581

الأضرار الارتكازيّة

وفي ختام الكلام عن فقه الحديث بلحاظ جملة (لا ضرر) لا بأس بشيء من بسط الكلام حول شمول (لا ضرر) للأضرار التي تكون في طول الارتكاز العرفي.

فقد مضى أنّ (الضرر) في الحديث يشمل الضرر الحقيقي الأصلي كقطع اليد، والضرر الذي يكون في طول الارتكاز العرفي، كما في حرمان الشخص من حقوقه العرفيّة، وشمول الضرر للأفراد الارتكازيّة يكون بأحد تقريبين:

أحدهما: دعوى الإطلاق اللفظي بأن يقال: إنّ الشارع بما هو فرد من أفراد العرف، ويخاطب العرف فهو يقصد بالضرر الضرر العرفي، وهو مطلق يشمل الضرر الحقيقي الأصلي والضرر الارتكازي.

وثانيهما: دعوى الإطلاق المقامي، وتوضيحه: أنّه لو سلّمنا أنّ الضرر في هذا الكلام يعطي معنى ما هو ضرر في نظر الشارع، ولم يستعمل في الضرر العرفي، فعندئذ يبقى الكلام في أنّه ما هو الضرر في نظر الشارع علاوة على الضرر الحقيقي الأصلي؟

فإن استُظهِر ـ بالرغم من إجمال اللفظ في ذاته ـ أنّ المولى يكون في مقام البيان، وليس في مقام الإجمال، تمّ الإطلاق المقامي، بأن يقال: بما أنّ المولى في مقام البيان، ولم يبيّن شيئاً زائداً على نفي ما هو الضرر عنده ظهر بذلك: أنّه اعتمد في تعيين ما هو الضرر عنده على الارتكاز والنظر العرفي، واعتبر الارتكاز العرفي قرينة على مراده.

ثمّ هل العبرة في الأفراد الارتكازيّة للضرر بخصوص الأفراد المرتكزة في ذلك الزمان، أو أنّه في كلّ زمان يطبّق القانون بحسب ذاك الزمان، فتدخل فيه الأفراد المستجدّة بتجدّد القوانين العقلائيّة والحقوق العرفيّة؟ وأساساً ما هو الضابط لشمول العنوان في كلام الشارع للأفراد الارتكازيّة وعدم شموله؟

تحقيق الكلام في هذا المقام بنحو يفيد في غير باب الضرر أيضاً: هو أنّ الشيء الذي يكون له فرد بحسب الارتكاز غير فرده الحقيقي الأصلي يكون فرده هذا على أحد أنحاء:

الأوّل: أن يكون هذا الفرد فرداً ارتكز في ذهن الناس اشتباهاً بعد وضوح أصل مفهوم اللفظ وتبيّنه بحدوده بحيث لو نبّهوا على عدم انطباق ذلك المفهوم على هذا الفرد لرجعوا عن إدخاله في أفراد ذلك العنوان، كما لو قال المولى: أكرم العلماء،

582

وتخيّل الناس أنّ زيداً عالم مع أنّه كان جاهلاً، ففي مثل ذلك لا إشكال في أنّ العنوان المأخوذ في كلام الشارع لا يشمله، فإن عدّ الناس ذلك من أفراد هذا العنوان إنّما هو من باب الإخبار، والمفروض أن إخبارهم كاذب في المقام.

الثاني: أن يكون ارتكاز فرديّته للعنوان من باب الإنشاء لا من باب الإخبار، أي: أنّ العرف يوجد فرداً لذلك العنوان، وهذا الإيجاد وإن كان قد يفرض اختصاصه بعرف خاصّ، لكن النتيجة وهي فرديّة ذلك الشيء للعنوان تثبت ثبوتاً حقيقيّاً مطلقاً لا ثبوتاً نسبيّاً، وذلك كما في مفهوم التعظيم، فإنّ له فرداً حقيقيّاً كأمتثال الأمر، وفرداً عرفيّاً يثبت بالارتكاز كالقيام في عرفنا، وبعد أن جَعَلَ عرفٌ مّا القيام تعظيماً يصبح ذلك تعظيماً حقيقة، وحتّى من لم يوافق هذا العرف يعترف ـ أيضاً ـ حينما يرى شخصاً من أهل هذا العرف قام لشخص آخر بأنّه عظّمه، فإنّ التعظيم ليس إلّا إظهار ما يدلّ على عظمة هذا الشخص في نفس المعظِّم، وقد جعل القيام دالّا على ذلك من قبيل جعل لفظ دالّا على معنىً. وفي مثل هذا لا إشكال في أنّ العنوان المأخوذ في لسان الشارع يشمل هذا الفرد، ولو فرض تجدّده في زمان متأخّر عن زمانه، فإنّه فرد حقيقي مطلق، وهو تماماً من قبيل ما اذا حكم المولى بالمطهّريّة مثلاً على الماء ثمّ وُجِد فرد من الماء بعد زمان الشارع بأسباب طبيعية أو بالعلاج.

الثالث: أن تكون فرديّته للعنوان بالإنشاء، وتكون النتيجة ـ أيضاً ـ ضيّقة ونسبيّة، كما يكون أصل الإنشاء مختصّاً بعرف دون عرف، ومعنى ذلك: أنّ الفرد الذي اُوجد بهذا الإنشاء فرد في منظار هذا الإنشاء لا مطلقاً، ومثال ذلك هو النقص والضرر، فله مصاديق حقيقيّة كقطع اليد، وله مصاديق ارتكازيّة، كما في مثل نقص المال المملوك لزيد، فإذا فرض في عرف من الأعراف أنّ هذا المال ملك لزيد ثمّ اُخذ منه، فالخارج عن هذا العرف ـ أيضاً ـ يحكم بتضرّر زيد في هذا العرف، لكن ليس هذا حكماً مطلقاً بالضرر، بل يقال من قبل أهل هذا العرف، ومن قبل غيرهم: إنّ زيداً طرأ في حقّه الضرر والنقص بمنظار كون هذا المال ملكاً له، ولم يطرأ عليه أيّ نقص وضرر بمنظار آخر لا يرى هذا المال ملكاً له.

والصحيح: أنّ العنوان المأخوذ في كلام الشارع في مثل هذا المورد يشمل الأفراد العرفيّة في عصره، ولا يشمل الأفراد المستجدّة في الأعصر المتأخّرة.

أمّا شموله للأفراد العرفيّة في عصره؛ فلأنّ الشارع رجل عرفي يخاطب العرف، فيكون كلامه ظاهراً في المعنى العرفي وبالمنظار العرفي، فيتمّ الإطلاق

583

اللفظي في المقام.

وأمّا عدم شموله للأفراد المستجدّة؛ فلأنّ الإطلاق اللفظي إنّما هو على أساس كون عرفيّة الشارع، والفهم العرفي قرينة متّصلة على صرف الكلام الى المعنى العرفي، ومن الواضح أنّ الفهم العرفي المعاصر هو القرينة المتّصلة دون فهم عرفي آخر، وكذلك لو قلنا بالإطلاق المقامي لا اللفظي، فإنّه ـ أيضاً ـ يكون على أساس قرينيّة العرف الحاضر؛ لكون نظر الشارع موافقاً لنظره.

ثمّ لو فرض شمول الإطلاق اللفظي لو خلِّي وطبعه للأفراد العرفيّة المستجدّة فلابدّ من صرف مثل حديث (لا ضرر) الذي يستبطن إمضاء الأحكام العقلائيّة عن ذلك، والقول باختصاصه بالعرف الحاضر في زمان الشارع؛ وذلك لأنّ من المقطوعات الفقهيّة أنّ حكم الشارع ليس تابعاً للأحكام العقلائيّة بما هي، بأن تكون الأحكام العقلائيّة بما هي موضوعاً لتبعيّة الشارع منها. نعم قد يوافق نظر الشارع نظر العقلاء فيمضي حكمهم.

وعليه فلو فرض أنّ حكم الشارع في (لا ضرر) دار بنحو القضية الحقيقيّة مدار أحكام العقلاء وجوداً وعدماً جيلاً بعد جيل، فإمّا أن يكون هذا من باب التبعيّة لأحكام العقلاء، وكون أحكامهم موضوعاً لحكم الشارع على طبقها، وهذا ما قلنا: إنّه غير محتمل فقهيّاً (1).

وإمّا أن يكون هذا من باب أنّ الشارع أعمل الغيب فرأى أنّ نظره صدفة في كلّ زمان موافق لنظر العقلاء في ذلك الزمان، ولكن إعمال علم الغيب من قبل الشارع في مثل هذا الكلام الملقى الى العرف لبيان الحكم الشرعي خلاف الظاهر.

فالمتحصّل: أنّه لا عبرة بالأفراد المستجدّة للضرر، فإذا فرض مثلاً في عصر ثبوت حقّ الاشتراك في الأموال بلحاظ قانون الاشتراكيّة لم يكن حديث (لا ضرر) دليلاً على إمضائه.

نعم هنا نكتتان لابدّ من الإشارة إليهما:


(1) قد يكون حكم الشارع بتثبيت حقّ من الحقوق في كلّ زمان بسبب ثبوته لدى العرف والعقلاء في ذلك الزمان؛ وذلك باعتبار ما يوجب سلبه من الفرد في ذلك الزمان من حراجة نفسيّة بلحاظ سلب ما هو ثابت له في عرفه، ولا أدري ما هو السبب في دعوى القطع ببطلان ذلك فقهيّاً؟!

