نظرة الإسلام إلى الحقوق الزوجيّة
بسم الله الرحمن الرحيم*
الحمد لله، والصلاة والسلام على عباده الذين اصطفى محمد وآله الطاهرين، واللّعن على أعدائهم أجمعين.
إنّ من رأي الإسلام أنّ سعادة الحياة البشرية تكون بتطبيق نظام الأُسرة دون الشيوعية الجنسية؛ لأنّ النظام الأُسري يؤمَّن حاجتين مهمَّتين من الحاجات البشرية، بل من أهمّها، وهما:
۱_ حاجة الإنسان إلى استقرار الحياة ونظمها.
۲_ حاجة الإنسان الروحية إلى الحب والوداد، والعطوفة والرحمة.
فمن أهمّ حاجاته الروحية والنفسية أن يُحِبّ وأن يُحَبّ، وأن يقيم علاقة الودّ والتعاطف مع آخرين. فالطفل بطبيعته الروحية بحاجة إلى من ينظر إليه بعين الرأفة والمحبّة، ويحنو عليه بقلب رؤوف، ويلاطفه بأعذب الكلمات، ويداعبه بيد العطوفة والرحمة. والمرأة تحسّ بالحاجة الماسّة الروحية إلى جذب عواطف الرجل وامتلاك قلبه. والرجل يحسّ بالحاجة إلى ريحانة ينشأ معها علاقة الودّ والرعاية إلى
*. كتب سنة 1408هـ.
جنب علاقة الجنس، قال الله تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لَّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيݧݧݧݨَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُوُنَ﴾(1).
والعلاقات الجنسية لا تلبّي إلّا حاجة الجسم والجانب المادي، ولا يرتوي بذلك الجانب الروحي؛ ولذا تراهم يحاولون إشباع هذه الحاجة الماسّة _ بعد فقدهم للنظام الأُسري بشكله الصحيح الإسلامي _ عن طريق الروابط غير المشروعة التي لا تفي بتأمين شيء من الحاجتين اللّتين أشرنا إليهما، وكذلك ترى الطفل الذي لا يتربّى تحت عطوفة كعطوفة الأب والأُمّ، ينشأ معقّداً في حياته بتعقيدات نفسيّة خطرة؛ بسبب أنّه لم تشبع حاجته النفسيّة إلى رأفة الوالدين وعطوفتهما، وبسبب أنّه لم يكن مَن قام بشأنه من هيئة حكومية أو نحو ذلك مندفعاً اندفاعاً حقيقيّاً إلى تربيته وتلبية حاجاته الجسديّة والروحية بالشكل الكامل.
وبعد أن رأى الإسلام لهذه الأُمور وأمثالها سعادة الحياة الأُسريّة في نظام الأُسرة، حرّم الإباحيّة والشيوعيّة الجنسيّة، وأقام المجتمع على أساس تركّبه من وحدات أُسريّة، واتّخذ الاحتياطات بهذا الصدد، ومن أهمّها مسألة الحجاب، أقول: بعد هذه الرؤية من قبل الإسلام أصبح الإسلام بصدد تنظيم حقوق الزوجية، فنظّمها على وفق ما تتطلّبه أُسس خمسة:
الأساس الأوّل: الإيمان بأنّ الحياة الموحّدة المشتركة بحاجة إلى قيادة موحّدة، وهذا هو أساس جعل الإسلام القيمومة في الحياة الزوجية دون حياة الأخ وأُخته، أو الأب وبنته غير المتزوّجة. فتخصيصُ فكرة القيمومة بالحياة الزوجية دون غيرها يدل على أنّ الإسلام لا ينظر إلى الأُنثى كوجود ناقص يحتاج إلى قيّم ووليّ، بل يراها حرّة في تصرّفاتها وفي قيمومتها على نفسها وعلى حياتها كالرجل؛ ولذا لم يَفترِض قيمومة
للأخ على الأُخت، أو للأب على البنت؛ لأنّه لم يكن المفروض في نظر الإسلام على الأُخت أو البنت أن تشكّل حياةً موحّدة مع الأخ أو الأب، بل ترك ذلك إلى الأحوال والملابسات. فلو اتّفقا بحسب الأحوال والملابسات على الاشتراك في الحياة الموحّدة، لأصبحت عادةً القيمومة بيد أقواهما وأقدرهما وأعقلهما، لا كفرض من قبل القانون الإسلامي، بل كاختيار عملي من قبلهما، كما كان أصل الاشتراك في الحياة الموحّدة اختياريّاً منهما، وهذا بخلاف الحال في الزوج والزوجة اللذين هما النواة الأساسيّة في الإسلام للمجتمع الأُسري الذي هو النواة في الإسلام للمجتمع كلّه. فاشتراكهما في حياة موحّدة أمرٌ مفروض من قبل الإسلام، وكذلك تطبيق فكرة القيادة الموحّدة لهذه الحياة أصبح أمراً مفروضاً من قبل الإسلام.
