116

الخمر إلى النهي عن الأوثان _ وجعلُهما معاً رِجْساً من عمل الشيطان في قوله تعالى: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصٰابُ وَالْأَزْلاٰمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الْشَّيْطٰانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾(1) _ دليلٌ كافٍ على الوعيد بالعذاب والنار، وكون شربه معصية كبيرة، ولعلّه إلى هذا أشار ما جاء في حديث عبدالعظيم الحسني (رحمه الله) التامّ سنداً عن أبي جعفر الثاني (عليه السلام) عن أبيه (عليه السلام) عن أبيه موسى (عليه السلام) عن الإمام الصادق (عليه السلام) في تعداد الكبائر من قوله: «وشرب الخمر لأنّ اللّه (عزوجل) نهى عنها كما نهى عن عبادة الأوثان»(2).

وقد يقال: إنّ نفس حديث عبدالعظيم الحسني يشهد لعدم كون المقياس في فهم الكبائر في قوله تعالى: ﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبٰائِرَ مٰا تُنْهَوْنَ عَنْهُ﴾ خصوص الوعيد بالنار في القرآن الكريم؛ حيث جاء فيه في تعداد الكبائر: «وترك الصلاة متعمّداً، أو شيئاً مما فرض اللّه (عزوجل)؛ لأنّ رسول اللّه (صلى الله عليه و آله) قال: من ترك الصلاة متعمّداً فقد بَرِئ من ذمّة اللّه وذمّة رسوله»، فتراه استدلّ على كون ترك الصلاة كبيرة بالسنّة لا بالوعيد بالنار في القران. هذا بناءً على دعوى أنّ هذا الحديث وإن كان وارداً بشأن آية أُخرى، ولكن يفترض أنّ معنى الكبائر في الآيتين واحد.

ويمكن الجواب على ذلك على ضوء ما شرحناه من الفهم العرفي لجعل المقياس هو الوعيد بالنار؛ بأنّه لا فرق في الدلالة على روح المطلب الذي أشرنا إليه _ من كون الغرض مهمّاً إلى مستوى لا يكتفي المولى بأمره المولوي، بل يوعد العذاب على تقدير المخالفة _ بين أن تدلّ آية قرآنيّة على ذلك أو يدل نصّ الرسول (صلى الله عليه و آله)، أو الإمام (عليه السلام)


(1) المائدة: 90.

(2) وسائل الشيعة، ج 11، ص253، الباب 46، أبواب جهاد النفس، ح2.

117

على ذلك؛ فالاستشهاد بنصّ الرسول (صلى الله عليه و آله) على أنّ تارك الصلاة بريء من ذمّة اللّه ورسوله صحيح، وهذا لا ينافي ما نفهمه من روايات ما أوعد اللّه عليه النار التي قلنا إنّ ظاهرها إرادة الوعيد في الكتاب، فنحن نفهم منها أنّه ما من معصية كبيرة إلا وهي مذكورة في القرآن، ولو كانت مذكورة في السنّة أيضاً. ومن الواضح دلالة القرآن على كون ترك الصلاة كبيرة؛ حيث جعله سبباً من أسباب السلوك في سقر في قوله تعالی:﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمٰا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلّا أَصْحٰابَ الْيَمِينِ * فِي جَنّٰاتٍ يَتَسٰاءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مٰا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قٰالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ *وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ *وَكُنّٰا نَخُوضُ مَعَ الْخٰائِضِينَ *وَكُنّٰا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتّٰى أَتٰانَا الْيَقِينُ *فَمٰا تَنْفَعُهُمْ شَفٰاعَةُ الشّٰافِعِينَ﴾(1).

وقد يورد على جعل المقياس الوعيد بالنار _ سواء خصّ ذلك بالكتاب أو لم يخصّ _ بأحد إيرادين:

الأول، أنّه ما من معصية إلا وقد ورد عليها الوعيد بالنار في القرآن. قال اللّه تعالى:

﴿وَمَنْ يَعْصِ اللّٰهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نٰاراً خٰالِداً فِيهٰا وَلَهُ عَذٰابٌ مُهِينٌ﴾(2).

وقال تعالى: ﴿بَلىٰ مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحٰاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولٰئِكَ أَصْحٰابُ النّٰارِ هُمْ فِيهٰا خٰالِدُونَ﴾(3).

وقال تعالى: ﴿قٰالَ اخْرُجْ مِنْهٰا مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ


(1) المدثر: 38 _ 48.

(2) النساء: 14.

(3) البقرة: 81.

118

مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ﴾(1).

وقال تعالى: ﴿قٰالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ * لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ﴾(2).

والواقع: أنّ هذا الإشكال لو تم لكان إشكالاً على أصل تقسيم المعاصي إلى الكبائر والصغائر، والوعد الجزمي بالعفو عن الصغائر على تقدير ترك الكبائر؛ لانّ الوعيد بالنار لا يجتمع عرفاً مع الوعد الجزمي بالعفو غير المعلّق على التوبة.

ومن الواضح أنّ المقصود بهذه الآيات ليس من يرتكب الصغيرة، بل ولا من يرتكب الكبيرة، فليس مجرّد ارتكاب كبيرةٍ موجباً للخلود، أو سبباً لمل‏ءِ جهنّم به، وإنّما تنظر هذه الآيات إلى الملحدين والمنافقين والأشقياء والمستهترين بالمعاصي وأمثالهم.

الثاني، أنّ هناك روايات عديدة وردت في حصر الكبائر في عدد قليل كسبع، أو خمس، أو تسع، أو عشر؛ بينما لو كانت الكبائر عبارة عمّا أوعد اللّه عليه النار، فهي كثيرة وغير منحصرة في عدد قليل، ولعلّ المنصرف من كلمة الكبائر في الروايات هو المعنى المقصود في قوله تعالى: ﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبٰائِرَ مٰا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئٰاتِكُمْ﴾. فليس المقصود من الكبائر في هذه الروايات معنىً آخر غير المعنى المبحوث عنه.

والواقع: أنّ هذا ينبغي أن يكون إشكالاً على تلك الروايات، ويفحص عن جوابه، لا أن يكون إشكالاً على المقياس الماضي للكبائر وهو الوعيد بالنار؛ وذلك لأنّ الوعد


(1) الأعراف: 18.

(2) ص: 84 _ 85.

119

الجزمي بالمغفرة على تقدير ترك قسم من الذنوب، وغير المعلّق على التوبة لا يجتمع عرفاً مع الوعيد بالنار؛ إذاً فكلّ ما أوعد اللّه عليه بالنار ينبغي أن يكون داخلاً في المكفِّرات _ بالكسر _ «أي ما يكون تركه مكفِّراً» لا المكفَّرات _ بالفتح _ وإذا شككنا في صحّة هذا المقياس ينبغي أن يكون ذلك على أساس احتمال كون دائرة الكبائر أوسع من دائرة ما أوعد عليه النار، لا على أساس احتمال كونها أضيق منها.

إذاً فينبغي حمل هذه الروايات على بيان أكبر الكبائر، لا الكبائر بالمعنى الوارد في القرآن الكريم؛ فإنّ الكبيرة عنوان نسبي ومشكّك، فيمكن أن تحصر بمستوىً معيّن وببعض معانيها ودرجاتها في عدد قليل، كما يمكن أن توسّع ببعض الدرجات.

