574

ومنها: الأخبار الواردة في النهي عن العمل بأخبار المخالفين معلّلة ذلك بعلّة عامّة: من أنّهم لا يؤمنون على الدين، وأنّهم خانوا الله وخانوا رسول الله، وأنّه إن أخذت دينك منهم فقد أخذته من الخائنين، ونحو ذلك(1). فهذه الطائفة لعلّها تردع بالتعليل الوارد فيها عن العمل بأخبار الشيعة إذا كانوا خائنين لله ورسوله.

ومنها: ما ورد في النهي عن العمل بخبر إلّا تحت شروط وقيود، كقوله: (لاتأخذ أحكامك إلّا من كلّ قديم العهد في أمرنا مسنّ في حبّنا)(2).

 


﴿فَلْيَنظُرِ الإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِه﴾، قال: قلت: ما طعامه ؟ قال: «علمه الذي يأخذه عمّن يأخذه»(1)، وروايات الأخذ من الصادق(2)، ورواية أبي البختريّ عن أبي عبدالله(عليه السلام): «...فانظروا علمكم هذا عمّن تأخذونه»(3)، ورواية أبي حمزة الثماليّ عن أبي عبدالله(عليه السلام): «...إيّاك أن تنصب رجلاً دون الحجّة، فتصدّقه في كلّ ما قال»(4).

(1) لعلّه(رحمه الله) ينظر إلى الحديث 42 من الباب 11 من صفات القاضي من الجزء 18 من الوسائل، ص 109. ولعلّه ينظر أيضاً إلى مثل مقبولة عمر بن حنظلة المانعة من التحاكم لدى قضاة الجور. نفس الباب، الحديث 1، ص 99.

(2) لعلّه(رحمه الله) ينظر إلى رواية أحمد بن حاتم بن ماهويه قال: كتبت إليه يعني

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل، ج 18، الباب 7 من صفات القاضي، الحديث 10، ص 43.

(2) من قبيل ما في الوسائل، ج 18، الباب 7 من صفات القاضي، الحديث 37، والباب 8 منها، الحديث 67 إلى 70، والباب 10 منها، الحديث 12.

(3) الوسائل، ج 18، الباب 8 من صفات القاضي، الحديث 2، ص 53.

(4) الوسائل، ج 18، الباب 10 من صفات القاضي، الحديث 6، ص 91، ونحوه الحديث 15، ص 93.

575

ومنها: الأخبار التي جعلت الوثاقة مناطاً للحجّيّة إمّا بظهورها، أو بمنطوقها، أو بمفهومها من قبيل قوله: «العمريّ وابنه ثقتان، فما أدّيا إليك عنّي فعنّي يؤدّيان»، ونحو ذلك من الروايات(1).

فإنّ مجموع هذه الأخبار كلاًّ، أو جلاًّ، أو بعضاً، لا أقلّ من أنّه يحتمل وروده في مقام بيان عدم العمل برواية غير الثقة.

وخلاصة الكلام: أنّ أصحاب الأئمّة لو تركوا العمل بخبر الثقة مع الواسطة لكانوا سألوا ثُمّ تركوا على أساس ردع الإمام لهم عن العمل به، ولو كان كذلك لوصلنا الردع.

وهناك مؤيّدات للمقصود تؤثّر جدّاً في حصول الاطمئنان والقطع بالمقصود وتأكيده:

منها: أنّه لو فرض أنّ الأصحاب لم يكونوا يعملون بالخبر مع الواسطة فلا إشكال في أنّ هناك مراتب للخبر مع الواسطة، فقد تكون الوسائط سبعاً، وقد تكون خمساً، أو اثنتين، أو أقلّ، أو أكثر، كما أنّ الوسائط مختلفون في الحال ودرجة الوثاقة، أفلم تكن هناك مرتبة توجب الشكّ والتبلبل في جواز الأخذ بها وحجّيّتها، وعدمه ؟! وبكلمة اُخرى: لو فرض أنّهم كانوا بسجيّتهم العقلائيّة يتركون


أبا الحسن الثالث(عليه السلام) أسأله عمّن آخذ معالم ديني، وكتب أخوه أيضاً بذلك، فكتب إليهما: «فهمت ما ذكرتما فاصمدا في دينكما على كلّ مسنّ في حبّنا وكلّ كثير القدم في أمرنا، فإنّهما كافوكما إن شاء الله»(1).

(1) ممّا مضى تحت عنوان الأخبار الدالّة على حجّيّة خبر الثقة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل، ج 18، الباب 11 من صفات القاضي، الحديث 45، ص 110.

576

العمل بالخبر مع الواسطة فهذه السجيّة لها قدر متيقّن لا محالة، ولها موارد للشكّ،فكيف لم يسألوا عن ذلك، أو سألوا ولم يصلنا ؟!

ومنها: أنّه لو كان هناك بناءٌ من قبل أصحاب الأئمّة وفقهاء الشيعة في أيّام الإمام العسكريّ، والجواد، والهادي(عليهم السلام) على التفصيل بين العمل بالخبر مع الواسطة والخبر بلا واسطة، وقد كثر في تلك الأيّام الفقهاء في الكوفة وفي قم، لكان يخلّف هذا البناء ـ على الأقلّ ـ ذكراً في كتب الاُصول والفقه ولو بعنوان قول من الأقوال، مع أنّه لم يذكر ذلك، ونحن عندنا من كتب الاُصول ما يرجع تأريخه إلى القرن الرابع، أي: ما بعد هذا التأريخ بمئة سنة أو أكثر بقليل، ككتاب السيّد المرتضى والشيخ الطوسيّ في الاُصول.

ومنها: أنّ هناك طريقاً للاستدلال على ثبوت السيرة في زمان الإمام بالسيرة المتأخّرة، وهي: أنّه لو فرض انقلاب السيرة ـ بأن كان عمل الشيعة مثلاً في ظهر الجمعة على الجهر، وفي زماننا قامت السيرة على الإخفات ـ لكان هذا الانقلاب من العجائب، ولكان ينقل ذلك في الكتب. وهذا البيان في مثل قراءة ظهر الجمعة غير صحيح؛ إذ لو فرض الانقلاب فهو ليس انقلاباً بين عشيّة وضحاها، بل حصل هذا الانقلاب بالتدريج في خلال أمد بعيد، فوجد أوّلاً مخالف واحد، وبعد مدّة لاحظ شخص آخر الأخبار فرأى أنّ الصحيح هو ما ذهب إليه هذا المخالف، وهكذا إلى أن حصل الانقلاب بالتدريج، على أنّه ليس من اللازم كون الانقلاب من وجوب الجهر إلى حرمته ابتداءً حتّى يبدو الاختلاف بنحو فاحش، بل المخالف الأوّل لعلّه أظهر الاستحباب إلى أن جاء شخص آخر فناقش في دليل الاستحباب وقرّب التخيير إلى أن جاء مَن قرّب الكراهة، ثُمّ بعد ذلك قيل بالحرمة مثلاً.

