483

الإشكال الثاني: ما في تقرير الشيخ محمد علي الكاظمي(قدس سره) من أنّ مصلحة القصر إن لم تكن مقيّدة بعدم المسبوقيّة بالتمام فلماذا لايعيدها قصراً؟! وإن كانت مقيّدة بذلك فلا مصلحة فيه عند الإتيان بالتامّ، والمفروض أنّه أتى بالتامّ، فهو لم يترك ما فيه المصلحة فلماذا يعاقب(1)؟!

والجواب: أنّ هذا خلط بين قيد الوجوب وقيد الواجب، فإنّ القصر إنّما يكون مقيّداً بعدم المسبوقيّة بالتمام على حدّ تقيّد الصلاة بالوضوء، لا على حدّ تقيّد الحج بالاستطاعة، والذي يكون مقيّداً بعدم المسبوقيّة بالتمام إنّما هو ترتّب المصلحة خارجاً على القصر، لا اتصاف القصر بكونه ذا مصلحة، والمحقّق النائيني (قدس سره) هو الذي حقّق ونقّح مصطلحات الاتّصاف بالمصلحة وترتّب المصلحة، وبيّن الفرق ووضّح جوانب المطلب بشكل دقيق، فلا يحتمل صدور مثل هذا الإشكال منه هنا، فلعلّ هنا قصوراً في عبارة التقرير أدّى الى إفادة العبارة مثل هذا المعنى، ويكون المقصود الحقيقي ما يرجع الى الإشكال الثالث.

الإشكال الثالث: ما في أجود التقريرات من أنّ مصلحة الجامع ومصلحة الخصوصيّة إن فرضتا مترابطتين لا يمكن التفكيك بينهما، لزم عدم صحّة التمام؛ لعدم واجديّته لمصلحة الخصوصيّة، وإن فرض الاستقلال لزم تعدّد العقاب مع أنّ تعدّد العقاب في المقام واضح البطلان(2).

أقول: إنّ تعدّد العقاب ـ سواء كان بمعنى تعدّد المستحَق بأن يفرض العقاب المستحَقّ على معصية واحدة عشرة أسواط مثلاً، ويكون معنى استحقاق عقابين استحقاق عشرين سوطاً مثلاً، أم بمعنى تعدّد الاستحقاق كما إذا فرض أنّ العقاب المستحَقّ على معصية واحدة ليس له حدّ، فللمولى أن يعاقب أيّ مقدار شاء، فلا معنى لتكثّر المستحَقّ بتكثّر المعصية، وإنّما يتأكّد بذلك نفس الاستحقاق ـ يكون ملاكه عبارة عن تعدّد ملاك العقاب الذي هو عبارة عن حقّ المولويّة المخالَف. وفي


نعم، هذا الوجه في الحقيقة يختلف عن حرفيّة كلام المحقّق الخراساني؛ لأنّه كان يفترض التضادّ بين الملاكين بمعنى: أنّ تحصيل ملاك الجامع مستقلاً هو الذي يمنع عن إمكانية تحصيل الزائد بعد ذلك؛ لأنّ الزائد بوحده غير قابل للتحصيل.

(1) راجع فوائد الاُصول: ج 4، ص 102.

(2) راجع أجود التقريرات: ج 2، ص 335.

484

ذلك تصويران:

التصوير الأوّل: أن يقال: إنّ حقّ المولويّة أمر بسيط غير قابل للشدّة والضعف أبداً، فحقّ المولى في أيّ حكم من أحكامه يساوي حقّه في أي حكم آخر، وعليه فملاك تعدّد العقاب إنّما هو ملاك كمّي وهو: أن يوجد هنا حكمان ويخالف العبد كلا الحكمين.

التصوير الثاني: أن يقال: إنّ حقّ المولويّة يشتدّ ويضعف تبعاً لشدّة غرض المولى وضعفه، فعقاب إراقة دم الحسين عليه الصلاة والسلام لا يكون مساوياً لعقاب إراقة دم كافر ذمّي، وعليه فالملاك الكيفي ـ أيضاً ـ يؤثّر في كثرة العقاب أو شدّة استحقاقه الى صفّ الملاك الكمّي.

وهذا التصوير الثاني هو الصحيح، وعليه يظهر أنّ فرضيّة المحقّق الخراساني لا توجب زيادة في استحقاق العقاب عمّا إذا انكرت تلك الفرضية؛ وذلك لأنّه لم يَفرض هو غرضاً جديداً وزائداً على الغرض الموجود في صلاة القصر، وإنّما حلّل الغرض الموجود في صلاة القصر الى جزءين، ففرض أحدهما في الجامع والآخر في الخصوصيّة، وهذا لا يؤثّر في الحساب شيئاً بعد أخذ الملاك الكيفي بعين الاعتبار الى جانب الملاك الكمّي.

نعم، لو أخذنا بالتصوير الأوّل لأمكن أن يقال: إنّ هذه الفرضيّة جعلت المعصية من حيث الكمّ متعدّدة، فأوجبت تعدّد العقاب. لكن مع ذلك نقول: إنّ هذا لا يوجب إشكالاً على المحقّق الخراساني (رحمه الله)؛ لأنّه إن اُريد استبعاد تعدّد العقاب في نفسه فهذا جزاف، وإن اُريد استبعاد كون عقاب الجاهل التارك للصلاة رأساً أكثر من عقاب الجاهل الذي صلّى تماماً، فلا معنى لهذا الاستبعاد، بل من المناسب أن يكون عقاب التارك للصلاة رأساً أكثر، وإن اُريد استبعاد كون عقاب الجاهل التارك أكثر من عقاب العالم التارك، فلَمْ يَلْزَمْ هنا كون عقابه أكثر منه؛ لأنّ الملاك الكمّي الموجود لتعدّد العقاب وهو تعدّد الحقّ بتعدّد الغرض ومتعلّقِه موجود حتّى في حال العلم، إلّا أن يفرض أنّه يشترط في الملاك الكمّي إمكان تعدّد التحريك، وهذا في العالم غير موجود؛ لأنّه لا يصحّ منه التمام، لكن من يفرض مثل هذا الفرض لا معنى لاستبعاده لأكثريّة عقاب الجاهل من عقاب العالم، وفي الحقيقة تكشف هذه النتيجة عن بطلان أحد تلك المباني، لا عن بطلان كلام المحقّق الخراساني (رحمه الله).

485

الإشكال الرابع: ما ذكره المحقّق الاصفهاني (رحمه الله)(1) من منافاة هذه الفرضية التي وضعها هنا للفرضية التي وضعها في كيفية تصوير صحّة إعادة الصلاة مع الجماعة بعدما صلاّها منفرداً من أنّ عمل المكلّف ليس علة لتحقّق الغرض، وإنّما هو مقدّمة إعداديّة، فيمكن أن يؤتى قبل حصول الغرض بفرد آخر فيختار اللّه أحبّهما إليه مثلاً، كما في بعض الأخبار، من قبيل أنّ المولى يعطش فيطلب الماء من عبده فيأتي له بالماء ثم يأتي له بماء آخر أبرد وأطيب قبل أن يشرب الماء الأوّل.

بيان المنافاة هو: أنّ صلاة التمام التي أتى بها هذا الجاهل إن أوجدت المصلحة والغرض فكيف يمكن إعادتها جماعة قبل ارتفاع الجهل؟! وإن كانت مجرّد مقدّمة إعدادية ولم تتحقّق المصلحة بعدُ فلماذا لا يمكن إعادتها قصراً بعد ارتفاع الجهل فيختار اللّه الثاني، ولم تستوفِ بعدُ مصلحة الجامع حتّى يقال: إنّ المصلحة الزائدة لا يمكن استيفاؤها بعد استيفاء أصل المصلحة؟!

ويرد عليه: أنّه يمكن أن يفرض أنّ التمام له أثران: أحدهما الإعداد لأصل المصلحة، وثانيهما إبطال إعداد القصر، وإشكال المحقّق الاصفهاني (قدس سره) نشأ من الأخذ بحرفيّة كلام المحقّق الخراساني (رحمه الله) حيث فرض أنّ استيفاء أصل المصلحة يمنع عن استيفاء المصلحة الزائدة.

الإشكال الخامس: ما ذكره نفس المحقّق الخراساني (رحمه الله) وأجاب عنه.

أمّا الإشكال فهو: أنّ التمام بناءً على هذا مانع عن الإتيان بصلاة القصر صحيحة، وعدم التمام مقدّمة لصلاة القصر الواجبة، فهو واجب فنقيضه وهو الإتيان بالتمام حرام، فلا يمكن التقرّب به.

وأمّا الجواب: فهو أنّ التمام والقصر وإن كانا ضدّين لكن عدم أحد الضدّين ليس مقدّمة للضدّ الآخر كما ثبت في بحث مقدّمة الواجب.

وأورد عليه المحقّق الاصفهاني (قدس سره)(2) بأنّ التضادّ إنّما هو بين معلولي التمام والقصر وهما الملاكان، ومن المعلوم أنّ عدم علّة أحد الضدّين يكون أحد أجزاء علّة الضدّ الآخر.

أقول: إنّ جواب المحقّق الخراساني (قدس سره) عن الإشكال وإن لم يكن صحيحاً لما


(1) راجع نهاية الدراية: ج 2، ص 316.

