531

وهل تقوم شهادة رجل ويمين على شهادة الأصل مقام بيّنة الفرع؟ الجواب بالنفي، لا للحصر، فإنّ المستثنى منه غير المذكور كما يحتمل أن يكون عبارة عن مطلق ما يثبت شهادة الأصل، فينفي إذاً بالإطلاق ثبوت شهادة الأصل بشهادة رجل واحد مع اليمين، كذلك يحتمل أن يكون عبارةً عن خصوص شهادة الفرع، فيدلّ على أنّ شهادة الفرع الكاملة ليست إلا شهادة رجلين، أمّا شهادة رجل واحد فليست كشهادة الفرع كافية، لكنّ من المحتمل أن تكون نصف شهادة الفرع، ويكون اليمين مؤثّراً أثر النصف الآخر. فنحن نقول بعدم حجّية شهادة شخص واحد على شهادة الأصل مع اليمين، لا لأجل إطلاق الحصر، بل لأنّ نفوذ ذلك خلاف الأصل، ولم يدل عليه دليل، وكذلك لا دليل على كفاية شهادة رجل واحد على شهادة الأصل منضمّاً إلى يمين المدّعي على أصل الدعوى.

وحدة مصبّ الشهادة

الشرط الثاني عشر _ وحدة مصبّ الشهادة:

فلو شهد أحدهما على إقراض زيد لعمرو مبلغاً قدره كذا... وشهد الآخر على إقرار عمرو بذلك لم تتمّ البيّنة؛ لأنّهما لم يشهدا بشيء واحد، وكذلك لو شهد أحدهما على سرقة دينار، والآخر على سرقة درهم، أو شهد أحدهما بأنّه باعه في شهر كذا والآخر على أنّه باعه في شهر آخر، أو شهد أحدهما بأنّه باعه بدينار والآخر بأنّه باعه بدرهم، وما إلى ذلك.

نعم، لو كانت الخصوصيّة المختلف فيها غير مقوّمة للقدر المشترك بين الشهادتين الذي هو محلّ الأثر لم يضرّ الخلاف بينهما في الخصوصيّة بثبوت القدر المشترك، كما لو شهدا بأنّه سرق ثوباً بعينه، واختلفا في أنّ القيمة السوقيّة لهذا الثوب هل هو

532

دينار أو ديناران، فهنا تثبت أصل سرقة هذا الثوب بلا إشكال.

وتفصيل الكلام في ذلك: أنّ اختلافهما في الخصوصيّة يتصور على أنحاء:

الأول _ أن لا تكون الخصوصيّة مُحصِّصة للقدر المشترك بين الشهادتين، بل تكون من المقارنات. وهنا لا إشكال في ثبوت القدر المشترك، وذلك كما في المثال الذي مضى من الاختلاف في قيمة الثوب المعيّن الذي شهدا بأنّه قد سرقه، فإنّ كون قيمة هذا الثوب بهذا المقدار أو لا إنّما هو أمر مقارن لسرقته، ولا يحصّص سرقة هذا الثوب إلى فعلين كما هو واضح.

الثاني _ أن تكون الخصوصيّة مُحَصِّصة للقدر المشترك، ويكون الأثر المطلوب مترتّباً على الحصّة، لا على الجامع بحدّه الجامعي. وهنا لا إشكال في عدم نفوذ البيّنة حتى لو غضّ النظر عمّا سيأتي، وذلك لأنّ المفروض أنّ الأثر ليس مترتّباً على الجامع بما هو جامع، وإنمّا هو مترتّب على الحصّة، وكلّ من الحصّتين لم تقم عليها بيّنة، ومثاله ما مضى من شهادة أحدهما بإقراض زيد لعمرو، وشهادة الآخر بإقرار عمرو بذلك. فالأثر هنا مترتّب على الحصّة؛ إذ الأثر إمّا هو الوجوب الواقعي للأداء، وهو مترتّب على الإقراض، أو هو نفوذ الإقرار ظاهراً، وهو مترتب على الإقرار، والجامع بينهما بحدّه الجامعي لا أثر له.

الثالث _ أن تكون الخصوصيّة مُحصِّصة للقدر المشترك أيضاً، ويكون الجامع بحدّه الجامعي ذا أثر في المقام،ولكن يكون هذا التحصيص مؤدّياً إلى التكاذب بين الشاهدين،كما لو شهد أحدهما على أنّه باع هذه الدار في الساعة الفلانيّة بألف دينار، وشهد الآخر على أنّه باعها في نفس الساعة بألف درهم. وهنا لا ينبغي الإشكال في عدم نفوذ البيّنة حتى لو غضّ النظر عمّا سيأتي _ إن شاء الله _ في الفرض الرابع، وذلك لأنّ التكاذب بين الشاهدين وإن كان على الخصوصيّة وليس

533

على الجامع، ولكن بما أنّ الشهادة بالجامع إنّما هي شهادة به في ضمن الحصّة، ولم تكن الخصوصيّة المختلف فيها من المقارنات البحتة، فهنا لا إشكال في أنّ الشهادة بالجامع تُضعَّف داخليّاً، أي أنّ البيّنة ضَعَّفت نفسها بنفسها، فهنا إمّا أن نقول: إنّ إطلاق دليل حجّية البيّنة منصرف بمناسبات الحكم والموضوع عن مثل هذا الفرض، أو نقول: إنّ دليل حجّية البيّنة _ على ما مضى منّا سابقاً _ لم يتمّ له إطلاق إلا بحدود الارتكاز العقلائي، ولم يثبت ارتكاز عقلائي على الحجّية عند وجود تكاذب من هذا القبيل بينهما.