577

ولكن هذا البيان تامّ فيما نحن فيه من دون أن يرد عليه هذا الإشكال، فإنّ الأمر دائر بين الوجوب والحرمة، فإنّ الخبر مع الواسطة لو كان حجّة فالعمل به واجب، وإلّا فالعمل به غير جائز، والفترة التي يفرض حصول الانقلاب فيها يسيرة، فإنّ المفروض أنّهم في زمان الأئمّة ـ أي: إلى أواخر المئة الثانية وأوائل المئة الثالثة ـ كانوا يتركون العمل بالخبر مع الواسطة، بينما الكلينيّ الذي هو قريب من زمان الأئمّة وولد في زمان الإمام، وعاصر النوّاب، ومات بعد الغيبة الصغرى بقليل يذكر في أوّل كتابه: أنّي أجمع هذه الروايات لكي تكون مداراً لاستنباط الأحكام الشرعيّة. وجاء بعده الصدوق فذكر في مقدّمة كتابه مثل ذلك، فكيف يفترض انقلاب السيرة في فترة قصيرة كهذه، وبحيث يذكر الشيخ الطوسيّ الذي جاء بعد هذه الفترة في كتاب العدّة ناظراً إلى هذه الفترة وفترة زمان الحضور ضمن الزمان الطويل الذي ينظر إليه: إنّ الأصحاب إلى يومنا هذا عصراً بعد عصر مطبقون على العمل بهذه الأخبار.

ومنها: أنّه لو كان الخبر مع الواسطة غير حجّة لكان يجعل هذا إشكالاً من قِبَل الأئمّة وأصحابهم على العامّة الذين قام أساس مذهبهم على الأخبار المرويّة عن رسول الله(صلى الله عليه وآله)، بينما لم يشكل أحد عليهم بأنّ الأخبار التي تعملون بها هي أخبار مع الواسطة، وإنّما كان الإشكال عليهم أنّه يجب عليهم الرجوع إلى الأئمّة في هذه الأخبار لمعرفة الناسخ والمنسوخ، والمخصّص، ونحو ذلك مضافاً إلى الإشكال في أمانة ووثاقة رواة تلك الروايات.

وأمّا السنّة: فالأخبار الدالّة على حجّيّة خبر الثقة على ثلاثة أقسام:

الأوّل: ما لا يدلّ إلّا على حجّيّة الخبر بلا واسطة كقوله: «ما يمنعك من محمّد بن مسلم الثقفيّ، فإنّه سمع من أبي، وكان عنده مرضيّاً». فقوله: «سمع من أبي»

578

يشمل الخبر بلا واسطة فحسب(1)، وكالأخبار العلاجيّة، فإنّها إنّما كانت تدلّ في الجملة على وجود خبر حجّة ولم يكن فيها إطلاق، فالقدر المتيقّن منها هو الخبر بلا واسطة.

الثاني: ما قد يقال بدلالته بالخصوص على حجّيّة الخبر مع الواسطة كحديث محمّد بن مسلم عن أبي عبدالله(عليه السلام)قال: «قلت له: ما بال أقوام يروون عن فلان وفلان عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) لا يتّهمون بالكذب، فيجيء منكم خلافه ؟ قال: إنّ الحديث ينسخ كما ينسخ القرآن». حيث إنّ مورد هذا الحديث هو الخبر مع الواسطة.

الثالث: ما يكون بإطلاقه شاملاً للخبر مع الواسطة كقوله: «أفيونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ عنه ما احتاج إليه من معالم ديني؟ فقال: نعم». فإنّ الثقة الذي ينقل عن ثقة آخر عن الإمام لا عن الإمام رأساً فهو وإن لم يكن ينقل الحكم الواقعيّ لكنّه ينقل موضوع الحكم الظاهريّ، أي: أنّه ينقل نقل الثقة الأوّل الذي هو موضوع للحجّيّة، وبالتالي يدلّ على ذلك الحكم الظاهريّ، والحكم الظاهريّ ـ أيضاً ـ داخل في معالم الدين.


(1) قد يقال: إنّ ابن أبي يعفور قد سأل الإمام بقوله: «ليس كلّ ساعة ألقاك، ولا يمكن القدوم، ويجيء الرجل من أصحابنا فيسألني وليس عندي كلّ ما يسألني عنه، فقال: ما يمنعك من محمّد بن مسلم الثقفيّ، فإنّه سمع من أبي، وكان عنده وجيهاً». وهذا كما ترى ظاهر في حجّيّة نقل ابن أبي يعفور لمن يسأله مع أنّه نقل بالواسطة، وليس هذا حاله حال الأخبار الآمرة بنقل الأحاديث للناس التي مضى عدم دلالتها على حجّيّة خبر الثقة.

والجواب: أنّ من المحتمل أنّ الذي كان يراجع ابن أبي يعفور كان يراجعه كفقيه، أو كان نقل ابن أبي يعفور مورثاً لعلمه بالصدق، والإمام(عليه السلام) ليس بصدد البيان من هذه الناحية كي يتمسّك بشمول الإطلاق لغير هذين الفرضين.

579

وكقوله: «العمريّ وابنه ثقتان، فما أدّيا إليك عنّي فعنّي يؤدّيان، وما قالا لك عنّي فعنّي يقولان، فاسمع لهما وأطعهما، فإنّهما الثقتان المأمونان».

وقد يقال: إنّ قوله: «ما أدّيا إليك عنّي فعنّي يؤدّيان» خاصّ بالخبر بلا واسطة؛ لأنّ الخبر مع الواسطة ليس أداء عنه، لكن التحقيق هو ما مضى: من أنّ الخبر مع الواسطة راجع إلى الخبر بلا واسطة، فهو لا محالة تأدية عن الإمام(عليه السلام)، فليس حال قوله: (أدّى إليك عنّي) حال قوله: «فإنّه سمع من أبي».

وإن ناقشنا في ذلك وقلنا: إنّ قوله: «أدّيا إليك عنّي» منصرف عن الأداء مع الواسطة الراجع بالتقريب السابق إلى الأداء بلا واسطة كفانا إطلاق قوله: «فاسمع لهما وأطعهما، فإنّهما الثقتان المأمونان»، فإنّ الأمر بالسماع والطاعة يشمل فرض دلالة كلامه على حجّيّة نقل من يروي هذا عنه الذي هو ينقل عن الإمام، فإنّها حكم من الأحكام يتصوّر فيها السماع والطاعة، وقد نقل هذا الشخص موضوعه(1).

إذا عرفت هذا قلنا: تارةً يفترض أنّه يكفي في حصول العلم أو الاطمئنان بحجّيّة خبر الثقة خصوص الأخبار الدالّة على حجّيّة الخبر مع الواسطة بما فيها حديث: «العمريّ وابنه ثقتان» الذي عرفت فيما سبق مزاياه الخاصّة، واُخرى


(1) لا يخفى أنّنا لو سلّمنا انصراف قوله: «ما أدّيا إليك عنّي» إلى النقل المباشر، فهذا صالح للقرينيّة على أن يكون ما فرّع عليه من قوله: «فاسمع لهما وأطعهما» أمراً بإطاعتهما في نفس دائرة النقل المباشر دون نقل موضوع الحجّيّة. وقضيّة أنّ المورد لا يخصّص الوارد لا تأتي هنا، فإنّ الوارد لو كان عامّاً وضعيّاً لا يخصّصه المورد. أمّا إذا كان مطلقاً حكميّاً، فإن كانت هناك نكتة عرفيّة توجب صرف الوارد عن اختصاصه بالمورد تمّ الإطلاق، وإلّا فأصل الإطلاق لا ينعقد؛ لأنّ المورد صالح للقرينيّة للصرف إليه. وقد مضى شرح ذلك منّا في ذيل الروايتين اللتين قد يستدلّ بهما على عدم حجّيّة خبر الواحد.

