433

الظاهريّة ناشئة من ملاكات الأحكام الواقعيّة على تفصيل مضى في محله.

وأمّا على مبنى المشهور من عدم التنافي بين الأحكام الظاهريّة بوجوداتها الواقعيّة؛ لكونها ناشئة من ملاكات في أنفسها فلا يقع التعارض بين أدلّتها، وإنّما يكون التنافي بينها بعد الوصول بلحاظ التنجيز والتعذير، فلا يتمّ هذا الوجه؛ إذ لا مانع ـ عندئذ ـ من التمسّك بدليل البراءة لعدم المنافاة بين البراءة وما يحتمل من وجود حكم ظاهري آخر على خلافها بلحاظ وجود خبر ثقة على الخلاف.

لا يقال: إنّ مقتضى ما ذكرتموه من المبنى عدم التمسّك بالأصل حتّى بعد الفحص؛ لاحتمال ورود خبر لم يصل، أو صدور كلام من الإمام (عليه السلام) ظاهر في حكم إلزامي ولم يصل ذلك الكلام.

فإنّه يقال: إنّ أدلّة حجّيّة خبر الثقة كبناء العقلاء وكقوله: «ما أدّيا إليك عني ...» لا تشمل ما ليس في معرض الوصول.

وكذلك الحال في دليل حجّيّة الظهور، فهو لا يشمل ظهوراً ليس في معرض الوصول؛ لأنّه مضى منّا فيما سبق بيان أنّ حجّيّة ظهور كلام الشارع إنّما تثبت بالنهاية بعمل أصحاب الأئمة (عليهم السلام)، وهذا لا يثبت أزيد من حجّيّة ظهور في معرض الوصول(1).

 


(1) بل الصحيح: أنّ دليل حجّيّة الأمارة لا يشمل إلّا الأمارة الواصلة بالفعل، فالارتكاز العقلائي مختصّ بالأمارة الواصلة. وقوله عليه السلام: «ما أدّيا إليك عنّي ...» لا يشمل عدا ما وصل، وقوله تعالى: ﴿إن جاءكم فاسق بنبأ﴾(1) يدلّ مثلاً على أنّه إن جاءكم عادل بنبأ، أي: إن وصلكم نبأ العادل لم يجب التبيّن، وقوله عليه السلام: «خذ عنه معالم دينك» لا يدلّ على أكثر من حجّيّة ما أخذ، وإنّما يجب الأخذ منه ـ بالرغم من أنّه قبل الأخذ لم يتمّ الوصول ـ لتماميّة تنجيز الواقع بالعلم الإجمالي، أو بالشكّ قبل الفحص، أو بمجرّد الاحتمال، فلابدّ لنا ـ تحصيلاً للأمن والفراغ ـ من الرجوع والأخذ من الثقة؛ لكي يتمّ وصول الأمن، فيصبح حجّة بالوصول، ويتحقّق بذلك لنا الأمن عمّا تنجّز علينا، وكذلك ارتكاز الفحص عن الأمارة المحتملة التي هي في معرض الوصول يكون من باب وجود منجّز سابق نفحص عن تأمين من قبله، لا من باب حجّيّة الأمارة التي هي في معرض الوصول، وسائر العناوين المأخوذة في الأدلّة


(1) س 49، الحجرات، آية 6.

434

هذا. ولكنّ الصحيح: أنّه حتّى على مبنانا من تنافي الأحكام الظاهريّة بوجوداتها الواقعيّة يمكن التمسّك بالأصل قبل الفحص بعد غضّ النظر عن الوجوه الاُخرى، وذلك إمّا بإجراء البراءة عن الواقع بعد نفي قيام الحجّة بالاستصحاب، فيحرز جزء من موضوع البراءة، وهو الشكّ بالوجدان، والجزء الآخر وهو عدم قيام الحجّة بالاستصحاب، وهذا ما يجري في كثير من موارد التمسّك بالعام في الشبهة المصداقيّة، وذلك إذا كان عنوان المخصّص مسبوقاً بالعدم. وإمّا بإجراء البراءة عن الحجّيّة، وهذا ـ أعني استصحاب عدم الحجّيّة أو البراءة عنها ـ حكم ظاهري في طول الحكم الظاهري الثابت بحجّيّة الأمارة، ونسبته إليه كنسبة الحكم الظاهري الى الواقعي، فلا منافاة بينهما، وهذه البراءة تؤمّن عن الواقع في المرتبة الثانية.

إذن فيجب أن يكون تتميم هذا الوجه بالعلم الإجمالي بوجود أخبار ثقات المانع عن إجراء استصحاب العدم، أو البراءة عن الحجّيّة.

وهذا العلم الإجمالي يتمسّك به ـ أيضاً ـ ابتداءً للمنع عن جريان البراءة عن الواقع وسنذكره ـ إن شاء اللّه ـ في الوجه السادس، إلّا أنّه إذا جعل العلم الإجمالي تتميماً لهذا الوجه نتوصّل بذلك الى بعض مزايا ونكات غير موجودة في فرض جعله وجهاً مستقّلاً كما سيظهر ـ إن شاء اللّه ـ في الوجه السادس.

الوجه السادس: العلم الإجمالي قبل الفحص بوجود الواقعيّات الإلزاميّةضمن أخبارالثقات(1)، أو العلم الإجمالي بوجود أخبار حُجّة ضمن الأخبار، وهي


اللفظيّة من أدلّة الحجّيّة ـ أيضاً ـ لا إطلاق لها لغير الواصل بالفعل، وبذلك ينهار هذا الوجه الخامس.

نعم، يكفي الوصول بالعلم الإجمالي، وهو ثابت في الأخبار، لا أنّ هذا رجوع الى الوجه السادس، والشاهد على ما نقول من أنّ الدليل ليس له إطلاق للأمارة الواصلة: أنّه حينما يدلّ دليل خاصّ في مورد على عدم وجوب الفحص ـ ولو بأقلّ الدرجات كما في باب الطهارة والنجاسة ـ لا نحسّ بكون ذلك معارضاً ومقيّداً لدليل حجّيّة الأمارة، باعتباره يمنع عن حجّيّة أمارة في معرض الوصول غير واصلة بالفعل؛ لعدم الفحص ولو بأقلّ درجات الفحص، كما لو كان أمامنا عدلان نحتمل أنّنا لو استفسرناهما عن حال هذا الثوب لشهدا بالنجاسة.

(1) لا يخفى أنّ المناسب من الناحية الفنيّة البيانيّة الآن إنّما هو إبراز العلم الإجمالي الكبيركما هو كذلك في لسان الأصحاب، بأن يقال:إنّ العلم الإجمالي بوجودالإلزامات الواقعيّة ضمن

435

أخبار الثقات، فهذا العلم الإجمالي بأيّ واحد من تقريبيه يمنع عن إجراء الاُصول؛ لوقوع التعارض بينها.

والاعتراض على هذا يكون باُمور:

الأمر الأوّل: هو الاعتراض المشهور: وهو أنّ التمسّك بتنجيز العلم الإجمالي إن تمّ فكما يُبطل التمسّك بالأصل قبل الفحص كذلك يبطل التمسّك به بعد الفحص؛ لأنّ العلم الإجمالي ليس بلحاظ ما هو في معرض الوصول من أخبار الثقات فحسب حتّى لا يبقى مانع عن الرجوع الى البراءة في غير موارد أخبار الثقات بعد الفحص عن تلك الموارد، بل لدينا ـ أيضاً ـ علم إجمالي بإلزامات واقعيّة ضمن دائرة مطلق الشبهات، أو على الأقلّ ضمن دائرة مطلق الأمارات الحجّة وغير الحجّة، وهذا لا يعالجه تحصيل أخبار الثقات، ففرض التمسّك بالأصل بعد الفحص يساوق فرض دفع إشكال تنجيز العلوم الإجماليّة في المقام بوجه من الوجوه، فالاُصوليّ الذي حلّ مشكلة العلم الإجمالي في بحثه مع الأخباريين في البراءة والاحتياط كيف يتمسّك في المقام بالعلم الإجمالي لنفي البراءة قبل الفحص؟!

أمّا الجواب عن ذلك: بأنّ العلم الإجمالي الكبير ينحلّ بالظفر بأخبار الثقات فيمكن الإيراد عليه: بأنّ هذا عبارة عن وجدان منجّز لبعض أطراف العلم الإجمالي بعد تكوّنه وتساقط الاُصول بالتعارض، وهذا لا يوجب انحلال العلم الإجمالي ورجوع الأصل بعد سقوطه بالتعارض.

وخلاصة الكلام: أنّ موقف الاُصوليّ في مقابل الأخباري في مسألة البراءة والاحتياط بعد الفحص يبدو غير منسجم مع موقف الاُصولي فيما نحن فيه، أعني مسألة الاحتياط قبل الفحص.

 

 


دائرة الشبهات، أو الأخبار الحجّة ضمن تلك الدائرة، هو الذي أوجب الاحتياط قبل الفحص دون إبراز العلم الإجمالي الصغير، فإنّ هذا العلم الإجمالي الصغير وهو العلم بالألزاميّات الواقعيّة ضمن أخبار الثقات، أو بالأخبار الحجّة ضمن الأخبار إنّما يسقط الاُصول حتّى في غير موارد أخبار الثقات، أو في غير موارد الأخبار، من باب أنّ أخبار الثقات، أو الأخبار الحجّة غير متعيّنة المورد قبل الفحص وتكون مواردها مردّدة ضمن موارد كل الشبهات، وهذا يعني في الحقيقة التحوّل الى التمسّك بالعلم الكبير، وإنّما ينبغي إبراز العلم الصغير في مقام بيان انحلال العلم الكبير الموجب لجريان البراءة بعد الفحص.

436

ولحلّ هذا التهافت نستعرض عدّة مواقف للاُصوليّ في مقام إبطال شبهة الاحتياط بعد الفحص؛ لكي يتّضح انسجامها مع موقفه في مسألة الاحتياط قبل الفحص.