الأساس الثاني: أفضليّة الرجل على المرأة في غلبة الجانب العقلي فيه على الجانب العاطفي، بعكس ما هو الحال في المرأة من ناحية، وفي القوّة المزاجيّة وقدرته على الصمود أمام المشاكل والتغلّب عليها والاحتجاج لدى الخصم من ناحية أُخرى، قال الله تعالى: ﴿أَوَ مَن يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ﴾(2)، وقال تعالى: ﴿الرَّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النَّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ﴾(3)، فهذا الأساس الثاني هو الذي أوجب أن تكون القيمومة المفترضة في الأساس الأوّل بيد الزوج دون الزوجة، وهذه القيمومة اقتضت:
أوّلاً: أن تكون رؤوس خيوط الحياة الزوجية بيد الزوج على شكل الحتم والوجوب، وعلى هذا الأساس جُعلت النفقة بيد الزوج، وجعل خروج الزوجة من البيت مشروطاً بإذن الزوج، وجعل التمتّع الجنسي في حالاته الغالبة بيد الزوج،
(1) الزخرف: ۱۸.
(2) النساء: ۳٤.
وجعل إنهاء الحياة الزوجية بالطلاق، وكذلك الرجوع إليها في العدّة بيده، وكان المهر الذي فرض في أصل عقد هذه الحياة عليه وليس عليها(1).
وثانياً: استحباب إعطاء الزوجة زمام أمورها الشخصية بيد الزوج. أمّا لماذا صار هذا مستحبّاً ولم يصبح واجباً؟ فهذا ما يتّضح من مجموع ما سنذكره في ضمن بحثنا عن الأساسين الرابع والخامس إن شاء الله.
الأساس الثالث: الشهوة الجنسية، فبعد أن كان الإسلام ديناً واقعيّاً يهدف إلى تلبية الحاجات الجسديّة كالروحيّة سواء بسواء، ولا يجوّز طغيان أحد الجانبين على حقوق الجانب الآخر، هدف إلى تهذيب الطرق الموصلة إلى إشباع تلك الحاجات، والمنع من السرف في بعض الجوانب على حساب باقي الجوانب ومن الأساليب غير المشروعة، ولم يهدف إلى إقصاء بعض القوى، أو سدّ الباب أمام تلبية حاجة طبيعية بمثل الرهبنة أو الزهد بمعناه غير الصحيح.
ومن حاجات البشر الملحّة هي حاجته إلى إشباع الرغبة الجنسية، فكان لابدّ من إشباعها في النظام الإسلامي؛ حفاظاً على واقعية الإسلام، وكونه دين فطرة، وتلبيةً للحاجات، وحفظاً للنسل، ولم يجوّز إشباعها عن طريق الإباحيّة الجنسيّة؛ لما مضى من أنّ الإسلام رأى سعادة الحياة البشرية في النظام الأُسري؛ فلأجل التجاوب مع الرغبة الجنسيّة من ناحية، ولأجل الحثّ على النظام الأُسري الذي هو الطريق الوحيد لإسعاد المجتمع من ناحية أُخرى، ولأجل تفادي المضاعفات المترتّبة على شهوة الجنس حينما لا تُروى بالشكل المشروع من ناحية ثالثة، حثّ الإسلامُ على الزواج، بل على الزواج المبكَّر، وجعله من أعظم المستحبّات، ومن سُنَنِ الإسلام
(1) وذكر المرحوم الشهيد آية الله المطهّري(رحمه الله) نكتة أُخرى لجعل المهر على الزوج دون الزوجة، وهي: كون ذلك مناسباً لمزاج الرجل والمرأة، فمزاج الرجل أقرب إلى الطلب والتعشّق بالمرأة، ومزاج المرأة أقرب إلى تقبّل طلب الرجل وتعشّقه بها.
التي من رغب عنها فقد رغب عن سُنّة رسول الله(صلى الله عليه و آله).
ولمّا كانت شهوة الرجل على شكل الثوران الآني بين الفينة والفينة وبنحو يصعب عليه ضبط نفسه وضبط أعصابه والانشغال بسائر وظائفه، وعلى العكس من ذلك وضعُ الزوجةِ، كان هذا سبباً آخر لإعطاء زمام أمر الاستمتاع الجنسي بيد الزوج؛ ولأجل إيجاد نوع من التعادل والتلاؤم بين الزوجين جَبَرَ الإسلام عدم التماثل الموجود في شكل الشهوتين بحثّ الزوجة على تلبية طلبات الزوج في كلّ ما يريد من ناحية الجنس وإيجابِ ذلك عليها ما عدا بعض الموارد، ولم يكن من الضروري عادة أن يوجب على الزوج إشباعَ رغبة الزوجة في الجنس؛ فإنّ هذا أمرٌ فطري وطبيعي في الزوج يحقّقه بفطرته، ومع هذا اتّخذ الإسلام بهذا الصدد احتياطات: من قبيل إيجابُهُ على الزوج المبيت معها ليلة واحدة من كلّ أربع ليال، وجعلُهُ حقّ الجماع مرّة واحدة في كلّ أربعة أشهر حقّاً إلزاميّاً للزوجة، وترغيبُهُ للزوج على شكل الندب والاستحباب لإشباع الحاجة الجنسيّة للزوجة.
