38

القرار العامّ، لا تخلّف فرد واحد.

وثانياً، إنّه حتى لو فرض أنّ مفردات الموضوع هي الرواة، فحينما نرى أحدهم روى عمّن ضُعّف فهذا لا يعني أنّ تضعيف من ضُعّف تخصيص للعام كي يأتي الكلام بأنّ فرض رواية أُخرى عنه هل هو تخصيص زائد يدفع بالعموم أو لا، وإنّما يعني أنّ تضعيف من ضُعّف شهادة معارضة لهذه الشهادة بالوثاقة؛ إذ ليس هذا تضعيفاً صادراً من نفس ابن أبي عمير مثلاً كاشفاً عن ضيق في مراده الجدّي عن العامّ، وإنّما هي شهادة معارضة من قبل شاهد آخر.

إذاً فالمورد هو مورد الشكّ في المعارض لا الشكّ في المصداقيّة لتخصيص ثابت.

الثاني: ما جعله في كتاب «مشايخ الثقات» للشيخ عرفانيان _ في كلام نسبه إلى أُستاذنا الشهيد (رحمه الله) _ ردّاً على الجوابين الماضيين عن الإشكال الأول، بينما هو يصلح إشكالاً مستقلّاً، ولا يصلح رداً على الجوابين، ولعلّ ذلك مسامحة في التعبير.

وحاصل هذا الوجه: هو أنّ أصالة عدم الاشتباه التي هي أحد جزئي معنى حجّيّة خبر الثقة _ إذ معناها نفي الكذب ونفي الاشتباه _ لا تجري في المقام بعد ما رأيناه في أخبار ابن أبي عمير مثلاً المسندة من أنّه روى أحياناً عن فلان الضعيف؛ إذ لو كان قد اعتقد اشتباهاً بوثاقة فلان، وكان الشخص المحذوف في الرواية المرسلة عبارة عن نفس هذا الشخص الضعيف لم يكن هذا اشتباهاً جديداً يُنفى بأصالة عدم الاشتباه(1).

والجواب على ذلك هو ما جاء أصله في نفس الكلام الذي نقله الشيخ عرفانيان عن أُستاذنا الشهيد (رحمه الله) نذكره هنا مع قليل من الفرق، وهو أنّ ندرة


(1) مشايخ الثقات، ص 42.

39

مشاهدتنا لرواية ابن أبي عمير مثلاً عمّن وصلنا تضعيفه تجعلنا نطمئنّ في كلّ رواية مرسلة له بأنّها ليست عن أولئك الذين وصلنا تضعيفهم، فمثلاً حينما لم نر في مشايخه من وصلنا تضعيفه إلا بمقدار واحد من المائة أو اثنين من المائة أصبح احتمال كون هذه الرواية المرسلة مرويّة عن ذاك عبارة عن واحد أو اثنين من المائة، بل سيكون أقلّ من ذاك:

أوّلاً، لاحتمال كونها مرويّة عن إنسان آخر غير أولئك المشايخ الذين عرفناهم، ولم يصلنا طبعاً تضعيف ذاك الإنسان المجهول اسمه لدينا.

وثانياً، لأنّ احتمال كون المحذوف هو أحد الأشخاص الذين كثرت روايات ابن أبي عمير عنهم _ وهم جملة من الثقات _ أقوى من احتمال كونه هو ذاك الضعيف الذي قلّت رواية ابن أبي عمير عنه.

وهذا الجواب يصلح جواباً للوجه الأول من الإشكال أيضاً.

إلا أنّ أُستاذنا الشهيد (رحمه الله) حسب نقل الشيخ عرفانيان أورد على ذلك: بأنّ هذا الجواب إنّما ݣݣݣيتمّ لو لم يكن هناك مقوٍّ لاحتمال كون هذه الرواية المرسلة مرويّة عن ذاك الضعيف يجعله أقوى من سائر البدائل المحتمله، ممّا قد يخلّ بحصول الاطمئنان، والمقوّي الذي يمكن دعوى وجوده في المقام هو نفس حذف اسم الوسيط؛ إذ يحتمل نشوء ذلك من درجة من عدم الاعتناء بالوسيط وعدم الوثوق به.

نعم، يستثنى من هذا الإشكال ما لو عبّر ابن أبي عمير مثلاً بتعبير: عن غير واحد، أو عن جماعة، أو عن رهط، ونحو ذلك، لا بتعبير: عن رجل، أو عن بعض أصحابه، ونحو ذلك؛ إذ هذا التعبير يتناسب مع الاهتمام لا مع عدم الاهتمام، بل في هذا الفرض يشتدّ الاطمئنان لبُعد كون كلّ المحذوفين العَرْضيّين _ وهم ثلاثة على الأقلّ _ من

40

أولئك الذين وصلنا ضعفهم(1).

أقول: إنّ هذا الإشكال غريب في المقام، فترك ذكر اسم الوسيط لا أعرف كيف ينشأ _ في احتمال معقول _ من عدم الوثوق به، وإنّما ينشأ عادةً من نسيانه، ولو لم يكن ناسياً له فعدم ذكره لعلّه أنسب بوثوقه من عدم وثوقه به؛ باعتبار أنّه لو لم يكن واثقاً به كان ينبغي له ذكره كي يتكفّل السامع بنفسه عِب‏ء الوثوق بالرواية أو عدم الوثوق بها.

هذا تمام الكلام في روايات الثلاثة مسنداً ومرسلاً.

وقد تحصل بذلك أنّ مقبولة عمر بن حنظلة في المقام تامّة سنداً.

دلالة الحديث

وأمّا دلالةً، فقد يقال: بأنّها لم تدل على أكثر من قاضي التحكيم حيث قال: «فليرضوا به حكماً، فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً»، فصحيح أنّ هذا نصب من قبل الإمام، لكنّه نصب لمن رضوا به حكماً؛ أي نصب بعد التحكيم، وقد قلنا: إنّ قاضي التحكيم أيضاً لابدّ من نصبه، إلا أنّ نصبه يكون في طول التحكيم، بينما كلامنا الآن في النصب العامّ من قبل المعصوم قبل التحكيم.

والجواب: أنّ (فاء) التعليل في قوله: «فإنّي قد جعلته حاكماً» الذي علّل به قوله:«فليرضوا به حكماً»، ظاهر عرفاً في أنّ النصب ثابت في الرتبة السابقة على التحكيم، فكأنّه يقول: هذا منصوب من قبلي حاكماً فتحاكموا إليه. وهذا هو القاضي المنصوب.

هذا، وقد يقال: إنّ هذا الحديث لا يفيدنا في زماننا؛ لأنّه إنّما دلّ على النصب من قبل الإمام الصادق (عليه السلام) بوصفه وليّاً للأمر فيختص بزمانه، أمّا في زماننا هذا فنحن


(1) مشايخ الثقات، ص 45.

41

بحاجة إلى النصب من قبل إمام العصر، أي يجب أن نرجع إلى التوقيع مثلاً لإثبات منصب القضاء للفقيه لا إلى المقبولة.

