85

التلف حتّى لو كان المستأمن _ عنده صبيّاً _ فعن هذا الطريق نصل إلى نتيجة عدم الضمان في خصوص فرض التلف دون الإتلاف.

الحكم الثاني: وجوب ردّ ما قبضه بالبيع الفاسد إلى المالك فوراً

أفاد الشيخ الأنصاري رحمه الله: «إنّ من الأُمور المتفرّعة على عدم تملّك المقبوض بالبيع الفاسد وجوب ردّه فوراً إلى المالك»(1).

فهل هذا حكم مستأنف ولغو لا ينبغي بحثه؛ لأنّه لو وجب دفع العوض إلى البائع لدى تلف المبيع فكيف لا يجب دفع نفس المبيع إليه مع وجوده؟!

وبكلمة أُخرى: إنّ المشتري كان ضامناً لمثل المبيع أو قيمته للبائع سواء قرّرنا ذلك بلغة أنّ ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده أو قرّرناه باللغة البسيطة التي تقول: إنّ البائع لم يهدر احترام مال نفسه فماله محترم، وأيضاً سواء تلف المبيع أو أتلفه المشتري، وإذا كان لدى التلف ضامناً له فكيف لا يضمنه لدى الإتلاف؟! فلو صحّ كلّ هذا فكيف يحتمل عدم وجوب ردّ نفس المبيع إلى البائع مع وجوده؟!

إلّا أنّه بالإمكان الجواب على ذلك بأنّه لدى تلف المبيع أو إتلافه لا يتعيّن ملك البائع إلّا بتطبيق المثل أو القيمة على عين خارجية، وهذا التطبيق لا يتحقّق بمجرّد فرض التطبيق واعتباره على عين خارجية من قِبل المشتري فيما بينه وبين نفسه، وإنّما يتحقّق بالارتكاز العقلائي بتسليم تلك العين مثلاً أو قيمتها إلى البائع. أمّا مع وجود المبيع فملك البائع مشخّص خارجاً، والمقدار المسلّم وجوبه هو التخلية بينه وبين مالكه وهو البائع، أمّا وجوب الردّ فبحاجة إلى استئناف بحث جديد.

وهناك أثر آخر لهذا البحث يخرجه أيضاً عن اللغوية، وهو أنّنا لو اقتصرنا على البحث السابق من وجوب ردّ المثل أو القيمة لدى التلف أو الإتلاف إلى البائع وقلنا:


(1) کتاب المكاسب، ج3، ص199.

86

إن وجب ردّ العوض فكيف لا يجب ردّ نفس المبيع مع وجوده؟! ولم نستطع التعدّي من ذلك إلى مورد ما لا يضمن بصحيحه كالهبة؛ لأنّه لم يكن يجب في ذاك المورد ردّ العوض لدى التلف ولا الإتلاف؛ لأنّ الواهب قد أسقط احترام مال نفسه فإثبات وجوب الردّ لدى وجود العين الموهوبة بحاجة إلى استئناف بحث جديد، وبدونه يبقى احتمال أنّه لا يجب شيء عدا التخلية بين العين الموهوبة ومالكها.

وقد استشهد الشيخ رحمه الله(1) لوجوب الردّ في البيع الفاسد بحديثين:

الأوّل: حديث الإمام صاحب الزمان(عجل الله تعالى فرجه الشريف): «لا يحلّ لأحد أن يتصرّف في مال غيره بغير إذنه»(2) بناء على أنّ الإمساك يعدّ تصرّفاً.

والثاني: صحيح زيد الشحّام(3) وموثّق سماعة(4) عن أبي عبدالله عليه السلام عن رسول الله(صل الله عليه وآله): «من كانت عنده أمانة فليؤدّها إلى من ائتمنه عليها، فإنّه لا يحلّ دم امرئ مسلم ولا ماله إلّا بطيبة نفسه»، فحتّى لو قلنا: إنّ الإمساك لا يعدّ تصرّفاً فعلى الأقل هو داخل تحت إطلاق «لا يحلّ مال امرئ مسلم»؛ لأنّه حرّم بإطلاقه جميع الأفعال المتعلّقة به التي منها كونه في يده.

ولا يتوهّم أنّ هذا كان بإذنه؛ لأنّه دفعه إليه باختياره، فإنّ هذا الدفع كان بعنوان تمليكه إيّاه بعوض، ولم يسلّم له العوض، والتمليك المجّاني لم يصدر منه.

واستشكل السيّد اليزدي رحمه الله في صورة علم الدافع بالفساد في حرمة التصرّف على ما نقله في التنقيح(5) عن حاشيته على المكاسب بوجود الإذن الضمني في التصرّف؛ فإنّ المالك في ضمن تمليكه قد أذن للقابض في التصرّف. ودعوى أنّ الإذن مقيّد


(1) کتاب المكاسب، ج3، ص199 _ 200.

(2) وسائل الشيعة، ج25، ص386، الباب الأوّل من کتاب الغصب، ح4.

(3) المصدر السابق، ج29، ص10، الباب الأوّل من أبواب القصاص، ح1.

(4) المصدر السابق، ج5، ص120، الباب3 من أبواب مكان المصلّي، ح1.

(5) موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج36، ص249 _ 250

87

بالملكية وهي غير حاصلة، مدفوعة بأنّ القيد إنّما هو الملكية في اعتبار البائع وهي حاصلة؛ إذ المفروض أنّه أنشأها ولم يكن الإذن مقيّداً بالملكية الشرعية(1).

وأجاب السيّد الخوئي(رحمه الله) على ذلك بأنّ المستثنى في قوله(عليه السلام): «لا يجوز لأحد التصرّف في مال غيره إلّا بإذنه» إنّما هو إذن المالك في التصرّف في ملك نفسه بما هو مالك، والإذن في المقام إنّما كان إذناً في تصرّف القابض في ملك نفس القابض ولو تشريعاً، فلا يكون داخلاً في المستثنى بل يبقى تحت المستثنى منه فيحرم(2).

ولكن في نفس الوقت لم يوافق السيّد الخوئي(رحمه الله) على استدلال الشيخ الأنصاري بالروايتين على وجوب الردّ(3).

أمّا الرواية الأُولى وهي: «لا يحلّ التصرّف» فلأنّ مجرّد الإمساك ما لم يكن بعنوان منع المالك عن ملكه ومزاحمته لا يعدّ تصّرفاً، وعليه فتكفيه التخلية ورفع المزاحمة، فيقول للمالك: إنّي لا أُزاحم سلطانك، ولا أمنعك من التصرّف في مالك، أمّا أنّه يجب عليه الردّ أو تجب عليه مؤونة الردّ فلا دليل عليه.

وأمّا الرواية الثانية وهي رواية: «لا يحلّ مال امرئ مسلم إلّا بطيب نفسه» فلا إطلاق لها لغير التصرّف حتّى يقال: إنّ مجرّد الإمساك ولو مع التخلية وعدم المزاحمة داخل في إطلاقها؛ لأنّ إسناد الحلّية أو الحرمة إلى المال وغيره من الأعيان يكون باعتبار الفعل المناسب لها باختلاف الموارد، لا باعتبار جميع الأفعال، ففي قوله سبحانه: ﴿حُرَّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ﴾(4) يكون المقدّر النكاح لا النظر واللمس وسائر الأفعال،


(1) وإن شئت نصّ كلام السيّد اليزدي فراجع حاشيته علی المکاسب، ج1، ص95، وكأنّه يقول بعدم تقيّد الإذن بالملكية الشرعية من باب أنّ المفروض علمه بفساد المعاملة شرعاً، فلا يحتمل تقيّده بالملكية الشرعية.

(2) راجع موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج36، ص250.

(3) راجع المصدر السابق، ص251 _ 252.

(4) النساء: 13.