وممّا يجلب النظر أنّ الروايات الحاصرة للكبائر في عدد قليل لم ترد غالبيّتها بعنوان تفسير الآية إلا بمجرد دعوى الانصراف إلى إرادة المعنى المذكور في الآية. نعم قد يدّعى في بعضها القرينة على النظر إلى الآية الكريمة، وهي غير تامّة السند، بينما الروايات السابقة _ المفسِّرة للكبيرة بأنّها ما أوعد اللّه عليه النار _ جملة منها كانت صريحة في تفسير الآية، وفيها ما هو تام السند.

هذا؛ وبعض روايات الحصر في عدد قليل مشتمل على ما يشهد لهذا الجمع الذي أشرنا إليه _ من حمل تلك الروايات على إرادة أكبر الكبائر، لا على إرادة الكبيرة بمعنى الذنوب المكفِّرة _ والروايات كما يلي:

1_ ما ورد _ بسند تام _ عن ابن محبوب، قال: «كتب معي بعض أصحابنا إلى أبي الحسن (عليه السلام) يسأله عن الكبائر كم هي؟ وما هي؟ فكتب: الكبائر من اجتنب ما وعد اللّه عليه النار كفّر عنه سيّئاته إذا كان مؤمناً، والسبع الموجبات: قتل النفس الحرام، وعقوق الوالدين، وأكل الربا، والتعرُّب بعد الهجرة، وقذف المحصنة، وأكل

120

مال اليتيم، والفرار من الزحف»(1). وقد مضى منّا ذكر هذا الحديث في عداد أحاديث تفسير الكبيرة بما أوعد اللّه عليه النار، وهذا الحديث _ كما ترى _ فيه دلالةً على ما ذكرنا من أنّ السبع هي عدد من المعاصي أكبر من سائر الذنوب، لا أنّ الكبائر المشار إليها في الآية الشريفة محصورة في هذا العدد؛ فإنّ هذا الحديث _ كما ترى _ قد جمع بين ذكر ذاك المقياس في صدر الحديث _ وهو ما أوعد عليه النار _ وذكر العدد السبع من المعاصي.

2_ ما عن عبيد بن زرارة _ بسند تام _ قال: «سألت أبا عبداللّه (عليه السلام) عن الكبائر، فقال: هنّ في كتاب علي (عليه السلام) سبع: الكفر باللّه، وقتل النفس، وعقوق الوالدين، وأكل الربا بعد البيّنة، وأكل مال اليتيم ظلماً، والفرار من الزحف، والتعرّب بعد الهجرة. قال: فقلت هذا أكبر المعاصي؟ فقال: نعم، قلت: فأكل الدرهم من مال اليتيم ظلماً أكبر، أم ترك الصلاة؟ قال: ترك الصلاة. قلت فما عددت ترك الصلاة في الكبائر، قال: أيّ شيء أوّل ما قلت لك؟ قلت: الكفر، قال: فإنّ تارك الصلاة كافر؛ يعني من غير علّة»(2).

3_ ما عن محمد بن مسلم _ بسند تام _ عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «الكبائر سبع: قتل المؤمن متعمّداً، وقذف المحصنة، والفرار من الزحف، والتعرّب بعد الهجرة، وأكل مال اليتيم ظلماً، وأكل الربا بعد البيّنة، وكلّ ما أوجب اللّه عليه النار»(3). وما في هذا الحديث من عدّ عنوان ما أوجب اللّه عليه النار في عداد الكبائر السبع شاهد لما ذكرناه من الجمع.


(1) وسائل الشيعة، ج 11، ص252، الباب 46 من جهاد النفس، ح 1.

(2) نفس المصدر، ص254، ح 4.

(3) نفس المصدر، ص 254، ح 6.

121

4_ ما عن مسعدة بن صدقة قال: «سمعت أبا عبداللّه (عليه السلام) يقول: الكبائر: القنوط من رحمة اللّه، واليأس من رَوْح اللّه، والأمن من مكر اللّه، وقتل النفس التي حرّم اللّه، وعقوق الوالدين، وأكل مال اليتيم ظلماً، وأكل الربا بعد البيّنة، والتعرُّب بعد الهجرة، وقذف المحصنة، والفرار بعد الزحف» الحديث(1). والسند غير تام.

5_ ما عن أبي بصير _ بسند غير تام _ عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «سمعته يقول: الكبائر سبعة: منها قتل النفس متعمداً، الشرك باللّه العظيم، وقذف المحصنة، وأكل الربا بعد البيّنة، والفرار من الزحف، والتعرُّب بعد الهجرة، وعقوق الوالدين، وأكل مال اليتيم ظلماً. قال: والتعرّب والشرك واحد»(2). وقوله: «سبعة، منها» دليل عدم الحصر، وشاهد للجمع الذي ذكرناه، إلا إذا افترضنا أنّ الضمير في «منها» يرجع إلى نفس كلمة سبعة.

6_ ما عن أبي هريرة أنّ رسول اللّه (صلى الله عليه و آله) قال: «إجتنبوا السبع الموبقات. قيل: وما هنّ؟ قال: الشرك باللّه، والسِّحر، وقتل النفس التي حرّم اللّه إلا بالحقّ، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولّي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات»(3). وهو ساقط سنداً. ويلحظ أنّ الرواية لا إشارة فيها إلى الحصر، ولم تعبّر بالكبائر كي توحي إلى أنّها تفسّر الكبائر بمعناها الوارد في الآية المباركة، وإنّما قالت: اجتنبوا السبع الموبقات.

7_ ما عن أبي الصامت عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «أكبر الكبائر سبع: الشرك باللّه العظيم، وقتل النفس التي حرّم اللّه إلا بالحقّ، وأكل أموال اليتامى، وعقوق الوالدين،


(1) نفس المصدر، ص256، ح 13.

(2) نفس المصدر، ح 16.

(3) نفس المصدر، ص261، ح 34.

122

وقذف المحصنات، والفرار من الزحف، وإنكار ما أنزل اللّه (عزوجل): فأمّا الشرك باللّه العظيم، فقد بلغكم ما أنزل اللّه فينا وما قال رسول اللّه (صلى الله عليه و آله) فردّوه على اللّه وعلى رسوله، وأمّا قتل النفس الحرام، فقد قُتل الحسين (عليه السلام) (فقتل الحسين (عليه السلام) _ خ ل _) وأصحابه، وأمّا أموال اليتامى فقد ظُلمنا فيئَنا وذهبوا به، وأمّا عقوق الوالدين فإنّ اللّه (عزوجل) قال في كتابه: ﴿اَلنَّبِيُّ أَوْلىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوٰاجُهُ أُمَّهٰاتُهُمْ﴾(1)، وهو أبٌ لهم، فعقّوه في ذريّته وفي قرابته، وأمّا قذف المحصنات فقد قذفوا فاطمة (عليها السلام) على منابرهم، وأمّا الفرار من الزحف، فقد أعطوا أمير المؤمنين (عليه السلام) البيعة طائعين غير مكرهين، ثم فرّوا عنه وخذلوه، وأمّا إنكار ما أنزل اللّه (عزوجل) فقد أنكروا حقّنا، وجحدوا له، وهذا ممّا لا يتخاصم فيه أحد، واللّه يقول: ﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبٰائِرَ مٰا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئٰاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً﴾(2)»(3). وقد يُقال: إنّ ذيله مشعر بكون الكبائر السبع، هي نفس الكبائر التي جاءت الإشارة إليها في الآية الكريمة. ولكن لا يخفى أنّه لا يدل ذيله على أكثر من أنّ الكبائر السبع هي من جملة الكبائر المشار إليها في الآية الكريمة، أمّا الحصر فلا، على أنّ صدر الحديث قد عبّر بعنوان «أكبر الكبائر» لا بعنوان «الكبائر». وعلى أيّ حال فسند الحديث غير تام.