الأساس الرابع: الأُلفة والمودّة، فالتعايش بين الزوج والزوجة لا يهنأ ولا يروي الحاجة الروحيّة حينما يُقام على أساس قوانين صارمة ومحدّدة، وليس التعايش بينهما من قبيل التعايش بين رئيس المصنع وعمّاله مثلاً، الذي قد لا يقصد من ورائه عدا إشباع المصالح الاقتصادية للطرفين، وإنّما تهنأُ الحياةُ الزوجيّةُ حينما تُقام على أساس الأُلفة والمحبّة.
وممّا أعمله الإسلام في سبيل الحفاظ على هذا الأساس أُمور أربعة:
الأوّل: تعظيم الزوج وتبجيلُهُ في عين الزوجة، وجعل حقوق احترامه عليها حتّى ورد في بعض الروايات عن رسول الله(علیه السلام): «لو أمرت أحداً أن يسجد لأحد، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها»(1). وهذا يعني: أنّ الإسلام يحاول أن يحرّك الزوجة عاطفيّاً
(1) وسائل الشيعة، ج20، ص162، الباب81 من أبواب مقدمات النكاح وآدابه، ح1.
نحو التجاوب مع الزوج؛ حفاظاً على حبل المودّة والأُلفة عن طريق تحسيسها بعظمة الزوج باعتباره أقوى الموجودَين وأفضلهما.
الثاني: محاولة الإسلام لتحريك الزوج نحو التجاوب مع زوجته والحفاظ على مصالحها عن طريق إشعارها بعاطفته وترقيقها أمام الزوجة باعتبارها أضعف الموجودَين كما ورد عن أبي عبدالله(علیه السلام)، قال: «اتّقوا الله في الضعيفين. يعني بذلك: اليتيم والنساء»(1)، وورد عن أمير المؤمنين(علیه السلام): «المرأة ريحانة، وليست بقهرمانة»(2)، وورد عن أبي عبدالله(علیه السلام)، قال: «قال رسول الله(صلى الله عليه و آله): إنّما المرأة لعبة، من اتّخذها فلا يضيّعها»(3)، وورد عن أبي جعفر(علیه السلام)، قال: «قال رسول الله(صلى الله عليه و آله): أيضرب أحدكم المرأة، ثم يظلّ معانقها!!»(4)، وورد عن رسول الله(صلى الله عليه و آله): «خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي»(5)، وعنه(صلى الله عليه و آله): «أوصاني جبرئيل بالمرأة حتّى ظننت أنّه لا ينبغي طلاقها، إلّا من فاحشة مبيّنة»(6)، إلى غير ذلك.
الثالث: أنّ الإسلام جعل الأعمال التي تقوم بها الزوجة خدمة للزوج في غير دائرة التمتُّع وفي غير الجوانب الراجعة إلى الحياة المشتركة أعمالاً استحبابيّة، ولم يجعلها حقوقاً واجبة، فخدمة الزوجة للزوج مثلاً في البيت من طبخ وغسل وما شابه ذلك تعتبر أمراً مندوباً إليه ولا تعتبر واجباً. فعدمُ تصعيد هذه الأعمال إلى مستوى الوجوب إضافة إلى اشتماله على الاحتفاظ بحقّ الحرّية للمرأة يشتمل على نكتتين أُخريين أيضاً:
(1) وسائل الشيعة، ج20، الباب۸٦ من أبواب مقدمات النكاح وآدابه، ح۳.
(2) المصدر السابق، ص168، الباب 87 من أبواب مقدّمات النكاح وآدابه، ح1.
(3) المصدر السابق، ص167، الباب۸٦ من أبواب مقدّمات النكاح وآدابه، ح2.
(4) المصدر السابق، ح۱.
(5) المصدر السابق، ص171، الباب 88 من أبواب مقدّمات النكاح وآدابه، ح8.
(6) المصدر السابق، ص170، ح4.
إحداهما: ما سيأتي في بيان الأساس الخامس، والأُخرى: مرتبطة بهذا الأساس الرابع، وهي: أنّه لو كانت تلك الحقوق واجبة لأصبحت الحياة الزوجية قائمة على أساس الصرامة والجبر، لا على أساس المودّة والصفاء والحبّ، وكانت علاقتهما أشبه شيء بعلاقة التاجر بعمّاله أو المالك بمملوكه في نظام الرقّ.
الرابع: أنّ الإسلام جعل الزواج مستحبّاً، ولم يجعله واجباً على الرغم من أنّ المصلحة المترتّبة عليه ربّما لا تقلّ في غالب الأحيان عن المصلحة المترتّبة على بعض الواجبات، وجعل الطلاق مكروهاً، ولم يجعله محرّماً على الرغم من كونه مبغوضاً إلى حدّ الحرمة غالباً، فقد يكون السبب في ذلك _ إضافةً إلى ما سيأتي في الأساس الخامس _ هو: أنّه لو لم تكن الرغبةُ الجنسيّة ولا الاستحبابُ الأكيد الثابت للزواج، أو الكراهةُ الأكيدة الثابتة للطلاق من قِبل الشارع في مورد ما كافية لتحريك الشخص نحو الزواج، أو منعه من الطلاق لما كان ينبغي في ذلك المورد إيجاب الزواج، أو تحريم الطلاق؛ لأنّ الحياة الزوجيّة إن أُقيمت على أساس هكذا إيجاب أو تحريم، فربّما لا تُضفى عليها المودّة والرحمة، فتصبح حياة لا تُطاق.