(2) راجع نهاية الدراية: ج 2، ص 316.

486

ذكره المحقّق الاصفهاني (رحمه الله) لكن يمكن الجواب عن الإشكال:

أوّلاً: بأنّ المانع عن القصر إنّما هو خصوصية التمام، والمأمور به والمقرِّب إنّما هو الجامع، وفي مثل هذا الفرض يمكن اجتماع الأمر والنهي.

وثانياً: بأنّ التمام يمكن أنّ يكون مانعاً في خصوص حالة الجهل، وعليه فكما يحتمل أن يكون المانع هو التمام مقيّداً بكونه في حالة الجهل، أو مجموع التمام والجهل كذلك يحتمل أن يكون المانع هو الجهل مقيّداً بكونه في حالة الإتيان بالتمام، وعليه فالتمام ليس هو المانع عن صحّة القصر حتّى يكون حراماً.

ولكن يرد على هذا الثاني: أنّ التمام ـ عندئذ ـ وإن لم يكن هو المانع، لكنّه من مقدّمات المانع؛ لكون المانع مقيّداً به حسب الفرض، فيرجع الإشكال، فالعمدة هو الجواب الأوّل.

وقد ظهر من تمام ما ذكرناه أنّ جوهر كلام المحقّق الخراساني (رحمه الله)صحيح ولو مع الاحتياج الى إجراء بعض التعديلات في بعض تفاصيله.

الفرضية الثانية: ما ذكره المحقّق النائيني (قدس سره)(1) من أنّه يوجد عندنا واجبان مستقلاّن: أحدهما أصل الصلاة، والثاني الإخفات فيها مثلاً، فإذا صلّى جهراً صحّت صلاته؛ لأنّها واجب مستقل وكان معاقباً؛ لأنّه ترك واجباً آخر، وأمّا عدم صحّة الجهر منه في حال العلم فيفرض المحقّق النائيني (رحمه الله) في تفسيره أنّ العلم بالوجوب الاستقلالي للإخفات يوجب انقلابه الى الوجوب الضمني، وذلك لا بمعنى انقلاب ملاك الوجوب الاستقلالي الى ملاك الوجوب الضمني، بل بمعنى أنّه يضاف ملاك آخر وهو ملاك الوجوب الضمني الى الملاك الأوّل الاستقلالي، وفي مقام الخطاب يندكّ الوجوب الاستقلالي في الوجوب الضمني، وهذا مبنيّ على مبنىً نقّحه هو (قدس سره)من أنّه مهما اجتمع طلبان مع اشتمال أحدهما على مزيّة اندكّ غير ذي المزيّة في ذي المزيّة، فمهما اجتمع ملاك الوجوب والاستحباب مثلاً اندكّ الاستحباب في ضمن الوجوب، ومهما اجتمع ملاك الوجوب التعبّدي والوجوب التوصّلي اندكّ الوجوب التوصّلي في الوجوب التعبّدي.

وقد يناقش في هذه الفرضية بعدّة وجوه:


(1)راجع فوائد الاُصول: ج4، ص103 - 105. وأجودالتقريرات: ج2، ص 337 -339.

487

الأوّل: ما ذكره المحقّق العراقي (قدس سره)(1) من أنّ هذا معناه أخذ عدم العلم بشيء في موضوع المعلوم وكون العلم بشيء رافعاً للمعلوم، وهذا محال، إذ يلزم ـ عندئذ ـ من كونه عالماً بالوجوب الاستقلالي أن لا يعلم به، مع أنّ المفروض أنّه عالم به.

والجواب عنه: هو ما حقّقناه في مسألة أخذ العلم بحكم في موضوع نفسه من تحليل الحكم الى الجعل والمجعول، وفرض أخذ العلم بالجعل في موضوع المجعول، فإنّه لا يكون محالاً؛ لأنّه يرجع الى أخذ العلم بشيء في موضوع شيء آخر، وكذلك الأمر في أخذ عدم العلم بالجعل في موضوع المجعول.

الثاني: أنّه يلزم من ذلك عدم قابلية الخطاب النفسي الاستقلالي للتنجّز؛ لأنّه ما لم يعلم به تجري قاعدة (قبح العقاب بلا بيان)، وإذا علم به ارتفع التكليف ولو بمعنى ارتفاع موضوع مجعوله، وجعل خطاب لا يقبل التنجّز لغو.

وهذا الإشكال بهذا المقدار يمكن الجواب عنه بأنّ عدم الوصول وعدم العلم ليس مساوقاً للتأمين؛ لأنّ عدم وصوله من تبعات ترك الفحص، فلا تجري الاُصول المؤمّنة ويكون منجّزاً للزوم الفحص.

الثالث: أن يجري تعديل على صيغة الإشكال الثاني بأن يقال: إنّ التكليف وإن كان قابلاً للتنجيز، لكنّه لا يقبل المحرّكيّة؛ إذ ظاهر عبائر الفقهاء أنّ عدم العلم المأخوذ في موضوع هذا الخطاب ليس هو ما يناسب الشكّ والتردّد الفعلي بأن يصحّ التمام من الجاهل الشاكّ في الحكم، وإنّما هو عدم العلم المساوق للغفلة وإن كانت مستندة الى تقصيره في ترك الفحص، والخطاب في فرض الجهل المساوق للغفلة لا يقبل المحرّكيّة. وهذا الإشكال يدور مدار تحقيق هذه النكتة فقهياً وهي: أنّ موضوع الحكم هل هو عدم العلم المساوق للغفلة، أو عدم العلم بالمعنى المناسب مع التردّد والشكّ؟

الرابع: أنّه يرد عليه إشكال تعدّد العقاب الذي أورده هو على المحقّق الخراساني (رحمه الله)، وإشكاله لم يكن وارداً على المحقّق الخراساني (قدس سره)؛ لأنّه لم يزد على الملاك المتّفق عليه شيئاً وإنّما حلّل وجزّأ ذاك المتّفق عليه الى مرتبتين، وأمّا المحقّق النائيني(رحمه الله) فقد زاد على الملاك المتّفق عليه وهو الملاك الموجود في


(1) راجع نهاية الأفكار: القسم الثاني من الجزء الثالث، ص 487.

488

الجامع ملاكاً نفسياً مستقلاً في الإخفات(1).

وهذه الإشكالات الأربعة ترجع الى أصل الفرضية.

وهناك إشكال آخر يرجع الى تفاصيلها: وهو أنّه (رحمه الله) التزم بانقلاب الخطاب النفسي عند العلم به الى الخطاب الضمني، وذلك ليس من باب انقلاب الملاك، فهو يرى أنّ الملاكين اجتمعا معاً، بل من باب استحالة اجتماع الوجوبين وقاعدة اسّسها المحقّق النائيني (رحمه الله) وهي: أنّه متى ما اجتمع وجوبان، أو طلبان اكتسب كل منهما ما يفقده من مزيّة الآخر، وتحصّل طلب واحد واجد لمزايا الطرفين، فلو اجتمع طلب عبادي استحبابي مع طلب وجوبيّ توصّليّ تحصّل من ذلك وجوب تعبّدي، وفي المقام الوجوب الضمني هو الواجد للمزيّة، وهي: ربط صحّة الأجزاء الاُخرى به، فيندكّ فيه الوجوب الاستقلالي، وتحقيق هذه القاعدة وتفصيلها موكول الى بحث الواجب المطلق والمشروط، وإنّما نذكر هنا بنحو الفتوى: أنّ لدينا إشكالاً مبنائيّاً في المقام حيث إنّنا نرى بطلان هذه القاعدة.

ويمكن أن يورد إشكال آخر إضافة الى بطلان القاعدة، وهو: أنّه بناءً على أنّ الوجوب الضمني يتعلّق بالحصّة الخاصّة المقيّدة بسائر الأجزاء كما هو ظاهر كلمات المحقّق النائيني (رحمه الله) في مبحث الأقلّ والأكثر الارتباطيين، وأنّ الوجوب النفسي يتعلّق بذات الشيء، لا تنافي بين الوجوبين لاختلاف متعلّقهما، فلم يلزم اجتماعهما على مورد واحد، فإنّ متعلّق الوجوب النفسي هو ذات الإخفات، ومتعلّق الوجوب الضمني الحصّة الخاصّة من الإخفات المنّضمة الى سائر الخصوصيات والأجزاء، أي: أنّ هذا الواجب بحسب الحقيقة جزء من الوجوب المتعلّق بذلك الواحد الاعتباري، فهذا الجزء بما هو مندمج في ذلك الواحد الاعتباري يكون واجباً ضمنيّاً، وبما هو مستقل يكون متعلّقاً لوجوب آخر.

ولكنّ هذا الإشكال(2) قابل للدفع، وذلك بأن يقال: إنّنا وإن قلنا سابقاً: إنّ


(1) لعلّ المقصود هو الاعتراض الجدلي على المحقّق النائيني (رحمه الله)باعتباره هو صاحب الإشكال على المحقّق الخراساني بتعدّد العقاب، وإلّا ورد عليه: أنّه إن قصد إنكار تعدّد العقاب في ذاته فهو جزاف، وإن قصد استبعاد كون عقاب الجاهل أشدّ من العالم، قلنا: إنّ الملاك الجديد موجود حتّى بشأن العالم، وعدم الخطاب إنّما هو لفرض الاندكاك في الوجوب الضمني.