الرابع _ أن تكون الخصوصيّة مُحصِّصة للقدر المشترك، ويكون الجامع بحدّه الجامعي ذا أثر، ولا يكون التحصيص مؤدّياً إلى التكاذب، كما لو شهد أحدهما بأنّه أتلف ديناراً من أموال زيد، والآخر بأنّه أتلف عشرة دراهم من تلك الأموال، واحتملنا صدقهما معاً بأن يكون قد أتلف ديناراً وعشرة دراهم، فهنا لا يرد شيء من الإشكالين السابقين _ من عدم الأثر أو التكاذب _ كما هو واضح، ولكن مع ذلك لا ينبغي الإشكال في عدم نفوذ هذه البيّنة، وذلك لأنّ شهادة كلّ منهما على الجامع لم تكن شهادة عليه بحدّه الجامعي، بل كانت شهادة عليه في ضمن الحصّة. وهذا لا يحقّق وحدة مفاد الشهادتين بالمعنى المأخوذ عرفاً ومتشرّعيّاً في مفهوم كلمة البيّنة، هذا مضافاً إلى ما عرفت من أنّ الإطلاق في أدلّة حجّية البيّنة لم يتمّ بأكثر ممّا يثبت بالارتكاز، ولا ارتكاز، ولا ارتكاز على حجّية مثل هذه البيّنة.

ولعلّ السرّ في عدم استقرار ارتكاز العقلاء على حجّية مثل هذا _ وعدم اكتفائهم بهذا المقدار من الوحدة في الوحدة المأخوذة عندهم في مفهوم البيّنة _ هو الفرق الموجود بحساب الاحتمالات بين شهادة شاهدين على شيء واحد، وهو سرقة الدينار مثلاً، وشهادة كلّ منهما على شيء غير ما شهد الآخر به رغم وجود جامع

534

بينهما، كشهادة أحدهما على سرقة الدينار، وشهادة الآخر على سرقة الدراهم، فالأوّل أقوى من الثاني؛ لما نقّحه أُستاذنا الشهيد (رحمه الله) في بحث حساب الاحتمال من أنّه كلّما اشتدّ التماثل بين الشهادات قوي المضعِّف الكيفي الذي يبعّد احتمال الكذب والخطأ. وهذا الحساب بشكله الدقيق وإن لم يكن موجوداً في أذهان الناس الاعتياديين، لكن النتيجة على الإجمال واضحة عندهم بالفطرة.

ولا يبعد أن تستثنى عرفاً من الفرض الثالث والرابع حالتان:

الأولى _ ما إذا كانت مساحة الخلاف بينهما بالقياس إلى مساحة الوفاق بمقدار بحيث يُطمأنّ عرفاً بأنّهما _ على تقدير كونهما صادقين _ ينظران إلى واقعة واحدة وإن وقع الاشتباه من أحدهما في الخصوصيّة، فعندئذٍ يكون المقدار الثابت من الوحدة كافياً في صدق ثبوت البيّنة عرفاً على المقدار الجامع، وكان الارتكاز العقلائي ثابتاً في المقام، والدليل غير منصرف عنه، فمثلاً: لو استُنطِق الشاهدان في تمام الخصوصيّات فاتّفقا عليها ما عدا وجود فارق في تعيين الحادثة بمقدار ربع ساعة مثلاً، فهذا الفارق وإن كان بالدقّة محصِّصاً وقد يوجب التكاذب، ولكنه قد يكون عرفاً غير مضرّ بالبيّنة، فقد يقال عرفاً: إنّ البيّنة قد تمّت على الحادثة الفلانيّة وإن اختلفا اشتباهاً في وقت الحادثة؛ لعدم ضبط أحدهما الوقت بالدقّة الكاملة.

والثانية _ ما لو شهد أحدهما بأنّ مصبّ شهادته هو عين مصبّ شهادة الآخر وأنّ صاحبه قد أخطأ في الخصوصيّة، فهذا المقدار كافٍ في انصباب الشهادتين على مصبٍّ واحدٍ هو الجامع وتماميّة الارتكاز في المقام، وذلك كما لو شهدا بالبيع، واختلفا في أنّه كان في اللّيل أو في النهار، وشهد أحدهما بأنّ البيع الذي يشهد به هو عين البيع الذي حضره الآخر إلا أنّه أخطأ في زمانه.

ولا يسري هذان الاستثناءان إلى ما لو كان الأثر مترتّباً على الخصوصيّتين لا على

535

الجامع، كما لو شهد أحدهما بالبيع، والآخر بالصلح _ والأثر وهو الملكيّة يترتب على واقع العقود لا على الجامع بين العقدين _ وقال أحدهما: إنّي أشهد بنفس الواقعة التي حضرها الآخر إلا أنّه أخطأ فيما تخيّله من أنّ العقد الذي حضره كان بيعاً مثلاً، بل كان صلحاً. فمثل هذا الكلام لا ينفع في تصحيح البيّنة؛ إذ لو قصد بذلك إثبات أحد العقدين بالخصوص فمن الواضح أنّه لا اتّفاق عليه في الشهادتين، ولو قصد بذلك إثبات الجامع فالجامع لا أثر له، ولو قصد بذلك إثبات النتيجة _ وهي الملكيّة _ بدعوى أنّهما متوافقان على الشهادة بالملكيّة قلنا: إنّ الملكيّة أثر اعتباري وليست عيناً خارجية تفرض شهادتهما بها مع الاختلاف في خصوصيّةٍ ما، ومن الواضح أنّ الملكيّة الناشئة من البيع فرد اعتباري آخر غير الملكيّة الناشئة من الصلح، وليست هناك قطعة عينيّة خارجاً متّفق عليها كي يستطيع أن يقول أحدهما: إنّ مصبّ شهادتي هو عين مصبّ شهادة الآخر.

علاج الخلاف بضم اليمين

ثم في المورد الذي لا تتمّ البيّنة لأجل الخلاف الموجود بين الشهادتين لو انضمّت إحدى الشهادتين بيمين المدّعي في باب الأموال قالوا بنفوذ ذلك من باب نفوذ شهادة شاهد واحد في الأموال مع يمين المدّعي.

نعم، قد يشكل الأمر في فرض التكاذب، وقال في الجواهر: «نسب الاجتزاء باليمين في صورة التكاذب في الدروس إلى القليل مشعراً بتمريضه، لكنّه في غير محلّه؛ لأنّ التكاذب المقتضي للتعارض _ الذي يفزع فيه للترجيح وغيره _ إنّما يكون بين البيّنتين الكاملتين، لا بين الشاهدين كما هو واضح»(1).