والجواب: أنّ ظاهر هذا الحديث بإطلاقه هو الجعل المستمر إلى أن ينسخ، والإمام المعصوم تكون ولايته شاملة لما بعد وفاته لإطلاق دليل ولايته، ولم يثبت نسخ هذا النصب من قبل إمام متأخّر.

هذا تمام الكلام في الحديث الثاني من أحاديث النصب.

الحديث الثالث: ما ورد عن أبي خديجة بسند تام عن الصادق (عليه السلام): «إيّاكم أن يحاكم بعضكم بعضاً إلى أهل الجور، ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضايانا فاجعلوه بينكم، فإنّي قد جعلته قاضياً فتحاكموا إليه»(1). وسيأتي إن شاء اللّه أنّ حمل هذا الحديث على قاضي التحكيم خلاف الظاهر.


(1) وسائل الشيعة، ج 18، ص4، الباب الأول من صفات القاضي، ح 5.

42

شرائط القاضي

وأما الأمر الثاني، أعني ما هي المواصفات المشترطة في القضاء في من هو منصوب رأساً من قبل المعصومين (عليهم السلام)حسب مبنانا من ورود هذا النصب، أو في من نعلم برضا الشريعة في قضائه حسب مبنى السيّد الخوئي من عدم وصول النصب إلينا، والاستفادة من علمنا بعدم رضا الشريعة باختلال النظام.

شرط العلم

فأوّل هذه الشروط: هو العلم.

أصل اشتراط العلم

ولا إشكال في أصل اشتراط العلم بالحكم، الأعم من الواقعي والظاهري ولو بالتقليد، بضرورة من الفقه، وبآيات النهي عن اتباع غير العلم، فهي تدل على حرمة القضاء بغير العلم، وتثبت بالملازمة العرفية عدم نفوذه، وبالروايات المتظافرة:

الناهي بعضها عن القول بغير العلم، من قبيل ما عن هشام بن سالم _ بسند تام _ قال: «قلت لأبي عبداللّه (عليه السلام): ما حقّ اللّه على خلقه؟ قال: أن يقولوا ما يعلمون،

43

ويكفّوا عمّا لا يعلمون، فإذا فعلوا ذلك فقد أدّوا إلى اللّه حقّه»(1).

والناهي بعضها عن الإفتاء بغير العلم، من قبيل ما ورد بسند تام عن أبي عبيدة قال: «قال أبو جعفر (عليه السلام): من أفتى الناس بغير علم ولا هدىً من اللّه لعنته ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، ولحقه وزر من عمل بفتياه »(2)؛ والقضاء بغير علم مشتمل طبعاً على الفتيا بغير علم، وعلى القول بغير علم.

والناهي بعضها عن القضاء بغير علم، كالمرفوعة الواردة في الكافي عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «القضاة أربعة ثلاثة في النار وواحد في الجنة: رجل قضى بجور وهو يعلم فهو في النار، ورجل قضى بجور وهو لا يعلم فهو في النار، ورجل قضى بالحقّ وهو لا يعلم فهو في النار، ورجل قضى بالحقّ وهو يعلم فهو في الجنّة»(3).

والناهي بعضها عن العمل بغير العلم كما في الكافي عن عدّة من أصحابنا عن أحمد بن أبي عبداللّه قال: «في وصية المفضل بن عمر قال: سمعت أبا عبداللّه (عليه السلام) يقول: من شكّ أو ظنّ فأقام على أحدهما فقد حبط عمله؛ إنّ حجّة اللّه هي الحجّة الواضحة»(4).

اشتراط العلم الاجتهادي

ولكنّ الكلام يقع في اشتراط كون العلم علماً اجتهادياً لا تقليديّاً.

والمفهوم عرفاً من مقبولة عمر بن حنظلة: «روى حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا،


(1) وسائل الشيعة، ج 18، ص12، الباب 4 من صفات القاضي، ح 10.

(2) نفس المصدر، ص9، ح 1.

(3) نفس المصدر، ص11، ح 6.

(4) نفس المصدر، ص35، الباب 6 من صفات القاضي، ح 8.

44

وعرف أحكامنا» هو الاجتهاد والفقاهة، وهذا هو ما فهمه السائل من كلام الإمام، كما يشهد لذلك ما جاء في ذيل الحديث من قوله: «أرأيت إن كان الفقيهان عرفا حكمه...»(1)، وهو المفهوم أيضاً من التوقيع الشريف «فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا»، فإنّ مقتضى مناسبات الحكم والموضوع كون المقصود برواة الحديث حملة الحديث فهماً وعلماً بصحيحها وسقيمها، وعامّها وخاصّها، ومطلقها ومقيدها إلى غير ذلك من الجوانب، لا حملة ألفاظ الحديث كمن يحمل أسفاراً.

وهناك فرق بين المقبولة والتوقيع، وهو أنّه لو ورد ما يدل على نصبهم (عليهم السلام) لفئة أوسع من فئة الفقهاء فالتوقيع لا يعارضه؛ إذ التوقيع دلّ على ما هو أوسع من القضاء، وهو الولاية العامّة، ومن ضمنها القضاء، فلعلّ الإجتهاد شرط في هذا النصب الواسع لا في خصوص القضاء. وهذا بخلاف المقبولة الواردة في خصوص القضاء، فهي تدل بمقتضى ورودها في مقام التحديد على عدم نصب غير الفقيه للقضاء.

إلا أنّ صاحب الجواهر (رحمه الله) حاول افتراض المقبولة كالتوقيع من هذه الناحية بدعوى أنّ قوله (عليه السلام): «فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً» يدل على الحكومة، وهي الولاية العامّة، لا خصوص القضاء(2).

إلا أنّ هذا الكلام غير صحيح:

أوّلاً، لعدم تسليم كون الحكم هنا بمعنى مطلق الولاية، بل مقتضی ظاهر السياق هو النظر إلى الحكم بمعنى القضاء.

وثانياً، لأنّه لو فرض كون المقصود مطلق الولاية فهذا الحكم المطلق جاء في التعليل


(1) وسائل الشيعة، ج 18، ص76، الباب 9 من صفات القاضي، ح 1.

(2) راجع الجواهر، ج 40، ص 18.

45

الموجود في ذيل الرواية، وما قبل هذا التعليل كلام تام دالّ على جعل منصب القضاء للفقيه، ولكونه في مقام التحديد قد دلّ على عدم جعله لغير الفقيه.

وعلى أيّ حال فحتّى لو افترضنا أنّ المقبولة كالتوقيع في عدم معارضتها لما يدل على عدم اشتراط الفقاهة _ لو ورد _ فهذا الفرض لا أثر عملي له لو لم يثبت ورود ما يدل على عدم اشتراط الفقاهة؛ لأنّ المقبولة والتوقيع على أي حال لم يدلّا على أكثر من نصب الفقيه، فنصب غير الفقيه بحاجة إلى دليل، وهو مفقود.