الأساس الخامس: عنصر المرونة في الإسلام، فمن كمالات الإسلام وفضائله الجليلة اشتمالُه على عنصر المرونة والمطّاطيّة ممّا يجعله قابلاً للتطبيق في كلّ زمان ومكان، ومع كلّ الملابسات والأحوال، وقد أعمل الإسلام في نظامه عنصر المرونة بثلاثة أشكال:
الشكل الأوّل: فرض منطقة الفراغ، وجعل ملأها بيد وليّ الأمر، كما شرحنا ذلك في أبحاثنا عن ولاية الفقيه.
الشكل الثاني: تقييد نفس مواضيع الأحكام في غير منطقة الفراغ بقيود مرنة تجعلها تختلف بحسب التطبيق الخارجي باختلاف الأحوال والملابسات: من قبيل تقييد كثير من الأحكام الإلزامية بعدم العسر والحرج، أو تقييد كثير من الأحكام بعدم الضرر، ممّا يختلف في مدى صدقه أو عدم صدقه خارجاً بحسب اختلاف الأحوال
والملابسات، وأحياناً إعطاء مواضيع مرنة في حدّ ذاتها: من قبيل مفهومي الغنى أو الفقر المختلفَين في المصداق باختلاف الزمان والمكان.
الشكل الثالث: جعل بعض الأحكام غير الإلزامية، فليس عدم الإلزام دائماً من باب عدم اشتمال متعلّق الحكم على ملاك الإلزام، بل قد يكون الترخيص وعدم الإلزام في الإسلام بملاك المرونة، أو تكون المرونة أحد ملاكاته، وقد يكون من هذا القبيل ما سنذكره من عدّة أمثلة:
الأوّل: مسألة الزواج، فعلى الرغم من أنّ الزواج من أحبّ الأشياء في الإسلام حتّى ورد بسند تام عن صفوان، عن الصادق(علیه السلام)أنّه قال: «قال رسول الله(صلى الله عليه و آله): ما من شيء أحبّ إلى الله(وجل عز) من بيت يعمر في الإسلام بالنكاح»(1)، وورد عن رسول الله(صلى الله عليه و آله): «من رغب عن سنّتي، فليس منّي»(2)، نرى أنّ الإسلام لم يجعل الزواج واجباً، وهذا لا يعني عدم بلوغ المصالح والآثار المترتّبة عليه إلى مستوى الوجوب، وإنّما يعني: الإلتفات إلى عنصر المرونة.
وتوضيح ذلك: صحيح أنّ الزواج بشكل عام موجبٌ لسعادة الحياة ولاستمرار حياة الأُمّة بما هي أُمّة، ولكن توجد موارد استثناء عديدة على أساس أحوال ومكتنفات نفسيّة أو خارجية تجعل الزواج موجباً للشقوة في الحياة، ولم يكن بالإمكان تحديدها بشكل دقيق ومضبوط في مقياس مفهوم لنا؛ فإنّ هذه المسألة قد تصبح من أشدّ المسائل الحياتيّة تعقيداً، وترتبط بدقائق الأُمور النفسيّة أو الخارجية، فكان أفضل أُسلوب لتنزيل النظام التشريعي من قبل الشريعة الإسلامية بشكل يحفظ المصالح المتضاربة في أكثر الموارد، هو إعمال عنصر المرونة عن طريق التنزّل من
(1) وسائل الشيعة، ج20، ص16، الباب الأوّل من أبواب مقدّمات النكاح وآدابه، ح۱٠، وج22، ص7، الباب الأوّل من أبواب مقدّمات الطلاق وشرائطه، ح۱.
(2) المصدر السابق، ص21، الباب الثاني من أبواب مقدّمات النكاح وآدابه، ح۹.
إيجاب النكاح إلى بيان أنّ النكاح في حدّ ذاته من أحبّ الأشياء عند الله، علماً بأنّ المسلم المتديّن لا يخلو عادة من إحدى حالات ثلاث:
۱_ فإمّا أن يكون من الواضح لديه أنّ الزواج يسعد حياته، وأنّه غير مبتلىً بالحالات الاستثنائية التي توجب عسر النكاح عليه، أو إيجابه للشقاء في الحياة، وهذا عادة يتزوّج بلا حاجة إلى مرغَّب شرعي.
۲_ وإمّا أنّ النكاح يستوجب في نظره تحمّل المشاقّ، ولكنّه حينما يضمّ الترغيب الشرعي للنكاح واستحبابه الأكيد، وأنّه في حدّ ذاته من أحبّ الأشياء لله إلى ما يعرفه هو من فوائد النكاح وحاجته الحياتيّة إليه يكفي ذلك في قبوله لتلك المشاقّ وتحمّله لها. وهذا الإنسان المؤمن تكفيه تلك الروايات الحاثّة على النكاح في إقدامه على ذلك.
