83

 

 

 

 

النقطة الأُولى

وهي التشابك الموجود بين كتاب السالك

وهو القرآن وأَساس أَعماله وهي الصلاة

 

إِنَّ كلَّ أَحد يعلم أَنَّ الصلاة لا تكون إِلاَّ مع قـراءة القرآن من سورة الحمدالتي هي أُمُّ الكتاب وسورة أُخرى.

وقد ورد في الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): « أَنَّ قراءة القرآن في الصلاة أفضل من قراءة القرآن في غير الصلاة »(1).

والتشابك بين القرآن والصلاة منعكس في آيات عديدة، من قبيل قوله سبحانه وتعالى:

1 ـ ﴿اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ...﴾(2).

ويحتمل أن يكون النظر الخاصّ في هذه الآية المباركة إلى تلاوة الكتاب ضمن إِقامة الصلاة بالخصوص، ولا ينافي ذلك إِطلاق النظر إلى تلاوة الكتاب منفردةً عن الصلاة أيضاً.

2 ـ ﴿وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾(3). وقد فُسِّرت


(1) البحار 92 / 200.

(2) السورة 29، العنكبوت، الآية: 45.

(3) السورة 7، الأعراف، الآية: 204.

84

الآية في خبر صحيح(1) بقراءة القرآن ضمن الصلاة من قبل إِمام الجماعة.

3 ـ ﴿ أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ الَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً﴾(2).

والظاهر: أَنَّ المقصود بقرآن الفجر هو: القرآن ضمن صلاة الصبح.

4 ـ ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ الَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذينَ مَعَكَ واللهُ يُقدِّرُ الَّيْلَ والنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُم مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ...﴾(3).

والظاهر: أَنَّ النظر الخاصّ، إلى قراءة القرآن ضمن صلاة الليل، ولا ينافي ذلك فرض الإطلاق لقراءة القرآن مستقلَّة عن الصلاة أيضاً.

5 ـ ﴿بِسْمِ الله الرَحْمن الرَحِيم يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ الَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً * إِنَّ نَاشِئَةَ الَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْأً وَأَقْوَمُ قِيلاً * إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحاً طَوِيلاً﴾(4).

والظاهر: أَنَّ هذه الآيات ـ أيضاً ـ ناظرة إلى ترتيل القرآن ضمن صلاة الليل. والتي مضى ذكرها من الآية عشرين من نفس السورة كأنَّها تخفيف عن الرسول(صلى الله عليه وآله) وأصحابه عمّا نطقت به هذه الآية على أساس أَنَّ الله تعالى علم أنّه منهم مرضى ... الخ.

وكأَنّ في هذه الآيات المباركات إرشاداً للسالك إلى الله وبياناً لنكتة تربويّة


(1) الوسائل 8/355، الباب 31 من صلاة الجماعة، الحديث 3.

(2) السورة 17، الإسراء، الآية: 78.

(3) السورة 73، المزّمّل، الآية: 20.

(4) السورة 73، المزَّمّل، الآيات: 1 ـ 7.