إلا أنّ صاحب الجواهر حاول إبراز أدلة على عدم اشتراط الفقاهة، فاستشهد بأدلة ضرورة كون الحكم حكماً بالعدل بدعوى أنّ إطلاقها ينفي اشتراط الفقاهة(1)، وذلك من قبيل قوله تعالى: ﴿وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّٰاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ﴾(2) بينما من الواضح أنّ هذه الأدلّة إنّما هي بصدد بيان ما ينبغي أن يحكم به لا بصدد بيان من له حقّ الحكم.

ولعلّ أقوى هذه النصوص دلالة على مطلوبه(رحمه الله) هو رواية «القضاة أربعة» التي مضت آنفاً، وذكرها (رحمه الله) هنا بهذا الصدد، فقد يقال: إنّها قد تدل بإطلاقها على المقصود حيث جاء في ذيلها: «ورجل قضى بالحقّ وهو يعلم فهو في الجنّة» فقد يقال: إنّ قوله (عليه السلام): «فهو في الجنة» يدل بالإطلاق على أنّه في الجنّة سواء كان علمه بالحقّ عن طريق الاجتهاد أو التقليد، إلا أنّ هذا أيضاً كما ترى غير تام؛ فإنّ قوله (عليه السلام): «فهو في الجنّة» كلام حيثي يميّز الشقّ الرابع _ وهو: «من يقضي بالحقّ وهو يعلم» _ عن الشقوق الثلاثة الأُخرى من حيثية أنّ هذا اتّبع


(1) راجع الجواهر، ص 15 ـ 16.

(2) النساء: 58.

46

العلم بالحقّ بخلاف الآخرين، ولا ينظر إلى مطلق شرائط القاضي، على أنّ هذا النص ساقط سنداً.

واستدلّ (رحمه الله) أيضاً على مدّعاه برواية أبي خديجة: «إيّاكم أن يحاكم بعضكم بعضاً إلى أهل الجور، ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضايانا فاجعلوه بينكم، فإنّي قد جعلته قاضياً، فتحاكموا إليه»(1) حيث دلّ هذا الحديث على عدم اشتراط الاجتهاد وكفاية العلم ببعض القضايا.

هذا، وقد ورد متن آخر عن أبي خديجة أيضاً، غير مشتمل على تقييد العلم بالعلم ببعض القضايا؛ حيث قال: «بعثني أبو عبداللّه (عليه السلام) إلى أصحابنا فقال: قل لهم: إيّاكم إذا وقعت بينكم خصومة أو تداری في شيء من الأخذ والعطاء أن تحاكموا إلى أحد من هؤلاء الفسّاق، اجعلوا بينكم رجلاً قد عرف حلالنا وحرامنا فإنّي قد جعلته عليكم قاضياً، وإيّاكم أن يخاصم بعضكم بعضاً إلى السلطان الجائر»(2).

إلا أنّ هذا سنده ضعيف بأبي الجهم المحتمل انطباقه على ثوير بن أبي فاختة الذي لم تثبت وثاقته، ورواية ابن أبي عمير عن أبي الجهم لا تدل على وثاقة ثوير بن أبي فاختة؛ لاحتمال كون المقصود به بكير بن أعين الذي ورد أيضاً عن ابن أبي عمير الرواية عنه باسمه الصريح.

والحاصل: أنّ أبا الجهم مردّد في المقام بين من لم تثبت وثاقته وهو ثوير بن أبي فاختة ومن ثبتت وثاقته وهو بكير بن أعين الذي ثبتت وثاقته برواية ابن أبي عمير عنه. وقد يقال أيضاً بثبوت وثاقته برواية الكشّي بسند تام عن الفضل وإبراهيم ابني محمد


(1) وسائل الشيعة، ج 18، ص4، الباب الأول من صفات القاضي، ح 5.

(2) نفس المصدر، ص100، الباب 11 من صفات القاضي، ح 100.

47

الأشعريين قال: «إنّ أبا عبداللّه (عليه السلام) لمّا بلغه وفاة بكير بن أعين قال: أما واللّه لقد أنزله اللّه بين رسول اللّه وأمير المؤمنين صلوات اللّه عليهما»، أو برواية الصدوق في مشيخة الفقيه نفس المضمون عن الصادق(عليه السلام).

ويرد على الثاني إرساله.

وعلى أيّ حال فبعد الدوران بين الثقة وغير الثقة يسقط السند عن الحجّية.

هذا، مضافاً إلى وجود شبهة الإرسال في المقام؛ فإنّ سند الحديث كما يلي: «محمد ابن الحسن بإسناده عن محمد بن علي بن محبوب عن أحمد بن محمد عن الحسين ابن سعيد عن أبي الجهم عن أبي خديجة»؛ فلو حملنا الحسين بن سعيد على الحسين بن سعيد المعروف والمتعارف رواية أحمد بن محمد بن عيسى عنه، وحملنا أبا الجهم على أحد الراويين المعروفين الذين قلنا: إنّ أحدهما ثبتت وثاقته وهو بكير بن أعين، والآخر لم تثبت وثاقته وهو ثوير بن أبي فاخته جاءت شبهة الإرسال سواء فرض أنّ المقصود بأبي الجهم هو بكير أو ثوير:

أمّا بكير فهو من أصحاب الباقر والصادق (عليهماالسلام)، وقد ورد في الكتب الرجالية التصريح بموته في زمن الصادق (عليه السلام)، ومع فرض موته في زمن الصادق (عليه السلام) تستبعد رواية الحسين بن سعيد الذي هو من أصحاب الرضا والجواد والهادي (عليهم السلام) عنه.

وأمّا ثوير فهو من أصحاب الإمام زين العابدين والباقر والصادق (عليهم السلام) فتبعد حياته بعد الإمام الصادق (عليه السلام)، ولم نر رواية له من بعد الصادق (عليه السلام)، فتستبعد أيضاً رواية الحسين بن سعيد عنه.

وعلى أيّة حال فهذا الحديث بمتنه الأول لا بأس به سنداً، وسنده كما يلي: «محمد ابن علي بن الحسين، بإسناده عن أحمد بن عائذ، عن أبي خديجة سالم بن مكرم الجمّال»، وأبو خديجة سالم بن مكرم ثقة بشهادة النجاشي (رحمه الله).

48

نعم، ورد عن الشيخ الطوسي (رحمه الله) تضعيفه، ولكنّ الظاهر أنّ تضعيفه يحمل على اشتباهه بسالم بن أبي سلمة على ما يظهر من عبارته (رحمه الله) من أنّ سالم بن مكرم يكنّى أبوه بأبي سلمة، بينما الآخرون ذكروا أنّ أبا سلمة كنية لنفس سالم، ولا أقلّ من احتمال استناد تضعيف الشيخ إلى ذلك بمقدار يسقط كلامه (رحمه الله) عن الحجّيّة وصحّة الاعتماد عليه.

وأمّا دلالةً: فقد ذكر السيد الخوئي أنّ هذا راجع إلى قاضي التحكيم؛ لأنّ قوله (عليه السلام): «قد جعلته قاضياً» متفرّع على قوله (عليه السلام): «فاجعلوه بينكم»، وهو القاضي المجعول(1).

