65

 

 

 

﴿وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَل مُّبِين﴾(1).

 

معنى ﴿شَغَفَهَا حُبّاً﴾:

﴿شَغَفَهَا حُبّاً﴾ يعني: أنّ حبّه مزّق حجاب قلبها أو قشرته، ونفذ إلى أعماق فؤادها. فهي في ضلال مبين.

روي في البحار(2) عن ابن عبّاس قال: «مكث يوسف(عليه السلام) في منزل الملك وزليخا ثلاثَ سنين، ثُمّ أحبّته فراودته، فبلغنا ـ والله العالم ـ أنّها



(1) الآية: 30.

﴿وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ...﴾وفي قوله: ﴿تُرَاوِدُ﴾دلالة على الاستمرار. شغفها حبّاً: أي: أصاب شغاف قلبها، أي: باطنه، وشغاف القلب لغةً: غلافه المحيط به. والمعنى: وقال عدّة من نساء المدينة لا يخلو قولهنّ من أثر فيها وفي حقّها: امرأة العزيز تستمرّ في مراودة عبدها عن نفسه، ولا يحري بها ذلك؛ لأنّها امرأة.

(2) ج 12، ص 270، ح 45.

66

مكثت سبع سنين على صدر قدميها وهو مطرق إلى الأرض لا يرفع طرفه إليها؛ مخافة من ربّه، فقالت يوماً: ارفع طرفك وانظر إليّ، قال: أخشى العمى في بصري، قالت: ما أحسن عينيك! قال: هما أوّل ساقط على خدّي في قبري، قالت: ما أطيب ريحك! قال: (لو سمعت)(1) رائحتي بعد ثلاث من موتي، لهربتِ منّي، قالت: لِمَ لا تقرب منّي؟! قال: أرجو بذلك القرب من ربّي، قالت: فرشي الحرير، فقم واقضِ حاجتي، قال: أخشى أن يذهب من الجنّة نصيبي، قالت: اُسلّمك إلى المعذّبين، قال: إذن يكفيني ربّي».

 

* * *



(1) المفروض أن يكون التعبير: (لو شممت). (من المؤلّف دام ظلّه).

67

 

 

 

﴿فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأًوَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَة مِّنْهُنَّ سِكِّينَاً وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَـذَا بَشَراً إِنْ هَـذَا إلاَّمَلَكٌ كَرِيمٌ * قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْـتُنَّنِي فِيهِ(1) وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن



(1) يعجبني بمناسبة هذه الآية الكريمة أن أنقل هذا المقطع الشعريّ الذي قيل بشأن عليّ(عليه السلام):

يا واصفَ المرتضى قد صِرْتَ في تيهِ
هيهاتَ هيهاتَ ممّا أن تمنّيهِ
وَهْو الذي كانَ بيتُ اللهِ مولدَهُ
وصاحبُ البيتِ أدرى بالذي فيهِ
يا لائمي في عليّ لا تلُمْنِ بهِ
فإنّه منشأُ الأشياءِ ومنشيهِ
مهلاً إلى الحشرِ إذ إنّي أقولُ لكُمْ
فذلكنَّ الذي لمتنَّني فيهِ ←
68

نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناًمِّنَ الصَّاغِرِينَ * قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِوَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ *


ولا يخفى أنّ منشأيّته للأشياء ومُنشئيّته لها تعطي بظاهرها معنى اُلوهيّته(عليه السلام)، وهذا كفر بالله أو شرك، فلو اُريد توجيه ذلك يجب أنيفسّر بمثل ما اشتهر بشأن رسول الله(صلى الله عليه وآله) من رواية «لولاك لما خلقتالأفلاك».

وقد يدّعى وجود تتمّة للرواية، وهي: «ولولا عليّ لما خلقتك، ولولا فاطمة لما خلقتكما» فلو صحّت هذه فليس معناها: أنّ عليّاً(عليه السلام)أفضل من رسول الله(صلى الله عليه وآله)؛ فإنّ رسول الله أفضل من عليّ، ولا أنّ فاطمة(عليها السلام)أفضل منهما، فإنّهما أفضل من فاطمة، بل معناها: أنّه لولا عليٌّ لذهبت جهودرسول الله(صلى الله عليه وآله) من بعد فوته أدراج الرياح، وانمحى الدين نهائيّاً، ولولا فاطمة لذهبت جهودهما أدراج الرياح؛ لأنّ عليّاً(عليه السلام) لم يستطع أخذ الحقّ وإحقاقه بالسيف، في حين أنّ ذاك الحقّ من صلب الإسلام الحقيقيّ، واضطرّ إلى الصلح، فكانت تبقى الحقيقة مخفيّة إلى الأبد، والذي أدرك الموقف وأوضح الأمر هو الوجود العاطفيّ لفاطمة(عليها السلام)في نفوس الاُمّة ممّا أمكنها في خطبتها الغرّاء، وغير ذلك أن تقف المواقف التي سبّبت انتشار الحقّ ولو بعد حين. (من المؤلّف دام ظلّه).