85

هامّة، توضيحها: أَنَّ السالك إلى الله وإن كان جميع أعماله عبادة وبأَهداف إِلهية، ولكنّه بحاجة ماسَّة يوميّاً إلى أَن يُفرِّغ شيئاً من وقته للمناجاة مع الله والتكلُّم معه والتوجّه الحضوري إِليه، وليس كالتوجّه العام الثابت في كلِّ الأعمال القربيّة كالجهاد، والأمر بالمعروف، وتحقيق مصالح الإسلام والمسلمين، ومراعاة الضعفاء والمحتاجين، وتحصيل العلوم الإسلاميّة النافعة، أو العلوم النافعة للبشر، وما إلى ذلك ممّا تكون كلُّها عبادة بالمعنى العام. وخير ساعة يفرغها السالك لهذا النمط من تربية النفس هي: أَن تكون من الليل ﴿إِنَّ نَاشِئَةَ الَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْأً وَأَقْوَمُ قِيلاً﴾. ولا نشكُّ في أَنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله)كانت جميع أعماله عبادة، ولم يكن شيء منها عملاً دنيويّاً، بل كان صارفاً وقته تماماً فيما يريد الله: من جهاد، أو إرشاد، أو إصلاح أُمور المجتمع الاسلاميّ، أو حلِّ مشاكل المسلمين، أو غير ذلك، وبرغم ذلك قال له الله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحاً طَوِيلاً﴾. وهذا يعني: أَنَّه لم يكن المقصود بهذا الكلام تأجيل الأعمال الدنيويّة للنهار كي يخلو جوف الليل للعبادة الخاصّة، بل المقصود تأجيل كلّ شيء حتّى الأعمال العباديّة بمعناها العام للنهار كي يخلو جوف اللّيل للعبادة الخاصّة. وبهذا يثبت ما قلناه: من أَنَّ السالك إلى الله لا يكفيه أَن تكون كلُّ أعماله عبادة بالمعنى العام، بل هو بحاجة إلى تخصيص شيء من أوقاته (وأفضلها جوف الليل) للمناجاة مع الربِّ بحضور القلب بمعناه الخاصِّ.

وقد قالوا في تفسير قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَمِنَ الَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً﴾(1): إِنَّ المقصود به أمر النبيِّ(صلى الله عليه وآله)بصلاة الليل لينال بذلك مقام الشفاعة(2).


(1) السورة 17، الإسراء، الآية: 79.

(2) راجع تفسير «نمونه» 12 / 224 ـ 225 و 231 ـ 232.

87

 

 

 

 

النقطة الثانية

وهي ضرورة التدبُّر في القرآن للسالك إلى الله

 

فقد مضى أَنَّه ممّا يدلُّ على ذلك قوله سبحانه وتعالى: ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوب أَقْفَالُهَا﴾(1) وقد ورد عن الصادق(عليه السلام) في تفسير قوله تعالى: ﴿أَمْ عَلَى قُلُوب أَقْفَالُهَا﴾ إنَّ لك قلباً ومسامع وإنّ الله إِذا أراد أَن يهدي عبداً فتح مسامع قلبه، وإِذا أراد به غير ذلك ختم مسامع قلبه، فلا يصلح أبداً. وهو قوله عزَّ وجلَّ: ﴿أَمْ عَلَى قُلُوب أَقْفَالُهَا﴾(2).

وأيضاً ممّا يدلُّ من الآيات القرآنيّة على أَنَّ القرآن كتاب التربية والتزكية وشفاء النفس من الأدْواء الروحيّة قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إلاَّ خَسَاراً﴾(3). ومن الواضح: أَنَّ المقصود بذلك الشفاء من الأمراض الروحيّة. ومثل هذه الآية قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ﴾(4).


(1) السورة 47، محمّد(صلى الله عليه وآله)، الآية: 24.

(2) تفسير «نمونه» 21/470.

(3) السورة 17، الإسراء، الآية: 82 .

(4) السورة 10، يونس، الآية: 57.

88

وممّا يدلُّ على ذلك ـ أيضاً ـ قوله سبحانه وتعالى: ﴿لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَل لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الاَْمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾(1).

فلو أنّ قلوبنا لم تخشع ولم تتصدّع من خشية الله فهذا دليل على أنّ القرآن لم ننزّله بمعنى الكلمة على قلوبنا، ولم نهضمه فيما بين جوانحنا، وحينما نقرأه لا نهتم


(1) السورة 59، الحشر، الآية: 21.

وهذه الآية من الآيات التي تدلُّ ـ على ما يبدو لنا ـ على أنَّ للجماد نوع شعور مناسب لنشأته بحيث لو أَنزل الله ـ تعالى ـ هذا القرآن بالنشأة المناسبة لنشأة الجبل لخشع وتصدَّعَ من خشية الله. ونظير هذه الآية قوله تعالى: ﴿... فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً ...﴾ السورة 7، الاعراف، الآية: 143.

