458

فقد تحصّل أنّ شيئاً من وجوه لزوم الفحص لا يتمّ في المقام إلّا الوجه الأوّل والسابع، وهما لا يقتضيان أكثر من الفحص الى درجة يقف المكلّف موقفاً يُحتمل عادة وصول التكليف إليه، هذا كلّه إذا بقينا نحن والأدلّة العامّة للبراءة الشرعيّة.

 

أخبار عدم وجوب الفحص

ولكن هناك روايات خاصّة صريحة في عدم وجوب الفحص حتّى بهذه المرتبة، فإمّا أن نعمل بها في خصوص موردها، وإمّا أن نتعدّى منها الى غير موردها ـ أيضاً ـ في سائر الشبهات الموضوعيّة حسب ذوق الفقيه:

منها: صحيحة زرارة الثانية في باب الاستصحاب: «فهل عليّ إن شككت في أنّه أصابه شيء أن أنظر فيه؟ فقال: لا، ولكنّك إنّما تريد أن تذهب الشكّ الذي وقع في نفسك»(1).

فهذه تدلّ على الإعفاء حتّى لهذه المرتبة من الفحص، وهي النظر، وهذا من أوضح مصاديق غمض العين والتهرّب من وصول التكليف.

ومنها: ما ورد ـ أيضاً ـ في باب الطهارة والنجاسة عن أمير المؤمنين (عليه السلام)يقول: «ما اُبالي أبول أصابني أو ماء إذا لم أعلم»(2) فقوله: (ما اُبالي) واضح عرفاً في أنّه لا يتصدّى لأيّ مرتبة من مراتب الفحص.

ومنها: رواية عبد اللّه بن سليمان في الجبن قال: «كلّ شيء لك حلال حتّى يجيئك شاهدان يشهدان أنّ فيه ميتة»(3).

فهذه العبارة لا يبعد ـ أيضاً ـ أن يكون لها ظهور في أنّه إن جاءك شاهدان وأنت في مكانك بلا حاجة الى أن تفحص أنت، فحينئذ يحكم بالحرمة والنجاسة، وما لم يصل إليك الواقع لم يكن عليك شيء في ترك الاجتناب، إلّا أنّ هذا ـ أيضاً ـ وارد في خصوص الميتة، فلا يشمل المائع المشكوك خمريّته مثلاً.

إذن فعلى أساس هذه الروايات نفتي بعدم وجوب الفحص في الشبهات


(1) الوسائل: ج 2، ب 37 من النجاسات، ح 1، ص 1053 بحسب الطبعة المشتملة على عشرين جزءاً.

(2) الوسائل: ج 2، ب 37 من النجاسات، ح 5، ص 1054 بحسب الطبعة السابقة.

(3) الوسائل: ج 17، ب 61 من الأطعمة المباحة، ح 2، ص 91 بحسب الطبعة السابقة.

459

الموضوعيّة لباب الطهارة والنجاسة كليّة ولو بإلغاء الخصوصيّة.

ومن الصعب تجريد آخر بحيث تُلغى خصوصيّة الطهارة والنجاسة أيضاً، وتعمّم الى تمام الشبهات الموضوعيّة.

هذا تمام الكلام في أصل لزوم الفحص في إجراء البراءة.

 

460

 

تنبيهات

 

مقدار الفحص

التنبيه الأوّل: في مقدار الفحص، ونقصد به هنا أمرين:

أحدهما: مقدار الفحص من حيث السند والنقل، فإنّه قد يتخيّل ـ على ضوء ما سبق منّا من أنّ العقلاء يفحصون عن المقام الذي يصل إليه حكم المولى عادة فلو كانت الحكومة من عادتها أنّها تنشر ما تريد من قوانين في صحيفة رسميّة يراجعون تلك الصحيفة في سبيل الفحص عن تلك القوانين ـ أنّه إنّما يجب الفحص عن الأخبار في الكتب المتعارف وجودُ ما نحتاج إليها من الأخبار كالوسائل والكتب الأربعة ونحو ذلك، فلو احتمل وجود خبر مؤثّر في الحكم في كتاب في التاريخ، أو اللغة مثلاً لم يجب الفحص عنه؛ لأنّه ليس مقاماً يصل إليه الحكم، ولكنّ الصحيح: أنّه إذا احتمل عقلائيّاً وجود خبر من هذا القبيل في غير الكُتُب المتعارف كَتْب الأخبار فيها وجب أيضاً، كما سوف نشرح إن شاء اللّه.

وثانيهما: في مقدار الفحص من حيث الدلالة، فإنّه قد يتخيّل لزوم الفحص الكامل حتّى بالرجوع الى الأعلم مثلاً لو احتمل أنّ الأعلم التفت الى نكتة تثبت التكليف لم يلتفت هو إليها؛ لعدم الفرق بين الرجوع إليه والرجوع الى الكُتُب مثلاً، ولكن الصحيح عدم وجوب ذلك.

ولندرس هاتين النقطتين، أي: مقدار الفحص في السند، ومقداره في الدلالة على ضوء ما مضى من الوجوه التسعة للفحص فنقول:

الوجه الأوّل: كان عبارة عن تحكيم الارتكاز العقلائي في دليل البراءة الحاكم في الشبهات الحكميّة بلزوم الفحص عن المقام الذي يوصل إليه الحكم، فقد يتخيّل ـ كما عرفت الآن ـ أنّ هذا إنّما يقتضي في المقام الفحص عن الكتب المتعارف وضع أخبار الأحكام فيها من قبيل الوسائل والكتب الأربعة، كما أنّه في القوانين الحكوميّة إذا كان من عادة الحكومة نشر قوانينها في صحيفة رسميّة فالفحص اللازم عنها عبارة عن الفحص في تلك الصحيفة.

ولكنّ الصحيح: أنّ هنا فرقاً كبيراً بين باب الأخبار الموجودة في الكتب

461

المتعارفة والصحيفة في المثال الذي افترضناه، وهو أنّ المفروض في هذا المثال إنّما هو استقرار عادة نفس الحكومة على وضع قوانينها في تلك الصحيفة، وأمّا في المقام فليس عادة وضع الأخبار في الوسائل والكتب الأربعة ونحوها عادة للمولى في مقام تبليغ الأحكام، وإنّما بيّن المولى في توضيح كيفية تبليغه للأحكام أنّ خبر الثقة جعلته حجّة عليكم، وإنّما هذه العادة عادة مربوطة بتآليف المؤلّفين والرواة والعلماء، ولم يذكر الشارع في يوم من الأيام أنّه إذا أردتم الاطلاع على القوانين فارجعوا إلى كتاب الكافي والاستبصار ومن لا يحضره الفقيه، وإنّما قال: «لا ينبغي التشكيك فيما يرويه عنّا ثقاتنا». إذن فلابدّ من الفحص عن كل خبر ثقة ولو فرض وجوده في كتاب لغة أو تأريخ مثلاً؛ لأنّ المقام الذي يكون في معرض أن يصل إليه خطاب المولى لا يكون محدّداً بخصوص كتاب الوسائل ونحوه، وإنّما يكون منتشراً في تمام ما يصلنا ممّا يمكن أن يكتب فيه كلام النبي (صلى الله عليه وآله) أو الأئمة (عليهم السلام)، فمن الناحية السنديّة لا بدّ من الفحص حتّى يحصل الاطمئنان بالعدم.

نعم، على الأغلب يحصل الاطمئنان بالعدم بمجرّد عدم وجدان رواية في الكتب المعدّة من قبل علمائنا لذلك؛ لأنّ احتمال الغفلة فيهم مع تمام حرصهم على الاستيعاب وتتابع أعمالهم جيلاً بعد جيل بعيد جداً.

وأمّا لو فرض في مورد أنّه لم يكن هناك اطمئنان بالعدم لنكتة، كما لو فرض أنّنا رأينا فقيهاً يفتي على خلاف ذلك مدّعياً وجود رواية في كتاب لغة، فعندئذ لا يجوز لنا أ ن نغمض عيننا عن ذلك الكتاب ولا نراجعه.

والغالب حصول الاطمئنان بالعدم مع مراجعة الأبواب المعدّة للمسألة فضلاً عن مراجعة تمام الكتاب.

وقد نبّه المحقّق النائيني(رحمه الله)(1) الى نكتة مفيدة في المقام: وهي أنّ كتاب الوسائل مرتّب حسب ترتيب كتاب الشرائع، فرواياته مطابقة لتفريعات المحقّق (قدس سره)في الشرائع، وعلى هذا فالفرع الموجود في الشرائع يتعرّض له في الوسائل لو كانت هناك رواية في ذلك، فلو لم تكن هناك رواية فيه في بابه المناسب يحصل الاطمئنان بعدم وجود رواية فيه، وأمّا الفرع الذي لا يوجد في الشرائع فعدم وجود رواية فيه في بابه المناسب أحياناً قد لا يوجب الاطمئنان بالعدم.


(1) راجع أجود التقريرات: ج 2، ص 341.

462

وعلى أيّ حال، فمن الناحية الكبرويّة لا بدّ من الفحص في تمام المقامات؛ لأنّه ليست هناك عادة منتزعة عن عمل نفس المولى حتّى يقتصر على تلك العادة.

هذا كلّه من ناحية السند.