أقول: لم أعرف الفرق بين التعبير الذي جاء في هذا الحديث وهو قوله (عليه السلام): «فاجعلوه بينكم فإنّي قد جعلته قاضياً»، وقوله (عليه السلام) في المقبولة: «فليرضوا به حكماً؛ فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً».

وقد فسّر السيد الخوئي الثاني بأنّه أمرٌ بالرضا به حَكَماً وإلزامٌ بذلك، وقد علّل هذا الإلزام بأنّه قد جعله حاكماً. إذاً هذا يعني ثبوت النصب في المرتبة السابقة على الرضا به، وأنّ الرضا به واجب على هذا الأساس(2).

وعين هذا التفسير يأتي في خبر أبي خديجة حيث أمره بجعله بينهم، وهذا يعني الإلزام بجعله بينهم، وعلّل ذلك بأنّه قد جعله قاضياً، وهذا يعني ثبوت النصب في المرتبة السابقة على جعله بينهم.

اللّهم إلا أن يقال: إنّ كلمة: «اجعلوه بينكم» تعطي معنى الجعل التشريعي _ أي


(1) راجع مباني تكملة المنهاج، ج 1، ص 8.

(2) نفس المصدر ، ج 1: ص 7.

49

إعطاء الحاكمية له _ وهذه كناية عن قاضي التحكيم، إلا أنّ الظاهر أنّ المقصود من «اجعلوه بينكم» هو نفس ما يفهم من قوله: «فليرضوا به حكماً».

وكيف كان، فالأولى تفصيل الكلام بين اشتراط العلم بحكم الأئمة (عليهم السلام) في مورد القضاء مباشرةً لا تقليداً وبين اشتراط الإطلاق الفعلي في الاجتهاد.

فبالنسبة لاشتراط العلم بحكمهم (عليهم السلام) قد يستظهر من جملة: «يعلم شيئاً من قضايانا» أو «يعلم شيئاً من قضائنا» هو العلم، لا بواسطة التقليد. أمّا لو قلنا بالإطلاق، وأنّه بعد وضوح أنّه ليس المقصود بالعلم هنا العلم الوجداني وبلاواسطة من يتعبّد بكلامه _ إذ العلم بقضاياهم (عليهم السلام) كثيراً ما يكون بواسطة الأخذ التعبّدي من الرواة _ لا يبقى فرق بين أن يكون العلم بقضاياهم علماً بواسطة التعبّد بنقل الراوي، أو علماً بواسطة التعبّد بفتوى الفقيه.

أقول: لو قلنا بإلاطلاق من هذا القبيل فهذا الإطلاق وإن لم يمكن تقييده بالتوقيع؛ لأنّ التوقيع دلّ على إعطاء منصب أوسع من منصب القضاء، ومن المحتمل أن يشترط في ذلك ما لا يشترط في خصوص منصب القضاء، ولكن يمكن تقييده بمقبولة عمر بن حنظلة الواردة في خصوص القضاء، والظاهرة في كونها في مقام التحديد، وهي تدل على اشتراط الاجتهاد.

هذا، والسيد الخوئي _ الذي لم يقبل وجود نص تام سنداً ودلالةً على القاضي المنصوب، واستفاد شرعيّة القاضي المنصوب من الضرورة الاجتماعية الدالّة على الوجوب الكفائي _ اشترط الاجتهاد على أساس الاقتصار على القدر المتيقّن.

إلا أنّ هذا الطريق لإثبات اشتراط الاجتهاد قد يبتلى بإشكال: كما لو دار الأمر بين مجتهد لا يمتلك ذكاء أكثر من المقدار المتعارف في كيفيّة تمييز الصادق من الكاذب وأخذ الإقرار من الظالم، ومقلّد يتقن الأحكام عن طريق التقليد وهو يمتلك

50

ذكاءً خارقاً بهذا الصدد، فهل يفترض القضاء بيد هذا أو بيد ذاك؟ ولا قدر متيقّن هنا كي يتمسّك به، وحينئذٍ لو قلنا بأنّ الضرورة الاجتماعية الدالّة على الوجوب الكفائي بالغة مرتبةً يستنبط منها في مثل هذا الفرض أيضاً جعل حكم ظاهري بنفوذ قضاء أحدهما، فقد يطبّق هنا قانون الانسداد، ويعيّن أحدهما بالظنّ، أو يقال بالتخيير، أو يقال بوجوب التعاون فيما بينهما مع الإمكان، وإصدار حكم مشترك يتصادقان عليه.

أمّا نحن ففي فسحة عن هذا؛ لأنّنا استفدنا شرعيّة القاضي المنصوب عن طريق النص.

هل يشترط الإطلاق في الاجتهاد؟

وأمّا بالنسبة لاشتراط الإطلاق في الاستنباط الفعلي فرواية أبي خديجة لا تدل على ذلك، ولا يبعد أن يقال: إنّ مقبولة عمر بن حنظلة وإن كان مقتضى الاقتصار على حاقّ لفظها هو اشتراط الإطلاق، ولكن المفهوم عرفاً بمناسبات الحكم والموضوع أنّه كان الهدف من ذكر قوله (عليه السلام): «نظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا» هو الطريقية إلى التأكّد من معرفة حكم مورد القضاء، فلا يستفاد منها أكثر ممّا يستفاد من رواية أبي خديجة، وعلى فرض إجمالها نتمسّك بإطلاق رواية أبي خديجة.

نعم، التجزّي بمعنىً يسلب عادةً الوثوق بمعرفته بالحكم في مورد القضاء _ وهو التجزّي في أصل الوصول إلى مرتبة قوّة الاجتهاد _ لا إشكال في دلالة المقبولة على عدم كفايته، ولو فرض إطلاق في رواية أبي خديجة يقيّد بذلك.

51

هل تشترط الأعلمية؟

يبقى الكلام في اشتراط الأعلمية، ومقتضى إطلاق ما عرفته من الروايات عدم الاشتراط.

نعم، لو أخذنا بفكرة القدر المتيقّن _ التي مشى عليها السيد الخوئي في إثبات اشتراط الاجتهاد _ كان مقتضاها اشتراط الأعلمية أيضاً، وإلا فالظاهر عدم اشتراط الأعلمية، ولا يقاس ذلك بباب التقليد؛ فإنّه في باب التقليد تسقط فتوى المجتهد عند المعارضة بفتوى من هو أعلم منه عن الحجّيّة، إمّا على أساس سقوطها عن الطريقيّة، أو على أساس تعارضهما وتساقطهما بلحاظ الدليل اللفظي وتعيّن فتوى الأعلم للحجّيّة عندئذٍ بالبناء العقلائي. أمّا في باب القضاء فليس الملحوظ فيه محض الطريقيّة، بل له موضوعيّة في النفوذ لفصل النزاع حتى مع علم المحكوم عليه بالخلاف، كما سيأتي إن شاء اللّه في بحث مدى نفوذ القضاء. وليس المفروض بعد تماميّة القضاء من قبل فقيه أن يقضى مرّةً أُخرى في المورد من قبل فقيه آخر _ كما سيأتي إن شاء اللّه في البحث عن مدى نفوذ حكم القاضي _ كي يقع التعارض.