الموقف الأوّل: هو أنّنا لا ندّعي انحلال العلم الإجمالي الكبير بما نظفر به من أخبار الثقات، بل ندّعي انحلاله بالعلم الإجمالي الصغير بالتكاليف الواقعيّة في ضمن أخبار الثقات، أو بالعلم الإجمالي بوجود أخبار حُجّة، وهي أخبار الثقات ضمن مطلق الأخبار، وهذا العلم الإجمالي مقارن زماناً للعلم الإجمالى الكبير(1).

وهذا الموقف ينسجم تمام الانسجام مع موقف الاُصولي هنا؛ لأنّه أجاب هناك عن العلم الكبير المقتضي للاحتياط حتّى بعد الفحص: بانحلاله بالعلم الصغير، وهنا تمسّك بالعلم الصغير لإيجاب الاحتياط قبل الفحص.

إلّا أنّ هذا الموقف في نفسه لم يكن موقفاً صحيحاً.

فإنّه إن اُريد حلّ العلم الكبير انحلالاً حقيقياً بالعلم الصغير في دائرة أخبار الثقات، فهنا علم صغير ـ أيضاً ـ في دائرة الشهرات مثلاً، وكذا في دوائر اُخرى، ولا وجه لانحلال العلم الكبير ببعضها دون بعض، أو قل: إنّنا نعلم إجمالاً بتكاليف مائة في مادّة الاجتماع بين الشهرات وأخبار الثقات، أو مائتين في مادّتي الافتراق مثلاً على ما مضى شرحه وتنقيحه في محله.

وإن اُريد حلّ العلم الكبير بفرض علم صغير بالحجّة في دائرة الأخبار؛ لإيقاع التعارض بين الأصل في بعض موارد الخبر بالأصل في البعض الآخر، فكون الأصل في مورد الخبر الذي هو مورد للشهرة ـ أيضاً ـ معارضاً بالأصل في مورد الخبر الذي


(1) والعلم الإجمالي بالتكاليف الواقعيّة ضمن ما في معرض الوصول من أخبار الثقات يحلّ الإشكال حتّى لو لم يفرض مقارناً للعلم الإجمالي الكبير؛ وذلك لأنّه يوجب الانحلال الحقيقي، لا الانحلال بملاك تعلّق المنجّز التعبّدي ببعض أطراف العلم الإجمالي، ولا أثر لتقارنه للعلم الإجمالي الكبير في المقام؛ لأنّه رغم التقارن لا يتصوّر الانحلال، إلّا في فترة متأخّرة، أي: بعد تعارض الاُصول في أطراف العلم الكبير وتساقطها؛ لأنّ العلم الصغير ما دامت أطرافه مردّدة ضمن أطراف العلم الكبير يستحيل إفناؤه للعلم الكبير، وإنّما يفنيه بعد الفحص بمقدار تمتاز أطرافه عن سائر أطراف العلم الكبير. وسوف نوضّح ذلك أكثر في تعليقنا في التنبيه الرابع من التنبيهات الآتية في نهاية هذا البحث.

437

هو مادّة الافتراق للخبر عن الشهرة ليس بأولى من كونه معارضاً بالأصل في مورد الافتراق من الشهرة، فيتساقط الجميع في عرض واحد(1).


(1) لا يخفى أنّه لو فرض التعارض بين الاُصول في مورد الأخبار للعلم الإجمالي بكون بعضها أخبار ثقات، والتساقط بعد تحصيل موارد تلك الأخبار، وقبل معرفة ما يكون منها من الثقات، فهذه الحالة متأخّرة عن العلم الإجمالي الكبير، وتكون ملحقة بفرض تأخّر المنجّز لبعض الأطراف عن العلم الإجمالي، ولو كانت كافية لحلّ العلم الكبير رغم تأخّرها عن العلم الكبير فلِمَ لا نقول: إنّ العثور على أخبار الثقات بعد الفحص الكامل يحلّ العلم الإجمالي الكبير؟! ولا يرد عليه ـ عندئذ ـ إشكال النقض بالمعارضة بالأصل في مورد الافتراق من الشهرة.

وبكلمة اُخرى: أنّ المفروض في شبهة التنافي بين موقفي الاُصولي أنّ المنجّز المتأخّر إن لم يكن ممّا يحلّ العلم الإجمالي حلاًّ حقيقيّاً فهو لا يحلّه حلاًّ حكميّاً، فكيف يأتي توهّم الانحلال هنا حتّى يجاب عنه بما في المتن؟!

ولو فرض التعارض بين تلك الاُصول قبل العثور على موارد تلك الأخبار، فالتعارض ـ آنئذ ـ لا يختصّ بالاُصول التي هي في موارد تلك الأخبار، بل يشمل كلّ أطراف العلم الكبير التي نحتمل ورود الخبر فيها.

والأولى من الناحية الفنيّة في بيان مواقف الاُصولي في مسألة البراءة بعد الفحص: هو أن يقتصر في بيان الموقف الأوّل على دعوى الانحلال الحقيقي للعلم الكبير بالإلزاميّات في الواقع بالعلم الإجمالي الصغير بوجود إلزامات واقعيّة ضمن أخبار الثقات، والانحلال الحقيقي للعلم الكبير بوجود أخبار حُجّة ضمن الشبهات بالعلم بوجود أخبار حُجّة ضمن الأخبار، ويقال: إنّ هذا الموقف منسجم تماماً مع الموقف في مسألة الاحتياط قبل الفحص، فإنّ العلم الصغير يوجب من ناحية الفحص عن تلك الأخبار والاحتياط قبل الفحص، ومن ناحية اُخرى انحلال العلم الكبير، وهذا الانحلال يتمّ حتّى لو فرض هذا العلم الصغير غير مقارن للعلم الكبير ومتأخّراً عنه؛ لأنّ الانحلال الحقيقي للعلم الكبير بالعلم الصغير غير مشروط بالتقارن. ثمّ يذكر موقف آخر للاُصولي في مسألة البراءة بعد الفحص: وهو دعوى الانحلال الحكمي للعلم الكبير بنفس أخبار الثقات الحجّة؛ لأنّها تمنع عن جريان الأصل في موردها منذ البدء حتّى على القول بعدم تعارض الأحكام الظاهريّة قبل الوصول، وعدم حكومة أخبار الثقات على الأصل قبل وصولها؛ وذلك لأنّ أخبار الثقات قد وصلتنا مقارنةً للعلم الكبير ولو وصولاً إجماليّاً، والوصول بالعلم الإجمالي كاف فى التنجيز الموجب لوقوع المعارضة بين الأحكام الظاهريّة المتنافية، فهذا الموقف يبرّر رأي الاُصولي في باب البراءة بعد الفحص، ولا ينافي في نفس الوقت رأيه بالاحتياط قبل الفحص.

438

الموقف الثاني: ما سلكه المحقّق العراقي (قدس سره)(1) والسيّدالاُستاذ (2)، وهو أنّ الاُصول لم تكن متساقطة بالتعارض، بل كانت غير جارية بنفسها لمنجّزيّة الاحتمال قبل الفحص على فرق بين كلام المحقّق العراقي والسيّد الاُستاذ، فالمحقّق العراقي ذكر احتمال وجود خبر الثقة وقال: إنّ هذا منجّز قبل الفحص. والسيّد الاُستاذ ذكر احتمال الواقع، وقال: إنّه منجّز قبل الفحص. وروح المطلب واحد، وهو أنّ الاحتمال قبل الفحص ليس مجرىً للبراءة، بل هو منجّز، وفي كلّ مورد فحصنا ولم نجد خبر ثقة نجري في خصوص ذلك المورد البراءة، ولا معارض لها الى أن نفحص عن تمام الموارد، فنجري البراءة عن التكليف في خصوص الموارد التي ليس فيها خبر ثقة، ولا معارض لهذه البراءة.

وهذا الكلام متين، إلّا أنّ معنى ذلك: هو الاعتماد في إبطال البراءة قبل الفحص على وجه آخر غير العلم الإجمالي.

فالمحقّق العراقي (قدس سره) الذي لم يذكر في المقام أيّ وجه لعدم جريان البراءة قبل الفحص عدا العلم الإجمالي، لا ينسجم موقفه في المسألة الاُولى في مقابل الأخباري مع موقفه فيمانحن فيه؛ لاقتصاره في نفي البراءة قبل الفحص على مسألة العلم الإجمالي، وهذا يعني أنّه بغض النظر عن العلم الإجمالي لا مانع عن إجراء البراءة قبل الفحص، وعليه فيرجع إشكال الأخباري في مبحث البراءة والاشتغال


وبالإمكان أن يدمج هذا الموقف مع ما سيأتي في المتن من الموقف الثالث، فيقال: إنّ الاُصول المؤمّنة في مورد أخبار الثقات غير جارية ابتداءً إمّا للقول بأنّ التنافي بين الأحكام الظاهريّة ثابت قبل الوصول، أو لأنّ أخبار الثقات الحجّة واصلة منذ البدء وصولاً إجماليّاً.

أمّا لو قلنا بأنّ الأخبار الحجّة غير واصلة إلينا في أوّل أزمان العلم الكبير؛ لأنّ العلم الكبير ثابت في بدء بلوغ المكلّف، وفي بدء البلوغ قد لا يعلم المكلّف بوجود أخبار حجّة، بل يحتمل الانسداد مثلاً، فالأولى ـ عندئذ ـ أن يحذف هذا المقطع، ويقتصر في الموقف الأوّل على ذكر الانحلال الحقيقي، وفي الموقف الثالث على ذكر أنّ أخبار الثقات منعت عن جريان الاُصول في موردها منذ البدء؛ لأنّ الأحكام الظاهريّة تتعارض فيما بينها حتّى قبل الوصول.

(1) لم أرَ ذلك في كلمات المحقّق العراقي (رحمه الله)، بل هو يرى أنّ دليل البراءة الشرعيّة يشمل ما قبل الفحص ما لم يمنع عنه مانع كالعلم الإجمالي. راجع المقالات: ج 2، ص 108، ونهاية الأفكار: القسم الثاني من الجزء الثالث، ص 469.

(2) راجع مصباح الاُصول: ج 2، ص 493.