وأمّا من ناحية الدلالة، فلابدّ من الفحص في المقام بمقدار الخبرة الذاتيّة للمجتهد الخبير، ولابدّ له من أن يُعمِل قدرته في فهم المعنى من اللفظ بالنحو المتعارف بين الخبراء بالنسبة لتلك المادة، وقد يَدخُلُ في هذا المتعارف ـ أحياناً ـ الاستفادة من الخبرات السابقة أيضاً؛ لأنّ الخبراء في كلّ علم قد يستفيدون من الخبرات السابقة إذا انقدح في ذهنهم احتمال أن يكون الخبراء السابقون قد تنبّهوا الى مطلب يخفى عليهم لولا هذا الفحص، فهذا المقدار الاعتيادي الذي يعمله كل خبير في مقام التوصّل الى الحقيقة في مجال خبرته لا بدّ منه في المقام، وأمّا الزائد على هذا المقدار بحيث يُنفى احتمال أن يكون الأشخاص الآخرون استفادوا من الاُصول الموضوعيّة ـ المشتركة بينه وبينهم ـ نكتة لم يستفدها هو منها، فهذا غير لازم؛ لأنّ مثل هذا الارتكاز غير موجود عند العقلاء، فيُرجع الى إطلاق دليل البراءة؛ لأنّ تقييد إطلاقه إنّما كان باعتبار ارتكاز لزوم الفحص في الأذهان العقلائيّة، فيقدّر التقييد بقدره، فيجوز لهذا المجتهد ـ الذي يحتمل أن يكون هناك مجتهد أبصر منه قد التفت إلى نكتة لم يلتفت هو إليها ـ أن يجري البراءة إذا فحص وأعمل قدرته بالمقدار المتعارف في كل باب من أبواب الخبرات البشريّة. هذا هو مقتضى الوجه الأوّل، وقد تبيّن أن مقتضاه هو توسعة دائرة الفحص من ناحية السند، وتضييقها من ناحية الدلالة بالمقدار الذي بيّناه.

الوجه الثاني: إيقاع المعارضة بين إطلاق دليل البراءة وقوله تعالى: ﴿حتّى يُبَيّن لهم ...

فمن حيث السند نقول: إنّه لو وجدت رواية في كتاب اللغة مثلاً صَدَقَ عنوان البيان.

ومن حيث الدلالة نقول: إنّه إذا احتمل المجتهد أنّه لو راجع الأعلم فقد يبيّن له بياناً فنّيّاً بحيث يفهم معنىً جديداً من الرواية، لا يصدق عنوان البيان لهذا المجتهد؛ لأنّه قد فحص بالمقدار الذي يكلّفه الارتكاز العقلائي ولم يصل إليه الحكم، فلا يصدق أنّه قد بيّن له المولى، فنتيجة هذا الوجه هي نتيجة الوجه الأوّل تماماً.

463

الوجه الثالث: احتمال القرينة المتّصلة، فمن ناحية السند لا بأس بدعوى: أنّه لا يفرّق فيه بين أن تكون الرواية قد غفل عنها صاحب الوسائل مثلاً أو لا، فمجرّد أنّ الشخص الذي جمع الروايات غفل عن رواية مّا لا يخرجها عن شدّة اهتمام الشارع في المقام.

وأمّا من ناحية الدلالة فظهور حال النبي (صلى الله عليه وآله) إنّما اقتضى الاهتمام بالوصول الى الأحكام بالمقدار المتعارف بين العقلاء، واحتمالُ ظهور حاله في الاهتمام أكثر من ذلك بحيث لا بدّ من الفحص حتّى بمثل الرجوع الى الأعلم عند احتمال التفاته الى نكتة غفل غير الأعلم عنها غيرُ موجود وجوداً عقلائيّاً معتدّاً به، وليس مبنى الخبراء في كلّ فنّ على الوصول بهذا النحو، فمثل هذا لو كان مورداً لاهتمام الشارع فهو مورد لاهتمام واقعي غير مبرز بظهور حال بحيث يوجب إجمالاً في إطلاق دليل البراءة، فالنتيجة ـ أيضاً ـ هي النتيجة في الوجهين السابقين.

الوجه الرابع: حكم العقل، وقد قلنا: إنّ حكم العقل بما هو حكم العقل لا معنى له، وإذا حوّلناه إلى العقلاء رجع إلى الوجه الأوّل. وقد تقدّم الكلام فيه.

الوجه الخامس: هو دعوى أن احتمال وجود خبر الثقة يكون احتمالاً للحجّة المانعة عن البراءة، فالتمسّك بإطلاقها تمسّك بالعام في الشبهة المصداقيّة، وهذا الوجه إن تمّ يأتي في جانب السند، ولا يأتي في جانب الدلالة، فإنّ القدر المتيقّن من دليل حجّيّة الظهور هو الظهور الذي يكون في معرض الوصول بحسب الطريقة الاعتيادية، كما أنّ دليل حجيّة خبر الثقة ـ أيضاً ـ المتيقّن منه هو حجيّة خبر الثقة الذي يكون في معرض الوصول، فإذا احتمل ـ عقلائيّاً ـ وجود خبر في كتاب اللغة مثلاً كان ذلك على تقدير وجوده في معرض الوصول ويكون حجّة، وإذا احتمل ظهور غير واصل إليه إلّا بمراجعة الأفضل فهذا الظهور ليس بحسب عادة وصول الظهورات الى أهل الخبرة في معرض الوصول إليه؛ لما عرفت من أنّ الارتكاز العقلائي يقتصر على الفحص بأقلّ من هذا المقدار، فلا يشمله دليل الحجّيّة ليكون الشكّ فيه شكّاً في الشبهة المصداقيّة، فالنتيجة هي النتيجة أيضاً.

الوجه السادس: العلم الإجمالي بوجود تكاليف واقعيّة او حجج ظاهريّة.

وهذا الوجه بالنسبة للدلالة لا يقتضي الفحص بالرجوع الى الأعلم بعد تكميل الفحص من سائر النواحي، فإنّه يجري بعد تكميل الفحص من سائر النواحي تمام الوجوه التي سبقت لبيان جواز إجراء البراءة بعد الفحص من انحلال العلم الكبير، أو

464

عدم وجود مقتض لجريان البراءة قبل ذلك أو غير ذلك.

وأمّا بالنسبة للسند فلا بدّ أن ينظر الى الموارد التي يحتمل فيها وجود رواية غير موجودة في الكتب المتعارفة؛ ليرى أنّه هل يتشكّل العلم الإجمالي بدونها، ولا يمكن تشكيل علم إجمالي آخر بضمّ غيرها إليها أو لا؟ فعلى الأوّل لا يجرى فيها هذا الوجه من وجوه الفحص، وعلى الثاني يجري.

الوجه السابع: الدلالة الالتزاميّة لدليل الحجّيّة(1) . وهذه الدلالة الالتزاميّة مبنيّة على الارتكاز، فحيث إنّنا عرفنا حكم الارتكاز في الوجه الأوّل عرفنا مقدار هذه الدلالة الالتزاميّة.

الوجه الثامن: أخبار وجوب التعلّم، وهذا الوجه من حيث السند يفي بوجوب التعلّم والاستقصاء، وأمّا من حيث الدلالة فهذه الأخبار منصرفة الى السؤال والتعلّم بالنحو المتعارف في مقام السؤال والتعلّم، وبكلمة اُخرى: لو أنّ خبيراً سأل وفحص وتأمّل بالنحو المتعارف من دون الرجوع إلى الأعلم لمجرّد احتمال التفاته الى نكتة هو لم يلتفت إليها، صدق عليه أنّه تعلّم وسأل، فالمصداق العرفي للواجب يكون محقّقاً، فالنتيجة هي النتيجة أيضاً.

الوجه التاسع: أخبار التوقّف، وقد عرفت عدم تماميّة الاستدلال بتلك الأخبار على الاحتياط رأساً.

وقد تحصّل: أنّه من حيث السند لا بدّ من الاستقصاء الى درجة يحصل الاطمئنان بالعدم، وأمّا من حيث الدلالة فلا بدّ من صرف وسعه الذاتي بلا حاجة الى الرجوع الى الأعلم، إلّا أنّ هذا إنّما يكون إذا لم يتولّد لدى هذا المجتهد المفضول علم إجمالي بأنّه لو راجع الأعلم من أوّل كتاب الطهارة الى آخر الديّات لغيّر فتواه عادةً في جملة من تلك المسائل، فإذا حصل عند هذا المفضول هذا العلم الإجمالي في المقام وكان هذا العلم الإجمالي مستجمعاً لشرائط التنجيز، فعندئذ لا تجري البراءة، لعدم جريانها في أطراف العلم الإجمالي.

 

وجوب الفحص في الاُصول الاُخرى

التنبيه الثاني: كما لا تجري البراءة في الشبهات الحكميّة قبل الفحص كذلك


(1) ودليل الحكم الواقعي.

465

الحال في سائر الاُصول الاُخرى كأصالة التخيير في موارد دوران الأمر بين المحذورين، وأصالة الطهارة في الشبهات الحكميّة، والاستصحاب النافي للتكليف في الشبهات الحكميّة:

أمّا أصالة التخيير فلأنّها أصل عقلي محض يرجع فيه الى حكم العقل، والعقل يستقلّ بالتخيير في موارد دوران الأمر بين المحذورين بملاك العجز وعدم القدرة، فإنّ الامتثال القطعي مستحيل التحقّق، والامتثال الاحتمالي مستحيل الانتفاء، وقبل الفحص يحتمل القدرة، وذلك بأن يفحص فيتعيّن التكليف فيعمل به، واحتمال القدرة منجّز، واحتمال العجز ليس مؤمّناً.

