336

الناس بالأوراق؟ أو كان مكيفاً بالتكييف الأول وهو التعهد بالدَين؟ أما على التكييف الثاني فقد كانت الأوراق أموالاً قبل الإعفاء عن التعهد، فكذلك الحال لا محالة بعد الاعفاء، وأما على التكييف الأول فالأوراق قبل الإعفاء عن التعهد لم تكن أموالاً بل كانت مستندات وحاكية عما في ذمة الجهة المصدّرة للأوراق من رصيد. فعندئذٍ يجب أن نرى ما هو تفسیر قانون الإعفاء وتكييفه من الناحية الفقهية؟ فإن كان قانون الاعفاء يعني إلغاء الديون التي كانت الأوراق النقدية سندات عليها وتحويلها إلى أوراق نقدية إلزامية، فهذا يعني أنّ تلك الأوراق أصبحت أموالاً باستقلالها، ولم تعد حاكية بحتة، وأما إذا كان قانون الإعفاء يعني السماح للجهة المصدّرة بعدم وفاء الدين الذي تمثّله الورقة النقدية في نطاق التعامل الداخلي، حرصاً على الذهب وتوجيهاً له إلى التعامل مع الخارج، مع الاعتراف قانونياً ببقاء الديون التي تمثّلها تلك الأوراق، فلا تخرج بذلك عن حكمها قبل الإعفاء(1).

أقول: إنّ احتمال تفسير الإعفاء عن التعهد بالشكل الذي يجتمع مع فرض حكاية الأوراق عن الدَين في ذمة الجهة المصدرة لها، غير موجود في يومنا الحاضر نهائياً؛ وذلك لأنّه حتى لو فرض بقاء التعهد في التعامل الخارجي، أو في تعامل الدولة مع الخارج، أو فرض في مورد ما ثبوت التعهد في التعامل الخارجي صدفة، فليس هذا تعهداً بكمية معينة من ذهب أو فضة أو أي شيء آخر، بل هو تعهد بدفع ما يناسب ذلك المبلغ من النقد في كل زمان بحسبه.

وبكلمة أُخرى: إنّ المفهرم من الرصيد للأوراق في الوضع العالمي اليوم لم يعد ما كان سابقاً من مبلغ مشخص ومعين في ذمة شخص أو جهة، وإنما رصيد أوراق كل

 


(1) راجع البنك اللاربوی في الإسلام: ص۱۵۱ _ ۱۵۲.

337

دولة عبارة عن مجموع ما تمتلكه من القوة الاقتصادية من سلع أو أعمال، لا بمعنى أنّ مبلغاً معيناً منها يكون محكياً بمبلغ معين من هذه الأوراق، كما هو شأن السندات، بل بمعنى أنّ هذه الأوراق تمكن صاحبها من امتلاك مبلغ من تلك الأُمور مختلف المقدار وفق ما تقتضيه قاعدة العرض والطلب ومدی ازدهار الوضع الاقتصادي للبلاد، أي أنّ أي شيء يفترض رصيداً لهذه الأوراق فهو بذاته محكوم، حتى في عالم رصیدیته في أي تجارة داخلية أو خارجية، ومن قبل أي شخص أو جهة، لنظام التضخم وتصاعده أو تخفيفه بالقياس إلى الأوراق، في حين أنّ شيئاً ما لو كان رصيداً لهذه الأوراق بمعنی سندية الأوراق له وحكايته عن ثبوته في ذمة الدولة أو مصدّر الأوراق، لما كان من المعقول نزول مبلغ ذلك الشيء باستمرار أو صعوده أحياناً، أي أنّ سنداً ما إذا كان حاكياً عن مثقال من الذهب في ذمة أحد لكان يبقى ما في ذمته _ المحكي بهذا السند دائما _ هو مثقالاً من الذهب لا يزيد ولا ينقص، وأنت ترى أن الحال في أرصدة الأوراق ليست كذلك، فأي شيء يفرض رصيداً لها يكون الرصيد عبارة عن مجموع ما يمتلكه البلد من ذلك الرصيد مهما قل أو كثر في أي زمان من الأزمنة، وعلى هذا الأساس ترى أنّه مهما ازدهر اقتصاد بلد ما وكثرت فيه الخيرات والبركات قويت أوراقهم المالية في تجارة داخلية أو خارجية، ومهما ضعفت قوتهم الاقتصادية وقلّت الخيرات ضعفت أوراقهم المالية، كما أنّ تلك القوة الاقتصادية بأي ميزان كانت توزع على مجموع تلك النقود، فلو طبعت الدولة أو الجهة المصدّرة لها مبلغاً أكثر انخفضت قوة النقد. فلا ينبغي أن نغترّ بكلمة الرصيد أو بكلمة السند لو سميت هذه الأوراق في مصطلح مصرفي بالسند، أو سميت الأمتعة والسلع أو مجموعة القوة الاقتصادية في البلد بالرصيد.

وعليه فلم يعد خافياً اليوم أنّ الأوراق المالية الرائجة في العالم تعتبر هي الأموال، ولا تعتبر حاكية عما في الذمم.

338

ومن هنا تأتي شبهة تعلق الزكاة بها بدعوى التعدي العرفي من مورد النص _ وهو الذهب والفضة _ إلى كل ما أصبح نقداً رائجاً، وأنّ العرف يفهم أنّ تعلّق الزكاة بالذهب والفضة لم يكن لخصوصية فيهما، بل لكونهما نقدین رائجين، كما قد يشهد لذلك اشتراط الزكاة فيهما بكونهما مسكوكين أو بكونهما نقدین رائجين.

وفي مقابل ذلك يدعى أنّ هذا التعدي قياس، وأنّ احتمال الفرق وارد في المقام. ولبسط الكلام شيئاً ما في هذا الموضوع نقول:

إنّ الشريعة الإسلامية فرضت ضرائب على أصحاب الأموال، وجعلت قسماً منها ملكاً للدولة الإسلامية أو قل الإمامة، وقسماً منها ملكاً للفقراء والمحتاجين، ومصارف عامة أُخرى. قال اللّٰه سبحانه:

1_ ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ ما غَنِمْتُمْ مِن شَيءٍ فَأَنَّ لِلّٰهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبیٰ وَالْيَتامىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُم بِاللهِ وَمَا أَنزَلْنا عَلىٰ عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَىٰ الْجَمْعَانِ وَاللّٰهُ عَلَىٰ كُلَّ شَيءٍ قَدِيرٌ﴾(1).

2_ ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الأَنْفالُ لِلّٰهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللّٰهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللّٰهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُؤمِنِينَ﴾(2).

3_ ﴿وَمَا أفَاءَ اللهُ عَلىٰ رَسُولِه مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللهَ يُسَلَّطُ رُسُلَهُ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ وَاللهُ عَلَىٰ كُلَّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * مَا أفاءَ اللّٰهُ عَلىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرىٰ فَلِلّٰهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبىٰ وَالْيَتامىٰ وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغنِياءِ مِنكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللّٰهَ إِنَّ الله شَدِيدُ الْعِقابِ﴾(3).

 


(1) الأنفال: 41.

(2) الأنفال: 1.

(3) الحشر: 6_7.

339

4_ ﴿خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهَّرُهُمْ وَتُزَكَّيهِم بِها وَصَلَّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللّٰهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾(1).