69

فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾(1).

 



(1) الآية: 31 ـ 34.

﴿فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ...﴾المكر: هو الفتل بالحيلةعلى ما يراد من الطلبة، وتسمية هذا القول منهنّ مكراً بامرأة العزيز؛لما فيه من فضاحتها وهتك سترها من ناحية رقيباتها حسداً وبغياً،وإنّما أرسلت إليهنّ لتريهنّ يوسف، وتبتليهنّ بما ابتليت به نفسها،فيكففن عن لومها، ويعذرنها في حبّه. وقيل: إنّما كان قولهنّ مكراًلأنّهنّ جعلنه ذريعة إلى لقاء يوسف؛ لما سمعن من حسنه البديع، فإنّماقلن هذا القول لتسمعه امرأة العزيز، فترسل إليهنّ ليحضرن عندها،فتريهنّ إيّاه؛ ليعذرنها فيما عذلنها له، فيتّخذن ذلك سبيلاً إلى أن يراودنهعن نفسه. والاعتاد: الإعداد والتهيئة. والمتّكأ بضمّ الميم وتشديد التاء:اسم مفعول من الاتّكاء، والمراد به ما يُتّكأ عليه من نمرق أو كرسيّ، وفسّر المتّكأ بالاترج، وهو نوع من الفاكهة، كما قرئ في الشواذّ (مُتْكأ) بالضمّ فالسكون، وهو الاترج، وقرئ (مُتّكاً) بضمّ الميم وتشديد التاء من غير همز. و ﴿وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَة مِّنْهُنَّ سِكِّينَاً﴾أي: لقطع ما يرون أكله من الفاكهة. ﴿وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ﴾أي: أمرت يوسف أن يخرج عليهنّ وهنّ خاليات الأذهان، فارغات القلوب، مشتغلات بأخذ الفاكهة وقطعها. ﴿فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ﴾الإكبار: الإعظام، وهو كناية عن اندهاشهنّ وغيبتهنّ عن

70


شعورهنّ وإرادتهنّ بمفاجأة مشاهدة ذاك الحسن الرائع، فقطّعن أيديهنّ تقطيعاً مكان الفاكهة التي كنّ يردن قطعها. ﴿وَقُلْنَ حَاشَ لله﴾تنزيه لله سبحانه في أمر يوسف، وهذا كقوله تعالى: ﴿ما يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ﴾النور:(16)، وهو من أدب الكلام عند الملّيّين إذا جرى القول في أمر فيه نوع تنزيه وتبرئة لأحد يبدأ فينزّه الله سبحانه، ثُمّ يشتغل بتنزيه من اُريد تنزيهه، فهنّ لمّا أردن تنزيهه(عليه السلام) بدأن بتنزيهه تعالى، ثُمّ أخذن ينزّهنه. ﴿مَا هَـذَا بَشَراً إِنْ هَـذَا إلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ﴾ نفي أن يكون يوسف(عليه السلام)بشراً، وإثبات أنّه ملك كريم، وهذا بناءً على ما يعتقده الملّيّون ومنهم الوثنيّون: أنّ الملائكة موجودات شريفة هم مبادئ كلّ خير وسعادة في العالم، منهم يترشّح كلّ حياة وعلم وحسن وبهاء وسرور، وسائر ما يتمنّى ويؤمّل من الاُمور.

﴿قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْـتُنَّنِي فِيهِ...﴾الكلام في موضع دفع دخل، كأنّ قائلا يقول: فماذا قالت امرأة العزيز لهنّ؟ فقيل: قالت: فذلكنّ الذي لمتنّني فيه. وأشارت إلى شخص الذي لمنها فيه، ووصفته بأنّه الذي لمنها فيه؛ ليكون هو بعينه جواباً عمّا رمينها به من ترك شرف بيتها، وعزّة زوجها، وعفّة نفسها في حبّه، وعذراً قبال لومهنّ إيّاها في مراودته. ثُمّ اعترفت

71

 

 


بالمراودة، وذكرت لهنّ أنّها راودته، لكنّه أخذ بالعفّة وطلب العصمة،وإنّما استرسلت وأظهرت لهنّ ما لم تزل تخفيه لمّا رأت موافقة القلوبعلى التولّه فيه، فبثّت الشكوى لهنّ، ونبّهت يوسف على أنّها غير تاركة له، فليوطّن نفسه على طاعتها فيما تأمر به، وهذا معنى قولها: ﴿وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ﴾ثُمّ ذكرت لهنّ ما عزمت عليه من إجباره على الموافقة، فقالت: ﴿وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِّنَ الصَّاغِرِينَ﴾ أي: ولو رفض فليوطّن نفسه على السجن بعد الراحة، والصغار والهوان بعد الإكرام والاحترام.