ونفس هذا البيان يأتي ـ أيضاً ـ في موارد دوران الأمر بين المحذورين في الشبهة الموضوعيّة، فلا يقاس مورد دوران الأمر في الشبهة الموضوعيّة بين المحذورين بمورد الشكّ البدوي في الشبهة الموضوعيّة، ولو سلّمنا جريان البراءة في الشبهة الموضوعيّة قبل الفحص، فإنّ العلم الإجمالي من حيث كونه بياناً وانكشافاً تام لا قصور فيه، وإنّما القصور فقط في قدرة المكلّف، والشكّ في القدرة مورد للاشتغال والاحتياط، فلا بدّ من الفحص(1).

وأمّا أصالة الطهارة والاستصحاب النافي في الشبهات الحكميّة فنحسب حسابهما على ضوء الوجوه التسعة الماضية لوجوب الفحص؛ لنرى أنّ أيّاً منها، يأتي هنا وأيّاً منها لا يأتي، فنقول:

الوجه الأوّل: دعوى تقييد إطلاق دليل البراءة بالارتكاز، وهذا الوجه لا يجري في المقام؛ لأنّ هذا الوجه موقوف على أن يجيء الدليل متضمّناً لكبرى لها مماثل مركوز في الأذهان العقلائيّة، فينعقد لهذا الدليل ظهور ثانوي سياقي بحسب الفهم العرفي في أنّه إمضائي لا تأسيسي، فيتبع الممضى سعة وضيقاً، وهذا المطلب إنّما يتمّ في البراءة لوجود البراءة العقلائيّة، وأمّا أصالة الطهارة والاستصحاب فليسا


(1) لا يخفى: أنّ الشكّ في القدرة هنا ليس شكّاً في القدرة على موافقة الحكم الواقعي حتّى يدّعى أنّه يؤدّي الى الشكّ في التكليف، وبالتالي يؤدي إلى البراءة؛ لأنّ القدرة دخيلة في التكليف، أو يُدّعى أنّ احتمال دخل القدرة في الملاك وفي المحبوبيّة يؤدّي بنا الى إجراء البراءة؛ لأنّنا لم نحرز لا التكليف ولا الملاك ولا المحبوبيّة، وإنّما هو شكّ في القدرة على الموافقة القطعيّة بعد القطع بثبوت الواقع للقدرة عليه، ومن المعلوم استقلال العقل في ذلك بالاحتياط بعد فرض عدم الاُصول المؤمّنة الاُخرى.

466

أصلين مركوزين في نظر العقلاء حتّى يُصرف إليهما الدليل اللفظي الدالّ عليهما؛ ولذا لا نقبل الاستدلال على الاستصحاب بالسيرة العقلائيّة.

فإن قلت بالنسبة لخصوص أصالة الطهارة: إنّ مرجعها بحسب الحقيقة الى البراءة والإعفاء عن آثار النجاسة، فهي شعبة من شعب أصالة البراءة، فالارتكاز المحكّم في الأصل يحكّم في هذه الشعبة أيضاً.

قلت: ليس الأمر كذلك، فإنّ أصالة الطهارة ليست مخصوصة بخصوص موارد البراءة العقلائيّة من قبيل التأمين عن حرمة شرب الماء المحتمل النجاسة، ولا يقوم دليل أصالة الطهارة فقط بوظيفة البراءة وإنّما يقوم ـ أيضاً ـ بوظائف اُخرى مهمة لا تقوم بها البراءة، بل لولا أصالة الطهارة لكان الجاري عند العقلاء والعقل أصالة الاشتغال، فمثلاً: دليل أصالة الطهارة يحرز وجود الشرط للواجب في الموارد التي يعلم بتعلّق التكليف فيها بالوضوء بالماء الطاهر، مع أنّ الأصل العقلي والعقلائي عند الشكّ في ذلك هو الاشتغال؛ لأنّ الشغل اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني(1).

الوجه الثاني: إيقاع المعارضة بين إطلاق دليل البراءة وإطلاق قوله تعالى: ﴿حتّى يبيّن لهم ما يتقون وهذا الوجه كما ترى يأتي هنا أيضاً، فلو وجدت رواية في كتاب الوسائل تدلّ على النجاسة، أو على خلاف الحالة السابقة كان هذا بياناً ودخل في الآية الشريفة.

الوجه الثالث: احتمال القرينة المتّصلة بلحاظ شدّة اهتمام الشارع بإيصال التكليف، وإفناء الشكّ في التكليف في الشبهات الحكميّة، وهذا الوجه كما ترى لا يفرق فيه بين البراءة وأصالة الطهارة والاستصحاب النافي للتكليف.

الوجه الرابع: حكم العقل، وقد قلنا: إنّه يرجع الى حكم العقلاء فيرجع الى الوجه الأوّل. وقد تقدّم الكلام فيه.

الوجه الخامس: دعوى أنّه قبل الفحص نحتمل وجود حجّة على التكليف الإلزامي أو على النجاسة، فيكون التمسّك بالعموم تمسّكاً به في الشبهة المصداقيّة.


(1) لعلّ المقصود بهذا الكلام تنبيه الوجدان على أنّ مضمون أصالة الطهارة من حيث اللّسان يختلف عن مضمون أصالة البراءة وإن اشتركا في التأمين، فأصالة البراءة تثبت التأمين بلسان التأمين مباشرة، ولكنّ أصالة الطهارة تثبت التأمين بلسان إثبات الطهارة، فلا تحمل عرفاً على حدود البراءة العقلائيّة، بل تبقى شاملة لموارد الافتراق.

467

وهذا الوجه ـ أيضاً ـ يأتي هنا إن تمّ هناك، وكما أنّه يحتاج هناك الى التتميم بالعلم الإجمالي كذلك هنا أيضاً، إذ لولاه لجرى استصحاب عدم مجيء الحجّة، وتنقّح بذلك موضوع دليل أصالة الطهارة أو الاستصحاب. فهذا الوجه يرجع الى الوجه السادس.

الوجه السادس: العلم الإجمالي بوجود تكاليف، وهذا العلم الإجمالي كما يمنع عن جريان أصالة البراءة قبل الفحص كذلك يمنع عن جريان الاستصحاب قبل الفحص، وأمّا منعه عن جريان أصالة الطهارة قبل الفحص فقد أثرنا هناك إشكالاً حوله (وهو الإشكال الثالث من إشكالات الاستدلال بالعلم الإجمالي على وجوب الفحص) وهو: أنّ العلم الإجمالي لا يمنع عن جريان أصالة الطهارة على مسلك مشهور. وتوضيحه هناك فراجع.

الوجه السابع: الدلالة الالتزاميّة لدليل الحجّيّة(1)، وهذا لا يفرّق فيه بين البراءة وأصالة الطهارة والاستصحاب.

الوجه الثامن والتاسع: أخبار وجوب التعلّم والتوقّف، وكلا هذين الوجهين يجريان في أصالة الطهارة بلا إشكال؛ لأنّ مقتضى إطلاقات هذه الأخبار عدم جواز البناء على الطهارة ظاهراً.

نعم، قد يقال: إنّ النسبة بينهما وبين دليل أصالة الطهارة هي: العموم من وجه، بخلاف دليل البراءة، فإن دليل وجوب التعلّم والتوقّف وردا في مورد البراءة، لكنّه لم يردا في خصوص موارد أصالة الطهارة، فتكون النسبة بينهما وبين دليل أصالة الطهارة هي: العموم من وجه بأن يقال مثلاً: إنّ دليل أصالة الطهارة يقتضي عدم التوقّف وعدم وجوب التعلّم حتّى قبل الفحص بمقتضى إطلاقه، ودليل وجوب التعلّم والتوقّف يقتضي الفحص حتّى في الشبهات غير المربوطة بالطهارة، فتكون النسبة بينهما هي العموم من وجه.

إلّا أنّ هذا المطلب لا ينفع في مقام عدم تقديم دليل وجوب التوقّف والتعلّم على دليل أصالة الطهارة، فإنّنا إن لم ندّع أنّ له نظراً الى تمام المؤمّنات الشرعيّة ولساناً يقتضي أنّ الشكّ قبل الفحص ليس مؤمّناً بوجه من الوجوه، فلا أقلّ من أن يدّعى أنّه بحسب الجمع العرفي أقوى من إطلاق دليل أصالة الطهارة، وأنّ تخصيصه


(1) أو للواقع.

468

أبعد من تخصيص دليل أصالة الطهارة. وكأنّ ذلك آب عن التخصيص بحسب النظر العرفي، بخلاف دليل أصالة الطهارة. على أنّه لو سلّم التعارض والتساقط فالنتيجة ـ أيضاً ـ عدم جريان أصالة الطهارة قبل الفحص.

فتحصّل: أنّ أصالة الطهارة في الشبهة الحكميّة لا تجري قبل الفحص بلحاظ هذا الوجه.