584

النكتة الاُولى: أنّه إذا فرض أنّ فرداً من أفراد الضرر اليوم لم يكن موجوداً في عصر الشارع، لكنّه كان واجداً لنكتة أحد الحقوق العقلائيّة آنئذ، أي: أنّ العرف والعقلاء في ذلك الوقت وإن لم يلتفتوا الى هذا الفرد لعدم وجوده، لكنّهم كانوا يرون المفهوم بنحو يشمل هذا الفرد، فلو عرض عليهم هذا الفرد واُلفِتوا إليه لحكموا بثبوت الحقّ العقلائي فيه، وكون مخالفته ضرراً، فدليل (لا ضرر) شامل لمثل ذلك، فإذا سلّم أنّ حقّ الطبع الثابت في زماننا هذا للمؤلّف مثلاً مشمول لنكتة المالكيّة بالحيازة الثابتة ـ وقتئذ ـ ثبت هذا الحقّ بقاعدة (لا ضرر)، فالعبرة إنّما هي بسعة دائرة النكتة العقلائيّة للحقّ، والضرر في ذلك الزمان وضيقها، لا بما هو المصداق الفعلي لذلك وقتئذ.

النكتة الثانية: أنّه عند الشكّ في ذلك، وأنّ الحقّ الكذائي كان ثابتاً في عصر الشارع أو لا لا نحتاج الى إثبات شواهد تأريخيّة مثلاً على الثبوت في ذلك العصرـ وهذا ما يتعذّر ويتعسّر غالباً ـ بل يكفي إجراء أصالة الثبات في اللغة؛ لما عرفت من أنّ الارتكاز العرفي المعاصر يعطي ظهوراً للفظ على أساس الإطلاق اللفظي أو المقامي.

وبما ذكرناه تنحلّ عقدة نفسيّة في الفقه الشيعي ابتلى بها الفقه السنّي قبل الفقه الشيعي فحلّها بالمصالح المرسلة ونحو ذلك، ثمّ ابتلى بها الفقه الشيعي، توضيح ذلك: أنّ العامّة حيث انتهى عصر النصوص عندهم بموت النبي(صلى الله عليه وآله) وقعوا في حيرة من ناحية المسائل المستجدّة وتطوّر الزمن، وأراحوا أنفسهم بفتح باب مثل المصالح المرسلة. والشيعة كانت تؤمن بأنّ النصّ الوارد عن الإمام(عليه السلام) كالنصّ الوارد عن النبي(صلى الله عليه وآله) فلم يبتلوا بذلك في زمان الأئمّة(عليهم السلام)، ولكنّهم ابتلوا في عصر ما بعد الأئمّة (عليهم السلام)، وأخيراً توصّلوا الى ما هو في الحقيقة إشباع لهذا النقص الفعلي، وهو التمسّك بالسيرة العقلائيّة، وتعارف الاستدلال بها أخيراً في زماننا حتّى أنّه قيل: إنّها دليل خامس من أدلّة الأحكام الشرعيّة. وقد مضى منّا بحث مفصّل عن السيرة العقلائيّة، وبيّنا أنّها إنّما تفيد لو ثبتت معاصرتها لزمان المعصوم (عليه السلام)، وذكرنا ضوابط لإثبات المعاصرة، لكنّها لا تشمل عدا مقدار قليل من السير العقلائيّة. ونقول هنا: إنّ هذه التطوّرات الزمنيّة إنّما تؤثّر غالباً في الاُمور المعامليّة والقوانين الاجتماعيّة، فإنّها هي التي تتطوّر بمرور الزمن، ويمكن حلّ المشكلة فيها بإبداء احتمال أنّها وإن لم تكن موجودة في زمن الشارع بمصداقها، لكنّها لعلّها كانت موجودة بنكتتها، وأنّ هذه

585

الحقوق العرفيّة تؤثّر في تكوين الظهور لقوله: «لا ضرر ولا ضرار»، وعليه فتجري أصالة الثبات في اللغة وتنحلّ المشكلة بذلك(1).

 

 


(1) ونفس البيان يأتي بلحاظ غير جملة (لا ضرر)، فكلّما كانت لدينا سيرة عقلائيّة مؤثّرة على ظهور نصّ من النصوص واحتملنا وجود تلك السيرة، أو نكتتها في زمن الشريعة، جرت أصالة الثبات بلحاظ ذاك الظهور. ولعلّ اُستاذنا الشهيد (رحمه الله)إنّما ذكر هنا جملة (لا ضرر ولا ضرار) بعنوان المثال.

586

 

 

 

فقه جملة (لا ضرار)

 

المقام السادس: في فقه الحديث بلحاظ جملة (لا ضرار).

إنّ المفهوم عرفاً من الضرار هو تعمّد الإضرار بلا حقّ، وهذا ما ينبغي أن يقصد بما مضى من أنّ الضرار هو تعمّد الإضرار والتفنّن فيه.

والحديث إن كان مقتصراً على جملة (لا ضرار) لكان نافياً للحكم الذي يأتي منه الضرر سواء كان الحكم بذاته ضرريّاً كما في الحكم بلزوم البيع الغبني، أو كان ضرريّاً بتوسّط إرادة مقهورة تحت الحكم الشرعي، أو قل: كان ضرريّاً باعتبار امتثاله كما في وجوب الوضوء الضرري، أو كان ضرريّاً بتوسّط إرادة غير مقهورة للحكم الشرعي، أي: باعتبار أنّ المكلّف بسوء اختياره يستغلّ الحكم الشرعي فيضرّر به، كما في جواز الدخول لسمرة حتّى بنحو ضرري، فإنّه لو جاز له ذلك كان ضرريّا على الأنصاري، باعتبار أنّ سمرة قد يختار النحو الضرري. و(لا ضرر) ينفي الضرر الناشىء من الحكم الشرعي في كلّ هذه الأقسام الثلاثة. ونتيجته هي رفع هذه الأحكام، فيرتفع لزوم البيع، وينتفي وجوب الوضوء، ويحرم على سمرة الدخول بلا استئذان، ولكنْ إن كان سمرة عاصياً لهذا الحكم وكان يدخل بلا استئذان، فعلاج أمره وهو قطع الشجرة لا يظهر من (لا ضرر)، فإّن حقّه الشرعي في إبقاء الشجرة إنّما ترتّب عليه الضرر باعتبار أنّ سمرة خالف حكماً شرعيّاً، وعمل عملاً حراماً فضرّر الأنصاري، فلا يرتبط ذلك بـ(لا ضرر) وهنا يصل دور (لا ضرار)، فإنّ نفي الضرار ليس مفاده كمفاد نفي الضرر الذي كان يفيد في المقام حرمة الفعل الضرري على سمرة؛ لأنّ الضرار قد اُخذ في حاقّ مفاده معنى الحرمة ـ على ما مضى ـ فلا ضرار نفي للضرر الحرام بلحاظ ما في الشريعة، لا نفي للضرر بلحاظ ما في الشريعة، ومعنى

 

ذلك: نفي سبب وقوع الضرر الحرام، وسببه هو حقّ إبقاء الشجرة، فيرتفع هذا السبب، فيقطع الأنصاري شجرته ويلقيها في وجهه ويستريح منها(1). وطبعاً اتّخاذ


(1) لا يخفى أنّ كلام اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) في هذا المقام يوحي بأنّ استفادة مطلب جديد

587


من كلمة (لا ضرار) غير ما يستفاد من كلمة (لا ضرر) تتوقّف على الاعتراف بأنّه أخذ في حاقّ مفاد (الضرار) معنى الحرمة؛ وذلك لأنّه لو لم يكن قد أخذ في حاقّ مفاده الحرمة فالضرار على أيّ حال نوع من الضرر، فنفي الضرر في قوله (لا ضرر) نفي له، ولا يبقى للإضرار مفاد جديد. وهذا بخلاف ما إذا كانت الحرمة مأخوذة في مفاده، فعندئذ يقال: إنّ (لا ضرر) نفي لذات الضرر، وهو نفي للحكم المنتهي الى ذات الضرر، وإذا كان ذاك الحكم هو الجواز فلا ضرر يدلّ على حرمة الضرر.

أمّا (لا ضرار) فبما أنّه قد اُخذ في مفاد كلمة (الضرار) الحرمة فليس نفيه نفياً للحكم المؤدّي الى الضرار وهو الجواز مثلاً؛ لأنّ المفروض مسبقاً أنّ مرتكبه مقدم على الحرام، فنفي الجواز لا ينتهي الى نفي الضرار، إذن فالكلام محمول على قلع السبب الذي به يتذرّع المضارّ في ضراره، وإن كان ذاك السبب لم يسوّغ له الضرر، وهو في قصّة سمرة عبارة عن وجود الشجرة في بيت الأنصاري أو حقّه في وجودها هناك.

وهذا البيان كما ترى يباين البيان الذي سبق منه (رحمه الله) لدى البحث عن مفردات الحديث حيث ذكر: أنّ الضرار عبارة عن الضرر مع أخذ شيء من التأكّد والتعمّق فيه، وهذا التأكّد والتعمّق قد يكون بلحاظ الجانب الخارجي للضرر وهو عبارة عن شدّة الضرر أو طوله ونحو ذلك، وقد يكون بلحاظ الجانب النفسي من الضرر، وهو عبارة عن تعمّده وتصيّده والتفنّن فيه ونحو ذلك من التعابير، وبما أنّ إرادة الأوّل تؤدّي في المقام الى كون (لا ضرار) تكراراً لما يستفاد من (لا ضرر) فيتعيّن كون المقصود هو الثاني، أعني تصيّد الضرر والتفنّن فيه.