8 _ ما رواه الصدوق بإسناده عن علي بن حسّان، عن عبدالرحمان بن كثير، عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «إنّ الكبائر سبع، فينا نزلت ومنّا استُحلّت، فأوّلها الشرك باللّه، وقتل النفس التي حرّم اللّه، وأكل مال اليتيم، وعقوق الوالدين، وقذف


(1) الاحزاب: 6.

(2) النساء: 31.

(3) وسائل الشيعة، ص257_ 258، ج 11، الباب 46 من جهاد النفس، كما أن ذيل الرواية وارد في هامش ص: 257.

123

المحصنة، والفرار من الزحف، وإنكار حقّنا: فأمّا الشرك باللّه العظيم، فقد أنزل اللّه فينا ما أنزل، وقال رسول اللّه (صلى الله عليه و آله) فينا ما قال، فكذّبوا اللّه، وكذّبوا رسوله، فأشركوا باللّه، وأمّا قتل النفس التي حرّم اللّه، فقد قتلوا الحسين بن علي (عليهماالسلام) وأصحابه، وأمّا أكل مال اليتيم، فقد ذهبوا بفيئنا الذي جعله اللّه (عزوجل) لنا، فأعطوه غيرنا، وأمّا عقوق الوالدين، فقد أنزل اللّه تبارك وتعالى في كتابه فقال (عزوجل): ﴿اَلنَّبِـيُّ أَوْلىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوٰاجُهُ أُمَّهٰاتُهُمْ﴾، فعقّوا رسول اللّه (صلى الله عليه و آله) في ذرّيته، وعقّوا أُمّهم خديجة في ذرّيتها، وأمّا قذف المحصنة فقد قذفوا فاطمة (عليها السلام) على منابرهم، وأمّا الفرار من الزحف فقد أعطوا أمير المؤمنين (عليه السلام) بيعتهم طائعين غير مكرهين، ففرّوا عنه، وخذلوه، وأمّا إنكار حقّنا فهذا ممّا لا يتنازعون فيه»(1). ولعلّ هذا أوضح من سابقه في الدلالة على حصر الكبائر الواردة في الآية الكريمة في السبع، ولكنّه _ على أيّ حال _ قابل للتوجيه بالحمل على كون السبع أكبر الكبائر. وعلى أيّ حال فالسند ساقط أوّلاً: بعبدالرحمان بن كثير، وثانياً: بعلي بن حسّان. وعلي بن حسّان مشترك بين الواسطي الثقة والهاشمي، والتعبير بعلي بن حسّان إنّما هو في الوسائل، أمّا في الفقيه، فقد جاء هكذا: «روى علي بن حسّان الواسطي، عن عمّه عبدالرحمان بن كثير»، ومن هنا قد يتراءى أنّ علي بن حسان في المقام هو الثقة، وقال أيضاً الصدوق في مشيخة الفقيه: «وما كان فيه عن علي بن حسان، فقد رويته عن محمد بن الحسن(رضي الله عنه)عن محمد بن الحسن الصفار، عن علي بن حسان الواسطي» وقال(رحمه الله) أيضاً في مشيخة الفقيه: «وما كان فيه عن عبدالرحمان بن كثير الهاشمي،


(1) الفقيه، ج3، ص 366 _ 367، ح 1745، ، وصدره جاء في وسائل الشيعة، ج 11، ص258، من الباب 46 من جهاد النفس.

124

فقد رويته عن محمد بن الحسن(رضي الله عنه)عن محمد بن الحسن الصفّار، عن علي ابن حسان الواسطي، عن عمّه عبدالرحمان بن كثير الهاشمي» إلا أنّ الخطأ الواقع في كلام الصدوق (رحمه الله) أنّه فرض عبدالرحمان بن كثير الهاشمي عمّاً لعلي بن حسّان الواسطي، بينما هو عمّ لعلي ابن حسّان الهاشمي، فلا ندري هل كان خطؤه في فرض هذا عمّاً لذلك، أو كان خطؤه في تخيّل أنّ علي ابن حسّان الهاشمي الذي هو ابن أخي عبدالرحمان يلقّب بالواسطي، وأنّ علي بن حسّان الواسطي ليس إنساناً آخر، فبالتالي نبقى مردّدين في المقام بين كون علي ابن حسّان هو الواسطي أو الهاشمي، وبالتالي لا تثبت وثاقته.

9_ ما عن محمد بن أبي عُمير _ بسند تامّ _ عن بعض أصحابه عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «وجدنا في كتاب علي (عليه السلام) الكبائر خمسة: الشرك، وعقوق الوالدين، وأكل الربا بعد البيّنة، والفرار من الزحف، والتعرّب بعد الهجرة»(1).

10_ ما عن عبيد بن زرارة _ بسند غير تامّ _ قال: «قلت لأبي عبداللّه (عليه السلام) أخبرني عن الكبائر، فقال: هنّ خمس، وهنّ ممّا أوجب اللّه عليهنّ النار؛ قال اللّه تعالى: ﴿إِنَّ اللّٰهَ ݣݣلاٰ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾(2)، وقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلوُنَ أَمْوالَ اليَتَامَى ظُلْمَاً إِنَّمَا يَأكُلوُنَ فِي بُطوُنِهِمْ نَارَاً وَسَيُصْلَونَ سَعيِرَاً﴾(3)، وقال: ﴿يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذٰا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلاٰ تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبٰارَ﴾(4) إلى آخر الآية، وقال (عزوجل): ﴿يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ


(1) وسائل الشيعة، ج 11، ص259،الباب 46 من جهاد النفس، ح 27.

(2) النساء: 48.

(3) النساء: 10.

(4) الأنفال: 15.

125

آمَنُوا اتَّقُوا اللّٰهَ وَذَرُوا مٰا بَقِيَ مِنَ الرِّبٰا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾(1) إلى آخر الآية، ورمي المحصنات الغافلات المؤمنات، وقتل مؤمنٍ متعمّداً على دينه»(2). ولعلّ قوله: «وهنّ ممّا أوجب اللّه عليهنّ النار» يؤيّد حملنا لهذه الروايات على بيان أكبر الكبائر، فإنّ افتراض كون عنوان ما أوجب اللّه عليه النار أوسع من الخمس في الوقت الذي يراد فرض الخمس هي المكفِّرات _ بالكسر _ وما عداها مكفَّرات _ بالفتح _ غير عرفي.