وأمّا الاستصحاب فقد يتوهّم أنّ دليله رافع لموضوع تلك الأخبار؛ لأنّ موضوعها هو الشبهة والشكّ، ودليل الاستصحاب يجعل المكلّف عالماً ويخرجه عن كونه شاكّاً.

إلّا أنّ هذا الكلام غير صحيح؛ وذلك أمّا في أخبار التوقّف فلأنّها بنفسها تدلّ على نفي الطريقيّة وجعل العلم، فإنّ معنى وجوب التوقّف هو: النهي عن البناء على أحد طرفي الشكّ، فهي معارضة لدليل الاستصحاب لا محكومة له، ولذا ذكرنا في بحث البراءة أنّ دليل الاستصحاب يقع طرفاً للمعارضة مع أخبار التوقّف لو تمّت، لا أنّه يكون حاكماً عليها.

وكذلك الحال بالنسبة لأخبار وجوب التعلّم، فإنّ عنوان التعلّم لا يصدق بالاكتفاء بالاستصحاب، وظاهر أخبار وجوب التعلّم هو: لزوم السؤال والفحص عن الحكم الواقعي للوصول إليه، والاستصحاب لا يكون إلّا أصلاً عمليّاً، والعلم التعبّدي لا يصدق عليه أنّه تعلّم، وقد دلّت أخبار التعلّم على عدم جواز مخالفة التكاليف الناشئة من ناحية ترك التعلّم، فلو كان يصدق على الاستصحاب أنّه تعلّم لكان رافعاً لموضوع تلك الأخبار، ولكن ليس الأمر كذلك(1).

 

ما يعاقب عليه عند ترك الفحص

التنبيه الثالث: لا إشكال في استحقاق العقاب في الجملة لو ترك الفحص وتورّط في مخالفة الواقع، إلّا أنّه وقع الكلام في أنّ العقاب هل هو على الواقع، أو على الخطاب بالفحص، أو الاحتياط الذي خالفه؟ فقيل بالأوّل، وقيل بالثاني، وذكر


(1) هذا مضافاً الى ما في كتاب السيّد الهاشمي ـ حفظه اللّه ـ من أنّ تقديم الاستصحاب النافي يستلزم لغويّة أدلّة وجوب التعلّم والتشديدات ا لواردة فيها؛ لأنّ أكثر الشبهات الحكميّة تكون مورداً للاستصحاب النافي.

469

المحقّق النائيني (رحمه الله) على ما في تقرير بحثه(1): أنّ العقاب ليس على ترك الواقع في نفسه فإنّه في نفسه غير مبيّن، فيقبح العقاب عليه عقلاً، ومجرّد أنّ المولى حكم بوجوب الفحص أو الاحتياط تجاهه لا يجعل غير المبيّن مبيّناً وغير الواصل واصلاً، ولا على مخالفة الخطاب الآخر بما هو؛ لأنّه خطاب طريقي وليس خطاباً نفسيّاً، فإنّ الظهور العرفي في مثل الأوامر بالتعلّم، والسؤال، والاحتياط ونحو ذلك من العناوين التي يكون لها دخل في التوصّل الى امتثال تكليف آخر يقتضي كونها خطابات طريقيّة لا نفسيّة، وأنّها مأمور بها بالمعنى الحرفي لا المعنى الاسمي، والأمر بها بالمعنى الحرفي كاشف عن الملاك فيها بالمعنى الحرفي لا الاسمي، ومرجع ذلك الى التحفّظ على الملاكات الواقعيّة، فهذا الخطاب طريقي وليس نفسيّاً، والخطابات الطريقيّة لا عقاب على مخالفتها بما هي، وإنّما يستحقّ العقاب على المجموع المركّب منهما، أي: على ترك التعلّم والاحتياط بقيد أن يكون مؤدّياً الى تفويت الواقع، وهذا الترك الخاصّ بما هو منظور إليه بعين الخطاب الطريقي ترك للحكم الواصل، فلا يأتي إشكال قاعدة (قبح العقاب بلا بيان)، وبما هو منظور إليه بعين الخطاب النفسي يكون نفسيّاً، فلا يأتي عليه إشكال: أنّ الخطاب الطريقي لا يعاقب عليه.

أقول: يرد على هذا الكلام:

أوّلاً: أنّه إنّما ينسجم مع مبنى المحقّق الاصفهاني (قدس سره) القائل بجريان قاعدة (قبح العقاب بلا بيان) حتّى قبل الفحص، وأمّا على مبنى المشهور ومنهم المحقّق النائيني (رحمه الله) نفسه من عدم جريان قاعدة (قبح العقاب بلا بيان) قبل الفحص، فقوله: «إنّ العقاب على الواقع في نفسه غير صحيح؛ لعدم تماميّة البيان» لا مجال له، وكأنّه خَلَطَ بين الاحتياط في الشبهة بعد الفحص وما هو محل الكلام من الشبهة قبل الفحص.

وهذا الكلام إنّما يكون له مجال في فرض وجوب الاحتياط بعد الفحص، فعندئذ يقال مثلاً: إنّ العقاب ليس على الواقع بما هو لقبح العقاب عليه.

وأمّا قبل الفحص فهم يقولون بعدم جريان البراءة العقليّة إمّا بدعوى: أنّ نفس احتمال الواقع قبل الفحص يكون بياناً في نظر العقل ومنجِّزاً، وإمّا بدعوى: أنّ البيان


(1) راجع فوائد الاُصول: ج 4، ص 99، وأجود التقريرات: ج 2، ص 329 - 331.

470

المأخوذ عدمه فى قاعدة (قبح العقاب بلا بيان) ليس المراد منه خصوص البيان الواصل بالفعل، بل البيان الذي هو في معرض الوصول، وبما أنّ المفروض في المقام أنّ البيان في معرض الوصول موجود في محلّه فلا يقبح العقاب، فإذا بنينا على عدم جريان البراءة العقليّة قبل الفحص بأحد هذين البيانين المشهورين لا يبقى مجال لكلامه (قدس سره).

وثانياً: أنّنا لو سلّمنا أنّ البراءة العقليّة جارية حتّى في موارد الشكّ قبل الفحص قلنا مع ذلك: إنّ كلامه (قدس سره) غير صحيح على مبناه؛ وذلك لأنّه(قدس سره) في مسألة الشكّ قبل الفحص استدلّ على وجوب الاحتياط بالعلم الإجمالي بالتكاليف الواقعيّة، وأنكر انحلال هذا العلم الإجمالي، وذكر أنّ هذا العلم الإجمالي بوجود تكاليف في الجملة مدرجة في كتاب الوسائل ينجّز تمام التكاليف الموجودة في كتاب الوسائل، ولم يوافق (قدس سره)على انحلاله قبل تماميّة الفحص، فكيف يقول (رحمه الله) هنا بعدم تماميّة البيان ؟! ولو سلّمنا جريان قاعدة (قبح العقاب بلا بيان) في الشبهة البدويّة قبل الفحص، فلا نسلّم جريانها في موارد العلم الإجمالي.

أمّا لو تنزّلنا عن كلا هذين الإشكالين، وفرضنا عدم العلم الإجمالي، وعدم ورود إشكال عدم الفحص، فعندئذ يتمّ ما ذكره(قدس سره) من أنّ العقاب يكون على المجموع وعلى ترك مخصوص، وهذا هو الذي ينبغي أن يوجّه به العقاب في ترك الاحتياط بعد الفحص بناءً على ما يقوله الأخباري من وجوب الاحتياط.

وهذا الكلام قد يتراءى في بادىء الأمر أنّه لا محصّل له؛ لأنّه إذا استحال العقاب على مخالفة الخطاب الواقعي في نفسها، واستحال كذلك العقاب على مخالفة الخطاب الطريقي في نفسها، فضمّ ما لا يمكن العقاب عليه الى ما لا يمكن العقاب عليه كيف ينتج موضوعاً يمكن العقاب عليه؟!

إلّا أنّ الصحيح هو أنّ العقاب يكون على المجموع وعلى ترك مخصوص ببيان: أنّ قاعدة (قبح العقاب بلا بيان) موضوعها في نظر العقل (على تقدير تسليم القاعدة) إنّما هو الشكّ في التكليف مع الشكّ في اهتمام المولى به لدى الشكّ على فرض وجوده، فكما يرتفع موضوعها ببيان التكليف كذلك يرتفع موضوعها ببيان أهتمامه به على فرض وجوده، فلو أوجبَ الشارع الاحتياط كان ذلك بياناً لاهتمامه بالتكليف على فرض وجوده، وارتفع بذلك موضوع قاعدة (قبح العقاب بلا بيان) فيعاقب على مخالفة الواقع الذي دلّ الدليل على وجوب الاحتياط تجاهه.

471

وبكلمة اُخرى: أنّ الأمر بوجوب الاحتياط تكليف مولوي بلزوم الاحتياط، لكنّه من المحتمل بشأنه كونه غير متضمّن لغرض وملاك واقعي؛ وذلك بأن لا يكون مطابقاً للواقع، إلّا أنّ العقل يحكم بلزوم الامتثال والخروج عن العهدة عند الشكّ في الملاك، وهذا قانون عقلي لا مناص عنه، وبتطبيقه على محلّ الكلام نستنتج وجوب امتثال التكليف المولوي بوجوب الاحتياط، فإن لم يفعل وصادف مخالفة الواقع كان عاصياً، وإلّا كان متجرّياً، فيعاقب على التجرّي إن قلنا بعقاب المتجرّي، وإن لم نقل به كما لا يقول به المحقّق النائيني (رحمه الله) فالعقاب إنّما يكون في خصوص ترك الاحتياط المصادف للواقع. وأمّا دعوى أنّ ضمّ ما لا يعاقب عليه الى ما لا يعاقب عليه لا ينتج ما يعاقب عليه، فليست برهاناً من البراهين، فإنّ ضمّ ما لا يكون ملاكاً مستقلاً الى ما لا يكون ملاكاً مستقلاً قد ينتج ملاكاً مستقلاً.