۳_ وإمّا أنّ النكاح يستوجب في نظره تحمّل مشاقّ لا يستعدّ هو لتحمّلها ما لم يكن النكاح واجباً. وهنا لم يكن بالإمكان إعطاءُ ضابط عام يفهمه المكلّف لتشخيص أنّ الزواج هل يسعده، وأنّ رجحانه من حيث الدين والدنيا هل يفوق الشقاء الذي يراه، أو العكس هو الصحيح؟ فكان الأفضل عدم تشريع حكم إلزامي في المقام؛ كي لا يقع المكلّف في حرج من ناحية تشخيص وظيفته الشرعية، ويمارس الأمر على وفق موازينه العقلائية التي قد تختلف من نظر إلى آخر، أو من حدس إلى حدس آخر.
الثاني: مسألة الطلاق، فعلى الرغم من أنّ الطلاق في حدّ ذاته من أبغض الأشياء عند الله، حتّى ورد بسند تام عن صفوان عن الصادق(علیه السلام)أنّه قال: «قال رسول الله(صلى الله عليه و آله): ما من شيء أبغض إلى الله(وجل عز) من بيت يخرب في الإسلام بالفرقة» يعني الطلاق. ثم قال الصادق(علیه السلام): «إنّ الله(وجل عز) إنّما وكّد في الطلاق وكرّر فيه القول من بغضه الفرقة»(1) لکنّه لم يحرّم الطلاق، ولم يذكر مقياساً للتمييز الكامل بين موارد رجحان عدم الطلاق فيحرّمه مثلاً، وبين حالات استثنائيّة فيحلّله فيها؛ إذ لم يكن
(1) المصدر السابق، ص16، الباب الأوّل من مقدّمات النكاح ومقدماته، ح۱٠؛ وج22، ص7، الباب الأوّل من مقدمات الطلاق وشرائطه، ح۱.
هناك مقياسٌ عامّ قابل للفهم لدى المكلّفين، وكان الأفضل في استعمال عنصر المرونة التنزّل من التحريم إلى بيان كون الطلاق في حدّ ذاته من أبغض الأشياء عند الله، وشرح ذلك يشبه ما ذكرناه في الزواج، فلا نعيد.
الثالث: مسألة الأعمال المستحبّة للزوج على الزوجة، فلعلّ النكتة في جعلها مستحبّة لا واجبة _ إضافةً إلى ما مضى _ هي: نكتة المرونة بمعنى آخر غير ما مضى من فكرة الاحتفاظ بعنصر التحابّ والمودّة، وذاك المعنى هو أن يقال: إنّ طاعة الزوجة للزوج في غير الموارد المنصوص على وجوبها قد تؤكّد جانب القوّاميّة والقيادة إلى شاطئ الخير والسعادة، ولكن قد تنافي ذلك وتصل إلى حدّ إعمال الزوج التحكّم، ولم يمكن علاج ذلك بتقييد فرض إيجاب الطاعة في ما إذا لم يصل الأمر إلى مستوى التحكّم؛ فإنّ هذا لا يُعدّ فيصلاً ومانعاً من التحكّم المقيت؛ لأنّهما عادة يختلفان في صدق التحكّم وعدمه، فكان خيرُ أُسلوب لإعمال عنصر المرونة في المقام جعلَ الطاعة على الزوجة في غير الموارد المعهودة المنصوص على وجوبها أمراً مستحبّاً لا واجباً.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.
لو زوّجت الصغيرة بولاية الأب أو الجدّ ثم بلغت فهل لها الخيار أو لا؟
بسم الله الرحمن الرحيم
يبدو أنّ نفوذ العقد عليها إجماعيّ، أو يكون المخالف في غاية الندرة، والروايات ناطقة بذلك، كصحيحة ابن بزيع: «سألت أبا الحسن(علیه السلام)عن الصبيّة يزوّجها أبوها ثم يموت وهي صغيرة فتكبر قبل أن يدخل بها زوجها، يجوز عليها التزويج أو الأمر إليها؟ قال: يجوز عليها تزويج أبيها»(1).
وصحيحة علي بن يقطين عن أبي الحسن(علیه السلام)وفي ذيلها: «...فإذا بلغت الجارية فلم ترض فما حالها؟ قال: لا بأس بذلك إذا رضي أبوها أو وليّها»(2).
وصحيحة عبدالله بن الصلت قال: «سألت أبا عبدالله(علیه السلام)عن الجارية الصغيرة يزوّجها أبوها لها أمر إذا بلغت؟ قال: لا ليس لها مع أبيها أمر...»(3).
وفي المقابل يوجد ما دلّ على ثبوت الخيار لها، وهو: خبر بريد أو يزيد الكناسي
(1) وسائل الشيعة، ج20، ص 275، الباب 6 من أبواب عقد النكاح وأولياء العقد، ح1.
(2) المصدر السابق، ص277، ح7.
(3) المصدر السابق، ص 276، ح3.