5_ ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالمَسَاكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرَّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّٰهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللّٰهِ وَاللّٰهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾(2).

ولعل الفارق العملي بين ما جعل من الضرائب لمثل عنوان الفقراء والمحتاجين وهي الصدقات، وما جعل منها للحكومة أو الإمامة، أو جعل لها سهم فيه وهو الخمس والفيء والأنفال مفقود في كثير من الموارد؛ لأنّ حاجات الحكومة عبارة أُخرى عن نفس تلك الموارد العامة.

إلا أنّ أبرز فارق عملي بينهما هو: أنّه لم يسمح لقربی الرسول(صلى الله عليه و آله) أن يستفيدوا لحاجاتهم الشخصية من الصدقات، وسمح لهم أن يستفيدوا من غيرها، والدليل على هذا التحريم روايات كثيرة من قبيل ما ورد بسند تام عن محمد بن مسلم وأبي بصير وزرارة عن الباقر والصادق(علیهما السلام) عن الرسول(صلى الله عليه و آله) في حديث: «و إنّ الصدقة لا تحل لبني عبدالمطلب»(3). وما ورد بسند تام أيضاً عن عبداللّٰه بن سنان عن أبي عبداللّٰه(علیه السلام)قال: «لا تحل الصدقة لوُلد العباس ولا لنظرائهم من بني هاشم»(4).

والذي يبدو من لحن أكثر الروايات(5) أنّ المصطلح الذي كان يذكر في مقابل مصطلح الخمس لدی بیان حرمة أخذ الواجب منه على ذوي القربى هو مصطلح الصدقة لا مصطلح الزكاة، وكان مصطلح الزكاة في تاريخ نزول القرآن والذي قرن

 


(1) التوبة: 103.

(2) التوبة: 60.

(3) وسائل الشيعة، ج9، الباب ۲۹ من أبواب المستحقين للزكاة، ح 2.

(4) المصدر السابق، ح3.

(5) راجع المصدر السابق، الباب ۲۹ _ 34 من أبواب المستحقين للزكاة.

340

بالصلاة في الآيات الكثيرة على الأكثر عبارة عن مطلق الضريبة الواجبة، وإن استقر الاصطلاح أخيراً على ترادف كلمة الزكاة للصدقة الواجبة مقابل الخمس.

ولا إشكال في أنّ أحد ملاكات الضريبة في الإسلام أو أهمها هو سد الحاجات المالية لدى الحكومة، أو لدى الفقراء والمحتاجين أو سائر الحاجات الاجتماعية، وقد ورد في الأحاديث المتعددة: «إن اللّٰه(وجل عز) فرض للفقراء في مال الأغنياء ما يسعهم، ولو علم أنّ ذلك لا يسعهم لزادهم...»(1) ويشهد لذلك أيضاً نفس العناوين المذكورة في الآيات للصرف عليها كالفقراء والمساكين، وقد يشهد له أيضاً ما في آية الفي: ﴿كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ﴾(2) كما يحتمل أن تكون هذه العبارة إشارة إلى ملاك آخر وهو عدم نمو الثروة نفسها بشكل هائل لدى الأغنياء.

ومن المحتمل وجود ملاك آخر أيضاً في زكاة النقود وهو منع النقد عن الركود مما قد يسبب اختلالاً في الوضع الاقتصادي في البلاد، وقد تشعر بذلك كلمة الكنز في قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللّٰهِ فَبَشَّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَىٰ بِهَا جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُم فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ﴾(3).

وقد يكون هذا هو السبب في ما ثبت نصاً وفتوى، من أنّ تعلق الزكاة بالذهب والفضة مشروط بكونهما مسكوكين أو نقدین رائجين، أما إذا كانا حُليّاً مثلاً لم تكن عليهما زكاة، فلعل هذا بسبب أنّه ليس نقداً كي يكون كنزه سبباً لركود شيء من النقود ومنعه عن سير العمل في التجارة، وقد ورد في بعض الأحاديث: «أنّ من سبك من الدرهم والدينار حليّاً أو نحوه فراراً من الزكاة لم تجب عليه الزكاة، ولكنه قد منع

 


(1) وسائل الشيعة، ج9، ص10، الباب الأول من أبواب ما تجب فيه الزكاة، ح2.

(2) الحشر: 7.

(3) التوبة: 34_ 35.

341

نفسه من ربح المال أكثر مما منع من حق اللّٰه الذي يكون فيه»(1). فلعل هذه الروايات تشير إلى أنّ كون تحويل النقد المسكوك إلى ركاز لا يمكن التعامل به، لما كان خلاف طبع الإنسان لكونه مانعاً عن امتلاكه السيولة النقدية الآنيّة، اكتفت الشريعة بالمقدار الذي يحصل لذلك من الردع عن هذا التحويل، حيث يضرّه أكثر مما يربحه، ولم توجب عليه الزكاة في ما لو فعله صدفة، أما الذي يكثر صدوره من الإنسان فهو كنز النقد بوصفه نقداً رائجاً أو مسكوكاً فمنعت الشريعة عن ذلك بفرض الزكاة.

ويشهد لهذا الاحتمال _ أعني كون ملاك الزكاة في النقدين المنع عن ركود النقد الرائج _ ما ثبت نصاً وفتوى من شرط الحول في زكاة النقدين، فلعل السر في ذلك أنّه إذا أدخل الشخص نقوده في سير التجارة والتبادل والمعاملات خرجت عن كونها كنزاً، ولم يحصل الركود في قسم من النقد، ولهذا لم يوجب عليها الإسلام الزكاة.

إلا أنّ شرط الحول ليس مخصوصاً بالنقود بل هو موجود في الأنعام أيضاً.

أما التعدي عن الذهب والفضة إلى الأوراق الاعتبارية المألوفة اليوم في ثبوت الزكاة عليها، فقد يخطر بالبال القول: إنّ الجزم بإلغاء الخصوصية أو حكم العرف بذلك، يتوقف علىٰ فرض كون الملاك المفهوم في زكاة النقدين منحصراً بمثل سد حاجات المحتاجين وسائر المصارف العامة، مما هو مشترك بين النقدين والأوراق المالية المتداولة اليوم تمام الاشتراك. أما إذا احتملنا وجود ملاك آخر في المقام وهو المنع عن الكنز وعن ركود مبلغ من النقود وإيقاف السيولة النقدية، فمن المحتمل وجود الفرق بين مقاييس تحسين الاقتصاد في الاقتصاد القديم الذي كان النقد الرائج فيه عبارة عن الذهب والفضة، ومقاییسه في الاقتصاد المتطور القائم على أساس الأوراق التي يكون قوامها بالجعل والاعتبار، سواء فرض لها رصيد كامل أو

 


(1) راجع وسائل الشيعة، ج9، ص159، الباب11 من أبواب زكاة الذهب والفضة.

342

ناقص أو لم يفرض لها رصيد، وذلك على أساس المحدودية الطبيعية في النقود الطبيعية أي الذهب والفضة وقتئذٍ، وانكسار هذه المحدودية إلى حد كبير في النقود الاعتبارية في يومنا هذا. أما مع فرض فقدانها الرصيد أو فقدانها الرصيد الكامل فالأمر واضح. وأما مع فرض تقيد الدولة بالرصيد الكامل فلأنّ للدولة الحرية في تعيين الرصيد، فإن قلّت عندها كمية الذهب مثلاً كان لها المجال الواسع في تبديل الرصيد بمعدن آخر كالنفط مثلاً.