(2) إن كان الإشكال عبارة عن أنّ اتّصاف الأجزاء بالوجوب كان باعتبار الوحدة

489

الأجزاء تكون موصوفة بالوجوب باعتبار الوحدة الاعتباريّة، إلّا أنّ هذه الوحدة الاعتباريّة أمر ذهني وفان في واقع الأجزاء، فالمنظور إليه واحد وهو هذا الجزء وإن كان المنظور به تارة هو الواحد الاعتباري، واُخرى هو العنوان التفصيلي.

الفرضية الثالثة: هي الالتزام بالترتّب مسامحة أو حقيقة، فيعاقب لترك الأهمّ ويصحّ عمله لثبوت الأمر به بنحو من الأنحاء.

أمّا الترتّب المسامحي فهو: أن يلتزم بأمرين: أحدهما متعلّق بالجامع، والثاني بأحد الفردين وهو الصلاة الإخفاتيّة أو القصر مثلاً، لا بالإخفات كما كان يقوله المحقّق النائيني (رحمه الله)، وأحد فردي الجامع مترتّب على الجهل بالأمر الثاني، وهذا ينسجم روحه مع فرضية المحقّق الخراساني (رحمه الله)، إلّا أنّه (رحمه الله) كان يفرض تعدّد المطلوب بحسب عالم الملاك فقط، وهذه الفرضية تفرض تعدّد المطلوب ملاكاً وخطاباً. ويمكن أن يورد على هذه الفرضية اعتراضان:

الاعتراض الأوّل: ما يقتنص من مباني المحقّق النائيني (رحمه الله) حيث إنّه(رحمه الله)حقّق في بحث المطلق والمقيّد استحالة تعلّق الأمر بالجامع مع تعلّق أمر آخر بأحد فرديه؛ لأنّ الأمر بالجامع يدلّ على الترخيص في التطبيق على الفرد الآخر، وهذا ينافي الإلزام بهذا الفرد، وبهذا برهن (رحمه الله)على وحدة الحكم في مثل (اعتق رقبة) و (اعتق رقبة مؤمنة)، فأثبت به شرط حمل المطلق على المقيّد وهو المنافاة بينهما، بل جعل


الاعتباريّة في حين أنّ الوجوب الاستقلالي ليس كذلك ـ وهذا الإشكال يتّجه على مسلك المحقّق النائيني (رحمه الله) وعلى مسلك اُستاذنا الشهيد وإن اختلفا في أنّ الأوّل يرى الوحدة الاعتباريّة مستمدّة من تقيّد الأجزاء بعضها بالبعض، والثاني يرى الوحدة الاعتباريّة مستمدّة من لحاظ عنوان المجموعيّة ـ فجوابه ما ورد في المتن: من أنّ الوحدة الاعتباريّة أمر ذهني وفان في واقع الأجزاء، فالمنظور إليه واحد وإن كان المنظور به متعدّداً.

وإن كان الإشكال عبارة عن صِرف أنّ الواجب الضمني هو الحصّة المقيّدة بالاقتران بباقي الأجزاء، والواجب الاستقلالي هو ذات الإخفات مثلاً ـ وهذا الإشكال يتّجه على مسلك المحقّق النائيني فحسب ـ فالجواب: أنّ الواجب الاستقلالي في المقام ـ أيضاً ـ هو الحصّة؛ لأنّ المفروض أنّه واجب في واجب أي: أنّه متحصّص بأن يكون في ظرف الواجب الآخر، وإنّما لا يعدّ جزءاً على مسلك المحقّق النائيني رغم التحصيص؛ لأنّ التحصيص لم يكن من كلا الطرفين، أي: أنّ باقي الأجزاء والقيود لم تكن محصّصة به. وأمّا على مسلك المحقّق العراقي من أنّ الوجوب يطرأ على الأجزاء بما هي متكثّرة فلا موضوع للإشكال أصلاً.

490

هذا أساساً في بحث اجتماع الأمر والنهي لامتناع اجتماعهما على تفصيل لا يسعه المقام، وعلى هذا المبنى لا يصحّ في المقام تعلّق أمر بالجامع وأمر آخر بالفرد لنفس النكتة.

ويرد عليه: أنّ المطلق لم يدلّ بالمطابقة على الترخيص في التطبيق على كل فرد حتّى يكون ظاهراً في الترخيص المطلق مثلاً، وإنّما دلّ بالالتزام على ذلك من باب سعة المأمور به الذي اُخذ بنحو صرف الوجود، فهو إنّما يدلّ على عدم المانع من قبل شخص هذا الأمر لا مطلقاً، وبكلمة اُخرى: أنّ الترخيص وضعي بمعنى تحقّق الامتثال للمطلق بعتق الرقبة الكافرة، لا تكليفي مساوق للإذن في رفع اليد عن المقيّد رأساً حتّى ينافي الإلزام التعييني.

الاعتراض الثاني: ما ذكره المحقّق العراقي (رحمه الله)(1) من أنّ الجامع في المقام إنّما هو جامع بين صلاة القصر وصلاة التمام الصادرة من الجاهل بوجوب صلاة القصر، وهذه الحصّة الخاصّة تكون في طول الأمر، فكيف يعقل كون الأمر متعلّقاً بجامع شامل لهذا الفرد الذي هو في طوله؟! وهذا الاعتراض غير صحيح:

أمّا أوّلاً: فلإمكان فرض تقييد صلاة التمام باعتقاد وجوب صلاة التمام كما هو واقع المطلب، لا بالجهل بالأمر، وهذه الحصّة تكون في طول وجوب التمام الخيالي لا في طول الأمر.

وأمّا ثانياً: فلِما ذكره نفس المحقّق العراقي (رحمه الله): من أنّ صلاة التمام بناءً على تقيّدها بالجهل بالأمر فهي مقيّدة بالجهل بالأمر الثاني، أي: الأمر بالفرد لا بالجهل بالأمر الأوّل، فهي في طول الأمر الثاني لا الأوّل، ولا مانع من أخذها في متعلّق الأمر الأوّل.

وأمّا ثالثاً: فلأنّنا لو سلّمنا أنّ حصّة التمام قيّدت بعدم العلم بالأمر الأوّل، فما يمكن أن يقال: إنّه متأخّر رتبة عن الأمر الأوّل، إنّما هو العلم بالأمر الأوّل، لا عدم العلم به، ولا نسلّم بقانون: أنّ أحد النقيضين إذا كان متأخّراً عن شيء رتبة فنقيضه ـ أيضاً ـ متأخّر عنه رتبة.

وأمّا رابعاً: فلِما سبق منّا في بحث التعبّدي والتوصّليّ من أنّ الاستحالة إنّما


(1) لم أجده في المقالات، ولا في نهاية الأفكار، ولا في تعليق الشيخ العراقي (رحمه الله)على فوائد الاُصول.

491

هي في أخذ ما يتوقّف على الأمر في موضوع ذلك الأمر، لا في أخذه في متعلّقه كما هو المفروض في المقام.

وأمّا الترتّب الحقيقي: فبدعوى وجود أمرين مترتبين: أمر بالأهمّ وهو الأمر بصلاة القصر، وأمر بالمهمّ وهو الأمر بصلاة التمام على تقدير عدم الإتيان بصلاة القصر، وبما أنّ كبرى الترتّب قد نقّح إمكانها في محله، يتصوّر في المقام تعدّد الأمر تطبيقاً لتلك الكبرى. وقد اعترض على هذا التطبيق بعدّة اعتراضات. وتطويل الكلام فيها راجع الى بحث الترتّب، إلّا أنّنا نقتصر هنا على المهمّ من تلك الاعتراضات وهي:

1 ـ ما أفاده المحقّق النائيني (رحمه الله)(1): وهو أنّ من شروط الترتّب كون التضادّ اتفاقيّاً لا دائميّاً كما في الحركة والسكون، ومقامنا من قبيل الحركة والسكون، أي: أنّ التضادّ بين الجهر والإخفات دائمي.

والسيّد الاُستاذ كأنّه وافق على الصغرى أعني كون التضادّ دائميّاً في المقام، واقتصر في مقام الإشكال على الكبرى. فذكر أنّ نكتة الإمكان لا يفرّق فيها بين كون التضادّ دائميّاً أو اتفاقيّاً، فإنّ طلب الضدّين على وجه الترتّب إن قلنا: بأنّه يؤدّي الى طلب الجمع بين الضدّين فهو محال على كل حال، وإلّا فليس بمحال على كلّ حال(2).

والصحيح: أنّه مضافاً الى عدم تماميّة الكبرى كما حقّق في بحث الترتّب تكون الصغرى ـ أيضاً ـ غير تامّة؛ لأنّ الترتّب في الحقيقة بين الصلاة الجهريّة والصلاة الإخفاتيّة، لا بين الجهر والإخفات كما سنحقّقه ـ إن شاء اللّه ـ في دفع الإشكال الثاني، وليس بين الصلاتين تضادّ دائمي، بل ولا اتّفاقيّ.

2 ـ ما ذكره المحقّق النائيني (رحمه الله)(3) ـ: أيضاً ـ: وهو أنّ من شروط الترتّب كون الضدّين لهما ثالث، وإلّا فلا يعقل الأمر بأحدهما في طول ترك الآخر؛ لأنّ ترك الآخر


(1) راجع فوائد الاُصول: ج 1، ص 372 بحسب طبعة جماعة المدرسين في قم، وأجود التقريرات: ج 1، ص 310 - 311.