أقول: إذا اُخذ التصيّد والتفنّن في مفاد الضرار فقد يقال: إنّه حتّى لو لم تؤخذ الحرمة في مفاده يكون (لا ضرار) معطياً لمعنى جديد غير مستبطن في (لا ضرر)؛ لأنّ (لا ضرر) إنّما ينفي الحكم الذي ينتهي الى الضرر، وأمّا (لا ضرار) فبنكتة أخذ التصيّد، والتفنّن في مفاد كلمة (الضرار) ينصرف الى نفي الحكم الذي تصيّد المضارّ منه الضرر وتفنّن فيه للوصول الى ذلك، وهذا الحكم تارة يكون عبارة عن نفس الجواز، كجواز الدخول على الأنصاري بلا استئذان، فهو منفي بـ(لا ضرار) كما هو منفي بـ(لا ضرر)، واُخرى يكون عبارة عن حقّ سمرة لبقاء الشجرة هناك بـ(ضرر)، وهذا إنّما يكون سبباً لتصيّد الضرر منه بعد قراره لمخالفة الحكم الأوّل، وهو نفي الجواز الذي استفيد من (لا ضرر) و (لا ضرار)، وهذا ـ أيضاً ـ يصبح منفياً بـ(لا ضرر)؛ لأنّه وإن لم يكن حكماً ضرريّاً في نفسه، لكنّه حكم يتصيّد منه الضرر.

وعلى أيّ حال، فالظاهر أنّ الضرار معناه تعمّد الإضرار، بمعنى أن يكون هدف الشخص ممّا يفعله هو الإضرار، كما يستفاد ذلك من بعض الروايات من قبيل:

1 ـ ما ورد بسند تامّ عن الحلبيّ، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) أنّه سئل عن رجلين كان بينهما

588


عبد فأعتق أحدهما نصيبه فقال: «إن كان مضارّاً كلّف أن يعتقه كلّه، وإلّا استسعى العبد في النصف الآخر»(1).

2 ـ ما ورد بسند تامّ عن محمّد بن مسلم، قال: قلت لأبي عبداللّة (عليه السلام): «رجل ورث غلاماً وله فيه شركاء فأعتق لوجه اللّه نصيبه»، فقال: «إذا أعتق نصيبه مضارّة وهو موسر ضمن للورثة، وإذا أعتق نصيبه لوجه اللّه كان الغلام قد اُعتق من حصّة من أعتق، ويستعملونه على قدر ما اُعتق منه له ولهم، فإن كان نصفه عمل لهم يوماً، وله يوماً وإن أعتق الشريك مضارّاً وهو معسر فلا عتق له؛ لأنّه أراد أن يفسد على القوم ويرجع القوم على حصصهم»(2).

والنسبة بين (لا ضرر) و (لا ضرار) عموم من وجه، فإن كان الحكم ضرريّاً على الغير، وقصد الشخص الإضرار به كان الحكم منفيّاً بكلا العنوانين.

وإن كان الحكم ضرريّاً، ولم يهدف الشخص الإضرار بالغير بل له هدف آخر، صدق الأوّل دون الثاني.

وإن لم يكن الحكم ضرريّاً، لكن تذرّع به الشخص للإضرار، كما في حقّ بقاء الشجرة في مكانها في قصّة سمرة، فهو لا ينتفي بـ(لا ضرر)، ولكنّه ينتفي بـ( ضرار)، إمّا بنكتة أخذ الحرمة في مفاد الضرار كما قاله اُستاذنا، فلا يكفي في نفيه نفي الجواز؛ لأنّ المفروض أنّ الشخص لا يأبى عن ارتكاب الحرام، أو بنكتة نفس أخذ عنوان التعمّد في مفاد الضرار؛ لأنّ هذا العنوان يوحي على الأقلّ الى عدم المبالاة بالحرمة، وهذا كاف في ظهور النصّ في نفي الحكم الذي يتذرّع به الشخص للإضرار، وإن كان ذاك الحكم بنفسه غير مضرّ.

ثمّ إنّه لا يبعد أن يكون نفي الضرار في كثير من الموارد حكماً ولائيّاً وسلطانيّاً، ولا أقصد بذلك ما ذكره السيّد الإمام(رحمه الله): من أنّ النبي (صلى الله عليه وآله) كان في نفيه للضرر والضرار متقمّصاً قميص الولاية وحاكماً بحكم ولائيّ، بل أقصد بذلك أنّ نفي الضرار وإن فرض حكماً إلهيّاً فهو حكم إلهي ملقى في غالب الموارد الى أولياء الاُمور كي يطبّقوه في مورد الحاجة، لا الى الناس الاعتياديين مباشرة؛ وذلك لأنّ قلع مادّة الفساد بنفي أمر أو حقّ يتذرّع به المضارّ لو اُعطي بيد الناس لزم في بعض مستوياته الهرج والفوضى، كما هو الحال ـ أيضاً ـ في بعض موارد أو درجات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بما يفوق على مجرّد الأمر والنهي باللسان.


(1) الوسائل: ج 16، ب 18، من العتق، ح 2، ص 21.

(2) الوسائل: ج 16، ب 18، من العتق، ح 12، ص 23.

589


وأمّا ما ذكره السيّد الإمام (رحمه الله) في المقام فخلاصته(1): أنّ (لا ضرر) و (لا ضرار) الصادر من النبي (صلى الله عليه وآله) لم يكن حكماً إلهيّاً ذكره بما هو رسول، بل هو حكم ولائي ذكره (صلى الله عليه وآله) بما هو سلطان أمر به اُمّته.

وقد استظهر ـ رضوان اللّه عليه ـ من الحديث قبل بيان حمله على الحكم الولائي كونه نفياً قصد به النهي كما اختاره شيخ الشريعة، واستدلّ على ذلك بالإشكالات التي يرى أنّها ترد على سائر الاحتمالات، من قبيل تخصيص الأكثر، ثمّ ذكر(رحمه الله): أنّ هذا النهي ليس نهياً إلهيّاً بلغة الرسول(صلى الله عليه وآله)بوصفه رسولاً، بل هو نهي ولائيّ وسلطانيّ، فإنّه الذي يظهر من ظاهر النصّ سواء لاحظنا النصّ السنّي، أو لاحظنا النصّ الشيعي.

أمّا النصّ السنّي فلأنّه صُدّر بكلمة (قضى) وهي ظاهرة أوّلاً في قضاء فصل الخصومة، ومحمولة ثانياً بعد وضوح عدم إرادة ذلك على الحكم السلطانيّ والولائيّ، وأمّا حملها على الحكم الإلهي فهو خلاف الظاهر.

وأمّا النصّ الشيعي فالصحيح منه ما ورد في قصّة سمرة، وهو وإن لم يكن مصدّراً بكلمة (قضى)، ولكن موردها مورد القضاء وقد قضى رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) بقلع شجرته وعلّل ذلك بأنّه «لا ضرر ولا ضرار» والمناسبة تقتضي أن يكون ذلك تعليلاً بحكم ولائيّ وسلطانيّ لا بحكم إلهي.

ولا يقال: إنّ العلّة تكون أوسع من الحكم المعلّل فلابدّ أن يحمل (لا ضرر) و (لا ضرار) على حكم إلهي، لا على قضاء رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) وإلّا لاتّحد مع المعلّل.

فإنّه يقال: إنّ المعلّل هو قضاء من رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) في مرافعة وقعت بين الأنصاري وسمرة، وقد علّل ذلك بحكم ولائيّ من قبل رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)، فأوسعيّة العلّة محفوظة في المقام.

ثمّ ذكر (رحمه الله): أنّ الشيخ الأعظم أشار الى إشكال في الاستدلال بحديث سمرة، وهو عدم إمكانيّة انطباق (لا ضرر) على مورد الحديث وهو قصّة سمرة؛ لأنّ الضرر لم يكن في بقاء الشجرة في بيت الأنصاري كي يعلّل الحكم بقلعها بـ(لا ضرر) وإنّما الضرر كان في عدم الاستئذان والدخول بلا إعلام. وعالج الشيخ الأعظم هذا الإشكال بأنّه لا يخلّ بتمسّكنا بالحديث، فإنّ الذي يهمّنا هو الكبرى المعطاة في الحديث دون فهم انطباقها على المورد.

وقال السيّد الإمام (رحمه الله): إنّ من الطبيعي كون الإشكال في انطباق الكبرى في الحديث على المورد مخلاًّ بالاستدلال، ولكنّ هذا الإشكال إنّما يرد على ما فهمه الأصحاب من الحديث، أمّا بناءً على ما فهمناه من حمل الحديث على الحكم الولائيّ فلا يوجد مجال لهذا الإشكال، فإنّ أمر رسول اللّه(صلى الله عليه وآله)بقلع الشجرة كان حكماً ولائيّاً وأمراً سلطانيّاً ولا إشكال في


(1) راجع تهذيب الاُصول ج 3، ص 112 ـ 122، والرسائل للسيّد الإمام رحمه الله ص 50 ـ 59.

590


ذلك.

أقول: إنّ مجموع هذا الكلام يستفاد منه في الحقيقة وجهان لحمل الحديث على الحكم الولائي:

أحدهما: أنّه لو حملناه على الحكم الإلهي لكان إشكال الشيخ الأنصاري مثبّتاً في المقام؛ لأنّ الكبرى لا تنطبق على المورد، وهذا بخلاف ما لو حملناه على الحكم الولائي.

أقول: لولا الحلّ الذي مضى من اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) من تفسير خاصّ لكلمة (لا ضرار)، وبيان أنّ مستند الحكم في المقام هي كبرى (لا ضرار) دون كبرى (لا ضرر) فمجرّد حمل الكبرى على كونها حكماً ولائيّاً لا حكماً إلهيّاً لا يحلّ إشكال الشيخ الأنصاري، فإنّ الإشكال عبارة عن أنّ الضرر لم يكن آتياً من قبل بقاء الشجرة في بيت الأنصاري، وإنّما كان آتياً من قبل الدخول بلا استئذان، فـ(لا ضرر) لا ينفي حقّ بقاء الشجرة هناك، وهذا كما ترى لا يفرّق فيه بين فرض كون النهي عن الضرر نهياً إلهيّا أو نهياً ولائيّاً، فإنّ كان منطبقاً على المورد كان منطبقاً عليه في كلا الفرضين، وإن لم يكن منطبقاً عليه فهو غير منطبق في كلا الفرضين. واختلاف مصدر النهي بأن يكون هو اللّه، أو الرسول كيف يعقل تأثيره على انطباق النهي على المورد وعدمه؟!