88

وفي قوله سبحانه: ﴿حُرَّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ﴾(1) يكون المقدّر هو الأكل، والمناسب في المقام إمّا هو تقدير الأكل أو جميع التصرّفات والانتفاعات، لا مجرّد كونه عنده مع فرض التخلية وعدم المزاحمة.

ثم لو سلّمنا وجوب الردّ _ بإحدى هاتين الروايتين أو غيرهما _ فعلى من ستكون مؤونة الردّ لو توقّف على المؤونة؟ هل على البائع أو على المشتري؟

نقل الشيخ عن التذكرة وجامع المقاصد: أنّ مؤونة الردّ على المشتري من باب وجوب مقدّمة الواجب(2).

وقال الشيخ: إنّ إطلاق هذا الكلام يشمل ما لو كان في ردّه مؤونة كثيرة إلّا أن يقيّد بغيرها بأدلّة نفي الضرر(3).

وقال الشيخ النائيني رحمه الله: إنّ مؤونة الردّ لو كانت من لوازم الردّ بطبعه الغالبي فهي غير مرفوعة بـ «لا ضرر»؛ لأنّ «لا ضرر» لا يدفع الأضرار الطبيعية الموجودة في الواجب، أمّا لو كانت مؤونة استثنائية ومجحفة فـ «لا ضرر» ترفعها(4).

وأفاد السيّد الخوئي رحمه الله على ما في التنقيح: أنّ ردّ المقبوض بالعقد الفاسد لا يكون ضرريّاً بطبعه؛ لعدم توقّفه في غالب أفراده عل صرف المؤونة كما في ردّ الكتاب أو الخاتم ونحوهما، فليس وجوب الردّ من الأحكام المبنية على الضرر حتّى لا يرتفع بحديث «لا ضرر»، فلو تحقّق في فرد ضرر ولو بأدنى مراتب القلّة فحديث «لا ضرر» يصير حاكماً عليه فيرفعه، فلا فرق بين الضرر القليل والكثير في المرفوعية، فالصحيح أنّ مؤونة الردّ على المالك مطلقاً(5).


(1) المائدة: 3.

(2) کتاب المكاسب، ج3، ص199.

(3) المصدر السابق.

(4) منية الطالب، ج1، ص132؛ المکاسب والبيع، ج1، ص327.

(5) موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج36، ص253 _ 254

89

ثم إنّ ما حكم به السيّد الخوئي رحمه الله من أنّ الواجب على القابض إنّما هو التخلية، ولا يجب عليه الردّ ولا مؤونة الردّ قد قصد بذلك التخلية بمعنى إبقاء الحالة بين المالك وماله بالنحو الذي كان حين تسليم المالك المال إليه من أوّل الأمر، فيصدق عندئذٍ أنّه لم يزاحم سلطان المالك على ماله، فلو فرض أنّهما في مكان واحد _ كما لو بقيا في بلد المعاملة أو انتقلا معاً إلى بلد آخر _ فمن الواضح أنّه تكفي في عدم مزاحمة سلطان المالك على ماله مجرّد التخلية والسماح له بأن يأتي ويأخذ منه ماله كما أتاه قبل ذلك وسلّم إليه ماله. ولو فرض أنّ المالك انتقل إلى مكان آخر كما لو سافر إلى بلد آخر فأيضاً لم يصدر من القابض ضرر جديد على المالك، فلو اكتفى بمجرّد التخلية وعدم مزاحمته لسلطان المال على ماله صدق أيضاً أنّه لم يضرّر المالك شيئاً، فعلى المالك لو أراد ماله أن يصرف ما يحتاج إلى صرفه من المؤونة والمال للوصول إلى القابض وتسلّم ما يملكه.

أمّا لو انعكس الأمر فانتقل القابض إلى مكان آخر يبتعد عن المالك أو انتقل كلّ منهما إلى بلد غير ما انتقل إليه الآخر فللقابض أن يكتفي بدفع مقدار من المؤونة والمصرف يكفي لوصول المال إلى بلد المعاملة؛ إذ بذلك تتمّ التخلية المطلوبة، وعدم دفع ذلك يعتبر إضراراً بالمالك، ويكون الزائد على ذلك على المالك(1).

أقول: انتساب الإضرار إلى القابض وحده في مورد ابتعاده عن مكان المعاملة ليس واضحاً في كلّ الفروض ونذكر لتوضيح الفكرة عدّة أمثلة:

1_ لو كان البائع ملتفتاً إلى بطلان المعاملة وكان القابض غافلاً عن ذلك فانتقل القابض إلى مكان بعيد عن مكان المعاملة، فيا تُرى هل ينسب الإضرار المتوجّه للبائع _ في تحصيل ماله _ إلى القابض؟! لا أظنّ كون ذلك عرفيّاً.

2_ لو كان البائع والقابض متساويين في الالتفات إلى بطلان المعاملة أو الغفلة


(1) راجع المصدر السابق، ص254.

90

فهل الإضرار يوجّه إلى خصوص القابل لدى الابتعاد عن مكان المعاملة كي يضمّن؟! هذا أيضاً لا أظنّه مفهوماً عرفاً.

3_ لو كان البائع هو الغافل والقابض هو الملتفت إلى بطلان المعاملة ومع ذلك قبض المال ثم ابتعد عن المكان ممّا اضطرّ البائع في تحصيل ملكه إلى صرف بعض المصارف المالية فهنا يبدو إنّ الإضرار بالمالك ينسب عرفاً إلى القابض فيضمن.

الحكم الثالث: ضمان المنافع المستوفاة للمبيع

وهذا ممّا رتّبه الشيخ(رحمه الله) علی القبض بالبيع الفاسد، وقد استدلّ على ذلك بحديث: «لا يحلّ مال امرئ مسلم إلّا عن طيب نفس منه»(1).

وممّا يلفت النظر أنّ الشيخ ترك هنا الاستدلال بالرواية الأُخرى وهي رواية: «لا يحلّ لأحد أن يتصرّف في مال غيره بغير إذنه»(2).

وكأنّ السبب في ذلك: أنّه يرى أنّ «لا يحلّ التصرّف» لا يدلّ على أكثر من حرمة التصرّف، أمّا الضمان فلا يفهم منه، فهذا الحديث كان نافعاً في إثبات وجوب ردّ المبيع مثلاً، لكنّه لا ينفع في إثبات ضمان المنافع المستوفاة. أمّا حينما ينسب نفي الحل إلى ذات المال لا إلى التصرّف فيه كما هو الحال في حديث «لا يحلّ مال امرئ مسلم إلّا عن طيب نفس منه» فتصبح الدلالة أوسع من مجرّد الحرمة التكليفية، أي تشمل الحرمة والضمان.

ولكن الصحيح ما أفاده السيّد الخوئي(رحمه الله) من أنّ نفي الحلّ عن المال أيضاً يعني نفي حلّ التصرّف فيه، وليس الضمان(3).


(1) عوالي اللئالي، ج3، ص473، باب الغصب، ح3.

(2) وسائل الشيعة، ج9، ص540، الباب3 من أبواب الأنفال وما يختص بالإمام، ح7.

(3) راجع موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج36، ص256.

91

نعم، يدلّ حديث «على اليد»(1) على الضمان، ولكن قال السيّد الخوئي رحمه الله: إنّه مضافاً إلى سقوطه سنداً يختصّ بالأعيان؛ لأنّ قوله: «حتّى تؤدّيه» ظاهر في أداء نفس المأخوذ، والمنافع غير قابلة بعد أخذها للأداء بنفسها(2).

نعم استدلّ السيّد الخوئي رحمه الله على ضمان المنافع المستوفاة للمبيع تارة بلغة قيام السيرة العقلائية على ضمان المنافع المستوفاة ولم يردع عنها الشارع(3).

وأُخرى بلغة الاستشهاد بقاعدة «من أتلف مال الغير فهو له ضامن» والإتلاف يعمّ ما كان بالاستيفاء أو بغيره، وهذه القاعدة متصيّدة من عدّة موارد ثبت في الفقه فيها الضمان.