11_ ما مضى في عداد أحاديث تعريف الكبيرة بما أوعد اللّه عليه النار من حديث أحمد بن عمر الحلبي قال: «سألت أبا عبداللّه (عليه السلام) عن قول اللّه (عزوجل): ﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبٰائِرَ مٰا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئٰاتِكُمْ﴾ قال: من اجتنب ما أوعد اللّه عليه النار إذا كان مؤمناً كفّر عنه سيّئاته، وأدخله مدخلاً كريماً، والكبائر السبع الموجبات: قتل النفس الحرام، وعقوق الوالدين، وأكل الربا، والتعرّب بعد الهجرة، وقذف المحصنة، وأكل مال اليتيم، والفرار من الزحف»(3). وهذا الحديث من الشواهد على الجمع الذي ذكرناه بين الروايات؛ لأنّ صدره مشتمل على تعريف الكبائر بما أوعد اللّه عليها النار، وذيله مشتمل على تعداد الكبائر السبع الموجبات. وسند الحديث غير تام.

12_ المرسل المنقول عن كنز الفوائد، قال (عليه السلام): «الكبائر تسع، أعظمهنّ لإشراك باللّه (عزوجل)، وقتل النفس المؤمنة، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، والفرار من الزحف، وعقوق الوالدين، واستحلال البيت الحرام، والسحر. فمن لَقِي اللّه (عزوجل) وهو بريء منهنّ كان معي في جنّةٍ مصاريعها الذهب». ورواه الطبرسي في مجمع البيان مرسلاً،


(1) البقرة: 278.

(2) وسائل الشيعة، ج 11، ص259، الباب 46 من جهاد النفس، ح 28.

(3) نفس المصدر، ص260، ح 32.

126

إلا أنّه قال: «سبع وترك الأخيرتين»(1). وقوله: «فمن لَقِي اللّه...» قد يكون قرنية على أنّ الكبائر في هذا الحديث هي الكبائر الواردة في قوله تعالى: ﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبٰائِرَ مٰا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئٰاتِكُمْ﴾؛ إذ فرض أنّ اجتناب هذه التسع، أو السبع يستوجب كون تاركها مع المعصوم (عليه السلام) في جنّة مصاريعها الذهب، إلا أنّ الحديث مرسل لا قيمة له سنداً.

13_ ما عن محمد بن مسلم _ بسند غير تام _ عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «قلت له: ما لنا نشهد على من خالفنا بالكفر. وما لنا لا نشهد لأنفسنا، ولأصحابنا أنّهم في الجنّة؟ فقال: من ضعفكم إن لم يكن فيكم شيء من الكبائر، فاشهدوا أنّكم في الجنّة. قلت: فأيّ شيء الكبائر؟ قال: أكبر الكبائر الشرك باللّه، وعقوق الوالدين، والتعرّب بعد الهجرة، وقذف المحصنة، والفرار من الزحف، وأكل مال اليتيم ظلماً، والربا بعد البيّنة، وقتل المؤمن. فقلت له: الزنا والسرقة. فقال: ليسا من ذلك»(2). فقوله: «إن لم يكن فيكم شيء من الكبائر فاشهدوا أنّكم في الجنة» يشهد لكون المقصود هي الكبائر التي من تركها كُفّرت عنه سيّئاته، لكن حينما يأتي إلى التعداد يقول: أكبر الكبائر كذا وكذا، ولا يقول: الكبائر كذا وكذا، ثم يصرّح بأنّ الزنا والسرقة ليسا منها، بينما لا شكّ فقهيّاً في دخولهما في الكبائر بمعنى الذنوب المكفِّرة _ بالكسر _ أو بمعنى ما يخلّ بالعدالة.

وقد ورد حديث تام السند ظاهر في عدم كون الزنا والسرقة من الكبائر، وهو ما عن محمد بن حكيم، قال: «قلت لأبي الحسن موسى (عليه السلام): الكبائر تخرج من الإيمان؟


(1) وسائل الشيعة، ج 11، ص263، الباب 46 من جهاد النفس، ح 37.

(2) نفس المصدر، ص261،ح 35.

127

فقال: نعم وما دون الكبائر قال رسول اللّه (صلى الله عليه و آله): لا يزني الزاني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق وهو مؤمن»(1). فهذا ظاهره أنّ الزنا والسرقة ممّا دون الكبائر مع ضرورة كونهما من الكبائر بالمعنى المخلّ بالعدالة، أو بمعنى الذنوب المكفِّرة _ بالكسر _ فهذا بنفسه شاهد على أنّ الكبائر قد تُستعمل بمعنى أكبر الكبائر، بل نفس عدم شمول الروايات _ الحاصرة للكبائر في عدد قليل _ لكثير من المعاصي التي هي من الكبائر _ بالمعنى الفقهي _ بضرورة من الفقه، دليل واضح على حملها على بيان أكبر الكبائر؛ فإذاً الروايات المفسّرة للكبائر بما أوعد اللّه عليها النار لا معارض لها.

ونفس الاختلاف في التعداد قد يكون شاهداً على عدم إرادة الحصر بالمعنى الحقيقي للكلمة، أو على كون الحصر حصراً إضافياً، وأنّها ليست بصدد تعريف الكبيرة بمعناها العامّ الواردة في الآية الكريمة.

بقي الكلام في الروايات التي عدّت عدداً كثيراً من المعاصي تحت عنوان الكبائر، أي عدداً أكثر من العدد الذي حصرت فيه الكبائر في الروايات السابقة، وهي ثلاث روايات:

1_ رواية عبدالعظيم الحسني وهي تامّة سنداً، وواردة في الوسائل _ ج11، ص252، باب46 من جهاد النفس، ح2.

2_ رواية الفضل بن شاذان عن الرضا (عليه السلام) وهي واردة في نفس الباب _ ص۲۶۰، ح33 _ وهي غير تامّة سنداً.

3_ رواية الأعمش عن جعفر بن محمد (عليه السلام) في حديث شرائع الدين الواردة في نفس الباب _ ص262، ح 36 _ وهي غير تامّة سنداً.


(1) نفس المصدر ، ص257،ح 18.

128

والروايتان الأخيرتان تقبلان الحمل على إرادة ذكر عدد من المعاصي أكبر من سائر المعاصي، وأن لا تكونا ناظرتين إلى تفسير الآية الكريمة، فإن وجدت في هاتين الروايتين معصيةً لم يوعد عليها النار، قلنا في مقام الجمع: إنّ هذه كبيرة بالإضافة لما هي أصغر منها، وليست كبيرة بالمعنى المقصود بالآية المباركة؛ كي تعارض الروايات المفسّرة للآية بما أوعد اللّه عليه النار، وإن وجدنا معصيةً أوعد عليها النار غير مذكورة في هاتين الروايتين قلنا: إنّهما لم تكونا بصدد الحصر الحقيقي للكبيرة بالمعنى الوارد في الآية الكريمة.

أمّا الرواية الأولى فهي أيضاً غير واردة بصدد تفسير قوله تعالى: ﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبٰائِرَ مٰا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئٰاتِكُمْ﴾، وإنّما هي واردة بالنظر إلى آية أُخرى، وهي قوله: ﴿وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبٰائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوٰاحِشَ﴾ إلا إذا جزمنا بوحدة المعنى في الآيتين كما ليس ببعيد، وعلى أيّ حال فلو وجدنا معصيةً ممّا أوعد عليها النار غير مذكورة في هذا الحديث الشريف، قلنا: إنّ هذا الحديث لا ينفي كونها من الكبائر، بل يثبت ذاك، وذلك لما جاء في هذا الحديث الشريف من التعليل لإثبات كون المعاصي المذكورة فيها كبائر بالآيات القرآنية المنذِرة، بل وبالسنّة بالنسبة لترك الصلاة.