فإن قلت: إنّه لو حملت الكبرى على الحكم الولائي كان تطبيقها على قلع الشجرة بمعنى أنّ سمرة بعد أن خالف الحكم الولائي بعدم الالتزام بالاستئذان جازاه الرسول (صلى الله عليه وآله) بولايته بقلع الشجرة.

قلت: هذا يعني أنّ ارتباط قلع الشجرة بالحكم الولائي المفهوم من (لا ضرر) هو ارتباط التعزير بمعصية الحكم الولائي، وهذا لو تمّ ولم يكن مخالفاً لظاهر تطبيق الحكم على قلع الشجرة لم يختلف الحال ـ أيضاً ـ بالنسبة له بين فرض النهي في (لا ضرر) ولائيّاً أو إلهيّاً، فإنّ التعزير لا يختصّ بمخالفة الحكم الولائي، بل يثبت في مخالفة الحكم الإلهي أيضاً.

إذن فإشكال الشيخ الأنصاري لا يكون قرينة بوجه من الوجوه على حمل الرواية على الحكم الولائي.

والوجه الآخر: هو أنّ تطبيق الكبرى على قضاء رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) بقلع الشجرة يناسب كون الكبرى ـ أيضاً ـ من قضاء رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) بعنوان الحكم الولائيّ لا نهياً إلهيّاً.

أقول: أوّلاً: لم نفهم نكتة هذه المناسبة، فإنّ القضاء في باب المرافعات غالباً يكون مستنداً إلى أحكام إلهيّة، فتعليله بحكم ليس قرينة على كون ذاك الحكم حكماً ولائيّاً لا إلهيّاً.

وثانياً: بعد تسليم أنّ المناسبة تقتضي تعليل الحكم القضائي بالحكم الولائيّ لا بالحكم الإلهيّ نقول: إنّ هذه المناسبة لا تعيّن كون الحكم الولائيّ بالمعنى الذي قاله السيّد الإمام (رحمه الله)، وهو أن تكون نفس القاعدة حكماً أصدره الرسول (صلى الله عليه وآله) بما هو سلطان، لا حكماً بلّغه بما هو

591


رسول، بل من المناسب ـ أيضاً ـ أن تكون القاعدة حكماً إلهيّاً يبيّن لولاة الأمر ما يقضون به كما قلناه بالنسبة للإضرار حيث قلنا: إنّ نفي الضرار بالمعنى الذي شرحه اُستاذنا الشهيد لا يمكن أن يكون في غالب الموارد أمره بيد الناس، بل يكون بيد الولاة، فإذا أدخلنا مورد الحديث في (لا ضرار) كما فعله اُستاذنا الشهيد، وكان (لا ضرار) حكماً ولائيّاً بالمعنى الذي شرحناه، كفى ذلك إشباعاً للمناسبة التي يقولها السيّد الإمام(رحمه الله).

وعليه فيحمل الحديث على ما هو ظاهره الابتدائي من كون (لا ضرر ولا ضرار) حكمين إلهيين مع فارق بينهما، وهو أنّ (لا ضرر) يكون تطبيقه بيد كلّ أحد و (ولا ضرار) يكون تطبيقه في غالب الحالات بيد وليّ الأمر، وبإعمال الولاية في تعيين كيفيّة علاج الضرار، وفي المورد كان الرسول(صلى الله عليه وآله) قد طبّقه بما هو وليّ على قلع الشجرة.

هذا كلّه بلحاظ حديث سمرة.

وأمّا بلحاظ حديث الشفعة وحديث (لا يمنع فضل ماء) فبما أنّ السيّد الإمام ـ رضوان اللّه عليه ـ يعتقد أنّ رواية (لا ضرر) فيهما لم تذكر كتطبيق على الموردين، بل ذلك جمع في الرواية لا في المرويّ، ولهذا لم يحاول إسراء نفس الفكرة التي ذكرها بلحاظ حديث سمرة الى هذين الحديثين، واكتفى بالقول بأنّ الحديث الصحيح سنداً الوحيد في المقام هو حديث سمرة، وهو ظاهر في الحكم الولائيّ؛ لما فيه من تطبيق (لا ضرر) على مورد قضاء الرسول(صلى الله عليه وآله)، ولكن بما أنّنا بنينا على أنّ الجمع في حديثي الشفعة و (لا يمنع) جمع في المرويّ لا في الرواية، فلذا يمكننا أن نقول بعد تسليم استظهار السيد الإمام(رحمه الله) في حديث سمرة: إنّ نفس الفكرة يمكن أن تطبّق على هذين الحديثين، فيقال: إنّ تطبيق «لا ضرر ولا ضرار» على موردي الشفعة ومنع فضل الماء دليل على أنّ ذلك حكم ولائي؛ لانّ حكم الرسول(صلى الله عليه وآله) في الموردين كان حكماً ولائيّاً بدليل التعبير عنه بالقضاء.

ونقطة الضعف التي أشرنا إليها في هذا البيان في رواية سمرة من أنّ القضاء في باب المرافعات يناسب تعليله بالحكم الإلهيّ، كما يناسب تعليله بالحكم ا لولائيّ لا تأتي هنا؛ لأنّ حكم الرسول(صلى الله عليه وآله) بالشفعة وبعدم منع فضل الماء لم يكن حكماً قضائيّاً في المرافعات، بل كان حكماً ولائيّاً، ولا يمكن تعليل الحكم الولائيّ بكبرى إلهيّة؛ لانّ تطبيق الحكم الإلهي عليه يعني كون المطبّق عليه حكماً إلهيّاً ولائيّاً.

ولكن توجد هنا نقطة ضعف اُخرى وهي أنّ التعبير بالقضاء كما يناسب كون حكمه (صلى الله عليه وآله)بالشفع وعدم منع فضل الماء حكماً ولائيّاً، كذلك يناسب كون حكمه (صلى الله عليه وآله) بذلك تطبيقاً لحكم إلهي، فإنّ الحكم وإن فرض إلهيّاً، ولكن حينما لا يكون انطباقه على المورد واضحاً، ويحكم الوليّ بانطباقه على المورد يصدق أنّ الوليّ قضى بانطباق الكبرى على المورد، والحديثان من

592

هذا الإجراء يكون بلحاظ ما يناسب زمن النبيّ (صلى الله عليه وآله) الذي لم يكن وضع الدولة والسلطة بشكل يساعد على علاج المشكل باتّخاذ قرار أفضل مع التحفّظ على شجرته.

وبهذا اتّضح الجواب عمّا مضى من الإشكال في كيفيّة تطبيق حديث (لا ضرر) على مورده من قصّة سمرة، وهو ما أشرنا إليه هناك من أنّ هذا التطبيق ليس باعتبار (لا ضرر) وإنّما هو باعتبار (لا ضرار).

وبهذا البيان يستفاد في الفقه من (لا ضرار) في موارد كثيرة من قبيل الزوج الذي يستغلّ كون الطلاق بيده لا بيد الزوجة في الإمساك على الزوجة وإيذائها وتحريمها من حقّها، فهذه يمكن حلّ مشكلتها عن طريق (لا ضرار).

هذا تمام الكلام في فقه الحديث، وبهذا تمّ الكلام في المقامات التي عقدناها لهذا المبحث.

 

 


هذا القبيل، فصدق الضرر في مورد الشفعة ليس بذاك المستوى من الوضوح؛ لما قد يقال: من أنّ الضارّ هو المشتري السوء لا الشريك الذي باع حصّته. وكذلك في مورد منع فضل الماء لا يكون صدق الضرر بذاك الوضوح؛ لما قد يقال: من أنّ هذا منع عن النفع وليس ضرراً، فكان من الطبيعي أن يقضي النبي (صلى الله عليه وآله) بانطباق كبرى (لا ضرر) على المورد في هذين الحديثين رفعاً للشكّ.

593

 

 

 

تنبيهات

 

بقي علينا التنبيه على اُمور:

 

ضرريّة عدم الحكم

الأمر الأوّل: في أنّ (لا ضرر) هل يضع حكماً يكون عدمه ضرريّاً، كما يرفع الحكم الضرري أو لا؟ ذهب المحقّق النائيني (رحمه الله)ومدرسته ـ ومنهم السيد الاُستاذ ـ الى الثاني(1)، ولكنّ للسيّد الاُستاذ بعض التفريعات على (لا ضرر) والتي لا تناسب هذا المبنى، من قبيل ما ذكره في الدراسات في التنبيه الأوّل من تنبيهاته(2) من أنّ مفاد (لا ضرر) وإن كان هو نفي الحكم الضرري لا النهي عن الضرر، لكنّه تثبت بذلك حرمة الإضرار بالغير؛ لكون الترخيص فيه ضرريّاً.

وعلى أيّ حال، فما يظهر من مدرسة المحقّق النائيني (قدس سره) في مقام اختصاص (لا ضرر) بنفي وجود الحكم الضرري أمران: أحدهما دعوى القصور في المقتضي والمناقشة في الإطلاق، وثانيهما دعوى لزوم فقه جديد من فرض تكفّل حديث (لا


(1) راجع الدراسات: ج 3، ص 344، والمستفاد من عبارتها: أنّ (لا ضرر) وإن كان ناظراً بذاته الى الأحكام المجعولة، لكن عدم جعل الحكم في موضع قابل للجعل بمنزلة جعل العدم، ولا سيّما مع ورود قوله(عليه السلام): «ما حجب اللّه علمه عن العباد فهو موضوع عنهم» والذي هو بمنزلة التصريح بجعل عدم التكليف فيما لم يجعل فيه تكليف. ونحوه ما في المصباح: ج 2، ص560، إلّا أنّه أبدل الاستشهاد بحديث (ما حجب) بالاستشهاد بما ورد من: «أنّ اللّه سبحانه لم يترك شيئاً بلا حكم». وبهذا يتّضح أنّه لو أثبت السيّد الخوئي حرمة الإضرار بـ(لا ضرر)، فهذا لا ينافي مبناه من اختصاص (لا ضرر) بنفي الأحكام المجعولة؛ لأنّه يرى الجواز وعدم جعل الحكم في موضع قابل للجعل جعلاً للعدم على حدّ تعبير المصباح، أو بمنزلة جعل العدم على حدّ تعبير الدراسات، ويرى أنّ نفي الجواز يثبت الحرمة؛ لعدم خلوّ الواقعة من الحكم.

