الحديث 2.

(3) السورة 22، الحج، الآية: 46.

198

وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ﴾(1).

وإنّني آسف على أنّ كثيراً من الذين يتعمّقون في فهم روح الإسلام ويصبون للوصول إليها وللاتّصاف بمتطلّباتها يلتفت إلى أحد الجانبين، ويغفل عن الجانب الآخر.

فالعرفاء التفتوا إلى الجانب الأوّل، وهو: الجانب الروحي، ولكن كثيراً منهم غفلوا عن الجانب الثاني، وهو: جانب إدارة الإسلام لنظام كامل شامل يسعد البشريّة في حياتها الدنيا وضرورة العمل في هذا الحقل إلى أن يفتح الإسلام العالَم أجمع تحت راية إمام العصر حجّة الله على خلقه عجّل الله تعالى فرجه.

والمجاهدون الإسلاميّون التفتوا إلى الجانب الثاني، وهو: جانب اشتمال الإسلام على نظام الحياة بالتمام والكمال، ولكن كثيراً منهم غفلوا عن الجانب الأوّل، وابتلوا بالجدب الروحي في عباداتهم وطقوسهم.

والمفروض بالعرفاء وبالإسلاميين أن يتّبعوا الأئمّة المعصومين(عليهم السلام) في الاهتمام بالإسلام بقشره وبروحه بكلا الجانبين.

ومن أبرز من رأيناه في زماننا هذا ممّن لم يغفل عن أحد الجانبين، وأعطى كلّ جانب حقّه هو: الإمام الراحل آية الله العظمى السيّد روح الله الخمينيّ رضوان الله تعالى عليه، وبهذا وذاك استطاع أن ينفذ في قلوب المؤمنين إلى أن وُفِّق لإقامة دولة الإسلام على بقعة من بقاع الأرض.

وما أقبح ما ينقله بعض مخلصي الحدّاد من أنّ السيّد الإمام(قدس سره) أراد أن يلتقي به، ولكن الحدّاد لم يره أهلاً لذلك، فلم يشرّفه بهذا الشرف؟!

ثُمّ إنّ فهم الإسلام بهذا الشكل الذي أشرنا إليه، وطَرْحَه بهذا الأُسلوب والتوجّه


(1) السورة 28، القصص، الآيتان: 5 ـ 6.

199

إلى مغزاه المشتمل على الجانبين اللذين ألمحنا إليهما من روحه وواقعه النابض بالحياة له تأثير كبير على إبعاد الإنسان عن المعصية الذي لا يكفي فيه مجرّد التذكير بالجنّة والنار.

وتوضيح المقصود: أنّ الإنسان ميّال بسبب العامل الداخلي، وهي: شهوات النفس، والعامل الخارجي، وهي: المغريات إلى المعاصي والمخالفات. وللإسلام علاج عملي لذلك، لسنا هنا بصدد شرحه.

وإجمالُه: أنّ الإسلام جُعِلَ دين الفطرة، وجُعِلَ نظاماً يلبي الحاجات الحقيقيّة للإنسان، ويؤمّن ـ لو طبّق تطبيقاً حقيقيّاً على الحياة خارجاً ـ كلَّ حاجات الإنسان الواقعية، ولا يحدَّد الإنسان إلاّ من ناحية ميوله الشرّيرة غير الراجعة إلى الحاجات الحقيقية كالحسد وحبّ الإيذاء مثلاً، وكذلك من ناحية السَّرف في تلبية الحاجات الحقيقيّة والتي ترجع غالباً أو دائماً إلى ما يخرج من دائرة الحاجات الحقيقيّة. أمّا في دائرة تلك الحاجات الفطرية الطبيعية فليس للإسلام إلاّ تنظيم وتهذيب طريقة تلبيتها وإشباعها لا رفض ذلك، وما نراه خارجاً من فقر الفقراء أو عوز المعوزين لكثير ممّا يحتاجون إليه من وسائل الراحة أو الرفاه إن هو ـ عادة ـ إلاّ بسبب عدم تطبيق البشريّة لنظام الإسلام بشكله الكامل الموجب لقتر السماء والأرض خيراتهما وبركاتهما أو بسبب سوء التقسيم بين الناس ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَات مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾(1) ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ﴾(2)


(1) السورة 7، الأعراف، الآية: 96.

(2) السورة 5، المائدة، الآية: 66.

200

﴿وَأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لاََسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقاً﴾(1) ﴿اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ * وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾(2). فقتر النعمة وضيقها على المعوزين يعود في الحقيقة إلى ظلم الإنسان لا إلى فقر أودعه الله في الطبيعة.

وعلاوة على ذلك زوّد الله تبارك وتعالى الإنسان بالقوّة المميّزة للخير والشّر، وهي: العقل، والعقل يقتضي بطبيعة الحال في الإنسان أن يضحّي دائماً بمصلحته المهمّة في سبيل مصلحته الأهمّ، فالإنسان المعتقد بالله وبالجزاء ـ بعد فرض غضّ النظر عن الروحيات العرفانيّة، والمُثل العُليا، والعقل العملي والمصالح العامّة، وفرض حصر تفكيره ودوافعه في مصالحه الشخصيّة ـ يكفيه أن يوازن بين لذّة مؤقّتة ضعيفة محرّمة، ومصالحه الأُخرويّة أعني: النجاة من النار والفوز بالجنّة، فيستعدّ للتضحية بتلك اللّذة الضعيفة المؤقتة في سبيل مصلحته العُليا الدائمة.

ولكن الذي نراه عملاً هو: أنّ كثيراً من الناس المعتقدين بالمبدأ والمعاد لم يكفهم هذا الرادع للارتداع عن المعصية، وكأنّ السبب في ذلك: أنّ الدنيا نقد حاضر، والآخرة أمر مستقبلي مؤجَّل، وتوجد في الإنسان حالة الميل إلى الحاضر في مقابل الأمر المؤجّل الاستقبالي. وهذا نقص في طبيعة غالبيّة البشر.