فالمقصود هنا ـ أيضاً ـ تجلِّي الربّ بالنشأة المناسبة لنشأة الجبل. ونظير هاتين الآيتين قوله تعالى: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِل عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ السورة 2، البقرة، الآية: 74.

فلو أمكن حمل قوله تعالى:﴿لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ﴾ و ﴿لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ﴾ على نوع من البيان الاستعاري أو الكنائي أو المجازي والبلاغي إذ فُرِضَ تفجر النهر والتشقق بالماء من قبيل لين القلب، فكيف نفسر قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّه﴾؟! إِلاّ بتفسير: أنَّ للجماد نشأة خاصة به، وله بلحاظ تلك النشأة الخشية من الله تعالى. ومن هنا يبدو أنَّ ما يقال من تفسير عرض الأمانة على السماوات والأرض والجبال بعرضها على أهلها كالملائكة، أو بكون ذلك تمثيلاً وتقديراً، وكون الإباء والاشفاق بعنوان لسان الحال، كلُّ هذه بعيدة عن الواقع، بل الآية محمولة على معناها الظاهري والحقيقي، إلاّ أَنَّ العرض كان بالنشأة المناسبة لنشأة الجمادات. وما أحلى ما قال الرومي بالفارسيّة:

گر ترا از غيب چشمى باز شد
با تو ذرات جهان همراز شد
نطق خاك ونطق آب ونطق گل
هست محسوس حواس اهل دل
جمله ذرّات در عالم نهان
با تو ميگويند روزان وشبان
ما سميعيم وبصير وبا هشيم
با شما نامحرمان ما خامشيم

89

إلاّ بقراءة الألفاظ من دون إنزال المعاني بدقيق الكلمة على أفئدتنا.

وفي الحديث عن الصادق(عليه السلام): «لقد تجلّى الله لخلقه في كلامه، ولكنّهم لا يبصرون»(1). وكلّنا نعلم أنّ كتاب الشخص يمثّل شخصيّته، وحتّى الرسالة المختصرة التي تُردّد بين صديقين قد تُمثّل شخصية صاحب الرسالة، فمن الطبيعي أنّ يقال: «لقد تجلّى الله لخلقه في كلامه ولكنّهم لا يبصرون» وهذا المعنى صادق بلحاظ كتابي الآفاق والأنفس أيضاً، كما قال الله تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ ...﴾(2)، إلاّ أنّه بالنسبة للقرآن أوضح وأسهل للدرك لدى الناس الاعتياديين.

وتوجد بعض القصص والحكايات في تأثير التدبّر في القرآن وإحيائه للقلوب من قبيل:

1 ـ ما يُحكى عن الفضيل بن عياض: أنّه كان في أوّل أمره يقطع الطريق بين ابيورد وسرخس، وعشق جارية، فبينما يرتقي الجدران إليها سمع تالياً يتلو: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ ...﴾(3). فقال: يا ربِّ قد آن، فرجع وأوى إلى خربة، فإذا فيها رفقة، فقال بعضهم نرتحل، وقال بعضهم حتّى نصبح، فإنّ فضيلاً على الطريق يقطع علينا. فتاب الفضيل وآمنهم. وحكي أنّه جاور الحرم حتّى مات(4).

2 ـ قيل: كان لفضيل ولد اسمه عليّ، وكان أفضل من أبيه في الزهد والعبادة، إلاّ أنّه لم يتمتع بحياته كثيراً، وكان سبب موته أنّه كان يوماً في المسجد الحرام واقفاً


(1) البحار 92 / 107.

(2) السورة 41، فصّلت، الآية: 53.

(3) السورة 57، الحديد، الآية: 16.

(4) سفينة البحار 7/103، مادة (الفضيل).

90

بقرب ماء زمزم فسمع قارياً يقرأ: ﴿وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذ مُّقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ * سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَان وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ﴾ فصعق ومات(1).