(1) جواهر الكلام، ج41، ص212.

536

أقول: هذا الكلام إنّما يتمّ إذا وجدنا إطلاقاً في دليل حجّية شهادة الواحد منضّمة إلى اليمين يشمل فرض المقام، وإلا فاحتمال الفرق ثبوتاً بين فرض ابتلاء الشهادة بمكذّب وعدمه وارد لا محالة، والظاهر وجود إطلاق من هذا القبيل في المقام؛ فإنّ روايات حجّية شهادة الواحد مع اليمين وإن كان بعضها بلسان قضيّة في واقعة، من قبيل: «أنّ رسول اللّه (صلى الله عليه و آله) قضى بشهادة واحد مع اليمين»(1)، ولكنّ بعضها يتمتّع بالإطلاق، من قبيل ما عن محمد بن مسلم _ بسند تام _ عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «لو كان الأمر إلينا أجزنا شهادة الرجل الواحد إذا علم منه خير مع يمين الخصم في حقوق الناس...»(2) وما عن البزنطي بسند تام قال: «سمعت الرضا (عليه السلام) يقول: قال: أبو حنيفة لأبي عبداللّه (عليه السلام): تجيزون شهادة واحد ويمين؟ قال: نعم، قضى به رسول اللّه (صلى الله عليه و آله)، وقضى به علي (عليه السلام) بين أظهركم بشاهد ويمين. فتعجّب أبو حنيفة، فقال أبو عبداللّه (عليه السلام): أتعجب من هذا!! إنّكم تقضون بشاهد واحد في مائة شاهد، فقال له: لا نفعل، قال: بلى، تبعثون رجلاً واحداً فيسأل عن مائة شاهد، فتجيزون شهادتهم بقوله، وإنّما هو رجل واحد»(3).

نعم، هذه الروايات لا تدل بالإطلاق على استغناء هذا الشاهد الواحد عن الشروط المشروطة في البيّنة، فإنّ هذه الروايات إنّما وردت لإحلال اليمين محلّ أحد الشاهدين، لا لإغناء الشاهد الآخر عن تلك الشروط، أمّا لو احتملنا وجود شرط زائد على شروط البيّنة بالنسبة للرجل الواحد فهو منفي بالإطلاق، وشرط عدم تكذيبه من قبل شخص واحد شرط زائد على شروط البيّنة؛ لأنّ البيّنة لا تسقط


(1) جملة من روايات الباب 14 من كيفيّة الحكم من الجزء 18 من وسائل الشيعة.

(2) وسائل الشيعة، ج18، ص196، الباب 14 من كيفيّة الحكم، ح12.

(3) نفس المصدر، ص197، ح17.

537

بتكذيب رجل واحد لها خاصّةً إذا كان التكذيب راجعاً إلى الخصوصيّة والأثر المطلوب كان أثراً للجامع.

الشهادة على الجامع وعدم ذكر الخلاف

بقي الكلام في شيء واحد، وهو أنّه هل يصحّ للشاهدين المختلفين فيما بينهما في بعض الخصوصيات أن يتركا ذكر نقطة الخلاف، ويقتصرا على ذكر القدر المتّفق عليه فيما بينهما، وبذلك تكتمل البينة حقّاً، ويصحّ للقاضي الحكم بالقدر المتفق عليه بينهما، أو لا؟

ذكر صاحب الجواهر (رحمه الله) _ بعد بيان أنّ توارد شهادة الشاهدين على شيءٍ واحدٍ شرط في القبول _ ما نصّه: «نعم، للشاهدين في غير مقام التدليس تصحيح الشهادة على وجه تكون مثمرة عند الحاكم، كما أشارت إليه النصوص بعد أن تكون على حقّ، فيشهد شاهد البيع والصلح _ مثلاً _ على الملك من دون ذكر السبب، وهكذا...»(1).

وكأنّه (رحمه الله) يرى أنّ هذا ثابت وفق القاعدة، وتشير إليه النصوص أيضاً. والوجه في ثبوت ذلك وفق القاعدة: أنّ مصبّ الشهادتين بعد حذف مورد الخلاف أصبح واحداً، فلا مبرِّر لعدم نفوذ الشهادة.

أقول: إنّ الشهادة اللّفظية طريق إلى واقع الشهادة الموجود في النفس، ومن المستحيل أن يتبدّل وضع مصبّ الشهادتين في النفس من التعدّد إلى التوحّد بحذف مورد الخلاف عن اللّفظ، ولا قيمة للشهادة اللّفظية عدا ما لها من كشف عن مفاد الشهادة في النفس، فإن كان الخلاف الموجود غير مضرّ بوحدة الشهادتين، كما هو


(1) الجواهر، ج41، ص211 و212.

538

الحال في بعض الموارد _ كما شرحناه _ فلا ضير في اشتمال اللّفظ عليه، وإن كان مضرّاً بها فحذف الخلاف من اللّفظ ليس له أثر عدا أنّ الحاكم قد ينخدع ويتخيّل وحدة الشهادتين فيقضي وفق ما فهمه من اللّفظ.

وأمّا الروايات فهي تماماً ضعيفة السند ولا تدل على المدّعى في المقام، وهي كما يلي:

1_ عن داود بن الحصين قال: «سمعت أبا عبداللّه (عليه السلام) يقول: إذا أُشهِدتَ على شهادة فأردتَ أن تقيمها فغيّرها كيف شئت، ورتّبها وصحّحها بما استطعت حتى يصحّ الشيء لصاحب الحقّ بعد أن لا تكون تشهد إلا بحقه، ولا تزيد في نفس الحقّ ما ليس بحقّ، فإنّما الشاهد يبطل الحقّ، ويحقّ الحقّ، وبالشاهد يوجب الحقّ، وبالشاهد يعطى، وإنّ للشاهد في إقامة الشهادة _ بتصحيحها بكلّ ما يجد إليه السبيل من زيادة الألفاظ والمعاني والتفسير في الشهادة ما به يثبت الحقّ ويصحّحه ولا يؤخذ به زيادةً على الحقّ _ مثلَ أجرِ الصائم القائم المجاهد بسيفه في سبيل الله»(2).