وهذا المطلب أُشير إليه في التنقيح(4) وأُوضح في مصباح الفقاهة بتعبير أوفى؛ إذ قال: قاعدة من أتلف وإن لم تذكر في رواية خاصّة ولكنّها قاعدة متصيّدة من الموارد الخاصّة التي نقطع بعدم وجود الخصوصية لتلك الموارد، وعليه فتكون هذه القاعدة متّبعة في كلّ مورد تمسّ بها الحاجة. والموارد التي أُخذت منها هذه القاعدة هي الرهن والعارية والمضاربة والإجارة والوديعة وغير ذلك من الموارد المناسبة لها، فإنّه قد وردت فيها الأخبار الكثيرة الدالّة على أنّ إتلاف مال الغير موجب للضمان(5).

فإلى هنا ثبت المقتضي لضمان المنافع.

وبعد ذلك تصل النوبة إلى البحث عمّا يمنع عن تأثير هذا المقتضي وهي قاعدة «الخراج بالضمان» فقد نقل الشيخ الأنصاري رحمه الله(6) عن الوسيلة نفي ضمان المنافع


(1) مستدرك الوسائل، ج17، ص88، الباب الأوّل من أبواب كتاب الغصب، ح4.

(2) راجع موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج36، ص255.

(3) المصدر السابق، ص256.

(4) المصدر السابق.

(5) مصباح الفقاهة، ج3، ص131 _ 132. وأشار تحت الخط إلى عدد من روايات الباب

(6) کتاب المكاسب، ج3، ص201.

92

المستوفاة محتجّاً بأنّ الخراج بالضمان كما في النبوي المرسل(1).

وتفسيره: أنّ من تقبّل ضمان شيء لنفسه فخراجه له بسبب الضمان أو في مقابل الضمان، والمشتري قد أقدم على ضمان المبيع وتقبّله على نفسه بتقبيل البائع وتضمينه إيّاه على أن يكون الخراج له مجّاناً، والضمان ثابت حتّى في حال الفساد فالخراج له أيضاً حتّى في حال الفساد.

قال الشيخ الأنصاري رحمه الله: «وهذا المعنى (يعني الخراج بالضمان) مستنبط من أخبار كثيرة متفرّقة، مثل قوله عليه السلام في مقام الاستشهاد على كون منفعة المبيع في زمان الخيار للمشتري: ألا تری أنّها لو أُحرقت كانت من مال المشتري ونحوه في الرهن(2) وغيره»(3).

أقول كأنّه رحمه الله يشير بما ورد في مورد خيار المشتري إمّا إلى حديث الشيخ الطوسي رحمه الله بإسناده عن الحسين بن سعيد عن صفوان عن إسحاق بن عمّار قال: «حدّثني من سمع أبا عبدالله عليه السلام وسأله رجل وأنا عنده فقال: رجل مسلم احتاج إلى بيع داره فجاء إلى أخيه فقال: أُبيعك داري هذه وتكون لك أحبّ إليّ من أن تكون لغيرك على أن تشترط لي إن أنا جئتك بثمنها إلى سنة أن تردّ عليّ؟ فقال: لا بأس بهذا إن جاء بثمنها إلى سنة ردّها عليه. قلت: فإنّها كانت فيها غلّة كثيرة فأخذ الغلّة لمن تكون الغلّة؟ قال: الغلّة للمشتري ألا ترى أنّه لو احترقت لكانت من ماله»(4).

وهذا السند فيه شبهة الإرسال(5)؛ لاحتمال أن يكون من سمع أبا عبدالله عليه السلام _ ولا نعلم


(1) مستدرك الوسائل، ج13، ص302، الباب7 من أبواب الخيار، ح3، عن عوالي اللئالي، ج1، ص57، ح83: عن النبي(صل الله عليه وآله): «أنّه قضى بأنّ الخراج بالضمان».

(2) وسائل الشيعة، ج18، ص387، الباب5 من کتاب الرهن، ح6.

(3) کتاب المكاسب، ج3، ص202.

(4) تهذيب الأحکام، ج7، ص23، الباب2 من کتاب التجارات، ح13.

(5) وقد يقال: قوله: «حدّثني من سمع أبا عبدالله» شهادة له تحمل على ما يقرب من الحسّ على أنّ ذاك الرجل سمع أبا عبدالله(عليه السلام)

93

من هو _ قد قال لإسحاق بن عمّار: «سأله رجل وأنا عنده».

ولكن الإشكال قد يرتفع بنسخة الصدوق رحمه الله حيث روى الحديث كالتالي: روى إسحاق بن عمّار عن أبي عبدالله(عليه السلام): «قال: سأله رجل وأنا عنده فقال: رجل مسلم...»(1).

وهذا الحلّ إنّما ينفعنا لو وثقنا بذلك بأنّ المقصود بنقل الطوسي أنّ إسحاق بن عمّار هو الذي سمع أبا عبدالله وأنّ المشكلة ليست إلّا تشويشاً في العبارة، وإلّا فنقل الصدوق للرواية عن إسحاق بن عمّار لا يحلّ بنفسه مشكلتنا؛ لأنّه وقع في سند الصدوق إلى إسحاق بن عمّار علي بن إسماعيل، والظاهر أنّه علي بن إسماعيل بن عيسى، ولا دليل على وثاقته عدا وقوعه في أسانيد كامل الزيارات.

وإمّا إلى حديث الشيخ الطوسي رحمه الله بإسناده عن الحسن بن محمد بن سماعة عن أحمد بن أبي بشر عن معاوية بن ميسرة قال: «سمعت أبا الجارود يسأل أبا عبدالله عليه السلام عن رجل باع داراً له من رجل وكان بينه وبين الرجل الذي اشترى منه الدار حاصر، فشرط إنّك إن أتيتني بمالي ما بين ثلاث سنين فالدار دارك فأتاه بماله؟ قال: له شرطه. قال له أبو الجارود: فإنّ ذلك الرجل قد أصاب في ذلك المال في ثلاث سنين. قال: هو ماله. وقال أبو عبدالله(عليه السلام): أرأيت لو أنّ الدار احترقت من مال من كانت؟ تكون الدار دار المشتري»(2). ومعاوية بن ميسرة قد روی عنه محمد بن أبي عمير والبزنطي، فسند الحديث تامّ.

والظاهر أنّ أجنبية هذه الرواية عمّا نحن فيه في غاية الوضوح؛ فإنّ مفادها أنّ ما أصابه من منافع الدار في ضمن سنوات خيار البائع للمشتري؛ لأنّ الدار في تلك


(1) من لا يحضره الفقيه، ج3، ص205، باب حکم القبالة المعدلة بین الرجلين بشرط معروف إلی أجل معلوم، ح3771.

(1) تهذيب الأحکام، ج7، ص176، الباب15 من کتاب التجارات، ح37.

94

السنوات كانت ملكاً للمشتري، ومنافع الملك للمالك، واستشهد لكون الدار ملكاً للمشتري بأنّها لو احترقت احترقت من مال المشتري. ولعلّ نظر الشيخ الأنصاري إلى الرواية الأُولى، لا إلى هذه الرواية.

وكأنّ الشيخ الأنصاري رحمه الله يشير بما ورد في الرهن إلى ما رواه الكليني عن عدّة من أصحابنا عن أحمد بن محمد وسهل بن زياد عن أحمد بن محمد بن أبي نصر عن حمّاد بن عثمان عن إسحاق بن عمّار قال: «قلت لأبي إبراهيم(عليه السلام): الرجل يرهن الغلام والدار فتصيبه الآفة على من يكون؟ قال: على مولاه ثم قال: أرأيت لو قتل قتيلاً على من يكون؟ قلت: هو في عنق العبد. قال: ألا ترى فلِمَ يذهب مال هذا؟ ثم قال: أرأيت لو كان ثمنه مائة دينار فزاد وبلغ مائتي دينار لمن كان يكون؟ قلت: لمولاه. قال: كذلك يكون عليه ما يكون له»(1).