ولعلّه يشير إلى هذه الحالة قوله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ هَؤُلاَء يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً﴾(3) وقوله تعالى: ﴿كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ


(1) السورة 72، الجن، الآية: 16.

(2) السورة 14، إبراهيم، الآيات: 32 ـ 34.

(3) السورة 76، الإنسان، الآية: 27.

201

الآخِرَةَ﴾(1).

فلابدّ لهذا النقص من علاج، وقد ينجح ولو إلى حدّ مّا علاج ذلك بأصل التذكير بالتزاحم بين المصلحتين، وضرورة تضحية المهمّ في سبيل الأهم من ناحية، وتوضيح مدى أهميّة مصلحة الآخرة من ناحية أُخرى، من قبيل بيان أنّ الثواب جنّة عرضها السموات والأرض، والعقاب عقاب لا تقوم له السموات والأرض.

ولكنّنا نرى عملاً: أنّ هذا ـ أيضاً ـ غير كاف في كثير من النفوس.

وهنا مكمّل آخر لو أضيف إلى ذلك ينجح كثيراً، إلاّ في من غلب عليه الشقاء أو الخبث، وهو: أن تكشف له حقيقة الإسلام بشكله النابض بالحياة وبروحه الشفّافة الخلاّبة التي أشرنا إليها ضمن جانبين، فمن عرف روح الإسلام وتذوّقه ينال من ذلك لذّة لا تدانيها لذّة، وينسى كلَّ اللذائذ الدنيويّة الدنية والشهوات النفسية المهلكة. ولنعم ما قال الشاعر بالفارسيّة:

اگر لذّت ترك لذّت بدانى
دگر لذّت نفس لذّت نخوانى

ويضاف ـ أيضاً ـ إلى جانب لذّة العرفان ـ التي نعني بها التلذّذ برضوان الله، وتذوق حبّ الله إلى حدّ الشغف والتيم، وتحصيل اللقاء المعنوي بالله تعالى وكذلك لذّة المعرفة بتسيير الإسلام الحياة السعيدة بنظام كامل شامل ـ مكمّل آخر للابتعاد عن المعاصي، وهو: أن يسعى الإنسان في سبيل تفتيح منابع الخير المودعة من قبل الله في نفسه عادة، من قبيل حبّ الإيثار وحبّ الوفاء والصدق وما إلى ذلك، فإنّ هذه الغرائز ـ أيضاً ـ موجودة في الإنسان العادي إلى جنب الغرائز الشهوانيّة والحيوانيّة، ولعلّ هذا أحد معاني قوله تعالى: ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾(2) فكما يمكن للإنسان أن ينمّي غرائزه الحيوانيّة والشهوانيّة كذلك يمكنه أن ينمّي الغرائز الخيّرة


(1) السورة 75، القيامة، الآيتان: 20 ـ 21.

(2) السورة 90، البلد، الآية: 10.

202

في نفسه، وبإمكانك أن تحسب هذا الجانب ـ أيضاً ـ جزءاً من العرفان الإسلامي الصحيح، فيكون تذوّق حبّ الله، والالتذاذ بالوصول إلى الله، وبتحصيل رضا الله جزءاً من كلّ، وهو: تفتيح منابع الخير المعنوية الكاملة في النفس البشريّة وتنميتها، كما أنّ كلاً من هذين الأمرين يساعد الإنسان على الأمر الآخر، فالإيثار مثلاً وكذلك باقي صفات الخير يقرّب الإنسان إلى الله، كما أنّ الاقتراب إلى الله يحبّب إلى الإنسان جميع الخيرات.

وقد يكون الدافعُ للإنسان السالك في المراحل الأُولى إلى الخير أو إلى تحصيل رضوان الله التذاذَه بذلك، وكلّما مشى في الطريق أكثر إزداد التذاذه الذي يكون دافعاً له نحو الوصول إلى القمّة، ولكن المفروض بالإنسان السالك أن يصل إلى مستوىً يكون دافعه إلى الخير وإلى رضوان الله نفس الخير والرضوان لا الالتذاذ بهما، وإن كان الالتذاذ يشتدّ ـ عندئذ ـ بذلك.

وعلى أيّة حال، فقد اتَّضح بكلِّ ما سردناه: أنّ العرفان الذي تُفْتَرَض نتيجتُه الفناء والذوبان بالمعنى الحقيقي للكلمة في الله عرفانٌ كاذبٌ، بل قد ينتهي إلى الكفر والإلحاد، والمعصومون(عليهم السلام) منه براء. والعرفان الذي ينتهي إلى الفناء والذوبان في الله كفناء العاشق في المعشوق وذوبانه فيه المألوفِ في العشق المجازي بين الناس أنفسهم ـ بفرق أنّ قياس هذا العشق والفناء إلى ذاك العشق والذوبان قياسُ قطرة إلى بحر غير متناه ـ هو العرفان الصحيح الموروث عن المعصومين(عليهم السلام)«واجعلْ لساني بذكركَ لِهِجَاً، وقلبي بحبّك متيماً»(1) ويصل العارف إلى مستوىً لا تبقى له إرادة في مقابل إرادة الله تعالى « ... رضا الله رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه، ويوفّينا أجورَ الصابرين ...»(2).


(1) دعاء كميل.

(2) من خطبة للحسين(عليه السلام) لدى عزمه على الخروج إلى العراق، راجع البحار 44/367.