وقوله: «بكلّ ما يجد إليه السبيل من زيادة الألفاظ والمعاني والتفسير في الشهادة» يدل على النظر إلى التغيير الحقيقي للشهادة أمام الحاكم الجائر ما دامت النتيجة هي وصول الحقّ إلى ذي الحقّ، وذلك عندما يكون هذا الحاكم غير مستعدّ لتنفيذ الشهادة إذا أدّاها بوجهها الحقيقي، وهذا أجنبي عمّا نحن فيه من تغيير الألفاظ بمثل حذف مورد الخلاف مع بقاء الشهادة على كونها شهادةً بالواقع حقيقةً، وذلك أمام حاكم العدل.

وأوضح منه في ما شرحناه نقل السرائر للحديث عن داود بن الحصين وهو كما يلي:

2_ نقل صاحب السرائر عن جامع البزنطي عن صفوان بن يحيى عن داود بن


(1) وسائل الشيعة، ج18، ص230، الباب 4 من الشهادات، ح1.

539

الحصين قال: «سمعت من سأل أبا عبداللّه (عليه السلام) وأنا حاضر عن الرجل يكون عنده الشهادة، وهؤلاء القضاة لا يقبلون الشهادات إلا على تصحيح ما يرون فيه من مذهبهم، وإنّي إذا أقمت الشهادة احتجتُ إلى أن أُغيِّرها بخلاف ما أُشهِدتُ عليه وأزيد في الألفاظ ما لم أُشهد عليه، وإلا لم يصحَّ في قضائهم لصاحب الحقّ ما أُشهدتُ عليه، أفيحلّ لي ذلك؟ فقال: إي واللّه، ولك أفضل الأجر والثواب، فصحِّحْها بكلّ ما قدرتَ عليه ممّا يرون التصحيح في قضائهم»(1). فهذا _ كما ترى _ ظاهر في إضافة ما لم يشهد عليه أمام حاكم الجور الذي لا يقبل بتنفيذ الشهادة بوجهها الواقعي، وهو غيرما نحن فيه.

3_ ما عن عثمان بن عيسى عن بعض أصحابنا عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «قلت له: تكون للرجل من إخواني عندي الشهادة ليس كلّها تجيزها القضاة عندنا؟ قال: إذا علمت أنّها حقّ فصحّحها بكلّ وجه حتى يصحّ له الحقّ»(2). وهذا _ كما ترى _ ناظر إلى تصحيح الشهادة أمام قاضي الجور، فإنّه المشار إليه بقوله: «القضاة عندنا»، فلا يدل على جواز التصحيح بالمعنى المقصود في المقام أمام قاضي العدل.

فكأنّ هذه الروايات تنظر إلى جواز التزوير في الشهادة أمام قاضي الجور ما لم تكن النتيجة إلا وفق الحقّ، فهي تشبه رواية الحكم أخي أبي عقيل الدالّة على جواز شهادة الزور لدفع الباطل الذي حمّله الخصم بشهادة الزور، قال: «قلت لأبي عبداللّه (عليه السلام): إنّ خصماً يستكثر علي بشهود الزور، وقد كرهت مكافأته، مع أنّي لا أدري يصلح لي ذلك أم لا؟ فقال: أما بلغك عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه كان يقول: لا توسروا أنفسكم


(1) نفس المصدر، ص 230، ح2.

(2) نفس المصدر، ص231، ، ح3.

540

وأموالكم بشهادات الزور، فما على امریءٍ من وَكَفٍ في دينه ولا مأثم من ربّه أن يدفع ذلك عنه، كما أنّه لو دفع بشهادته عن فرج حرام، أو سفك دم حرام، كان ذلك خيراً له»(1). والحديث ضعيف السند.

وهناك رواية تدل على حرمة شهادة الزور حتى أمام قاضي الجور لإحياء الحقّ، وهي ضعيفة السند بالإرسال، وهي ما رواها يونس عن بعض أصحابه عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «سألته عن الرجل يكون له على الرجل الحقّ فيجحده حقّه، ويحلف أنّه ليس له عليه شيء وليس لصاحب الحقّ على حقّه بيّنة، يجوز لنا إحياء حقّه بشهادة الزور إذا خشي ذهابه، فقال: لا يجوز ذلك، لعلّة التدليس»(2). هكذا في نسخة الكافي(3) والتهذيب(4)، وفي نسخة الفقيه(5): «...يجوز له إحياء حقّه...»، فبناءً على النسخة الأُولى يظهر منها أنّ الشهود يعلمون بأصل الحقّ فيصطنعون شهادة زور لإحياء ذاك الحقّ، وقد نهى عنه الإمام (عليه السلام)، وبناءً على النسخة الثانية قد يقال: إنّ الشهود لا يعلمون حتى بأصل الحقّ، وإنما صاحب الحقّ هو الذي يعلم بالحقّ، فقد وقع السؤال عن أنّه هل يجوز له إقامة شهود زور لإحقاق حقّه، أو لا؟ ومن هنا قد يتأتّى احتمال أنّ حرمة الشهادة أو حرمة الاستشهاد نشأت هنا من عدم علم الشهود بأصل الحقّ، فلا تنافي بين النهي في هذا الحديث عن شهادة الزور والرخصة فيها عند علم الشهود بأصل الحقّ في سائر الروايات، إلا


(1) وسائل الشيعة، ج18، ص247، الباب 18 من الشهادات، ح2.

(2) نفس المصدر، ح1.

(3) ج 7، ص388، باب في الشهادة لأهل الدين، ح1.

(4) ج6، ح694.

(5) ج3، ح148.

541

أنّ التعليل الوارد في هذا الحديث لا ينسجم مع هذا التفسير، وهو التعليل بالتدليس، فإنّ التدليس يتقوّم بكون الشهادة زوراً سواء علم الشاهد بأصل الحقّ، أو لا.

وعلى أيّ حال فقد عرفت أنّ الروايات كلّها ضعيفة السند، وعرفت أنّها جميعاً أجنبيّة عن المقام.