إذاً فقد يكون بالإمكان الحفاظ على السيولة اللازمة في البلد للنقد رغم كنز بعض الناس لبعض النقود بكميات غير واسعةٍ. ومن الواضح أنّ النصاب الأولي للزكاة لا يعتبر في مقیاس اقتصاد اليوم كمية واسعة، والمقدار المضر من تجميد النقود يختلف اختلافاً واسعاً باختلاف الظروف والأزمنة والأمكنة في عصر الاقتصاد الحديث، بل قد يتفق أن تقتضي مصلحة الاقتصاد في البلد تجميد الدولة لبعض النقود وتقليل السيولة المؤدية أحياناً إلى التضخم في الأسعار، المضر بالطبقة الفاقدة لتلك السيولة في نقودها.

أما لو قلنا بأنّ أصل تعیین مورد الزكاة ومبلغ النصاب والمقدار الواجب إخراجه ليس عدا أحكام ولائية يكون تشخيصها في كل زمان ومكان بيد ولي الأمر، وإن كان أصل الزكاة على الإجمال حكماً إلهياً، فعندئذٍ ينحل هذا الإشكال الذي ذكرناه، ولكننا في هذا الفرض لسنا بحاجة إلى التعدي من النقدين إلى الأوراق المتداولة في زماننا بحجّة إلغاء العرف للخصوصية(1)، بل نقول ابتداءً: إنّ تعيين الأعيان الزكوية في الأُمور التسعة المعروفة إنما كان حكماً ولائياً من قبل رسول الله(صلى الله عليه و آله)، ومن حق

 


(1) إلا بناءً على كون طريقة إعمال الولاية بحاجة إلى المؤشّرات في الشريعة، فقد تصلح الأحكام الولائية في الأجناس الزكوية مؤشرات بنكتة إلغاء العرف خصوصيته إلى جعل ولي الأمر في كل زمان ما يرى فيه المصلحة من الضرائب.

343

ولي الأمر في كل زمان أن يضع الزكاة على أي جنس یرى المصلحة في وضعها عليه ومنها النقود الورقية المألوفة في زماننا.

ويشهد لولائية تفاصيل الأحكام في الزكاة أمران:

أحدهما: لحن عدید من روايات الزكاة حيث تقول: «وضع رسول الله(صلى الله عليه و آله) الزكاة على تسعة وعفا عما سوى ذلك»(1).

إلا أن يقال: إنّ وضع رسول اللّٰه(صلى الله عليه و آله) وعفوه لا يدل على ولائية الحكم، لاحتمال أنّه كان(صلى الله عليه و آله) مأذوناً من قبل اللّٰه تعالى في تشريع بعض التفاصيل، كما يشهد لذلك بعض الروايات، من قبيل: ما رواه الصدوق بسنده إلى زرارة قال: قال أبو جعفر(علیه السلام): «كان الذي فرض اللّٰه تعالی على العباد عشر ركعات وفيهن القراءة وليس فيهن وهمٌ يعني سهواً، فزاد رسول اللّٰه(صلى الله عليه و آله) سبعاً وفيهن الوهم وليس فيهن قراءة، فمن شك في الأوليين أعاد حتى يحفظ ويكون على يقين، ومن شك في الأخيرتين عمل بالوهم»(2). وما ورد أيضاً بسند تام عن الفُضيل بن يسار عن أبي عبداللّٰه(علیه السلام)في موارد عديدة من تشريع الرسول(صلى الله عليه و آله) كالركعتین الأخيرتين، وكتحريم المسكر من كل شراب وإن لم يكن خمراً، وغير ذلك(3).

وثانيهما: ما ورد من وضع أمير المؤمنين(علیه السلام)الزكاة على الخيل، فعن محمد بن مسلم وزرارة بسند تام عنهما(علیه السلام)قالا: «وضع أمير المؤمنين(علیه السلام)على الخيل العتاق الراعية في كل فرس في كل عام دينارين، وجعل على البراذين ديناراً»(4). هذا بناءً على أنّ حق التشريع الدائم إن كان لغير اللّٰه فهو للرسول(صلى الله عليه و آله) فحسب لا للإمام، أو أنّه لو قلنا بثبوت

 


(1) راجع وسائل الشيعة، ج9، ص53، الباب8 من أبواب ما تجب فيه الزكاة.

(2) المصدر السابق، ج8، ص187، الباب الأول من أبواب الخلل الواقع في الصلاة، ح۱.

(3) راجع أُصول الكافي، ج1، ص266، باب التفويض إلى الرسول والأئمة، ح4.

(4) وسائل الشيعة، ج9، ص77، الباب16 من أبواب ما تجب فيه الزكاة، ح1.

344

هذا الحق للإمام أيضاً _ كما قد يستشعر من بعض روایات أُصول الكافي، باب التفويض إلى الرسول(صلى الله عليه و آله) وإلى الأئمة(علیهم السلام) _ فلا إشكال فقهياً في أنّ زكاة الخيل أو الضريبة فيه لو كانت واجبة لم تكن حكماً دائمياً، فهي لو كانت كانت حكماً ولائياً خاصاً بزمان إمامنا أمير المؤمنين(علیه السلام)ولهذا لم يُفتِ أحد من الفقهاء بوجوبها. ومن المحتمل أنّه لم تكن هذه الضريبة ملحقة بالزكاة في كل الأحكام بما فيها حرمة الأكل على ذوي القربي.

وعلى أي حال فحتى لو لم نقبل كون تفاصيل أحكام الزكاة المثبتة في الفقه أحكاماً ولائية، فلا ينبغي الاشكال _ بناءً على الإيمان بمبدأ ولاية الفقيه _ أنّ من حق ولي الأمر أن يضع ما یراه مصلحة اجتماعية من الضرائب على الأموال وإن لم تكن زكوية بالأصل(1).

هذا، وبناءً علی كون تفاصيل أحكام الزكاة إلهية لا ولائية نصطدم في التعدي إلى الأوراق المالية المتداولة اليوم، ودعوى إلغاء الخصوصية عرفاً بمشكلة أُخرى، وهي كيفية تعيين النصاب هل تقاس بقيمة الذهب أو بقيمة الفضة؟

وهناك نكتة أُخرى للتشكيك في الجزم بإلغاء الخصوصية من النقدين أبرزها بعض المعاصرين، وهي إبداء احتمال كون الخمس في أرباح المكاسب مجعولاً من قبل الأئمة(علیهم السلام) حينما رأوا انحراف الزكاة عن مسیرها وصيرورتها في مسير إعاشة الجبارين، وأنّ الخمس حق وحداني للإمام بما هو إمام يسد به مواضع الحاجة إلى الزكاة، فلم يبق داع إلى توسيع الزكاة لغير الأجناس التسعة(2).

وهذا مبني على عدم ثبوت خمس أرباح المكاسب في زمن رسول اللّٰه(صلى الله عليه و آله) والدخول في هذا البحث لا يناسب هذه الوريقات.

 


(1) ولو قلنا بحاجة كيفية إعمال الولاية إلى مؤشّرات في الشريعة، فقد يفرض جعل الضريبة على الخيل من قبل إمامنا أمير المؤمنین(علیه السلام)مؤشراً في المقام إلى ذلك.