قال: قلت لأبي جعفر(علیه السلام)متى يجوز للأب أن يزوّج ابنته ولا يستأمرها؟ قال: «...إذا جازت تسع سنين، فإن زوّجها قبل بلوغ التسع سنين كان الخيار لها إذا بلغت تسع سنين...»(1)، وصحيح محمد بن مسلم قال: «سألت أبا جعفر(علیه السلام)عن الصبي يزوّج الصبيّة قال: إن كان أبواهما اللذان زوّجاهما فنعم جائز، ولكن لهما الخيار إذا أدركا، فإن رضيا بعد ذلك فإنّ المهر على الأب...»(2).
والحديث الأوّل _ إضافة على ضعفه السندي _ يقول السيد الخوئي(رحمه الله) عنه: إنّه مشتمل على ما هو غير محتمل فقهيّاً، وهو: أنّ ولاية الأب في التزويج على البنت التي بلغت تسع سنين أقوى من ولايته على البنت الأصغر من هذا السنّ، ففي الأوّل لا يجوز لها الردّ وفي الثاني يجوز لها الردّ بعد بلوغها تسع سنين(3).
وأمّا الحديث الثاني فهو مخصوص بفرض صغر الزوج والزوجة معاً، ومن هنا يراه السيد الخوئي(رحمه الله) صالحاً لتقييد المطلقات السابقة إلّا مع ثبوت إجماع على خلافه(4).
أقول: مضافاً إلى بُعد احتمال التفريق بين فرض صغرهما وفرض صغر أحدهما إلى حدّ لا يعتبر هذا الجمع عرفيّاً توجد عدّة روايات دالّة على صحّة نكاحهما بلا خيار في خصوص فرض صغرهما من قبيل:
1_ صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر(علیه السلام)«في الصبي يتزوّج الصبيّة يتوارثان؟ فقال: إذا كان أبواهما اللذان زوّجاهما فنعم. قلت: فهل يجوز طلاق الأب؟ قال: لا»(5).
(1) وسائل الشيعة، ج20، ص278، الباب 6 من أبواب عقد النكاح وأولياء العقد، ح9.
(2) المصدر السابق، ص277، ح8.
(3) راجع مستند العروة الوثقى، ج 2، ص277.
(4) المصدر السابق، ص278.
(5) وسائل الشيعة، ج20، ص292، الباب12 من أبواب عقد النكاح وأولياء العقد، الحديث الوحيد في الباب.
بناءً على أنّه في مورد الخيار لم يكن يثبت الميراث إلى أن يدرك الباقي منهما، ويحلف على الرضا بالنكاح الذي رضي به الآخر قبل موته لا بطمع الإرث على ما تدل عليه بعض الروايات الآتية.
2_ صحيحة أبي عبيدة الحذّاء قال: سألت أبا جعفر(علیه السلام)عن غلام وجارية زوَّجهُما وليّان لهما وهما غير مدركين؟ قال: فقال: «النكاح جائز أيّهما أدرك كان له الخيار، فإن ماتا قبل أن يدركا فلا ميراث بينهما ولا مهر ݢݢݢإلّا أن يكونا قد أدركا ورضيا. قلت: فإن أدرك أحدهما قبل الآخر؟ قال: يجوز ذلك عليه إن هو رضي. قلت: فإن كان الرجل الذي أدرك قبل الجارية ورضي النكاح ثم مات قبل أن تدرك الجارية أترثه؟ قال: نعم، يعزل ميراثها منه حتّى تدرك وتحلف بالله ما دعاها إلى أخذ الميراث إلّا رضاها بالتزويج، ثم يدفع إليها الميراث ونصف المهر. قلت: فإن ماتت الجارية ولم تكن أدركت أيرثها الزوج المدرك؟ قال: لا؛ لأنّ لها الخيار إذا أدركت». قلت: فإن كان أبوها هو الذي زوّجها قبل أن تدرك؟ قال: يجوز عليها تزويج الأب ويجوز على الغلام، والمهر على الأب للجارية»(1).
3_ معتبرة عبيد بن زرارة _ وفي السند القاسم بن عروة وقد روى عنه ابن أبي عمير بعض الروايات _ عن أبي عبدالله(علیه السلام)قال: «سألته عن الصبيّ يزوّج الصبيّة هل يتوارثان؟ قال: إن كان أبواهما هما اللذان زوّجاهما فنعم. قلت: يجوز طلاق الأب؟ قال: لا»(2).
(1) وسائل الشيعة، ج26، ص219، ، الباب11 من أبواب ميراث الأزواج، ح1.
(2) المصدر السابق، ص 220، ح3. ورواه أيضاً، ج22، ص80، الباب 33 من أبواب مقدّمات وشرائط الطلاق، ح2، إلّا أنّه وقع في سنده بين القاسم بن عروة وعبيد بن زرارة (ابن بكير)، وهو أيضاً موثوق به.
الزواج الدائم من الكتابية
بسم الله الرحمن الرحيم*
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله آل الله.