203

ختامه مسك:

والآن حان لنا أن نختم هذا المدخل المختصر إلى حديثنا العملي عن تزكية النفس بذكر رواية مرويّة عن الشبليّ، عن سيّدنا ومولانا زين العابدين(عليه السلام). وليس هذا هو الشبليّ المعروف المسمّى بجعفر بن يونس؛ فإنّه كان متأخِّراً عن زمان إمامنا زين العابدين(عليه السلام) بكثير، وكان قد مات في سنة ثلاث مئة وأربع وثلاثين أو خمس وثلاثين على ما ورد في روضات الجنّات(1)، والرواية ما يلي:

قال المحدّث النوري(رحمه الله) في مستدرك الوسائل(2) ما نصّه:

العالم الجليل الأوّاه السيّد عبدالله سبط المحدّث الجزائري في شرح النخبة قال: وجدت في عدّة مواضع اُوثِّقُها بخطّ بعض المشايخ الذين عاصرناهم مرسلاً أنّه: «لمّا رجع مولانا زين العابدين(عليه السلام) من الحجّ استقبله الشبليّ فقال(عليه السلام)له: حججت يا شبليّ؟ قال: نعم يابن رسول الله، فقال(عليه السلام): أنزلت الميقات، وتجرّدت عن مخيط الثياب، واغتسلت؟ قال: نعم، قال:فحين نزلت الميقات نويت أنّكَ خلعت ثوب المعصية، ولبست ثوب الطاعة؟ قال: لا، قال: فحين تجرّدت عن مخيط ثيابك نويت أنّكَ تجرّدت من الرياء والنفاق والدخول في الشبهات؟ قال: لا، قال: فحين اغتسلت نويت أنّك اغتسلت من الخطايا والذنوب؟ قال: لا، قال: فما نزلت الميقات، ولا تجرّدت عن مخيط الثياب، ولا اغتسلت.

ثُمَّ قال: تنظّفت، وأحرمت، وعقدت بالحجّ؟ قال: نعم، قال: فحين تنظّفت، وأحرمت، وعقدت الحجّ نويت أنّكَ تنظّفت بنورَةِ التوبة الخالصة لله تعالى؟ قال: لا، قال: فحين أحرمت نويت أنّك حرّمت على نفسك كلَّ محرّم حرّمه الله عزَّ وجلّ؟ قال: لا، قال: فحين عقدت الحجّ نويت أنّكَ قد حللت كلَّ عقد لغير الله؟


(1) روضات الجنّات 2/235. ط ـ إسماعيليان ـ قم.

(2) مستدرك الوسائل 10/166 ـ 172.

204

قال: لا، قال له(عليه السلام): ما تنظّفت، ولا أحرمت، ولا عقدت الحجّ.

قال له: أدخلت الميقات، وصلّيت ركعتي الإحرام، ولبّيت؟ قال: نعم، قال: فحين دخلت الميقات نويت أنّك بنيّة الزيارة؟ قال: لا، قال: فحين صلّيت الركعتين نويت أنّكَ تقرّبت إلى الله بخير الأعمال من الصلاة وأكبر حسنات العباد؟ قال: لا، قال: فحين لبّيت نويت أنّك نطقت لله ـ سبحانه ـ بكلّ طاعة، وصمتّ عن كلِّ معصية؟ قال: لا، قال له(عليه السلام): ما دخلت الميقات، ولا صلّيت، ولا لبّيت.

ثُمّ قال له: أدخلت الحرم، ورأيت الكعبة، وصلّيت؟ قال: نعم، قال: فحين دخلت الحرم نويت أنّك حرَّمت على نفسك كلَّ غيبة تستغيبها المسلمين من أهل ملّة الإسلام؟ قال: لا، قال: فحين وصلت مكّة نويت بقلبك أنّك قصدت الله؟ قال: لا، قال(عليه السلام): فما دخلت الحرم، ولا رأيت الكعبة، ولا صلّيت.

ثُمّ قال: طفت بالبيت، ومسست الأركان، وسعيت؟ قال: نعم، قال(عليه السلام): فحين سعيت نويت أنّك هربت إلى الله، وعَرَفَ منك ذلك علاّم الغيوب؟ قال: لا، قال: فما طفت بالبيت، ولا مسست الأركان، ولا سعيت.

ثُمّ قال له: صافحت الحجر، ووقفت بمقام إبراهيم(عليه السلام) وصلّيت به ركعتين؟ قال: نعم، فصاح(عليه السلام) صيحة كاد يفارق الدنيا، ثُمّ قال: آه آه، ثُمّ قال(عليه السلام): مَنْ صافح الحجر الأسود فقد صافح الله تعالى، فانظر يا مسكين لا تضيّع أجر ما عَظُمَ حرمته، وتنقض المصافحة بالمخالفة وقبض الحرام نظير أهل الآثام، ثُمّ قال(عليه السلام): نويت حين وقفت عند مقام إبراهيم(عليه السلام) أنّك وقفت على كلِّ طاعة، وتخلّفت عن كلِّ معصية؟ قال: لا، قال: فحين صلّيت فيه ركعتين نويت أنّك صلّيت بصلاة إبراهيم(عليه السلام)، وأرغمت بصلاتك أنف الشيطان؟ قال: لا، قال له: فما صافحت الحجر الأسود، ولا وقفت عند المقام، ولا صلّيت فيه ركعتين.

ثُمّ قال(عليه السلام) له: أشرفت على بئر زمزم، وشربت من مائها؟ قال: نعم، قال: نويت

205

أنّك أشرفت على الطاعة، وغضضت طرفك عن المعصية؟ قال: لا، قال(عليه السلام): فما أشرفت عليها، ولا شربت من مائها.

ثُمّ قال له(عليه السلام): أسعيت بين الصفا والمروة، ومشيت، وتردّدت بينهما؟ قال: نعم، قال له: نويت أنّك بين الرجاء والخوف؟ قال: لا، قال: فما سعيت، ولا مشيت، ولا تردّدت بين الصفا والمروة.