﴿قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ... أَصْبُ إِلَيْهِنَّ﴾ صبا فلان يصبو صبواً وصبوةً إذا نزع واشتاق، وفعل فعل الصبيان. قال يوسف(عليه السلام) ـ بعد أن استرسل النسوة في بثّ ما في ضمائرهنّ ويوسف(عليه السلام) واقف أمامهنّ يدعونه ويراودنه عن نفسه ـ: ربّ السجن أحبّ إليّ ممّا يدعونني إليه؛ فإنّي لو خيّرت بين السجن وبين ما يدعونني إليه، لاخترت السجن على غيره، وأسألك أن تصرف عنّي كيدهنّ؛ فإنّك إن لا تصرف عنّي كيدهنّ، أشتق وأمل إليهنّ، وأكن من الجاهلين، وأقع في مهلكة الصبوة والهوى.

﴿فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ﴾أي: استجاب الله مسألته في صرف كيدهنّ عنه حين قال: ﴿وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ﴾.

72

مكر امرأة العزيز لدفع اللوم عنها:

قوله: ﴿مُتَّكَأً﴾ قرئ (متْكاً) أي: اُترجّة(1)، كما قرئ (متّكأً)، فإنّهم كانوا يتّكئون للطعام والشراب تترّفاً، فالنتيجة على كلا التقديرين: أنّها أعتدت لهنّ ما يقطّع بالسكّين، وآتت كلّ واحدة منهنّ سكّيناً، حتّى إذا ذهلن برؤية يوسف قطّعن أيديهنّ بدلاً من قطع الطعام الذي هو اُترجّة أو غيرها. وهذا أكبر مكر مكرته امرأة العزيز.

وعلى أيّة حال، فتلك النسوة لاحظن في يوسف(عليه السلام) سيماء الحياء والطُهر، و وقار التقوى والورع، وجمال الصورة والهيئة الذي أدّى إلى تقطيع أيديهنّ، فقلن: ﴿حَاشَ لِلّهِ مَا هَـذَا بَشَراً إِنْ هَـذَا إلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ﴾ وبذلك استطاعت زليخا أن تثبت لهنّ أنّ لها الحقّ في ابتلائها بتعشّق يوسف، وقالت: ﴿فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ﴾ واعترفت بذنبها حين رأت أنّ زوجها لم يكترث لذلك بأكثر من أنّه قال: ﴿اسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ﴾فقالت: ﴿وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِّنَ الصَّاغِرِينَ﴾ وهذا الكلام شاهد على أنّ التعشّق الجنسيّ ليس حبّاً حقيقيّاً للمعشوق، وإنّما هو حبّ حقيقيّ لنفس العاشق؛ إذ لو كان حبّاً للمعشوق لما استعدّ العاشق لإيذاء



(1) رواه في كنز الدقائق، ج 6، ص 302 عن تفسير عليّ بن إبراهيم.

73

المعشوق خصوصاً على مستوى ﴿لَيَكُوناً مِّنَ الصَّاغِرِينَ﴾ فلم يكن هذا إلاّ حبّاً لشهوتها الجنسيّة، وإنّما الحبّ الحقيقيّ هو حبّ الكمالات والمعنويّات، والمصداق الكامل لذلك هو حبّ الله سبحانه وتعالى(1).

 

السجن أحبّ إلى يوسف(عليه السلام):

ثُمّ انكشف ليوسف أنّ تلك النسوة لسن بأتقى من زليخا؛ إذ بدأت كلّ واحدة منهنّ تدعوه إلى نفسها على ما ورد في تفسير كنز الدقائق نقلاً عن تفسير عليّ بن إبراهيم، بسند له إلى الرضا(عليه السلام): «فما أمسى يوسف في ذلك البيت حتّى بعثت كلّ امرأة رأته تدعوه إلى نفسها،



(1) وفي مصباح الشريعة: حبّ الله إذا أضاء على سرّ عبد، أخلاه عن كلّ شاغل، وكلّ ذكر سوى الله. والمحبّ أخلص الناس سرّاً لله، وأصدقهم قولاً، وأوفاهم عهداً، وأزكاهم عملاً، وأصفاهم ذكراً، وأعبدهم نفساً، تتباهى الملائكة عند مناجاته، وتفتخر برؤيته، وبه يعمر الله تعالى بلاده، وبكرامته يكرم عباده، يعطيهم إذا سألوا بحقّه، ويدفع عنهم البلايا برحمته، فلو علم الخلق ما محلّه عند الله ومنزلته لديه، ما تقرّبوا إلى الله إلاّ بتراب قدميه.