ثمّ إنّنا لسنا بحاجة الى كل هذا؛ لأنّنا ننكر قاعدة (قبح العقاب بلا بيان) كليّة، وننكرها في خصوص موارد الشكّ قبل الفحص. ومن هنا نقول بأنّ العقاب يكون على مخالفة التكليف الواقعي.

متى يثبت العقاب؟

التنبيه الرابع: بعد البناء على أنّ العقاب على المخالفة قبل الفحص يكون على الواقع نتكلّم في أنّه هل يثبت العقاب على الواقع على تقدير وجود أمارة على طبقه بحيث لو فحص لظفر بها، أو أنّه يثبت العقاب عليه مطلقاً؟

ذكر المحقّق النائيني (رحمه الله)(1): أنّه إن كان الوجه في تنجيز الواقع ووجوب الفحص هو العلم الإجمالي، فالعقاب ثابت على الواقع مطلقاً؛ لأنّه قد تنجّز الواقع بنفس العلم الإجمالي المتعلّق به من دون توسيط للأمارة في تنجيزه، وأمّا إذا كان الوجه في ذلك هو الدليل الشرعي الدالّ على الحكم الطريقي الشرعي، وهو إيجاب الاحتياط والفحص شرعاً، فهذا ينجّز الواقع بتوسيط الأمارة؛ لأنّه دلّ الدليل على وجوب الفحص عن الأمارة والاحتياط بلحاظها، فالعقاب على الواقع إنّما يكون لو كان في الواقع أمارة على طبقه لو فحص لظفر بها، وإلّا لكان هذا الحكم الطريقي بلا روح.


(1) راجع أجود التقريرات: ج 2، ص 333، وفوائد الاُصول: ج 4، ص 101.

472

أقول: يمكن قلب المطلب تماماً بأن يدّعى أنّه إن كان الوجه في تنجيز الواقع هو العلم الإجمالي فالعقاب على الواقع إنّما يكون لو كانت هناك أمارة على طبقه، بدعوى: أنّ العلم الكبير منحلّ بالعلم الصغير في دائرة الأمارات. وإن كان الوجه في ذلك هو دليل الفحص ولزوم الاحتياط شرعاً فالعقاب على الواقع ثابت مطلقاً؛ لأنّ دليل الفحص ثابت سواءٌ كانت هناك أمارة في الواقع أم لا، وهذا على عكس ما أفاده المحقّق النائيني (قدس سره).

وتوضيح حقيقة الحال في المقام هو: أنّ تنجيز الواقع تارة يفرض كونه عن طريق العلم الإجمالي، واُخرى يفرض ثابتاً في نفسه من ناحية إنكار قاعدة (قبح العقاب بلا بيان) في المقام وإن فرض الشكّ بدويّاً، وثالثة يفرض من ناحية الحكم الطريقي الشرعي بوجوب الاحتياط والفحص:

أمّا على الفرض الأوّل فبناءً على مبنى المحقّق النائيني(قدس سره) يتعيّن إنكار العقاب على الواقع لو لم تكن أمارة على طبقه؛ وذلك لأنّ المفروض عنده أنّ العلم الإجمالي الكبير المتعلّق بالواقع قد انحلّ بالعلم الإجمالي الصغير المتعلّق بالواقع في دائرة الأمارات، وعليه فنقول: إنّ احتمال ثبوت الواقع في نفس الشخص التارك للفحص يكون بوجهين:

الأوّل: احتمال ثبوت ذات الواقع.

والثاني: احتمال ثبوت الواقع الذي دلّت عليه أمارة.

أمّا الاحتمال الأوّل فالمفروض عدم منجّزيّته؛ لانحلال العلم الإجمالي الكبير المتعلّق بذات الواقع بالعلم الإجمالي الصغير(1).

وأمّا الاحتمال الثاني فالمفروض عدم مطابقته للواقع، إذن فلا معنى للعقاب على الواقع. نعم، لا بأس بالقول بالعقاب بملاك التجرّي، لا العقاب على الواقع بناءً


(1) لا يخفى أنّ الانحلال إنّما يكون بعد الفحص والظفر بموارد الأمارات، أمّا قبله فالعلم الصغير لا يحلّ الكبير؛ لأنّ أطرافه منتشرة في كل أطراف الكبير، وبكلمة اُخرى: ليس أحد العلمين قبل الفحص أصغر من الآخر، وإنّما الفرق في المعلوم، فالمعلوم في العلم الثاني هو التكاليف الموجودة ضمن الأمارات، وفي العلم الأوّل هو ذات التكاليف، وإن شئت فعبّر عنهما بعلم واحد محدّد بحدّين: حدّ التكاليف الإلزاميّة، وحدّ دلالة الأمارات عليها وهو بحدّه الأوّل منجّز ولا يكون بحدّه الثاني منجّزاً إلّا بعد تسليم حجيّة أخبار الثقاة، ومن الواضح منجزيّة العلم في المقام حتّى على فرض إنكار حجيّة تلك الأخبار.

473

على القول بكون التجرّي موجباً لاستحقاق العقاب، وأمّا بناءً على ما هو مختار المحقّق النائيني (قدس سره) من إنكار استحقاق المتجرّي للعقاب، فلا يوجد هنا عقاب أصلاً.

وأمّا على الفرض الثاني، فإن أنكرنا قاعدة (قبح العقاب بلا بيان) كبرويّاً كما هو الصحيح، فمرجع ذلك الى الاعتراف بثبوت مولويّة المولى وحقّ الطاعة له حتّى في ظرف الشكّ، وهذا مساوق لثبوت حقّ العقاب للمولى عند مخالفة حكمه حتّى في ظرف الشكّ ما لم يأذن هو في المخالفة، وعليه فيثبت العقاب على الواقع وإن لم تكن أمارة على طبقه.

وإن آمنّا بالقاعدة كبرويّاً وأنكرنا صغراها في المقام بأن قلنا: إنّ البيان هنا ثابت. فإن اُريد بالبيان هنا نفس الشكّ قبل الفحص، فالعقاب ـ أيضاً ـ ثابت على الواقع مطلقاً؛ إذ مرجع ذلك الى أنّ حقّ المولويّة ـ وبالتالي حقّ العقاب عند المخالفة ـ يثبت بمجرّد ثبوت الاحتمال قبل الفحص. وإن اُريد به الأمارة التي هي في معرض الوصول ـ ومرجع ذلك الى أنّ عدم التمسّك قبل الفحص بقاعدة (قبح العقاب بلا بيان) ليس من باب الجزم بخروج المورد عن تحت تلك القاعدة، بل من باب كون المورد شبهة مصداقيّة للقاعدة ـ فالعقاب على الواقع ـ عندئذ ـ إنّما يكون لو وجدت الأمارة التي هي في معرض الوصول واقعاً، وإلّا فلا عقاب على الواقع؛ لثبوت قاعدة (قبح العقاب بلا بيان) واقعاً.

وأمّا عقاب التجرّي فهو ـ أيضاً ـ غير ثابت هنا لو أردنا بذلك عقاب التجرّي بالملاك الذي مضى منّا في بحث التجرّي، توضيح ذلك: أنّه مضى منّا في مبحث التجرّي أنّ عقاب التجرّي يكون بنفس ملاك عقاب المعصية، وذلك الملاك هو: عبارة عن مخالفة التكليف المنكشف بانكشاف منجِّز سواء كان ذلك التكليف ثابتاً في الواقع أو لا؛ لأنّ حقّ المولويّة عبارة عن عدم مخالفة ما انكشف من تكليف له ولو لم يكن ذلك التكليف موجوداً وكان الانكشاف خطأً، ونقول هنا: إنّ عقاب التجرّي بهذا النحو الذي عرفت غير ثابت هنا؛ إذ المفروض عدم ثبوت حقّ المولويّة عند عدم البيان، والبيان لم يكن ثابتاً في الواقع، فلم يكن للمولى حقّ الطاعة، فلا يكون له حقّ العقاب عند المخالفة.

نعم، المعترف بقاعدة (قبح العقاب بلا بيان) المدّعي كون البيان عبارة عن الأمارة التي هي في معرض الوصول والمفروض عدمها في المقام يكون في فسحة من ناحية دعوى ملاك آخر لعقاب التجرّي في المقام، فقد يدّعي ثبوت عقاب

474

التجرّي بملاك آخر بأحد نحوين:

الأوّل: أن يحكم عقله العملي بأنّ ارتكاب ما يحتمل كونه ظلماً للمولى ظلم له بدرجة أخفّ، أي: أنّ للمولى حقّ أن لا يُرتكب ما يحتمل كونه ظلماً له، والمفروض أنّ العبد كان يحتمل كون مخالفته للحكم المشكوك ظلماً للمولى، بأن تكون الأمارة على طبق الواقع ثابتة، فيكون البيان تاماً، فيكون حقّ المولويّة ثابتاً.