ثُمّ قال: أخرجت إلى مِنى؟ قال: نعم، قال: نويت أنّك آمنت الناس من لسانك وقلبك ويدك؟ قال: لا، قال: فما خرجت إلى مِنى.

ثُمّ قال له: أوقفت الوقفة بعرفة، وطلعت جبل الرحمة، وعرفت وادي نَمِرة، ودعوت الله ـ سبحانه ـ عند الميل والجمرات؟ قال: نعم، قال: هل عرفت بموقفك بعرفة معرفة الله ـ سبحانه ـ أمر المعارف والعلوم، وعرفت قبض الله على صحيفتك واطلاعه على سريرتك وقلبك؟ قال: لا، قال: نويت بطلوعك جبل الرحمة أنّ الله يرحم كلَّ مؤمن ومؤمنة، ويتولّى كلَّ مسلم ومسلمة؟ قال: لا، قال: فنويت عند نَمِرة أنّك لا تأمر حتّى تأتمر، ولا تزجر حتّى تنزجر؟ قال: لا، قال: فعندما وقفت عند العلم والنمرات نويت أنّها شاهدة لك على الطاعات حافظة لك مع الحفظة بأمر ربّ السموات؟ قال: لا، قال: فما وقفت بعرفة، ولا طلعت جبل الرحمة، ولا عرفت نَمِرة، ولا دعوت، ولا وقفت عند النمرات.

ثُمّ قال: مررت بين العلمين، وصلّيت قبل مرورك ركعتين، ومشيت بمزدلفة، ولقطت فيها الحصى، ومررت بالمشعر الحرام؟ قال: نعم، قال:فحين صلّيت ركعتين نويت أنّها صلاة شكر في ليلة عشر تنفي كلَّ عسر، وتيسّر كلّ يسر؟ قال: لا، قال: فعندما مشيت بين العلمين، ولم تعدل عنهما يميناً وشمالاً نويت أن لا تعدل عن دين الحقِّ يميناً وشمالاً لا بقلبك ولا بلسانك ولا بجوارحك؟ قال: لا، قال: فعندما مشيت بمزدلفة، ولقطت منها الحصى نويت أنّك رفعت عنك كلّ معصية

206

وجهل، وثبّتّ كلَّ علم وعمل؟ قال: لا، قال: فعندما مررت بالمشعر الحرام نويت أنّك أشعرت قلبك إشعار أهل التقوى والخوف لله عزّ وجلّ؟ قال: لا، قال: فما مررت بالعلمين، ولا صلّيت ركعتين، ولا مشيت بالمزدلفة، ولا رفعت منها الحصى ولا مررت بالمشعر الحرام.

ثُمّ قال له: وصلت مِنى، ورميت الجمرة، وحلقت رأسك، وذبحت هديك، وصلّيت في مسجد الخيف، ورجعت إلى مكّة، وطفت طواف الإفاضة؟ قال: نعم، قال: فنويت عندما وصلت مِنى ورميت الجمار أنّك بلغت إلى مطلبك، وقد قضى ربّك لك كلَّ حاجتك؟ قال: لا، قال: فعندما رميت الجمار نويت أنّك رميت عدوّك إبليس وغضبته بتمام حجّك النفيس؟ قال: لا، قال: فعندما حلقت رأسك نويت أنّك تطهّرت من الأدناس ومن تبعة بني آدم، وخرجت من الذنوب كما ولدتك أُ مّك؟ قال: لا، قال: فعندما صلّيت في مسجد الخيف نويت أنّك لا تخاف إلاّ الله عزّوجلّ وذنبك، ولا ترجو إلاّ رحمة الله تعالى؟ قال: لا، قال: فعندما ذبحت هديك نويت أنّك ذبحت حنجرة الطمع بما تمسّكت به من حقيقة الورع، وأنّك اتَّبعت سنّة إبراهيم(عليه السلام) بذبح ولده وثمرة فؤاده وريحان قلبه وحاجه(1) سنّته لمن بعده، وقرّبه إلى الله تعالى لمن خلفه؟ قال: لا، قال: فعندما رجعت إلى مكّة، وطفت طواف الإفاضة نويت أنّكَ أفضت من رحمة الله تعالى، ورجعت إلى طاعته، وتمسّكْت بوُدِّه، وأدّيت فرائضه، وتقرّبت إلى الله تعالى؟ قال: لا، قال له زين العابدين(عليه السلام): فما وصلت مِنى، ولا رميت الجمار، ولا حلقت رأسك، ولا أدّيت نسكك، ولا صلّيت في مسجد الخيف، ولا طفت طواف الإفاضة، ولا تقرّبت، ارجع فإنّك لم تحجّ. فطفق الشبليّ يبكي على ما فرّطه في حجّه. ومازال يتعلّم حتّى حجّ من قابل


(1) لعلّ الصحيح: وحاجة سنّته لمن بعده، أي: إنّ سنّته كانت بحاجة لمن بعده إلى خَلَف له كإسماعيل، ولكنّه مع ذلك قرّبه قرباناً لامتثال أمر الله، أو الصحيح: وأحيى سنّته.

207

بمعرفة ويقين».