يبقى أنّ هذا الحديث الشريف (أعني حديث عبدالعظيم الحسني (رضي الله عنه)) فرض ترك أيّ شيء ممّا فرض اللّه (عزوجل) كبيرة؛ بينما لم نجد في القرآن الوعيد بالنار على ترك كلّ ما فرض اللّه. ثم ماذا نقول في ترك الصوم؟ أفهل يُحتمل فقهياً عدم كونه من الكبائر؟! طبعاً لا، مع أنّه لا يوجد في القرآن الوعيد عليه بالنار، وهذا كلّه قد يشهد لكون المقصود بروايات تعريف الكبيرة بما أوعد اللّه عليه النار، هو الوعيد بالنار في الشريعة لا في خصوص القرآن.

وقد يُقال: إنّ النظر في آية التكفير إلى المحرّمات فقط، دون ترك الواجبات بقرينة قوله تعالى: ﴿مٰا تُنْهَوْنَ عَنْهُ﴾، فإنّ ترك الواجب ترك للمأمور به، وليس منهيّاً عنه

129

إلا بالمعنى الأصولي القائل: إنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده؛ فالمعنى: أنّ اجتناب المحرّمات الكبيرة يوجب تكفير السيّئات، وليس المقصود بالسيّئات ما يشمل ترك الواجبات، وإلا للزم أن يكون ترك الصلاة التي هي عمود الدين مكفَّراً بترك المحرّمات الكبيرة، وهذا غير محتمل، فكأنّ الآية الكريمة تنظر مسبقاً إلى من هو ملتزم بالواجبات فتقول: لو ترك المحرمات الكبيرة كفّرنا عنه صغائر المحرمات.

ويؤيّد هذا الاستظهار أنّ أكثر روايات تعداد الكبائر غير مشتملة على ترك الصلاة، أو ترك أيّ واجب آخر في حين لا يحتمل كون ترك الصلاة التي هي عمود الدين أصغر من كلّ الكبائر المعدودة في تلك الروايات.

نعم توجد روايتان ذكرتا ذلك:

الأُولى _ ما مضى من رواية عبيد بن زرارة _ بسند تام _ عن أبي عبداللّه (عليه السلام)؛ حيث جاء في ذيلها قوله: «فقلت: هذا أكبر المعاصي؟ قال: نعم قلت: فأكل الدرهم من مال اليتيم ظلماً أكبر أم ترك الصلاة؟ قال: ترك الصلاة، قلت: فما عددت ترك الصلاة في الكبائر، قال: أيّ شيء أوّل ما قلت لك؟ قلت: الكفر. قال: فإنّ تارك الصلاة كافر؛ يعني من غير علّة»(2). إلا أنّك عرفت أنّ مثل هذه الرواية لا تحمل على النظر إلى تفسير الكبيرة بالمعنى الوارد في آية التكفير.

الثانية _ ما أشرنا إليه من رواية عبد العظيم الحسني (رضي الله عنه)؛ حيث جاء فيها ذكر ترك الصلاة متعمداً أو شيء ممّا فرض اللّه (عزوجل) وهذه الرواية ليست واردة في تفسير آية التكفير، بل هي واردة في تفسير آية اللّمم، ولم ترد كلمة النهي في آية اللّمم، وإنّما قال: ﴿وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبٰائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوٰاحِشَ...﴾ بينما وردت في آية التكفير حيث


(1) وسائل الشيعة، ج 11، ص252، الباب 46 من جهاد النفس، ح 1.

130

قال: ﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبٰائِرَ مٰا تُنْهَوْنَ عَنْهُ﴾، فمن المحتمل أنّ فرض فعل الفرائض كان مفروغاً عنه في آية التكفير، بينما في هذه الآية يكون ترك الفريضة داخلاً في الإثم. وهذه الرواية تؤيّد ما استظهرناه من آية التكفير من أنّ موضوع الوعد بالتكفير هو من لم يكن عليه شيء من ناحية الواجبات، فإنّ هذه الرواية فرضت ترك الفرائض داخلاً في المقصود بالكبائر في آية اللّمم، وهذا يعني أنّ اللّه تعالى إنّما وعد في هذه الآية بالمغفرة لمن أتى بالفرائض، فيتّحد، أو يتقارب مفاد الآيتين.

إلا أنّ الذي يبعِّد استظهارنا لاختصاص آية التكفير بالنظر إلى المحرّمات، أنّ كلمة ﴿مٰا تُنْهَوْنَ عَنْهُ﴾ وإن كانت _ لعلّها _ مُختصَّة بالمحرّمات بحسب حاقّ اللّغة، ولكن حسب مناسبات الحكم والموضوع لا فرق في المعصية من حيث كونها صغيرةً أو كبيرةً، ومن حيث نكتة المكفِّرية _ بالكسر _ والمكفَّرية _ بالفتح _ بين أن تكون فعلاً لحرام، أو تركاً لواجب. وعلى أيّ حال فلابدّ من افتراض أحد أمور ثلاثة: إمّا افتراض أنّ الآية ناظرة إلى خصوص المحرّمات، أو افتراض أنّ المقصود بوعيد اللّه بالنار الوعيد في الشريعة، لا الوعيد في خصوص القرآن، أو افتراض أنّ مقياس الوعيد بالنار في القرآن إنما ذكر للمحرمات وأما ما فرضه اللّه من الواجبات فهن جميعاً يعتبر تركها كبيرة. ولعل هذا الوجه الأخير أقوى الوجوه. وأما استبعاد كون ترك كل واجب كبيرة فيمكن الجواب عليه بأنّ المقصود ما ورد في رواية عبدالعظيم الحسني من عنوان ما فرضه اللّه ليس هو تمام الواجبات بل الواجبات الواردة في القرآن، ويشهد لذلك ما في صدر الرواية من أنّ سؤال السائل كان عبارةً عن طلب معرفة الكبائر من كتاب اللّه، فكأنّ مقصوده عليه الصلاة والسلام: أنّ الواجبات على قسمين: منها ما فرضه اللّه وهو وارد في كتابه، ويكون تركه كبيرةً، ومنها ما فرضه رسول اللّه (صلى الله عليه و آله) في سنته بإذن اللّه أو بإمضائه، ولا يعتبر ترك ذلك كبيرةً.

131

بقى الكلام في شيء واحد، وهو أننا وإن قلنا: إنّ ارتكاب الصغيرة لا يضر بالعدالة، ولكننا نقول: إنّ الإصرار(1) على الصغيرة يجعلها كبيرةً لعدّة روايات، كما ورد عن عبداللّه بن سنان عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «لا صغيرة مع الإصرار، ولا كبيرة مع الاستغفار»(2). إلا أنّ سنده ضعيف بعمّار بن مروان القندي الذي روى هذا الحديث عن عبداللّه بن سنان، ولم تثبت وثاقته. وما ورد عن محمد بن أبي عمير عن موسى ابن جعفر (عليه السلام) في حديث «... قال النبي (صلى الله عليه و آله): لا كبيرة مع الاستغفار، ولا صغيرة مع


(1) يبدو من بعض الروايات أنّ معنى الإصرار ليس هو التكرار، بل معناه عدم الندم، أو عدم حديث النفس بالتوبة، وإن كانت تلك الروايات غير واردة في الصغيرة، وما شاهدت من ذلك روايتان:

1_ ما جاء في رواية محمد بن أبي عمير عن موسى بن جعفر (عليه السلام) من قوله: «يا أبا محمد ما من أحد يرتكب كبيرة من المعاصي وهو يعلم أنّه سيعاقب عليها إلا ندم على ما ارتكب، ومتى ندم كان تائباً مستحقاً للشفاعة، ومتى لم يندم عليها كان مصرّاً، والمصرّ لا يغفر له؛ لأنّه غير مؤمن بعقوبة ما ارتكب، ولو كان مؤمناً بالعقوبة لندم ...»