الثاني: أن يحكم عقله العملي بأنّ للمولى قبل الفحص حقّاً آخر على العبد غير حقّ الطاعة أخفّ منه وهو: حقّ الجامع بين الاحتياط والفحص، فعند ترك العبد لذلك يستحقّ العقاب.

وأمّا على الفرض الثالث فلو قلنا: إنّ وجوب الاحتياط والفحص ينجّز الواقع ابتداءً فالعقاب ثابت على الواقع مطلقاً. ولو قلنا: إنّه ينجّز الواقع بتوسيط الأمارة فالعقاب ثابت عليه على تقدير وجود الأمارة.

والصحيح: هو أنّ وجوب الاحتياط والفحص وإن كان حكماً ظاهريّاً في طول حجّيّة الأمارة، ولذا لا يجب الفحص عن الأمارة مع فرض القطع بعدمها أو عدم حجيّتها، إلّا أنّ الأحكام الظاهريّة كلّها تنجّز الواقع ابتداءً ولو فرضت طوليّة، والمقصود بكونها طوليّة هو: كون بعضها أحكاماً تعيّن وظيفة العبد على تقدير الشكّ في بعضها الآخر كما في المقام، باعتبار أنّ الشكّ في الأمارة أوجب الفحص والاحتياط.

ويظهر ما ذكرناه من كون الأحكام الظاهريّة ولو كانت طوليّة منجّزة للواقع ابتداءً بذكر مقدّمتين:

الاُولى: أنّ الأحكام الظاهريّة إنّما هي ناشئة من نفس ملاكات الأحكام الواقعيّة عند التزاحم في مقام الحفظ كما بيّنا ذلك مفصلاً في مبحث الجمع بين الأحكام الظاهريّة والواقعيّة.

والثانية: أنّ الأحكام الظاهريّة الطوليّة لا توجد طوليّة بين ملاكاتها، وهذا ما يظهر من المقدّمة الاُولى؛ لأنّه إذا كان المفروض أنّ ملاك الأحكام الظاهريّة دائماً هو ملاك الواقع إذن فلا معنى لفرض الطوليّة بين ملاكات الأحكام الظاهريّة، بل هي في عرض واحد من حيث الملاك، فإنّ ملاك الجميع إنّما هو ملاك الواقع.

فإن قلت: إذن فكيف جاءت الطوليّة بين تلك الأحكام؟!

قلت: الطوليّة إنّما هي بلحاظ أوعية التزاحم وظروفها، لا بلحاظ نفس

475

المتزاحم، فإنّه تارة يفرض الشكّ في الحكم الإلزامي مثلاً من ناحية احتمال كذب خبر الثقة، فهنا يقع التزاحم بلحاظ هذا الاحتمال بين ملاك الإلزام وملاك الترخيص، ونفرض أنّ المولى قدّم ملاك الإلزام بجعل حجيّة خبر الثقة. واُخرى يفرض الشكّ في الحكم الإلزامي بعد الفراغ عن حجيّة خبر الثقة مثلاً من ناحية اُخرى، وهي الشكّ في أصل وجود خبر الثقة، فهذا شكّ جديد وتزاحم جديد في وعاء جديد يحتاج الى حكم جديد، فيحكم بوجوب الاحتياط والفحص مثلاً أو بالبراءة، وقد يكون الحكم الظاهري في المرحلة الثانية مخالفاً له في المرحلة الاُولى، حيث إنّ الغرض الإلزامي بلحاظ الاحتمال الأوّل مثلاً كان يهتمّ به المولى، ولكنّه بلحاظ الاحتمال الثاني للخلاف لا يهتمّ به المولى، كما قد يكون الحكمان في المرحلتين متماثلين.

وعلى أيّ حال، فالأحكام الظاهريّة كلّها تنجّز الواقع ابتداءً؛ لكونها جميعاً ناظرة الى حفظ ملاكات الواقع والترجيح بينها عند التزاحم من دون طوليّة بين ملاكاتها، فوجوب الاحتياط والفحص في المقام نجّز ابتداءً الواقع بدون توسيط الأمارة، فالعقاب ثابت على الواقع مطلقاً.

وقد تحصّل من تمام ما ذكرناه: أنّ العقاب على مخالفة الواقع قبل الفحص ثابت سواءٌ كانت هناك أمارة على طبقه في معرض الوصول أو لا.

بعض التطبيقات لوجوب الفحص

التنبيه الخامس: أنّ ما ذكرناه من تنجّز الواقع قبل الفحص قد يطرأ عليه الخفاء في بعض الموارد:

المورد الأوّل: ما إذا كان المكلّف غافلاً رأساً في مورد من الموارد عن احتمال وجود التكليف فيه وإن كان ملتفتاً إجمالاً الى وجود أحكام إلزاميّة مربوطة به أو الى احتمال ذلك، فقد يتوهّم أنّه هنا لا معنى لتنجّز الواقع؛ لأنّ التنجّز فرع الوصول ولو بأدنى مراتب الوصول من الشكّ والاحتمال، وأمّا مع عدم الوصول حتّى بهذه الدرجة فلا معنى للتنجّز.

والتحقيق: أنّه إن تكلّمنا بلحاظ عالم الثبوت فمن الممكن عقلاً تنجّز الواقع على العبد في مثل هذا الفرض، فإنّه يكفي في تعقّل التنجّز عليه واستحقاقه للعقاب على الترك ذلك الالتفات الإجمالي.

وإن تكلّمنا بلحاظ عالم الإثبات فجميع أدلّة التنجيز الماضية ثابتة هنا، فلو

476

قيل مثلاً بأنّ المنجّزيّة تكون من ناحية العلم الإجمالي، فالعلم الإجمالي الملتفت إليه إجمالاً يكفي عقلاً في تنجيزه. ولو قيل بعدم جريان (قبح العقاب بلا بيان) قبل الفحص، فهنا ـ أيضاً ـ يحكم العقل بعدم قبح العقاب لما كان له من التفات إجمالي الى احتمال وجود أحكام إلزاميّة. ولو قيل بوجوب الفحص من ناحية أخبار وجوب التعلّم فنفس التفاته الإجمالي الى احتمال وجود تكاليف، أو القطع به كاف في دخوله تحت إطلاق دليل وجوب التعلّم حتّى بلحاظ ما هو غافل عنه بالفعل.

المورد الثاني: ما إذا كان الوقت وسيعاً فقد يقال: إنّ له أن يترك الفحص في أوّل الوقت، وإن فرض حصول الغفلة له في آخره لم يعاقب ـ عندئذ ـ على الترك؛ لأنّه في أخر الوقت كان غافلاً، وفي أوّل الوقت لم يكن يجب عليه الفحص والتعلّم لسعة الوقت، فعلى ماذا يعاقب؟! ومن هنا ذهب المحقّق الاصفهاني (قدس سره)(1) الى عدم العقاب في مثل هذا المورد.

لكنّ التحقيق هو: التفصيل بين ما إذا كان جازماً بأنّه سوف لا تحصل له الغفلة أو كان غافلاً عن ذلك، فهنا يجوز تأخير الفحص وما إذا كان محتملاً لطروّ الغفلة عند التأخير فضلاً عن الجزم به، فإنّه ـ عندئذ ـ يحكم العقل بلزوم الفحص، وإذا لم يفحص وآل الأمر الى ترك الواجب كان مستحقّاً للعقاب على الترك، ولم يكن شكّه في حصول الغفلة بتأخير التعلّم وعدمه مؤمِّنا له؛ لأنّ المؤمِّن إنّما هو الشكّ في أصل التكليف لا الشكّ في أنّه هل يلتفت بعد هذا فيفحص ويعمل أو لا.

المورد الثالث: ما إذا كان الواجب مؤقّتاً ولم يمكن الفحص والتعلّم في الوقت لضيق الوقت ونحوه، فأيضاً يمكن توهّم عدم وجوب التعلّم قبل الوقت؛ لأنّه قبل الوقت لم يحصل وجوب حتّى يترشّح ذلك الى التعلّم، وبعد الوقت لا يقدر على التعلّم فلا عقاب عليه.

وينبغي إخراج موردين عن محل البحث:

الأوّل: ما إذا كان يتمكّن في الوقت من الاحتياط، فهنا لا إشكال في عدم وجوب التعلّم قبل الوقت، فإذا لم يتعلّم يلزمه الاحتياط في الوقت.

والثاني: ما إذا لم يكن ترك التعلّم قبل الوقت مفوّتاً لأصل القدرة على الواجب في الوقت، وإنّما كان مفوِّتاً للامتثال القطعي له، كما إذا كانت أطراف العلم الإجمالي


(1) راجع نهاية الدراية: ج 2 بحسب الطبعة المقسّمة إلى ثلاثة أجزاء، ص 311.

477

كثيرة لا يسع الوقت لتمامها وهو قادر على الإتيان بأيّ واحد منها شاء، فهو قادر حتماً على الإتيان بالتكليف الواقعي وإن لم يقدر على تحصيل الامتثال القطعي، ففي هذا الفرض يكون التكليف ثابتاً وفعليّاً في ظرفه، وفي مثل ذلك يحكم العقل قبل الوقت بالإتيان بما يمكّنه من الموافقة القطعيّة لذلك التكليف الثابت الفعلي في ظرفه، كما يحكم العقل بلزوم الإتيان بما يمكّنه من الموافقة القطعيّة لتكليف فعلي في الحال.