(2) كتاب الزكاة (للمنتظری)، ج1، ص۲۸۲.

345

هذا، وقد تلخّص من كل ما ذكرناه: أنّ التعدي في باب الزكاة من النقدين إلى الأوراق المالية الاعتبارية المألوفة اليوم، بعد تسليم كون تفاصيل أحكام الزكاة أحكاماً إلهية لا ولائية، لا يخلو من إشكال.

إلا أنّ المهم هو أنّنا نعتقد على أساس مبدأ الولاية بأنّ من حق ولي الأمر فرض الضرائب على الأموال في حدود ما يراه من المصالح الاجتماعية وليس من المهم أن تصبح هذه الضرائب محكومة بحكم ما اصطلحت عليه الزكاة من حرمة صرفها على ذوي القربي.

المسألة الثانية: في تعلّق الخمس بالأوراق المالية وقد ذكرنا بهذا الصدد إشكالين:

الإشكال الأوّل: في تعلّق الخمس بما يمتلك من هذه الأوراق بالهبة، بناءً علی الإيمان بأنّ الهبة يتعلّق بها الخمس، وبناءً علی الإيمان بأنّ الهبة متقوّمة بالقبض، فعندئذٍ يقال: إنّ هذه الأوراق كانت مجرّد شيكات وسندات، فلا معنی لتعلّق الخمس بها إلا بقيمتها الضئيلة الذاتية إن كانت لها قيمة ذاتية، أما بقوّتها الشرائية الاعتبارية فلا. كما لا معنی لتعلّق الخمس بأرصدتها لعدم حصول القبض المملّك.

والجواب عن هذا الإشكال هو: ما عرفت مفصّلاً في المسألة الأولي من منع كون هذا الأوراق مجرّد شيكات وسندات لها مالية اعتبارية اجتماعية.

الإشكال الثاني: هو الإشكال في خمس أرباح المكاسب في الأوراق المالية؛ وذلك ببيان أنّ من كان رأس ماله المخمّس مائة دينار مثلاً ثم زاد في السنة الثانية إلی مائة وعشرين ديناراً فالفتوي عادة تكون بوجوب تخميس العشرين، في حین أنّه یمكن أن یقال: إنّ هذا وإن صحّ في الدنانیر الذهبیة مثلاً لكنه لا یصح في الأوراق الاعتباریة مع حالة التضخم؛ وذلك لأنّ المائة والعشرین ديناراً في السنة الثانية قد تساوي قوّتها الشرائية القوة الشرائية للمائة دينار في السنة السابقة، أو تكون أقل، فلم يحصل في الحقيقة الربح حتی يجب تخميسه.

346

ويمكن الجواب عن ذلك بأنّ هذا الإشكال قد يتوجّه بناءً علی كون هذه الأوراق قوّة شرائية متجسّدة؛ لأنّه لم يزد شيء علی ما كان يمتلكه من القوّة الشرائية، وذلك نتيجة للتضخّم، فكيف يخمّس الزيادة؟ أمّا بناءً علی كون هذه الأوراق أموالاً اعتبارية تحمل قوة الشراء، أو قل تحمل قيمة شرائية كما هو الحال في سائر السلع، فلا يتوجّه هذا الإشكال؛ لأنّ هذا المال قد زاد لا محالة فأصبح مائة وعشرين دیناراً بعد ما كان مائة دينار، فلابدّ من تخميس الزيادة.

والمبنی الأوّل باطل؛ لأنّ افتراض القوّة الشرائية التي هي أمر معنوي مُتَجسَّد في عين من الأعيان ليس عرفياً، وإنّما الشيء المفهوم عرفاً كونها حالة معنوية تحتملها الأعيان، فالمتعيّن هو الثاني، وهو أنّ هذه الأوراق أصبحت بمنزلة السلع، وتحمل قيمة اعتبارية، غاية الأمر أنّ قيمتها متقوّمة بالاعتبار ولیست قیمة حقیقية، ولیس هذا غریباً علینا، فإنّ لدینا أُنساً ذهنیاً سابقاً بالقیم الاعتباریة غیر الحقيقية، كما هو الحال في مقدار كبير من قيمة الأحجار الكريمة، فالمنفعة الأصلية غير الاعتبارية لحجر كريم كالزينة مثلاً قد لا تزيد علی منفعة حجر آخر غير كريم، بل قد تقل عنها، ولكن قيمتها الاعتبارية تفوق قيمة الحجر الآخر بأضعاف المرّات، وليس هذا إلّا بالاعتبار، نعم الفرق بين هذا الاعتبار واعتبار الأوراق أنّ المنشأ الأوّلي للاعتبار في الأوراق هو شخص معيّن أو جهة معيّنة وقد اتّبعه المجتمع لسلطته وقدرته أو لأيّ سبب آخر، في حين أنّ المنشأ لهذا الاعتبار في الأحجار الكريمة هو المجتمع مباشرة. وهذا الفرق ليس فارقاً في المقام، فكما أنّ الذهب أو أي حجر كريم يمتلكه أحد لو زاد في السنة الثانية كان عليه تخميس الزيادة ولو فرض انكسار قوّته الشرائية أو قيمته السوقية في تلك السنة، كذلك الحال في هذه الأوراق.

المسألة الثالثة: إنّ الأوراق الاعتبارية هل تلحق بالذهب والفضّة في حرمة التفاضل أو لا؟

347

ومن الطبيعي أنّ إشكال التفاضل يختص بالجنس الواحد، ووحدة الجنس أمر عرفي، فلا يقصد به في المقام كونه ورقاً أو كونه نحاساً مثلاً أو أي شيء آخر، بل يقصد به كونه كلمة واحدة، فالتومان مثلاً كله جنس واحد سواء صنع من الأوراق أو من غير الأوراق، فهل يجوز التفاضل في صرف التومان بالتومان مثلاً؟

إنّ إشكال التفاضل في الصرف يمكن أن ينشأ من أحد وجهين:

الأول منهما مطلق، والثاني منهما يختص بفرض النسيئة.

الوجه الاوّل: التعدّي من باب الصرف الوارد في الذهب والفضّة إلی الأوراق الاعتبارية، بدعوی أنّ العرف يلغي خصوصية الذهب والفضّة ويفهم أنّ المقياس في حرمة التفاضل كونه نقداً رائجاً، فكما يحرم التفاضل في تبديل الذهب بالذهب أو الفضّه بالفضه كذالك يحرم ذلك في هذه الأوراق.

إلّا أنّ هذا التعدّي في غاية الإشكال؛ لأنّ احتمال الخصوصية وارد لا محالة، والجزم بكون المقياس نقداً رائجاً لا وجه له. وتؤيد احتمال الفرق وعدم إمكان التعدي عدّة أُمور:

الأول: أنّ حرمة التفاضل لم تكن مخصوصة بفرض ثبوت السكة الرائجة علی الذهب والفضّة، بل هي ثابتة في ذات الذهب والفضّة وإن لم يكن نقداً رائجاً، اللهم إلّا أن يفترض أنّ الذهب والفضّة لهما لدی الأعراف الاجتماعية حظّ من النقديّة والثمنية ولو لم يكونا مسكوكين، وأنّ هذا كان هو الملاك في الحكم لا خصوص رواج النقد.

والثاني: أنّ نفس الحكم ثبت في كلّ مكيل وموزون ولم يختص أصلاً بالذهب والفضّة.