وأمّا عطف الشيخ الأنصاري رحمه الله عبارة «وغيره» على موضوع الرهن فلعلّه يشير بذلك إلى ما رواه الكليني عن عدّة من أصحابنا عن محمد بن يحيى عن عبدالله بن محمد عن علي بن الحكم عن أبان عن إسماعيل بن الفضل الهاشمي عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «سألته عن رجل استأجر من السلطان من أرض الخراج بدراهم مسمّاة أو بطعام مسمّى ثم آجرها وشرط لمن يزرعها أن يقاسمه النصف أو أقلّ من ذلك أو أكثر وله في الأرض بعد ذلك فضل، أيصلح له ذلك؟ قال: نعم، إذا حفر لهم نهراً أو عمل لهم شيئاً يعينهم بذلك فله ذلك...قال: وسألته عن الرجل استأجر أرضاً من أرض الخراج بدراهم مسمّاة أو بطعام معلوم فيؤاجرها قطعة قطعة أو جريباً جريباً بشيء معلوم فيكون له فضل فيما استأجره من السلطان ولا ينفق شيئاً أو يؤاجر تلك الأرض قطعاً على أن يُعطيهم البذر والنفقة فيكون له في ذلك فضل على إجارته وله تربة الأرض أو ليست له؟ فقال: له: إذا استأجرت أرضاً فأنفقت فيها شيئاً أو رممت


(1) الکافي، ج5، ص234، باب الرهن من کتاب المعيشة، ح10.

95

فيها فلا بأس بما ذكرت»(1).

ووجه الاستدلال هو أنّ المستأجر الأوّل لمّا ضمن الأُجرة للمؤجر كانت الفائدة الحاصلة له بالإجارة الثانية خراجاً عائداً له، لا لمالك الأرض.

أقول: إنّ أجنبية هذه الرواية الرابعة عمّا نحن فيه أيضاً في غاية الوضوح؛ فإنّها قد جعلت زيادة قيمة المنفعة للذي ملك المنفعة بالاستيجار بشرط إضافة شيء أو تحسين في الأرض، وهذا من قبيل من يملك شيئاً بمبلغ ثم يبيعه بمبلغ أكثر، وأيّ ارتباط لذلك بما نحن فيه؟

ولا أُريد أن أُحمّل هذا الإشكال على الشيخ الأنصاري، فإنّنا لا نعلم إنّه كان ناظراً إلى هذه الرواية.

والمهمّ من هذه الروايات الأربع هي الرواية الأُولى والثالثة.

والواقع أنّ التدقيق فيهما أيضاً يؤدّي إلى وضوح أجنبيّتهما عن المقام، فالأُولى ناظرة إلى أنّ غلّة الملك للمالك، والثالثة ناظرة إلى أنّ النقص الوارد على العبد وارد على ممتلكات المولى، كما أنّ زيادة قيمته راجعة إلى زيادة قيمة ممتلكات المولى.

فلم يبق شيء يمكن الاستدلال به في المقام إلّا رواية «الخراج بالضمان».

وهي رواية سنّية واردة في كتبهم، ولم ترد لدى الشيعة إلّا مرسلة عوالي اللآلي أو غوالي اللآلي.

ومع ذلك فقد نقل عن الشيخ النائيني رحمه الله تصحيح سند الحديث بقوله _ على ما ورد في كتاب المكاسب والبيع للشيخ الآملي رحمه الله: «وقد ذكر الشيخ(قدس سره) هذا الخبر _ أعني: جملة «الخراج بالضمان» _ في المبسوط وذكر له معنيين، وذِكره في كتابه وتصدّيه لبيان معناه يكشف عن اعتماده عليه، ويكفي في الاطمئنان بصدوره مع أنّه مؤيّد بما ورد في طرقنا في باب الرهن وغيره من أنّ الزيادة الحاصلة في العين المرهونة للمالك؛


(1) الکافي، ج5، ص272، باب الرجل يستأجر الأرض أو الدار فيؤاجرها بأکثر مما استأجرها، ح2.

96

لكون خسارة العين عليه، ومع ذلك كلّه فلا وجه للمناقشة في سنده كما في الكتاب (يعني مكاسب الشيخ الأنصاري) برميه بالإرسال، بل الإنصاف صحّة الاستناد إليه بما بيّنّاه»(1).

أقول: لو فرضت تمامية السند _ وهو غير تامّ _ يبقى النقاش الدلالي في الرواية؛ فإنّ المحقّقين قد ناقشوا في دلالة الرواية على المقصود.

فقد ناقش الشيخ الأنصاري رحمه الله في دلالة الرواية بأنّ المراد بالضمان الذي يكون بإزائه الخراج أنّه لو تقبّل الشخص الضمان فالشارع يمضيه ويجعل بإزاء هذا الضمان الخراج، في حين أنّ الضمان الذي تقبّله المشتري فيما نحن فيه لم يكن إلّا ضمان المسمّى، ولم يمضه الشارع حتّى يجعل في مقابل ذلك الخراج للمشتري، وإنّما ثبّت الشارع ضمان المبيع بالمثل أو القيمة لو تلف أو أُتلف، ولم يثبت أنّه في مقابل ذلك يكون الخراج للمشتري، فدلالة الرواية لا تقصر عن سندها في الوهن، فلا تترك لأجلها قاعدة ضمان مال المسلم واحترامه وعدم حلّه إلّا عن طيب النفس(2).

وقد أبدى السيّد الخوئي رحمه الله _ على ما في التنقيح(3) _ أربعة تفاسير في معنى الرواية.

التفسير الأوّل: أن يكون المقصود ما هو المعروف في باب الخراج والمقاسمة المرتبط بالأراضي الخراجية، ويكون المعنى: أنّ الذي يتقبّل دفع الخراج إلى السلطان في الأراضي الخراجية ويضمن له ذلك يكون عليه الخراج، وهو المطالب به وإن كان قد قبّل الأرض من شخص آخر بمقاسمة نتاج الزراعة بينه وبين المتقبّل.

وادّعى السيّد الخوئي رحمه الله: أنّ هذا التفسير _ وإن لم نره في كلمات الفقهاء _ هو أظهر الاحتمالات، ومعه يكون الحديث المزبور أجنبيّاً عن المقام.


(1) المکاسب والبيع، ج1، ص330.

(2) کتاب المكاسب، ج3، ص202 _ 203.

(3) موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج36، ص256 _ 257.

97

التفسير الثاني: أن يكون المراد بالخراج مطلق المنافع، والمراد بالضمان مطلق الضمان سواءً كان اختياريّاً مترتّباً على العقود الصحيحة أو الفاسدة، أو غير اختياري كالضمان المترتّب على الغصب، وهذا المعنى ينطبق على مسلك أبي حنيفة حيث قال: إنّ كلّ من يضمن مالاً ولو غصباً فالمنافع له(1).