نعم، لو ترافعا في عرض واحد عند شخصين، أو اختار كلّ واحد منهما شخصاً غير الآخر وتعارضا في الحكم، فقد ورد(1) كما يأتي إن شاء اللّه الترجيح بالأعلمية وغيرها، ولكن هذا لا ربط له بشرط الأعلمية في القضاء، بل نفس تلك النصوص لعلّها ظاهرة في الفراغ عن أنّ كلّ واحد من القضائين لو كان وحده لكان نافذاً رغم أعلمية الشخص الآخر.


(1) راجع بهذا الصدد: التهذيب، ج2، ص 302_303، ح 50 إلى 52؛ وراجع: أصول الكافي، ج1، ص67_ 68، ح 10؛ وراجع: الفقيه، ج3، ص5 _ 3، الباب 9 من أبواب القضايا والأحكام؛ وراجع: وسائل الشيعة، ج 18، الباب 9 من صفات القاضي، ح 1 و 20 و 45.

52

يبقى التمسّك لإثبات اشتراط الأعلمية بقدر الإمكان بقول أمير المؤمنين (عليه السلام) في عهده إلى مالك الأشتر: «اختر للحكم بين الناس أفضل رعيّتك»(1).

والكلام يقع في ذلك سنداً ودلالةً:

سند عهد الأشتر

أمّا من حيث السند: فعهد الإمام إلى مالك الأشتر قد ذكر له سند(2) غير تام عن طريق النجاشي (رحمه الله) ولا نبحثه، وسند آخر عن طريق الشيخ (قدس سره) وهو الجدير بالبحث، وهو: «ابن أبي جيد(3) عن محمد بن الحسن عن الحميري عن هارون بن مسلم والحسن ابن طريف جميعاً عن الحسين بن علوان الكلبي عن سعد بن طريف عن الأصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين (عليه السلام).(4)

والإشكال في هذا السند يقع من عدّة وجوه:


(1) نهج البلاغة، الكتاب 53، ص 1000، بحسب الطبعة المترجمة بقلم فيض الإسلام.

(2) وهو هكذا: أخبرنا ابن الجندي عن علي بن همام عن الحميري عن هارون بن مسلم عن الحسين ابن علوان عن سعد بن طريف عن الأصبغ بالعهد. راجع معجم الرجال للسيد الخوئي، ترجمة الأصبغ ابن نباتة.

والعيب الخاصّ بهذا السند دون سند الشيخ هو:

أولاً، ابن الجندي وهو من مشايخ النجاشي.

وثانياً، علي بن همام، فإنّه لم يعرف إلا إذا صحّ حدس الشيخ محمد تقي التستري حيث قال في قاموس الرجال: «الظاهر كونه محرّفاً عن أبي علي بن همام، وهو محمد بن همام». فإن صحّ ذلك فهو ثقة، وممّا يشهد لكون الصحيح هو أبو علي بن همام رواية ابن الجندي عنه، وكذلك عدم وجود اسم علي بن همام في كتب الرجال إطلاقاً.

(3) يقصد به علي بن أحمد بن محمد ابن أبي جيّد.

(4) راجع معجم الرجال للسيد الخوئي، ص132، ترجمة الأصبغ بن نباتة في ج 4 من الطبعة الأخيرة.

53

الوجه الأول، عدم ورود توثيق لابن أبي جيد، وابن أبي جيّد ثقة عند السيد الخوئي باعتباره من مشايخ النجاشي، ولكنّنا لا نقبل هذا المبنى، فإذاً هو غير ثابت الوثاقة عندنا، ولكن يمكن التخلّص عنه في المقام على أساس نظريّة التعويض في السند، باعتبار أنّ الشيخ له سند تام إلى محمد بن الحسن بن الوليد، وكذلك إلى عبداللّه بن جعفر الحميري الواقعين في هذا السند قبل ابن أبي جيد.

نظرية التعويض في السند

وبما أنّ نظرية التعويض تنفعنا في كثير من الموارد ممّا يمكن رفع نقص السند بها لا بأس ببيانها في المقام، وأصلها من أُستاذنا الشهيد (رحمه الله).

فنقول: إنّ تعويض السند الضعيف بسند تام يمكن أن يتمّ على عدّة أشكال:

الشكل الأول للتعويض: هو الاعتماد على مثل ما جاء كثيراً في كلام الشيخ الطوسي (رحمه الله) في ترجمته للرجال في فهرسته من عبارة: أخبرني بجميع كتبه ورواياته فلان عن فلان.

فإذا وجدنا عن الشيخ (رحمه الله) روايةً وكان في سندها رجل ضعيف، أو غير ثابت التوثيق، وكان قبل ذاك الرجل من الطرف الذي يقرب إلى الإمام ثقة، وكان الشيخ قد ذكر في فهرسته بشأن ذاك الثقة عبارة: أخبرني بجميع كتبه ورواياته فلان عن فلان، وكان السند الوارد في هذه العبارة تامّاً، فمن حقّنا أن نبدّل القطعة الأُولى من السند الواقعة بين الشيخ وذاك الثقة والتي فيها ذاك الإنسان غير ثابت التوثيق بالسند الذي ذكره الشيخ في تلك العبارة في الفهرست.

ومدى تماميّة هذا الذي ذكرناه أو عدمها يرتبط بما نفهمه من معنى قوله: «أخبرنا بجميع كتبه ورواياته» ففي ذاك عدّة احتمالات:

54

الأول، أن يكون المقصود بذلك كلّ ما لذاك الثقة من كتب وروايات في علم اللّه، وعندئذٍ يتمّ هذا الوجه الذي شرحناه للتعويض؛ إذ لو لم يكن قد وصل هذا الحديث إلى الشيخ عن الطريق الذي ذكره في الفهرست بقوله: أخبرنا بجميع كتبه ورواياته فلان عن فلان، لكان يعلم الشيخ بكذب هذا الحديث؛ إذ لو كان صادراً عنه حقّاً لكان قد وصل إليه بهذا الطريق حسب ما تدل عليه تلك العبارة، ولو كان يعلم الشيخ بكذبه لما رواه.

إلا أنّ هذا الاحتمال في ذاته واضح البطلان؛ إذ لا سبيل للشيخ عادةً إلى الإحاطة بكلّ روايات هذا الشخص بنحو يقطع بأنّه لا رواية له غير هذه الروايات التي وصلت إليه عن طريق هذا السند.

الثاني، أن يكون المقصود بذلك كلّ ما نُسبت إلى ذاك الثقة من كتب وروايات، وهذا أيضاً في البطلان كالأوّل، فلا سبيل للشيخ عادةً إلى الإحاطة بكلّ ما نسبت إلى ذاك الثقة من كتب وروايات بحيث ينفي أن يكون قد نسبت إليه رواية إلا وقد وصلت إليه بذاك الطريق.