شهادة الزور في محاكم الجور

وبهذه المناسبة لا بأس بالإشارة إلى ما تقتضيه القاعدة في شهادة الزور بهدف إحقاق الحقّ في محكمة الجور، فهل نقول بجوازها ما دامت المحكمة محكمة جور أم لا؟

الظاهر عدم الجواز؛ لحرمة التدليس والكذب إلا إذا زاحمت هذه الحرمة واجباً أهمّ كحفظ النفس أو العرض.

البيّنة وشروطها لدى الفقه الوضعي

وفي ختام البحث عن شرائط البيّنة لا بأس بالتعرّض شيئاً مّا لوجهة نظر الفقه الوضعي بشأن البيّنة وشروطها.

تحفّظ الفقه الوضعي تجاه البيّنة

إنّ الفقه الوضعي ينظر إلى البيّنة بتحفّظ، ولديه نقطتان أساسيّتان في كيفيّة التحفّظ:

الأولى _ أنّه جعل نفوذ البيّنة في ميدان التصرّفات القانونيّة المدنيّة محدوداً بما لا تزيد قيمته على عشرة جنيهات فرنسية أو عشرين جنيهاً مصرياً. نعم، نفوذها في الوقائع القانونيّة الماديّة وفي التصرّفات القانونيّة التجاريّة غير محدود، وللقاعدة بكلا طرفيها استثناءاتها.

542

والمقصود بالتصرف القانوني ما يؤثّر بواسطة الإرادة أثراً قانونيّاً كعقد البيع، والمقصود بالوقائع القانونية ما يؤثّر أثراً قانونيّاً بلا توسيط الإرادة، والتصرّف القانوني ينقسم إلى المدني والتجاري: فالتجاري ما يكون بروح المتاجرة، والمدني غيره، وقد يكون تصرف واحد بلحاظ أحد المتعاقدين تجاريّاً وبلحاظ المتعاقد الآخر مدنيّاً، كما لو باع التاجر سلعته للمستهلك، فهو بلحاظ البائع تصرف تجاري وبلحاظ المستهلك تصرف مدني، وكما لو باع المزارع جزءاً من محصوله للتاجر، فهو بلحاظ البائع مدني وبلحاظ المشتري تجاري.

وعندئذٍ فنفوذ البيّنة لصالح التاجر غير محدود، ونفوذها لصالح الطرف الآخر محدود. وقد مضى منّا في أوّل بحثنا عن طرق الإثبات تعليل هذا التحديد في التصرف القانوني المدني وعدم التحديد في غيره ببعض النكات نقلاً عن الدكتور عبد الرزاق السنهوري، فراجع.

والثانية _ أنّ البيّنة في مورد نفوذها _ سواء كان نفوذها لأجل كون القيمة لا تزيد على المبلغ المحدَّد، أو لكون نفوذها غير مشروط بمبلغ محدَّد، كما في الواقعة القانونيّة أو التصرُّف القانوني التجاري _ يُترك أمر الاقتناع بها وعدمه إلى القاضي، فهو الذي يقدّر قيمة البيّنة وأنّها مُقنعة أو غير مُقنعة.

كلّ هذه التحفّظات تجاه البيّنة _ وجعلُ الأولويّة في الإثبات للكتابة _ نشأت من دقّة الكتابة وضبطها وقوّتها، وضعف البيّنة واحتمال الخيانة أو الخطأ فيها. ويُعتقَد أنّ الصدارة في الإثبات إنمّا كانت قديماً للبيّنة باعتبار انتشار الأُمّية وعدم تعارف الكتابة، فإذا ما انتشرت الكتابة وسهلت على الناس تقلّصت قيمة البيّنة.

وبلحاظ التحفُّظ الأول جاء في الوسيط ما خلاصته: أنّه أوجب في القانون الفرنسي في سنة (1566) تدوين المعاملات التي تزيد قيمتها على مائة جنيه فرنسي؛

543

نظراً للشكوى التي ترددت من عيوب الإثبات بالشهادة، وكانت تساوي المائة جنيه نحواً من ألفين من الفرنكات، وبعد ردح من الزمن نزل نصاب البيّنة إلى مائة وخمسين فرنكاً؛ نظراً لزيادة انتشار الكتابة، ثم نقصت قيمة الفرنك، فرفع نصاب البيّنة إلى خمسمائة فرنك، ثم هبطت قيمة الفرنك بعد ذلك هبوطاً جسمياً، فرفع النصاب مرّةً أُخرى إلى خمسة آلاف من الفرنكات. وفي مصر قرّر نصاب البيّنة منذ التقنين المدني السابق بعشرة جنيهات، ولم يتغيّر هذا النصاب في التقنين الجديد وإن كانت قيمة العملة قد نزلت نزولاً كبيراً للمعادلة ما بين هذا النزول الكبير وزيادة انتشار الكتابة(1).

وبلحاظ التحفظ الثاني قال في الوسيط ما نصّه:

«ثم إنّ القاضي إذا رأى الإثبات بالبيّنة مستساغاً وقدّر أنّ الوقائع المراد إثباتها متعلّقة بالحقّ المدَّعى به، ومنتجة في الإثبات، وسمع الشهود في هذه الواقعة، فإنّ له بعد ذلك كلّه سلطة واسعة في تقدير ما إذا كانت شهادة هؤلاء الشهود كافيةً في إثبات هذه الوقائع، وهو في ذلك لا يتقيّد بعدد الشهود، ولا بجنسهم، ولا بسنّهم، فقد يقنعه شاهد واحد ولا يقنعه شاهدان أو أكثر، وقد يصدّق المرأة ولا يصدّق الرجل، وقد تكون شهادة صبي صغير أبلغ في إقناعه من شهادة رجل كبير. وقد كان للشهادة في القديم نصاب محدّد: رجلان، أو رجل وامرأتان، أو شهود أربعة، أو نحو ذلك، فزال هذا النصاب لا في المسائل الجنائيّة فحسب، بل أيضاً في المسائل المدنيّة والتجاريّة، وكذلك زالت ضرورة تزكية الشهود، فلم يعد الشاهد يزكيّه شاهد آخر، بل الذي يزكيّه هو مبلغ ما يبعثه في نفس القاضي من الاطمئنان إلى دقّته


(1) راجع الوسيط، ج2، الفقرة 189.