إذن فالإشكال إنّما تكون له صورة فنّيّة فيما إذا كانت القدرة على الامتثال موقوفة على التعلّم قبل الفحص بحيث يكون ترك التعلّم رافعاً لموضوع التكليف الذي هو القدرة، فيقال ـ عندئذ ـ: إنّه لا محذور في ترك التعلّم؛ لأنّه لا يؤدّي بنا الى مخالفة التكليف، بل يرفع موضوع التكليف، وحفظ موضوع التكليف غير واجب عقلاً.

وهذا في الحقيقة داخل في بحث المقدّمات المفوّتة، وأجوبة الأصحاب عن ذلك كانت ترجع تارة الى المناقشة في الصغرى ببيان أنّ هذا ليس داخلاً في باب المقدّمة قبل الوقت، واُخرى إلى المناقشة في الكبرى ببيان أنّه لا مانع من وجوب المقدّمة قبل حلول وقت وجوب ذي المقدّمة.

أمّا القسم الأوّل من الجواب فهو ما قد يقال كما في الكفاية(1) من فرض إرجاع الأمر الى مثل الواجب المعلّق والمشروط، ففيما نحن فيه يقال: إنّ من بلغ سنّ التكليف لا يدري أنّ أيّ حكم من الأحكام سوف يصبح فعليّاً بشأنه في زمن قريب، وأيّ حكم سوف يفوته للجهل أو الغفلة مثلاً لو ترك التعلّم، فيجب عليه تعلّم الأحكام من أوّل أزمنة البلوغ هرباً من الوقوع في ورطة المخالفة الناشئة من ترك التعلّم، ويكون المبرّر لهذا الوجوب هو أنّ تمام الواجبات يكون وجوبها ثابتاً عليه من أوّل البلوغ، فترشّح الوجوب منها الى التعلّم.

وهذا الوجه قد يتكلّم فيه بلحاظ مرحلة الثبوت، واُخرى بلحاظ مرحلة الإثبات.

أمّا بلحاظ مرحلة الثبوت فالبحث في مثل هذه الصناعات من الواجب المعلّق والمشروط قد مضى في مبحث مقدّمات الواجب فلا نعيده هنا، وإنّما نتعرّض هنا لكلام المحقّق العراقي(قدس سره) مع جوابه؛ لاختصاصه بخصوص مثل ما نحن فيه من


(1) ج 2، ص 259 حسب الطبعة المشتملة على تعليقة المشكيني.

478

مسألة التعلّم وعدم تأتّيه في تمام المقدّمات المفوّتة، وذلك الكلام هو عبارة عن إشكاله على المحقّق الخراساني القائل باستحالة الترتّب، فقد أورد عليه المحقّق العراقي (رحمه الله)بأنّ لازم القول بوجوب الواجبات من أوّل البلوغ تبريراً لوجوب التعلّم هو الالتزام بالترتّب؛ لأنّ صوم شهر رمضان مثلاً واجب من أوّل البلوغ وقضاءه وتكفيره ـ أيضاً ـ واجب من أوّل البلوغ على تقدير تركه لصوم شهر رمضان، مع أنّ قضاءه وتكفيره يستحيل أن يجتمع مع صوم شهر رمضان؛ إذ مع الإتيان بالصوم لا يمكن قضاؤه وتكفيره، وهذا هو أمر بالضدين على وجه الترتّب(1).

أقول: إن كان المحقّق الخراساني (رحمه الله) يستظهر وجوب ذات الصوم بعد شهر رمضان وذات الإطعام لستّين مسكيناً مثلاً على من أفطر في شهر رمضان، فهذا ليس مضادّاً لصوم شهر رمضان. نعم، وقوع كليهما في الخارج متّصفاً بصفة الوجوب غير ممكن، لكنّ هذا ليس داخلاً في الأمر بالضدّين.

وإن كان يستظهر وجوب عنوان التدارك مثلاً، فعندئذ يقع التضادّ بين متعلّقي الحكمين، لكنّ المحقّق الخراساني (رحمه الله) لم يكن يقول بأنّ الأمر بالمهمّ يتنافى مع الأمر بالأهمّ من باب أنّ الأمر به أمر بإيجاد مقدّمة وجوبه، وهو ترك الأهمّ فيتنافيان، بل هو يصرّح بأنّ الأمر بالشيء لا يترشّح الى مقدّمة وجوبه، وإنّما يقول بأنّ الأمر بالضدّين تحريك نحو أمر غير مقدور، وأنّ الأمر بكلّ واحد من الضدّين تبعيد عن الضدّ الآخر، والأمر بذلك الضدّ الآخر تقريب نحوه، فيتنافيان. وهذا كما ترى إنّما يكون في مورد تقارن فاعليّة الحكمين ومحركيّتهما للمكلّف الى ذات العملين المتضادّين، لا فيما إذا كانت محرّكيّة الأمر بالمهمّ بعد سقوط الأمر بالأهمّ كما فيما نحن فيه، فإنّ باعثيّة الأمر بالقضاء لذات القضاء إنّما هي بعد مضيّ زمان صوم شهر رمضان. وكذلك باعثيّة الأمر بالكفّارة لفعل الكفّارة إنّما هي بعد تحقّق المعصية المكفّر عنها.

ثمّ إنّنا قلنا: إنّ كلام المحقّق العراقي (قدس سره) لا يأتي في تمام المقدّمات المفوّتة، وإنّما يكون مختصّاً بما يكون من قبيل ما نحن فيه؛ وذلك لأنّنا إذا تكلّمنا مثلاً في غسل المستحاضة قبل الفجر بناءً على كونه شرطاً في صحّة صومها، فليس من اللازم أن نلتزم بوجوب القضاء في زمان وجوب صوم شهر رمضان حتّى يأتي إشكال


(1) راجع المقالات: ج 2، ص 110.

479

الترتّب؛ إذ من الممكن الالتزام بوجوب القضاء بعد شهر رمضان قبيل الفجر بمقدار كاف للغسل. وإنّما يأتي هذا الكلام في مثل التعلّم مثلاً، حيث إنّه يفترض وجوب تعلّم أحكام القضاء من قبل شهر رمضان ومن أوّل البلوغ مثلاً، باعتبار أنّ تأخيره يؤدّي الى الغفلة والفوت ونحو ذلك.

وأمّا بلحاظ مرحلة الإثبات فبعد تسليم تلك الصناعات من الواجب المشروط والمعلّق يأتي إشكال إثباتي: وهو أنّ ظاهر أدلّة الأحكام كون وجوباتها مشروطة، وعدم تقدّم زمان الوجوب فيها على الزمان المخصوص للواجب، وإرجاع الشرط الى المادة مثلاً خلاف الظاهر. وهذا الإشكال لا يمكن دفعه إلّا بالتمسّك بإطلاق أخبار وجوب التعلّم بناءً على تماميّتها، بأن يقال: إنّنا نستكشف من إطلاق أخبار وجوب التعلّم لما يكون متوقّفاً على التعلّم قبل الوقت تحقّق الوجوب قبل الوقت لو انحصر الجواب بذلك.

والتمسّك بهذا الإطلاق لا يتمّ إلّا بتماميّة أمرين:

الأمر الأوّل: دعوى كون إطلاق دليل وجوب التعلّم شاملاً لكل ما هو واجب في نفسه بغض النظر عن توقّفه على التعلّم ولو فرض عدم وجوبه بالفعل لو ترك التعلّم لتوقّفه على التعلّم.

والأمر الثاني: دعوى كون إطلاق دليل التعلّم آبياً عن التخصيص، وأنّ مثل قوله: ﴿للّه الحجّة البالغة(1) ـ الظاهر في أنّ كلّ مخالفة تنشأ من ترك التعلّم يفحم العبد بها من قبل المولى، ويقال له: لِمَ لم تعمل؟ فيقول: لم أعلم، فيقال له: لِمَ لم تتعلّم؟ فتكون لله الحجّة البالغة ـ يأبى عن التقييد، وكيف تكون للّه الحجة البالغة مع فرض التقييد الموجب لكثرة وقوع المخالفة، والمفحم للمولى من قبل العبد عند مساءلته عنها بدلاً من إفحام العبد من قبل المولى؟!

وأمّا إذا قلنا بعدم إبائه عن التخصيص فيُخصّص بظهور دليل اشتراط الواجب بالشرط الذي لم يحصل بعد في كون الشرط راجعاً الى الهيئة لا المادّة، فإنّ هذا الظهور أقوى من ذاك الإطلاق في نفسه لو لم نقل بكونه باعتبار سياقه مثلاً إطلاقاً مستحكماً آبياً عن التقييد والتخصيص.

وأمّا القسم الثاني من الجواب: فهو أنّنا سلّمنا عدم كون الوجوب فعليّاً قبل


(1) سورة 6، الأنعام، آية 149.