وعن إمامنا زين العابدين(عليه السلام) في مناجاة المحبّين:

«إلهي، من ذا الذي ذاق حلاوة محبّتك، فرام منك بدلاً، ومن ذا الذي أنس بقربك، فابتغى عنك حولاً». (من المؤلّف دام ظلّه).

74

فضجر يوسف، فقال: ﴿رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ﴾»(1).

 



(1) كنز الدقائق، ج 6، ص 306، وفيه نقلاً عن تفسير عليّ بن إبراهيم: شكا يوسف في السجن إلى الله، فقال: يا ربّ، بما استحققت السجن؟ فأوحى الله إليه: أنت اخترته حين قلت: ﴿رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ﴾هلاّ قلت: العافية أحبّ إليّ ممّا يدعونني إليه؟!

وكذلك نقل في الصفحة (305) عن أنوار التنزيل: إنّما ابتلي بالسجن لقوله هذا، وإنّما كان الأولى به أن يسأل الله العافية، ولذلك ردّ رسول الله(صلى الله عليه وآله)على من كان يسأل الصبر على البلاء، يعني: فاسأل العافية وكشف البلاء بدلاً من سؤال الصبر على البلاء.

وهناك قصّة طريفة عن بعض نساء مصر بحضرة يوسف دفاعاً عن زليخا، أو توسيطاً بينه وبين زليخا، رواها الشيخ ناصر مكارم عن بعض في تفسير الأمثل (ج 7، ص 200):

قالت إحداهنّ: لماذا هذا الاستعصام والدلال والتمنّع؟! ولماذا لا ترحمهذه العاشقة المبتلاة؟! ألا ترى هذا الجمال الفائق؟! ألست أنت شابّاً؟! أوَ لست تلتذّ بالجمال والعشق؟! أفهل أنت حجرٌ أم خشب أم ماذا؟!

وقالت الاُخرى: إن كنت لا تفهم شيئاً من الجمال والعشق، أفلا تعلم أنّها امرأة عزيز مصر، ولها كلّ القدرة والعظمة في هذه البلاد، فلو أطعتها ملكت

75

 

 

 


كلّ هذه الإمكانات والمقامات؟!

والثالثة قالت: إنّ امرأة العزيز تمتلك وسائل الانتقام كاملة، أفلا تهابها؟! أو لا تخشى السجن المهول والمخوف المظلِم؟!

ولكن يوسف الذي كان قد ربّى نفسه بنور الإيمان والورع والتقوى لم يجادلهنّ في ذلك، بل اتّجه إلى الله سبحانه قائلاً: ﴿رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ﴾.

وأيضاً روى في الخصال، باب السبعة عن رسول الله(صلى الله عليه وآله): «سبعةٌ يظلّهم الله عز وجل في ظلّه يوم لا ظلّ إلاّ ظلّه: إمام عادل، وشابٌّ نشأ في عبادة الله عز وجل، ورجل قلبه متعلّق بالمسجد إذا خرج منه حتّى يعود إليه، ورجلان كانا في طاعة الله عز وجل، فاجتمعا على ذلك وتفرّقا، ورجل ذكر الله عز وجل خالياً ففاضت عيناه من خشية الله عز وجل، ورجل دعته امرأة ذات حسب وجمال فقال: إنّي أخاف الله عز وجل، ورجل تصدّق بصدقة فأخفاها حتّى لا تعلم شماله ما يتصدّق بيمينه». (من المؤلّف دام ظلّه).

76

 

 

 

﴿ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِين * وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الُْمحْسِنِينَ * قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْم لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ * وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِـي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللّهِ مِن شَيْء ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ﴾(1).

 



(1) الآية: 35 ـ 38.

﴿ثُمَّ بَدَا لَهُم﴾البداء: هو ظهور رأي بعد ما لم يكن، يقال: بدا لي في أمر كذا، أي: ظهر لي فيه رأي جديد، والضمير في قوله: ﴿لَهُم﴾يعود إلى العزيز وامرأته ومن يتلوهما من أهل الاختصاص وأعوان الملك. والمراد بالآيات الشواهد والأدلّة الدالّة على براءة يوسف(عليه السلام)وطهارة ذيله ممّا اتّهموه به،

77


كشهادة الصبّي، وقدّ القميص من خلفه، واستباقهما الباب معاً. وقوله: ﴿لَيَسْجُنُنَّهُ﴾ اللام فيه للقسم، أي: أقسموا وعزموا ليسجننّه البتّة، وهو تفسير للرأي الذي بدا لهم، والمعنى: ليسجننّه حتّى ينقطع حديث المراودة الشائع في المدينة، وينساه الناس.