(2) راجع أجود التقريرات: ج 1، ص 310 في الهامش .

(3) راجع فوائد الاُصول: ج 1، ص 372 بحسب طبعة جماعة المدرسين في قم، وأجود التقريرات: ج 1، ص 311.

492

مساوق لفعل ذلك الضدّ، ففي طول تركه لا معنى للأمر بهذا الضدّ والبعث نحوه، ومقامنا من هذا القبيل؛ لإنّ الجهر والإخفات لا ثالث لهما.

وأجاب السيّد الاُستاذ: بأنّ الترتّب ليس بين الجهر والإخفات، وإنّما هو بين القراءة الجهريّة والقراءة الإخفاتيّة، ولهما ثالث وهو ترك القراءة(1).

أقول: إنّ كلاّ من الإشكال والجواب غير صحيح في المقام، فإنّ الترتّب بحسب الدقّة ليس بين الجهر والإخفات ولا بين القراءتين، بل بين الصلاة الجهريّة والصلاة الإخفاتيّة.

والبرهان على ذلك: أنّ الأمر بالقراءة أمر ضمني، فلا بدّ من تعدّد الأمر الاستقلالي بالصلاة الذي هو في ضمنه؛ إذ لو اتحدّ الأمر بالصلاة وتعدّد الأمر بالقراءة أو بالجهر والإخفات، فإمّا أنّ الأمرين بالقراءة أو بالجهر والإخفات أو أحدهما استقلالي، وهذا خلف؛ لأنّنا لسنا بصدد تصوير واجب مستقل كما مضى في الفرضية الثانية، وإمّا أنّهما معاً ضمنيّان، وعندئذ فالأمر بالصلاة قد اشتمل على أمرين ضمنيين: الأمر بالقراءة الإخفاتيّة، والأمر بالقراءة الجهريّة، فإن لم يؤخذ ترك إحدى القرائتين قيداً لا في الواجب ولا في الوجوب لزم الجمع بين القراءتين، وهذا خلف المفروض. وإن اُخذ ترك إحداهما قيداً (ولنفرضه ترك القراءة الاخفاتيّة) فالتقييد يكون بأحد أنحاء ثلاثة:

الأوّل: أن يؤخذ قيداً في الوجوب للأمر النفسي الاستقلالي المتعلّق بالكلّ، وهذا محال، فإنّ هذا معناه أن يقيّد الأمر بالكلّ المشتمل على القراءتين بترك إحداهما.

الثاني: أن يكون الوجوب الضمني المتعلّق بالقراءة الجهريّة مقيّداً بترك القراءة الإخفاتيّة من دون أن تكون سائر الوجوبات الضمنيّة مقيّدة، وهذا ـ أيضاً ـ غير معقول؛ لأنّ الوجوب الضمني ليس له جعل مستقلّ حتّى يكون له قيد مستقل، بل وجوده وجود تحليلي، والاشتراط في عالم الجعل فرع الوجود في عالم الجعل، والوجوب الضمني ليس له وجود في عالم الجعل، وإنّما يكون له وجود بعد التحليل، وعالم الاشتراط هو عالم الجعل، والموجود في عالم الجعل إنّما هو الأمر الاستقلالي بالكلّ.


(1) راجع أجود التقريرات: ج 1، ص 311.

493

الثالث: أن يؤخذ ترك القراءة الإخفاتيّة قيداً في الواجب الضمني لا في الوجوب، فيكون الوجوب الضمني فعليّاً. وهذا معناه أنّنا بالفعل مكلّفون بالقراءة الإخفاتيّة وبالقراءة الجهريّة المقيّدة بترك القراءة الإخفاتيّة. وهذا كما ترى تكليف بالضدّين وهو غير معقول.

3 ـ ما هو مستفاد من كلمات المحقّق الاصفهاني (قدس سره)(1) وإن كنت أذكره بشيء من التطوير، وحاصله: أنّ الأمر بالصلاة الجهريّة مقيّد بعصيان الأمر بالأهمّ وهو الصلاة الإخفاتيّة، وعصيانه بأحد نحوين: إمّا بتركها الى آخر الوقت، وإمّا بإتيان الصلاة الجهريّة المعجِّزة عن استيفاء المصلحة المطلوبة من الصلاة الإخفاتيّة، فالمأخوذ في موضوع الأمر بالصلاة الجهريّة هل هو العصيان بالنحو الأوّل، أو العصيان بالنحو الثاني؟

فإن قيل بالأوّل لزم عدم صحّة الصلاة الجهريّة في فرض الإتيان بالصلاة الإخفاتيّة في الوقت بعد الإتيان بالصلاة الجهريّة؛ إذ مع إتيانها ينتفي العصيان الذي هو موضوع الأمر بالصلاة الجهريّة، مع أنّ المفروض صحّة الصلاة وعدم الإعادة حتّى لو انكشف له الحال في الوقت.

وإن قيل بالثاني فالعصيان لا يتحقّق إلّا بالإتيان بالصلاة الجهريّة، فكيف يعقل أن يقال: إنّه إن أتيت بالصلاة الجهريّة يجب الإتيان بالصلاة الجهريّة؟! وهذا يساوق تحصيل الحاصل.

والجواب: أنّه يمكن الالتزام بأنّ الشرط هو الجامع بين العصيانين، أي: عدم استيفاء الزائد من الملاك غاية الأمر أنّ الترتّب الاعتيادي نتصوّره بنحو الشرط المقارن، وهذا الترتّب نتصوّره بنحو الشرط المتأخّر؛ إذ لا يمكن أن نأخذ تفويت الملاك بنحو الشرط المقارن؛ لأنّ تفويت الملاك لايتحقّق من هذا المكلّف، إلّا بعد انتهاء صلاته الجهريّة فيستحيل تكليفه بالصلاة الجهريّة، فنحن إنّما نأخذ جامع التفويت شرطاً بنحو الشرط المتأخّر، أي: إن كان سوف يصدر منك التفويت الجامع بين ترك الصلاة الإخفاتيّة الى آخر الوقت وإتيان الصلاة الجهريّة وجب عليك الإتيان بالصلاة الجهريّة. وليس في هذا محذور.


(1) نهاية الدراية: ج 2، ص 315.

494

4 ـ ما ذكره المحقّق النائيني (رحمه الله)(1): من أنّ الأمر الترتّبي في المقام لا يعقل وصوله فلا يعقل جعله؛ لأنّ الأمر الترتّبي مشروط بعصيان الأمر بالأهمّ، فموضوعه هو العاصي، والجاهل بالحكم لا يُصدّق أنّه عاص، إلّا إذا ارتفع جهله بالحكم، فبمجرّد أن يصل إليه الخطاب يخرج عن كونه جاهلاً، ويخرج عن كونه موضوعاً لهذا الخطاب.

وأجاب عنه السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ: بانّ شرط الخطاب الترتّبي ليس هو العصيان، بل هو ترك الأهمّ وهو الصلاة الإخفاتيّة، وذات الترك قابل للالتفات إليه من قبل الجاهل(2).

ويرد عليه: أنّ هذا الكلام لا يرفع الإشكال وإن فرض أنّه أوجد تبديل عنوان بعنوان؛ وذلك لأنّ الأمر بالصلاة الجهريّة المنوطة بترك الصلاة الإخفاتيّة لو وصل الى المكلّف لالتفت لا محالة الى أنّ الوظيفة الأوّليّة هي الإخفات لا الجهر، ولك أن تقول: إنّ الجاهل بالحكم معناه ـ على ما مرّ سابقاً ـ المعتقد وجوب ما أتى به وهو صلاة الجهر، فلو كان هناك أمر ترتّبي وجب أن يؤخذ في موضوعه الاعتقاد بوجوب الجهر، ومن المعلوم أنّ من اعتقد وجوب الجهر ليس بحاجة الى إعمال مولويّة في المقام وتحريك آخر، وهذا التحريك الآخر لا يصله خارجاً، فالتحريك المولوي تامّ في المرتبة السابقة، ويستحيل ترتّب المحرّكيّة من ناحية هذا الأمر الترتّبي؛ لأنّ وصوله يخرجه عن كونه جاهلاً بالحكم الى كونه عالماً بالحكم. فهذا الإشكال من المحقّق النائيني (رحمه الله)وارد في المقام، وهذا يوجب عدم تصوير الترتّب في المقام وإن تصوّرناه كلية.

هذا هو الإشكال الإجمالي في الترتّب. وهناك ـ أيضاً ـ إشكالات اُخرى حذفناها. وتفصيل ذلك في بحث الترتّب.

هذا تمام الكلام في تصوير الجمع بين العقاب وصحّة العمل في المقام. وبه تمّ الكلام في التنبيه الخامس من تنبيهات مسألة وجوب الفحص في الاُصول المؤمّنة وعدمه.


(1) راجع فوائد الاُصول: ج 1، ص 373 بحسب طبعة جماعة المدرسين، وأجود التقريرات: ج 1، ص 311 ـ 312.

(2) راجع أجود التقريرات: ج 1، ص 311 ـ 312. في الهامش .