3 ـ رُوي: أنّ رجلاً جاء إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله) وقال: علّمني ممّا علّمك الله، فأودعه الرسول إلى رجل من أصحابه كي يعلّمه القرآن، فعلّمه سورة الزلزلة.. إلى قوله تعالى: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة شَرّاً يَرَهُ﴾، فقام الرجل وقال: حسبي هذا، فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله): «رجع فقيهاً»(2).

ويناسب هنا أن نتذكّر كلام إمامنا أمير المؤمنين(عليه السلام) في وصف المتّقين: «... أمّا الليل فصافّون أقدامهم تالين لأجزاء القرآن، يرتّلونه ترتيلاً، يحزّنون به أنفسهم، ويستثيرون به دواء دائهم، فإذا مرّوا بآية فيها تشويق ركنوا إليها طمعاً، وتطلّعت نفوسهم إليها شوقاً، وظنّوا أنّها نصب أعينهم، وإذا مرّوا بآية فيها تخويف أصغوا إليها مسامع قلوبهم، وظنّوا أنّ زفير جهنّم وشهيقها في أُصول آذانهم ...»(3).

نعم، إنّ القرآن شفاء ورحمة للمؤمنين، ولكنّه في نفس الوقت لا يزيد الظالمين إلاّ خساراً، كما هو معروف بشأن الخوارج الذين كانوا تالين للكتاب. وقد روي أنّه خرج أمير المؤمنين(عليه السلام) ذات ليلة من مسجد الكوفة متوجهاً إلى داره، وقد مضى ربع من الليل ومعه كميل بن زياد(رحمه الله)، وكان من خيار شيعته ومحبّيه، فوصل في الطريق إلى باب رجل يتلو القرآن في ذلك الوقت، ويقرأ قوله تعالى: ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ الَّيْلِ ...﴾(4) بصوت شجيّ حزين، فاستحسن كميل ذلك في باطنه، وأعجبه حال الرجل من غير أن يقول شيئاً، فالتفت صلوات الله عليه إليه وقال: «يا


(1) المصدر السابق، والآيتان: 49 ـ 50 في سورة 14 إبراهيم.

(2) تفسير «نمونه» 27/231 ـ 232، والآيتان: 7 ـ 8 في السورة 99، الزلزلة.

(3) نهج البلاغة: ص410، رقم الخطبة: 193.

(4) السورة 39، الزمر، الآية: 9.

91

كميل لا تعجبك طنطنة الرجل، إنّه من أهل النار، وسأُنبّؤك فيما بعد» فتحيّر كميل لمكاشفته له على ما في باطنه، ولشهادته بدخوله النار مع كونه في هذا الأمر وتلك الحالة الحسنة. ومضت مدّة متطاولة إلى أن آل حال الخوارج إلى ما آل، وقاتلهم أمير المؤمنين(عليه السلام)، وكانوا يحفظون القرآن كما أُنزل، فالتفت أمير المؤمنين(عليه السلام) إلى كميل بن زياد وهو واقف بين يديه والسيف في يده يقطر دماً، ورؤوس أُولئك الكفرة الفجرة محلّقة على الأرض، فوضع رأس السيف على رأس من تلك الرؤوس وقال: يا كميل: ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ...﴾، أي: هو ذاك الشخص الذي كان يقرأ القرآن في تلك الليلة، فأعجبك حاله، فقبّل كميل قدميه (عليه السلام) واستغفر الله(1).

 


(1) سفينة البحار 7/538، والبحار 33/399.

93

 

 

 

 

النقطة الثالثة

وهي أنّ الصلاة هي العمل الأوّل

والأساس لتهذيب النفس

 

فقد قال الله سبحانه وتعالى: ﴿ ... أَقِمِ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾(1).

وقد يبدو للخاطر: أنّه ما معنى إخباره سبحانه وتعالى عن نهي الصلاة عن الفحشاء والمنكر في حين أنّ أكثر الناس الاعتياديين لا تنهاهم صلاتهم عن الفحشاء والمنكر، بدليل أنّهم يصلّون وفي نفس الوقت ـ أيضاً ـ يصدر منهم بعض الفسوق.