580

يفترض أنّ العلم أو الاطمئنان بحجّيّة خبر الثقة إنّما نشأ من مجموع هذه الرواياتالتي لم يشمل بعضها الخبر مع الواسطة، فإن فرضنا الأوّل فقد ثبت المقصود، وهو حجّيّة الأخبار مع الواسطة، وإن فرضنا الثاني فلابدّ من الاقتصار على أخصّ المداليل وهو حجّيّة خبر الثقة بلا واسطة، فلا تثبت حجّيّة خبر الثقة مع الواسطةإلّا بأن يقال: إنّنا نقطع بأنّه لو كان خبر الثقة بلا واسطة حجّة، ولو كان الراوي في أدنى درجات الوثاقة، فخبر الثقة بوسائط قليلة كلّهم في أعلى درجات الوثاقة حجّة أيضاً، فإنّ الكشف النوعيّ الثابت له يفوق بدرجات كثيرة على الكشف النوعيّ لخبر مَن هو في أدنى درجات الوثاقة بلا واسطة، فحديث «العمريّ وابنه ثقتان»(1) يصبح حجّة وإن كان مع الواسطة؛ لأنّه من هذا القبيل كما عرفت فيما مضى، وقد عرفت أنّه يدلّ على حجّيّة خبر الثقة مع الواسطة.

وقد تحصّل ممّا ذكرناه: أنّ الخبر مع الواسطة حاله حال الخبر بلا واسطة، والمقصود بذلك أنّ النقص الذاتيّ في الكشف الناشئ من وجود الواسطة لا يضرّ بالحجّيّة، أي: أنّنا لو لاحظنا كلّ رواية من روايات هذا الخبر مع الواسطة فرأينا أنّها لو خلّيت ونفسها كانت حجّة فهذا الخبر حجّة، ولا فرق في ذلك بين القول بأنّ العبرة بوثاقة الراوي، والقول بأنّ العبرة بموثوقيّة الرواية، فنقول على الثاني: إنّ الرواية مع الوسائط وإن فرض سقوطها بواسطة ما لها من الوسائط عن الموثوقيّة لكن لا يضرّ ذلك بحجّيّتها، فإنّ العبرة إنّما هي بأن تكون رواية كلّ واسطة من الوسائط في نفسها موثوقاً بها. وأمّا الضعف الناشئ في النتيجة لأجل الوسائط فيغضّ النظر عنه(2).

 


(1) أو التوقيع الشريف.

(2) والسبب في ذلك أنّ دليل حجّيّة خبر الثقة: إمّا أن يفترض شموله للإخبار عن

581


الأخبار، أو يفترض اختصاصه بالإخبار عن كلام المعصوم. فكلّ دليل من أدلّة حجّيّة خبر الثقة فرض شموله للإخبار عن الأخبار فمن الواضح أنّ إشكال ضعف الموثوقيّة الناشئ من تعدّد الوسائط محلول بلحاظه؛ لأنّ الخبر مع الوسائط منحلّ في الحقيقة إلى عدّة أخبار كلّ منها في ذاته رواية واجدة للموثوقيّة بحسب الفرض، وكلّ منها يثبت موضوع حجّيّة الخبر الذي كان قبله إلى أن نصل إلى كلام الإمام.

وكلّ دليل من أدلّة حجّيّة خبر الثقة فرض اختصاصه بالإخبار عن كلام المعصوم فأيضاً إشكال ضعف الموثوقيّة في الخبر مع الوسائط محلول بلحاظه مادمنا فرضنا شموله للخبر مع الواسطة عند عدم ضعف الموثوقيّة؛ وذلك لما عرفت فيما مضى: من أنّ الخبر مع الواسطة يرجع إلى الخبر بلا واسطة، فالوسيط الثاني ـ مثلاً ـ يقول: لو لم يكذب الوسيط الأوّل فالإمام قال كذا، وهذا خبر بلا واسطة يتمتّع بالموثوقيّة، وشرط القضيّة الشرطيّة ثابت تعبّداً.

نعم، لو فرضنا أنّ الحجّيّة ليست للخبر الموثوق وإنّما الحجّيّة لنفس تلك الدرجة من الوثوق الفعليّ برأي المعصوم، فمن الواضح أنّ تكثّر الوسائط يضرّ بذلك، إلّا أنّ هذا خلاف مفروض الكلام كما هو واضح.

يبقى الإشكال في الاستدلال بسيرة أصحاب الأئمّة(عليهم السلام) الدالّة على حجّيّة خبر الثقة مع الوسائط، حيث قد يقال: إنّ الوسائط في زمن الحضور كانت أقلّ من عدد الوسائط الموجود لدينا الآن بالنسبة لبعض الروايات، فسيرتهم على حجّيّة الخبر مع الوسائط بالعدد المألوف وقتئذ لا تدلّ على الحجّيّة فيما إذا كثرت الوسائط بأكثر من ذاك المقدار المألوف آنذاك.

والجواب: أنّه بعد فرض حلّ إشكال الموثوقيّة بالبيان الذي عرفت يكون المفهوم

582


المرتكز عندهم عدم الفرق بين قلّة الوسائط أو كثرتها مادام الخبر مهما تكثّرت وسائطه ينحلّ إلى عدّة أخبار بلا واسطة، أو يرجع إلى الإخبار عن كلام المعصوم بلا واسطة، فإنّ الفرق بعد هذا الفرض غير عرفيّ، فإذا كان المعصوم(عليه السلام) غير راض بهذا الفهم كان عليه الردع، فإنّ تكثّر الوسائط في مستقبل الزمان كان مترقّباً في ذاك الزمان، وليس ممّا حدث في الأزمنة المتأخّرة من دون ترقّب حدوثه المتأخّر منذ البدء كي يقال: إنّ السكوت عنه ليس دليل الإمضاء.

وكذلك الروايات الدالّة على حجّيّة الخبر حتّى مع الواسطة لو كان بعضها غير مطلق لفرض تكثّر الوسائط أمكن التعدّي بالفهم العرفيّ إلى فرض تكثّرها. فمثلاً قوله في حديث ابن يعفور: «يجيء الرجل من أصحابنا فيسألني، وليس عندي كلّ ما يسألني عنه، فقال: ما يمنعك من محمّد بن مسلم الثقفيّ، فإنّه سمع من أبي، وكان عنده وجيهاً» لو دلّ على حجّيّة خبر ابن يعفور الذي يوجد بينه وبين الإمام وسيط، وهو محمّد بن مسلم قلنا: إنّ العرف بعد أن كان يكيّف بارتكازه حجّيّة الخبر مع الواسطة بإرجاعه إلى الخبر بلا واسطة، أو بتحليله إلى عدّة أخبار بعدد الوسائط ينقل بعضهم موضوع حجّيّة الخبر السابق أقول: إنّ العرف بعد تكييفه لحجّيّة الخبر مع الوسائط بأحد هذين الشكلين يتعدّى إلى فرض تكثّر الوسائط.

وقد اتّضح حتّى الآن بما لا مزيد عليه: أنّ خبر الثقة حجّة ولو كان مع الوسائط إمّا بمعنى أنّ كلّ خبر يثبت موضوع حجّيّة سابقة، وهذا يعني حجّيّة الخبر في الموضوعات بهذا المقدار على الأقلّ، أو بمعنى أنّ كلّ خبر مع الواسطة راجع إلى الخبر بلا واسطة ببيان مضى فيما سبق عن اُستاذنا الشهيد(رحمه الله)، وهذا لا يتوقّف على حجّيّة الخبر في الموضوعات حتّى بهذا المقدار.