439

الى حاله؛ لأنّ الاُصول تجري وتتعارض وتتساقط، فيقال: إنّها لا ترجع بعد الظفر بمنجِّز في بعض الأطراف.

الموقف الثالث: هو أنّ الاُصول المؤمّنة عن الواقع ابتداءً ليست متعارضة؛ وذلك بناءً على مبنانا من وقوع التنافي بين الأحكام الظاهريّة حتّى قبل وصولها، فخبر الثقة الذي هو في معرض الوصول مقدّم في مورده على الأصل، فالاُصول في غير مورد أخبار الثقات ليست مبتلاة بالمعارض. نعم، لا يمكن الأخذ بها من باب اشتباه الحجّة باللاحجّة، ولا يمكن الرجوع الى استصحاب عدم خبر الثقة، أو البراءة عن الحجّية؛ لوقوع التعارض بين هذه الاُصول التي هي في طول الحكم الظاهري بحجّيّة خبر الثقة بالعلم الإجمالي بوجود أخبار ثقات، وبعد الفحص والظفر بموارد أخبار الثقات، وموارد عدم ورود خبر ثقة نتمسّك في المورد الذي لم يرد خبر ثقة بالأصل المؤمّن عن الواقع ابتداءً، ولم يكن هذا الأصل ساقطاً من أوّل الأمر، إلّا أنّنا لم نكن نعرف مورده ثمّ عرفناه، فينسجم موقفنا هناك مع موقفنا هنا تمام الانسجام.

وما ذكرناه هنا إحدى نتائج مبنانا من المنافاة بين الحكمين الظاهريين قبل الوصول(1).

الأمر الثاني: هو الاعتراض المشهور ـ أيضاً ـ المذكور في الكفاية(2): وهو أنّ الاستدلال بالعلم الإجمالي لا يفي بإثبات تمام المدّعى؛ لأنّه ينحلّ بالظفر بمقدار المعلوم بالإجمال، فيلزم عدم وجوب الفحص في الباقي.

وحاول المحقّق النائيني (قدس سره)(3) دفع هذا الإشكال، وإثبات عدم انحلال العلم الإجمالي، وإيجابه للفحص بالنسبة الى تمام المسائل. وبإمكانك أن تعرف تلك المحاولة بمطالعة تقرير بحثه.

وبطلانها واضح، فلا ندخل في البحث عن ذلك. ونقول: إنّ هذا الإشكال


(1) أي أنّ هذا أحد امتيازات جعل العلم الإجمالي بوجود الأمارات المعتبرة متمّماً للوجه الخامس؛ لاسقاط البراءة قبل الفحص، لا وجهاً مستقلاًّ لذلك والتي سبقت الإشارة إليها في آخر بحث الوجه الخامس معتمدين في توضيحها على بحث الوجه السادس.

(2) راجع الكفاية: ج 2، ص 256 بحسب الطبعة المشتملة على تعليقة المشكيني.

(3) راجع فوائد الاُصول: ج 4، ص 279 ـ 280 بحسب طبعة جامعة المدرسين، قم، وراجع أجود التقريرات: ج 2، ص 328 ـ 329.

440

متين في الجملة بناءً على تسليم مبنى انحلال العلم الإجمالي المتقدّم بالمنجّز المتأخّر، ولا يبقى العلم الإجمالي الى الأخير، فليس الدليل وافياً بتمام المدّعى على هذا المبنى.

نعم، بإمكاننا أن نمدّد عمر هذا العلم الإجمالي في الجملة ببيان: أنّه إذا علمنا بمائة تكليف مثلاً في تمام الفقه، ثمّ طالعنا الفقه الى نصفه فوجدنا مائة تكليف، فإنّه سوف لا ينحلّ العلم الإجمالي بذلك؛ لأنّنا كنّا نعلم بوجود مائة منتشرة في تمام الفقه، ولا نحتمل خلوّ أبواب النصف الأخير من الفقه مثلاً من الحكم الإلزامي، نعم إذا فحصنا بنحو وبمقدار لا نعلم إجمالاً بوجود تكليف إلزامي في الباقي يأتي هذا الإشكال بناءً على ذلك المبنى(1).

الأمر الثالث: أنّه إذا وجد في بعض الأطراف أصل غير مسانخ لباقي الاُصول، وكان ما عداه مبتلى بالمعارض المسانخ، فهذا العلم الإجمالي لا يؤثّر في إسقاط ذلك الأصل عن الحجّية بناءً على ما مضى في بحث الملاقي من أنّ الأصل المسانخ يبتلى بالإجمال، ويبقى الأصل غير المسانخ سليماً عن المعارض، فمثلاً بناءً على القول بأصالة الطهارة في الشبهة الحكميّة، إذا شُكّ في طهارة شيء بنحو الشبهة الحكميّة، فأصالة الإباحة فيه معارضة بأصالة الإباحة في بقية الشبهات مثلاً، وتجري فيه أصالة الطهارة من دون معارض؛ لأنّ بقيّة الاُصول كأصالة الإباحة والاستصحاب مبتلاة بالمعارض المسانخ.

والجواب عن هذا الإشكال يكون على مبنانا من تنافي الأحكام الظاهريّة بوجودها الواقعي، فإنّه على هذا المبنى نقول: إنّ بعض الاُصول غير جار في نفسه؛ لوجود الأمارة الملزمة في مورده، وقد اشتُبِه الحجّة باللاحجّة، فتصل النوبة الى


(1) وحتّى على غير ذلك المبنى نقول: إنّ العلم الإجمالي بوجود أخبار ثقات إلزاميّة ينحلّ بالظفر بمقدار المعلوم بالإجمال من تلك الأخبار، والعلم الإجمالي بوجود تكاليف واقعيّة ينحلّ بالظفر ولو إجمالاً بمقدار المعلوم بالإجمال من تلك التكاليف ضمن مجموع ما وجدناه بالفحص من الأخبار؛ وذلك حينمانقطع بمطابقة عدد من تلك الأخبار مساو لذاك المقدار للواقع، فإنّ الانحلال في هذين الفرضين انحلال حقيقي، لا يبتني على القول بانحلال العلم المتقدّم بالمنجّز المتأخّر، نعم انحلال العلم بالتكاليف الواقعيّة بالظفر بأخبار منجِّزة بمقدار المعلوم بالإجمال يتوقّف على ذلك.

441

الاُصول في المرتبة الثانية من استصحاب عدم الأمارة أو البراءة عنها، وهي تتساقط بالعلم الإجمالي بوجود الأمارة، وفي هذه المرتبة لا يوجد أصل مختصّ ببعض الموراد غير مبتلى بالمعارضة بأصل مسانخ، فإنّه ليس هناك إلّا البراءة والاستصحاب. وهذا ـ أيضاً ـ من نتائج مبنانا في الأحكام الظاهريّة(1).

الأمر الرابع: ما يرد بناءً على مبنى من يقول: إنّه إذا كان في أحد طرفي العلم الإجمالي أصلان طوليّان، وفي الطرف الآخر أصل واحد يتساقط الأصلان العرضيّان، ويبقى الأصل الطولي سليماً عن المعارض. فإنّ هذا قد يتّفق فيما نحن فيه كما في مورد أصالة الطهارة بناءً على جريانها في الشبهة الحكميّة، فأصالة الإباحة أصل في طول أصالة الطهارة حسب مباني الأصحاب من باب كونهما سببيّاً ومسبّبيّاً، فأصالة الطهارة تسقط بالمعارضة مع أصالة الإباحة في سائر الموارد، وتبقى أصالة الإباحة في ذلك المورد.

وهذا ـ أيضاً ـ جوابه يكون على مبنانا(2): من أنّ ألاُصول الأوّليّة لا تعارض بينها، بل وقع فيها الاشتباه بين الحجّة واللاحجّة؛ لتقدّم ما يوجد في الواقع من الأمارات التي هي في معرض الوصول على الأصل، والتعارض إنّما هو بين الاُصول في المرحلة الثانية، وهي كلّها استصحاب وبراءة، فتتساقط جميعاً.

الوجه السابع: أنّ التكاليف الشرعيّة واقعيّة أو ظاهريّة تختلف درجة اهتمام المولى بها، فقد يهتمّ المولى بها بحيث يوجب الاحتياط حتّى في الشبهة البدويّة بعد الفحص، وقد لا يهتمّ بهذه الدرجة، فلا يوجب الاحتياط في الشبهة البدويّة بعد الفحص، وقد يكون الاهتمام أقلّ من هذا ـ أيضاً ـ فلا يهتمّ بتكليفه حتّى لدى الشكّ المقرون بالعلم الإجمالي، أو لا يهتمّ بتكليفه في الشبهة قبل الفحص، وقد لا يهتمّ بتكليفه لا لدى الشكّ المقرون بالعلم الإجمالي ولا في الشبهة قبل الفحص، وتصوير وجود التكليف الإلزامي مع عدم الاهتمام به بدرجة من هذه الدرجات قد مضى في مبحث الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي. ولو خلّينا نحن وحكم العقل، وإن كنّا نحتمل في التكليف المولوي عدم الاهتمام به بشيء من هذه الدرجات، لكنّ الظاهر


(1) أي: أنّ هذا هو الامتياز الثاني من تلك الامتيازات المشار إليها سابقاً.

(2) وهذا هو الامتياز الثالث من تلك الامتيازات المشار إليها.

442

العرفي من خطاب الشارع بلحاظ الارتكاز العقلائي القائم على أساس ما يرون من درجة اهتمامهم غالباً بأغراضهم الإلزاميّة هو ثبوت بعض هذه الدرجات من الاهتمام، وهو الاهتمام بمقدار يوجب الاحتياط في مورد العلم الإجمالي، ويوجب الفحص في مورد يكون عدم الفحص فيه من قبيل التهرّب من الحكم وإغماض العين عنه، وعلى هذا فلو شككنا في تكليف ما لم يصحّ إجراء البراءة الشرعيّة عنه بمجرّد توقّف العلم به على أخذ كتاب الوسائل من الرفّ وفتحه؛ لأنّ الخطاب على تقدير وجوده يكون بحسب ما يظهر منه منافياً للبراءة، فلا يمكن نفي احتماله بالبراءة التي ليست بصدد نفي الحكم الواقعي(1).