والثالث: حرمة التفاضل حتی مع فرض الاختلاف في الجودة والرداءة مما يشهد لكون الحكم تعبّدياً بحتاً لا بنكتة عقلائية اقتصادية ثابتة في الأوراق أيضاً، فإنّ تلك النكتة العقلائية إن كانت هي الموثرة _ وهي ثبوت الربح بلا مقابل مثلاً _ لا تكون في ما إذا كانت الزيادة في القسم الرديء في مقابل القسم الجيد. اللهم إلّا إذا فرض

348

أنّ تلك النكتة حكمة لتحريم التفاضل علی الإطلاق، وإن كانت قد تتخلّف في بعض الموارد، كما يشهد لذلك تعليل التحريم في بعض الروايات بتلك النكتة، من قبيل: ما ورد بسند غير تام عن علي بن موسي الرضا(علیه السلام): وعلة تحريم الربا لما نهی اللّه(وجل عز) عنه، ولما فيه من فساد الأموال؛ لأنّ الإنسان إذا اشتری الدرهم بالدرهمين كان ثمن الدرهم درهماً وثمن الآخر باطلاً، فبيع الربا وشراؤه خسارة علی كلّ حال علی المشتري وعلی البائع، فحرّم اللّه(وجل عز) علی العباد الربا لعلّة فساد الأموال، كما حظر علی السفيه أن يدفع إليه ماله لما يتخوّف عليه من فساده حتی يؤنس منه رشد. فلهذه العلّة حرّم اللّه(وجل عز) الربا وبيع الدرهم بالدرهمين.(1)

الوجه الثاني: _ وهو يختص بما إذا كان ما فيه الزيادة مؤجّلاً، وهو الوجه الصحيح _ أنّ الزيادة في الأوراق المؤجلة مشمولة لأدلّة حرمة الربا القرضي من الآيات والروايات وذلك بأحد بيانين:

الأول: أنّ إطلاق الربا يشمل ذلك، فإنّنا لا نحتمل أنّ مجرد الفرق في التكييف بجعله قرضاً أو بيعاً يكون له دخل في صدق عنوان الربا وعدمه، والقرائن التي توجب صرف مطلقات الآيات أو الروايات عن الربا المعاملي لا تشمل هذه المعاملة التي لا تختلف في روحها عن القرض، وذلك من قبيل قوله تعالي: ﴿وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ﴾(2) أو قوله تعالي: ﴿أَضْعَافَاً مُضَاعَفَهً﴾(3). مما أوجب صرف الآيتين إلی الربا القرضي، فإنّ هذا النحو من المعاملة وهو بين مبلغ من الأوراق نسيئة بمبلغ من نفس الجنس نقداً أقل من ذاك المبلغ، لا يخرج بمثل هذين التعبيرين، كما هو واضح.

 


(1) وسائل الشيعة، ج18، ص121، الباب الأول من أبواب الربا، ح11.

(2) البقره: 279.

(3) آل عمران: 130.

349

والثاني: أنّنا لو سلّمنا عدم الإطلاق اللفظي فلا نشك في التعدي العرفي، فليس من المحتمل أنّ مجرد تحويل صيغة القرض إلی صيغة البيع المؤجّل يحلّ مشكلة الربا، وإلّا لأمكن حلّ مشكلة الربا من الباب الواسع وبعرضه العريض بلا أيّ استثناء، لإمكان إرجاع كلّ قرض إلی البيع المؤجّل.

أمّا المبادلة بين سنخين من الأوراق، أعني بين عُملتين كالتومان والدولار مثلاً فإذا كانا نقدين فلا إشكال في جوازها، مهما فرضت الزيادة في أحد الطرفين، وأمّا إذا كان أحدهما مؤجّلاً _ بناءً علی عدم قبول شرط القبض في ما سيجيء إن ‌شاء الله من البحث في المسألة الرابعة _ فإن لم يجعل للأجل قسط من الزيادة فلا إشكال في ذلك؛ وإن جعل للأجل قسط من الزيادة فالبيان الأول من البيانين اللذين ذكرناهما _ وهو دعوی الإطلاق اللفظي _ لا يأتي في المقام ولكن البيان الثاني _ وهو التعدّي العرفي _ قد يتمّ في المقام.

المسألة الرابعة: إنّ الأوراق الاعتبارية هل تلحق بالذهب والفضّة في شرط القبض أو لا؟

ومقصودنا هنا هو شرط القبض في مبادلة الذهب بالفضّة لا الذهب بالذهب أو الفضّة بالفضّة؛ إذ لا إشكال في مبادلة الذهب بالذهب أو الفضّة بالفضّة بلا تفاضل من دون شرط القبض، إلّا إذا اشترطنا القبض في مطلق المتجانسين أو عدم النسيئة، فإن اشترطنا القبض أو عدم النسيئة في مطلق المتجانسين كان ذلك شرطاً أيضاً في الذهب وفي الفضّة وفي الأوراق الاعتبارية، وعدم النسيئة أعمّ من القبض. وتحقيق المطلب موكول إلی محلّه.

أمّا شرط القبض في مبادلة الذهب بالفضّة فهو الوارد في روايات عديدة(1)معارضة

 


(1) وسائل الشيعة، ج18، ص167، الباب2 من أبواب الصرف.

350

بروايات أخری(1)والمشهور علی الأوّل. وأصل البحث موكول إلی محلّه، إلّا أنّ الذي نريد أن نقوله هنا هو أنّه بناءً علی شرط القبض في مبادلة الذهب بالفضّة فهل نتعدّی من ذلك إلی الأوراق الاعتبارية إذا كانت من سنخين _ أي كانت المبادلة بين عملتين _ أو لا؟

الظاهر أنّ التعدّي مشكل؛ لأنّ ذلك حكم تعبّدي بحت لا نعرف ملاكه، ولا يستبعد العرف الفرق، خصوصاً وأنّ الحكم لم يكن مخصوصاً بالمسكوكين حتی يحمل علی مطلق النقد الرائج، اللهم إلّا أن يقال إنّ الذهب والفضّة لهما حظّ من النقدية والثمنية ولو لم يكونا مسكوكين، وإنّ الحكم بوجوب القبض كان بهذا اللحاظ.

المسألة الخامسة: هل يمكن تصحيح الزيادة وتخريجها فقهياً في الأوراق الاعتبارية في القرض إذا لم تزد علی مقدار التضخّم أو لا؟ وما هو حكم النقيصة لدی فرض انخفاض التضخّم؟ وكذلك الحال في سائر الضمانات كضمان الغصب مثلاً. ولتصحيح أخذ الزيادة في قرض الأوراق الاعتبارية من دون لزوم الربا وجهان:

الوجه الأوّل: أنّ هذه الأوراق قوّة شرائية متجسّدة، فحينما أقرضه مقداراً من القوة الشرائية فقد انشغلت ذمّة المدين بذاك المقدار، وعليه أن يردّ في وقت الأداء نفس ذاك المقدار من القوّة الشرائية فإذا انخفضت القوّة الشرائية للأوراق بازدياد التضخّم كان عليه إرجاع كميّة أكبر من تلك الأوراق تساوي قوّتها الشرائية التي اقترضها قبل ذلك.