480

زمان الواجب، ولكن يقال مع ذلك بلزوم الإتيان بالمقدّمات المفوّتة، وذلك بأحد وجهين: إمّا باعتبار أنّ الملاك فعليّ والذي يسقط بترك التعلّم هو الخطاب، وتفويت الملاك ولو مع فرض سقوط الخطاب بالعجز ـ أيضاً ـ قبيح، والعقل لا يفرّق في قبح تفويت الملاك بين كون المفوّت شيئاً في الوقت، أو شيئاً في خارج الوقت بأن يفوّت قبل الوقت ملاكاً سوف يصبح فعليّاً في وقته.

وإمّا باعتبار الالتزام بأنّ وجوب التعلّم وجوب نفسي تهيّوئي، وفي الحقيقة لا تقابل بين هذين الوجهين، فإنّ الوجوب النفسي التهيّوئي من نتائج افتراض إطلاق الملاك في الوجه الأوّل على تفصيل موكول الى محلّه من مبحث المقدّمات المفوّتة.

وهنا ـ أيضاً ـ تارة يقع الكلام في مقام الثبوت، واُخرى في مقام الإثبات.

أمّا مقام الثبوت لهذين الوجهين فيرجع الى مبحث المقدّمات المفوّتة. والمختار هناك تماميّة الوجهين.

وأمّا بحسب مقام الإثبات فلا يمكن استفادة إطلاق الملاك من دليل الواجب؛ لما مرّ غير مرّة، ويأتي توضيحه ـ إن شاء اللّه ـ في بحث التعادل والتراجيح من أنّه إذا سقط الخطاب بلحاظ المدلول المطابقي لا يمكن التمسّك بمدلوله الالتزامي، فحيث إنّ البعث والتحريك الذي هو مدلول مطابقي للخطاب ساقط عن العاجز يكون مدلوله الالتزامي وهو الملاك غير ثابت، فينحصر وجه إثبات إطلاق الملاك في التمسّك بإطلاق دليل التعلّم بناءً على شموله لكل ما هو واجب بغضّ النظر عن العجز من ناحية ترك التعلّم، أي: ولو كان وجوبه متوقّفاً على التعلّم، فمفاد دليل وجوب التعلّم هو أنّ كلّ تعلّم يؤدّي الى امتثال واجب، فهو لازم سواء صار واجباً في طول التعلّم، أم كان واجباً بغضّ النظر عن التعلّم.

المورد الرابع: ما يكون من قبيل التمام في مقام القصر، وكذلك مسألة الجهر والإخفات ممّا يكون عمل الجاهل فيه صحيحاً، فيكون هنا إشكال في وجوب التعلّم، وترتّب العقاب على المخالفة الناشئة من ترك التعلّم. وذلك الإشكال: هو أنّ المطلوب إن كان هو الجامع بين القصر والتمام مثلاً ولو في خصوص حال الجهل، فقد أتى المكلّف بما هو المطلوب، فلماذا يعاقب بعقاب العصيان؟! وإن كان المطلوب هو خصوص القصر فكيف يصحّ منه التمام؟!

والذي يظهر من الفقهاء (قدس سرهم): هو عدم البناء على هذا الإشكال، حيث جمعوا بين الإفتاء بالصحّة والإفتاء باستحقاق العقاب. والكلام في ذلك تارة يقع ثبوتاً في

481

إمكان تصوير صورة يجتمع فيها استحقاق العقاب مع الصحّة، واُخرى يقع إثباتاً في وجود الدليل على ذلك وعدمه بعد إثبات الإمكان. ونحن هنا نقتصر على البحث الثبوتي، وأمّا البحث الإثباتي فهو موكول الى مسألة الجهر والإخفات، وصلاة المسافر من كتاب الصلاة.

فنقول: قد ذكرت في مقام تصوير الجمع بين استحقاق العقاب مع صحّة العمل عدّة فرضيّات.

الفرضيّة الاُولى: ما في الكفاية من فرض تحليل مصلحة القصر الى أصل المصلحة وحدّها، فأصل المصلحة يكون في الجامع بين القصر والتمام، والدرجة الزائدة منها مختصّة بالقصر، والمقدار الزائد يكون بدرجة الإلزام، ويكون ذلك المقدار غير ممكن الاستيفاء بعد أن استوفى أصل المصلحة بالإتيان بالتمام، فالتمام منه صحيح؛ لاشتماله على أصل المصلحة، ولا يجب إعادة العمل لفرض عدم إمكان استيفاء الباقي، ومع ذلك يكون معاقباً؛ لأنّه هو الذي فوّت الباقي(1).

ثمّ أشكل على نفسه بأنّه يلزم من ذلك صحّة التمام حتّى في حال العلم، فدفع هذا الإشكال بإدخال فرضيّة جديدة في المقام: وهي أنّ أصل المصلحة إنّما هو في الجامع بين التمام في حال الجهل والقصر، لا الجامع بين القصر ومطلق التمام(2).

وقد اُوردت على هذا التصوير عدّة إشكالات:

الإشكال الأوّل: ما في الدراسات، وكأنّه موجود في أجود التقريرات بشكل مغمور، وهو عبارة عن مجرّد الاستبعاد، بدعوى: أنّ ما يتصوّر عقلائيّاً التضادّ بينها وعدم اجتماعها هي محصّلات الملاكات، وأمّا فرض التضادّ بين نفس الملاكات بحيث إذا استوفى العبد الملاك الأوّل لا يمكنه أن يستوفي الملاك الثاني، فهذا ممّا يستبعد عقلائيّاً، ويكون أشبه بأنياب الأغوال، ولم نَرَ مثل هذا الشيء في حياتنا الاعتياديّة(3).


(1) راجع الكفاية: ج 2، ص 261 حسب الطبعة المشتملة على تعليقة المشكيني.

(2) راجع الكفاية: ج 2، ص 262 حسب الطبعة المشتملة على تعليقة المشكيني.

(3) راجع الدراسات: ج 3، ص 315، والمصباح: ج 2، ص 507، وراجع ـ أيضاً ـ أجود التقريرات: ج 2، ص 335.

482

ويرد عليه: أوّلاً: أنّ هذا الأمر شايع يتفق كثيراً في حياتنا الاعتياديّة فلماذا نستبعده؟! فمثلاً: قد يكون هناك طعامان مشتركان في مصلحة الشبع، إلّا أنّ أحدهما مشتمل على لذّة تفوق لذّة الطعام الآخر، ولو شبع الشخص بالطعام الآخر غير اللذيذ لم يلتذّ ـ عندئذ ـ بأكل الطعام اللذيذ بذاك المستوى من الالتذاذ الفائق.

وثانياً: أنّنا نفرض التضادّ بين نفس المحصِّلين للملاك، بأن نقول: إنّ الواجب المحصِّل للملاك ليس هو مطلق القصر، بل القصر المقيّد بعدم مسبوقيّته بالتمام، وهذا يضادّ التمام المأتي به سابقاً. والقول بأنّه كيف يعقل تقييد صلاة القصر الواجب بعدم المسبوقيّة بالتمامّ يشبه القول بأنّه كيف يعقل تقييد صلاة العصر الواجب بالمسبوقيّة بالظهر مثلاً.

ومرجع هذين الإيرادين الى إيراد واحد وهو: أنّ الوجه في استغرابه للتضادّ بين الملاكات من دون التضادّ بين المحصِّلات هو: أنّه لم يُرَ مثل ذلك في مورد من الموارد، فأصبح ذلك في ذهنه بعيداً وغريباً، ونحن نقول: نعم، لا يوجد تضادّ بين الملاكات إلّا ويوجد تضادّ بين المحصِّلات، لكنّ التضادّ بين المحصِّلات قد يكون ذاتياً وقد يكون عرضيّاً ناشئاً من نفس التضادّ بين الملاكات الموجب لتقييد أحد المحصِّلين بعدم الآخر، فإن كان المقصود إنكار التضادّ بين الملاكات بمعنى: أنّ التضادّ دائماً يكون بين المحصّلات تضادّاً ذاتيّاً، ورد عليه الإشكال الأوّل وهو: أنّنا نرى في الخارج كثيراً أنّ التضادّ يكون بين نفس الملاكات، وإن كان المقصود أنّه لا بدّ من تضادّ بين المحصّلات ولو تضادّاً عرضيّاً بملاك تقييد أحدهما بعدم الآخر ناشئاً من التضادّ بين الملاكات، فهذا ثابت فيما نحن فيه، وهذا هو الإشكال الثاني(1).

 


(1) يمكن تصوير الجواب الثاني بنحو مستقلّ عن الجواب الأوّل، وذلك بأن يفترض التضادّ بين المحصّلين ذاتياً وغير ناشئ من التضادّ بين الملاكين، بأن يفترض أنّ الواجب المحصّل للملاك الزائد ليس هو مطلق القصر، بل القصر المقيّد بعدم مسبوقيّته بالتامّ، لا بنكتة التضادّ بين الملاك الذي يحصل بالتمام وملاك القصر، بل بنكتة: أنّ ذاك الملاك الزائد لم يكن موجوداً في نفسه، إلّا في القصر غير المسبوق بالتمام، من قبيل أنّ ملاك صلاة العصر مثلاً ليس موجوداً إلّا في صلاة العصر المسبوقة بصلاة الظهر، ومن الواضح: أنّ القصر المقيّد بعدم المسبوقيّة بالتمامّ يكون بهذا القيد ضدّاً للتمام في ذاته، وليس هذا القيد في طول التضادّ بين الملاكين.