ولو تمّ هذا الوجه ثبت المقصود؛ لأنّ الرواية التي نحن بصدد تصحيح سندها قد نسبت إليه قطعاً، فهي داخلة في هذا العموم.

الثالث، أن يكون المقصود بذلك جميع ما رواه الشيخ عنه من كتب وروايات، وهذا احتمال معقول، وبناءً على هذا الاحتمال يثبت المقصود أيضاً؛ لأنّ هذه الرواية ممّا رواها الشيخ حسب الفرض.

الرابع، أن يكون المقصود بذلك جميع ما وصل إلى الشيخ عنه من كتب وروايات، وهذا الاحتمال كسابقه في المعقولية، وفي ثبوت المقصود بناءً عليه؛ لأنّ هذه الرواية قد وصلت إلى الشيخ حسب الفرض؛ إلا أنّه يختلف عن سابقه في أنّنا لو وجدنا

55

كتاباً في مكتبة الشيخ لهذا الثقة بحيث عرفنا أنّه واصل إلى الشيخ، ولكن لم نعرف أنّه رواه عنه، أمكن تصحيح سند هذا الكتاب بهذا الوجه، بخلافه على الاحتمال الثالث. وعلى أيّ حال، فهذه الثمرة في زماننا غير متحقّقة على أيّ حال، فالاحتمالان عملاً متساويان في النتيجة.

الخامس، أن يكون المقصود بذلك جميع ما اعتقد الشيخ وجداناً أو تعبّداً أنّه صادر عن هذا الثقة من كتاب أو رواية، وبناءً على هذا الاحتمال لا يثبت المقصود في المقام؛ إذ اعتقاد الشيخ وجداناً أو تعبّداً بأنّ الرواية المبحوث عنها صادرة عنه أوّل الكلام، فيصبح التمسّك بقوله: «أخبرنا بجميع كتبه ورواياته...» تمسّكاً بالعامّ في الشبهة المصداقيّة.

إلا أنّ هذا الاحتمال في ذاته خلاف الظاهر كما ذكره أُستاذنا الشهيد (رحمه الله)؛ لأنّ ظاهر قوله: «أخبرنا بجميع كتبه ورواياته...» هو أنّه يتكلّم بما هو راوٍ ومحدّث، لا بما هو مجتهد في الأحاديث يحكم بثبوت هذا الحديث عنه وجداناً أو تعبّداً، ولأنّ هدف الشيخ (رحمه الله) من هذه العبارة تزويدنا بسند إلى تلك الكتب والروايات، بينما لو كان المقصود هو أنّ هذا سند لكلّ ما يعتقد هو أنّه لفلان ففي الحقيقة لم يزوّدنا بسند إطلاقاً؛ إذ ما يدرينا أنّ الرواية الفلانيّة داخلة في ما يعتقد الشيخ بصدوره عن فلان أو لا؟!

وأُستاذنا الشهيد (رحمه الله) لم يتعرّض للاحتمال الثالث، وباستبعاد الاحتمال الخامس عيّن الاحتمال الرابع. وعلى أيّ حال فقد عرفت أنّه لا ثمرة عمليّة فعلاً بين الاحتمال الثالث والرابع، وما دمنا قد استبعدنا الاحتمال الخامس فالمقصود ثابت على أيّ حال.

يبقى الكلام في أنّ الشيخ كثيراً مّا ينقل في كتابيه روايةً عن كتاب مسقطاً ما

56

لديه من سند إلى صاحب ذاك الكتاب، وتعرّض في آخر الكتابين إلى ذكر السند لغالب ما حذف أسانيده إليه، وحينئذٍ قد يفترض أنّ الرجل غير ثابت التوثيق وقع ضمن ذاك السند، والرجل ثابت التوثيق _ الذي كان للشيخ في فهرسته سند تام إلى جميع كتبه ورواياته _ عبارة عن نفس صاحب الكتاب أو عن شخص آخر أقرب إلى الشيخ من صاحب الكتاب، وهنا لا إشكال في التعويض، وأُخرى يفترض أنّ الرجل الثقة _ الذي كان للشيخ سند تام إلى جميع كتبه ورواياته _ وقع قبل صاحب الكتاب _ أي كان أقرب إلى الإمام سواء كان الشخص غير ثابت التوثيق قبل صاحب الكتاب أو بعده _ فهنا هل نطبّق عليه نظرية التعويض أو لا؟ قد يقال بعدم الفرق بين الفرضين تمسّكاً بإطلاق قوله: «أخبرنا بكتبه ورواياته».

ولكن الظاهر عندي هو التفصيل بين الفرضين، فنحن إنّما نقبل بنظريّة التعويض هذه حينما يكون ذاك الثقة _ الذي كان للشيخ إلى جميع رواياته سند تام _ عبارة عن نفس صاحب الكتاب الذي روى الشيخ الحديث عن كتابه، أو من كان واقعاً في السند الذي يوصل الشيخ بذلك الكتاب. أمّا إذا كان بين الإمام وصاحب الكتاب فلا نطبّق عليه هذا القانون، وهذا الكلام ينشأ من فهمنا لكلمة «رواياته» في قوله: «أخبرنا بكتبه ورواياته»، أو قوله: «أخبرنا برواياته».

توضيح ذلك: أنّه يحتمل في كلمة «رواياته» أمران:

الأول، أن يشمل الروايات الشفهيّة، فكأنّه حينما قال: «أخبرنا بكتبه ورواياته» قصد بذلك أنّه أخبرنا بما رواه في كتبه وبما رواه من كتب الآخرين وكتاباتهم وبما رواه من روايات شفهيّة فلان عن فلان، وبناءً على هذا الاحتمال يتمّ ما مضى من بطلان الاحتمال الأول من الاحتمالات الخمسة، وهو إرادة واقع الكتب والروايات؛ لما قلنا من أنّه لا سبيل للشيخ إلى الإحاطة بكلّ رواياته بنحو يقطع أنّه لم يروِ أيّ رواية

57

أُخرى غير واصلة إلى الشخص بذاك السند، ويتمّ أيضاً التمسّك بإطلاق جملة «أخبرنا بكتبه ورواياته»، أو جملة «أخبرنا برواياته» لإثبات عدم الفرق بين ما لو وقع الثقة _ الذي للشيخ إليه سند تام _ بين الشيخ وصاحب الكتاب، أو بين الإمام وصاحب الكتاب، إلا أنّ هذا الاحتمال بعيد غاية البعد، فإنّ الشيخ (رحمه الله) قد تكرّرت منه كثيراً هذه الجملة، وبشأن كثيرين ممّن يكون الفاصل بينه وبين الشيخ متعدّداً، ورواياته الشفهية كثيرة ومتناثرة وواصلة إلى الشيخ ضمن كتب المتأخّرين عنه، وعادةً لا يمكن للشيخ الشهادة بوصول كلّ رواياته _ الواقعية أو الواصلة إلى الشيخ أو التي يرويها الشيخ _ بالسند الذي يذكره، وإنّما الشيء المعقول هو الاحتمال الثاني.