﴿وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ...﴾الفتى: العبد، وسياق الآيات يدلّ على أنّهما كانا عبدين من عبيد الملك، وقد وردت به الروايات. وقوله: ﴿أَرَانِي﴾ لحكاية الحال الماضية، وقوله: ﴿أَعْصِرُ خَمْراً﴾ أي: أعصر عنباً كما يعصر ليتّخذ خمراً، فقد سمّى العنب خمراً باعتبار ما يؤول إليه. والمعنى: أصبح أحدهما وقال ليوسف(عليه السلام): إنّي رأيت فيما يرى النائم أنّي أعصر عنباً للخمر. وقوله: ﴿وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ﴾أي: تنهشه، وهي رؤيا اُخرى ذكرها صاحبه. وقوله: ﴿نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ﴾أي: قالا: نبّئنا بتأويله، فاكتفى عن ذكر الفعل بقوله: قال وقال، وهذا من لطائف تفنّن القرآن. وقوله: ﴿إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الُْمحْسِنِينَ﴾تعليل لسؤالهما التأويل، و﴿نَرَاكَ﴾أي: نعتقدك من المحسنين؛ لما نشاهد فيك من سيماهم.

والمعنى: قال أحدهما ليوسف: إنّي رأيت فيما يرى النائم كذا، وقال الآخر: إنّي رأيت كذا، وقالا له: أخبرنا بتأويل ما رآه كلّ منّا؛ لأ نّا نعتقد أنّك من

78

قرار سجن يوسف(عليه السلام) بعد رؤية الآيات:

قوله تعالى: ﴿منْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الآيَات﴾ المتيقّن ممّا نعرفه من الآيات قدّ القميص من دُبر، والمحتمل هو افتراض أنّ الشاهد كان


المحسنين، ولا يخفى عليهم أمثال هذه الاُمور الخفيّة لزكاء نفوسهم وصفاء قلوبهم.

﴿قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ... * وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِـي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ...﴾لمّا أقبل صاحبا السجن على يوسف(عليه السلام) في سؤاله عن تأويل رؤيا رأياها عن حسن ظنّ به من جهة ما كانا يشاهدان منه من سيماء المحسنين، اغتنم(عليه السلام)الفرصة في بثّ ما عنده من أسرار التوحيد، والدعوة إلى ربّه سبحانه الذي علّمه ذلك، فأخبرهما أنّه عليم بذلك بتعليم من ربّه، خبير بتأويل الأحاديث، وتوسّل بذلك إلى الكشف عن سرّ التوحيد، ونفي الشركاء، ثُمّ أوّل رؤياهما، فقال أوّلا: لا يأتيكما طعام ترزقانه وأنتما في السجن إلاّ نبّأتكما بتأويله، أي: بتأويل ما حصلت رؤيته في المنام وحقيقته، وما يؤول إليه أمره. ثُمّ بيّن(عليه السلام)أنّ العلم والتنبّؤ بتأويل الأحاديث ليس من العلم الاعتياديّ الاكتسابيّ في شيء، بل هو ممّا علّمه إيّاه ربّه، ثُمّ علّل ذلك بتركه ملّة المشركين، واتّباعه ملّة آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب، أي: رفضه دين الشرك، وأخذه بدين التوحيد.

79

صبيّاً، فكان هذا إعجازاً، والآيات الاُخرى قد تكون هي: وقار الحياء، وهيبة الإيمان، ونور الورع والتقوى، واستعصامه من بقيّة الفتيات.

قوله تعالى: ﴿وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ﴾ فُسّر ذلك بعبدين من عبيد الملك، أحدهما: خبّاز، والآخر: صاحب الشراب(1)، والظاهر أنّهما كان متّهمين بإرادة سقي الملك السمّ، فسجنا مع يوسف(عليه السلام).

قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاس﴾ المقصود بفضله تعالى على الناس: إمّا هو فطريّة التوحيد، وإمّا هو إرسال الرُسل إليهم؛ لكي يعلّموهم التوحيد ولوازمه، أو كلاهما معاً.

قوله تعالى: ﴿وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ﴾ وذلك بكفران النعمة: إمّا برفض التوحيد، وإمّا بالعصيان والفسق، ورفض الطاعة.

 

* * *



(1) كنز الدقاق، ج 6، ص 309 نقلاً عن تفسير عليّ بن إبراهيم.

80

 

 

 

﴿يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إلاَّ أسْماءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنْزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَان إِنِ الْحُكْمُ إلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ * يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ * وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاج مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ﴾(1).

 



(1) الآية: 39 ـ 42.