ولكن الواقع: أنّه في الغالب بل الدائم لا تنفك الصلاة عن النهي عن الفحشاء والمنكر، إلاّ أنّ هذا النهي يتقدّر بقدر حضور المصلي لدى المليك المقتدر في صلاته. وكيف يتعقَّل ـ عادة ـ أن يحضر العبد بمحض اختياره ورغبته لدى سلطان دنيويّ في اليوم خمس مرّات، ويحسّ بعظمته وجلاله ثمَّ لا يؤثِّر ذلك في ترك مخالفته لذلك السلطان، أو تقليل المخالفة ولو جزئياً؟! فإذا كان هذا حال الحضور لدى سلطان دنيويّ عاجز مسكين مستكين فكيف بالحضور لدى المليك المقتدر ؟ وإن كانت سَعة رحمته قد تُجرّئ العبد على المعصية. «فلو اطّلع اليوم على ذنبي


(1) السورة 29، العنكبوت، الآية: 45.

94

غيرك ما فعلته، ولو خفت تعجيل العقوبة لاجتنبته، لا لأنّك أهون الناظرين إليَّ، وأخفّ المطّلعين عليّ، بل لأنّك ياربّ خير الساترين، وأحكم الحاكمين، وأكرم الأكرمين...»(1). نعم، يتقدَّر النهي عن الفحشاء والمنكر بقدر ما يكون للإنسان من حضور القلب، فمن يضعف ويقلُّ حضوره يقلّ نهي الصلاة إيّاه عن الفسوق، ولكن لو كان يترك الصلاة لكان يتوغّل في هاوية الفسوق أكثر، ومن يتمُّ حضوره في الصلاة أمام الربّ بتمام ما للكلمة من معنى يكون ذلك في نهيه إيّاه من الفحشاء والمنكر بمرتبة ما يوازي العصمة أو يقاربها.

وقد روي عن ابن عباس: أنّه أُهدي إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله) ناقتان عظيمتان، فجعل إحداهما لمن يصلّي ركعتين لا يهمّ فيهما بشيء من أمر الدنيا. ولم يجبه أحد سوى عليّ(عليه السلام)، فأعطاه كلتيهما(2).

وقد ورد ـ أيضاً ـ أنّ عليّاً(عليه السلام) كان في صلاته يستغرق في الله إلى حدّ اُستخرج السهم من رجله في حال الصلاة فلم يلتفت(3). وقد روى الفيض الكاشاني(رحمه الله)في المحجّة: أنّ مولانا أمير المؤمنين(عليه السلام) وقع في رجله نصل، فلم يمكّن من إخراجه، فقالت فاطمة(عليها السلام): أخرجوه في حال صلاته، فإنّه لا يحسّ بما يجري عليه، فأُخرج وهو(عليه السلام) في صلاته(4).

ومن هنا قيل: إنّه اُعترض على بعض الخطباء ـ وقيل: إنّه ابن الجوزي ـ بأنّ عليّاً(عليه السلام) مع استغراقه الكامل في ذات الله لدى الصلاة كيف التفت إلى السائل وأعطاه خاتمه؟!


(1) دعاء أبي حمزة الثمالي.

(2) البحار 41/18.

(3) تفسير «نمونه» 4/428، وأنوار المواهب: 160.

(4) المحجة البيضاء 1/397 ـ 398.

95

فأجاب الخطيب بالبداهة بقراءة هذين البيتين:

يسقي ويشربُ لا تُلْهِيهِ سكرتُه
عن النديمِ ولا يلهو عن الكاسِ
أطاعه سُكرُهُ حتّى تمكَّنَ من
فعلِ الصُحاة فهذا أفضلُ الناسِ(1)

وكأنّ المقصود: أنّ عمل الالتفات إلى السائل والتصدِّق عليه كان عبادة. فالالتفات إلى ذلك في أثناء الصلاة كان ـ أيضاً ـ التفاتاً إلى الله؛ ولهذا لم يصبح استغراقه في ذات الله مانعاً عن ذلك، ولم يكن هذا الالتفات التفاتاً إلى النفس كما في فرض الالتفات إلى إخراج السهم ـ مثلاً ـ حتّى يكون نسيانه لذاته في الصلاة مانعاً عن ذلك.