الثاني، أن يكون المقصود بـ «رواياته» رواياته لكُتب الآخرين وكتاباتهم ، أو لكتبه هو والآخرين دون رواياته(1) الشفهية، وهذا ممّا يمكن الإحاطة به، فكان من المتعارف وقتئذٍ إخبار شيخ الإجازة لمن يروي عنه بجميع ما يرويه من كتب مؤلّفة لنفسه أو لغيره قراءةً عليه أو سماعاً منه أو إجازةً.

وبناءً على هذا الاحتمال قد يبطل ما ذكرناه في إبطال الاحتمال الأول من الاحتمالات الخمسة من أنّ الشيخ لا يستطيع أن يحصر كلّ روايات هذا الثقة في علم اللّه فيما وصل إليه بهذا السند؛ إذ هذا الحصر بالنسبة للكتب والمؤلّفات المرويّة أمر معقول، إلا أنّ الصحيح مع ذلك أنّ التتبّع في فهرست الشيخ ورجال النجاشي يشرف المتتبّع على القطع ببطلان الاحتمال الأول؛ إذ كثيراً ما يذكر أحدهما راوياً ذا كتب كثيرة، ويعدّد منها ما هو أقلّ من عدد الكتب، ممّا يوحي أنّه لم يصل إليه بما


(1) أو يشمل طائفة من رواياته الشفهية، وهي التي أعطاها بالسند الفلاني الوارد في الفهرست، لا مطلق رواياته الشفهية.

58

لديه من أسانيد كلّ الكتب، ومع ذلك يقول: «أخبرنا بكتبه _ أو بجميع كتبه _ فلان عن فلان»، وتوجد أحياناً بعض القرائن الواضحة على عدم وصول كلّ الكتب إليه، كقول النجاشي في علي بن الحسن بن فضّال: «وقد صنّف كتباً كثيرة منها ما وقع إلينا: كتاب الوضوء، كتاب الحيض...»، وكقول الشيخ بشأن يونس بن عبدالرحمن: «له كتب كثيرة أكثر من ثلاثين كتاباً، وقيل: إنّها مثل كتب الحسين بن سعيد وزيادة» ثم يعدّد بعضها ثم يقول: «أخبرنا بجميع كتبه ورواياته...»، ومن الواضح أنّه لو كان وصل إليه كلّ الكتب لما قال: «قيل: إنّها مثل كتب الحسين بن سعيد وزيادة»، وكقول الشيخ بشأن علي بن الحسن بن فضّال: «قيل: إنّها _ يعني كتبه _ ثلاثون كتاباً: منها كتاب الطبّ، كتاب فضل الكوفة...».

وعلى أيّة حال، فبناءً على هذا الاحتمال _ وهو الذي نستظهره _ يتّضح الفصل بين ما لو كان ذاك الثقة _ الذي كان للشيخ إلى كتبه ورواياته سند تام _ واقعاً بين الشيخ والكتاب الذي روى الحديث عنه، أو بين الكتاب والإمام، ففي الأول يمكن تطبيق نظريّة التعويض وفي الثاني لا يمكن ذلك؛ إذ لم يثبت لنا أنّ هذا الحديث وارد في كتاب من الكتب التي يرويها هذا الثقة، فلعلّه كان رواية شفهية.

هذا. ولا أقلّ من الإجمال، وهو يكفينا لعدم تسرية قاعدة التعويض إلى ما إذا كان ذاك الثقة بين الكتاب والإمام، ولا إلى ما إذا كان الخبر بكلّ تسلسله شفهيّاً.

ومن هنا يظهر أنّ تطبيق هذه النظريّة على عهد الإمام إلى مالك الأشتر في ما لو فرضنا أو احتملنا أنّ الرواة الواقعين في سند الشيخ من ابن أبي جيد إلى الحميري إنّما تناقلوه شفةً عن شفة غير صحيح.

نعم، بناءً على دعوى الاطمئنان بأنّ العهد كان مكتوباً وموروثاً على شكل الكتاب وكان فيما نقله _ من الكتب والكتابات _ الحميري لابن الوليد، أو ابن الوليد

59

لابن أبي جيد، صحّ التعويض في المقام.

وقبل أن ننتقل إلى الشكل الثاني من أشكال التعويض ينبغي أن نذكر أمرين:

أحدهما، أنّ الشيخ (رحمه الله) عبّر بشأن بعض الرواة بقوله: أخبرني بكتبه ورواياته فلان عن فلان، وبشأن بعض الرواة بقوله: أخبرني برواياته فلان عن فلان، كما هو الحال فيما نحن فيه على بعض النسخ، حيث عبّر فيه بشأن ابن الوليد بالتعبير الثاني، وكذلك بشأن الحميري في نسخة القهبائي، وبشأن بعض الرواة بقوله: «أخبرني بكتبه» من دون عطف كلمة (رواياته)، ولا إشكال في صحّة تطبيق نظريّة التعويض في مورد التعبير الأول والثاني، ولكن قد يناقش في مورد التعبير الثالث، باحتمال كون المقصود من الإخبار بكتبه الإخبار بعناوين الكتب وأسمائها مثلاً، لا بواقعها.

نعم، لو كان قد عطف كلمة (رواياته) على كلمة (كتبه) لأمكن أن يقال بمقتضى وحدة السياق: إنّ الكتب بالمعنى الذي يعطف عليه الروايات، إنّما هو واقع الكتب لا عناوينها، ولكن المفروض عدم العطف؛ إلا أنّ مراجعة فهرست الشيخ وتتبّع موارد استعمال الشيخ (رحمه الله) لهذه الجملة لا تدع مجالاً للشكّ في أنّ مقصود الشيخ (رحمه الله) من الكتب هو واقع الكتب، وأنّ هدفه هو تقديم سند للكتب، لا مجرّد تثبيت الأسماء والعناوين.

هذا، مضافاً إلى أنّ تحويل الشيخ في المشيختين على فهارس الأصحاب، وفي إحداهما على فهرسته هو _ على ما سيأتي _ دليل على أنّهم في الفهارس كانوا يقصدون ذكر السند دون عدّ الكتب فحسب، فحينئذٍ لا بأس بتطبيق نظرية التعويض في المورد.

نعم، لا يمكن عندئذٍ تطبيق النظرية إلا حينما يكون سند الشيخ في فهرسته إلى نفس الكتاب الذي روى عنه الرواية. أمّا لو كان سنده إلى ثقة آخر بين الضعيف

60

وصاحب الكتاب مثلاً فلا يمكن التعويض؛ لأنّ المفروض أنّ سند الشيخ في فهرسته إنّما هو سند إلى كتبه فقط، لا إلى كتبه ورواياته، والمفروض أنّ هذه الرواية غير مأخوذة من كتاب هذا الثقة.