2_ ما عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول اللّه (عزوجل): ﴿وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾، قال: «الإصرار أن يذنب الذنب فلا يستغفر اللّه ولا يحدّث نفسه بالتوبة، فذلك الإصرار» وسائل الشيعة، ج 11، ص268، الباب 48 من جهاد النفس، ح 4.

وسند الحديث كما يلي: الكليني، عن أبي علي الأشعري، عن محمد بن سالم، عن أحمد بن النضر، عن عمرو بن شمر، عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام). والسند ضعيف بعمرو بن شمر على الأقلّ.

هذا. والظاهر أنّ التفسير الأول _ أي الوارد في الحديث الأول _ لا يمكن تسريته إلى باب الصغيرة؛ لأنّ الإصرار لو كان بمعنى عدم التوبة فالصغيرة بلا إصرار مغفورة بالتوبة سواء اجتنب الكبائر أو لا، فما معنى قوله: ﴿إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ﴾، فالظاهر أنّ المقصود بالإصرار إمّا هو التكرار الكثير، أو الإصرار النفسي والإصرار النفسي هو الذي أُشير إليه في الحديث الثاني وهو المفهوم عرفاً من كلمة الإصرار فالإصرار حالة نفسية بمعنى كون الإنسان مرتكباً للذنب لا كصدفة عابرة على النفس بل بإقبال نفسي ثابت.

(2) وسائل الشيعة، ج 11، ص268، الباب 48 من جهاد النفس، ح3.

132

الإصرار...»(1). وهذا الحديث تام سنداً؛ لأنّ الصدوق رواه عن أحمد بن زياد بن جعفر الهمداني عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن محمد بن أبي عمير، ومن قبل الهمداني لا إشكال فيهم، وأمّا الهمداني فهو وإن لم يرد في كتب الرجال توثيقه، لكن يكفي في توثيقه ما ذكره الصدوق (رحمه الله) في كتاب «كمال الدين وتمام النعمة» من قوله بعد ذكر حديث: «لم أسمع هذا الحديث إلا من أحمد بن زياد بن جعفر الهمداني (رضي الله عنه) بهمدان عند منصرفي من حجّ بيت اللّه الحرام، وكان رجلاً ثقةً ديّناً فاضلاً رحمة اللّه عليه ورضوانه»(2). وما عن الفضل بن شاذان _ والسند غير تام _ عن الرضا (عليه السلام) في تعداد الكبائر وفيه: «الإصرار على الذنوب»(3). وعن تحف العقول مرسلاً «والإصرار على الصغائر من الذنوب»، والظاهر أنّ هذا هو المقصود حتى مع حذف كلمة «الصغائر»، فإنّ الكبائر هي كبائر بلا حاجة إلى إصرار. وما عن الحسين بن زيد عن الصادق عن آبائه (عليهم السلام) في حديث المناهي: «أنّ رسول اللّه (صلى الله عليه و آله) قال: لا تحقّروا شيئاً من الشرّ وإن صغر في أعينكم، ولا تستكثروا شيئاً من الخير وإن كثر في أعينكم، فإنّه لا كبير مع الاستغفار، ولا صغير مع الإصرار»(4)، وسنده غير تام. وما عن أبي بصير بسند تام، قال: «سمعت أبا عبداللّه (عليه السلام) يقول: لا واللّه لا يقبل اللّه شيئاً من طاعته على الإصرار على شيء من معاصيه»(5). ومقتضى إطلاق الحديث أنّ الإصرار على


(1) وسائل الشيعة، ج11، ص266، الباب 47 من جهاد النفس، ح 11.

(2) كمال الدين وتمام النعمة، آخر باب ما روي عن أبي الحسن موسى بن جعفر في النص على القائم، ص369، بحسب طبعة دار الكتب الإسلامية بطهران.

(3) وسائل الشيعة، ج 11، ص261، الباب 46 من جهاد النفس، ح33.

(4) نفس المصدر، ص246، الباب 43 من جهاد النفس، ح 8.

(5) نفس المصدر، ص268، الباب 48 من جهاد النفس، ح 1.

133

المعصية الصغيرة أيضاً يمنع قبول الطاعة، وافتراض بقائها صغيرةً _ وكونها معفوّاً عنها عفواً جزميّاً لو لم يقترن بالكبائر _ لا يجتمع عرفاً مع المانعيّة عن قبول الطاعة. وأدلّة حصر الكبائر في أعيان المعاصي الكبيرة لو تمّت تحمل على ذوات الذنوب دون الإصرار عليها. وقد يقال: إنّ إطلاق هذا الحديث يعارض إطلاق الآية الكريمة: ﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبٰائِرَ مٰا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئٰاتِكُمْ﴾ الظاهر في اجتناب أعيان الذنوب الكبيرة، لا الإصرار على معصية هي في نفسها صغيرة.

وقد يُجاب بأنّ هذا الحديث يمكن تفسيره بافتراض كون نفس الإصرار على الذنب المقترن بالعمل من المعاصي الكبيرة، فيصبح مصداقاً لـ «كبائر ما تنهون عنه»، وإنّما قيّدنا الإصرار بكونه مقترناً بالعمل كي لا ينافي ما دلّ على العفو عن النيّة البحتة.

معنى اللّمم

وفي ختام هذا البحث لا بأس بالإشارة إلى معنى اللّمم، والذي يستفاد من كتاب لسان العرب(1) أنّ المحتملات في اللّمم ثلاثة:

1_ أن يكون بمعنى صغار الذنوب، وقد نقل في لسان العرب عن أبي إسحاق أنّه قال: اللّمم نحو القُبلة والنظرة وما أشبهها. وإلى هذا يرجع ما نقله عن الجوهري أنّه قال في تفسير قول وضّاح اليمن:

إذا قلت يوماً نوّليني تبسّمتْ        وقالت معاذ اللّه من نيل ما حُرمْ

فما نوّلتْ(2) حتى تضرّعْتُ عندَها        وأنبأْتُها ما رخّص اللّه في اللممْ

قال الجوهري في تفسير ذلك: يعني التقبيل.


(1) لسان العرب، ج 12، ص 549 وما بعدها.

(2) نوّل أي أعطى شيئاً يسيراً.

134

2_ أن يكون بمعنى مقاربة المعصية من غير مواقعة.

3_ أن يكون بمعنى أنّك تأتي بشيء في وقت، ولا تقيم عليه، ولا تصرّ.