(1) الظاهر أنّ نظر أبي حنيفة المروي في صحيحة أبي ولّاد كان ناشئاً من رأيه هذا، وهي رواية طريفة أنقلها هنا عن الكافي، ج5، ص290، باب الرجل يكتري الدابّة فيجاوز بها الحدّ أو يردّها قبل الانتهاء إلى الحدّ، ح6. فقد روی الكليني عن عدّة من أصحابنا عن أحمد بن محمد عن ابن محبوب عن أبي ولّاد الحنّاط قال: «اكتريت بغلاً إلى قصر ابن هبيرة ذاهباً وجائياً بكذا وكذا، وخرجت في طلب غريم لي، فلمّا صرت قرب قنطرة الكوفة خُبّرت أنّ صاحبي توجّه إلى النيل، فتوجّهت نحو النيل، فلمّا أتيت النيل خبّرت أنّ صاحبي توجّه إلى بغداد، فاتّبعته وظفرت به، وفرغت ممّا بيني وبينه، ورجعنا إلى الكوفة، وكان ذهابي ومجيئي خمسة عشر يوماً، فأخبرت صاحب البغل بعذري وأردت أن أتحلّل منه ممّا صنعت وأُرضيه، فبذلت له خمسة عشر درهماً، فأبى أن يقبل، فتراضينا بأبي حنيفة، فأخبرته بالقصّة وأخبره الرجل، فقال لي: وما صنعت بالبغل؟ قلت: قد دفعته إليه سليماً قال: نعم بعد خمسة عشر يوماً. فقال: ما تريد من الرجل؟ قال: أُريد كراء بغلي فقد حبسه عليّ خمسة عشر يوماً. فقال: ما أرى لك حقّاً؛ لأنّه اكتراه إلى قصر ابن هبيرة فخالف وركبه إلى النيل وإلى بغداد فضمن قيمة البغل وسقط الكراء، فلمّا ردّ البغل سليماً وقبضته لم يلزمه الكراء. قال: فخرجنا من عنده وجعل صاحب البغل يسترجع، فرحمته ممّا أفتى به أبو حنيفة، فأعطيته شيئاً وتحلّلت منه، فحججت تلك السنة، فأخبرت أبا عبدالله(عليه السلام) بما أفتى به أبو حنيفة. فقال: في مثل هذا القضاء وشبهه تحبس السماء ماءها وتمنع الأرض بركتها. قال: فقلت لأبي عبدالله(عليه السلام): فما ترى أنت؟

قال: أرى له عليك مثل كراء بغل ذاهباً من الكوفة إلى النيل ومثل كراء بغل راكباً من النيل إلى بغداد ومثل كراء بغل من بغداد إلى الكوفة توفّيه إياه. قال: فقلت: جعلت فداك إنّي قد علفته بدراهم فلي عليه علفه؟ فقال: لا؛ لأنّك غاصب. فقلت: أرأيت لو عطب البغل ونفق أليس كان يلزمني؟ قال: نعم، قيمة بغل يوم خالفته. قلت: فإن أصاب البغل كسر أو دبر أو غمز؟ فقال: عليك قيمة ما بين ←
98

وهذا التفسير مقطوع العدم، وغير مراد لصاحب الوسيلة.

التفسير الثالث: أن يكون المراد من الخراج مطلق المنافع، إلّا أنّ المراد من الضمان خصوص الضمان الاختياري المترتّب على العقود الصحيحة، فيكون المعنى: أنّ من يضمن شيئاً بعقد صحيح يملك منافعه بالتبع. وهذا في ذاته مطلب صحيح، لكنّه أجنبي عن المقام؛ لأنّ كلامنا في العقد الفاسد، والمفروض أنّ الضمان في المقبوض بالعقد الفاسد لا يكون ممضى شرعاً.

أقول: إنّ هذا التفسير هو عين ما نقلناه عن مكاسب الشيخ الأنصاري.

التفسير الرابع: أن يكون المراد بالخراج مطلق المنافع ويكون المراد بالضمان مطلق الضمان الاختياري ولو كان فاسداً ولم يمضه الشارع. وهذا المعنى هو الذي يصحّ دليلاً لصاحب الوسيلة في المقام، إلّا أنّه _ مضافاً إلى احتياجه إلى القرينة من بين


الصحّة والعيب يوم تردّه عليه. قلت: فمن يعرف ذلك؟ قال: أنت وهو إمّا أن يحلف هو على القيمة فتلزمك، فإن ردّ اليمين عليك فحلفت على القيمة لزمه ذلك أو يأتي صاحب البغل بشهود يشهدون أنّ قيمة البغل حين أكرى كذا وكذا فيلزمك. قلت: إنّي كنت أعطيته دراهم ورضي بها وحلّلني. فقال: إنّما رضي بها وحلّلك حين قضى عليه أبو حنيفة بالجور والظلم، ولكن أرجع إليه فأخبره بما أفتيتك به، فإن جعلك في حلّ بعد معرفته فلا شيء عليك بعد ذلك. قال أبو ولّاد: فلمّا انصرفت من وجهي ذلك لقيت المكاري فأخبرته بما أفتاني به أبو عبدالله(عليه السلام) وقلت له: قل ما شئت حتّى أُعطيكه. فقال: قد حبّبت إليّ جعفر بن محمد ووقع في قلبي له التفضيل، وأنت في حلّ وإن أحببت أن أردّ عليك الذي أخذت منك فعلت». انتهت الرواية المباركة.

وقد أورد صاحب الوسائل أكثر هذه الرواية في المجلّد19، ص119، الباب17 من كتاب الإجارة، ح1.وعلّق على جملة: «فأخبرت أبا عبدالله(عليه السلام) بما أفتى به أبو حنيفة» بقوله: «لا يخفى أنّ أبا حنيفة استدلّ هنا بأصالة البراءة والاستصحاب ونحوهما».

أقول: الظاهر عندي أنّ أبا حنيفة كان مدركه لما أفتى به قاعدة «الخراج بالضمان» بالتفسير الذي هو يرتئيه من أنّ الضمان حتّى بالغصب يجعل الخراج للضامن.


99

المعاني وهي معدومة _ يستلزم أن تكون منافع العين للمشتري بحيث يضمنها له كلّ من استوفاها ولو كان هو المالك أو الأجنبي الثالث، ولا يلتزم أحد بهذا حتّى أبو حنيفة.

قال السيّد الخوئي رحمه الله: فالصحيح هو المعنى الأوّل، ومع التنزّل عنه يرجع إلى المعنى الثالث.

أقول: المفروض أن يستثنى من ضمان المشتري للمنافع المستوفاة فرض واحد، ولعلّه مقصود لهم وإن لم يذكروه في عباراتهم، وهو فرض ما إذا كان البائع يعدّ عرفاً غارّاً للمشتري، كما لو كان البائع عالماً بفساد المعاملة والمشتري جاهلاً بذلك، ولو كان يعلم بذلك لما كان يستوفي المنافع، فهل نقول في هذا الفرض بشمول دليل الضمان لتلك المنافع؟!

هذا تمام ما أردنا بيانه في المنافع المستوفاة.

بقي الکلام في المنافع غير المستوفاة

وقد أفاد السيّد الخوئي رحمه الله _ على ما في التنقيح _ : أنّنا نتكلّم أوّلاً في المنافع غير المستوفاة في المغصوب، ثم ننتقل إلى المنافع غير المستوفاة في المقبوض بالبيع الفاسد:

أمّا المنافع غير المستوفاة في المغصوب، فتارة تكون العين معدّة لاستيفاء تلك المنافع بحيث لو لا الغصب كان المالك يستوفيها، وأُخرى لم تكن معدّة له وإن كانت قابلة للاستيفاء، بمعنى أنّ المالك أيضاً لم يكن يستوفيها لو لا الغصب، كما إذا فرضنا أنّ المالك من الأغنياء يملك أعياناً كثيرة لا ينتفع منها في جميع الأزمان مع شأنية الانتفاع فيها:

ففي الصورة الأُولى يكون الغاصب ضامناً للمنفعة وإن لم يستوفها؛ لأنّه حال بين المالك والمنافع، فيعتبر متلفاً لها على المالك، كما لو غصب داراً كان يستفيد المالك من سكناها لو لا الغصب، وذلك بسَكَنها أو إيجارها.

100

أمّا في الصورة الثانية فلا ضمان للمنافع غير المستوفاة؛ لأنّ تلف المنفعة لا تسند إلى منع الغاصب مع فرض عدم المقتضي للاستيفاء من قِبل المالك لو كان مسلّطاً على الملك؛ فإنّ عدم الشيء لدى عدم المقتضي مع وجود المانع يسند إلى عدم المقتضي، لا إلى وجود المانع.