نعم قد يتمسّك بالبراءة العقليّة إذا قلنا بجريانها قبل الفحص؛ لأنّ الخطاب الواقعي وإن كان على تقدير وجوده ظاهراً في لزوم الاحتياط قبل الفحص، لكنّ المفروض أنّ ذلك الخطاب لم يصلنا. إلّا أنّه ينسدّ باب إجراء البراءة شرعيّةً كانت أو عقليّة بدليل حجيّة خبر الثقة إذا كان هذا الدليل واصلاً قبل الفحص عن ذاك الحكم المشكوك، فإنّ دليل حجيّة خبر الثقة ـ أيضاً ـ كدليل الحكم الواقعي يدلّ بالالتزاميّة العرفيّة على لزوم الاحتياط فيه قبل الفحص، فإذا شككنا في وجود خبر الثقة وجب الفحص أو الاحتياط، فإنّ دليل الحكم الواقعي وإن لم يكن واصلاً، لكن دليل الحكم الظاهري وهو الحجيّة واصل، وإنّما الشبهة موضوعيّة، وهو يدلّ حسب الفرض على اهتمام المولى بمضمونه بدرجة يلزم الفحص إذا كان يعدّ عدم الفحص من قبيل التهرّب وإغماض العين. ومن هنا سوف يأتي ـ إن شاء اللّه ـ أنّنا في الشبهات الموضوعيّة التي تكون من هذا القبيل ـ أي: أنّ عدم الفحص فيها يعتبر تهرّباً وإغماضاً للعين ـ نقول بوجوب الفحص وعدم جريان البراءة، وما نحن فيه من هذا القبيل(2).

 


(1) كما لا يمكن إجراء البراءة عن وجوب الاحتياط قبل الفحص؛ لأنّها ـ أيضاً ـ ترى عرفاً منافية للحكم الواقعي على تقدير وجوده، فلا تفهم من دليل البراءة الذي ليس بصدد نفي الحكم الواقعي.

(2) وقد ورد في كتاب السيّد الهاشمي ـ حفظه اللّه ـ بعد ذكر الوجه السابع وجه آخر يجمع فيه بين نكتة الوجه السابع: وهو دلالة الخطابات الواقعيّة على وجوب الفحص، أو وجوب

443

الوجه الثامن: هو التمسّك بأخبار وجوب التعلّم، وهذا الوجه إنّما ينفع لمن عرف صدفة أخبار وجوب التعلّم وتماميّتها سنداً ودلالة، وأمّا من لم يعرف ذلك فلو لم يوجد في المرتبة السابقة على ذلك منجّز لوجوب الفحص، فقد لا يفحص عن نفس هذه الأخبار حتّى يبتلي بالفحص عن الأحكام الشرعيّة، فيحتمل عدم تماميّتها سنداً أو دلالة خصوصاً أنّ المحقّق العراقي (رحمه الله) ذكر أنّها غير تامّه دلالة، فيشكّ ـ عندئذ ـ في وجوب الفحص، فيتمسّك بأصالة البراءة عن وجوبه، فهذه الأخبار إنّما


الاحتياط قبل الفحص بالبيان الذي عرفت، وما مضى في الوجه السادس من العلم الإجمالي بخطابات واقعيّة، ولكن بنحو لا يرجع ذلك الى الوجه السابع ولا إلى الوجه السادس، وتوضيحه: أنّنا في الوجه السابع كنّا نرى أنّ مجرّد احتمال خطاب واقعي يبطل التمسّك بالبراءة قبل الفحص؛ لأنّه على تقدير وجود خطاب واقعي تكون البراءة عنه قبل الفحص منافية له عرفاً؛ لأنّه يدلّ بالالتزام على الاحتياط قبل الفحص، فظهور دليل البراءة في أنّه ليس بصدد معارضة الواقع على تقدير وجوده يمنع عن التمسّك به قبل الفحص، ولكنّنا في هذا الوجه نفترض الغفلة عن أنّ مجرّد احتمال الخطاب يمنع عن إجراء البراءة، ولكنّنا نقول: إنّ العلم الإجمالي بالخطاب يمنع عن إجراء البراءة قبل الفحص، لا بملاك التعارض والتساقط؛ كي يرجع الامر هذه المرّة الى ما مضى من الوجه السادس الذي كان يحاول فيه جعل العلم الإجمالي بالواقعيّات موجباً لتعارض الاُصول وتساقطها؛ بل بملاك أنّ تلك الخطابات المعلومة إجمالاً قد اسقطت البراءة في مواردها بدلالتها على وجوب الاحتياط، فيدخل المقام في باب اشتباه الحجّة باللاحجّة، فلا يمكننا التمسّك بالبراءة في كل مورد احتملنا فيه وجود خطاب واقعي دالّ بالملازمة على وجوب الاحتياط.

وبهذا نكون قد حصلنا على وجه مستقل لإثبات المقصود، لا يرجع الى الوجه السادس، ولا الى الوجه السابع.

أقول: إنّ هذا الوجه وإن كان مفيداً لإبطال التمسّك بالبراءة عن الواقع ابتداءً من دون أن يرجع الى الوجه السابع ولا السادس، ولكن تصل النوبة ـ عندئذ ـ الى البراءة الطوليّة عن وجوب الاحتياط، وينحصر الجواب عن ذلك بأحد أمرين: إمّا بيان أنّ مجرّد احتمال الخطاب الواقعي الذي لو كان لكان دالاً على وجوب الاحتياط كاف في دفع هذه البراءة ـ أيضاً ـ الظاهر دليلها في عدم مصادمة الواقع على تقدير وجوده، وهذا رجوع الى الوجه السابع، وإمّا بيان أنّ هذه البراءات الطوليّة متعارضة ومتساقطة؛ لوجود العلم الإجمالي بالخطابات الواقعيّة الدالّة على وجوب الاحتياط، وهذا رجوع الى الوجه السادس.

ثمّ إنّ لنا حول الوجه السابع كلاماً سوف نذكره ـ إن شاء اللّه ـ في مسألة الفحص في الشبهات الموضوعيّة فراجع.

444

تنفع بعد الوصول الاتفاقي.

هذا. وقد جاء في تقرير بحث المحقّق العراقي (قدس سره)(1) عدّة اعتراضات على الاستدلال بهذه الروايات لإثبات وجوب الفحص:

الاعتراض الأوّل: ما ورد بصيغة مجملة؛ إذ جاء في التقرير: أنّ بالإمكان حمل هذه الروايات على موارد العلم الإجمالي الذي هو الغالب في الشكّ قبل الفحص.

أقول: من الواضح أنّ مجرّد هذا الإمكان وحده غير كاف في إبطال الاستدلال بهذه الروايات، بل لا بدّ من تطبيق ذلك على الصناعة حتّى تحمل تلك الأخبار عليه، والظاهر بحسب الصناعة عدم إمكان هذا الحمل؛ لظهور هذه الروايات في أنّها في مقام بيان استدعاء عدم العلم للفحص، لا في مقام بيان استدعاء العلم للفحص. فمثلاً: ورد في بعضها: أنّ العبد العاصي يقال له: لِمَ لم تعمل؟! فإذا قال: لم أكن أعلم قيل له: لِمَ لم تتعلّم؟!(2)، فظاهر مثل هذا اللسان هو أنّ عدم العلم بنفسه كان يحتّم عليه أن يتعلّم وأن يتصدّى للسؤال، فلزوم التصدّي للسؤال والتعلّم من تبعات أنّه لم يكن يعلم، لا من تبعات العلم الإجمالي، ومثل هذا الظهور غير قابل للإنكار.

أمّا لو غضضنا النظر عن هذا الاستظهار فلا بدّ من ملاحظة سعة المدلول وضيقه، وملاحظة النسبة بينه وبين دليل البراءة في مقام الجمع بين الدليلين.

وهنا يقال: إنّ هذا الدليل في نفسه مطلق يشمل موارد العلم الإجمالي وغيرها، وأمّا دليل البراءة فلا إشكال في أنّه لا يشمل موارد العلم الإجمالي؛ لتساقط الاُصول في أطرافه، وهذا بحسب مختارنا يكون من باب المخصّص الارتكازي المتّصل كما مضى شرحه، وبحسب مختار المشهور يكون من باب المخصّص المنفصل، وهو حكم العقل بقبح المخالفة القطعيّة.

فإن بنينا على الثاني فدليل البراءة مطلق فوقاني يشمل موارد العلم الإجمالي وغيرها، ويشمل ما قبل الفحص وما بعده، وقد ورد عليه مخصّصان في عرض واحد، أحدهما: حكم العقل المخرج لموارد العلم الإجمالي، والثاني: روايات التعلّم المخرجة لما قبل الفحص، فلا بدّ من تخصيص دليل البراءة بكلا


(1) راجع القسم الثاني من الجزء الثالث من نهاية الأفكار، ص 474 - 475.

(2) راجع جامع أحاديث الشيعة: ج 1، ب 1 من المقدّمات، ح 25، ص 94.

445

المخصّصين، وتقديم أخبار التعلّم عليه بلا إشكال.

وإن بنينا على الأوّل وقع التعارض بين الدليلين بالعموم من وجه، فمادّة الاجتماع: هي الشبهة قبل الفحص غير المقرونة بالعلم الإجمالي، ومادّتا الافتراق: هما الشبهة قبل الفحص المقرونة بالعلم الإجمالي من ناحية، والشبهة البدويّة بعد الفحص من ناحية اُخرى، فلو فرضنا أنّه لا توجد مزية في أحد الدليلين ـ من قبيل أن يكون أحدهما قرآنياً والآخر غير قرآني ـ حصل التعارض والتساقط في مادّة الاجتماع، ونرجع الى البراءة العقليّة بناءً على ما بنى عليه المحقّق الاصفهاني (قدس سره): من جريان قاعدة (قبح العقاب بلا بيان) حتّى في موراد الشكّ قبل الفحص، أو الى البراءة الشرعيّة عن وجوب الفحص.