544

والثقة في أمانته»(1).

وما يظهر من هذه العبارة من قبول شهادة الصبي قد لا يفترض صحيحاً في الفقه الوضعي، كما يفهم ذلك من كتاب رسالة الإثبات لأحمد نشأت؛ حيث قال: «ولا يصحّ الأخذ بشهادة من لا يبلغ عمره خمس عشرة سنةً كاملةً، وتسمع أقواله على سبيل الاستدلال فقط بغير يمين.... وكانت السن (14) سنةً في قانون المرافعات السابق، ومفاد ذلك أنّه لا يصحّ أن يبني القاضي حكمه على شهادته أو أقواله وحدها، وله فقط أن يسترشد بها لتعزيز شهادة شاهد بالغ أو أيّ دليل قانوني آخر»(2).

وحاصل الكلام بالنسبة للصغير أنّه لا يجوز فرضه شاهداً بأن يكتفى بكلامه مع يمينه، فإنّهم يشترطون مع البيّنة اليمين، أي يمين الشاهد.

نعم، يجوز فرضه قرينةً من القرائن ولو لم يحلف، وقد يضمّ إلى قرائن أُخرى إلى أن توجب القناعة في نفس القاضي، فيأخذ بشهادته لا كبيّنة، بل كقرينة من القرائن. ولعلّ هذا هو مقصود صاحب الوسيط من افتراض جواز قبول شهادة الصغير.

وعلى أيّ حال فالدكتور عبدالرزاق السنهوري يرى في كتابه (الوسيط) أنّ القرآن قد أتى بأرقى مبادئ الإثبات في العصر الحديث، وهو الكتابة على ما نصّ به في آية التداين، ولكن لمّا كانت حضارة العصر تقصر دون ذلك لغلبة الأُمّية لم يستطع الفقهاء إلا أن يسايروا حضارة عصرهم، فإذا بالفقه الإسلامي يرتفع بالشهادة إلى مقام تنزل عنه الكتابة نزولاً بيّناً. قال: «ومن العجب أنّ عصر التقليد في الفقه الإسلامي لم يدرك العوامل التي كانت وراء تقديم الشهادة على الكتابة، فظلّ يردّد


(1) راجع الوسيط، ج2، الفقرة: 168.

(2) رسالة الإثبات لأحمد نشأت، ج1، الفقرة: 379 مكرّر (ك)، الطبعة السابعة.

545

ما قاله الفقهاء الأوّلون في تقديم الشهادة...»(1).

أقول: إنّ الآية المباركة لا دلالة فيها على كون الكتابة مصدراً للإثبات في القضاء عند المرافعة، وأنّ البيّنة مصدر ثانويّ للإثبات، وإنّما الآية أكّدت على ضرورة الكتابة، وقد يكون ذلك للتذكير والمنع عن النزاع.

ثم الكتابة حينما تفيد العلم خصوصاً القريب من الحسّ فإغفالها إنّما هو صادق بشأن الفقه السنّي. أمّا الفقه الشيعي، فقد اعترف بحجّية علم القاضي وتقدّمه على البيّنة. وحينما لا تفيد العلم فالعلم الحسّي للبيّنة كان أقرب إلى الواقع من ظنّ القاضي الناشى‏ء من الكتابة لدى الشارع حتى لو أخذ بعين الاعتبار احتمال خطأ القاضي في فهم البيّنة.

والوجهان اللذان علّل بهما السنهوري شرط الكتابة في إثبات التصرف القانوني المدني _ وقد تقدّم نقلهما عنه في أوّل بحثنا عن طرق الإثبات: من كون التعبير في ذلك عن إرادة تتّجه لإحداث أثر قانوني أمراً دقيقاً قد يغمّ على الشهود، ومن سهولة تهيئة الدليل الكتابي عليه وقت وقوعه _ لا يصلحان نكتتين لاشتراط الإثبات بالكتابة؛ بحيث لو قصّر في الكتابة لانسدّ باب الإثبات ولم تفد البيّنة فيما تزيد قيمته على عشرة جنيهات، وإنّما يصلحان نكتتين للإلزام بالكتابة أو الحثّ عليها، كما صنعته الشريعة الإسلامية مع الاحتفاظ بحقّ الإثبات بالبيّنة على تقدير التقصير في الكتابة.

فعدم شرط العدالة في البيّنة حسب مدرسة الفقه الوضعي له أثره البالغ في فرض تحفظات تجاه البيّنة، بينما الشريعة الإسلامية في نظر الفقه الشيعي منزّهة عن إغفال شرط العدالة.


(1) الوسيط، ج2،بهامش الفقرة: 189.

546

جملة من شرائط البينة في الفقه الوضعي

ومن شرائط البيّنة لديهم الحلف، ولو بدّلوه بشرط العدالة لكان أقوى وأشرف لهم: أما كونه أقوى فلأنّ غير العادل ما أكثر إقدامه على الحلف الكاذب، والعادل يتحرّز عادةً عن الكذب حتى من غير حلف، وأمّا كونه أشرف لهم فلأنّ الدافع الحقيقي لعدم شرط العدالة عندهم واضح، وهو أصل كون العدالة _ حسب ما لديهم من نظرة مادّيّة وانهماك في الشهوات _ أمراً أقرب إلى الخيال الطوبائي منه إلى الحقيقة والواقع.

ومن شرائط البيّنة لديهم العلم الحسّي، ويستثنون فرض موت الشاهد المباشر أو العجز عن الوصول إليه. وهذا في الحقيقة عبارة عن تقييد نفوذ الشهادة على الشاهد بالعجز عن تحصيل الشاهد المباشر.