ولنعم ما قيل بالفارسيّة قريباً من مضامين هذه الرواية:

حاجيان آمدند با تعظيم
شاكر از رحمت خداى رحيم
آمده سوى مكّه از عرفات
زده لبيّك عمره از تنعيم
خسته از محنت و بلاى حجاز
رسته از دوزخ و عذاب اليم
يافته حجّ و عمره كرده تمام
بازگشته بسوى خانه سليم
من شدم ساعتى به استقبال
پاى كردم برون زحدّ گليم
مرمرا در ميان قافله بود
دوستى مخلص و عزيز و كريم
گفتم او را بگوى چون رستى
زين سفر كردنت به رنج و به بيم
تا زتو باز مانده ام جاويد
فكرتم را ندامت است نديم
شاد گشتم بدانكه حج كردى
چون تو كس نيست اندر اين اقليم
باز گو تا چگونه داشته اى
حرمت آن بزرگوار حريم
چون همى خواستى گرفت احرام
چه نيت كردى اندر آن تحريم
جمله بر خود حرام كرده بُدى
هر چه ما دون كردگار عظيم
گفت نى گفتمش زدى لبيك
از سر علم و از سر تعظيم
مى شنيدى نداى حقّ و جواب
باز دادى چنانكه داد كليم
گفت نى گفتمش چو در عرفات
ايستادى و يافتى تقديم
عارف حقّ شدى و منكر خويش
به تو از معرفت رسيد نسيم
گفت نى گفتمش چو مى رفتى
در حرم همچو اهل كهف و رقيم
ايمن از شرّ نفس خود بودى
در غم حرقت و عذاب جحيم
گفت نى گفتمش چو سنگ جمار
همى انداختى بديو رجيم
از خود انداختى برون يكسو
همه عادات و فعلهاى ذميم

208

گفت نى گفتمش چو مى كُشتى
گو سپند از پى اسير و يتيم
قرب حقّ ديدى اوّل و كردى
قتل و قربان نفس دون لئيم
گفت نى گفتمش چو گشتى تو
مطّلع بر مقام ابراهيم
كردى از صدق و اعتقاد و يقين
خويشى خويش را به حقّ تسليم
گفت نى گفتمش بوقت طواف
كه دويدى بهروله چو ظليم
از طواف همه ملائكيان
ياد كردى بگرد عرش عظيم
گفت نى گفتمش چوكردى سعى
از صفا سوى مروه بر تقسيم
ديدى اندر صفاى خود كونين
شد دلت فارغ از جحيم ونعيم
گفت نى گفتمش چو گشتى باز
مانده از هجر كعبه دل بدونيم
كردى آنجا بگور مر خود را
همچنان استخوان كه گشته رميم
گفت از اين باب هر چه گفتى تو
من ندانسته ام صحيح وسقيم
گفتم اى دوست پس نكردى حج
نشدى در مقام محو مقيم
رفته و مكّه ديده آمده باز
محنت باديه خريده بسيم
گرتو خواهى كه حج كنى پس ازين
اين چنين كن كه كردمت تعليم

هذا تمام كلامنا في مدخل الحديث العملي عن تزكية النفس.

 

209

 

 

 

 

الحلقة الثالثة

 

البحث العملي لتزكية النفس

 

 

 

 

 

211

 

 

 

 

الفصل الأوّل

التوبة والإنابة

 

متى نبدأ؟ ومن أين نبدأ؟

هذان سؤالان نواجههما بادئ ذي بدء، ونحاول الإجابة عنهما:

متى نبدأ؟

هل نبدأ بتزكية النفس من بعد انتهاء الشباب، بدليل أنّ فترة الشباب هي فترة طغيان النفس وفوران الشهوات، وبعد هذه الفترة نكون أقدر على تهذيب النفس وتزكيتها؟

چون پير شدى حافظ از ميكده بيرون آى
رندىّ و هوسناكى در عهد شباب اولى

والواقع على العكس من ذلك تماماً، فلو ضَمِنَ لنا أحد الوصول إلى فترة ما بعد الشباب وعدم مباغتة الموت، قبلَ ذلك:

فأوّلاً: يكون التمادي في المعاصي والشهوات في حالة الشباب مانعاً عن التزكية لدى الشيب؛ لأنّ ذلك يوجب ظلمة القلب وانكسار قوّة الضمير والوجدان، ولهذا ستكون التوبة لدى الشيب أصعب بكثير من ترك الذنوب لدى الشباب.

وثانياً: إنّ الضعف الذي يستولي على الإنسان لدى الشيب يوجب صعوبة الصبر على مشقّة التزكية ومخالفة النفس.

وثالثاً: إنّ أكثر الشهوات تزداد لهيباً واشتعالاً لدى الشيب، فلو كانت شهوة الجنس تَخِفّ أو تخمد لدى الشيب ـ وهي أمر فطريّ يمكن إشباعه لدى الشباب

212

بالطُرُق المحلّلة عادة ـ فهناك شهوات اُخرى تشتعل وتَلْتَهِب أكثر فأكثر بتقدّم العمر، ويشيب ابن آدم وتشبّ فيه خصلتان: الحرص وطول الأمل، فعن رسول الله(صلى الله عليه وآله): « يهرم ابن آدم ويشبّ منه اثنان: الحرص على المال والحرص على العمر »(1).

وعنه(صلى الله عليه وآله): «يهلك ـ أو قال ـ يهرم ابن آدم ويبقى منه اثنتان الحرص والأمل»(2).

وعن طُرُق العامّة عن رسول الله(صلى الله عليه وآله): «حبّ الشيخ شابّ في طلب الدنيا وإن التفّت ترقوتاه من الكِبَر، إلاّ الذين اتقوا، وقليل ماهم»(3).

وإفساد طول الأمل وكذلك اتِّباع الهوى على الإطلاق للنفس أكثر بكثير من مجرّد فوران شهوة الجنس في الشابّ. وقد ورد عن امير المؤمنين(عليه السلام) أنّه قال: «ألا إنّ أخوف ما أخاف عليكم خصلتان: اتِّباع الهوى وطول الأمل، أمّا اتِّباع الهوى فيصدّ عن الحقّ، وأمّا طول الأمل فيُنسي الآخرة»(4). وليس اتِّباع شهوة الجنس إلاّ جزءاً يسيراً من اتِّباع الهوى.