الاعتراض الثاني: أنّ أخبار وجوب التعلّم مسوقة مساق الإرشاد الى الحكم العقلي بوجوب الفحص، فإنّ العقل يستقلّ قبل الفحص بالاحتياط لا بالبراءة العقليّة، وحيث كانت هذه الأخبار إرشاداً الى هذا الحكم العقلي فلا تزيد على نفس حكم العقل، فكما أنّ دليل البراءة الشرعيّة يحكم على حكم العقل؛ لأنّ حكم العقل بوجوب الفحص مقيّد بأن لا يرخّص الشارع في ترك الفحص، كذلك يحكم على هذه الأخبار.

وتحقيق هذا الاعتراض: هو أنّ هذه الأخبار يتصوّر لها أحد مفادين:

الأوّل: أن يكون مفادها هو عدم جواز إهمال التكليف الواقعي المشكوك ولزوم التصدّي لمعرفته.

والثاني: أن يكون مفادها عدم جواز إهمال الوظيفة العمليّة، ولزوم تحديدها سواءٌ كانت هذه الوظيفة عبارة عن نفس التكليف الواقعي، أو عن مفاد أمارة من الأمارات، أو عن مفاد أصل من الاُصول.

فإن فرض الثاني صحّ هذا الاعتراض، فإنّ دليل البراءة في الحقيقة يعيّن الوظيفة العمليّة في أصالة البراءة.

لكن لا ينبغي الإشكال في أنّ ظاهر أخبار التعلّم هو الأوّل، فإنّ ما دلّ على أن طلب العلم فريضة، أو غير ذلك إن تمّت دلالته في المقام من سائر الجهات، فهو ظاهر في أنّه لا بدّ من تحصيل التكليف الواقعي المحتمل، وطلب العلم به والفحص عنه، وعندئذ فلا معنى لتحكيم دليل البراءة على هذه الأخبار، فإنّ هذا اللسان يكون بنفسه إعمالاً للمولويّة في مقام حفظ التكاليف الواقعيّة المشكوكة، ولزوم الاحتياط

446

تجاهها، ويكون هذا اللسان بنفسه إبرازاً لنقيض ما يبرزه لسان حديث الرفع من عدم الاهتمام بالواقع المشكوك.

ولو سلّم كون هذا حكماً إرشاديّاً الى حكم العقل، حيث إنّ العقل يحكم بوجوب الاحتياط والفحص حكماً معلّقاً على عدم مجيء الرخصة في ترك الفحص من قبل الشارع، فمثل هذا الإرشاد ـ أيضاً ـ نافع في المقام، فإنّ فعليّة الإرشاد ظاهرة في فعليّة هذا الحكم العقلي، وفعليّة هذا الحكم العقلي مساوقة لعدم مجيء الرخصة من قبل الشارع.

الاعتراض الثالث: أنّ هذه الأخبار أخصّ من المدّعى؛ لأنّها إنّما تدلّ على وجوب السؤال فيما إذا كان التكليف الإلزامي المحتمل بشكل لو سئل عنه لوصل إليه، كما هو الحال بالنسبة لشخص معاصر للإمام (عليه السلام)المتمكّن من سؤال الإمام مباشرة، لا فيما إذا كان يتمّ السؤال من دون أن يكتشف الحال.

وهذا الكلام يمكن تقريبه وتوجيهه بأحد أمرين:

1 ـ أن يفرض أنّه اُخذ في موضوع روايات الفحص العلم بأنّه لو فحص لانكشف له الحال، ولأنّ هذا العلم في زماننا غير موجود، فالشبهة قبل الفحص خارجة عن موضوع هذه الروايات قطعاً.

2 ـ أن يفرض أنّه اُخذ في موضوعها واقع انكشاف الحال على تقدير الفحص؛ لأنّ هذا غير معلوم قبل الفحص، فالتمسّك بهذه الأخبار لإثبات وجوب الفحص تمسّك بالعام في الشبهة المصداقيّة.

وعلى أيّ حال، فهذا الاعتراض لا يتمّ لو لاحظنا مجموع روايات الباب، فإنّه يوجد فيها ما لا يرد عليه اعتراض من هذا القبيل؛ لإطلاقه لصورة احتمال انكشاف الحال بالسؤال ولو كان في الواقع سوف لن ينكشف الحال به، وتوضيح ذلك ما يلي:

 

أخبار وجوب التعلّم

يمكن تقسيم روايات المقام الى عدّة طوائف:

الطائفة الاُولى: ما دلّ على وجوب طلب العلم، وأحسن ما جاء فيها من الصيغ: هي الصيغة المستفيضة بين الفريقين عن خاتم النبيين (صلى الله عليه وآله): «طلب العلم فريضة»، أو «طلب العلم فريضة على كلّ مسلم»، أو «طلب العلم فريضة على كلّ مسلم ومسلمة» على اختلاف الصيغ، والروايات التي نقلت جملة من هذه الصيغ

447

وإن كانت ضعيفة السند، إلّا أنّ استفاضة أصل هذه الصيغة، وتطابق الفريقين على نقلها عن النبي (صلى الله عليه وآله)، وتظافر ذلك يوجب القطع بصدور هذه الصيغة عنه (صلى الله عليه وآله)، إلّا أنّ القطع يقدّر بقدره، أي: أنّ الذي يكون مقطوعاً به هو صدور أصل هذه الصيغة، وأمّا الحدود والقيود من كلمة (على كل مسلم) أو (على كل مسلم ومسلمة)، ونحو ذلك من الخصوصيّات التي تميّزت بها الروايات المتعدّدة في المقام، فلا يمكن إثباتها؛ لأنّها غير مستفيضة، ولم تأتِ في روايات معتبرة سنداً حتّى تثبت بلحاظ دليل حجيّة خبر الواحد. وإليك جملة من تلك الروايات:

منها: ما في الكافي بسنده عن عيسى بن عبد اللّه، عن أبي عبد اللّه(عليه السلام)، قال: «طلب العلم فريضة»(1).

ومنها: ما في الكافي ـ أيضاً ـ عن أبي عبد اللّه (عليه السلام)، قال: قال رسول (صلى الله عليه وآله): «طلب العلم فريضة»(2).

ومنها: ـ أيضاً ـ ما في الكافي عن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): «طلب العلم فريضة على كلّ مسلم، ألا وأنّ اللّه يحبّ بُغاة العلم»(3).

ومنها: ما عن الإمام الرضا (عليه السلام) عن طريق آبائه (عليهم السلام)الى رسول اللّه(صلى الله عليه وآله)، يقول: «العالم بين الجهّال كالحيّ بين الأموات، وأنّ طالب العلم يَستغفِر له كلُّ شيء حتّى حيتان البحر وهوامّه وسباع البّر وأنعامه، فاطلبوا العلم فإنّه السبب بينكم وبين اللّه، وأنّ طلب العلم فريضة على كلّ مسلم»(4).

ومنها: ما ورد عن الإمام الرضا (عليه السلام) بسنده المتّصل عن أمير المؤمنين(عليه السلام)، قال: « سمعت رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) يقول: طلب العلم فريضة على كلّ مسلم، فاطلبوا العلم في مظانّه، واقتبسوه من أهله، فإنّ تعلّمه للّه حسنة، وطلبه عبادة، والمذاكرة فيه تسبيح، والعمل به جهاد، وتعليمه من لا يعلمه صدقة، وبذله لأهله قربة الى اللّه تعالى؛ لأنّه معالم الحلال والحرام، ومنار سبل الجنّة، والمؤنس في الوحشة، والصاحب في


(1) اُصول الكافي: ج 1، باب فرض العلم، ح 2، ص 30.

(2) نفس المصدر: ح 5، ص 31.

(3) نفس المصدر: ح 1، ص 30، وذيل ح 5، ص 31.

(4) جامع أحاديث الشيعة: ج 1، ب 1 من أبواب المقدّمات، ح 6، ص 89 حسب الطبعة الجديدة، وهذا الحديث مع ما بعده منقولان عن أمالي ابن الشيخ.

448

الغربة والوحدة، والمحدّث في الخلوة، والدليل في السراء والضراء، والسلاح على الأعداء، والزين على الأخلاّء، يرفع اللّه به أقواماً فيجعلهم في الخير قادة تُقتبس آثارهم، ويُقتدى بفعالهم، ويُنتهى الى آرائهم، ترغب الملائكة في خلّتهم، وبأجنحتها تمسحهم، وفي صلواتها تبارك عليهم، يستغفر لهم كلّ رطب ويابس حتّى حيتان البحر وهوامّه وسباع البر وأنعامه ...» إلى آخره(1).

وهذه الروايات لا ينبغي الإشكال في دلالتها على وجوب طلب العلم، إلّا أنّ حمل العلم فيها على مجرّد الاطّلاع على الأحكام اللزوميّة الواقعة في محلّ ابتلاء المكلّف سواءٌ كان الاطّلاع عليها عن طريق الاجتهاد أو التقليد ـ وهذا هو وجوب الفحص الذي نتكلّم عنه في المقام ـ خلاف الظاهر، وإنّما الظاهر منها: هو أن يكون المراد بالعلم مرتبة من الثقافة الإسلاميّة التي كان يعبّر عنها في عصور المجتمع الإسلامي ـ وقتئذ ـ بالعلم بقول مطلق، وحتّى الآن يعبّر بكلمة (العلم) عن مرتبة خاصّة من الثقافة المعمّقة، وهذه المرتبة نشأت منذ عصر النبي (صلى الله عليه وآله)، ونمت بعد ذلك في عصور الأئمة (عليهم السلام)، فإنّ جملة من الصحابة تميّزوا بقريحة فقهيّة، وبحفظ الآثار والأخبار بحيث كانوا مرجعاً في الحلال والحرام بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله)، ومثل هذا التمييز حصل في جملة من أصحاب الأئمة (عليهم السلام)على طول الخط منذ زمان أمير المؤمنين (عليه السلام) الى أيام الإمام الحسن العسكري (عليه السلام)، فإنّ هناك جماعة كانوا في كلّ جيل يحملون ثقافة الشريعة الإسلاميّة وأحكامها حملاً اجتهاديّاً تفصيليّاً على مستوى وضع العلم وقتئذ، (لا على مستواه في هذا المراحل التي نحن نعيشها)، وهذا المعنى من العلم لا يفرق فيه بين الأحكام الداخلة في محلّ ابتلاء الشخص وغيرها، ولا يشمل هذا العلم مجرّد التقليد، وكلّ مرتبة من مراتب المعرفة البسيطة، والعلم وإن كان لغة بمعنى الانكشاف، لكن بحسب المصطلح العرفي السائد اجتماعيّاً منذ عصر الأئمة والى يومنا هذا يطلق على مرتبة مخصوصة معمّقة من المعرفة، وليس كل انكشاف علماً، فتكون هذه الروايات ظاهرة في هذا المعنى، وتؤيّد ذلك القرائن المنتشرة في نفس متون الروايات، فمثلاً: في بعض الصيغ ذكرت المقارنة بين حال العالم وحال الجاهل، وذكرت في بعض الصيغ فوائد العلم وشأن العالم وجلاله، وأنّ العلم يؤنس الإنسان في وحشته وفي غربته، وهو السلاح على


(1) نفس المصدر: ح 7.