495

حالة الشكّ في الابتلاء

التنبيه السادس: إذا شكّ في أنّ الحكم الفلاني كأحكام الشكّ في الصلاة مثلاً هل سيدخل في محل ابتلائه أو لا، فهل يجب عليه تعلّم ذلك الحكم أو لا؟!

قد يقال بعدم الوجوب نظراً لاستصحاب عدم الابتلاء ولو بلحاظ ما يأتي؛ لأنّ الاستصحاب كما يجري بلحاظ ما مضى يجري بلحاظ ما يأتي.

وذكر في الدراسات(1): أنّ عدم الابتلاء ليس حكماً شرعيّاً، ولا موضوعاً لحكم شرعي؛ لأنّ وجوب الفحص وعدمه ليس دائراً مدار الابتلاء الواقعي وعدمه، وإنّما هو دائر مدار العلم بعدم الابتلاء وعدمه، فالذي خرج من إطلاق دليل وجوب الفحص هو فرض العلم بعدم الابتلاء؛ لكونه وجوباً طريقيّاً. وعليه فإن قلنا: بأنّه يشترط في المستصحب أن يكون حكماً شرعيّاً، أو موضوعاً لحكم شرعي لم يجرِ هذا الاستصحاب. وأمّا إذا بنينا على إنكار هذا المبنى وقلنا: إنّه يكفي في جريان الاستصحاب ترتّب الأثر الشرعي على نفس الثبوت الاستصحابي، وأنّه يقوم الاستصحاب مقام العلم الموضوعي، كما يقوم فيما إذا كان المستصحب حكماً شرعيّاً، أو موضوعاً لحكم شرعي مقام العلم الطريقي، فالاستصحاب هنا جار، فإنّ موضوع عدم وجوب الفحص هو العلم بعدم الابتلاء، والاستصحاب يحقّق لنا ـ تعبّداً ـ العلم بعدم الابتلاء، فيكون حاكماً على دليل وجوب الفحص المغيّى بالعلم بعدم الابتلاء.

نعم، محذور هذا الاستصحاب أنّه يلزم منه تخصيص الأكثر لأخبار وجوب التعلّم؛ إذ يجري هذا في أكثر الأحكام.

أقول: إن فُرض التكليف فعليّاً فلا مجال لهذا الكلام، مثلاً: إذا دخل وقت الصلاة صار الحكم بالجامع بين التمام في الحضر والقصر في السفر فعليّاً، فإذا شكّ في الابتلاء بالسفر وجب عليه تعلّم أحكام صلاة القصر؛ لأنّ التكليف فعلي واستصحاب عدم السفر فيما يأتي لا يثبت أنّه قادر على الامتثال، وسوف يأتي بالوظيفة التماميّة في آخر الوقت بالنحو الصحيح، إلّا بنحو الملازمة العقليّة.

وأمّا إذا كان التكليف مشروطاً غير فعليّ كما في صلاة الزلزلة إذا شكّ في أنّه هل سوف تتّفق في عمره الزلزلة أو لا، فإن قلنا: إنّ موضوع وجوب التعلّم هو الابتلاء


(1) الدراسات: ج 3، ص 312، راجع ـ أيضاً ـ المصباح: ج 2، ص 501 - 502.

496

الواقعي فاستصحاب عدم الابتلاء جار مطلقاً أي: حتّى على قول المشهور من اشتراط كون المستصحب حكماً شرعيّاً، أو موضوعاً لحكم شرعي.

وإن قلنا: إنّ موضوعه هو عدم العلم بعدم الابتلاء فالصحيح: أنّ الاستصحاب هنا غير جار حتّى إذا قيل بعدم لزوم كون المستصحب حكماً شرعيّاً، أو موضوعاً لحكم شرعي؛ وذلك لأنّ ما يذكرونه من حكومة دليل الاستصحاب على مثل دليل كلّ شيء طاهر المغيّى بالعلم مثلاً لإفادة الاستصحاب للعلم لو تمّ فإنّما هو فيما إذا جعل الدليل مغيّى بالعلم لفظاً، لا فيما إذا استفيدت غائيّة العلم بالدليل العقلي الدالّ على كون الحكم الطريقي مغيّى بالعلم، ولذا لا يقولون بحكومة دليل الاستصحاب على دليل حجيّة الأمارة، مع أنّ دليل حجيّة الأمارة يكون مغيّى عقلاً بالعلم بالخلاف؛ لأنّ الحكم الظاهري لا يتصوّر مع العلم لكونه حكماً طريقيّاً، وما نحن فيه من هذا القبيل، فإنّ دليل وجوب التعلّم لم يكن مغيّى بالعلم بعدم الابتلاء لفظاً، وإنّما استفيد ذلك من دليل العقل القائل: إنّ وجوب التعلّم باعتباره حكماً طريقياً لا يعقل ثبوته مع العلم بعدم الابتلاء، فهذا التخصيص تخصيص عقلي، وحكم العقل يتقدّر بمقدار ملاكه، وحكم العقل بملاكه في المقام إنّما هو بمقدار العلم الوجداني الثابت تكويناً، ودليل الاستصحاب لا يوجد علماً وجدانياً.

والخلاصة: أنّ دليل الاستصحاب لا يحكم على التخصيصات الثابتة بأدلّة عقليّة، وإنّما يحكم ـ لو حكم ـ على التخصيصات الثابتة بعناوين شرعيّة. وهذا التفصيل أصل موضوعي عندهم يأتي البحث عنه في محله ـ إن شاء اللّه ـ .

إذن فالاستصحاب في المقام على هذا التقدير لا يكون جارياً من دون حاجة الى التمسّك بمحذور التخصيص المستهجن وإن كان هذا المحذور ـ أيضاً ـ تامّاً، إلّا أنّ البحث كان صناعيّاً محضاً. وعليه، فالظاهر أنّه في موراد الشكّ في الابتلاء يجب الفحص احتياطاً.

هذا تمام الكلام في مسألة وجوب الفحص في الاُصول المؤمّنة وعدمه.

 

497

 

 

 

شرط انتفاء الضرر

 

بقي هنا شيء: وهو أنّ الفاضل التوني (رحمه الله) جعل من شرائط جريان البراءة عدم استلزامها للضرر على مسلم آخر. واُشكل عليه بأنّه إن سلّم في ذلك المورد قاعدة (لا ضرر) فهي حاكمة على الأمارات فضلاً عن أصالة البراءة، فلا مورد لأصالة البراءة، وليس هذا شرطاً مستقلاً لجريان البراءة، وإلّا فالبراءة جارية.

وأجاب السيد الاُستاذ (دامت بركاته)(1) عن ذلك: بأنّنا نفرض عدم تماميّة قاعدة (لا ضرر) في ذلك المورد ونقول: إنّ البراءة غير جارية في مورد الضرر في نفسها بغض النظر عن قاعدة (لا ضرر)؛ لأنّ حديث الرفع وارد في مقام الامتنان، فلا بدّ أن لا تكون في البراءة مخالفة للامتنان على الآخرين، وإلّا لم يشمله حديث الرفع.

أقول: يرد عليه: أنّ حديث الرفع وإن لم يشمل مثل هذا المورد بناءً على استفادة الامتنان على الاُمّة مجموعاً منه، وهذا ليس امتناناً على المجموع، لكن يتمسّك ـ عندئذ ـ بالبراءة العقليّة حسب مبناه، وباقي الأدلّة الدالّة على البراءة الشرعيّة كالآيات وحديث الحل. وليس لحديث الرفع مفهوم حتّى يوجب التقييد.

 


(1) الدراسات: ج 3، ص 318 - 319، والمصباح: ج 2، ص 513.

498

 

 

 

 

 

 

قاعدة (لا ضرر)

 

ثمّ إنّ الشيخ الأعظم (قدس سره) دخل بهذه المناسبة في مبحث قاعدة لا ضرر. ونحن ـ أيضاً ـ نتبعه في ذلك فنقول: إنّ الكلام في قاعدة (لا ضرر) يقع في عدّة مقامات:

 

روايات (لا ضرر)

 

المقام الأوّل: في الكلام في روايات لا ضرر من ناحية السند وإثبات الصدور، وقد وردت في المقام روايات كثيرة أهمّها يرجع الى ثلاث طوائف، والكلام في الباقي يظهر من خلال كلامنا في هذه الطوائف:

الطائفة الاُولى: الأخبار الواردة في قصّة سمرة بن جندب، وهي ثلاثة:

1 ـ ما ذكره الصدوق في الفقيه عن محمد بن موسى بن المتوكّل، عن علي بن الحسين السعد آبادي، عن أحمد بن محمد بن خالد البرقي، عن أبيه، عن الحسن بن زياد الصيقل، عن أبي عبيدة الحذّاء، وليس فيه ذكر لكبرى قاعدة (لا ضرر)، وإنّما ذكر فيه الصغرى بقوله (صلى الله عليه وآله): «ما أراك يا سمرة إلّا مضارّاً، اذهب يا فلان فاقلعها واضرب بها وجهه»(1)

2 ـ ما في الكافي والفقيه عن ابن بكير، عن زرارة وفيه: «اذهب فاقلعها وارم بها إليه، فإنّه لا ضرر ولا ضرار»(2).


(1) الوسائل: ج17، ب12من إحياءالموات ح1، ص341، والفقيه: ج3، ح 208، ص59.