فالصحيح في باب الغصب هو التفصيل في ضمان المنافع غير المستوفاة بين ما تكون العين معدّة لاستيفاء المنفعة منها من قبل المالك وما لم تكن كذلك.

وأمّا في المقبوض بالعقد الفاسد فبالنسبة إلى المنافع التي لم تكن العين معدّة لاستيفائها من قِبل المالك فلا ضمان؛ لأنّ المفروض أنّه لم يستوفها المشتري كي يكون الاستيفاء سبباً للضمان ولا كان تلفها مستنداً إليه؛ لأنّ المقتضي لاستيفاء المالك غير موجود وإذا لم تكن هذه المنافع مضمونة في الغصب فما ظنّك بالمقبوض بالعقد الفاسد؟!

وأمّا المنافع التي تكون العين معدّة لاستيفائها من قِبل المالك فأيضاً لا ضمان على القابض فيها؛ لأنّ عمدة الدليل على ضمان المنافع المستوفاة كانت هي قاعدة (من أتلف) والسيرة القائمة على ضمان المنافع المستوفاة، وهما غير جاريين في المقام، فلا هو استوفى المنافع حتّى ترد السيرة العقلائية، ولا هو منع المالك عن التصرّف في المال حتّى يسند فوات المنافع إليه وإلّا دخل في عنوان الغاصب ولحقه حكمه.

وقد يستدلّ للضمان في المنافع غير المستوفاة بأُمور:

1_ النبوي المعروف «على اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه»(1).

ويُردّ ذلك إمّا بما أبداه الشيخ الأنصاري رحمه الله من أنّ عنوان الأخذ لا يصدق إلّا على الأعيان(2)، وإمّا بأنّ المأخوذ يجب أن يكون قابلاً للردّ والأداء، والمنافع ليست كذلك؛ لأنّها قبل الاستيفاء لا تكون تحت اليد وبعده تنعدم وليست بموجودة.


(1) مستدرك الوسائل، ج17، ص88، الباب الأوّل من أبواب كتاب الغصب، ح4.

(2) کتاب المكاسب، ج3، ص204.

101

2_ «لا يحلّ مال امرئ مسلم إلّا عن طيب نفس منه»(1). وهذا لا يدلّ إلّا على حرمة أكل مال الغير أو على حرمة التصرّف في مال الغير، وليست فيه دلالة على الضمان.

3_ «لا يحلّ لأحد أن يتصرّف في مال غيره بغير إذنه»(2). وهذا أيضاً لا يدلّ إلّا على حرمة التصرّف دون الضمان.

4_ «حرمة ماله كحرمة دمه»(3). وهذا أيضاً لا يدلّ على أكثر من الحرمة التكليفية للتصرّف، فلا يثبت الضمان(4).

انتهى ما أردنا نقله عن السيّد الخوئي رحمه الله.

أقول: ولو آمنّا بأنّ تشبيه حرمة ماله بحرمة دمه يدلّ على الضمان _ لأنّه لا شكّ في مضمونية دم المسلم _ فهذا إنّما يدلّ على ضمان المنافع حينما تفصل عن العين، وهذا لا يكون إلّا في حالتين:

الأُولى: ما لو استوفاها، فبذلك فصلها عن العين، والمفروض فعلاً عدم الاستيفاء.

والثانية: ما لو فصل بينها وبين العين بمنع المالك عن استيفائها حينما قصد المالك الاستيفاء، والمفروض في المقام أيضاً خلاف ذلك.

ففي هاتين الحالتين تعدّ للمنافع مالية مستقلّة وتكون مضمونة.

أمّا في غير هاتين الحالتين فمالية المنافع مندكّة في مالية نفس العين، فعبارة «حرمة ماله كحرمة دمه» لا تدلّ على أكثر من ضمان العين.

إلّا أنّ السيّد الإمام رحمه الله جزم بضمان المنافع غير المستوفاة(5)؛ لأنّ للمنافع نحو وجود


(1) عوالي اللئالي، ج3، ص473، باب الغصب، ح3.

(2) وسائل الشيعة، ج9، ص540، الباب3 من أبواب الأنفال وما يختص بالإمام، ح7.

(3) المصدر السابق، ج12، ص297، الباب158 من أبواب أحكام العشرة في السفر والحضر، ح3.

(4) موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج36، ص258 _ 260.

(5) راجع كتاب البيع (للإمام الخميني(رحمه الله))، ج1، ص475

102

تدريجي يقع تحت اليد تبعاً للعين وتتلف تدريجاً وتصير مضمونة تدريجاً بحكم قاعدة علی اليد، وليس الاستيفاء دخيلاً في تحقّق المنفعة، فالمنفعة متصرّمة الوجود ومتصرّمة التلف بالتدريج سواء استوفاها أو لا، وحديث «حرمة مال المسلم كحرمة دمه» يدلّ _ بحكم التشبيه _ علی أنّ ماله كدمه، فكما أنّه لو أُريق دمه لا يذهب الدم هدراً فكذلك المال، والمنفعة مال، وهذا موافق للقاعدة العقلائية في المقام.

أقول: لئن تمّ شيء مما أفاده رضوان الله عليه في المقام فإنّما يتمّ في منفعة لا تندكّ ماليتها ضمن مالية العين، وقد أشرنا إلى أنّ ذلك إنّما يكون فيما إذا فصلت المنفعة عن العين، إمّا باستيفائها أو بمنع المالك عن استيفائها، أمّا لو لم يكن لا هذا ولا ذاك ولا كان المالك قد آجر العين لفترة محدّدة فأصبحت العين مسلوبة المنفعة في تلك الفترة فمالية المنفعة مندكّة ضمن مالية العين، ولا يفتح لها عقلائيّاً حساب خاصّ.

الحكم الرابع: ضمان المثل في المثليّات والقيمة في القيميّات لدى التلف أو الإتلاف(1)

وهذا ممّا بحث الشيخ رحمه الله ترتّبه علی القبض بالبيع الفاسد، وقد حكى في مكاسبه خلافاً مريراً في تعريف المثلي والقيمي، ثم قال: لا يخفى أنّه ليس للفظ «المثلي» حقيقة شرعية ولا متشرّعية، وليس المراد معناه اللغوي؛ إذ المراد بالمثل لغة: المماثل، فإن أُريد من جميع الجهات فغير منعكس، وإن أُريد من بعضها فغير مطّرد، وليس في النصوص حكم يتعلّق بهذا العنوان حتّى يبحث عنه. نعم، وقع هذا العنوان في معقد إجماعهم على أنّ المثلي يضمن بالمثل وغيره بالقيمة، ومن المعلوم أنّه لا يجوز الاتݧّكال في تعيين معقد الإجماع على قول بعض المجمعين مع مخالفة الباقين(2).


(1) راجع کتاب المكاسب، ج3، ص209 _ 221 و240 _ 272.

(2) المصدر السابق، ص209 _ 214.

103

أقول: إنّ الإجماعات المنقولة في المقام لو كانت لها قيمة في حدّ ذاتها فقد أسقطها عن القيمة الخلاف المرير في تفسير المثلي والقيمي سقوطاً ذريعاً.

وعلى أيّة حال فلتمشية البحث نفترض تبنّي تفسير واحد للمثلي والقيمي ممّا ذكر في المقام، وهو: أنّ كلّ نوع من أنواع الجنس الواحد بل كلّ صنف من أصناف نوع واحد لو تماثلت في أفرادها فهو مثلي وإلّا فهو قيمي(1)، أو تبنّي التفسير الذي اختاره السيّد الخوئي رحمه الله في التنقيح وهو أنّ ما تساوت أفراده من حيث القيمة باعتبار عدم اختلاف الصفات المؤثّرة في القيمة الشائعة في الأفراد فهو مثلي وغيره قيمي، ومن المثليّات جميع ما يخرج من المكائن من الأواني والأقمشة وغيرهما، وما قيل من أنّ الثوب من القيميّات إنّما عني به الثوب المخيط المنسوج باليد لا الأقمشة الجديدة غير المخيطة(2).