449

الأعداء، والزين على الاخلاّء وغير ذلك، وكلّ هذا لا ينطبق إلّا على هذا المعنى من العلم، لا على مجرّد استطلاع حال المسألة بشكل بسيط.

فهذه الروايات كلّها ناظرة الى وجوب طلب العلم بالمعنى الثاني، غاية الأمر أنّ هذه الروايات ظاهرة في أنّ هذا الوجوب ثابت على كلّ مسلم ـ حتّى لو لم نتعبّد بعبارة كلّ مسلم ـ إلّا أنّ مثل هذا يقيّد بما دلّ على سقوط هذا الوجوب بقيام عدد كاف في مقام حفظ الشريعة، وليكن من المقيّدات آية النفر، وغيرها من الأدلّة الدالّة على إعفاء المسلم من هذا الوجوب على تقدير قيام عدد من الناس يكفي في مقام حفظ الشريعة بذلك.

الطائفة الثانية: الروايات الآمرة بالتفقّه في الدين من قبيل ما عن علي بن حمزة قال: «سمعت أبا عبد اللّه (عليه السلام) يقول: تفقّهوا في الدين، فإنّه من لم يتفقّه منكم في الدين فهو أعرابي، إنّ اللّه تعالى يقول في كتابه: ليتفقّهوا في الدين، وليُنذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون»(1).

وأيضاً ما عن مفضّل بن عمر قال: سمعت أبا عبد اللّه (عليه السلام) يقول: «عليكم بالتفقّه في دين اللّه، فلا تكونوا أعراباً، فإنّه من لم يتفقّه في دين اللّه لن ينظر اللّه إليه يوم القيامة، ولم يزكِّ له عملاً»(2)، ونحو ذلك من الروايات.

وهذه الروايات ـ أيضاً ـ يأتي فيها نفس الكلام السابق(3)، فإنّ التفقّه في الدين تارة يجمد فيه على المعنى اللغوي بحسب مرّ اللغة وهو الفهم، واُخرى يقصد به مرتبة من فهم الدين، وهي مرتبة معمّقة خاصّة عبّر عنها هناك بالعلم وهنا بالفقه، وعلى الثاني لا تكون الروايات دالّة على المقصود.

والظاهر منها هو الثاني، فإنّ نفس كلمة (التفقّه في الدين) تعطي ذلك، مضافاً الى التعليل بأن لا يكون أعرابياً، والأعرابي هو الشخص الذي يتخلّف عن الهجرة الى بيت العلم وبيت النبوّة، فإنّ المفروض أنّ جماعة من كلّ طائفة يهاجرون الى مركز


(1) اُصول الكافي: ج 1 باب فرض العلم، ح 6، ص 31.

(2) نفس المصدر: ح 7 .

(3) لا يخفى أنّ التعبير بـ «من لم يتفقّه لن ينظر اللّه إليه ...» آب عن الحمل على الوجوب الكفائي، فهذا قرينة على أنّ المقصود هو المقدار من التفقّه المناسب وجوبه على كلّ مسلم لا التخصّص، وهذا هو المناسب للمقابلة مع الأعرابيّة.

450

الثقافة الإسلاميّة ليتفقّهوا بثقافة الإسلام، فهؤلاء هم الخبراء الواعون من المسلمين، وبقيّة المسلمين هم العوام الذين سمّاهم أعراباً، فيقول للراوي لا تختر أن تكون من العوام، بل اختر أن تكون من الواعين ومن ذوي الخبرة والبصيرة، ثمّ يطبّق على ذلك الآية الكريمة، وهي بنفسها ناظرة الى المعنى الثاني لا المعنى الأوّل، فهذه الروايات أجنبيّة عن محلّ الكلام.

الطائفة الثالثة: الروايات الدالّة على وجوب السؤال من الأئمة (عليهم السلام)بالخصوص: وهي الروايات الواردة في تفسير أهل الذكر في قوله تعالى: ﴿فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون حيث وردت عدّة روايات تقول: نحن أهل الذكر، فتجب عليكم مسألتنا(1). وهذه الروايات لا بأس بدعوى تعرّضها لما هو محلّ الكلام، فإنّ السؤال من الإمام بما هو سؤال منه ينطبق على ما هو محل الكلام بلا إشكال، إلّا أنّ مثل هذه الطائفة يأتي فيها إشكال المحقّق العراقي (قدس سره)؛ لأنّها مختصّة بخصوص السؤال من الإمام(عليه السلام)، ومن المعلوم أنّ السؤال منه (عليه السلام)ملازم عادة للتوصّل الى واقع الحال، ومعه لا يمكن التعدّي من ذلك الى غيره، إلّا بدليل.

الطائفة الرابعة: هي الطائفة الدالّة على استحقاق المتورّط في مخالفة الواقع على فرض عدم السؤال والفحص للعقاب، وأحسن ما جاء في هذه الطائفة، هو قوله في صحيحة مسعدة بن زياد، قال: «سمعت جعفر بن محمد (عليه السلام) وقد سئل عن قوله تعالى: فللّه الحجّة البالغة، فقال(عليه السلام): إنّ اللّه تعالى يقول للعبد يوم القيامة: عبدي أكنت عالماً؟ فإن قال: نعم، قال: أفلا عملت بما علمت؟ وإن قال: كنت جاهلاً، قال له: أفلا تعلّمت حتّى تعمل؟ فيخصمه، وذلك الحجة البالغة لله عزّ وجلّ في خلقه»(2).

وهذه الرواية لا بأس بدلالتها في المقام على ما هو المقصود، وهي مطلقة من حيث العلم بانكشاف الواقع على تقدير السؤال وعدمه، فهي دالّة على المطلوب، ومثلها بعض الروايات الاُخرى التي هي من قبيلها.


(1) راجع اُصول الكافي: كتاب الحجّة، باب أنّ أهل الذكر هم الأئمة (عليهم السلام)ص 210 - 212، وراجع جامع أحاديث الشيعة الباب الرابع من أبواب المقدّمات، ص 178 - 185.

(2) جامع أحاديث الشيعة: ج 1 ب 1 من المقدّمات ح 25، ص 94 نقلاً عن أمالي المفيد، راجع ـ أيضاً ـ أمالي المفيد: ص 180 بحسب الطبعة الثالثة من منشورات المطبعة الحيدريّة المجلس الخامس والثلاثون.

451

ويمكن الاستدلال على ذلك ـ أيضاً ـ بآية النفر، فإنّ إيجاب النفر والتفقّه في الدين يدلّ بالالتزام على إيجاب الفحص على الباقين.

الوجه التاسع: ما جاء في الدارسات من التمسّك بالأخبار الدالّة على وجوب التوقّف، وهي الأخبار التي استدلّ بها الأخباريون على وجوب الاحتياط في الشبهة الوجوبيّة والتحريميّة فيقال: إنّ هذه الأخبار تدلّ على وجوب الاحتياط قبل الفحص وبعده، وتعارضها أخبار البراءة المطلقة ـ أيضاً ـ لما قبل الفحص وما بعده، فتحمل الطائفة الاُولى على ما قبل الفحص والثانية على ما بعده، ونكتة هذا الحمل: هي أنّ جملة من الأخبار الدالّة على وجوب التوقّف وردت في موارد قبل الفحص، فيكون ما قبل الفحص هو المتيقّن منها، فتكون كالنصّ بالنسبة لما قبل الفحص، فتقيّد إطلاق دليل البراءة، ويخرج منها ما قبل الفحص، فيحمل دليل البراءة على ما بعده(1).

وهذا الوجه غير تام مبنىً وبناءً: أمّا مبنى ً فلما يأتي ـ إن شاء اللّه ـ في بحث التعادل والتراجيح من أنّه إذا كانت إحدى الطائفتين المتعارضتين بنحو التساوي نصاً في بعض الحصص دون بعض ولو باعتبار كونه هو المورد، فهذه النصوصيّة الناشئة من هذه المناشئ لا تكون منشأً للقرينيّة والتقديم والجمع العرفي.

وأمّا بناءً فلأنّه لو سلّم المبنى واعتُرف ـ أيضاً ـ بأخبار التوقّف وتماميّتها دلالة وسنداً، فسوف تتقدّم على حديث الرفع حتّى بعد الفحص؛ لأنّها أخصّ منه، فإنّ حديث الرفع يشمل ـ بحسب الدعوى ـ ما قبل الفحص وما بعده، ويشمل الشبهات الموضوعيّة والحكميّة معاً(2)، وأخبار التوقّف ـ أيضاً ـ تشمل ما قبل الفحص وما بعده، وتختصّ بالشبهات الحكميّة، فتقدّم عليه بالأخصيّة.

إلّا أنّ الصحيح: هو أنّ أخبار التوقّف في نفسها لم تتمّ سنداً ودلالة، إذن فكيف يمكن التمسّك بها على وجوب الاحتياط قبل الفحص في المقام؟!