إذن فتجب المبادرة إلى تهذيب الروح وتزكية النفس من أوّل سني البلوغ وأوّل حالة الشباب. وقد ورد عن الصادق(عليه السلام) في تفسير قوله تعالى: « ﴿... أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ ...﴾(5) أنّه توبيخ لابن ثماني عشر سنة»(6). ولئن استطاع أحد أن يربّي نفسه قبل سني البلوغ كي لا تزل به قدمه بعد البلوغ ويكون ملتزماً بتكاليفه من أوّل البلوغ، لكان ذلك خيراً.


(1) البحار 73/161.

(2) البحار 73/161.

(3) المحجّة البيضاء 8/249.

(4) البحار 73/163.

(5) السورة 35، فاطر، الآية: 37.

(6) تفسير البرهان 3/366.

213

وعلى أيّة حال، فمن لم يتوفّق للتزكية مبكّراً فالمفروض به أن يبادر إلى ذلك في أقرب وقت من أوقات عمره مهما فرض فوات الفرصة؛ لأنّه بقدر ما يؤخّر العمل بهذا الصدد ستزداد الصعوبات أمام نفسه أكثر فأكثر وتضيق الفرصة أكثر من ذي قبل. وقد ورد في الحديث عن الصادق(عليه السلام): أنّه «مكتوب في التوراة نُحنا لكم فلم تبكوا، وشوّقناكم فلم تشتاقوا ... أبناء الأربعين أُوفوا للحساب، أبناء الخمسين زرع قد دنا حصاده، أبناء الستّين ماذا قدّمتم وماذا أخّرتم، أبناء السبعين عدّوا أنفسكم في الموتى ...»(1) ولنعم ما قيل:

أعينيّ لم لا تبكيان على عمري
تناثر عمري من يديّ ولا أدري
إذا كنت قد جاوزت خمسين حجةً
ولم اتأهب للمعاد فما عذري

ولنعم ما قيل بالفارسيّة:

چو در موى سياه آمد سفيدى
پديد آمد نشان نا اميدى
زپنبه شد بنا گوشت كفن پوش
هنوز اين پنبه بيرون نارى از گوش
وأيضاً نعم ما قيل بالفارسيّة:

دوشم از سر رفت خواب و ميگذشت
با غم دل چون دگر شبهاى من
تيك تاك ساعت آوردم بخود
در سخن شد ناصح گوياى من
با زبان عقربك ميگفت عُمْر
مى روم بشنو صداى پاى من
روز اگر سر گرم خواب غفلتى
در دل شب گوش كن آواى من
تو أسير آرزوهاى زمان
لحظه غافل نه از يغماى من
اى ندانسته بهاى عمر خويش
نيستت آخر چرا پرواى من
از نداى عُمْر بر احوال خويش
نوحه گر شد طبع غم افزاى من
عمر من سرمايه من هست ونيست
هم بر اين سرمايه استيلاى من


(1) البحار 6/36.

214

در كمين من زمان تندرو
عاجز از تدبير كارش راى من
بى خبر از سرنوشت خويشتن
زندگى شد خواب وحشتناى من
اى زمان اى سود من از تو زيان
اى محال از گردشت ابقاى من
اين تو واين سير برق افزاى تو
وين من ووين رنج جان افزاى من
ولنعم ما قيل:

ألا يا أيّها القمر المضيء
إلى كم تذهبنّ وكم تجيء
ذهبت وفي ذهابك قصر عمري
رجعت وفي رجوعك لا يجيء
من أين نبدأ؟

كنت أتمنّى أن يكون بدء عملنا من ما فوق الصفر؛ لأنّه قد مضى من عمرنا عدد من السنين إن قليلاً أو كثيراً، فالمفروض أنّنا قد طوينا مساحة من الطريق، فليست بداية عملنا الآن من الصفر.

ولئن تنازلنا عن ذلك فإنّني كنت أتمنّى أن يكون بدء عملنا من الصفر، ومن صفحة بيضاء خالية عن الذنوب وعن الكمالات العرفانيّة.

ولكن الذي يحرق القلب ويدمي الفؤاد ويُبكي العين أن بدء عملنا في الأعمّ الأغلب لابدّ أن يكون من تحت الصفر، أي: يجب علينا أن نبدأ بغَسل الصفحة السوداء في قلوبنا بماء التوبة؛ لأنّنا تنزّلنا وتدهورنا عن حدّ الاعتدال الفطري بسبب المعاصي والذنوب، فالآن يجب علينا أن نبدأ بإزالة ماهو ضدّ الكمال لا بصعود مدارج الكمال من أرض معتدلة وقلب صاف، ولكنّ الذي يسلّينا عن هذه المصيبة أنّنا لسنا وحدنا هكذا نمشي في الطريق، بل يمشي أمامنا في طريق التوبة المعصومون، وأنا أفهم أنّ هذا الكلام الذي قلته ليس منطقيّاً؛ لأنّ توبتهم(عليهم السلام)تختلف سنخاً عن توبتنا؛ لأنّ ذنوبهم تختلف سنخاً عن ذنوبنا؛ وذلك بدليل العصمة، ولكن نبرّد أنفسنا بمجرد التشارك في الاسم، ونقول: يا ربّنا كيف لا تقبل

215

توبتنا ونحن قافلة عظيمة أتيناك تائبين، وأمامنا في الطريق أنبياؤك المرسلون والأئمّة المعصومون وأنت أكرم من أن تقبل توبة صدر القافلة وتوردهم مناهلك الرويّة ثُمّ تسدّ باب القبول على الذيول الوافدة التابعة لاؤلئك المقربين في سلوك الطريق.