(2) الوسائل: ج 17، ب 12 من إحياء الموات، ح 3، ص 341، والكافي: ج 5 كتاب المعيشة، باب الضرار، ح 2، ص 292، والفقيه: ج 3، ح 648، ص 147.

499

3 ـ ما في الكافي عن ابن مسكان، عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام): «أنّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)قال لسمرة: إنّك رجل مضارّ. ولا ضرر ولا ضرار على مؤمن»(1).

الطائفة الثانية: الروايات الواردة في أقضية رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)فمن طريقنا ورد ذلك في خبرين كلاهما بسند واحد، وكلاهما ينتهيان الى عقبة بن خالد عن الصادق (عليه السلام)ففي أحدهما قال: «قضى رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) بين أهل البادية أنّه لا يمنع فضل ماء ليمنع به فضل كلاء، وقال: لا ضرر ولا ضرار»(2) وفي الآخر قال: « قضى رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)بالشفعة بين الشركاء في الارضين والمساكن وقال: لا ضرر ولا ضرار»(3).

ومن طريق العامّة ما روى أحمد بن حنبل عن عبادة بن صامت، وهي رواية تشتمل على جمل كثيرة من أقضية رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)، وفيها قضاؤه بحقّ الشفعة، وفيها قضاؤه بعدم منع فضل الماء ليمنع به فضل الكلاء، وفيها قضاؤه بأنّه لا ضرر ولا ضرار(4).

الطائفة الثالثة: المراسيل كمرسلة الصدوق (قدس سره) «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام»(5)، ومرسلة الشيخ الطوسي (قدس سره) في كتاب الشفعة «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام»، ومرسلته في كتاب البيع «لا ضرر ولا ضرار».

 

البحث السندي

وإثبات صدور شيء من أحاديث نفي الضرر يكون بأحد طرق عديدة تختلف


(1) الكافي: ج 5، كتاب المعيشة، باب الضرار، ح 8، ص 294.

(2) الوسائل: ج 17، ب 7 من إحياء الموات، ح 2، ص 333، والكافي: ج 5 باب الضرار، ح 6، ص 294.

(3) الوسائل: ج 17، ب 5 من الشفعة، ح 1، ص 319، والكافي: ج 5 كتاب المعيشة، باب الشفعة، ح 4، ص 280، والتهذيب: ج 7، ح 727، ص 164، وذيل الحديث ما يلي: وقال: «إذا ارّفت الارف وحدّت الحدود فلا شفعة» إلّا أنّ الصدوق نسب هذا الذيل الى الصادق (عليه السلام)، راجع الفقيه: ج 3، باب الشفعة، ح 154، ص 45.

(4) مسند أحمد: ج 1، ص 313، و ج 5، ص 327.

(5) الفقيه: ج 4، ح 777، ص 243، وفي ذيله: «فالإسلام يزيد المسلم خيراً ولا يزيده شرّاً».

500

الآثار والنتائج بالاختلاف في اختيار أيّ واحد منها.

الطريق الأوّل: تطبيق قوانين تصحيح الأسانيد، وبهذا الطريق لا يسلم شيء من هذه الروايات عدا الرواية الثانية من روايات الطائفة الاُولى.

أمّا الطائفة الثالثة: فهي ساقطة بالإرسال.

وأمّا الطائفة الثانية: فما كان منها شيعي السند فهو ينتهي الى عقبة بن خالد، ولم يثبت توثيقه، مع ما يوجد من الضعف فيما قبله أيضاً. وما كان منها سنّيّ السند فهو وإن كان ينتهي الى عبادة بن صامت، وربّما يقال في حقّه: إنّه من أجلّة الأصحاب ومن العلويين، إلّا أنّ الكلام في مَن قبله كأحمد بن حنبل.

وأمّا الطائفة الاُولى: فالرواية الثالثة منها مشتملة على الإرسال؛ لأنّه ينقلها علي بن محمد بن بندار عن أحمد بن أبي عبد اللّه، عن أبيه، عن بعض أصحابنا، عن ابن مسكان. وأمّا الرواية الاُولى منها فيوجد في سندها ثلاثة أشخاص غير ثابتي التوثيق: محمد بن موسى بن المتوكّل(1)، وعلي بن الحسين السعدآبادي، والحسن بن زياد الصيقل. ولا يكفي عندنا في مقام التوثيق كون محمد بن موسى، والسعدآبادي من مشايخ الإجازة، أو رواية أصحاب الإجماع عن السعد آبادي، والحسن بن الصيقل.

نعم، يوجد هنا طريق يصحّ الاعتماد عليه في توثيق السعدآبادي وهو: رواية الشيخ المحدّث الجليل جعفر بن قولويه عنه في كامل الزيارة مع ذكره في أوّله: أنّه لا يروي فيه إلّا عن الثقاة، فإنّ هذا الكلام وإن كان لا يظهر منه أزيد من توثيق الرواة الذين نقل عنهم مباشرة وابتداءً في الكتاب، لكن هذا المقدار يكفينا؛ لأنّه قد نقل عن السعدآبادي في الكتاب مباشرة وابتداءً.

ويوجد طريق آخر للتخلّص عن ضعف السند بمحمد بن موسى، والسعدآبادي وهو: نظرية التعويض؛ فلأنّه يوجد في هذا السند بعد هذين الشخصين البرقي، وقد ذكر الصدوق (رحمه الله) في مشيخته طريقاً صحيحاً له إليه، حيث إنّه ينقل كل ما يروي عنه بتوسط أبيه، ومحمد بن الحسن بن الوليد عن سعد بن عبد اللّه عن البرقي.


(1) قد يقال بوثاقة محمد بن موسى بن المتوكّل على أساس نقل ابن طاووس الاتفاق على وثاقته في فلاح السائل في الفصل التاسع عشر، ص 158.

501

إلّا أنّ الصحيح: أنّ نظرية التعويض لا تنطبق هنا؛ لأنّ الظاهر من كلام الصدوق (قدس سره) في مشيخته: «كلّ ما رويته في هذا الكتاب عن البرقي فقد رويته بسند كذا»، أنّه أراد ما نقله فيه ابتداءً عن البرقي مع حذف من قبله، فلا يشمل مثل هذا الحديث.

وعلى أيّ حال يكفي في سقوط السند عن الاعتبار عدم ثبوت وثاقة حسن بن زياد الصيقل الذي هو واقع بعد البرقي . فنظريّة التعويض لو طُبِّقت في المقام لا تغنينا عنه.

فلم يسلم من هذه الأخبار إلّا الرواية الثانية من روايات الطائفة الاُولى التي هي معتبرة سنداً.

ومن هنا ظهر عدم صحّة ما ذكره الشيخ الأعظم (رحمه الله): من أنّ أصحّ روايات الباب هي الرواية المشتملة على كلمة (على مؤمن).

ثمّ إنّه إن لم نعتمد في مقام إثبات الصدور إلّا على هذا الطريق الأوّل فسوف ينتج ذلك عدّة اُمور قد تختلف عنه الطرق الاُخرى في هذه الاُمور:

الأمر الأوّل: أنّنا لا نقع في مشكلة تهافت المتن؛ إذ لم يثبت عدا متن واحد هو لا ضرر ولا ضرار.

الامر الثاني: ما يترتّب على الأمر الأوّل من أنّه لتحديد جهات قاعدة (لا ضرر) يكفي تحديد مدلول هذه الصيغة المعينّة بغضّ النظر عن أيّ صيغة اُخرى.

الامر الثالث: أنّه إذا وقع تعارض بين دليل (لا ضرر) ودليل آخر عومل معه معاملة نصّ ظنّي ابتلى بالمعارض، لا معاملة نصّ قطعي ابتلى بالمعارض؛ لأنّه لم تثبت قاعدة (لا ضرر) إلّا بخبر الواحد.

الطريق الثاني: دعوى التواتر، وقد مضى منّا في بحث الإجماع المنقول: إنّ التواتر تارة يكون بلحاظ العامل الكمّي بأن ينظر الى عدّه روايات كثيرة بالرغم من عدم وجود وحدة بينها من حيث المعنى؛ كما لا توجد بينها وحدة في اللفظ والمعنى معاً، فيحصل الاطمئنان أو القطع بصدق بعضها؛ لاستبعاد كذب الجميع على كثرتها.

واُخرى يكون بلحاظ تدخّل العامل الكيفي أيضاً: وهو وحدة المصبّ لفظاً ومعنىً، وهو التواتر اللفظي. أو معنى فقط وهو التواتر المعنوي.

أمّا العامل الكمّي فتأثيره وحده في حصول القطع، أو الاطمئنان يحتاج الى أن تكون الروايات كثيرة جداً. وأمّا إذا تدخّلت وحدة المصبّ في المقام فحصول القطع

502

يكون بعدد أقلّ وبنحو أسرع جداً. إذا عرفت هذا قلنا:

إنّ التواتر الكمّي هنا غير موجود حتماً، فإنّ روايات الباب ليست كثيرة بتلك المرتبة من الكثرة كما هو واضح، وأمّا التواتر الكيفي فهنا تكون وحدة المصبّ ثابتة، فإنّ هذه الأخبار تجتمع في نفي الضرر، إلّا أنّ الإنصاف رغم ذلك عدم تماميّة التواتر الكيفي؛ لقلّة أفراد الروايات في المقام، فإنّ الطائفة الاُولى ثلاثة، واثنتان منها رواهما راو واحد وهو زرارة. والطائفة الثانية تكون الشيعيّة منها اثنتين بسند واحد وراو واحد وهو عقبة بن خالد، ورويت عن طريق السنّه عن عبد اللّه بن عباس وعبادة بن صامت، ورويت عن صحابيّ آخر ومرسلاً أيضاً. والطائفة الثالثة كلها مرسلة كالمراسيل التي مرّ ذكرها، وكإرسال العلاّمة في التذكرة لذلك، وكمرسلة مجمع البحرين. وهذا المقدار بهذا النحو لا يفيد الجزم أو الاطمئنان قطعاً.