583


بقى الكلام في أمرين:

الأوّل: كيف تثبت وثاقة الراوي ؟ فهل هذا بحاجة إلى البيّنة؛ لعدم حجّيّة خبر الواحد في الموضوعات، أو أنّ خبر الواحد حتّى لو لم يكن حجّة في الموضوعات بشكل مطلق يكون حجّة في إثبات وثاقة الراوي ؟

والثاني: هل نقول بحجّيّة خبر الواحد في الموضوعات بشكل مطلق في غير ما ثبت بدليل خاصّ احتياجه إلى البيّنة أو لا ؟

كيف تثبت وثاقة الراوي ؟

أمّا الأمر الأوّل ـ وهو أنّه كيف تثبت وثاقة الراوي ؟ ـ: فلا إشكال في ثبوت وثاقته بالبيّنة بناءً على حجّيّة البيّنة بسيرة متشرّعيّة، أو بسيرة العقلاء غير المردوع عنها، أو بدعوى أنّ الروايات المتفرّقة في الأبواب المتشتّتة أورثت القطع بحجّيّة البيّنة. إنّما الكلام في ثبوت وثاقة الراوي بخبر الثقة الواحد. ويمكن إثبات ذلك بعدّة وجوه:

الوجه الأوّل: أن يقال بأنّ كلّ ما دلّ على حجّيّة خبر الثقة مع الواسطة فقد دلّ على حجّيّة وثاقة الراوي بخبر الثقة؛ وذلك لأنّ الوثاقة وإن كانت موضوعاً وليست حكماً شرعيّاً، ولكن حجّيّة خبر الثقة مع الواسطة أيضاً تستبطن حجّيّة خبر الثقة في الموضوعات؛ لأنّ خبر الوسيط موضوع للحجّيّة وهو لم يثبت إلّا بخبر الثقة الواحد. فهب أنّ دليل حجّيّة خبر الثقة لم يدلّ على حجّيّة الخبر في الموضوعات بشكل مطلق بحيث يشمل الموضوعات التي يترتّب عليها حكم جزئيّ، ولكن معنى شمول دليل الحجّيّة للإخبار بخبر الوسيط أنّ دليل الحجّيّة شمل الموضوع الذي يقع في طريق الوصول إلى الحكم الكلّيّ الفقهيّ لصدق عنوان معالم الدين عليه في حديث: (آخذ عنه معالم ديني)

584


مثلاً، أو أيّ عنوان آخر يفرض في روايات أو أدلّة حجّيّة خبر الثقة. ومن الواضح أنّ وثاقة الراوي أيضاً موضوع وقع في طريق الوصول إلى الحكم الكلّيّ الفقهيّ ولا فرق بينها وبين خبر الوسيط، فكلّ منهما جزء الموضوع للحجّيّة، ولو فرض عدم تماميّة الإطلاق الحكميّ في الأدلّة اللفظيّة بالنسبة للإخبار عن الوثاقة، فالعرف لا يحتمل الفرق بين هذين الجزءين.

إلّا أنّ التحقيق أنّ هذا الوجه بهذا النحو من الإجمال لا يتمّ؛ لأنّ حجّيّة الخبر مع الوسائط يمكن أن تكيّف بالتكييف الذي مضى عن اُستاذنا الشهيد(رحمه الله): من رجوعه إلى الخبر بلا واسطة، ومعه لا تتوقّف حجّيّته على حجّيّة الإخبار بالخبر الذي هو أحد جزءي الموضوع، فلا يمكن التعدّي إلى الإخبار بالوثاقة.

الوجه الثاني: أن يقال: إنّ أدلّة حجّيّة خبر الثقة شاملة للإخبار بالوثاقة، فإنّ الدليل على حجّيّة خبر الثقة إمّا هو السيرة العقلائيّة، أو سيرة الأصحاب، أو السنّة:

أمّا السيرة العقلائيّة فقد مضى أنّها لا تفرّق بين الموضوعات والأحكام.

وأمّا سيرة الأصحاب فالبرهان الذي تمّ على ثبوتها في حجّيّة الإخبار عن رأي المعصوم بنفسه تامّ أيضاً على ما يكثر وقوعه في طريق إثبات رأي المعصوم، وهو إثبات وثاقة الراوي، فإنّ وثاقة الوسيط في الأخبار مع الواسطة المتعارف وجودها في زمان الإمام ليست في كثير من الأحيان معلومة للمرويّ إليه، وإنّما يعتمد على شهادة نفس الراوي، أو غيره بوثاقة الوسيط. وأخبار البيّنة في الأبواب المتفرّقة التي يحتمل بشأنها كونها ردعاً عن حجّيّة خبر الثقة في الموضوعات إنّما وردت جميعاً في الموضوعات التي يترتّب عليها الحكم الجزئيّ دون ما يكون في طريق الوصول إلى الحكم الكلّيّ الفقهي.

وأمّا السنّة فجملة منها تشمل الإخبار بوثاقة الراوي بما فيها الحديث شبه القطعيّ

585


المشتمل على قوله: «العمريّ وابنه ثقتان، فما أدّيا إليك عنّي فعنّي يؤدّيان، وما قالا لك عنّي فعنّي يقولان، فاسمع لهما وأطعهما...» فإنّ قوله: (اسمع وأطع) يشمل على الأقلّ الإطاعة في الأحكام الكلّيّة الفقهيّة التي يخبر بها عن طريق الإخبار بموضوعها، وهو الخبر ووثاقة المخبر.

إلّا أنّنا لو قلنا: إنّ تفريع الأمر بالسماع والإطاعة على قوله: (ما أدّى إليك عنّي فعنّي يؤدّي) يبطل إطلاقه في غير دائرة المفرّع عليه، سقطت دلالة الحديث على حجّيّة الإخبار بوثاقة الراوي وإن فرضنا شمول قوله: (ما أدّى إليك عنّي) للأداء مع الواسطة بنكتة رجوعه إلى الأداء بلا واسطة.

كما أنّ قوله: «أمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا» لا يشمل الإخبار بوثاقة الراوي؛ لأنّ هذا ليس رواية لأحاديثهم وإن فرضنا شموله للخبر مع الواسطة باعتباره رواية لأحاديثهم أيضاً.

هذا إذا قلنا بأنّ الحديث إنّما دلّ على حجّيّة روايات من يروون أحاديثهم، أمّا إذا قلنا بأنّه دلّ على ما هو أوسع من ذلك: من إعطاء مقام الولاية أو الفتوى، فلا يختصّ مدلوله بنقل الحديث عن المعصوم، فقد يقال بشموله لنقل وثاقة الراوي أيضاً.

الوجه الثالث: أن يقال: بعد أن ثبتت حجّيّة أخبار الثقات مع الوسائط فنحن بإمكاننا أن نتمسّك ببعض الأخبار التي تكون وسائطها جميعاً ثقات بالقطع واليقين، أو بشهادة البيّنة وتدلّ على حجّيّة إخبار الثقة عن وثاقة الراوي، من قبيل حديث: «فاسمعلهما وأطعهما» لو لم نحصر دلالته في دائرة ما فرّع عليه من قوله: «ما أدّيا إليكعنّي فعنّي يؤدّيان»، وحديث يونس بن يعقوب: «قال: كنّا عند أبي عبدالله(عليه السلام) فقال: أما لكم من مفزع، أما لكم من مستراح تستريحون إليه، ما يمنعكم من الحارث بن

586


المغيرة النضريّ»(1)، فإنّ هذا الحديث يفهم منه جواز الاستراحة والفزع إلى مثل الحارث بن مغيرة النصريّ في كلّ ما يريح الإنسان في فهم الحكم الكلّيّ الإلهي، ومنها ثبوت وثاقة الراوي، ومنها أيضاً الشهادة بالاجتهاد والأعلميّة والإخبار عن فتوى مرجع التقليد. وكلّ راو واقع في سلسلة سند هذا الحديث مقطوع الوثاقة أو مشهود بوثاقته بالبيّنة.