﴿يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ...﴾لفظة ( الخير) بحسب الوزن صفة، من قولهم: خار يخار خيرةً: إذا انتخب واختار أحد شيئين يتردّد بينهما من حيث الفعل، أو من حيث الأخذ بوجه، فالخير منهما هو الذي يفضل على الآخر في صفة المطلوبيّة، فيتعيّن الأخذ به، فخير الفعلين هو المطلوب منهما الذي يتعيّن القيام به، وخير الشيئين هو المطلوب منهما من جهة الأخذ به، كخير المالين من جهة التمتّع به، وخير الدارين من جهة

81


سكناها وهكذا، فتبيّن: أنّ قوله(عليه السلام): ﴿أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾مسوق لبيان الحجّة على تعيّنه تعالى للعبادة إذا فرض تردّد الأمر بينه وبين سائر الأرباب التي تدعى من دون الله، لا لبيان أنّه تعالى هو الحقّ الموجود دون غيره من الأرباب، أو أنّه تعالى هو الإله الذي تنتهي إليه الأشياء بدءاً وعوداً دونها، أو غير ذلك؛ فإنّ الشيء إنّما يسمّى خيراً من جهة طلبه وتعيينه بالأخذ به بنحو. ثُمّ إنّه(عليه السلام)سمّى آلهتهم أرباباً متفرّقين لأنّهم كانوا يعبدون الملائكة، وهم عندهم صفات الله سبحانه، أو تعيّنات ذاته المقدّسة التي تستند إليها جهات الخير والسعادة في العالم. ﴿أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾أي: إنّه تعالى واحد، لكن لا واحد عدديّ إذا اُضيف إليه آخر صار اثنين، بل واحد لا يمكن أن يفرض قباله ذات إلاّ وهي موجودة به لا بنفسها، ولا أن يفرض قباله صفة له إلاّ وهي عينه، وإلاّ صارت باطلة، كلّ ذلك لأنّه غير محدود بحدّ، ولا منته إلى نهاية، وتبطل بذلك أيّ تفرقة مفروضة بين الذات والصفات.

﴿مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إلاَّ أسْماءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم...﴾بدأ(عليه السلام)بخطاب صاحبيه في السجن أوّلا، ثُمّ عمّم الخطاب للجميع؛ لأنّ الحكم مشترك بينهما وبين غيرهما من عبدة الأوثان، ونفى العبادة إلاّ عن الأسماء

82


كناية عن أنّه لا مسمّيات وراء هذه الأسماء، فتقع العبادة في مقابل الأسماء كلفظة إله السماء، وإله الأرض وإله البحر، وإله البر، والأب والاُمّ وابن الإله، ونظائر ذلك. وقد أكّد كون هذه الأسماء ليس وراءها مسمّيات بقوله: ﴿أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم﴾ فإنّه في معنى الحصر، أي: لم يضع هذه الأسماء أحد غيركم، بل أنتم وآباؤكم وضعتموها، ثُمّ أكّده ثانياً بقوله: ﴿ما أَنْزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَان﴾والسلطان: هو البرهان؛ لتسلّطه على العقول، أي: ما أنزل الله بهذه الأسماء أو بهذه التسمية من برهان يدلّ على أنّ لها مسمّيات وراءها. ﴿إِنِ الْحُكْمُ إلاَّ لِلّهِ﴾إذ الحكم في أمر مّا لا يستقيم إلاّ ممّن يملك تمام التصرّف، ولا مالك للتصرّف والتدبير في اُمور العالم وتربية العباد حقيقة إلاّ الله سبحانه. ومعنى الآية: ما تعبدون من دون الله إلاّ أسماء خالية من المسمّيات، لم يضعها إلاّ أنتم وآباؤكم من غير أن ينزل الله سبحانه من عنده برهاناً يدلّ على أنّ لها شفاعة عند الله، أو شيئاً من الاستقلال في التأثير؛ حتّى يصحّ لكم دعوى عبادتها لنيل شفاعتها، أو طمعاً في خيرها أو خوفاً من شرّها. وأمّا قوله: ﴿ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ﴾فيشير به إلى ما ذكره من توحيد الله، ونفي الشريك عنه. والقيّم هو القائم بالأمر، القويّ على تدبيره. والمعنى: أنّ دين التوحيد وحده هو القويّ على إدارة المجتمع، وسوقه إلى

83


منزل السعادة، والدين المحكم غير المتزلزل الذي فيه الرشد من غيرغىّ، والحقّيّة من غير بطلان، ولكنّ أكثر الناس ـ لاُنسهم بالحسّ والمحسوس وإنهماكهم في زخارف الدنيا الفانية حرموا سلامة القلب، واستقامة العقل ـ لا يعلمون ذلك، وإنّما يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا، وهم عن الآخرة معرضون.