فهذا نبيّ الله داود وهو معصوم عن الذنب بالمعنى الذي نفهمه من الذنب المألوف لدى غير المعصومين ولكن لهجته في التوبة عين لهجتنا حيث قال الله تعالى: ﴿... وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ﴾(1) وهذا زين العابدين وسيّد الساجدين يقول ـ على ما ورد في مناجاة التائبين(2) ـ: « إلهي إن كان الندم على الذنب توبة فإنّي وعزّتك من النادمين، وإن كان الاستغفار من الخطيئة حِطّة فإنّي لك من المستغفرين، لك العتبى حتّى ترضى ...» ويقول ـ أيضاً ـ فيما رواه طووس الفقيه(3): «وعزّتك وجلالك ما أردت بمعصيتك مخالفتك، وما عصيت إذ عصيتك وأنا بك شاكّ ولا بنكالك جاهل ولا لعقوبتك متعرّض، ولكن سوّلت لي نفسي وأعانني على ذلك سترك المرخى به عليّ، فالآن من عذابك من يستنقذني؟ وبحبل من أعتصم إن قطعت حبلك عنّي؟ فوا سوأتاه غداً من الوقوف بين يديك إذا قيل للمخفّين: جوزوا، وللمثقلين حطّوا، أمع المخفّين أجوز؟ أم مع المثقلين أحطّ ...».

وهنا أُكرّر أن توبتهم عليهم آلاف التحيّة والثناء تختلف سنخاً وهويّة عن توبتنا؛ لأنّ ذنوبهم تختلف سنخاً وهويّة عن ذنوبنا.

وهنا اتبرّك بذكر كلام سيّد العارفين في زماننا الإمام الخمينيّ(رحمه الله) حيث يعتذر


(1) السورة 38، ص، الآية: 24.

(2) المناجاة الأُولى من المناجيات الخمس عشرة المعروفة.

(3) البحار 46/81 .

216

عن شرح أنحاء التوبة المختلفة في السِّنخ في كتابه (الأربعون حديثاً)(1) بقوله: « اعلم أنّ للتوبة حقائق ولطائف وأسراراً، ولكلّ واحد من أهل السلوك إلى الله توبة خاصّة تتناسب مع مقامه، وحيث أن لا حظّ ولا نصيب لنا في تلك المقامات فلا يناسب شرحها والإسهاب في هذا الكتاب».

أقول: وممّا يؤيّد ما أفاده (رضوان الله عليه) من تعدّد أنحاء التوبة بتعدّد المقامات التي وصل إليها العبد ما ورد في مصباح الشريعة عن الصادق(عليه السلام): «التوبة حبل الله ومدد عنايته، ولابدّ للعبد من مداومة التوبة على كلّ حال. وكلّ فرقة من العباد لهم توبة، فتوبة الأنبياء من اضطراب السرّ، وتوبة الأصفياء من التنفّس، وتوبة الأولياء من تلوين الخطرات، وتوبة الخاصّ من الاشتغال بغير الله، وتوبة العامّ من الذنوب. ولكلّ واحد منهم معرفة وعلم في أصل توبته ومنتهى أمره...»(2).

والآن حان لنا وقت الدخول في بحث التوبة.

قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَة ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيب فَأُوْلَـئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً * وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَـئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً﴾(3).

وقال عزّ من قائل: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ


(1) في ذيل الحديث السابع عشر: ص 283 بحسب أصل الكتاب الفارسي وص 267، بحسب الترجمة العربيّة التي قام بها السيّد محمّد الغروي حفظه الله.

(2) البحار 6 / 31.

(3) السورة 4، النساء، الآيتان: 17 ـ 18.

217

يَعْلَمُونَ * أُوْلَـئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾(1).

وقال عزّ وجلّ: ﴿إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَات وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً﴾(2).

وقال عزّ اسمه: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾(3).

إنّ آيات التوبة في القرآن كثيرة، وكان اختياري لهذه الآيات الأربع بالذات لبدء الحديث في التوبة لنكات خاصّة بها:

أمّا الآية الأُولى فالنكتة الخاصّة بها هي ما ورد فيها: من أنّ الله ـ تعالى ـ فرض على نفسه التوبة على العبد التائب حيث قال: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَة ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيب ...﴾ وكلمة ﴿عَلَى﴾ تعطي معنى الوجوب، فلاحظ رحمة الربّ ـ تعالى ـ الذي لا يجب عليه عقلاً قبول التوبة؛ لأنّ العبد العاصي بعد أن خالف نظام العبوديّة فهو لا محالة يستحقّ جزاء عمله، وليست التوبة ماحية لاستحقاقه، ولكنّك تقف إعظاماً وإكباراً للرحمة البارزة في هذه الآية الشريفة؛ إذ فرض الله ـ تعالى ـ قبول التوبة أمراً واجباً على نفسه، وكأنّ عبده


(1) السورة 3، آل عمران، الآيتان: 135 ـ 136.

(2) السورة 25، الفرقان، الآية: 70.

(3) السورة 39، الزمر، الآيات: 53 ـ 58.

218

المذنب له حقّ دلال على الربّ ـ تبارك وتعالى ـ يطالبه بما أوجبه على نفسه من المغفرة والرحمة والتوبة عليه.