(2) راجع الدراسات: ج 3، ص 329، ولكن في المصباح: ج2، ص 533 ـ 534 اختار أنّ حرمة الإضرار لا تستفاد من (لا ضرر)، بل تستفاد من (لا ضرار).

594

ضرر) للوضع، كما هو متكفّل للرفع. وشرح الكلام في المقام ما يلي:

أمّا فرض القصور في المقتضي وعدم الإطلاق فله وجوه ثلاثة:

الأوّل: أنّ (لا ضرر) ينظر الى المجعولات الشرعيّة، ويرفع ما يكون منها ضرريّاً، وعدم الحكم لا يكون مجعولاً من قبل الشارع حتّى يرفع عند كونه ضرريّاً.

وهذا الوجه لا يتمّ لا على مبنانا، ولا على مبنى المحقّق النائيني(رحمه الله).

أمّا على مبنانا فواضح، فإنّ (لا ضرر) نفي للأضرار التكوينيّة الخارجيّة، وقد خرح من إطلاقها بمقيّد كالمتّصل الضرر غير المربوط بما يكون بيد الشارع من جعل حكم أو عدم جعله، ويبقى الضرر الناشىء من حكم الشارع مع الضرر الناشىء من عدم حكمه كلاهما داخلين في الإطلاق؛ لعدم وجود مقيّد يخرج أحدهما.

وأمّا على مبنى المحقّق النائيني (قدس سره): من أنّ مفاد القاعدة هو نفي الحكم الضرري، فلأنّه لم يذكر في الحديث لفظ الحكم، أو الجعل حتّى يتكلّم في أنّ هذا اللفظ هل يشمل عدم الحكم مثلاً أو لا؟ غاية الأمر هي مايقال: من أنّ الشارع بما هو شارع قد نفى الضرر، فلا ينظر الى الأضرار التكوينيّة، ويكون النفي نفياً تشريعيّاً، ولكنّ النفي التشريعي كما يناسب الضرر الناشىء من جعل حكم من قبل المولى، كذلك يناسب الضرر الناشىء من عدم جعل الحكم من قبله.

الثاني: أنّ نفي النفي وإن كان أمراً معقولاً ويعطي معنى الإثبات، ولكنّه خلاف الطبع الأوّلي للعرف، فتحمل جملة (لا ضرر) على خصوص نفي الوجود دون نفي النفي.

وهذا ـ أيضاً ـ لا يتمّ لا على مبنانا، ولا على مبنى المحقّق النائيني(قدس سره).

أمّا على مبنانا فواضح، فإنّ (لا ضرر) ينفي الضرر التكويني الناشىء من حكم الشرع أو عدم حكمه، والضرر التكويني على أيّ حال أمر وجودي، فلم تلزم إرادة نفي النفي.

وأمّا على مبنى المحقّق النائيني (رحمه الله) فلأنّه وإن فرض الضرر عنواناً لما ينفى من الأمر المرتبط بالشارع، لكنّه لا مانع من شمول الحديث للحكم الضرري ولعدم الحكم الضرري، فإنّ عنوان الضرر المنتزع عنه لا يكون عدميّاً، وإنّما هو وجودي.

الثالث: التمسّك بكلمة (في الإسلام) في قوله: «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام» فيقال: إنّ عدم الحكم ليس من الإسلام، وأمّا الإسلام فهو عبارة عن الأحكام المشرّعة.

595

ويرد عليه بغضّ النظر عن أنّ ما اعتمدنا عليه إنّما هو الحديث غير المشتمل على كلمة (في الإسلام) وليس النصّ المشتمل عليها معتبراً: أنّ الإسلام عبارة عن حدود معيّنة للبشر من قبل اللّه تعالى سواء كانت وجوديّة، أو عدميّة بمعنى عدم التحريم وإطلاق العنان.

فتحصّل: أنّ الحديث يشمل عدم الحكم إذا كان ضرريّاً كما يشمل الحكم الضرري، بلا حاجة في إثبات ذلك الى بعض التكلّفات، كالقول بأنّ الإباحة وعدم الإلزام وإن كان في الواقع أمراً عدميّاً، لكنّها بالمسامحة العرفيّة أمر وجودي، أو القول بأنّ الإباحة أمر وجودي كباقي الأحكام الخمسة، فترفع بالحديث إذا كانت ضرريّاً.

والصحيح أنّها ليست إلّا عبارة عن عدم الإلزام، ثمّ لو فرض كونها أمراً وجوديّاً فنفيها بـ(لا ضرر) لا فائدة فيه، فإنّ نفي الإباحة لا يدلّ على الحرمة، وما لم تثبت الحرمة لا يرتدع العبد، ولا وجه لتخيّل ثبوت الحرمة بنفي الإباحة إلّا أحد أمرين:

الأوّل: دعوى أنّ الشيء لا يخلو من أحد الأحكام الخمسة، فنفي الإباحة دليل على الحرمة.

ويرد عليه: أن ما تُتخيّل دلالته على عدم خلوّ كلّ قضية من أحد الأحكام الخمسة إنّما يدلّ على أنّ الشريعة لا تكون ناقصة، ويكفي في عدم نقصها تعيين موارد ثبوت الحكم عن موارد عدم الحكم والإلزام.

الثاني: أنّ نفي الإباحة يدلّ عرفاً على الحرمة بقرينة اللغويّة مثلاً، وهذا إنّما يتمّ إذا نفيت الإباحة بالخصوص، لا في مثل (لا ضرر) الدالّ بإطلاقه على نفي الإباحة، فإن كان الإطلاق لغواً لم ينعقد، لا أنّه ينعقد ويُحتاج في توجيهه الى الالتزام بثبوت الحرمة.

وأمّا لزوم تأسيس فقه جديد من القول بشمول (لا ضرر) للأعدام الضرريّة فقد ذكر ذلك المحقّق النائيني(رحمه الله) ومدرسته، واستعرض المحقّق النائيني(قدس سره) لتوضيح ذلك فروعاً، نحن نقتصر على ذكر أهمّها، وهو فرعان:(1)

الفرع الأوّل: مسألة الطلاق، فذكر(قدس سره): أنّه لو قلنا بتعميم القاعدة للعدميّات، لزم أن نرفع به عدم ولاية الطلاق للمرأة، أو وليّها، أعني الحاكم الشرعي عند ضرريّة ذلك كما، إذا كان الزوج لا ينفق عليها عصياناً، أو لعدم القدرة على الإنفاق، كما إذا كان معسراً.


(1) راجع قاعدة (لا ضرر) للشيخ موسى النجفي، ص 221.

596

وذكر السيد الاُستاذ: أنّ قاعدة (لا ضرر) لا تثبت ولاية الطلاق للمرأة، أو للحاكم الشرعي حتّى لو قلنا بالتعميم، فإنّه توجد هنا ثلاثة أشياء: (الزوجيّة)، وهي بنفسها ليست ضرريّة. و (عدم كون الطلاق بيد الزوجة أو وليّها)، وهذا ـ أيضاً ـ ليس ضرريّاً. و(عدم الإنفاق)، وهذا هو الضرري. وحديث (لا ضرر) إنّما يدلّ على وجوب الإنفاق وعدم الرخصة في تركه، ولا علاقة له بمسألة الطلاق.(1)

أقول: هذا الكلام نشأ من الالتزام بالمعنى التقليدي للضرر، وهو نقص المال، فإنّ الضرر المتوجّه الى الزوجة بهذا المعنى هو نقص مالها، بمعنى أنّها لا تتمكّن من أخذ ما تطلبه من مدينها، والطلاق ليس نفياً لهذا الضرر، وإنّما هو تبديل للمدين الى مدين آخر ملتزم، أو موسر لا يورد عليها هذا الضرر.

وأمّا بناءً على ما عرفت: من أنّ من أفراد الضرر بل من أجلى أفراده البؤس وسوء الحال، فمن الواضح أن هذه المرأة قد ابتلت بضرر من هذا القبيل، وهو البؤس وسوء الحال من جرّاء كونها في عصمة رجل معسر وعاجز عن الإنفاق، ورفع الضرر عنها يكون بتخليصها من هذا الزوج، والكلام إنّما هو في فرض عدم وجود منفق آخر عليها غير الزوج كالأب أو الأخ أو غيرهما، وإلّا فلا بؤس ولا سوء حال.

نعم، رفع هذا الضرر بكلمة (لا ضرر) إنّما كان في فرض عدم قدرة الزوج على الإنفاق حيث صار بقاء الزوجيّة أو عدم الطلاق ـ عندئذ ـ ضرريّاً بواسطة أمر تكويني خارج عن قدرة الزوج، وهو الإعسار تماماً كضرريّة وجوب الوضوء بواسطة أمر تكويني وهو المرض.

وأمّا إذا كان الزوج عاصياً فالضرر إنّما يترتّب على هذا الحكم بواسطة إرادة فاعل مختار هو الزوج غير المقهورة لحكم المولى، بل المتمرّدة على حكم المولى، فنفي الضرر المستند الى الشريعة لا يعالج المشكل؛ لأنّه متمرّد على الشريعة، فهنا يتمسّك بـ(لا ضرار)؛ لما مضى من أنّه يرفع الحكم الشرعي الذي يتعمّد الشخص الإضرار بالتمسّك به.