﴿يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً...﴾قوله: ﴿أَمَّا أَحَدُكُمَا...﴾تأويل رؤيا من قال منهما: ﴿إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً﴾ وقوله: ﴿وَأَمَّا الآخَرُ...﴾تأويل لرؤيا الآخر. وقوله: ﴿قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ﴾لا يخلو من إشعار بأنّ الصاحبين، أو أحدهما كذّب نفسه في دعواه الرؤيا، ولعلّه الثاني لمّا سمع تأويل رؤياه بالصلب وأكل الطير من رأسه.

﴿وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاج مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ...﴾الضمائر في قوله: ﴿قَالَ﴾و ﴿ظَنَّ﴾و ﴿لَبِثَ﴾راجعة إلى يوسف، أي: قال يوسف للذي ظنّ هو أنّه سينجو منهما: اذكرني عند ربّك بما يثير رحمته، لعلّه يخرجني من السجن.

وإطلاق الظنّ على اعتقاده مع تصريحه لهما بأنّه من المقضيّ المقطوع به،

84

الله الواحد القهّار خير من أرباب متفرّقين:

يبدو أنّهم كانوا مؤمنين بالله، وإنّما كانوا يعبدون الأصنام ليقرّبوهم إلى الله زلفى، ولهذا احتجّ يوسف عليهم باحتجاجين:

الأوّل: أنّ مَن تؤمنون به مِن الإله الواحد القهّار تكون عبادته رمزاً للوحدة، وشدّاً للجمع بعضهم ببعض، في حين أنّ عبادة الأصنام تكون رمزاً للفرقة، و سبباً للتشتيت والاختلاف ﴿أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾.

والثاني: أنّ الأصنام إن هي إلاّ من صنعكم، وتسميتكم إيّاها بالآلهة إن هي إلاّ بجعلكم وافتراضكم، فإن كنتم ترون ربوبيّتها ذاتيّة، فكيف يمكن ذلك فيما صنعتموه و سمّيتموه؟! ﴿مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِإلاَّ أَسْماء سَمَّيْتُمُوهَا﴾ وإن كنتم ترون أنّ ربوبيّتها مجعولة من قبل الله


وتصريحه بأنّ ربّه علّمه تأويل الأحاديث لعلّه من إطلاق الظنّ علىمطلق الاعتقاد، وله نظائر في القرآن كقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ﴾البقرة (46). وقوله: ﴿فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ...﴾الضميران راجعان إلى الذي، أي: فأنسى الشيطان صاحبه الناجي أن يذكره لربّه، أو عند ربّه، فلبث يوسف في السجن بضع سنين، والبضع ما دون العشرة.

85

فـ ﴿ما أَنْزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَان إِنِ الْحُكْمُ إلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إلاَّ إِيَّاهُ﴾.

قوله عزّ من قائل: ﴿قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ﴾ روي في كنز الدقائق(1) عن تفسير عليّ بن إبراهيم: أنّ الخبّاز لم يكن رأى تلك الرؤيا، وكان كاذباً، فحينما سمع ذاك التأويل الُمخيف للرؤيا، جحد الرجل، فقال: إنّي لم أرَ ذلك، فأجابه يوسف(عليه السلام) بقوله: ﴿قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ﴾.

أقول: يحتمل أيضاً أنّ الخبّاز كان صادقاً في رؤياه، ولكن تخيّل أنّ إنكار الرؤيا يدفع عنه الشرّ.

قوله تعالى: ﴿بِضْعَ سِنِينَ﴾: يقال: إنّ البضع ما بين الثلاث إلى التسع، وروي في كنز الدقائق(2) عن تفسير العيّاشيّ، عن الصادق(عليه السلام)قال: «سبع سنين».

* * *

 



(1) كنز الدقائق، ج 6، ص 313.

(2) المصدر السابق.

86

 

 

 

﴿وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَات سِمان يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاَت خُضْر وَأُخَرَ يَابِسَات يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ * قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلاَم وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ * وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّة أَنَاْ أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ * يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَات سِمان يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاَت خُضْر وَأُخَرَ يَابِسَات لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ * قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبَاً فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ﴾(1).

 



(1) الآية: 43 ـ 49.

﴿وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَات سِمان﴾ قوله: ﴿إِنِّي أَرَى﴾حكاية حال ماضية، ومن المحتمل أنّها كانت رؤيا متكرّرة. والسمان: جمع سمينة.

87


والعجاف: جمع عجفاء، بمعنى المهزولة. والإفتاء: إفعال من الفتوى والفتيا، وهي الجواب عن حكم المعنى. تعبرون: من العبر، وهو بيان تأويل الرؤيا، وهو مأخوذ من عبور النهر ونحوه، كأنّ العابر يعبر من الرؤيا إلى ما ورائها من التأويل، وهو حقيقة الأمر التي تمثّلت لصاحب الرؤيا في صورة خاصّة مألوفة له. ومعنى الآية: وقال ملك مصر لملئه: إنّي أرى في منامي سبع بقرات سمان يأكلهنّ سبع بقرات مهازيل، وأرى سبع سنبلات خضر وسنبلات اُخر يابسات، يا أيّها الملأ، بيّنوا لي ما عندكم من حكم رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون.