ولعلّ السبب في هذا ـ بعد وضوح سعة رحمته التي ستظهر في يوم القيامة حتّى يطمع إبليس فيها(1) ـ واضح، وهو: أنّ فرض العقاب على ذنوب العباد لم يكن بهدف التشفّي من العبد تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً، بل كان بهدف جعله رادعاً للعبد عن الهلاك وسقوطه في وادي الضلال وفي رذائل النفس وقبائح الأعمال، ومحفّزاً له على تزكية نفسه وتنمية الفضائل في ذاته، وتكميله في سلّم المعنويات بقدر قابليّته، هذا بالنسبة لغير الخبيث الذي وصل استحقاقه للعقاب (لولا أن يتوب) إلى حدّ لا يكون قابلاً للعفو عنه، أمّا بالنسبة لهذا فهناك ملاك آخر للعقاب زائداً على ما مضى لسنا الآن بصدد شرحه. فإذا تاب العبد وأناب إلى ربّه فقد طهّر نفسه، واستعاد حسن سريرته، وبدأ يرقى مرقى الكمال، فقد تحقّق الهدف الذي كان كامناً من وراء فرض العقاب، فالربّ تعالى يكون ـ عندئذ ـ أعلى وأجلّ من أن يعاقبه، وهو تبارك وتعالى قد فرح ـ إن صحّ التعبير ـ بحصول الهدف المنشود، وهو: هداية العبد. فقد ورد في الحديث عن أبي عبيدة الحذّاء قال: «سمعت أبا جعفر(عليه السلام): ألا إنّ الله أفرح بتوبة عبده حين يتوب من رجل ضلّت راحلته في أرض قفر وعليها طعامه وشرابه، فبينما هو كذلك لا يدري ما يصنع ولا أين يتوجّه حتّى وضع رأسه لينام فأتاه آت فقال له: هل لك في راحلتك، قال: نعم، قال: هو ذه فاقبضها، فقام إليها فقبضها، فقال ابوجعفر(عليه السلام): والله أفرح بتوبة عبده حين يتوب من ذلك الرجل حين وجد راحلته»(2).

وأمّا الآية الثانية وهي قوله: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا


(1) راجع البحار 7/287، الباب 14 من كتاب العدل والميعاد، الحديث 1.

(2) البحار 6/38 ـ 39.

219

اللّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ ...﴾ فالنكتة في اختياري لذكرها هنا هي: الحديث الوارد في ذيل تفسير هذه الآية عن الصادق(عليه السلام)(1) قال: «لمّا نزلت هذه الآية: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً ...﴾ صعد إبليس جبلاً بمكّة يقال له: ثور، فصرخ بأعلى صوته بعفاريته، فاجتمعوا إليه، فقالوا: يا سيّدنا لِمَ دعوتنا؟ قال: نزلت هذه الآية فمن لها؟ فقام عفريت من الشياطين فقال: أنا لها بكذا وكذا، فقال: لست لها. فقام آخر فقال مثل ذلك، فقال: لست لها. فقال الوسواس الخنّاس: أنا لها، فقال: بماذا؟ قال: أعدهم وأُمنّيهم حتّى يواقعوا الخطيئة، فإذا واقعوا الخطيئة أُنسيهم الاستغفار، فقال: أنت لها. فوكّله بها إلى يوم القيامة».

وأمّا الآية الثالثة وهي قوله تعالى: ﴿إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً ...﴾فكانت النكتة في اختياري لها لبدء الحديث بالتوبة ما في هذه الآية ممّا يقف العقل أمامه إعظاماً وإكباراً لرحمة الربّ؛ إذ لم يذكر فيها مجرّد عفو الله ـ تعالى ـ عن ذنوب التائبين، بل ذكر تبديل سيّئاتهم حسنات، فأيّ رحمة هذه التي لا تقتصر على ترك العقاب، بل تبدّل السيّئة حسنة، وتبدّل العقاب ثواباً؟! ولعلّ تفسير الآية يكون أنسب بالقول بتجسّم الأعمال، فبدلاً عن أن يُروا أعمالهم السيّئة سيّئات يُرونها حسنات. وقد ورد في الحديث عن الباقر(عليه السلام)قوله: «ويستر عليه من ذنوبه ما يكره أن يوقفه عليها. قال: ويقول لسيّئاته: كوني حسنات. قال: وذلك قول الله تبارك وتعالى: ﴿ ... أُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَات وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً﴾ »(2).

وقد يقول القائل: إذن فلنرتكب السيّئات حتّى نتوب بعد ذلك، وبهذا تزداد حسناتنا.


(1) راجع تفسير البرهان 1/316.

(2) البحار 7/260.

220

ولكن صاحب هذا الكلام غفل أوّلاً عن عدم ضمان لنفي مباغتة الموت قبل التوبة. وثانياً عن أنّ ترك الذنب أهون من التوبة، ولا يعلم أنّه سيتوفق إلى التوبة لو أذنب، فإنّ الندم الذي هو أوّل شرائط التوبة لا يتحقّق بسهولة، فضلاً عن باقي شرائطها التي تتلو النَدَم. وقد ورد عن الصادق(عليه السلام) عن أمير المؤمنين(عليه السلام)أنّه قال: «ترك الخطيئة أيسر من طلب التوبة. وكم من شهوة ساعة أورثت حزناً طويلاً، والموت فضح الدنيا، فلم يترك لذي لبّ فرحاً»(1). وثالثاً عن أنّ تبدّل السيّئات حسنات لا يعني أنّ المذنب إذن صار أكثر ثواباً من غير المذنب؛ لانضمام سيّئاته إلى حسناته؛ وذلك لأنّ الحسنات التي تعطى لتارك الذنوب بسبب تركه للذنوب أو بسبب رحمة الرب لا تقاس بالتي تعطى للتائب، ومن الباطل عقلاً أن يكون التائب من الذنب أفضل من المتحرّز من الذنب.

وأمّا الآية الرابعة وهي قوله تعالى: ﴿... إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً ...﴾ فالسبب لاختياري بدء الحديث بذكرها ما فيها من العموم الواضح الدال على غفران جميع الذنوب بلا استثناء، وبما فيها أشدّ الذنوب، وهو: الشرك، أمّا ما تراه من استثناء الشرك في قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء ...﴾(2) فذلك ناظر إلى المغفرة من دون توبة، في حين أن قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً ... ﴾ ناظر إلى المغفرة على أثر التوبة. والشاهد الداخلي على ذلك من نفس الآية قوله تعالى بعدها مباشرة: ﴿وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ﴾.

أمّا الاُمور التي نريد أن نبحثها في مسألة التوبة فهي:

الأوّل: ضرورة التوبة.


(1) أُصول الكافي 2/451.

(2) السورة 4، النساء، الآية: 48.