نعم، يُمكن أنّ تضمّ الى ذلك شهرة هذه الرواية شهرة عظيمة جداً بين تمام المسلمين شيعة وسنّة منذ قرون كثيرة الى زماننا هذا؛ فلا يبعد دعوى التواتر والاطمئنان بهذا الاعتبار، وتميل نفسنا الى هذه الدعوى وإن كان في النفس شيء من هذه الدعوى.

ثمّ إنّ هذا الطريق إن تمّ وحده فأثره بلحاظ الأمر الأوّل من الاُمور الثلاثة الماضية هو عدم الوقوع في مشكلة تهافت المتن أيضاً، فإنّه إذا دار الأمر بين المطلق والمقيّد كقوله: «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام» ثبت ذات المطلق مهملاً عن الإطلاق والتقييد.

وإذا دار الأمر بين مقيّدين مختلفين كما في قيد (على مؤمن) وقيد (في الإسلام) ثبت ذات المطلق أيضاً. وهل يثبت أحد القيدين أو لا ؟ التحقيق هو: التفصيل بين ما إذا فرض التواتر كمّيّاً فيثبت، وما إذا فرض كيفيّاً بمعونة وحدة المصبّ فلا يثبت؛ لعدم وحدة المصبّ بلحاظ القيود.

وأمّا ما مضى من الشهرة فإن فرض أنّها تورث فقط الاطمئنان بصدور مضمون (لا ضرر)، لم يثبت أحد القيود. وإن فرض أنّها توجب انجبار إحدى الروايات ثبت أحد القيود على سبيل الإجمال.

وأمّا بلحاظ الأمر الثاني فإذا دار أمر المقدار الذي ثبت وصار اطمئنانيّاً بين الإطلاق والتقييد، أخذنا بالمقيّد تمسّكاً بالقدر المتيقّن، وإذا دار بين متباينين كدوران الأمر بين ما يستفاد منه النهي التكليفي مثلاً عن الإضرار، وما يستفاد منه

503

ارتفاع الحكم الشرعي مثلاً كوجوب الوضوء حينما يصير ضرريّاً، ثبت أحدهما إجمالاً، فإن وجد دليل يخالفهما معاً حصل التعارض، وإن كان الدليل يخالف أحدهما فقط كمخالفة إطلاق دليل وجوب الوضوء للمعنى الثاني، تعيّن الآخر.

وأمّا بلحاظ الأمر الثالث فالخبر هنا قطعيّ.

الطريق الثالث: أن تصحّح مرسلة الصدوق حيث نقل مرسلاً عن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) أنّه قال: «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام». وذلك بتقريب: أنّ الخبر المرسل إذا كان بلسان (قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)) مثلاً، لا بلسان (روي عن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله))، واحتملنا احتمالاً عقلائيّاً كون هذا النقل مستنداً الى التواتر أجرينا أصالة الحس في الأخبار الحاكمة بكون المُخبر أو ما يلازمه عادة محسوساً، فيثبت التواتر هنا تعبّداً؛ وذلك لأنّ احتمال كون هذا الحديث متواتراً في زمان الصدوق (رحمه الله) موجود أحتمالاً عقلائيّاً، وكيف لا وقد مضى منّا ميل النفس الى دعوى التواتر عندنا! فكيف لا نحتمل ثبوت التواتر عند الصدوق (رحمه الله)! وأنّ هذا الحديث النبوي كان متواتراً ـ عندئذ ـ وإن لم يصل إلينا بشكل التواتر بسبب أنّ الأخبار النبويّة المرويّة عن غير طُرق الأئمة(عليهم السلام) لم يكن البناء على كتبها وضبطها من قبل الإماميّة، وإنّما كانوا يهتمّون بكتابة ما يصدر عن الإمام (عليه السلام)؛ لكون النصوص النبويّة واضحة متواترة ـ يومئذ ـ كالقرآن، فلم يحسّ بحاجة الى كتبها. وهذا ما أدّى بالتدريج الى انطماس تلك الآثار النبويّة . فنحن حينما نرى نصّاً نبويّاً نقول: إنّ هذا مرسل لا عبرة به. وعليه فلا استبعاد في كون هذا الخبر في زمان الصدوق(رحمه الله) متواتراً.

وهذا الطريق إن تمّ وحده فأثره بلحاظ الأمر الأوّل هو: عدم الابتلاء ـ أيضاً ـ بتهافت المتن؛ لأنّه لا يثبت بذلك إلّا مرسلة الصدوق (رحمه الله). وأمّا باقي المراسيل كإرسال العلامة وصاحب مجمع البحرين فهي مذكورة في كتاب فقهي أو لغوي، فكان ناقلها بصدد الاستدلال على الفتوى، أو الاستشهاد في اللغة مثلاً، فليس للكلام ـ عندئذ ـ ظهور في التصدّي للنقل عن حسّ حتّى تجري أصالة الحسّ.

وأثره بلحاظ الأمر الثاني ـ أيضاً ـ هو: أن تحدّد جهات القاعدة عن طريق تحديد ما يستفاد من خصوص صيغة «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام».

وأثره بلحاظ الأمر الثالث هو:أنّ هذاالخبرظنّي لاقطعيّ؛لأنّه ثبت بالتواتر تعبّداً.

والتحقيق: عدم تماميّة هذا الطريق، فإنّنا وإن كنّا نحتمل عقلائيّاً تواتر رواية (لاضرر ولا ضرار) في ذلك العصر، لكنّنا لا نحتمل تواتر هذه الصيغة المشتملة على كلمة (في الإسلام)؛ لعدم وجود أيّ عين أو أثر عنها في كتب الأخبار الشيعيّة والسنيّة معاً، خصوصاً أنّ الصدوق (رحمه الله)كان ينظر بالخصوص الى كلمة (في الإسلام)،

504

حيث كان بصدد أنّ الإسلام لا يوجب الإضرار بعدم إرث المسلم من الكافر.

هذا. مضافاً الى بعض الموهنات لحسّيّة هذا النقل من الصدوق من قبيل كون الصدوق ناقلاً كثيراً بلسان قال الصادق، أو قال رسول اللّه لأخبار نقطع بعدم تواترها، وأنّه عطف في المقام على هذا الحديث حديثين آخرين نقلهما عن النبي (صلى الله عليه وآله)وهما قوله: «الإسلام يزيد ولا ينقص» أو قوله: «الإسلام يعلو ولا يعلى عليه» مع وضوح عدم تواترهما أو عدم تواتر الأوّل منهما، مضافاً الى أنّه (قدس سره)تقمّص حين نقله لهذا الخبر قميص الفقيه، فأخذ يستدلّ على إرث المسلم للكافر بهذه الأخبار. فليس في كلامه ظهور في النقل عن الحسّ.

الطريق الرابع: إثبات التواتر بنقل فخر المحقّقين في الإيضاح وهو لم ينقل صيغة معينة، بل أشار الى رواية القاعدة، وأدّعى تواترها. وبما أنّنا نحتمل تواترها وقتئذ، فيثبت التواتر تعبّداً بهذا النقل، فإنّ من المحتمل أنّ هذا الخبر كان مذكوراً في الاُصول، والكتب الأصليّة التي تركت وانعدمت بطغيان الكتب الأربعة عليها، وكان ـ وقتئذ ـ بالغاً الى درجة التواتر، ولو لم يكن الآن كذلك.

إلّا أنّ تصريح فخر المحقّقين (رحمه الله) بالتواتر لا يثبت لنا أزيد من شهرة الرواية الى درجة قد يكون تواتراً في بعض الأنظار. وهذا ما يكون ثابتاً عندنا، كيف وقد مضى منّا أنّه تميل النفس الى دعوى التواتر. فالمقدار الذي يثبت بهذا النقل ليس بأزيد من المقدار الثابت وجداناً.

نعم، لو لم يكن فخر المحقّقين حين نقله لهذا التواتر متقمّصاً قميص الفقيه والمستدلّ به، بل كان متقمّصاً قميص الرواي والمُخبِر لكان ظاهر كلامه هو الإخبار عمّا يعدّ تواتراً وموجباً للقطع لدى متعارف الناس . لكن الأمر ليس كذلك.

ثمّ لو تمّ هذا الطريق فآثاره هي آثار إثبات التواتر الإجمالي، إلّا أنّ الخبر يكون تعبّدياً لا وجدانياً؛ لأنّ التواتر ثبت بالتعبّد.