﴿قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلاَم...﴾الأحلام: جمع حُلُم بضمّتين، وقد يسكّن وسطه، هو ما يراه النائم في منامه. والضغث قبضة ريحان أو حشيش أو قضبان، وجمعه أضغاث، وبه شبّه الأحلام المختلفة التي لا تتبيّن حقائقها. وتسمية الرؤيا الواحدة بأضغاث أحلام كأنّه بعناية دعوى كونها صوراً متفرّقة مختلطة مجتمعة من رؤىً مختلفة، لكلّ واحدة منها تأويل على حدة، فإذا اجتمعت واختلطت عسر على المعبّر الوقوف على تأويلها، والإنسان كثيراً ما ينتقل في نومة واحدة من رؤيا إلى اُخرى، ومنهما إلى ثالثة وهكذا، فإذا اختلطت أبعاضها كانت أضغاث أحلام، وامتنع الوقوف على حقيقتها.

88


ومعنى الآية: قالوا ـ أي: قال الملأ للملك ـ: ما رأيته أضغاث أحلام، وأخلاط من منامات مختلفة، وما نحن بتأويل هذا النوع من المنامات بعالمين، أو وما نحن بتأويل جميع المنامات بعالمين، وإنّما نعلم تأويل الرؤى الصالحة.

﴿وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّة﴾الاُمّة: الجماعة التي تقصد لشأن، ويغلب استعمالها في الإنسان، والمراد بها هاهنا عِدّة سنين، وهي المدّة التي نسي فيها هذا القائل ـ وهو ساقي الملك ـ أن يذكر يوسف عند ربّه، وقدسأله يوسف ذلك، فأنساه الشيطان ذكر ربّه، فلبث يوسف في السجن بضع سنين. والمعنى: وقال الذي نجا من السجن من صاحبي يوسف، وادّكربعد عِدّة سنين ما سأله يوسف في السجن حين أوّل رؤياه: أنا اُنبّئكمبتأويل ما رآه الملك في منامه، فأرسلوني إلى يوسف في السجن حتّى اُخبركم بتأويل ذلك.

﴿يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا...﴾في الكلام حذف وتقدير إيجازاً، والتقدير: فأرسلوه، فجاء إلى يوسف في السجن، فقال: يا يوسف أيّها الصدّيق، أفتنا في رؤيا الملك. وذكر الرؤيا، وذكر أنّ الناس في انتظار تأويله. وهذا الاُسلوب من لطائف أساليب القرآن الكريم. وسمّى يوسف صدّيقاً وهو كثير الصدق المبالغ فيه؛ لما كان رأى من صدقه فيما عبّر به منامه ومنام

89


صاحبه في السجن، واُمور اُخرى شاهدها من فعله وقوله في السجن. وقد ذكر متن الرؤيا من غير أن يصرّح أنّه رؤيا، فقال: ﴿أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَات سِمان يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاَت خُضْر وَأُخَرَ يَابِسَات﴾لأنّ قوله: ﴿أَفْتِنَا﴾وهو سؤال الحكم الذي يؤدّي إليه نظره، وكون المعهود فيما بينه وبين يوسف تأويل الرؤيا، وكذا ذيل الكلام يدلّ على ذلك ويكشف عنه. وقوله: ﴿لعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ﴾لعلّ الأوّل تعليل لقوله: ﴿أَفْتِنَا﴾، ولعلّ الثاني تعليل لقوله: ﴿أَرْجِعُ﴾، والمراد: أفتنا في أمر هذه الرؤيا، ففي إفتائك رجاء أن أرجع إلى الناس وأُخبرهم به، وفي رجوعي إليهم رجاء أن يعلموا به، فيخرجوا من الحيرة والجهالة.

﴿قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبَاً...﴾الدأب: إدامة السير، والدأب: العادة المستمرّة دائماً على حالة. وعليه فالمعنى: تزرعون سبع سنين زراعة متوالية مستمرّة. ومعنى الآية: ازرعوا سبع سنين متواليات، فما حصدتم فذروه في سنبله لئلاّيهلك، واحفظوه كذلك إلاّ قليلا، وهو ما تأكلون في هذه السنين.

﴿ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ...﴾ الشداد: جمع شديد من الشدّة بمعنى الصعوبة لما في سني الجدب والمجاعة من الصعوبة والحرج على الناس، أو هو من شدّ عليه: إذا كرّ، و هذا أنسب لما بعده من توصيفها بقوله: ﴿يَأْكُلْنَ مَا