وهذا التخريج كما يخرّج الزيادة لدی شدّة التضخّم كذلك يخرج النقيصة لدی انخفاض التضخّم، أي أنّه لدی انخفاض التضخّم يكون من حقّ المدين أن يدفع مبلغاً أقل مما أخذه من الأوراق، وتكون النقيصة بمقدار ما يناسب انخفاض التضخّم؛

 


(1) وسائل الشيعة، ج18، ص167، الباب2 من أبواب الصرف.

351

لأنّه كان قد استدان منه في الحقيقة قوّة شرائية، والآن عليه أن يردّ نفس تلك القوّة وهي متجسّدة اليوم في مبلغ أقل من تلك الأوراق.

هذا وقد عرفت في ما سبق بطلان هذا المبنی، وأنّ افتراض تجسّد أمر معنوي وهو القوّة الشرائية ليس عرفياً.

والوجه الثاني: وهو أقوي الوجهين: أنّ هذه الأوراق أموال اعتبارية تحمل قوّة شرائية، وهي أموال مثلية تكون قوّتها الشرائية من صفات المثل، فلابدّ من الاحتفاظ بها لدی الأداء، ولذا يجب إرجاع مبلغ أكبر لدی ضعف القوة الشرائية في وقت الأداء بالتضخّم.

وهذا الوجه يخرّج الزيادة لدی شدّة التضخّم، ولكنه لا يخرّج النقيصة لدی انخفاضه، فالمقترض مدين بصفة القوّة الشرائية وبكميّة المال أيضاً، فإذا ارتفعت القوّة الشرائية كان عليه ردّ نفس المقدار من الأوراق حفاظاً علی الكميّة، وإذا انخفضت القوّة الشرائية كان عليه ردّ مقدار أكبر حفاظاً علی صفة القوة الشرائية.

وقد يورد علی هذا الوجه: أنّ اختلاف القوّة الشرائية ليس مخصوصاً بالأوراق الاعتبارية، بل الذهب والفضّة قديماً أيضاً كانا يبتليان باختلاف القوّة الشرائية صعوداً تارةً ونزولاً أُخری، وباختلاف القيمة السوقية لدی مقايسة أحدهما بالآخر، وكلّ هذا لم يكن يؤثّر في تحريم الزيادة واعتبارها رباً ومشموليتها لقوله تعالی: ﴿وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ﴾(1).فلماذا يفترض ذلك مؤثراً في الحكم بالنسبة للأوراق الاعتبارية؟

بل إنّ اختلاف القوّة الشرائية أمر يعتري جميع السلع، فكلّ سلعة من السلع قد تضعف قوّتها الشرائية أو تقوی بسبب كثرة العرض أو الطلب أو قلته أو بأي سبب آخر، ولا تعتبر القوّة الشرائية من صفات المثل التي يجب الاحتفاظ بها من قبل المدين لدی

 


(1) البقرة: 279.

352

ردّ الدين في المثليات، فلماذا ندخلها في صفات المثل في خصوص الأرواق الاعتبارية؟

وما يمكن أن يذكر كجواب عن هذا الإشكال هو: أنّ القوّة الشرائية لم تكن تعتبر في الذهب والفضة وكذلك في سائر السلع منفعة استعمالية، بل كانت هي المنفعة السوقية، وما يدخل عرفاً في صفات المثلية إنّما هي المنافع الاستعمالية لا السوقية، فكانت الزيادة صادقة حقيقة في نظر العرف بمجرد الازدياد في الكميّة، سواء زادت بذلك المنفعة السوقية أو لا، وأمّا هذه الأوراق الاعتبارية المتداولة اليوم فبما أنّها لا منفعة لها تذكر غير نفس القوّة الشرائية، فقوّتها الشرائية هي التي تعتبر عرفاً بمنزلة المنفعة الاستعمالية، أي تعتبر داخلة في أوصاف المثل، أمّا ما هو المقياس في تشخيص مقدار القوّة الشرائية أو مبلغ التضخّم، فقد ذكر أستاذنا الشهيد(رحمه الله) أنّ ذلك يقدّر بسعر الصرف بالذهب(1)ولم‌ يذكر الوجه في ذلك، ولعلّ الوجه في ذلك دعوی عرفية هذا التقدير، باعتبار أنّ العرف ينظر إلی الذهب بمنظار كونه نقداً وثمناً ذاتياً، ولعلّ الأولی من هذا ما لعلّه المتعارف اليوم من تعيين درجة التضخّم بالأخذ بأمر وسط بعد أخذ كل السلع ومدی تضخّم قيمها بعين الاعتبار.

وعلی أیة حال، فهذا الوجه الذي ذكرناه لتصحیح أخذ الزیادة في مورد ردّ القرض بالمبلغ المناسب للتضخّم أو المقدّر بصرف الذهب قابل للمناقشة نقضاً وحلّاً:

أمّا النقض: فبأنّ الذهب والفضة وإن كانت لهما منفعة استعمالية غير القوة الشرائية لكن الغالب في ‌خصوص المسكوكين منهما أنّه لم يكن يستفاد منهما في المنافع الاستعمالية إلّا بالتذويب وإخراجهما عن كونهما مسكوكين، وكانت الاستفادة شبه المنحصرة من المسكوكين عبارة عن الاستفادة من قوّتهما الشرائية، فلئن كان انحصار الفائدة لهذه الأوراق الاعتبارية في القوة الشرائية سبباً في إدخال

 


(1) راجع الإسلام يقود الحياة، الحلقة السادسة، ص109.

353

العرف للقوّة الشرائية في صفات المثل، وعدم صدق الزيادة بمجرّد الزيادة في الكم ما لم تقترن بزيادة في القوّة الشرائية، لكان انحصار الاستفادة عملاً في ذلك في الذهب والفضة المسكوكين بالقوة الشرائية أيضاً سبباً في إدخال ذلك في صفات المثل، ولازم ذلك جواز أخذ الزيادة في الذهب المسكوك أو الفضة المسكوكة لدی نزول القوة الشرائية لأحدهما صدفة، ولا أظنّ أحداً يلتزم بذلك. نعم الفرق بين الموردين هو: أنّ هذه الأوراق تكون منفعتها منحصرة في ذاتها في القوة الشرائية، لكن الذهب والفضة المسكوكين ليست منفعتهما منحصرة بالذات في ذلك، لإمكان الاستفادة الاستعمالية منهما ولو بالتذويب. ولكن دعوی كون هذا الفرق فارقاً، رغم أنّ الغالب في العمل عدم الاستفادة الاستعمالیة منهما بالتذویب المؤدي إلی خسارة قيمة السكة وندرة الاستفادة الاستعمالية مع الاحتفاظ بالسكة عهدتها علی مدّعيها.

وأمّا الحلّ: فبأن يقال: إنّ للشيء المثلي عدة ألوان من الأوصاف، فيجب أن نری أي لون منها يكون داخلاً في مثلية المثل.

اللّون الأول: الأوصاف الذاتية للشيء كالسواد والبياض وما إلی ذالك، وأقصد بالأوصاف الذاتية أوصاف الشيء التي ليست بلحاظ المقایسة إلی مناشئ حاجات الإنسان، ولا المقايسة إلی سائر الأموال، وإن كانت هي مصبّاً للحاجات أو للمقايسة إلی سائر الأموال، فاللون أو الطعم قد يكون مطلوباً ومصبّاً للحاجة أو يقايس به بين سلعة وسلعة، لكنه بحدّ ذاته صفة للسلع بغضّ النظر عن مناشئ حاجة الإنسان أو سائر السلع والأموال.