الطريق الخامس: التمسّك ببعض المباني الواسعة لإثبات حجيّة جملة كثيرة من أخبار الباب من قبيل دعوى حجيّة الأخبار المذكورة في الكتب المعتبرة المشهورة التي ليس عليها ردّ واضح من قبل الأصحاب ونحو ذلك، أو ما بنى عليه جملة من الأصحاب كالمحقّق النائيني وشيخ الشريعة (رحمهما الله) من تصحيح جملة كثيرة من تلك الأخبار بما عندهم من مسامحات في مبانيهم في تصحيح الأخبار من توثيق شيخ الإجازة، والاعتماد على الشهرة وغير ذلك ممّا لا نقبله نحن. وبناءً على هذا الطريق نقع في مسألة تهافت المتن، ونحتاج الى البحث عنه. ومن هنا ننتقل الى المقام الثاني.

505

 

 

 

التهافت في المتون

 

المقام الثاني: في البحث عن التهافت المتني الموجود في خبر نفي الضرر. والكلام في ذلك تارة يقع بلحاظ أخبار قصّة سمرة، واُخرى بلحاظ أخبار أقضية رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)، وثالثة بلحاظ المراسيل ونسبتها الى الطائفتين الاُوليين:

أمّا الكلام بلحاظ أخبار قصة سمرة فقد عرفت أنّ قصة سمرة وردت بثلاثة طرق:

الطريق الأوّل: ما اختصّ به من المشايخ الثلاثة قدّس سرّهم ثقة الإسلام الكليني (رحمه الله)وهو ما عن ابن مسكان، عن زرارة: «أنّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)قال لسمرة: إنّك رجل مضار، ولا ضرر ولا ضرار على مؤمن».

الطريق الثاني: ما اختصّ به الصدوق (رحمه الله) في الفقيه، وهو ما عن أبي عبيدة الحذّاء، وفيه: «ما أراك يا سمرة إلّا مضارّاً، اذهب يا فلان فاقلعها واضرب بها وجهه».

الطريق الثالث: ما عن ابن بكير عن زرارة. وهذا ما ذكره المشايخ الثلاثة كلهم: أمّا الكليني (قدس سره) في الكافي، والشيخ (رحمه الله) في التهذيب فقد ذكراه بهذا اللسان: «اذهب فاقلعها وارم بها إليه، فإنّه لا ضرر ولا ضرار»، وأمّا الصدوق (رحمه الله) فقد ذكره في كتاب المضاربة من دون ذكر فاء التفريع، حيث ذكر (رحمه الله) أنّه (صلى الله عليه وآله) أمر الانصاري أن يقلع النخلة فيلقيها إليه وقال: «لا ضرر ولا ضرار».

وهذه الوجوه من النقل توجد فيها ـ كما ترى ـ الزيادة والنقصان مع العلم بأنّ القصة واحدة، فيدور الأمر بين كون هذا مُزيداً أو ذاك مُنقِصاً، فنقول:

مهما دار الأمر بين الزيادة والنقصان فتارة يفرض أنّ ما نفهمه من أحد الخبرين لا يدلّ ما في الآخر من زيادة أو نقيصة على نفيه، واُخرى يفرض أنّ ما نفهمه من أحد الخبرين يدلّ ما في الخبر الآخر من زيادة أو نقيصة على نفيه، وثالثة يفرض أنّنا نشكّ في أنّ المستفاد من الخبر الآخر بما فيه من زيادة أو نقيصة هل ينافي ما نفهمه من الخبر الأوّل أو لا؟

506

أمّا الفرض الأوّل: فهو خارج عن مسألة التعارض بين أصالة عدم الزيادة وأصالة عدم النقيصة؛ إذ لا يظهر من كلّ من الخبرين شيء ينافي ما في الآخر من الزيادة أو النقيصة بعد فرض عدم الإخلال بما فهم من الكلام.

وأمّا الفرض الثاني: فهو مورد تعارض أصالة عدم الزيادة وأصالة عدم النقيصة، فإنّ ظاهر حال الراوي هو أ نّه لا يزيد ولا ينقص شيئاً مغيِّراً للمعنى، وإلّا كان خائناً في النقل، فالمُنقِص يشهد بظاهر كلامه بعدم وجود قرينة زائدة، كما يشهد المُزيد بوجودها.

وأمّا الفرض الثالث: فهو ـ أيضاً ـ خارج عن مورد تعارض أصالة عدم الزيادة وأصالة عدم النقصان، فإنّ الخبر الذي نفهم معناه نأخذ به، والخبر الذي نشكّ في كونه منافياً في المعنى للأوّل لا يضرّنا شيئاً؛ لأنّ المفروض هو الشكّ في كونه معارضاً له وعدمه، فالخبر الأوّل لم يصلنا ابتلاؤه بالمعارض فنأخذ به. إذا عرفت هذا فنقول:

إنّه قد يتراءى ـ فيما نحن فيه ـ التهافت في المتن بعدّة وجوه:

الوجه الأوّل: عدم وجود جملة (لا ضرر رأساً) في رواية الحذّاء، بخلاف باقي الروايات.

وهذا الوجه حلّه: هو أنّ هذه الزيادة الموجودة في باقي الروايات المفقودة في رواية الحذّاء لا تؤثّر أبداً في معنى المقدار الموجود في رواية الحذّاء، فلعلّ الراوي لم يكن يقصد نقل أزيد ممّا نقله، وليست في كلامه شهادة بعدم هذه الزيادة، فهذا داخل في الفرض الأوّل الذي قلنا فيه: إنّه لا يرتبط بمسألة التعارض بين أصالة عدم الزيادة وأصالة عدم النقيصة.

الوجه الثاني: أنّ حديث ابن بكير عن زرارة نَقَلَه الشيخ والكليني (قدس سرهما)مع فاء التعليل حيث قال: «اذهب فاقلعها وارم بها إليه، فإنّه لا ضرر ولا ضرار» فهذا صريح في كون ذلك تعليلاً للأمر بالقلع، وهذا بخلاف نقل الصدوق، فيحتمل فيه كونه تعليلاً فقط للحكم التكليفي الذي وجّهه الى سمرة.

إلّا أنّ هذا ـ أيضاً ـ ليس تهافتاً، فإنّ الثاني ـ أيضاً ـ ظاهر في التعليل لمسألة القلع، غاية الأمر أنّ الأوّل صريح وهذا ظاهر، والراوي لا يتكفّل بالتحفّظ على قوّة الظهور، فهذا ـ أيضاً ـ داخل في الفرض الأوّل الذي قلنا فيه: إنّه لا يرتبط بمسألة التعارض بين أصالة عدم الزيادة وأصالة عدم النقيصة.

507

بل لو فرض عدم دلالة الثاني على ارتباط القاعدة بمسألة القلع رأساً فأيضاً لا تهافت بين النقلين؛ لأنّه ليس ظاهراً فى الخلاف أيضاً.

وإنّي أظنّ أنّ الصحيح: هو مانقله الشيخ والكليني، وأنّ حذف الفاء في نقل الصدوق يكون من ناحية أنّه (رحمه الله) لم يروِ بلسان نقل الكلام بأن يقول: «قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): اذهب فاقلع» كما في رواية الشيخ والكليني، وإنّما روى بلسان نقل الفعل حيث قال: «أمر رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)الأنصاري بالقلع» فلم يكن يمكن ربط نفي الضرر به بكلمة (فإنّه).

الوجه الثالث: أنّ جملة (لا ضرر ولا ضرار) في رواية ابن مسكان عن زرارة إنّما خوطب بها سمرة بعد قوله: «إنّك رجل مضارّ»، وإذا كان هكذا فهو غير مرتبط بمسألة القلع.

والجواب: أنّه يحتمل صدور هذه الجملة منه (صلى الله عليه وآله) مرّتين: إحداهما لسمرة كما في هذا الحديث، والاُخرى للرجل الأنصاري كما في رواية ابن بكير عن زرارة.

الوجه الرابع: زيادة كلمة (على مؤمن) في رواية ابن مسكان عن زرارة.

ويمكن أن يجاب عن ذلك بما سبق: من أنّه يحتمل أنّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) ذكر هذه الجملة مرتين: مرّة لسمرة مع زيادة (على مؤمن)، ومرّة اُخرى للأنصاري بدون هذه الزيادة.

وقد يمكن أن يقال: إنّ ذكر جملة (لا ضرر ولا ضرار) في وقتين متقاربين لشخصين في قصّة واحدة يوجب في نظر العرف ظهوراً في كون المقصود منهما شيئاً واحداً، فكلمة (على مؤمن) وإن كانت موجودة في المرّة الاُولى دون الثانية، ولكنّها بناءً على تأثيرها في المعنى قد تؤثّر في معنى الجملة الثانية أيضاً.

فلو قلنا: إنّ كلمة (على مؤمن) تجعل الجملة ظاهرة في مجرّد الحرمة التكليفيّة مثلاً في حين أنّ جملة (لا ضرر ولا ضرار) من دون هذه الكلمة ليس مفادها كذلك، وفرضنا صحّة الاحتمال الذي أبديناه الآن من أنّ الظاهر من السياق كون المراد من (لا ضرر) في المرتين واحداً، ثبت التهافت بين النقل المشتمل على كملة (على مؤمن) والنقل غير المشتمل عليه .

أمّا لو أنكرنا تأثير كلمة (على مؤمن) في المعنى، أو شككنا في ذلك، أو أنكرنا الظهور السياقي المشار إليه، أو شككنا في ذلك، فلا يثبت التهافت.