ثمّ إنّ ما ذكره المحقّق النائيني(رحمه الله): من كون جريان (لا ضرر) هنا، وإثبات الطلاق على أساسها بيد الزوجة أو وليّها فرع القول بتعميم القاعدة غير صحيح، فحتّى لو قلنا بأنّ القاعدة ترفع ولا تضع فإنّها تفيدنا هنا جواز الطلاق؛ وذلك لأنّه إذا


(1) راجع الدراسات: ج 3، ص 345، والمصباح: ج 2، ص 560.

597

كان عدم الطلاق ضرريّاً كما هو المفروض فهذا معناه ضرريّة بقاء الزوجيّة لما بعد الطلاق، فلا ضرر يدلّ على نفي إطلاق الزوجيّة لما بعد الطلاق، وحيث إنّ الإجماع والضرورة الفقهيّة دلاّ بنحو الاطمئنان أو القطع بأنّ الزوجيّة لا تنقطع إلّا بالطلاق، فيدلّ (لا ضرر) بالملازمة على ثبوت الطلاق بيد شخص آخر في فرض عدم القدرة على الإنفاق، والامتناع من الطلاق، والقدر المتيقّن هو الحاكم الشرعي، وكذلك يدلّ (لا ضرار) في فرض عصيان الزوج، وتعمّده ترك الإنفاق على نفي الزوجيّة بعد الطلاق، وبالملازمة يدلّ على ثبوت الطلاق بيد شخص آخر، والقدر المتيقّن هو الحاكم الشرعي، فله أن يطلّق زوجة هذا المضارّ إذا لم يمكن إجباره على ترك الضرار بالتفكيك، جبراً بين حكم الزوجيّة والضرار الذي يرتكبه هذا الشخص، فانحصر علاج ذلك برفع أصل الزوجيّة.

وأمّا كون ذلك تأسيساً لفقه جديد فهو ممنوع، فإنّ هذا شيء أفتى به جملة من المتوسطين والمتأخّرين، ووردت به روايات صحيحة.

نعم، اُدّعي ثبوت بعض المخصّصات لها، فقيل بخروج فرض إعسار الزوج أو غيبته، وعلى كلّ حال، فتنقيح المقيّدات موكول الى الفقه ونقول هنا: إنّه لو ثبت مقيّد أو مخصّص لتلك الروايات كان ذلك بنفسه مقيّداً ومخصّصاً لقاعدة (لا ضرر) أيضاً، ونلتزم بجواز الطلاق في غير ذلك المورد بحكم الروايات، وبقاعدة (لا ضرر)، ولو لم يثبت المقيّد التزمنا بذلك إطلاقاً، وقلنا: إنّ الحاكم الشرعي يجبر الزوج على الطلاق، فإن لم يمكن ذلك تولّى هو الطلاق حسبة.

وعلى أيّة حال، فقد عرفت أنّنا حتّى لو آمنّا بعدم جواز الطلاق لم يكن هذا نقضاً على التعميم، بل هو تخصيص للقاعدة حتّى بناءً على عدم التعميم، واختصاصها برفع الحكم الوجودي؛ لأنّ بقاء الزوجيّة بعد الطلاق حكم وجودي، فلا يمكن أن يكون فرض عدم جواز الطلاق شاهداً على عدم تعميم القاعدة للأعدام الضرريّة.

الفرع الثاني: مسألة الضمان، فبناءً على شمول قاعدة (لا ضرر) للأضرار العدميّة يتمسّك بها لإثبات الضمان في موارد إتلاف مال الغير مثلاً، وقد أورد المحقّق النائيني(رحمه الله) إشكاله على ذلك بتشويش واضطراب في عبارة التقرير، مع الانطواء على الخلط بين أصل التعميم وما فرّع عليه من مسألة الضمان. ونحن بالتحليل والتحديد نستخلص من تلك العبارة المشوّشة إشكالين:

598

1 ـ أنّ (لا ضرر) ينفي الضرر، لا أنّه يثبت التدارك، والضمان تدارك للضرر لا نفي له.

2 ـ لو سلّم أنّ الضمان ليس تداركاً، أو أنّ (لا ضرر) يدلّ على التدارك قلنا: إنّ إثبات الضمان في مثل هذه الموارد بـ(لا ضرر) لو تمّ لزم إثبات الضمان في موارد التلف السماوي، فمن تلفت داره بآفة سماويّة فعدم ثبوت الضمان له ولو من بيت المال ضرر عليه، فيحكم بالضمان، وهذا ما لا يلتزم به فقيه.

ولنا في هذا المجال ثلاث تعليقات على كلامه(قدس سره) بعد تحليله وتحريره من قِبَلنا بالنحو الذي عرفت:

التعليق الأوّل على كلامه الأوّل: وهو أنّ الضمان تدارك للضرر لا نفي له، فإنّنا نقول: إنّ الضمان نفي للضرر، ويمكن تقريب ذلك بأحد وجهين:

الأوّل: ما هو الصحيح عندنا على مبنانا في فهم معنى الضرر: من عدم اختصاصه بمثل النقص في المال الخارجي أو البدن مثلاً، وشموله للحقوق العقلائيّة، فنقول: إنّ الضمان حقّ عقلائي في موارد الضمان العقلائي، فعدمه ضرر ينفى بـ(لا ضرر).

الثاني: أنّه لو بنينا على المبنى التقليدي في معنى الضرر من كونه بمعنى الضرر في المال ونحوه، أمكن القول في المقام بأنّ الضمان وإن كان بالتدقيق العقلي تداركاً للضرر المالي، لكنّه عرفاً نفي له، باعتبار أنّ المال حينما يأخذه الغاصب مثلاً يستقرّ في عهدته، وعند التلف ينتقل الى ذمّته، فكأنّه موجود بعينه في الذمّة، وهذا الوجود وإن كان أنزل مستوى من الوجود العيني الخارجي، ويعتبر تلف المال وانتقاله الى الذمّة ضرراً، فالضرر قد وقع لا محالة، لكن بما أنّ العرف يعتبر أنّ الأداء عبارة عن إرجاع نفس المال مرّة ثانية من وعاء الذمّة الى وعاء الخارج، فيعتبر ذلك رفعاً للضرر ونفياً له.

لكنّ الإنصاف أنّ ارتكاز هذا المطلب في نظر العرف ليس بدرجة تقتضي دخول ذلك في نفي الضرر بلا مؤونة، فالعمدة هو الوجه الأوّل.

التعليق الثاني على كلامه الثاني: وهو أنّ الضمان لو ثبت بـ(لا ضرر) ثبت في التلف السماوي أيضاً، فنحن نقول: إنّنا إنّما نثبت الضمان بـ(لا ضرر) بأحد التقريبين الماضيين في التعليق الأوّل، وهما يختصّان بموارد الضمان العقلائي، فإنّ الضمان فيها حقّ عقلائي، والمال فيها انتقل عقلائيّاً الى الذمّة، فالأداء كأنّه إرجاع له، وليس

599

الأمر كذلك في باب التلف السماوي.

التعليق الثالث: أنّ كلا الكلامين كما ترى ليس في الحقيقة إشكالاً على أصل التعميم، فلو قلنا بالتعميم ولم نقل بكون الضمان نفياً للضرر، والتزمنا بأنّ الضمان تدارك للضرر، وبأنّ (لا ضرر) لا يثبت التدارك، وإنّما هو نفي للحكم الضرري، أو عدم الحكم الضرري، ومثّلنا لهذا التعميم بمسألة عدم حرمة الإضرار بالغير المنفي بـ(لا ضرر)، فأيّ ربط لهذا الكلام بالإشكالين الماضيين؟! فهذا خلط ـ كما قلنا ـ بين التعميم وما فرّع عليه في كلام المعمِّم.

وقد تحصّل من كلّ ما ذكرناه: أنّ (لا ضرر) يشمل الأعدام الضرريّة أيضاً، وقد طبّق الإمام (عليه السلام) ذلك على العدم الضرري للحكم الضرري في حديث الشفعة، ومنع فضل الماء؛ ليمنع فضل الكلاء ـ إن كان الحديثان صادقين ـ فإّن عدم الشفعة وجواز المنع عدمان ضرريّان، وليسا حكماً وجوديّاً ضرريّاً، وأمّا نفس حديث سمرة فإن قلنا: إنّ (لا ضرار) هو الذي يطبّق فيه على مورده فهذا التطبيق خارج عمّا نحن فيه فعلاً من قضية (لا ضرر)، وإن فرض أنّه يطبّق عليه (لا ضرر) قلنا أيّ حكم وجودي طُبّق عليه (لا ضرر)؟

هل هو ثبوت حقّ ذات الدخول مع عدم الاستئذان، أو ثبوت حقّ الدخول المقيّد بعدم الاستئذان الراجع الى حقّ عدم الاستئذان؟

أمّا الأوّل: فحقّ ذات الدخول ليس ضرريّاً.

وأمّا الثاني: فلا معنى لتعلّق الحقّ بعدم الاستئذان، وإنّما الذي قد يكون محقوقاً ومملوكاً في نظر العقلاء هو ذات الدخول لحفظ العذق، وأمّا الدخول بقيد عدم الاستئذان فيتعلّق به الجواز بمعنى عدم الحرمة وعدم وجوب الاستئذان، وهذا أمر عدميّ ضرريّ رفع بـ(لا ضرر).