هذا تمام الكلام في أدلّة وجوب الفحص في الشبهات الحكميّة.

 

 


(1) راجع الدراسات ج 3، ص 309، والمصباح ج 2، ص 494.

(2) ويشمل ـ أيضاً ـ موارد العلم الإجمالي بعد غضّ النظر عن الارتكاز العقلائي الذي يعدّ بمثابة القرينة المتّصلة، وعن ظهور دليل البراءة في إمضاء البراءة العقلائيّة الموجب لانصرافه عن موارد العلم الإجمالي، وعن ما قبل الفحص على حدّ سواء.

452

الفحص في الشبهات الموضوعيّة

وأمّا المقام الثاني: وهو وجوب الفحص في الشبهات الموضوعيّة وعدمه، فأيضاً تارة يقع الكلام في البراءة العقليّة، واُخرى في البراءة الشرعيّة.

بلحاظ البراءة العقليّة

أمّا البراءة العقليّة: فقد عرفت أنّها ليست قانوناً عقليّاً، فإنّ العقل لا يستقلّ بقاعدة (قبح العقاب بلا بيان)، بل هي ترجع بتحليل علمي الى قاعدة عقلائيّة ارتكازيّة شرحنا فيما مضى الظروف التي أدّت الى قيام هذا الارتكاز، وترسّخ هذه القاعدة في أذهان العقلاء.

وهذه البراءة العقلائيّة في الشبهات الحكميّة تختصّ بما بعد الفحص، فإنّ البراءة المجعولة اجتماعيّاً من قبل المولويات العقلائية لاتشمل موارد الشكّ قبل الفحص، وتعتبر تلك الموارد داخلة تحت دائرة حقّ الطاعة والمولويّة، هذا بلحاظ الشبهة الحكميّة. وأمّا بلحاظ الشبهة الموضوعيّة فالأمر في الجملة ـ أيضاً ـ كذلك، فإنّ مرتبة من الفحص لازمة بحسب الارتكاز العقلائي، وهي المرتبة التي يعتبر خلافها تهرّباً من الحكم وإغماضاً للعين عن الحكم، وتوضيح ذلك: أنّه قد يشكّ المكلّف في الحكم، ويكون المفروض أنّ هذا التكليف للمولى لو كان موجوداً لا يصله بحسب العادة إلّا بالفحص، فهنا لا يعذر المكلّف عقلائيّاً، وإنّما يعذر إذا كان المكلّف واقفاً في موقف بحيث يكون التكليف بحسب طبعه ممكن الوصول للمكلّف عادة بلا فحص، فلابدّ للمكلّف من الفحص عن التكليف بمقدار بحيث يحقّق له موقفاً يمكن ويحتمل أن يصله التكليف في ذلك الموقف، وأمّا إذا كان الموقف بحيث لا يحتمل عادة أن يصله التكليف، فلا يعدّ معذوراً عقلائيّاً، فمثلاً لو وقعت قطرة على يده ولا يدري هل هي دم أم لا فيغمض عينيه ويقول: أنا شاكّ في كونها دماً، فهو وإن كان شاكّاً، لكنّ التكليف عادة لا يصله وهو مغمض العينين، فتركه للنظر الى موضع القطرة المشكوكة يعتبر بحسب النظر العرفي تهرّباً من الوقوع في تبعة التكليف وفراراً منه، ولا تكون البراءة العقلائيّة مسوّغة لمثل هذا الهروب.

ولعلّ هذه النكتة هي نكتة ما سبق من عدم جريان البراءة العقلائيّة قبل الفحص في الشبهات الحكميّة؛ لأنّ إغماض العين عن كتب الأخبار كإغماض العين عن تلك القطرة من الدم، أي: أنّ العادة جارية في تبليغ الأحكام من الموالي الى

453

المحكوم عليهم على إيصال تلك الأحكام الى مقام معيّن، والمحكوم عليه يذهب الى ذلك المقام فيفحص عن تلك الأحكام، لا أنّها تصل الى كلّ إنسان في بيته، فمثلاً: القوانين المجعولة من قبل الحكومة تنشر في صحيفة رسمية، ومن أراد تطبيقها لا بدّ له أن يطالع الصحيفة ويطبّقها، وهكذا لو كانت الحكومة تنشر قوانينها عن طريق الإذاعة مثلاً، فعلى الناس أن يستمعوا إليها، فعدم الذهاب الى ذلك المقام هو بنفسه إغماض العين، إلّا أنّ إغماض العين يختلف مصداقه باختلاف طبيعة الشبهة، وطبيعة كيفية وصول الحكم. إذن فبالإمكان أن ننتزع هذا العنوان الجامع بين الشبهتين بأن نقول: إنّ القاعدة العقلائيّة لا تشمل الموارد التي لم يتحقّق فيها هذا المقدار الجامع من الفحص، أي: المقدار الذي يصدق معه عدم التهرّب وعدم غمض العين وإن اختلف مصداق هذا الجامع باختلاف طبيعي الشبهة(1). نعم، خروج ما قبل الفحص في الشبهات الحكميّة عن البراءة يكون أوضح بحسب الارتكاز العقلائي منه في الشبهات الموضوعيّة.

هذا حال البراءة العقلائيّة، ولكن تحقيق البراءة العقلائيّة وتحديد حدودها بما هي براءة عقلائيّة لا ينفعنا؛ لأنّنا نتكلّم تجاه المولى الحقيقي لا تجاه مولىً جعلت مولويّته في المجتمع العقلائي، إلّا أنّ هذا ينفعنا في فهم دليل البراءة الشرعيّة على ما تقدّم، وعلى ما تأتي الإشارة إليه.

هذا هو الكلام على مستوى البراءة العقليّة، فالبراءة العقليّة لا وجود لها، وقد حوّلناها الى براءة عقلائيّة، والبراءة العقلائيّة لا تشمل ما قبل الفحص في المورد الذي يصدق فيه التهرّب وغمض العين.

بلحاظ البراءة الشرعيّة

وأمّا البراءة الشرعيّة: ففي مقام تحقيق اختصاصها بما بعد الفحص وعدمه نرجع الى ما مضى من الوجوه التسعة؛ لاختصاصها بما بعد الفحص في الشبهات الحكميّة، لنرى أنّه هل يتمّ منها شيء هنا، أو لا؟ فنقول:

الوجه الأوّل: أنّ دليل البراءة له ظهور في أنّه دليل إمضائي، فهو يمضي البراءة


(1) لنا كلام حول هذا الأمر يأتي ـ إن شاء اللّه ـ قريباً في البراءة الشرعيّة في تعليقنا في الوجه السابع من وجوه الفحص.

454

المرتكزة في ذهن العقلاء بحدودها، فبما أنّ الارتكاز العقلائي في الشبهات الحكميّة كان يفصّل بين ما قبل الفحص وما بعده قلنا في الشبهات الحكميّة بعدم جريان البراءة قبل الفحص، وهذا الوجه يجري في المقام ـ أيضاً ـ فيثبت لزوم الفحص في الشبهات الموضوعيّة؛ لما عرفت من أنّ الارتكاز العقلائي يقتضي الفحص حتّى في الشبهات الموضوعيّة، ويُجري البراءة بعد الفحص، إلّا أنّ هذا الوجه إنّما يثبت وجوب الفحص بمقدار ناقص أي: بمقدار ما يساعد عليه الارتكاز العقلائي، وهو المقدار الذي لا يكون المكلّف معه متهرّباً من التكليف ومغمضاً للعين عنه على ما مضى بيانه آنفاً عند التكلّم عن البراءة العقلائيّة.

الوجه الثاني: إيقاع المعارضة بين إطلاق البراءة في حديث الرفع وإطلاق المستثنى في البراءة القرآنيّة. وهذا الوجه لا يجري في المقام؛ لما قلنا في بحث البراءة من أنّ الآيات الدالّة على البراءة تختصّ بالشبهات الحكميّة(1).

الوجه الثالث: إبداء احتمال القرينة المتّصلة: وهي شدّة اهتمام النبي (صلى الله عليه وآله)بإفناء الشكّ في الشبهة الحكميّة، وهذا الوجه ـ أيضاً ـ لا يأتي في المقام، فإنّ ظهور حال النبي (صلى الله عليه وآله) في الاهتمام بإفناء الشكّ إنّما هو بلحاظ الشبهة الحكميّة؛ لأنّ حال النبي (صلى الله عليه وآله) إنّما كان بصدد علاج الشبهات الحكميّة، وكان يبيّن لهم الأحكام الكلّيّة، فانعقد من هذه الصيغة ظهور حال في أنّه(صلى الله عليه وآله)مهتمّ بإفناء تلك الشكوك بدرجة


(1) مضى منه رضوان اللّه تعالى عليه في محله أنّ قوله تعالى: ﴿لا يكلّف اللّه نفساً إلّا ما آتاها﴾ يعم الشبهة الموضوعيّة، وإذا كان كذلك فهذا الوجه يجرى في المقام أيضاً. نعم، إنّ هذا الوجه لا يفيد شيئاً أزيد من الوجه السابق، فإنّ الإتيان يعطي عرفاً معنى جعله في معرض الوصول الى المكلّف بحيث لو لم يتهرّب المكلّف من وصوله إليه ولم يغمض عينه عنه كان من الطبيعي وصوله إليه.

لا يقال: إنّه في الشبهة الموضوعيّة قد حصل الإيتاء حتماً؛ لأنّ كبرى التكليف واصلة إليه حسب الفرض.

فإنّه يقال: إنّ الكبرى وحدها غير قابلة للتنجّز وإنّما الذي يقبل التنجّز هو النتيجة، ولذا لو قطع بعدم الصغرى لم يؤثّر وصول الكبرى تنجيزاً عليه كما هو واضح.

فالواجب على المكلّف هو عدم التهرّب من وصول النتيجة إليه وعدم غمض العين عنه وعلى أيّة حال فقد مضى منّا ـ في بحث آيات البراءة تعليقاً على كلام اُستاذنا الشهيد (رحمه الله) ـ توضيح عدم تماميّة دلالة هذه الآية على البراءة.