وهذان التفسيران متقاربان، بل لعلّ المقصود بهما واحد.

الکلام في الوجوه الدالّة علی ضمان المثلي بالمثل

وبهذا نبدأ بذكر بعض وجوه ضمان المثلي بالمثل، فنقول وبالله التوفيق:

1_ رواية «على اليد»(3).

وأورد عليه السيّد الخوئي رحمه الله بسقوط الرواية سنداً، وعدم الانجبار بعمل الأصحاب. وبعدم تمامية الدلالة؛ فإنّها إنّما دلّت على أصل الضمان، وأمّا أنّ الضمان بالمثل فلا(4).

إلّا أن يقال بأنّ المفهوم عقلائيّاً من الضمان ذلك، وهو رجوع إلى وجه يصلح دليلاً مستقلّاً على الأمر. وهو الوجه الأخير الذي سيأتي إن شاء الله.


(1) راجع المصدر السابق، ص210 _ 211.

(2) موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج36، ص263.

(3) مستدرك الوسائل، ج17، ص88، الباب الأوّل من أبواب كتاب الغصب، ح4.

(4) موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج36، ص261.

104

2_ «حرمة ماله كحرمة دمه»(1).

وهذا إمّا يدلّ على مجرّد الحرمة التكليفية أو على أصل الضمان أيضاً دون الضمان بالمثل.

إلّا أن يقال: إنّ المفهوم عقلائيّاً من الضمان هو الضمان بالمثل، وعليه يأتي التعليق الذي أشرنا إليه في آخر حديثنا عن الوجه الأوّل.

3_ القاعدة المتصيّدة من الروايات، وهي قاعدة: من أتلف مال الغير فهو له ضامن(2).

وهذا إنّما يدلّ على أصل الضمان دون الضمان بالمثل إلّا بدعوى انصراف الضمان إلى ضمان المثل للقاعدة العقلائية، فيأتي فيه التعليق الذي أشرنا إليه في الوجهين الأوّل والثاني.

4_ قوله تعالى: ﴿الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوْا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ...﴾(3).

وأورد السيّد الخوئي رحمه الله _ على ما في التنقيح _ على هذا الاستدلال بأنّه لو خصّصنا الآية بمسألة قتال المشركين في الأشهر الحرم فهي أجنبية عن المقام، ولو فهمنا منها الإطلاق فهو ليس بأكثر من مثل أنّه لو ضربه أو شتمه شخص فهو يعتدي بمثله، ولا علاقة لها بضمان المثلي بالمثل إطلاقاً(4).

5_ ما جعله السيّد الخوئي رحمه الله _ على ما في التنقيح _ عمدة الدليل على ضمان المثلي بالمثل، وهو قيام السيرة العقلائية على أنّ من أتلف شيئاً من أموال الغير يلزمه


(1) وسائل الشيعة، ج12، ص297، الباب158 من أبواب أحکام العشرة في السفر والحضر، ح3.

(2) مضى شرح ذلك في بحث ضمان المنافع المستوفاة.

(3) البقرة: 194.

(4) موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج36، ص262.

105

أداء مثله، ولعلّه لم يتعرّض في النصوص لضمان المثل إيكالاً إلى الارتكاز العقلائي، وأنّ هذا ممّا يفهمه كلّ أحد، فلو تلف المبيع بالعقد الفاسد وكان مثليّاً لزم أداء مثله(1).

أقول: إنّ هذا الكلام في الجملة صحيح، لكنّه لا يمكن الالتزام به على إطلاقه؛ فإنّ الارتكاز العقلائي كما يحكم بضمان خصوصيّات المثل كذلك يحكم بضمان المالية، فلا يمكن أن يقول الغاصب للثلج في حرّ الصيف وأراد إرجاع مثله في قلب الشتاء حينما لم تبق أيّة قيمة للثّلج: إنّني أخرج من الضمان بدفع المثل.

وهو رحمه الله التفت إلى ذلك واعترف بأنّ في فرض سقوط المثل عن القيمة نهائيّاً _ كما في الثلج المغصوب في الصيف إذا سقط عن القيمة نهائيّاً في الشتاء _ لا يمكن الخروج عن الضمان بأداء ما سقط عن القيمة بشكل كامل، موضَّحاً ذلك _ بحسب ما ورد في التنقيح _ بأنّ سقوط المثل عن القيمة يجعله ملحقاً بما إذا تعذّر المثل؛ لأنّ المفهوم من دليل الضمان من السيرة وغيرها هو وجوب ردّ المال، فلابدّ أن تكون للمضمون مالية، والمفروض في المقام عدم بقاء مالية للمثل(2).

ولكن الخطأ العظيم الذي وقع رحمه الله فيه أنّه التزم بكفاية دفع أدنى القيم من حين بدء المثل بالسقوط إلى ما قبل لحظة السقوط الكامل، ففي مثال الثلج يكفي هذا الغاصب أن يدفع أقلّ قيمة وصل الثلج إليه قبل أن يبرد الجوّ إلى حدّ يسقط نهائياً عن القيمة؛ لأنّ العين تثبت في الذمّة إلى يوم الدفع، فلو طالبه في يوم السقوط بالقيمة وجب دفع قيمة ذاك اليوم لا قيمة يوم التلف ولا أعلى القيم ولا غيرهما من الوجوه المذكورة في المسألة(3).

أقول: إنّ نفس الارتكاز العقلائي الذي يحكم بضمان المثل يحكم أيضاً _ في حين


(1) المصدر السابق.

(2) راجع المصدر السابق، ص266 و270.

(3) راجع المصدر السابق، ص270.

106

نزول القيمة الاستعمالية للمال المغصوب أو نحوه _ بضمان القيمة الاستعمالية، فلا يكتفي في الثلج الذي نزلت قيمته ببرودة الجوّ _ من دون السقوط الكامل _ بقيمته في دور النزول.

وأيضاً قال رحمه الله _ على ما ورد في التنقيح _ : لو نزلت قيمة التالف المثلي يوم الردّ فالظاهر أنّه يجب ردّ المثل دون القيمة؛ لأنّ حاله حال العين إذا كانت باقية وتنزّلت قيمتها السوقية فلا إشكال في أنّ ردّ الزائد عن المثل غير واجب على الضامن؛ لأنݧّه ضامن للمثل، ولا ربط لنقصان القيمة في السوق به.

ويؤيّده ما عن محمد بن الحسن الصفّار عن محمد بن عيسى عن يونس قال: «كتبت إلى أبي الحسن الرضا عليه السلام أنّه كان لي على رجل دراهم وأنّ السلطان أسقط تلك الدراهم وجاءت دراهم أعلى(1) من الدراهم الأُولى ولها اليوم وضيعة، فأيّ شيء لي عليه؛ الأُولى التي أسقطها السلطان أو الدراهم التي أجازها السلطان؟ فكتب(عليه السلام): لك الدراهم الأُولى»(2)، فإنّ الإمام عليه السلام حكم بأنّ له الدراهم الأُولى مع فرض تنزّل قيمتها وأنّ لها وضيعة.

ولا يتوهّم دلالتها على اشتغال الذمّة بالمثل حتّى مع فرض سقوطه عن المالية بالمرّة؛ لأنّ الدراهم المتعارفة في تلك الأعصار كانت من الفضّة، فكانت لموادّها مالية، فإسقاط السلطان كان موجباً لنقص ماليّتها لا زوال ماليّتها رأساً(3).

أقول: أمّا استشهاده رحمه الله بصحيحة يونس بن عبدالرحمن بحسب نقل الشيخ(4)


(1) وفي نسخة: الأغلی.