ثمّ إنّ المحقّق الاصفهاني(قدس سره) ذكر: أنّه لا يمكن استفادة الضمان في موارد الضمان من (لا ضرر)؛ لأنّ (لا ضرر) ينظر الى الأحكام الثابتة في الشريعة ويحكم عليها، فهو لا يرفع حكماً برأسه، وإنّما يرفع إطلاق الحكم، فالحكم الذي يكون من أصله ضرريّاً، كالحكم بعدم الضمان على من أتلف مال غيره سهواً مثلاً الذي هو ضرر على المتلَف منه لا يرتفع بـ(لا ضرر)؛ لأنّ هذا الحكم بنفسه ضرريّ، وليس من قبيل وجوب الوضوء الذي لا يكون بنفسه ضرريّاً، وقد تتّفق صيرورته ضرريّاً، فيرفع

600

إطلاقه بالقاعدة.(1)

ويرد عليه بغضّ النظر عمّا مضى من أنّ (لا ضرر) ينظر الى الشريعة ككلّ ويحكم عليها، لا الى كلّ فرد فرد من الأحكام مستقلاّ: أنّ دائرة ما في الشريعة من الحكم بعدم الضمان تتحدّد بدائرة ما في الشريعة من الحكم بالضمان، فإذا فرض مثلاً: أنّ الشارع خصّ حكم الضمان بمورد إتلاف شخص عين مال شخص آخر عمداً، فهذا معناه أن موضوع الحكم بعدم الضمان هو جامع ما لا يكون هكذا سواءً تلف بلا عمد، أو تلف بتلف سماوي، أو لم يتلف أصلاً، وهذا الحكم كالحكم بوجوب الوضوء قد يكون ضرريّاً، وقد لا يكون ضرريّاً، فيرفع إطلاقه بالحديث.

 

الإقدام على الضرر

الأمر الثاني: قد يظهر التهافت في بادىء الأمر تهافت بين فتويين من قبل الأصحاب: إحداهما: ما يقال من أنّ (لا ضرر) لا يجري في الغبن إذا كان المغبون عالماً بالغبن فدخل في المعاملة الغبنيّة عن عمد، وليس له خيار الغبن.

وثانيتهما: ما يقال من أنّ من أجنب نفسه وكان الغسل ضرراً عليه ينتقل الى التيمّم، ولو فرض كونه عالماً بذلك وأجنب نفسه عمداً.

ووجه التهافت: أنّه لو كان (لا ضرر) لا يجري مع العمد؛ لأنّه أقدم على الضرر مثلاً وجب أن لا يجري في كلا الفرضين، وإلّا وجب أن يجري في كليهما فما معنى التفصيل بينهما؟

وتصدّى المحقّق النائيني(قدس سره) لبيان الفرق بين المسألتين. وعبارة التقرير هنا في غاية التشويش(2)، فنحتمل فيها عدّة احتمالات، ونصوغها في ثلاثة تقريبات، فصدر عبارته أنسب بالتقريب الأوّل، ووسط العبارة أنسب بالتقريب الثاني، وذيله أنسب بالتقريب الثالث.

أمّا التقريب الأوّل: فهو أنّ (لا ضرر) ينفي الحكم المتعنون بعنوان الضرر بلحاظ قانون المسبّب التوليدي ـ على ما هو مبنى المحقّق النائيني(قدس سره) كما مضى ـ فلا بدّ من أن لا تتوسّط بين الحكم وتحقّق الضرر إرادة المكلّف غير المقهورة للحكم


(1) لم أجده في فحصي الناقص.

(2) راجع قاعدة (لا ضرر) للشيخ موسى النجفي، ص 217 ـ 219.

601

الشرعي، وهذا القانون منطبق على باب الغسل؛ لأنّ إرادة الإجناب إنّما هي قبل الحكم، فإنّ الحكم إنّما يتحقّق بالإجناب، وإرادة الغسل مقهورة للحكم الشرعي.

وأمّا في مثال الغبن فبعد أن حكم الشارع مثلاً بصحّة البيع الغبني، ولزومه أراد المكلّف إيجاد ذلك في الخارج، ولو لم يفعل لما ترتّب الضرر خارجاً، ولم يكن ملزماً بإيجاد ذلك، فهنا توسطت الإرادة غير المقهورة بين الحكم والضرر.

وهذا جوابه واضح، فإنّه خلط بين الجعل والمجعول؛ إذ لو إُريد بالحكم والتكليف الذي توسّطت الإرادة بينه وبين الضرر الجعل، فالتوسّط ثابت في كلا الموردين، فإنّ الحكم بوجوب الغسل على المجنب كان ثابتاً قبل إرادته للإجناب، ولم يكن ملزماً شرعاً بإجناب نفسه، وإن اُريد بذلك المجعول فلا توسّط لإرادة غير مقهورة في شيء من الموردين، فإنّ فعليّة الحكم وتحقّق المجعول في باب الغبن ـ أيضاً ـ فرع إيجاده للبيع الغبني، فإرادته لذلك واقعة قبل الحكم.

التقريب الثاني: أنّ الضرر في باب الغسل هو تمرّضه بالاغتسال في الماء مثلاً، وهذا الضرر ثابت حتى لو كان إجنابه عمديّاً، وأمّا في باب البيع الغبني فالضرر هو تخلّف حقّ التساوي الثابت بالشرط الضمني، وهذا الضرر في صورة العمد والعلم غير موجود؛ لعدم الشرط الضمني فلا يوجد هذا الحقّ.

وهذا الكلام بهذا المقدار ناقص يحتاج الى متمّم: وهو أن يقال مثلاً: إنّ حقّ التساوي أوجب حقّ الخيار بنظر العقلاء، أو بشرط ضمنيّ آخر، فعدم هذا الحقّ ضرر ينفى بـ(لا ضرر).

وعلى أيّ حال، فهذا التقريب ـ أيضاً ـ غير تامّ؛ لما مضى من إمكان تطبيق (لا ضرر) على الضرر المالي الموجود في المقام، ومن الواضح ثبوت الضرر المالي في حال العمد أيضاً كما في الضرر في باب الغسل.

التقريب الثالث: المحتمل في كلام المحقّق النائيني(قدس سره): هو ما نقله المحقّق العراقي(1)(قدس سره) عن اُستاذه المحقّق الخراساني(رحمه الله) من وجود فرق بين المسألتين: وهو أنّ البيع الغبني بنفسه ضرر، فهو قد أقدم متعمّداً على الضرر، و (لا ضرر) مشروط بفرض عدم الإقدام، وأمّا في باب الجنابة فالضرر ليس هو الجنابة التي أقدم عليها، وإنّما الضرر هو وجوب الغسل، وهو لم يقدم على ذلك، وإنّما أقدم على الجنابة.


(1) راجع المقالات: ج 2، ص 123.

602

نعم، لو ثبت أنّ هذه الجنابة حكمها هو الغسل فقد أقدم على الغسل؛ لأنّ المُقدِم على الموضوع عن عمد وعلم مقدِم على حكمه، فصدق الإقدام موقوف على كون حكم هذه الجنابة الغسل، وذلك بعدم جريان (لا ضرر) وهو موقوف على الإقدام، فأصبح الإقدام دورياً فلا إقدام.

أقول: تارة نتكلّم فيما ذكره هنا من تقريب عدم جريان (لا ضرر) في البيع الغبني بنكتة الإقدام، واُخرى في أنّ هذه النكتة هل تختصّ بمثال الغبن، ولا ترد في مثال الجنابة حتّى يتمّ الفرق أو لا؟ فيقع الكلام في مقامين:

المقام الأوّل: في ثبوت الإقدام على الضرر وعدمه في مسألة البيع الغبني.

يمكن أن يقال في بادىء الأمر: إنّه لا إقدام هنا على الضرر، وإنّما حال تعمّد البيع هو حال تعمّد الجنابة، فإنّ البيع بنفسه إنشاء مبادلة، وهذا الإنشاء ليس هو الضرري، وإنّما الضرري هو ما يترتّب عليه من حكمه، وهو قانونيّته وإمضاؤه عيناً من قبيل أنّ الجنابة ليست هي الضرريّة، وإنّما الضرري هو ما يترتّب عليه من الحكم وهو الغسل، فالإقدام هنا ـ أيضاً ـ يكون دورياً بنفس تقريب دوريّته في باب الغسل، ولا فرق بين الفرعين فأيّ شيء يثبت في أحدهما يثبت في الأخر.

ولكنّ هذا الكلام واضح الفساد فإنّ البيع وإن كان مدلوله الاستعمالي هو الإنشاء، ولكن مدلوله الجدّي هو الإقدام على أثره القانوني، وتحصيل التبادل الحقيقي بين المالين، فالإقدام ثابت.

نعم، هنا تقريب آخر لمنع حصول الإقدام على الضرر: وهو ما أفاده المحقّق العراقي(قدس سره) في المقام: من أنّ الإقدام إنّما هو على حدوث المبادلة، والحدوث ليس هو الذي نريد رفعه بـ(لا ضرر) فإنّ المفروض في البيع الغبني أنّه صحيح غير لازم، وإنّما الذي نريد رفعه هو جانب البقاء، وهو لم يقدم على جانب البقاء، فإنّ مدلول البيع إنّما هو إحداث التمليك والتملّك(1).

أقول: هذا الكلام في غاية المتانة بناءً على مبناه(قدس سره) في المعاملات من أنّها لا تدلّ إلّا على حدوث المبادلة، وأمّا لزومها وعدم لزومها فهو حكم تعبّدي صرف، وليس إمضاءً لما فعله المتعاملان.

وأمّا بناءً على مبنى المحقّق النائيني(قدس سره) والذي هو الصحيح: من أنّ المعاملة


(1) راجع نفس المصدر.

603

تدلّ بدلالتها المطابقيّة على إيجاد المبادلة، وبدلالتها الالتزاميّة المستفادة بحسب السياق العرفي على الالتزام بالبقاء على ما صدر منهما، وأنّ حكم الشارع باللزوم إمضاء لنفس ما أراده المتعاملان، فقد حصل الإقدام على اللزوم والبقاء أيضاً، فهذا الإشكال ـ أيضاً ـ غير تامّ في المقام، فالصحيح عدم جريان قاعدة (لا ضرر) في المقام؛ لأنّه بنفسه أقدم على الضرر.