455

أوجبت إجمالاً في إطلاق دليل البراءة بتفصيل تقدّم في محلّه، ومثل هذا لا يأتي في الشبهات الموضوعيّة.

الوجه الرابع: حكم العقل المقيّد لدليل البراءة. وقد قلنا فيما سبق: إنّ هذا لا معنى له، إلّا بأن نرجع حكم العقل الى حكم العقلاء، فيكون حاله حال الوجه الأوّل وراجعاً إليه.

الوجه الخامس: أنّه قبل الفحص يحتمل وجود خبر ثقة يدلّ على الإلزام، وحديث الرفع قد خرج منه ـ عندنا ـ موارد خبر الثقة بوجوده الواقعي، فمع الشكّ يكون التمسّك به تمسّكاً بالعام في الشبهة المصداقيّة. واستصحاب عدم ورود خبر الثقة غير جار للعلم الإجمالي بوروده في الجملة. وهذا الوجه لا يجري في المقام حتّى في فرض احتمال خبر ثقة يخبر عن نجاسة الماء مثلاً، فإنّه لا بأس هنا بإجراء استصحاب عدم وجود خبر ثقة، لعدم العلم الإجمالي هنا.

الوجه السادس: العلم الإجمالي بوجود تكاليف، وهذا الوجه من الواضح أنّه لا يأتي في المقام؛ إذ لا يوجد هنا علم إجمالي بتكاليف.

الوجه السابع: أنّ دليل حجّيّة خبر الثقة يدلّ بالالتزام على اهتمام المولى بالواقع المجعول في هذا الدليل بحيث يحكم بوجوب الاحتياط في موارد الشكّ قبل الفحص. وهذا الوجه يأتي في المقام فيما لو احتمل وجود خبر ثقة(1)، فإنّ دليل


(1) مضى منّا عدم حجّيّة الأمارات قبل الوصول؛ لأنّ شيئاً من أدلّة حجّيّتها لا تشمل الأمارة غير الواصلة، وحتّى خبر العدلين الذي يطلق عليه عنوان البيّنة في قوله (صلى الله عليه وآله): «إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان» والذي يدلّ على أنّ خبر العدلين أمر يبيّن الواقع فى نفسه ـ فهو حجّة مطلقة لا في خصوص باب القضاء ـ يكون قوام بيانه للواقع بوصوله، فإنّه قبل وصوله يكون حاله حال الواقع غير الواصل، ولا يصدق عليه لغة عنوان البيّنة.

نعم، لا بأس بأن يقال ـ حتّى في الشبهات الموضوعيّة ـ إنّ نفس دليل الحكم الواقعي يدلّ بالالتزام العرفي على وجوب الفحص بمقدار ينتفي معه عنوان التهرّب من معرفة الحقيقة.

والواقع: أنّ النكات العقلائيّة لوجوب الفحص ـ غير العلم الإجمالي ـ عديدة يختلف بعضها عن بعض في الجوهر وفي حدود النتائج، وليست هي نكتة واحدة:

النكتة الاُولى: ما تعارف لدى العقلاء من اهتمام الموالي بأغراضهم بمقدار إيجاب الاحتياط، أو الفحص بالمقدار الذي لا يصدق عنوان التهرّب من فهم الحقيقة ووصول الواقع. وهذا وحده لا يقتضي الاستقصاء الكامل عن الأخبار والروايات، أو عن القناة التي تعوّد

456


المشرّع أن يجعل تشريعاته فيها، فقد يتعب الإنسان عن تكميل الفحص أو قد يصعب عليه الفحص الكامل لبُعد بعض المصادر عنه فيترك تكميل الفحص لهذا السبب من دون أن يصدق عليه عنوان التهرّب.

النكتة الثانية: أنّ الأحكام الظاهريّة إنّما جعلت للتوفيق بين الأغراض الإلزاميّة، وأغراض التسهيل لدى التزاحم في حال الحفظ، فإذا كان الفحص في غاية السهولة كمجرّد فتح العين، فلا موجوب في نظر العرف لجعل الترخيص؛ لأنّه لا يُرى عرفاً تزاحم بين الغرضين؛ لعدم وجود أيّة صعوبة إطلاقاً في الفحص بمقدار فتح العين.

نعم التزاحم الدقّي العقلي موجود، ولذا يمكن جعل التسهيل من قبل الشارع، كما عرفنا ذلك بالنصّ في باب الطهارة والنجاسة، ولكنّ هذا ما يكون بحاجة الى النصّ، ولا تكفيه الإطلاقات؛ لأنّ العرف يراها منصرفة عن ذلك؛ لأنّ هذا التسهيل ليس تسهيلاً في نظر العرف أي: أنّ إيجاب الفحص بمجرّد فتح العين لا يحسّ فيه بصعوبة أكثر من أصل صعوبة الواقع الذي يبتلي به.

النكتة الثالثة: أنّ تعوّد المشرّع على وضع أوامره، وإلزاماته، وقوانينه في قناة معيّنة كصحيفة معيّنة، أو البرامج الإذاعيّة، أو الأخبار والروايات قرينة في نظر العرف حسب عادة الموالي العرفيين على أنّه يريد من أتباعه مراجعة تلك القنوات والفحص الكامل فيها الى أن يحصل على الشيء المطلوب.

هذه هي النكات الثلاث العقلائيّة للفحص، وإذا أضفناها الى ما مضى منّا من عدم حجّيّة الأمارات غير الواصلة وصولاً فعليّاً نستطيع أن نستنبط منها مقاييس الفحص في الشبهات الحكميّة والموضوعيّة كالتالي:

أوّلاً: في الشبهات الحكميّة في مقابل الأصل المرخّص لا بدّ من الفحص الكامل نتيجة للنكتة الثالثة.

ثانياً: في الشبهات الحكميّة في مقابل الأمارة المرخّصة لا بدّ لنا ـ أيضاً ـ من الفحص الكامل عن المخصّص، والمقيّد، والحاكم نتيجة للنكتة الثالثة بعد فرض تعوّد الشارع على الإتيان بالمقيّدات، والمخصّصات ونحوها منفصلة، وجعلها في نفس تلك القناة، وهي قناة الأخبار والنصوص الواردة.

ثالثاً: في الشبهات الحكميّة في مقابل الأمارة المرخّصة لا بدّ لنا ـ أيضاً ـ من الفحص الكامل عن المعارض للنكتة الثالثة بعد فرض أنّه كان من المتعارف إبتلاء تلك القناة بتواجد المتعارضات فيها، إمّا بفعل نفس الشارع بالنطق بالمتعارضات مع إرادة خلاف الظاهر من بعضها، أو بفعل الناس الذين لعبوا بتلك القناة، وأدخلوا فيها عن عمد أحياناً وعن غفلة أحياناً

457

حجّيّة خبر الثقة لو تمّ في الشبهات الموضوعيّة دلّ ـ أيضاً ـ بالالتزام على وجوب الفحص، لكن بتلك المرتبة التي بيّنا كونها وفق مقتضى الارتكاز العقلائي، أعني بالمقدار الذي لا يعدّ الشخص متهرّباً عن التكليف ومغمضاً للعين عنه؛ لأنّ هذه الملازمة ملازمة عرفيّة، فبمقدار هذا الارتكاز تثبت هذه الملازمة لا أكثر، فهذا الوجه لا يزيد على مايقتضيه الوجه الأوّل.

الوجه الثامن: هو الأخبار الدالّة على وجوب التعلّم. ومن الواضح أنّها لا تجري في الشبهات الموضوعيّة؛ لأنّها تدلّ على وجوب تعلّم الشريعة، لا تعلّم الموضوعات.

الوجه التاسع: هو التمسّك بأخبار التوقّف، وقد تقدّم فيما سبق أنّها مختصّة بالشبهة الحكميّة.

 


اُخرى التعارض والتهافت.

رابعاً: في الشبهات الموضوعيّة في مقابل الأصل المرخّص لا بدّ من الفحص، لا بمعنى الفحص الكامل؛ لعدم تأتّي النكتة الثالثة فيها، بل الفحص بمقدار لا يصدق معه عنوان التهرّب عن الواقع، وذلك للنكتة الاُولى.

خامساً: في الشبهة الموضوعيّة في مقابل الأمارة المرخصّة لا بدّ من الفحص بمقدار عدم غمض العين، أعني بالمقدار اليسير جداً الذي لا يعدّ منافياً لمصلحة التسهيل؛ وذلك للنكتة الثانية، ولا يجب الفحص أكثر من ذلك بالنكتة الاُولى التي نسمّيها بنكتة الاهتمام؛ لأنّ الاعتماد على الأمارة المرخّصة اهتمام بالواقع بمقدار كاف بحيث لو تهرّب من الفحص عمّا قد يكشف كذب تلك الأمارة لا يعدّ عرفاً متهاوناً بأغراض المولى بنحو لا يرضى به المولى عادة.

سادساً: في الشبهات الموضوعيّة في مقابل الأمارة المرخّصة لا يجب عليه الفحص عن أمارة معارضة؛ لأنّ الأمارة المعارضة ليست حجّة قبل الوصول الفعلي، فما عثر عليها فعلاً من الأمارة حجّة بلا معارض.

سابعاً: المقلّد لا يجب عليه الفحص عن فتوى معارضة لولا العلم الإجمالي بناءً على تساقط الفتويين المتعارضتين.

ثامناً: لو بنينا في الفتويين المتعارضتين على التخيير إلّا مع وجود الأعلم لا يجب على المقلّد الفحص عن الأعلم إن لم يعلم إجمالاً بوجود أعلم، وإذا فسّرنا الأعلميّة الواجبة الاتباع بكون الفاصل كبيراً وبمقدار مرتبة الاجتهاد كما هو الصحيح، فعادة لا يوجد للعاميّ علم إجمالي بوجود أعلم.

وبما أنّنا نرى أنّ البناء العقلائي في باب الرجوع الى الخبرة على التخيير، إلّا في الأعلم، ونفسّر الأعلم بما عرفت، فبذلك نحلّ مشكلة الفحص عن الأعلم المعارض في الفتوى للمقلَّد.