هل يجوز الزواج الدائم بالكتابيّة(1) أو لا؟
لا إشكال في وجود روايات تدل على جواز الزواج بالكتابية من قبيل صحيحة أبي ولّاد قال: سمعت أبا عبدالله(علیه السلام)يقول: «المسلم يرث امرأته الذمية وهي لا ترثه»(2).
وبما أنّ الإرث لا يكون إلّا في الزواج الدائم فالمقصود بهذه الصحيحة هو الزواج الدائم.
ولكن لو احتمل اختصاصها بما لو كانا كتابيّين ثم أسلم الزوج لم يمكن التمسّك بالإطلاق لفرض تزویج المسلم ابتداءً الكتابية؛ لأنّها واردة مورد حكم آخر وهو الإرث، فلا إطلاق لها في تحقيق موضوعها.
*. كتب في 15 رجب من سنة 1420هـ.
1. أعني بالكتابية اليهودية والمسيحية.
2. وسائل الشيعة، ج۲٦، الباب الأول من أبواب موانع الإرث من الكفر والقتل والرق...، ح۱؛ والباب16 من أبواب میراث الأزواج، ص230، ح1.
وصحيحة عبدالله بن سنان عن أبي عبدالله(علیه السلام)قال: «سأله أبي وأنا أسمع عن نكاح اليهوديّة والنصرانيّة. فقال: نكاحهما أحبّ إليّ من نكاح الناصبيّة»(1)، «وما أُحبّ للرجل المسلم أن يتزوّج اليهوديّة ولا النصرانيّة مخافة أن يتهوّد ولده أو يتنصّر»(2).
واحتمال اختصاصها بالمتعة بعيد؛ فإنّ الفرد البارز من النكاح والزواج لدى الإطلاق هو الدائم.
نعم، الصحيحتان مخصوصتان بزواج الكتابية دون زواج الكتابي، وكذلك الآية الشريفة لو فرض شمولها للنكاح الدائم، وهي قوله تعالى: ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾(3).
ونحوهما صحيحة معاوية بن وهب _ وعطف عليه غيره أو غيره من أصحابنا _ عن أبي عبدالله(علیه السلام)«في الرجل المؤمن يتزوّج اليهوديّة والنصرانيّة، فقال: إذا أصاب المسلمة فما يصنع باليهوديّة والنصرانيّة؟! فقلت له: يكون له فيها الهوى، قال: إن فعل فليمنعها من شرب الخمر، وأكل لحم الخنزير. واعلم أنّ عليه في دينه غضاضة»(4).
ونحوها روايات عدم جواز الزواج باليهودية والنصرانية على المسلمة وجواز العكس، وجواز تزویج اليهودية على النصرانية(5).
ولم أرَ ما يجوّز كون المرأة المسلمة تحت الكتابي إلّا في فرض إسلام الزوجة بعد ما كانا كتابيّين وبسند غير تام(6)، وهي معارضة بغيرها كصحيحة ابن محمد بن
(1) وسائل الشيعة، ج۲٠، ص552، الباب۱٠ من أبواب ما يحرم بالكفر ونحوه...، ح۱٠.
(2) المصدر السابق، ص534، الباب الأول من أبواب ما يحرم باالكفر ونحوه...، ح5.
(3) المائدة: ٥.
(4) وسائل الشيعة، ج۲٠، ص536، الباب۲ من أبواب ما يحرم بالكفر ونحوه...، ح۱.
(5) راجع المصدر السابق، ج۲٠، ص544 _ 545، الباب ۷ و۸ من أبواب ما يحرم بالكفر ونحوه....
(6) راجع المصدر السابق، ص546 _ 548، الباب۹ من أبواب ما يحرم بالكفر ونحوه...، ح۱ و۵ و۸.
أبي نصر(1)، وصحيحة عبدالله بن سنان(2).
وإذا جاز تزويج الكتابية ابتداءً ثبت بقاؤها على الزوجية لو أسلم الزوج بطريق أولى، وثبت أيضاً بقاء المسلمة إذا ارتدّت إلى دين الكتابي بالتعدّي العرفي.
نعم، ورد في خصوص المجوسي ما دل على إلحاقه بالمشرك، فلو أسلم المجوسي وبقيت الزوجة على تمجّسها وقف النكاح على انقضاء العدّة، كما في صحيحة منصور بن حازم(3).
ثم إنّه يوجد في مقابل أدلّة جواز نكاح الكتابية الدائم آية وروايات:
أمّا الآية فقوله تعالى: ﴿وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ﴾(4)، فرغم أنّ مورد نزولها هو المشركات، يقال: إنّ مقتضى إطلاقها شمولها للكتابيّات.
وأمّا الروايات فروايات النهي(5) أو عدم الانبغاء(6) على نقص في الثاني سنداً ودلالةً قابلة للحمل على الكراهة في مقابل أدلّة الجواز.
وإنّما المهمّ ما صرّحت بتفسير الكوافر في آية: ﴿لَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ﴾ بما يشمل الكتابيّات، وجعلت هذه الآية ناسخة لآية: ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوْتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ﴾(7).
(1) المصدر السابق، ص542، الباب۵ من أبواب ما یحرم بالكفر ونحوه...، ح٥.