نعم، هذه الرواية واردة في رجال الكشّي الذي هو كثير الأغلاط، ولكن العلم الإجماليّ بأغلاطه منحلّ بما استخرجه المحقّقون المتأخّرون من الأخطاء الموجودة في رجال الكشّي ـ جزاهم الله خير الجزاء ـ أمّا بلوغ الأخطاء إلى حدّ لا تجري أصالة عدم الخطأ بعد انحلال العلم الإجماليّ فغير معلوم.

حجّيّة خبر الواحد في الموضوعات:

وأمّا الأمر الثاني ـ وهو أنّه هل نقول بحجّيّة خبر الواحد في الموضوعات بشكل مطلق وفي غير وثاقة الراوي التي انتهينا عن حجّيّته فيها أو لا ؟ ـ: فقد ذهب اُستاذنا الشهيد(رحمه الله)في المجلّد الثاني من البحوث إلى حجّيّة خبر الثقة في الموضوعات، ودليله على ذلك أمران:

أحدهما: دعوى السيرة العقلائيّة على العمل بخبر الثقة في الموضوعات وعدم اختصاصها بباب الأحكام.

وقد مضى منّا التشكيك في أصل دعوى السيرة العقلائيّة على حجّيّة خبر الواحد،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل، ج 18، ب 11 من صفات القاضي، ح 24، ص 105. وفي الوسائل، ج 27 بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت(عليهم السلام)، ورد: الحارث بن مغيرة النصريّ. وهو الصحيح، ولم يرد النضريّ في كتب الرجال.

587


ومضى منّا أنّه على تقدير التسليم بها لا يحتمل الفرق بين باب الأحكام وباب الموضوعات.

وثانيهما: مثل قوله: «العمريّ وابنه ثقتان، فما أدّيا إليك عنّي فعنّي يؤدّيان»، فهذا التعبير يفهم تعليل حجّيّة أدائه عن الإمام(عليه السلام) بالوثاقة، والتعليل إشارة إلى كبرى كلّيّة قد تتردّد سعةً وضيقاً بين عدّة كبريات، فالمفروض الاقتصار على أضيق كبرى تشمل المورد ما لم تكن هناك كبرى معهودة عرفاً، ومركوزة مناسبتها للصغرى المصرّح بها، وإلّا فهذا الارتكاز بنفسه قرينة على ملء الفراغ بتقدير تلك الكبرى المعهودة ولو كانت أوسع من مقدار الحاجة في اقتناص النتيجة المذكورة في النصّ، ومقامنا من هذا القبيل، فإنّ الحاجة في اقتناص النتيجة بحسب المورد لا تكون إلى أكثر من تقدير حجّيّة خبر الثقة في الأحكام كبرى في القياس، ولكن حيث إنّ كبرى حجّيّة خبر الثقة بنحو أوسع مركوزة ـ بحسب ما يعتقده اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) ـ فينصرف ملء الفراغ إليها حفظاً لمناسبات الصغرى والكبرى المركوزة في الذهن العرفيّ، وتلك الكبرى الأوسع هي حجّيّة خبر الثقة مطلقاً.

ولا يتوهّم أنّ هذا رجوع إلى الاستدلال بالسيرة، فإنّ السيرة العقلائيّة بذاتها غير حجّة، وإنّما الحجّيّة لموافقة الشارع، وموافقته تارةً تكشف بعدم الردع، وهذا هو الوجه الأوّل. واُخرى بدلالة لفظيّة، وإن كانت نفس السيرة دخيلة في تكوّنها، وهذا هو الوجه الثاني. ويظهر الأثر العمليّ فيما لو احتملنا الردع من دون أن يثبت بدليل خاصّ، فهذا يضرّ بالدليل الأوّل ولا يضرّ بالدليل الثاني.

وعلى أيّة حال، فبناءً على ما مضى منّا ـ من التشكيك في أصل السيرة العقلائيّة ـ يبطل هذا الوجه أيضاً.

ولو سلّمنا السيرة العقلائيّة فقد يدّعى ورود الردع عنها في الشبهات الموضوعيّة، وذلك إمّا بحديث عامّ، أو بأحاديث خاصّة في موارد متفرّقة يقتنص منها الردع عن كبرى السيرة.

588


أمّا الحديث العامّ: فهو عبارة عن حديث مسعدة بن صدقة(1). وأورد اُستاذنا الشهيد(رحمه الله)على رادعيّته وحده بوجهين:

أحدهما: أنّ رواية واحدة لا تكفي لإثبات الردع؛ لأنّ مستوى الردع يجب أن يتناسب مع درجة قوّة السيرة وترسّخها، ومثل هذه السيرة على العمل بخبر الثقة لو كان الشارع قاصداً للردع عنها لأصدر بيانات كثيرة، ولوصلتنا منها نصوص عديدة كما صار بالنسبة للقياس، ولما اكتفى بإطلاق خبر من هذا القبيل.

والثاني: أنّ الرواية ضعيفة سنداً.

وأورد اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) على الإشكال بضعف سند الرواية بأنّ احتمال صدقها يوجب على الأقلّ احتمال الردع، وهو كاف لإسقاط السيرة عن الحجّيّة.

وأجاب (رضوان الله عليه) على ذلك بأنّ عدم الردع قبل الإمام الصادق(عليه السلام) في صدر الإسلام محرز؛ لعدم نقل ما يدلّ على الردع، ويكشف ذلك عن الإمضاء حدوثاً، فإذا أوجب خبر مسعدة الشكّ في نسخ ذلك الإمضاء جرى استصحاب الإمضاء.

أقول: إنّ دلالة عدم وصول الردع من زمان ما قبل الإمام الصادق(عليه السلام) على الإمضاء قابلة للنقاش؛ لأنّ النصوص الواصلة في الأحكام قبل الإمام الصادق(عليه السلام)قليلة، ولعلّ هذا من جملة الأحكام التي لم تصلنا عمّا قبل الإمام الصادق(عليه السلام).

إلّا أن يفترض أنّ رسوخ السيرة يكون بنحو لو كانت مردوعة لوصل الردع حتّى عمّا قبل الإمام الصادق(عليه السلام).

أمّا إذا قيل: إنّنا نتمسّك بالإمضاء الثابت في أوّل الشريعة، حيث إنّ الإسلام أقرّ أوّلاً

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل، ج 12، ب 4 ممّا يكتسب به، ح 4، ص 60.

589


كلّ ما بيد العقلاء: من نظم وقواعد، ولم يغيّر شيئاً عدا إيجاب الاعتراف بالتوحيد والرسالة، فإذا شككنا بعد ذلك في النسخ جاء الاستصحاب.

قلنا: إنّ المستفاد من قوله(صلى الله عليه وآله) في صدر الشريعة: «قولوا لا إله إلّا الله تفلحوا» وسكوته عن سائر الاُمور ليس بأكثر من عدم الإلزام بحكم إلزاميّ غير الإيمان بالتوحيد والرسالة دون إقرار كلّ النظم العقلائيّة الموجودة.

وأمّا الأحاديث الخاصّة في موارد متفرّقة:

فمنها: ما عن عبدالله بن سليمان عن أبي عبدالله(عليه السلام) في الجبن قال: «كلّ شيء لك حلال حتّى يجيئك شاهدان أنّ فيه ميتة»(1)، وسند الحديث غير تامّ.