وقالوا: يجب أن تؤدّى الشهادة شفهاً أمام المحكمة أو القاضي مباشرةً وجهاً لوجه؛ لأنّه إذا كذب اللّسان أو سكت حيث يجب الكلام، فإنّ هيئة المرء وحالته وطريقة شهادته قد تنمّ عن الحقيقة، أو تساعد على اكتشافها، أو تساعد على تقدير الشهادة (المادة 90 إثبات). ويجب أيضاً أن لا يعتمد الشاهد في شهادته إلا على ذاكرته، ولا يصحّ أن يسمع له بتلاوة شهادته من ورقة مكتوبة أو يستعين بأيّة مذكّرة إلا إذا كانت شهادته منصبّة على أمر معقّد أو لمعرفة أرقام وتواريخ مثلاً بعد إذن المحكمة أو القاضي حيث تسوغ ذلك طبيعة الدعوى (المادة 90 إثبات). والأصل في التحقيق وسماع الشهود أن يكون بمعرفة هيئة المحكمة؛ إنّما يجوز لها طبقاً للمادة(72 إثبات) _ عند الاقتضاء _ أن تندب أحد قضاتها لإجرائه(1).


(1) رسالة الإثبات، ج1، ص548 _ 549، الفقرة: 379 مكرّر، من الطبعة السابعة.

547

وقالوا: يجب أداء الشهادة في حضور الخصوم فسحاً لباب السؤال والمناقشة، ويؤدّي كلّ شاهد شهادته على انفراد من باقي الشهود(1).

والخصم هو الذي يعيّن الشهود، ولو سمعت المحكمة شاهداً ولم يعترض الخصم كفى، وإذا اعترض الخصم أمام المحكمة بالدرجة الأولى ثم سكت عنه أمام المحكمة بالدرجة الثانية، لم يكن له التمسّك به أمام محكمة النقض. هذا حينما يكون الإثبات من قبل الخصم، أمّا إذا أمرت المحكمة بالإثبات _ متى رأت في ذلك فائدة للحقيقة _ فلها أن تستدعي للشهادة من تريد(2).

ولا تقبل شهادة الصغير ولا المحكوم عليه بعقوبة جنائيّة مدّة العقوبة؛ لأنّه يستلزم حرمان المحكوم عليه من الحقوق والمزايا(3).

نعم، تسمع شهادة المحكوم عليه بعنوان القرينة كشهادة الصغير، قال أحمد نشأت: «ويسمع على سبيل الاستدلال أيضاً المحكوم عليه بعقوبة جنائيّة مدّة العقوبة طبقاً للمادة (25) من قانون العقوبات التي نصّت على أنّ (كلّ حكم بعقوبة جنائيّة يستلزم حتماً حرمان المحكوم عليه من الحقوق والمزايا الآتية.... ثالثاً _ الشهادة أمام المحاكم مدّة العقوبة إلا على سبيل الاستدلال)».

وظاهر من هذا النصّ:

أوّلاً _ أنّه لا يكفي أن يكون المحكوم عليه ارتكب جناية، بل يجب أن يكون محكوماً عليه بعقوبة جنائيّة....

ثانياً _ أن يكون عدم تحليفه مقصوراً على مدّة العقوبة، فإذا أوفى مدّة العقوبة،


(1) راجع نفس المصدر، الفقرة: 379 مكرّراً.

(2) نفس المصدر، الفقرة: 379 (ح) و 379 (ط).

(3) نفس المصدر، الفقرة: 379 مكرّر (ك) و مكرّر (ل).

548

أو صدر عفو عن العقوبة كلّها أو بعضها، وكان قد وفّى البعض الآخر، أو صدر عفو عن الجريمة، وجب تحليفه اليمين. وممّا هو جدير بالملاحظة أنّه يؤخذ من نصّ المادة (25) من قانون العقوبات أنّ الشارع اعتبر الشهادة حقّاً أو مزيّةً كالقبول في خدمة الحكومة، أو التحلّي برتبة أو نيشان المنصوص عليهما في (أوّلاً) و(ثانياً) مع أنّ الشهادة واجب والامتناع عنها معاقب عليه بمقتضى المادة (78) من قانون الإثبات (201 قانون المرافعات السابق)، فالأمر على حقيقته لا يتعدّى عدم الثقة بمجرم حكم عليه بعقوبة جنائيّة... هذا وإذا تتبّعنا النص الحرفي لمادة (25) من قانون العقوبات وقولها: إنّ المحكوم عليه يحرم من الشهادة مدّة العقوبة لترتّب على ذلك نتيجة غير معقولة بالنسبة للمحكوم عليه بالإعدام الذي لا تستغرق مدّة عقوبته بضعة ثوانٍ يستحيل أن يشهد في أثنائها. وهذه النتيجة غير المعقولة هي أنّه يستطيع أن يشهد ويستطيع أن يحلف في المّدة التي تمضي بين الحكم وبين التنفيذ _ أي مدّة العقوبة _ بالرغم من الحكم عليه بأشدّ عقوبات الجناية. إذاً لا مفرّ من اعتبار مدّة إيداعه في السجن من وقت الحكم حتى التنفيذ مدّة عقوبة؛ لأنّ هذه المدّة ليست إلا توطئةً لتنفيذ العقوبة، فلا شكّ أنّه يصحّ اعتبارها مدّة عقوبة. وعلى أيّ حال مثل هذا الشخص يكون غالباً في حالة لا يصحّ فيها الاعتماد على أقواله سواء حلف أو لم يحلف(1).

أقول: إنّ نفوذ شهادة الجاني قبل مدّة الحكم عليه وبعد نهايتها لا يمكن تبريره من حيث فلسفة التشريع إلا بافتراض أنّ الشهادة حقّ من الحقوق سلب في مدّة المحكوميّة، بينما من الواضح أنّ الشهادة لا ينبغي إلا أن تفرض واجباً من


(1) رسالة الإثبات، ج1، الماده: 379 مكرّر (ل).

549

الواجبات، وكم فرق بين هذا القانون الوضعي وقانون الشريعة الإسلامية الغرّاء الذي لا يقبل شهادة الفاسق إلا بعد التوبة ورجوع الملكة لو زالت.

أمّا النقض بمسألة الإعدام فبإمكانهم أن يجيبوا عليه بأنّ الجاني يسلب عنه حقّ الشهادة ليس مدّة تنفيذ الحكم عليه فقط، بل مدّة محكوميته، فهو من حيث صدور الحكم بالقتل مشمول لقانون سلب حقّ الشهادة عنه.