وكأنّما المقصود أنّك تبتلي صدفةً بمعصية ثم تتركها وتتوب عنها، وقد تبتلي صدفةً بها مرّة أُخرى من دون إصرار، وهذا المعنى الثالث هو المستفاد من الروايات الواردة في معنى اللّمم(1).

اشتراط المروءة وعدمه

بقي الكلام في اشتراط أو عدم اشتراط وصف آخر في العدالة _ غير ترك الذنوب أو ملكة تركها _ يسمّى بالمروءة مثلاً، فلو كنّا نحن وكلمة العدالة فقد قلنا: إنّ المفهوم منها عرفاً هو الاستقامة في الدين(2) فلو لم تكن مخالفة المروءة في حدّ المعصية لم تضرّ بالعدالة؛ باعتبارها غير معارضة للاستقامة في الدين، ولو كانت في حدّ المعصية كما لو ارتكب ما يوجب هتك نفسه إلى حدّ الحرام أضرّت بالعدالة، إلا أنّ هذا ليس شرطاً جديداً.

إلا أنّه قد يفترض شرط المروءة بمستوى أعلى من مستوى ما يجب شرعاً مراعاته شرطاً إضافياً في العدالة تمسّكاً بما ورد عن عبداللّه بن سنان، عن أبي عبداللّه (عليه السلام): «ثلاث من كُنّ فيه أوجبت له أربعاً على الناس: من إذا حدّثهم لم يكذبهم، وإذا وعدهم لم يخلفهم، وإذا خالطهم لم يظلمهم، وجب أن يظهروا في الناس عدالته،


(1) راجع أصول الكافي، ج 2، ص 441 _ 442.

(2) أي أنّ المفهوم عرفاً منها هو الاستقامة، وحينما تستعمل في مصطلح صاحب الدين كالنبي والإمام تفهم منها الاستقامة في الدين.

135

وتظهر فيهم مروّته، وأن تحرُمَ عليهم غيبته، وأن تجب عليهم أُخوّته»(1). وسند الحديث غير تام.

وما ورد عن أحمد بن عامر الطائي عن أبيه عن الرضا (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) عن علي (عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه (صلى الله عليه و آله): من عامل الناس فلم يظلمهم، وحدّثهم فلم يكذبهم، ووعدهم فلم يخلفهم، فهو ممّن كملت مروّته، وظهرت عدالته، ووجبت أُخوّته، وحرمت غيبته»(2). وسنده أيضاً غير تام.

وما ورد عن سماعة بن مهران عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «قال: من عامل الناس فلم يظلمهم، وحدّثهم فلم يكذبهم، ووعدهم فلم يخلفهم كان ممّن حرمت غيبته، وكملت مروّته، وظهر عدله، ووجبت أُخوّته»(3). وسنده تام.

أمّا وجه الدلالة فهو أن يقال: إنّ خلف الوعد ليس حراماً بالإجماع أو الضرورة الفقهية وإن كان خلاف المروءة بمستوى أعلى من مستوى ترك المحرَّمات، ومع ذلك قد رتّب عليه في هذه الروايات الحكم بالعدالة، وهذا يعني بالمفهوم انتفاء العدالة بخلف الوعد، وهذا هو معنى اشتراط المروءة بمستوىً أعلى من ترك المعاصي في العدالة.

ويمكن الإيراد على ذلك بعدّة وجوه:

الأول _ أنّه قد رتّب على الشرط في المقام مجموع جزاءات، فيدلّ بالمفهوم على انتفاء المجموع بانتفاء الشرط، ويكفي في انتفاء المجموع انتفاء أحدها، وهو كمال


(1) وسائل الشيعة، ج 18، ص293، الباب 41 من الشهادات، ح 16.

(2) نفس المصدر، ح 15.

(3) نفس المصدر، ج8، ص597، الباب 152 من أحكام العشرة، ح2، وج5، ص393، الباب 11 من صلاة الجماعة، ح9.

136

المروءة مثلاً، ولا يدل على انتفاء الجميع الذي منه العدالة.

والجواب: ما نقّح في علم الأصول من أنّ فرض المجموعيّة فيما بين الجزاءات بحاجة إلى مؤونة زائدة فهو خلاف الظاهر، والظاهر أنّ الجميع يعتبر جزاءً، وهذا يعني الانحلال في التعليق. هذا إذا فرض التعليق في طول العطف، أمّا لو استظهر أنّ العطف في طول التعليق فالأمر أوضح؛ وتمام الكلام في ذلك موكول إلى علم الأصول في بحث مفهوم الشرط.

الثاني _ أن يقال: إنّ عدم وجوب الوفاء بالوعد أوّل الكلام، ولتكن هذه الأحاديث دليلاً على وجوب الوفاء بالوعد سنخ بعض الروايات الأُخرى، كما ورد عن هشام بن سالم بسند تام قال: «سمعت أبا عبداللّه (عليه السلام) يقول: عِدَةُ المؤمن أخاه نذر لا كفّارة له، فمن أخلف فبخلف اللّه بدا، ولمقته تعرّض، وذلك قوله: ﴿يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مٰا لاٰ تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اَللّٰهِ أَنْ تَقُولُوا مٰا لاٰ تَفْعَلُونَ﴾(1)»(2).

والواقع أنّه لو لم تفرض ضرورة فقهية عدم وجوب الوفاء بالوعد، فهذا الإشكال تام.

الثالث _ أنّنا أنكرنا في أبحاثنا الأصوليّة مفهوم الشرط، وعليه فلا مجال للتمسّك بمفهوم الرواية في المقام.

الرابع _ أنّه ثبت أيضاً في بحث الأصول أنّ مفهوم الشرط لو تمّ فإنّما يتم في الأداة المتمحّضة في الشرطية ك (إنْ)، أمّا أمثال كلمة (من) و(ما) ممّا يعود إليه الضمير من الجزاء، فترجع قضيّته إلى القضيّة المسوقة لبيان الموضوع سنخ (إن رزقت ولداً


(1) الصف: 2 _ 3.

(2) وسائل الشيعة، ج 8، ص515، الباب 109 من أحكام العشرة، ح3.

137

فاختنه). إذاً فلا يوجد فيما نحن فيه مفهوم الشرط.

نعم، قد يتمسّك بمفهوم الوصف، ولكن ثبت في علم الأصول عدم تماميّة مفهوم الوصف.

وقد يجاب على الإشكال الثالث والرابع بأنّ إنكار مفهوم الشرط والوصف إنّما كان بمعنى إنكار السلب الكلّي، ولم ننكر الدلالة على الانتفاء عند الانتفاء في الجملة حذراً من اللغوية. إذاً فالرواية تدل على أنّ خلف الوعد يوجب _ ولو أحياناً _ انتفاء العدالة، وهذا كافٍ في إثبات المطلوب، ولا نحتمل _ طبعاً _ فقهياً كون خلف الوعد بلا عذر يوجب أحياناً انتفاء العدالة لا دائماً، فيثبت أنّ خلف الوعد بلا عذر موجب لانتفاء العدالة دائماً.

إلا أنّنا لو رجعنا إلى السلب الجزئي بقدر نفي اللغوية استحكم الإشكال الأول في المقام؛ إذ يكفي في نفي اللغوية انتفاء بعض الجزاءات المتعاطفة.