ومنها: ما عن محمّد بن مسلم بسند تامّ عن أحدهما(عليهما السلام) قال: «سألته عن رجل ترك مملوكاً بين نفر، فشهد أحدهم أنّ الميّت أعتقه. قال: إن كان الشاهد مرضيّاً لم يضمن، وجازت شهادته في نصيبه، ويستسعى العبد فيما كان للورثة»(2).

ومنها: ما ورد بسند غير تامّ عن منصور: «قال سألت أبا عبدالله(عليه السلام) عن رجل هلك وترك غلاماً، فشهد بعض ورثته أنّه حرّ. قال: إن كان الشاهد مرضيّاً جازت شهادته، ويستسعى فيما كان لغيره من الورثة»(3). وورد عنه نفس المضمون بسند تامّ من دون التصريح بفرض كون الشاهد مرضيّاً(4).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل، ج 17، ب 61 من الأطعمة المباحة، ح 2، ص 91.

(2) الوسائل، ج 16، ب 52 من العتق، ح 1، ص 56.

(3) المصدر السابق، ح 2.

(4) الوسائل، ج 18، الباب 52 من الشهادات، الحديث الوحيد في الباب، ص 304.

590


ومنها: روايات عدم نفوذ شهادة النساء غير المختصّة بباب المرافعة الواردة تارةًفي موارد خاصّة كالرضاع(1)، والعدّة(2)، والطلاق(3)، والنكاح(4)، واُخرى بشكل مطلق غير ما استثني(5)، وما كان منها غير مقيّد بفرض وثاقة الناقل لا تكون دلالته علىعدم حجّيّة خبر الثقة بمجرّد الإطلاق، بل بما هو أقوى من الإطلاق؛ لأنّ الظاهر أنّلها نظراً إلى خصوص خبر الثقة؛ إذ الحيرة والسؤال والجواب إنّما ينصبّ عادة علىخبر الثقة.

ويوجد في روايات شهادة النساء في باب النكاح ما يقول بأنّه لا تنفذ شهادة النساء إلّا مع رجل، وهذا يدلّ إضافة إلى عدم نفوذ شهادة النساء وحدهنّ على عدم نفوذ شهادة الرجل الواحد، وإلّا لما احتجنا إلى ضمّ امرأتين إليه.

ومنها: ما دلّ على أنّ الهلال لابدّ في ثبوته بالشهادة من شهادة رجلين عدلين(6).

ومنها: ما دلّ على عدم ثبوت الشهادة بخبر الواحد(7).

أضف إلى ذلك كلّه ما هو من ضروريّات الفقه: من عدم حجّيّة خبر الواحد في الموضوعات في باب القضاء، ولا أقصد بذلك اختصاص الحجّيّة القضائيّة بالبيّنة، أو

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) راجع الوسائل، ج 14، ب 12 ممّا يحرم بالرضاع.

(2) راجع الوسائل، ج 15، ب 28 من العدد.

(3) (4) (5) جمع صاحب الوسائل أكثر هذه الروايات في الجزء 18، الباب 24 من الشهادات.

(6) توجد جملة من رواياته في الوسائل، ج 7، ب 11 من أحكام شهر رمضان.

(7) راجع الوسائل، ج 18، ب 44 من الشهادات، ح 2 و4، ص 298.

591


العدل الواحد مع اليمين، وإنّما أقصد بذلك أنّ المدّعي لو امتلك خبر واحد ثقة لم يتحوّل بذلك إلى المنكر لتطابق قوله مع الحجّة وهي خبر الثقة، وهذا يعني أنّ خبر الثقة إذن غير حجّة في الموضوعات في مورد القضاء.

وأضف إلى ذلك أيضاً ما هو واضح في باب الحدود نصّاً وفتوىً: من عدم كفاية خبر الواحد فيها، بل لابدّ من شاهدين في بعضها، وشهود أربعة في بعضها الآخر.

أمّا كيفيّة اقتناص النتيجة من هذه الروايات الواردة في الموارد المتفرّقة فتكون بأحد وجوه أربعة:

الوجه الأوّل: دعوى أنّ كثرة هذه الروايات وانقسامها إلى أبواب كثيرة من الفقه تشرف الفقيه على القطع بأنّها كانت ناظرة إلى قاعدة عامّة لا تختصّ بباب دون باب، وهي عدم حجّيّة خبر الواحد في الموضوعات، وهذا يعني الردع عن السيرة لو تمّت في نفسها.

وقد يقال: إنّ هذا القطع لو تمّ فإنّما يتمّ في القاسم المشترك الذي تشترك فيه أكثر هذه الروايات، وهي موارد ترقّب تدخّل الحاكم فيها من قبيل: الهلال، والحدود، والنكاح والطلاق، إمّا من باب أنّ من حقّ الحاكم ابتداءً التدخّل كما في الهلال والحدود، أو من باب أنّ المسألة ذات طرفين فيترقّب الانتهاء إلى النزاع، ووصول الأمر إلى الحاكم كما في النكاح والطلاق. أمّا ما يغلب عليه جانب الفرديّة البحتة كما في الطهارة، والنجاسة، وعدّة الطلاق، فالروايات الواردة فيه المانعة عن العمل بخبر الواحد قليلة، واحتمال الفرق وارد.

ولكن يمكن أن يقال في مقابل ذلك: إنّ احتمال الفرق بين ما يغلب عليه جانب الوظيفة الفرديّة وما يترقّب انتهاؤه إلى تدخّل الحاكم ولكنّه لم ينته إلى تدخّله صدفة لعدم النزاع وتوافقهما على العمل بخبر الواحد لو كان حجّة بعيد، خاصّة وإنّ ما يغلب عليه

592


الجانب الفرديّ قد يؤدّي أيضاً بالنتيجة إلى قضايا ذات طرفين وإلى النزاع، كما في عدّة الطلاق لو اختلفا في أنّ العقد أو رجوع الزوج كان في داخل العدّة أو خارجها، وكما في الطهارة والنجاسة لو اختلف البائع والمشتري في طهارة الجبن المشترى ونجاسته، وخاصّة إذا لاحظنا ما أشرنا إليه: من أنّ خبر الواحد في القضيّة التي هي في أصلها فرديّة لو كان حجّة فمن الغريب أنّه بعد تصادف وقوع النزاع لا يجعل من طابق قوله هذا الخبر منكراً، بينما ترى أنّ أيّ أصل من الاُصول العمليّة يجعل من طابقه قوله منكراً.

الوجه الثاني: الاكتفاء باحتمال كون هذه الروايات الكثيرة تشير إلى كبرى كلّيّة، وهي عدم حجّيّة خبر الواحد في الموضوعات، فإنّ هذا يعني احتمال الردع.

إلّا أنّ هذا الوجه لا يتمّ لو قلنا بما قاله اُستاذنا الشهيد(رحمه الله): من تماميّة إمضاء السيرة في صدر الشريعة، والحاجة إلى القطع بالردع كي لا يجري الاستصحاب.

وكذلك لا يتمّ لتخصيص الإطلاق المستفاد من مثل: «العمريّ وابنه ثقتان، فما أدّيا إليك عنّي فعنّي يؤدّيان» بناءً على تعيين الكبرى المحذوفة ببركة السيرة في حجّيّة خبر الثقة مطلقاً على ما ادّعاه الاُستاذ الشهيد(رحمه الله)، وكذلك لا يتمّ لتخصيص إطلاق آية النبأ لو قلنا بتماميّة دلالتها على حجّيّة خبر العدل.