وأمّا ما قالوا: من أنّ المحكمة لها أن تأمر بالإثبات متى رأت في ذلك فائدة للحقيقة فلها عندئذٍ أن تستدعي للشهادة من تريد. فالرأي الصواب في فقهنا الإسلامي هو أنّ المدّعي له الحقّ في رفع اليد عن القضاء بشهادة أي شاهد لا يريده، والاكتفاء بتحليف المنكر. نعم، حينما تكون القضية مشتملةً على أمر آخر غير المرافعة كقضيّة أمنيّة من حقّ حاكم الشرع متابعتها فهنا من حقّ الحاكم أن يأمر بالإثبات وأن يستدعي من يريد من الشهود.

وأمّا شرط التفريق بين الشهود أو الشهادة شفهاً وجهاً لوجه، أو عدم الاعتماد إلا على ذاكرته أو الأداء عند حضور الخصوم أو نحو ذلك من الأمور فهي في وجهة نظر الفقه الإسلامي ليست شروطاً بمعنى عدم نفوذ شهادة الشاهد بدونها، وهي احتياطات اتّخذها الفقه الوضعي بعد إغفال شرط العدالة، ولكن لا يبعد القول بأنّ من حقّ الحاكم فرض أمر من هذا القبيل أو غيره مقدّمة للحكم لأجل تقصّي الحقيقة ممّا هو ليس واجباً بحدّ ذاته في نفوذ الحكم، كما قد يستفاد ذلك من أقضية أمير المؤمنين (عليه السلام) التي لعلّها مستفيضة إجمالاً، والمشتملة على إعمال نكات زائدة على أصل القانون القضائي الواجب من البيّنة واليمين، والتي قد يستظهر منها إعمال ولاية قضائيّة لا إعمال ولاية الإمامة، ولو حملت على إعمال ولاية الإمامة، نتعدّى إلى الفقيه بمبدأ ولاية الفقيه.

550

وقال فقهاء الفقه الوضعي أيضاً باشتراط التمييز، فلو لم يوجد التمييز لهرم أو حداثة أو مرض أو لأيّ سبب آخر، لم تنفذ الشهادة(1).

وقالوا أيضاً: لا يجوز الجمع بين صفتي الشاهد والقاضي، ولا بين صفتي الشاهد وكاتب الجلسة، ولا بين صفتي الشاهد والمترجم، فإذا حصل الجمع لم تنفذ الشهادة وبطل الحكم(2).

أمّا الجمع بين صفتي الشاهد والقاضي، فيعني في لغتهم نفوذ علم القاضي، وقد مضى الحديث عنه مفصّلاً، وأمّا الجمع بين صفتي الشاهد والكاتب أو المترجم، فقد عُلّل ذلك بتأثّره بشهادته ممّا قد تؤثّر على كتابته أو ترجمته(3). وفي الشريعة الإسلامية لا تمنع الكتابة أو الترجمة عن نفوذ الشهادة.

نعم، بناءً على ما مضى من استظهار جواز إلزام القاضي بما هو غير لازم يجوز إلزامه بالفصل بين الشهادة والكتابة أو الترجمة، لا بمعنى المنع عن الشهادة أو نفوذها، بل بمعنى منعه عن الكتابة أو الترجمة والإتيان بكاتب أو مترجم آخر لدى الحاجة.

وقالوا: لا يصحّ الجمع بين صفتي الشاهد وخصم في الدعوى يقرّر أمراً لمصلحة الخصم الأصلي ما لم تكن المحكمة هي التي أحالت الدعوى إلى التحقيق ولم تعلنه كشاهد(4).

وقد مضى تعليقنا على إحالة الحاكم الدعوى إلى التحقيق، ولو صحّ ذلك لم يكن مبرّراً عندنا لقبول شهادة من هو داخل في الخصومة.


(1) راجع رسالة الإثبات، ج 1، الفقرة 379، مكرّر (ك)، الطبعة السابعة.

(2) نفس المصدر، مكرّر (ط)، الطبعة السابعة.

(3) راجع نفس المصدر.

(4) راجع نفس المصدر، الفقرة: 379 مكرّر (ق).

551

ونكتفي بهذا المقدار عن نقل مطالب أصحاب القانون والتعليق عليها، والراغب في متابعة الموضوع بإمكانه مراجعة كتبهم المفصّلة في ذلك، وأخصّ بالذكر كتاب (الوسيط) للسنهوري و(رسالة الإثبات) لأحمد نشأت، وبإمكانه التعليق عليها على نسق ما مضى.

553

البيّنة

3

 

 

هل تجري البيّنة واليمين على عكس القاعدة؟

 

 

  1- في مورد القتل

  2- في مورد اتّهام العامل

 

 

555

هل تجري البيّنة واليمين على عكس القاعدة؟

البحث الثالث _ في أنّه هل يوجد مورد مستثنىً عن القاعدة المعروفة، وهي قاعدة (أنّ البيّنة على المدّعي، واليمين على من أنكر) بأن يكون الحكم على العكس من ذلك؛ أي أنّ البيّنة على من أنكر، واليمين على المدّعي، أو لا؟

في مورد القتل

قد دلّت بعض الروايات على أنّ القتل مستثنىً من هذه القاعدة، فالبيّنة فيه على المنكر واليمين على المدّعي من قبيل:

ما ورد _ بسند تام _ عن أبي بصير عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «إن اللّه حكم في دمائكم بغير ما حكم به في أموالكم، حكم في أموالكم على أنّ البيّنة على المدّعي، واليمين على المدّعى عليه، وحكم في دمائكم أنّ البيّنة على من ادّعي عليه، واليمين على من ادّعى؛ لئلّا يبطل دم امرى‏ءٍ مسلم»(1).

وما ورد عن محمد بن سنان عن الرضا (عليه السلام) فيما كتب إليه من جواب مسألة في


(1) وسائل الشيعة، ج18، ص172، الباب3 من كيفيّه الحكم، ح3، وج19، ص115، الباب 9 من دعوى القتل وما يثبت به، ح4.