واللّون الثاني: الأوصاف النسبية الراجعة إلی المقايسة مع مناشئ الحاجات الاستعمالية أو الاستهلاكية للناس، كوقاية الثوب من البرد التي تقاس بالبرد وتنعدم لدی حرّ الهواء، وكمشبعية الخبز التي تقاس بجوع الإنسان وتنعدم لدی شبع الإنسان، وكتأثير الدواء في الشفاء الذي يقاس بالمرض وينعدم بالصحة والسلامة.

354

وهذه الأوصاف تتقوّم عادة بجانبين: جانب ذاتي للسلعة، وجانب آخر خارج عن حدّ السلعة، وهي بمقدار ما ترجع إلی الجانب الذاتي تدخل في القسم الأوّل، وإنّما تعتبر وصفاً نسبياً في مقابل الوصف الذاتي بلحاظ الجانب الآخر، فمثلاً وقاية الثوب بمقدار ما ترجع إلی ضخامة الثوب وصف ذاتي للثوب، فلو أنّ أحداً استعار ثوباً ثم خفّت وقايته عن البرد لدی ردّه إلی صاحبه نتيجة للاستعمال الذي أدّی إلی تقليل ضخامته، فقد تغیّر وصف ذاتی للثوب وهو ضخامته أو وقایته بقدر ما ترجع إلی ضخامته. أمّا لو استعار ثوباً ثم انعدمت وقايته عن البرد لدی ردّه إلی صاحبه بسبب حرّ الهواء، فهذا لا يعتبر تغيّراً في الوصف الذاتي للثوب، وكذلك الدواء لو خفّ تأثيره في الشفاء نتيجة افتقاره لبعض خواصه بسبب مرور الزمان عليه، كان هذا تغيراً في الوصف الذاتي، ولكن لو خفّ تأثيره في الشفاء نتيجة تقدّم المجتمع في كيفية الوقاية عن الأمراض ممّا أدی إلی التقليل المرض في المجتمع، فليس هذا تغيراً في الوصف الذاتي لهذا الدواء. وكذلك الخبز لو قلّ تأثيره في الإشباع نتيجة التنقيض من كمّيته، فهذا تغير في وصفه الذاتي، أمّا لو قلّ في الإشباع نتيجة شبع الناس بعامل آخر فهذا ليس تغيراً في الوصف الذاتي.

والثالث: الأوصاف النسبية الراجعة إلی المقايسة مع باقي السلع أو الأموال كالغلاء والرخص والقوة الشرائية، فهذه أيضاً لا تعتبر أوصافاً ذاتية للشيء، فلو رخص المتاع أو غلا وقلّت قوّته الشرائية أو زادت لم يكن ذلك تغيراً في ما يرجع إلی ذات ذاك المتاع.

والأوصاف الدخلية في المثل عرفاً أي الداخلة في قوله تعالي: ﴿إِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكمْ﴾ إنّما هو القسم الأوّل من الأوصاف، ولهذا تری أنّه لو استطاع أحد التأثير في طقس الهواء بكسر البرد القارص بعملية من العمليات لا يقال عرفاً أنّه قد تصرّف في‌ الملابس الشتوية للناس، حيث قلّل من منافعها الاستعمالية أو من قيمها السوقية بسبب كسر البرد الموجود. نعم لو أثر تأثیراً كیمیاویاً في الهواء بحیث أدی

355

ذلك إلی تضرّر تلك الألبسة بفقدانها للمقاومة والدوام بسبب تغيّر الوضع الكيمياوي للهواء فقد صدق أنّه سبّب تغييراً في ذوات الألبسة.

وهذا الذي ذكرناه لا يعني الإنكار نهائياً لضمان ما سمّيناه بالأوصاف النسبية، فبالإمكان أن يدّعی ضمان القسم الثاني من الأوصاف في بعض الموارد إذا شمله دليل من أدلّة الضمان. فمثلاً: لو أنّه غصب ثلجاً في الحرّ الشديد ثم أرجع نفس المقدار من الثلج إلی مالكه في الشتاءالشديد البرد، فهنا قد يقال بأنّ حيلولته بين المالك وبين المنفعة الاستعمالية العظيمة التي كانت للثلج في أيام الحرّ والتي انتفت مع شدة البرد أوجبت ضمانه لتلك المنفعة الاستعمالیة، وعدم كفایة إرجاع المثل في الخروج عن ضمان الغصب، وذلك لانطباق أحد أسباب الضمان وهو الإضرار مثلاً علی هذه الحيلولة أو لدلالة قاعدة «لا ضرر ولا ضرار» علی الضمان في المقام حتی بعد إرجاع ما يساوي ذلك الثلج، لكن هذا لا يعني أنّ هذه المنفعة الاستعمالية التي انتفت ببرد الهواء كانت من صفات المثل، بحيث لو أرجع إليه في الشتاء ما يساوي ذلك الثلج لم يرجع إليه المثل. والدليل علی ذلك أنّه لو لم يغصب منه ثلجاً لكنّه أثر تأثيراً كيمياوياً في الهواء بحيث أوجب برد الهواء، لم يضمن لصاحب الثلج شيئاً باعتبار إسقاطه لثلجه عن المنفعة الاستعمالية؛ وذلك لأنّ سبب ضمان المنفعة الاستعمالیة في الفرض الأول لم يكن عبارة عن عدم صدق المثل علی الثلج في الشتاء حتی يقال إنّ تبريده للجوّ أيضاً أوجب فقدان وصف المنفعة فهو له ضامن، وإنّما كان سببه عبارة عن الإضرار بالحيلولة بين المالك وبين ما كان يقدر عليه من الانتفاع بالثلج في الصيف، وهذا الإضرار غير موجود في الفرض الثاني؛ لأنّ ما فعله من تبديل الجو كان أثره عبارة عن رفع الحاجة إلی الثلج، لا عبارة عن المنع عن الانتفاع به رغم الحاجة، ورفع الحاجة ليس إضراراً وإنّما الإضرار هو المنع عن الانتفاع رغم الحاجة. نعم قد سبّب له إضراراً بلحاظ القسم الثالث من أقسام الوصف، أي

356

بلحاظ المنفعة السوقية؛ حيث إنّه كان بإمكانه أن يربح ربحاً عظيماً ببيع ما يمتلكه من الثلوج، وبعد أن برد الجوّ بسبب فعل كيمياوي من قبل هذا الشخص حُرم هذا الرجل التاجر المالك للثلوج من هذه التجارة المربحة؛ إذ لا أحد يشتري منه الثلج عندئذٍ، إلّا أنّ هذا الضرر ليس مشمولاً لدليل نفي الضرر لما ذكره أستاذنا الشهيد(رحمه الله) في بحث «لا ضرر» من أنّ ما يعتبر ضرراً بالعقلية التجارية، لا بعقلية المنفعة الاستعمالية إنّما هو ضرر نسبي ومضاف إلی العقلية التجارية، وليس ضرراً مطلقاً، فينصرف عنه دليل نفي الضرر، سنخ انصراف أدلة أحكام الماء عن الماء المضاف.