الثاني، أنّ هذا الشكل من التعويض كما يمكن تطبيقه على القطعة الأُولى من السند من زمن الشيخ _ كما شرحناه _ يمكن تطبيقه على القطعة الثانية من السند، وذلك فيما لو وقع بعد ذاك الضعيف _ أي أقرب إلى الشيخ مثلاً _ ثقة، وفرض أنّ ذاك الثقة كان له كتاب فيه فهرست لمشايخه وإجازاته، ويكون له طريق إلى جميع كتب وروايات ثقة وقع بعد ذاك الضعيف، أو إلى الإمام رأساً؛ بأن يكون له طريق صحيح لجميع ما وصل إليه من الإمام مثلاً. وهذه فرضيّة ذكرها أُستاذنا الشهيد (رحمه الله) في المقام، وهي صحيحة في حدّ ذاتها وإن كان المظنون عدم العثور على مورد له معروفٍ لدينا.

الشكل الثاني للتعويض: هو عبارة عن تعويض سند الشيخ مثلاً إلى صاحب كتاب في رواية ينقلها عن ذاك الكتاب، بسند النجاشي مثلاً إلى ذاك الكتاب ضمن شروط ثلاثة. ونوضّح ذلك عبر مثال.

فنقول: إنّنا نفترض أنّ الشيخ روى حديثاً عن علي بن الحسن بن فضّال، وسند الشيخ إلى علي بن الحسن بن فضّال فيه ضعف، وللنجاشي سند تام إلى علي بن الحسن بن فضّال، فنعوّض سند الشيخ بسند النجاشي ضمن شروط:

الشرط الأول، أن يكون الراوي المباشر للشيخ ثقةً.

والشرط الثاني، أن يكون النجاشي مالكاً أيضاً لنفس السند الذي ملكه الشيخ وهو السند الضعيف، ويمتلك إضافة إلى ذلك سنداً صحيحاً.

والشرط الثالث، أن يكون النجاشي والشيخ لم يكتفيا بالقول بنحو الإجمال: أخبرنا بجميع كتبه فلان عن فلان، بل صرّحا باسم الكتب، ورأينا أن الكتب التي سمّاها

61

الشيخ قد سمّاها النجاشي أيضاً. فعند استكمال هذه الشروط يصحّ الاستبدال، وذلك لأنّ ظاهر كلام النجاشي الذي ذكر طريقين إلى كتب علي بن الحسن بن فضّال أنّ تلك الكتب نقلت له بالطريقين بنقلين متماثلين في النسخة، وإنّما الفرق بينهما في السند لا في المتن، ولا يحتمل عقلائيّاً أنّ النسخة التي نقلت له بالطريق الضعيف تختلف عن النسخة التي وصلت إلى الشيخ بعين ذاك الطريق، فإنّ المفروض أنّ من وقع بعد الشيخ مباشرةً ثقة، فلا يحتمل أنّه أعطى نسخة إلى أحدهما وأعطى كذباً نسخة أُخرى إلى الآخر، كما لا يحتمل عقلائيّاً أنّ ذاك الثقة كانت لديه نسختان مختلفتان من ذلك الكتاب لا يدري أيّهما حقّ، وغفل ولم ينبّه الشيخ ولا النجاشي إلى اختلاف النسختين، أو لم ينتبه هو إلى ذلك رغم ما كان متعارفاً عندهم من التدقيق في متون الأخبار.

هذا، والشرط الثاني من الشروط الثلاثة قد يمكن التنازل عنه والاكتفاء بأن يكون للنجاشي إضافة إلى السند التامّ سند آخر يبتدئ بذلك الثقة المباشر للشيخ، أو أن يكون الشخص المباشر للنجاشي في سنده التامّ هو نفس الثقة المباشر للشيخ بلا حاجة أصلاً إلى أن يكون للنجاشي سندان، وذلك على أساس استبعاد عدم إشارة هذا الثقة _ على أيّ حال _ إلى وجود نسختين مختلفتين لو كانتا.

وهذا الفرض الأخير _ أعني وجود سند صحيح للنجاشي يبتدئ بالثقة المباشر للشيخ _ يرجع أيضاً إلى ما ذكرناه أخيراً في الشكل الأول للتعويض من تطبيقه على القطعة الثانية من السند.

ثم المثال الذي ذكرناه هو مثال واقعي إلى حدّ، وليس مثالاً خياليّاً بحتاً؛ فإنّ سند الشيخ (رحمه الله) إلى علي بن الحسن بن فضّال ضعيف بابن الزبير، فإنّ سنده إليه عبارة عن: «أحمد بن عبدون عن علي بن محمد بن الزبير عن علي بن الحسن ابن فضّال»،

62

وللنجاشي إليه إضافةً إلى هذا السند سند آخر وهو: «محمد بن جعفر في آخرين عن أحمد بن محمد بن سعيد عن علي بن الحسن». ومحمد بن جعفر وإن لم يكن ثابت التوثيق إلا بناءً على وثاقة كلّ مشايخ النجاشي ولا نقول به، ولكن لا يبعد أن يقال: إنّ كونه شيخاً للنجاشي منضمّاً إلى أنّه ليس الناقل الوحيد، بل نقل في آخرين _ على حدّ تعبير النجاشي _ يكفي في إيجاد الوثوق والاطمئنان، فإنّ الراوي في الحقيقة عبارة عن عدّة من مشايخ النجاشي، ولا نحتمل عادة كذبهم جميعاً.

نعم، قد توجد عدّة نقاط ضعف في هذا المثال:

الأُولى، تخلّف الشرط الثالث في كتاب واحد، فإنّ الكتب التي ذكرها الشيخ (رحمه الله) ذكرها جميعاً النجاشي ولو بفرقٍ ما نادراً في الاسم، كتعبير الشيخ باسم «كتاب أخبار بني إسرائيل»، وتعبير النجاشي باسم «كتاب عجايب بني إسرائيل» ما عدا كتاب واحد وهو: «كتاب صفات النبي (صلى الله عليه و آله)»، حيث لم يأتِ هذا الاسم في الكتب التي عدّها النجاشي، ولكن النجاشي عدّ كتباً عديدة ممّا لم يعدّه الشيخ (رحمه الله)، ومنها: «كتاب وفاة النبي (صلى الله عليه و آله)»، فيأتي احتمال أنّ هذا هو عين «كتاب صفات النبي (صلى الله عليه و آله)»، وإنّما وقع خطأ عند أحدهما، فبدّلت كلمة الوفاة بكلمة الصفات، أو بالعكس، واحتمال أنّ ذاك الكتاب مشتمل على صفات النبي (صلى الله عليه و آله) ووفاته معاً فسمّي هنا باسم وفاة النبي (صلى الله عليه و آله)، وهناك باسم صفات النبي (صلى الله عليه و آله). وعلى أيّ حال فيمكن التغاضي عن هذه النقطة من الضعف في المقام؛ لأنّ الشرط لم يتخلّف إلا في كتاب واحد من كتب كثيرة، والتخلّف أيضاً احتمالي، وليس جزميّاً كما عرفت، وعندئذٍ يصبح احتمال كون الحديث الذي نريد تصحيح سنده قد أخذه الشيخ من كتاب غير مشمول لسند النجاشي ضعيفاً إلى حدّ يطمأنّ بعدمه، خاصّة حينما لا تكون الرواية واردة بشأن صفات النبي (صلى الله عليه و آله).