(2) وسائل الشيعة، ج18، ص206، الباب20 من أبواب الصرف، ح2. وفي هامش المخطوط من الوسائل ذكر الشيخ الحرّ: «في الفقيه زيادة: عشرة».

(3) موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج36، ص265 _ 266.

(4) الاستبصار، ج3، ص99، الباب2 من أبواب الصرف، ح1.

107

والصدوق(1) التي ورد فيها قوله: «لك الدراهم الأُولى» فيرد عليها أنّها معارضة بنسخة الكافي: «كتبت إلى أبي الحسن الرضا(عليه السلام): أنّ لي على رجل ثلاثة آلاف درهم وكانت تلك الدراهم تنفق بين الناس تلك الأيّام وليست تنفق اليوم، فلي عليه تلك الدراهم بأعيانها أو ما ينفق اليوم بين الناس؟ قال: فكتب إليّ: لك أن تأخذ منه ما ينفق بين الناس كما أعطيته ما ينفق بين الناس»(2).

والرواية الأُولى بحسب نقل الصدوق عبّر بتعبير: «كان لي على رجل عشرة دراهم»، فهذا شاهد على تعدّد الرواية؛ لأنّ نقل الكافي ورد فيه «ثلاثة آلاف درهم».

ولكن على نقل الطوسي عبّرت بتعبير: «كان لي على رجل دراهم»، وهذا يناسب وحدة الروايتين كما تؤيّد الوحدة وحدة الإمام ووحدة السند من محمد بن عيسى إلى الإمام، وعلى تقدير وحدة الرواية تدخل في عنوان الرواية مضطربة المتن، وإن كانت تؤيّد نسخة: «لك الدراهم الأُولى» ما ورد في مضمرة صفوان: «لصاحب الدراهم الدراهم الأُولى»(3).

وعلى أيّ حال فالجمع المنقول بين الروايتين عن الطوسي أو الصدوق جمع تبرّعي لا قيمة له، وجمع الصدوق ما يلي: قال: «والحديثان متّفقان غير مختلفين، فمتى كان للرجل على الرجل دراهم بنقد معروف فليس له إلّا ذلك النقد، ومتى كان له على الرجل دراهم بوزن معلوم بغير نقد معروف فإنّما له الدراهم التي تجوز بين الناس»(4).

وجمع الشيخ في الاستبصار ما يلي: «قال: فأمّا ما رواه محمد بن أحمد بن يحيى


(1) من لا يحضره الفقيه، ج3، ص191، باب الدین والقرض من کتاب المعيشة، ح3716.

(2) الکافي، ج5، ص252، باب آخر من کتاب المعيشة، ح1.

(3) وسائل الشيعة، ج18، ص307، الباب2 من أبواب الصرف، والسند ساقط بمحمد بن عبدالجبّار الذي لا دليل على وثاقته عدا وروده في تفسير القمي والعبّاس بن صفوان الذي هو مجهول.

(4) من لا يحضره الفقيه، ج3، ص191، باب الدین والقرض من کتاب المعيشة، ذيل الحديث3716.

108

عن سهل بن زياد عن محمد بن عيسى... لك أن تأخذ منه ما ينفق بين الناس كما أعطيته ما ينفق بين الناس»(1) فلا ينافي الخبرين الأوّلين؛ لأنّه إنّما قال: لك أن تأخذ منه ما ينفق بين الناس يعني بقيمة الدراهم الأُولى ما ينفق بين الناس؛ لأنّه يجوز أن تسقط الدراهم الأُولى حتّى لا يكاد تؤخذ أصلاً فلا يلزمه أخذها وهو لا ينتفع بها، وإنّما له قيمة دراهمه الأوّلة وليس له المطالبة بالدراهم التي تكون في الحال»(2).

وعلى كلّ تقدير فتأييد السيّد الخوئي رحمه الله ما اختاره برواية مبتلاة بالمعارض أو باضطراب المتن ليس في محلّه.

وأمّا قوله رحمه الله: «لا إشكال في أنّ ردّ الزائد عن المثل غير واجب على الضامن؛ لأنّه ضامن للمثل، ولا ربط لنقصان القيمة في السوق به»(3) فيرد عليه: أنّ نقصان القيمة السوقية إن كان بمثل انتشار السلعة في السوق فصحيح أنّ ذلك في باب القرض لا يوجب الضمان وفق القاعدة مادام تأخير أداء القرض كان جائزاً ولم يكن بحكم الغصب؛ لأنّ الارتكاز العقلائي لا يقضي بضمان الخسارة التجارية، وإلّا لكان استيراد التاجر للمتاع الموجب لخسارة التاجر السابق تجاريّاً موجباً لضمان التاجر الثاني للتاجر الأوّل، وهذا ما لا يقبله الارتكاز. ولكن حينما يكون بنقص القيمة الاستهلاكية كما في مثال الثلج بعد برد الجوّ أو مثال الدرهم بعد تبديل السلطان إيݧّاه فنفس الارتكاز العقلائي يقضي بالضمان، فسوق القسمين من النقص السوقي مساقاً واحداً ليس في محلّه.

ثم إنّ أصل الدليل الذي اختاره السيّد الخوئي رحمه الله في التنقيح من السيرة العقلائية أو الارتكاز العقلائي الحاكم بأنّ من أتلف شيئاً من أموال غيره لزمه أداء المثل يجري في القيميّات أيضاً، وقد اعترف هو بذلك في التنقيح فيما إذا كان مثل التالف في


(1) الاستبصار، ج3، ص100، الباب2 من أبواب الصرف، ح3.

(2) المصدر السابق، ذیل الحدیث3.

(3) موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج36، ص265.

109

القيمي موجوداً صدفة أو كان في ذمّة المالك مثله للضامن، فقال رحمه الله: «لا ريب في أنّ القيمي إذا تلف وكان مثله موجوداً لزم أداء المثل دون القيمة، وأمّا ما ورد من أداء القيمة في بعض النصوص فهو محمول على صورة تعذر المثل... وأمّا الإجماع المدّعی في المقام على ضمان القيمي بالقيمة لا إطلاق له يشمل صورة تيسّر المثل، وكذا لو كان التالف في يد المشتري هو القيمي وكان في ذمّة المالك أيضاً مثله للضامن فلا تصل النوبة إلى القيمة أيضاً، بل لابدّ من التهاتر القهري كما لو كان لكلّ منهما على ذمّة الآخر ذراع من الكرباس»(1).

أقول: وحيث إنّ السيّد الخوئي رحمه الله لا يؤمن بالإجماعات المنقولة وبالأخصّ المحتملة المدركية فالمفروض أن يكون الدليل على قيمية القيميّات:

إمّا دعوى التفكيك بينها وبين المثليّات بالارتكاز العقلائي، وعهدته على مدّعيه، ونحن ندّعي في مقابل تلك الدعوى أنّ المورد الذي يرى فيه الارتكاز ضمان المثل في المثليّات يری ذلك أيضاً في القيميّات، فتكون القيمة عبارة عن قيمة يوم الدفع.

وإمّا دعوى أنّ الروايات الخاصّة واردة في القيميّات.

الکلام في الروايات التي يدّعی دلالتها علی ضمان القيمة في القيميّات

ومن هنا ننتقل إلى بحث الروايات التي قد يدّعى دلالتها على ضمان القيمة فيما قد يسمّى بالقيميّات، وننقل منها ما يلي بحول الله وقوّته:

الأُولى: روايات عتق أحد الشركاء نصيبه من العبد الدالّة على ضمان المعتق قيمة حصص الباقين.

وأكثر تلك الروايات ليس فيها تصريح بغير قيمة يوم الأداء فيحتمل فيها إرادة قيمة يوم الدفع(2).


(1) المصدر السابق، ص272.

(2) من قبيل: ح 1 و5 و7 و9 و11 و12 من الباب18 من کتاب العتق من الوسائل، ج23، ص36 _ 40.