وقد ورد في وصايا رسول الله(صلى الله عليه وآله) لأبي ذرّ: «يا أبا ذرّ رَكْعتان مقتصدتان في تفكّر خيرٌ من قيام ليلة والقلبُ ساه»(2).

وروي عن رسول الله(صلى الله عليه وآله): أنّه رأى رجلاً يعبث بلحيته في صلاته فقال: «أما انّه لو خشع قلبهُ لخشعت جوارحُه»(3).

وعن النبيّ(صلى الله عليه وآله): «إذا قام العبد إلى صلاته وكان هواه وقلبه إلى الله انصرف كيوم ولدته أُمّه»(4).

وأيضاً روي عن رسول الله(صلى الله عليه وآله): «مَنْ صلّى رَكْعتين لم يُحدّث فيهما نفسه بشيء من الدنيا غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه»(5).

وأيضاً روي عن النبيّ(صلى الله عليه وآله): «أنّ العبد ليصلّي الصلاة لا يُكتب له سدسُها ولا


(1) أنوار المواهب: 160 ـ 161.

(2) البحار 77 / 82 .

(3) مجمع البيان مج 4 / 7 / 176، في ذيل تفسير قوله تعالى: ﴿الذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾ السورة 23، المؤمنون، الآية: 2.

(4) كتاب أسرار الصلاة للحاج ميرزا جواد الملكي: 127، ط الناشر مكتبة فرهومند.

(5) المحجة البيضاء 1/349.

96

عشُرها، وإِنّما يكتب للعبد من صلاته ما عقل منها»(1).

وأيضاً روي عن بعض أزواج النبيّ(صلى الله عليه وآله) قالت: كان رسول الله يحدّثنا ونحدّثه، فإذا حضرت الصلاة فكأنّه لم يعرفنا ولم نعرفه شغلاً بالله عن كلِّ شيء. وكان عليّ(عليه السلام) إذا حضر وقت الصلاة يتململ ويتزلزل، فيقال له: مالك يا أمير المؤمنين؟! فيقول: «جاء وقت أمانة عرضها الله على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها». وكان عليّ بن الحسين(عليه السلام) إذا حضر الوضوء اصفرّ لونه(2).

وأيضاً ورد عن الرسول(صلى الله عليه وآله): «لا صلاة لمن لم يطع الصلاة، وطاعة الصلاة أن ينتهي عن الفحشاء والمنكر»(3).

وعن الصادق(عليه السلام): «من أحبّ أن يعلم أقُبلت صلاته أم لم تقبل فلينظر هل منعت صلاته عن الفحشاء والمنكر، فبقدر ما منعته قبلت منه»(4).

وبمعرفة معنى نهي الصلاة عن المنكر، وأنّ النهي يقوى ويتمّ إذا قوي حضور قلب المصلّي لدى الله وتمَّ، قد يتّضح معنى غسل الصلاة لدرن الروح باليوم خمس مرّات كمن يغسل بدنه بنهر جار باليوم خمس مرّات، فلا يبقى درن في بدنه، كما ورد عن الباقر(عليه السلام) عن رسول الله(صلى الله عليه وآله): «لو كان على باب دار أحدكم نهرٌ، فاغتسل في كلِّ يوم منه خمس مرّات أكان يبقى في جسده من الدرن شيء ؟ قلنا: لا، قال: فإنّ مثل الصلاة كمثل النهر الجاري كلّما صلّى صلاة كفّرت ما بينهما من الذنوب»(5).

وورد في رواية اُخرى عن أبي حمزة الثمالي قال: سمعت أحدهما(عليهما السلام)يقول:


(1) المصدر السابق 1 / 368.

(2) المحجة البيضاء 1/378.

(3) تفسير «نمونه» 16/286 و 287.

(4) تفسير «نمونه» 16/286 و 287.