على أنّ السلب الجزئي لا يثبت المطلوب في المقام، وذلك لأنّ الرواية لم يثبت كونها واردة بشأن واقع العدالة، ويحتمل كونها ناظرةً بشأن ظهور العدالة، والأمارة عليها، حيث تقول: «ظهر عدله»، ويشهد لذلك قوله: «كان ممّن...» ممّا قد يشير إلى أنّ غيره أيضاً قد تظهر عدالته، ولا إشكال في أنّ ترك خلف الوعد له أمارة على العدالة، وبعض من يخلف الوعد لا تتم الأماريّة بقدر الكفاية على عدالته، وهذا لا يعني دخل عدم الخلف في واقع العدالة.

وقد يستشهد لاشتراط ترك ما ينافي المروءة في العدالة بمرسلة أبي عبداللّه الأشعري عن بعض أصحابنا رفعه عن هشام بن الحكم، عن أبي الحسن موسى ابن جعفر (عليه السلام)

138

في حديث طويل: «... يا هشام لا دين لمن لا مروّة له ولا مروّة لمن لا عقل له...»(1).

ولكن _ بغضّ النظر عن سقوط الحديث سنداً _ من الواضح أنّ المروّة في هذا الحديث قصد بها معنىً يمكن نفي الدين بوجه من الوجوه عمّن يفقدها؛ إذاً ليست هذه مروءة بمستوىً أرفع من مستوى ترك المعاصي كي يدل الحديث على شرط إضافي.

وقد يقال: إنّ المروءة وإن لم تكن دخيلة في شرط العدالة لكنّها شرط مستقل لقبول الشهادة. وهذا أيضاً ليس عليه دليل معتدّ به، ولا يدل عليه ما عن محمد ابن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «ردّ رسول اللّه (صلى الله عليه و آله) شهادة السائل الذي يسأل في كفّه. قال أبو جعفر (عليه السلام): لأنّه لا يؤمن على الشهادة، وذلك لأنّه إن أُعطي رضي، وإن مُنِع سخط»(2)؛ حيث يقال: إنّ السؤال بالكفّ إنّما هو خلاف المروءة، وقد جعل من هذا الحديث مانعاً عن قبول الشهادة، ولكنّك ترى أنّ الحديث معلّل بعلّة ليست ملازمة لعدم المروءة، وهي عدم الأمن على الشهادة، على أنّ رضا الإنسان متى ما أُعطي، وسخطه متى ما منع حرام، فرجع ما في الحديث إلى فرض عدم العدالة.

الكاشف عن العدالة

وأمّا الكلام فيما هو الكاشف عن العدالة:

فهل يجب الاقتصار في مقام ثبوت العدالة على العلم، أو الاطمئنان، أو البيّنة مثلاً _ كما نسب إلى الشهيد في الدروس في صلاة الجماعة _ أو يكفي حسن الظاهر أمارةً على العدالة _ كما لعلّه المشهور _ أو مجرّد عدم الاطلاع على الفسق كافٍ في


(1) أصول الكافي، ج1، ص19، كتاب العقل والجهل، ح12.

(2) وسائل الشيعة، ج 18، ص282، الباب 35 من الشهادات، ح2.

139

حمل المسلم على العدالة، كما نسب إلى ظاهر الشيخ؟

مقتضى القاعدة هو الأول؛ لأنّ العدالة _ بعد البناء على أخذ الملكة فيها، وعدم كفاية مجرّد عدم الفسق _ أمر وجودي مسبوق بالعدم، فما لم تثبت بالعلم، أو الاطمئنان، أو بمثل البيّنة، فمقتضى الأصل عدمها، واستصحاب عدم الفسق المستلزم أحياناً للعدالة لا يثبتها؛ لعدم حجّية الأصل المثبت.

وأمّا الروايات فهي على طوائف:

الأُولى _ ما دلّت على مقياسية حسن الظاهر من قبيل:

1_ رواية عبداللّه بن أبي يعفور، وهي مفصّلة، ومن جملة ما جاء فيها قوله: «... والدالّة على ذلك كلّه أن يكون ساتراً لجميع عيوبه حتى يحرم على المسلمين ما وراء ذلك من عثراته وعيوبه وتفتيش ما وراء ذلك، ويجب عليهم تزكيتة وإظهار عدالته في الناس...»(1). ومن جملة ما جاء فيها ما مضى في بحث إضرار الصغائر بالعدالة وعدمها.

2_ ما عن يونس بن عبدالرحمان عن بعض رجاله، عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «سألته عن البيّنة إذا أُقيمت على الحقّ أيحلّ للقاضي أن يقضي بقول البيّنة؟ فقال: خمسة أشياء يجب على الناس الأخذ فيها بظاهر الحكم: الولايات، والمناكح، والذبائح، والشهادات، والأنساب؛ فإذا كان ظاهرالرجل ظاهراً مأموناً جازت شهادته، ولا يسأل عن باطنه»(2). والسند ضعيف بالإرسال.

3_ ما عن عبداللّه بن المغيرة بسند تام قال: «قلت لأبي الحسن الرضا (عليه السلام) رجل


(1) وسائل الشيعة، ج18، ص288 _ 289، الباب 41 من الشهادات، ح 1 و2.

(2) نفس المصدر، ص290، ح3 و4.

140

طلّق امرأته، وأشهد شاهدين ناصبيّين؟ قال: كلّ من ولد على الفطرة، وعرف بالصلاح في نفسه جازت شهادته»(1).

ويمكن النقاش في دلالة هذه الرواية؛ إذ من المحتمل أن يكون المقصود بقوله: «عُرِف بالصلاح» العلم بالصلاح لا حسن الظاهر. وهذا الجواب إمّا ردّ على ما سئل عنه من كفاية شهادة الناصبيّين، أو بيان لكبرى صحيحة بنحو يوهم تقيّة انطباقها على الناصبي. وعلى أيّ حال يبعد أن يكون الظاهر عرفاً هو إرادة حسن الظاهر.

4_ ما عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «لو كان الأمر إلينا لأجزنا شهادة الرجل إذا علم منه خير مع يمين الخصم في حقوق الناس...»(2).

5_ ما عن ابن أبي عمير _ بسند غير تام _ عن إبراهيم بن زياد الكرخي، عن الصادق جعفر بن محمد (عليه السلام) قال: «من صلّى خمس صلوات في اليوم والليلة في جماعة فَظُنّوا به خيراً، وأَجيزوا شهادته»(3).

6_ ما عن سماعة بن مهران _ وهي رواية تامّة سنداً _ عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «قال: من عامل الناس فلم يظلمهم، وحدّثهم فلم يكذبهم، ووعدهم فلم يخلفهم كان ممن حرمت غيبته، وكملت مروّته، وظهر عدله، ووجبت أُخوّته»(4).

وهذا الحديث يدل على كفاية حسن الظاهر بالمستوى المذكور، وعدم الحاجة إلى البيّنة أو اليقين، ولا يدل على عدم كفاية أقلّ من ذلك من مجرّد عدم العلم بالفسق،


(1) وسائل الشيعة، ج18، ص 289، الباب 41 من الشهادات ، ح5.

(2) نفس المصدر، ص291، ح8.

(3) نفس المصدر، ح12.

(4) نفس المصدر ، ج8، ص597، الباب 152 من أحكام العشرة، ح 2؛ وج 5، ص393، الباب 11 من صلاة الجماعة، ح 9.