الوجه الثالث: أن يقال: إنّ العرف بعد تعدّد المورد وتكثّره يُلغي خصوصيّة المورد ويفهم القاعدة العامّة، وهي: أنّ خبر الثقة في الموضوعات بما هو كذلك ليس حجّة إلّا في مورد يفترض خروجه عن القاعدة بنصّ خاصّ.

وهذا الوجه مبتن على مبنى الاعتماد على ظهور يتكوّن من فرض الأدلّة المتفرّقة كخطاب واحد، وهذا ليس صحيحاً عندنا؛ لأنّه اعتماد على ظهور تقديري لا على ظهور فعليّ.

593


الوجه الرابع: أن يقال في كلّ رواية من الروايات الماضية: إنّ العرف يلغي فيها خصوصيّة المورد، ويستفيد منها قاعدة عامّة، وهي: عدم حجّيّة خبر الثقة في الموضوعات، أو ـ على الأقلّ ـ في غير الموضوعات الفرديّة البحتة.

إلّا أنّ هذا لو تمّ فقد يقال: إنّه إنّما يفيد بمقدار إيجاد احتمال الردع، ولا يفيد لإسقاط السيرة لو فرض تماميّة إمضائها في صدر الشريعة، ولا لتقييد إطلاقات الحجّيّة لو شملت الخبر في الموضوعات، وذلك بدعوى أنّه كما وردت أخبار خاصّة في موارد خاصّة من الموضوعات تدلّ على عدم حجّيّة خبر الواحد فيها، كذلك وردت أخبار اُخرى في موارد اُخرى من الموضوعات تدلّ على حجّيّة الواحد فيها، فلو انتزع العرف من الأوّل قاعدة عامّة تقتضي عدم الحجّيّة في مطلق الموضوعات كذلك ينتزع من الثاني قاعدة عامّة تقتضي الحجّيّة فيها، وهما يتعارضان.

وقد جمع اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) في المجلّد الثاني من البحوث روايات كثيرة قد يستدلّ بها على حجّيّة خبر الثقة في الموضوعات، وناقش هو(رحمه الله) في دلالة أكثرها ولم يقبل عدا دلالة حديثين منها، ونحن هنا نقتصر على ذكر هذين الحديثين، أمّا باقي الأحاديث التي ذكرها فمن الواضح بالمراجعة عدم تماميّة دلالتها:

الأوّل: ما ورد بسند تامّ عن هشام بن سالم عن أبي عبدالله(عليه السلام) في رجل وكّل آخر على وكالة في أمر من الاُمور، وأشهد له من ذلك شاهدين، فقام الوكيل، وخرج لإمضاء الأمر، فقال: اشهدوا أنّي قد عزلت فلاناً من الوكالة، فقال: إن كان الوكيل أمضى الأمر الذي وكّل فيه قبل أن يعزل فإنّ الأمر واقع ماض على ما أمضاه الوكيل كره الموكّل أم رضي. قلت: فإنّ الوكيل أمضى الأمر قبل أن يعلم (أن يعزل خ ل) العزل، أو يبلغه أنّه قد عزل عن الوكالة، فالأمر على ما أمضاه ؟ قال: نعم. قلت له: فإن بلغه العزل قبل أن يمضى الأمر ثُمّ

594


ذهب حتّى أمضاه لم يكن ذلك بشيء ؟ قال: نعم، إنّ الوكيل إذا وكّل ثُمّ قام عن المجلس فأمره ماض أبداً، والوكالة ثابتة حتّى يبلغه العزل عن الوكالة بثقة يبلغه، أو يشافه (يشافهه خ ل) بالعزل عن الوكالة(1).

ويمكن الإيراد على الاستدلال بهذا الحديث بأنّ غاية ما يدلّ عليه هذا الحديث هي: أنّ خبر الثقة قام مقام العلم الموضوعيّ بالعزل في إبطال عمل الوكيل واقعاً عند مصادفة العزل، وفي قطع استصحاب بقاء الوكالة، وهذا غير قيامه مقام القطع الطريقيّ الذي هو معنى حجّيّته.

وأجاب على ذلك اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) في البحوث(2) بأنّه يفهم عرفاً من إقامته مقام القطع الموضوعيّ المأخوذ على وجه الطريقيّة في الموضوع أنّه حجّة وكاشف شرعاً.

أقول: إنّ هذا الاستظهار غير واضح عندي.

الثاني: ما ورد بسند تامّ عن إسحاق بن عمّار عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال: سألته عن رجل كانت له عندي دنانير، وكان مريضاً فقال لي: إن حدث بي حدث فاعط فلاناً عشرين ديناراً، واعط أخي بقيّة الدنانير. فمات ولم أشهد موته، فأتاني رجل مسلم صادق فقال لي: إنّه أمرني أن أقول لك: انظر الدنانير التي أمرتك أن تدفعها إلى أخي، فتصدّق منها بعشرة دنانير أقسمها في المسلمين. ولم يعلم أخوه أنّ عندي شيئاً. فقال: أرى أن تصدّق منها بعشرة دنانير(3).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل، ج 13، ب 2 من الوكالة، ح 1، ص 286.

(2) ج 2، ص 98.

(3) الوسائل، ج 13، ب 97 من الوصايا، ح 1، ص 482.

595

 

منع الحاجة إلى قرينة إضافيّة:

الجهة الثانية: هل أنّ وثاقة الراوي، أو موثوقيّة الرواية بمعنى الظنّ بصدقها الناشئ من وثاقة الراوي كافية في حجّيّة الخبر ؟ أو لابدّ من أمر زائد وهو وجود قرينة خارجيّة وشاهد صدق لذلك الخبر ؟

التحقيق: كفاية تلك الوثاقة أو الموثوقيّة، وعدم الحاجة إلى قرينة اُخرى خارجيّة، ودليلنا على ذلك هو السنّة والسيرة:

أمّا السنّة: فلأنّ مثل قوله: «العمريّ وابنه ثقتان، فما أدّيا إليك عنّي فعنّي يؤدّيان، وما قالا لك عنّي فعنّي يقولان، فاسمع لهما وأطعهما، فإنّهما الثقتان المأمونان» ظاهر في فرض الموضوع للحجّيّة نفس الوثاقة أو الموثوقيّة بالمعنى الذي عرفت دون دخل شيء آخر فيه، فإنّه فرّع الحجّيّة على الوثاقة وعلّلها بها منفردة. ونحو ذلك بعض الروايات المؤيّدة لهذه الرواية كقوله: «ما يمنعك من محمّد بن مسلم الثقفيّ، فإنّه سمع من أبي، وكان عنده مرضيّاً» بناءً على دلالته على


ولعلّ اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) حمل جهة السؤال في هذا الحديث على السؤال عن حجّيّة إخبار الثقة، ولكن من المحتمل: أنّ هذا السائل كان جازماً بصدق المخبر ولو بقرينة أنّه أخبره بأمر وقع بينه وبين المرحوم في غياب هذا المخبر الثقة، بل ولعلّ المقصود من قوله: «رجل مسلم صادق» الجزم بصدقه، وكان سؤاله منصبّاً على أنّه هل يجب إطلاع الوارث على الأمر كي يقبل بذلك، أو يرفع الأمر إلى الحاكم، أو بإمكانه أن ينفّذ الوصيّة ويعطي الباقي إلى الوارث من دون إعلامه بالأمر حذراً من عدم اقتناع الوارث بذلك، وتحقّق النزاع والمحاكمة ؟ فكان الجواب بالعمل بالوصيّة. ولو فرض إجمال السؤال فالصحيح أنّ إجمال السؤال يؤدّي إلى إجمال الجواب لا إلى الإطلاق بملاك ترك الاستفصال.