(5) الوسائل 4/12، الباب 2 من أعداد الفرائض، الحديث 3.

97

إنّ عليّاً(عليه السلام) أقبل على الناس فقال: أَيّة آية في كتاب الله أرجى عندكم ؟ فقال بعضهم: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء ...﴾(1). قال: حسنة وليست إيّاها. وقال بعضهم: ﴿وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ(2) ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُوراً رَّحِيماً﴾(3). قال: حسنة وليست إيّاها. فقال بعضهم: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾(4). قال: حسنة وليست إيّاها. وقال بعضهم: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُوْلَـئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾(5). قال: حسنة وليست إيّاها. قال ثمَّ أحجم الناس فقال: مالكم يا معاشر المسلمين؟ قالوا: لا والله ما عندنا شيء. قال: سمعت رسول الله(صلى الله عليه وآله) يقول: أرجى آية في كتاب الله: ﴿وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ الَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ﴾ (6). وقال: يا عليّ والذي بعثني بالحقّ بشيراً ونذيراً إنّ أحدكم ليقوم إلى وضوئه فتساقط عن جوارحه الذنوب، فإذا استقبل الله بوجهه وقلبه لم ينفتل عن صلاته وعليه من ذنوبه شيء كما ولدته أُمّه، فإن أصاب شيئاً بين الصلاتين


(1) السورة 4، النساء، الآيتان: 48 و116.

(2) لعلّه إشارة إلى أنّ المذنب قد ظلم نفسه وأضرّ بنفسه وليس بربّه، فإنّ الله غنيّ عن العالمين.

(3) السورة 4، النساء، الآية: 110.

(4) السورة 39، الزمر، الآية: 53.

(5) السورة 3، آل عمران، الآيتان: 135 ـ 136.

(6) السورة 11، هود، الآية: 114. وستأتي في بحث الشفاعة رواية اخرى تعيّن أرجى آية في آية الشفاعة.

98

كان له مثل ذلك حتّى عدّ الصلوات الخمس، ثُمّ قال: يا عليّ إنّما منزلة الصلوات الخمس لأُمتي كنهر جار على باب أحدكم، فما ظنّ أحدكم لو كان في جسده درن ثمَّ اغتسل في ذلك النهر خمس مرّات في اليوم أكان يبقى في جسده درن؟! فكذلك والله الصلوات الخمس لاُمتي(1).

وفي أكبر الظنّ أنّ المقصود هو: إمكانية غسل الدرن بالصلوات الخمس لا زوال الدرن قهراً، فإنّ الصلاة شُبِّهت بنهر الماء ولو أنّ أحداً دخل فيه عشرات المرّات، وخرج من دون أن يغتسل وينظف بدنه بفرك ونحوه، لم يخلص من درنه، وكذلك الصلاة إنّما تغسل الدرن وتزيل الذنوب لمن يغسل بها روحه. ويشهد لذلك قوله(صلى الله عليه وآله): «فإذا استقبل الله بوجهه وقلبه...» إذن فلو لم يستقبل الله إلاّ بتوجيه الوجه نحو الكعبة، ومن دون التوجّه بالقلب نحو الله، لم تكن فيه هذه الفائدة بكاملها، وإن كانت لا تخلو صلاته عن شيء من هذه الفائدة. وكذلك يشهد للمقصود تمسّكه(عليه السلام) بقوله تعالى: ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ﴾ فأكبر الظنّ: أنّ المقصود بهذه الآية ليس هو مجرّد أن الحسنة تقتضي عفو الله عن ذنب العبد بمعنى ترك عقابه عليه (وان كانت الحسنة لا تخلو من تأثير في ذلك)، فإنّ هذا ليس إذهاباً للسيّئات؛ لأنّ عفو الله بترك العقاب عليها لا يعني زوالها واضمحلالها، فهي موجودة، إلاّ أنّ الله ـ تعالى ـ برحمته ربّما لا يؤاخذ العبد عليها ويعفو عنه. أمّا الإذهاب الحقيقي للسيّئات فهو عبارة عن غَسل الدرن الذي اتّجه إلى الروح، وإزالة الظلمة التي سيطرت على القلب بسبب الذنوب، ومحو الآثار التي خلّفت الذنوب على النفس. وهذا هو الذي يكون ذكرى للذاكرين، فقد يتخيّل المؤمن الذي ابتلى بالذنب ـ نتيجةً لعدم العصمة ولاستيلاء الشهوات عليه المودعة فيه من قبل الله تعالى ـ أنّه لا علاج للخلاص عن السقوط الذي وقع فيه،


(1) البحار 82 / 220.