المقام الثاني: في ثبوت الإقدام على الضرر في مسألة الجنابة العمديّة وعدمه.

وهنا نتكلّم تارة في صدق الإقدام وعدمه، واُخرى في أنّه إذا صدق الإقدام فهل هو إقدام يمنع عن جريان (لا ضرر) أو أنّه ليس كلّ إقدام مانعاً عنه، وهذا من القسم غير المانع، فيقع الكلام في أمرين:

الأمر الأوّل: في صدق الإقدام وعدمه.

قد عرفت الاستشكال في صدق الإقدام بلزوم الدور بالتقريب الذي مرّ. ولتوضيح ما هو التحقيق في المقام نتكلّم في نقاط أربع:

1 ـ أنّه لو صحّ قولكم: إنّ الإقدام دوري؛ لتوقّفه على عدم جريان (لا ضرر) المانع عن وجوب الغسل، وعدم جريانه متوقّف على صدق الإقدام. صحّ أن نقول أيضاً: إنّ عدم الإقدام دوري؛ لتوقّفه على جريان (لا ضرر) حتّى ينفى به وجوب الغسل، فلا يكون إقدام عليه، وجريانه متوقّف على عدم الإقدام على الضرر.

2 ـ كأنّه يتخيّل أنّ المحال في باب الدور هو تحقّق الدائرين في الخارج دون أصل توقّف الشيء على نفسه ولو بالواسطة، مع أنّه ليس الأمر هكذا، بل تكمن الاستحالة في نفس توقّف الشيء على نفسه ولو بالواسطة، وهذا الخلط يرى في كثير من موارد تعرّضهم لإشكال الدور التي منها ما نحن فيه، فإنّه لو كان الإقدام متوقّفاً على عدم جريان (لا ضرر) وبالعكس كما فرض فقد تحقّق الدور المحال، فليس هذا برهاناً على عدم حصول الإقدام، بل لابدّ أن يكون أحد التوقّفين باطلاً في المقام.

3 ـ أنّ العام دائماً يتعنون بنقيض العنوان المأخوذ في المخصّص أو الحاكم، كما في (أكرم العلماء) المخصّص بـ(لا تكرم العالم الفاسق)، فإنّه يتعنون بعدم الفسق، ففيما نحن فيه يكون موضوع وجوب الغسل مع فرض الضرر معنوناً بنقيض عنوان أخذ في (لا ضرر)، وهو عنوان عدم الإقدام ـ حسب الفرض ـ فتحدّد العنوان المأخوذ في وجوب الغسل متفرّع على كيفية تحدّد العنوان المأخوذ في (لا ضرر)،

604

فلابدّ لنا من الحديث عن عنوان عدم الإقدام المأخوذ في (لا ضرر) كي يتّضح ضمناً الكلام في الإقدام المأخوذ في العامّ مثلاً أو المحكوم.

4 ـ أنّ عدم الإقدام المأخوذ في (لا ضرر) يوجد فيه احتمالات ثلاثة:

الاحتمال الأوّل: أن يفرض أنّ المأخوذ في (لا ضرر) هو عدم الإقدام بمعنى العدم الثابت بغضّ النظر عن (لا ضرر)، ولو فرض ارتفاعه بـ(لا ضرر)، فموضوع وجوب الغسل ـ عندئذ ـ هو الإقدام الثابت بغضّ النظر عن (لا ضرر)، وعليه ففيما نحن فيه يجب الغسل؛ لأنّ الثابت بغضّ النظر عن (لا ضرر) هو الإقدام لا عدمه.

الاحتمال الثاني: أن يفرض أنّ الموضوع هو العدم الفعلي للإقدام، ولو كان ذلك العدم ناشئاً من نفس (لا ضرر)، وهذا محال لاستلزامه الدور، بأن يكون عدم الإقدام المتفرّع من (لا ضرر) موضوعاً للاضرار، وقد قلنا: إنّ الدور بنفسه محال.

الاحتمال الثالث: أن يفرض أنّ الموضوع هو ما يشمل العدم الناشىء من (لا ضرر)، لا بمعنى كون العدم الفعلي الناشىء من (لا ضرر) موضوعاً للإ ضرر حتّى يلزم الدور، بل بمعنى أنّ صدق قضية شرطيّة مُقدّمها ثبوت (لا ضرر) وتاليها عدم الإقدام يحقّق موضوع (لا ضرر)، وهذا لا يلزم منه الدور، فمثلاً لو فرض أنّ خلق اللّه تعالى للشيخ المفيد(رحمه الله)متوقّف على نصرة الشيخ المفيد للإسلام بالفعل كان هذا دوراً محالاً ولو فرض أن خلقه تعالى له متوقّف على قضية شرطيّة وهي: أنّه لو خلقه لنَصَر الإسلام، فهذا ليس محالاً. وهذا الاحتمال الثالث مساوق في النتيجة للاحتمال الثاني، إلّا أنّ الثاني محال، وهذا ليس بمحال، والعدم المأخوذ موضوعاً في (لا ضرر) بناءً على الثالث أعمّ من العدم المأخوذ موضوعاً فيه بناءً على الأوّل، فالإقدام المأخوذ موضوعاً في وجوب الغسل بناءً على الثالث أخصّ من الإقدام المأخوذ موضوعاً فيه على الأوّل، فإنّ نقيض الأعمّ أخصّ، ونقيض الأخصّ أعمّ، وعلى الأوّل عرفت أنّه يجب الغسل في المقام؛ لأنّ الثابت بغضّ النظر عن (لا ضرر) هو الإقدام. وأمّا على الثالث فتجري في المقام قاعدة (لا ضرر)؛ لأنّها إن جرت رفعت الإقدام.

إن قلت: سلّمنا عدم لزوم الدور في جانب عدم الإقدام، ولكنّ المفروض أنّه أخذ في موضوع وجوب الغسل الإقدام، فالدور في جانب الإقدام ثابت على حاله، فإنّ كون إجنابه عمداً إقداماً على الغسل فرع ترتّب وجوب الغسل على الإجناب، ووجوبه فرع الإقدام، فلزم الدور.

قلت: إن أخذنا بالاحتمال الثالث فمن الواضح عدم الدور في المقام؛ إذ على

605

الاحتمال الثالث يصبح موضوع الأحكام الإلزاميّة: هو كلّ إقدام ناشىء من غير نفس تلك الأحكام، وأمّا الإقدام الذي ينشأ من نفس الحكم فليس هو الذي يحقّق الحكم؛ لأنّ كلّ إقدام ينشأ من نفس الحكم يُفنيه (لا ضرر)؛ إذ المفروض أنّ موضوع (لا ضرر) هو العدم ولو الناشىء من نفس (لا ضرر)، ولا محالة يكون (لا ضرر) مُفنياً لإقدام ينشأ من الحكم الذي يفنيه.

وأمّا إن أخذنا بالاحتمال الأوّل فأيضاً لا يلزم الدور، فإنّنا نقول في جانب الإقدام ووجوب الغسل ما كنّا نقوله في جانب عدم الإقدام وجريان (لا ضرر) في الاحتمال الثالث، أي: كما أنّه كنّا نقول: إنّ موضوع (لا ضرر) قضية شرطيّة مقدّمها ثبوت (لا ضرر) وتاليها عدم الإقدام، نقول هنا: إنّ موضوع وجوب الغسل هو قضية شرطيّة مقدّمها وجوب الغسل وتاليها الإقدام.

إن قلت: هذا معناه أنّ موضوع (لا ضرر) هو عدم الإقدام بغضّ النظر عن (لا ضرر)، ولكن موضوع وجوب الغسل ليس هو الإقدام بغضّ النظر عن وجوب الغسل، بل موضوعه هو (الإقدام لو وجب الغسل) فما معنى هذا التفكيك؟

قلت: إنّ تقيّد (لا ضرر) بعدم الإقدام كان مستظهراً من نفس (لا ضرر)، فيستظهر منه بتقريب يأتي: أنّ موضوعه هو (عدم الإقدام لولا لا ضرر)، وأمّا تقيّد وجوب الغسل بالإقدام فليس بالاستظهار العرفي منه حتّى يُقال مثلاً: يجب أن يستظهر من كليهما بشكل واحد، وإنّما هو بحكم العقل، باعتبار أنّ العامّ لابدّ من تقيّده بنقيض عنوان المخصّص أو الحاكم مثلاً، ومن المعلوم أنّه لابدّ في التخصيص من إخراج العنوان المأخوذ في المخصّص، ولابدّ من حساب ذلك بالتدقيق العقلي، ولا يرتبط ذلك باستظهار من نفس دليل العامّ. وعليه نقول: إنّ العنوان المأخوذ في المخصّص كان هو عدم الإقدام لولا (لا ضرر) فيبقى تحت العامّ نقيض ذلك وهو الإقدام لولا (لا ضرر)، وهذا مساوق لقولنا: (الإقدام لو وجب الغسل) فإنّ قولنا: (لولا لا ضرر) يساوق قولنا: (لو وجب الغسل)؛ إذ لو لم يجر (لا ضرر) وجب الغسل لا محالة.

بقي الكلام في أنّه هل نستظهر من (لا ضرر) كون عدم الإقدام المأخوذ فيه بالنحو المذكور في الاحتمال الأوّل، أي: عدم الإقدام لولا لا ضرر، أو نستظهر منه كونه بالنحو المذكور في الاحتمال الثالث، أي: لو جرى لا ضرر لما ثبت إقدام؟

الصحيح: هو الأوّل، بيان ذلك: أنّ قيد عدم الإقدام اُخذ من قرينة متّصلة وهي