(2) المصدر السابق، ص547، الباب۹ من أبواب ما يحرم بالكفر ونحوه...، ح4.
(3) المصدر السابق، ح۳.
(4) الممتحنة: ۱٠.
(5) كصحيحة محمد بن مسلم. وسائل الشيعة، ج۲٠، ص533، الباب الأول من أبواب ما يحرم بالكفر ونحوه...، ح2.
(6) كرواية محمد بن مسلم غير التامة سنداً. المصدر السابق، الباب2 من أبواب ما يحرم بالكفر ونحوه...، ح2 و۳.
(7) المصدر السابق، الباب الأول من أبواب ما يحرم بالكفر ونحوه...، ح1 و۷.
ورغم أنّ روايات الجواز أكثر قد يرجّح جانب الحرمة بالرجوع إلى الآية الشريفة: ﴿ولَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ﴾ مرجّحة أو مرجعاً.
ولكن في دلالة الآية غموض؛ لأنّ الإطلاق في كلمة ﴿الْكَوَافِرِ﴾ للكتابيّات إطلاق بحذف المتعلّق؛ إذ لم يذكر ݢݢݢأنّهنّ كوافر بأيّ شيء، هل بالله أو التوحيد مثلاً؟ فتختصّ الآية بالملحدات والمشركات، أو بنبوّة رسول الله(صلى الله عليه و آله) فتشمل الكتابيّات؟ وقد نقّحنا في محلّه أنّ وجود القدر المتيقّن في مقام التخاطب يبطل الإطلاق الذي يستفاد من حذف المتعلّق، والمتيقّن في المقام هو الكفر بالله أو التوحيد، فشمول الآية للكتابيّات غير واضح.
أمّا إثبات إطلاق الآية للكتابيّات بالرواية التي فرضت هذه الآية ناسخة لآية ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوْتُوا الْكِتَابَ﴾، فرجوع إلى السنّة، فلم تصبح الآية مرجّحة أو مرجعاً.
على أنّنا نكاد نطمئنّ بوجود خلل في هذه الرواية، فإنّنا لا نكاد نحتمل إمكان جعل هذه الآية ناسخة لتلك الآية، فالتاريخ ينقل: أنّ قوله(وجل عز): نزلت في قصّة صلح الحديبية، ونحن نعلم أنّ قصّة صلح الحديبية وقعت في أواخر ݢݢݢالسنة السادسة من الهجرة، وبحسب النقل التاریخي إنّ امرأة مسلمة من مكّة جاءت إلى رسول الله(صلى الله عليه و آله)، فأرسل الكفّار من يردّها إلى مكّة على أثر بند من بنود ورقة الصلح يصرّح بإرجاع من يهرب من مكّة إلى المسلمين في المدينة، وعدم إرجاع من يهرب من المسلمين إلى مكّة، فنزلت الآية المباركة(1).
ومضمون الآية شاهد واضح على صدق هذا التاريخ، حيث قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللّٰهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ﴾
(1) السيرة النبوية، ج2، ص326.
عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلݧُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلݧُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللّٰهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللّٰهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتݧݧُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنݧْفَقُوا وَاتَّقُوا اللّٰهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ﴾(1).
وأمّا الآية التي فُرضت منسوخةً بهذه الآية، فقد اختلفت التفاسير في وقت نزولها:
فهناك بعض الروايات تقول: إنّ سورة المائدة _ والتي فيها هذه الآية _ نزلت في أواخر حياة رسول الله(صلى الله عليه و آله)(2). وفي بعضها: «نسخت ما قبلها، ولم ينسخها شيء»(3).
وفي رواية صحيحة السند عن زرارة عن أبي جعفر(علیه السلام)قال: سمعته يقول: «جمع عمر بن الخطاب أصحاب النبيّ(صلى الله عليه و آله) وفيهم عليّ(علیه السلام)فقال: ما تقولون في المسح على الخفّين؟ فقام المغيرة بن شعبة فقال: رأيت رسول الله(صلى الله عليه و آله) يمسح على الخفّين. فقال عليّ(علیه السلام): قبل المائدة أو بعدها؟ فقال: لا أدري. فقال عليّ(علیه السلام): سبق الكتاب الخفّين، إنّما أُنزلت المائدة قبل أن يُقبض بشهرين أو ثلاثة»(4). وروي عن عبيد عن محمد بن كعب: أنّها نزلت كلّها في حجّة الوداع بين مكّة والمدينة(5).
ومن الطريف ما روي عن أبي حمزة الثمالي قال: سمعت أبا عبدالله(علیه السلام)يقول: «نزلت المائدة كمّلاً، ونزل معها سبعون ألف ملك»(6). أقول: إن صحّ أنّه نزل معها سبعون ألف
(1) الممتحنة: ۱٠ - ۱۱.
(2) راجع تفسير البرهان، ج2، ص٤۳٠.
(3) المصدر السابق، ص213.
(4) وسائل الشيعة، ج1، ص458، الباب 38 من أبواب الوضوء، ح6.
(5) تفسير المنار، ج ٦، ص176.
(6) مجمع البيان، في تفسير القرآن، ج3، ص231.