596

حجّيّة خبر الثقة. فإنّ ظاهره كون المقياس هو كون الراوي مرضيّاً من دون إضافة قيد آخر.

أمّا السيرة: فللتمسّك بها هنا تقريبان:

التقريب الأوّل: أنّنا لو فرضنا عدم قطعيّة السنّة الدالّة على حجّيّة خبر الواحد، وكان دليلنا القطعيّ عبارة عن السيرة، فلا إشكال في أنّ حديث عبدالله بن جعفر الحميريّ الذي ورد فيه قوله: «العمريّ وابنه ثقتان ...» داخل في القدر المتيقّن من السيرة، ولو مع فرض الشكّ في موضوع الحجّيّة الثابتة بالسيرة، وأنّه هل هو وثاقة الراوي وحدها، أو لا ؟ فإنّ هذا الحديث شامل لكلّ ما يحتمل دخله في حجّيّة الخبر، من وثاقة الراوي، وعمل الأصحاب، وذكره في الكتب المعتبرة، واعتمادهم عليه، ونحو ذلك، فإنّ القرائن التي تذكر في الفقه لصحّة الخبر عبارة عن هذه الاُمور، وهذه مجتمعة في هذا الحديث، ولو فرض لزوم التعويل على قرينة اُخرى لزم عدم حجّيّة خبر في الفقه، وإذا ثبتت حجّيّة هذا الحديث بالسيرة تمسّكنا بظهوره. وقد عرفت ظهوره في موضوعيّة وثاقة الراوي وحدها للحجّيّة بما هي وثاقة للراوي، أو بما هي مورثة لموثوقيّة الرواية.

التقريب الثاني: أنّ الأخبار الواردة عن الثقة من دون الاحتفاف بقرينة معاضدة كانت موجودة في ضمن أخبار أصحابنا لا محالة، وكانت ممّا يعمّ بها الابتلاء، فلا يخلو الأمر من أربعة فروض:

إمّا أنّهم كانوا يعملون بها من دون سؤال.

أو أنّهم سألوا الإمام عن حجّيّتها، فاُجيبوا بالإثبات فعملوا بها.

أو أنّهم سألوا فاُجيبوا بالنفي فتركوا العمل بها.

أو أنّهم تركوا العمل بها من دون سؤال.

والأوّلان لا يفيدان المطلوب، والأخيران باطلان، فإنّنا لا نحتمل تركهم للعمل

597

من دون سؤال أصلاً؛ إذ لئن لم يكن الارتكاز العقلائيّ لهم على الحجّيّة فلا أقلّ من الميل، وإلّا فلا أقلّ من تحيّرهم واحتمالهم للحجّيّة، فإنّ حجّيّتها ليست ممّا يخالفه الارتكاز والطبع العقلائيّ. ولا نحتمل أيضاً أنّهم سألوا فاُجيبوا بالنفي، ولم يصلنا النفي بالرغم من توفّر الدواعي في مثل ذلك إلى السؤال والجواب والنقل. ويؤيّد المقصود أنّه بدلاً عن أن يصلنا النفي وصلنا الإثبات في بعض الروايات، وتؤيّده أيضاً القرائن الكثيرة الدالّة على ارتكاز موضوعيّة عنوان وثاقة الراوي للحجّيّة في أذهان أصحاب الأئمّة وفقهائنا المتقدّمين ـ رضوان الله عليهم ـ إلى زمان الشيخ الطوسيّ(قدس سره)، وتلك القرائن كثيرة جدّاً، منها ما يلي:

1 ـ قوله: «أفيونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ عنه معالم ديني ؟» فإنّه يدلّ على مركوزيّة حجّيّة خبر الثقة بما هو خبر الثقة في ذهنه.

2 ـ كلام الشيخ(قدس سره) في العدّة: أنّي وجدت الطائفة مجمعة على العمل بهذه الأخبار (يعني غير المحفوفة بقرينة تفيد العلم) حتّى أنّ واحداً منهم إذا أفتى بشيء لا يعرفونه سألوا من أين قلت ؟ فإذا أحالهم إلى كتاب معروف، وأصل مشهور، وكان راويه ثقة لا ينكرون حديثه سلّموا الأمر في ذلك، وهذه عادتهم من عهد النبيّ(صلى الله عليه وآله) ومن بعده من الأئمّة إلى زمان الصادق الذي انتشر عنه العلم، وكثرت الرواية من جهته.

3 ـ قال النجاشيّ(رحمه الله) في محمّد بن أحمد بن يحيى: وكان محمّد بن الحسن بن الوليد يستثني من رواية محمّد بن أحمد بن يحيى ما رواه عن محمّد بن موسى الهمدانيّ، وعدّ نيّفاً وعشرين رجلاً ثُمّ قال: قال أبو العبّاس ابن نوح: وقد أصاب شيخنا أبو جعفر في ذلك كلّه، وتبعه أبو جعفر ابن بابويه على ذلك إلّا في محمّد بن عيسى بن عبيد، فلا أدري ما رأيه فيه؛ لأنّه كان على ظاهر العدالة والثقة.

598

4 ـ ما في الفقيه: وأمّا خبر صلاة يوم الغدير (يشير بذلك إلى خبر ورد في استحباب صلاة العيد في يوم الغدير)، فإنّ شيخنا محمّد بن الحسن كان لا يصحّحه، ويقول: إنّه كان من طريق محمّد بن موسى الهمدانيّ، وكان غير ثقة، وكلّ ما لم يصحّحه ذلك الشيخ ـ قدّس الله روحه ـ ولم يحكم بصحّته من الأخبار فهو عندنا متروك غير صحيح. فإنّ الظاهر من مثل هذا الكلام كون الوثاقة هي المدار وجوداً وعدماً.

5 ـ ما يوجد في كلمات الرجاليّين كالنجاشيّ وغيره في شهاداتهم بشأن الرواة: من أنّ فلاناً صحيح الحديث، وثقة في حديثه، ونحو ذلك، فإنّ مثل هذا الكلام منهم يشعر بأنّ الوثاقة بنفسها موضوع للاعتماد على الحديث.

6 ـ ما يذكر من عمل الأصحاب بمراسيل ابن أبي عمير والبزنطيّ وغيرهما؛ لأنّهم لا يروون ولا يرسلون إلّا عن ثقة.

7 ـ كلام جعفر بن قولويه في كامل الزيارات: إنّه لا يروي في الكتاب إلّا ما انتهى إليه من جهة الثقات من أصحابنا، فإنّ هذا يشعر بأنّ خبر الثقة يكون معتمداً عليه ومقبولاً.

8 ـ ما ذكره عليّ بن إبراهيم بن هاشم في مقدّمة تفسيره ـ بناءً على صحّة إسناد ما يسند إليه: من التفسير ـ من قوله: ونحن ذاكرون ومخبرون بما ينتهي إلينا ورواه مشايخنا وثقاتنا عن الذين فرض الله طاعتهم. فإنّ هذا كسابقه يشعر أيضاً بالمقصود.

وعلى أيّ حال، فقد تحصّل إلى هنا أنّه لا تشترط في حجّيّة خبر الثقة قرينة إضافيّة على صدقه، بل تكفي في حجّيّته الوثاقة، فيكون خبر الثقة حجّة مطلقاً في قبال دعوى اشتراط القرينة سواء فرضنا أنّ موضوعيّة الوثاقة تكون بما هي حالة نفسيّة قائمة بالراوي، أو بما هي تعطي الكشف للخبر.