وبما ذكرناه اتّضحت إمكانية التفصيل بين من غصب ثلجاً في الصيف وأراد إرجاعه او إرجاع ما يماثله في الشتاء، ومن اقترض ثلجاً في الصيف لمدة حلول الشتاء ثم أرجعه لدی حلول الشتاء. فالأول يكون ضامناً للفارق بين ثلج الصيف وثلج الشتاء، أي للمنفعة الاستعمالية التي حرم منها مالك الثلج، فلا يكفيه إرجاع ذاك المقدار من الثلج، بل يجب الانتقال إلی القيمة مثلاً، وذلك لمثل دليل «لا ضرر» ولكن الثاني ليس عليه عدا إرجاع ذاك المقدار من الثلج؛ وذلك لأحد وجهين:

الأوّل: عدم الدليل علی ضمان ما هو أكثر من ذلك؛ لأنّ حرمان المالك من الانتفاع بثلجه في الصيف كان بإذنه، ومعه لا يكون مشمولاً لقاعدة «لا ضرر» فلا يبقی وجه للضمان إلّا نفس القرض. وقد قلنا إنّ الداخل في أوصاف المثل إنّما هي الأوصاف الذاتية، ولم تتبدّل الأوصاف الذاتية في المقام.

والثاني: النهي الصريح القطعي في الشريعة الإسلامية عن أخذ الزيادة في باب القرض، فبعد أن لم تكن تلك الأوصاف ذاتية ودخلية في المثل، يكون إلزام المدين بتدارك تلك الأوصاف داخلاً لا محالة في ذاك النهي، في حين أنّنا في باب الغصب لم نكن نمتلك نهياً من هذا القبيل كي يقف هذا النهي أمام إطلاق قاعدة «لا ضرر» مثلاً.

وبعد هذا البيان نعود إلی حديثنا عن الأوراق المالية الاعتبارية المألوفة في هذا

357

الزمان ونقول: بالامكان التفصيل بين أقسام الضمان فيها:

ففي مثل ضمان الغصب نقول: إنّ من غصب ألف دينار وبعد خمسين سنة تاب إلی اللّه وأراد إرجاع المبلغ بعد أن سقط الدينار سقوطاً فظيعاً خلال خمسين سنة نتيجة للتضخّم المتزايد في البلاد، وجب عليه إرجاع ما يناسب هذا التضخّم، ولا يكفيه إرجاع نفس المبلغ القديم، وذلك تداركاً للضرر الذي يحكم به الارتكاز العقلائي وتمسّكاً بقاعدة نفي الضرر.

فإن قلت: إنّ هذه منفعة سوقية وداخلة في القسم الثالث من الأقسام الثلاثة الماضية لأوصاف المثل، وليست داخلة في القسم الثاني وهي المنافع الاستعمالية وقد مضي أنّ تخسير المنفعة السوقية لا يوجب الضمان، ولذا لو استورد شخص مبلغاً كبيراً من سلعة يملك مثلها تاجر آخر وبذلك كسر القيمة السوقية لما يمتلكه ذاك التاجر، وذلك علی أساس كثرة العرض، لم يضمن له شيئاً. وقد نقلنا عن أُستاذنا الشهيد(رحمه الله) أنّه ذكر أنّ الضرر بلحاظ المنفعة التجارية إنّما هو ضرر نسبي ومضاف، فلا يشمله دليل نفي الضرر.

قلنا: بما أنّ هذه الأوراق النقدية تكون منفعتها السوقية مطلوبة لكل واحد فقد أصبحت هي كالمنفعة الاستعمالية، أي أنّه ما دامت هذه المنفعة أصبحت منفعة عامة منظوراً إليها لكل أحد، فالضرر بالنسبة لها كأنّما يعتبر ضرراً مطلقاً لا نسبياً ومضافاً، فتشملة أدلة نفي الضرر(1).

 

 

<


(1) قد تقول: یلزم من ذلك أنّ السلطة لو طبعت من نقدها مبلغاً كبیراً وأدخلته فی السوق فانخفضت بذلك القوة الشرائیة لما فی أیدی الناس من النقود یجب أن تكون ضامنة لهم؛ لما أجرت علی أموالهم من النقص فی القوة الشرائیة: إلّا أنّ الواقع هو أنّه بما أنّ القوة الشرائیة للنقود كانت من أساسها مستمدة من سلطة السلطان، وبلحاظ دائرة سلطته یری أنّ من حقّه إضافة السكة، فیحكم عقلائیاً بعدم ضمانه؛ لأنّه لم یفعل إلّا ما كان من حقّه. بخلاف الغاصب، فإضافة السكة من قبل السلطان

358

ولكن في مثل ضمان القرض ليس الأمر هكذا؛ لأنّ دليل الضمان فيه لم يدلّ علی أكثر من ضمان نفس الشيء المقترض الذي لا يدخل في مثليته إلّا الأوصاف الذاتية بالمعني الذي شرحناه. أو نقول في خصوص القرض بأنّه: حتی إذا فرض وجود إطلاق يثبت ضمان القوة الشرائية، فهو مقيد بما ثبت ثبوتاً قطعياً في الشريعة من تحريم الزيادة في القرض، والزيادة تصدق علی تدارك القوة الشرائية ما دامت هي خارجة عن الأوصاف الذاتية التي تعدّ من أوصاف المثل. نعم، لو صحّ أنّ هذه الأوراق تعتبر عرفاً قوة شرائية متجسدة لما كانت تصدق الزيادة علی تدارك القوة الشرائية. ولكن مضی منا النقاش في ذلك. نعم لو أسقط السلطان السكة القديمة وأتی بسكة جديدة فمقتضی القواعد أنّه يجب علی المدين الأداء بالسكة الجديدة؛ لأنّ رواج السكة وصف ذاتي للسكة بالمعنی الذي قصدنا من الذاتية، أي أنّه ليس نسبياً بين السكة وسائر الأمتعة بلحاظ المقايسة في ما بينها وفي قانون العرض والطلب، فسقوط السكة بإسقاط السلطان يختلف عن هبوط قوّتها الشرائية بسبب وفرتها في البلاد أو بسبب ندرة سائر السلع، أي يعتبر ذاك السقوط تغيراً حقيقياً في النقد، ويعتبر الرواج من الصفات الداخلة في المثل، فلا يكون الالتزام بأداء السكة الجديدة التزاماً بالزيادة كي يدخل تحت عنوان الربا.

وأمّا الروايات في مسألة إسقاط السلطان للنقد فمتضاربة كما يظهر ذلك بمراجعة «الوسائل» المجلد الثاني عشر الباب العشرين من أبواب الصرف، وتلك الروايات

 

 

حالها حال اكتشاف أحد لمنجم الذهب فی عصر الدینار الذهبی، فبما أنّ من حقّ كلّ أحد هذا الاكتشاف رغم أدائه إلی نزول القوة الشرائیة للدنانير المملوكة للناس، فلا یحكم عقلائیاً علی المكتشف بضمان ذلك للناس، مع أنّ القوة الشرائیة للذهب أیضاً كانت وقتئذٍ داخلة فی الغرض العام للناس، فالضرر الناتج من ضعفها لو عدّ ضرراً لعدّ ضرراً مطلقاً، لا نسبياً ومضافاً.

359

إنّما وردت في النقد الحقيقي المدعم بالاعتبار أي في الدينار الذهبي والدرهم الفضّي، أمّا النقد الاعتباري البحت كالأوراق الرائجة في زماننا فالمرجع بشأنه هو ما تقتضيه القاعدة، وقد شرحناه.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.