99

فيذكِّره الله ـ تبارك وتعالى ـ بأنّك تستطيع علاج مرض الذنوب بدواء الحسنات.

ولعلّه اتَّضح بهذا ـ أيضاً ـ معنى ما ورد عن أبي جعفر(عليه السلام) من كون «الصلاة عمود الدين مثلها كمثل عمود الفسطاط إذا ثبت العمود ثبتت الأوتاد والأطناب، وإذا مال العمود وانكسر لم يثبت وتد ولا طنب»(1).

وليعلم أنّ الصلاة صُمِّمت بشكل يساعد على حضور القلب، وتلهم بكل خطواتها ذكر الله سبحانه وتعالى، وتساعد إلى حدّ كبير في النهي عن الفحشاء والمنكر.

ولتوضيح ذلك نذكر نموذجاً مختصراً عن إلهامات الصلاة بقدر ما يتطلّبه هذا المدخل المختصر:

 

فأوَّلاً ـ استقبال الكعبة:

إنّ الله ـ سبحانه وتعالى ـ موجود في كلّ مكان، ونسبة جهة الكعبة وما يعاكسها إليه سواه ﴿وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ ...﴾(2)، ولكنالإسلام أراد للإنسان اتّجاهاً حسّياً لدى إرادة الاتّجاه إلى الله، باعتبار أنّ الإنسان خُلِق حسّياً أكثر من كونه عقليّاً، فجعل الكعبة رمزاً لبيت الله، وأمرنا بالتوجّهإلى جهة المسجد الحرام بقوله تعالى: ﴿ ... وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ...﴾(3)، أفيكون من وظيفتنا في الصلاة توجّه الجسم إلى ما جعل رمزاً لبيت الله، ولا يكون من وظيفتنا توجّه القلب في الصلاة إلى الله سبحانه والذي به تتمّ روح العبادة؟!


(1) البحار 82 / 218.

(2) السورة 2، البقرة، الآية: 115.

(3) السورة 2، البقرة، الآيتان: 144 و 150.

100

وثانياً ـ التكبير:

لئن كبّرنا ـ حقّاً ـ متوجّهين إلى مغزى التكبير، وقاصدين معناه، ومؤمنين بأنّ الله أكبر من كلّ شيء، أفهل يُعقل أن نعصي الله، ونتّجه إلى غيره من هدف صغير أو كبير ممّا هو لا شيء بالقياس إلى الله سبحانه وتعالى؟!

 

وثالثاً ـ سورة الفاتحة:

وليست هي أوَّل سورة نزلت من القرآن، فعجباً لماذا أصبحت فاتحةً للكتاب؟! أفلا يرمز ذلك إلى عظمة هذه السورة المباركة، ولقد فُسِّر السبع المثاني بهذه السورة، وجُعِل السبع المثاني في عرض تمام القرآن في قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ﴾(1). وفي الحديث عن عليّ(عليه السلام)قال: «سمعت رسول الله(صلى الله عليه وآله) يقول: إنّ الله ـ تعالى ـ قال لي: يا محمّد ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ﴾، فأفرد الامتنان عليَّ بفاتحة الكتاب، وجعلها بإزاء القرآن العظيم. وإنّ فاتحة الكتاب أشرف ما في كنوز العرش...»(2).

ولفاتحة الكتاب ميزة لم توجد في أيّة سورة أُخرى من سور القرآن، وهي: أنّ جميع سور القرآن لسانها لسان مخاطبة الله سبحانه وتعالى للناس، ماعدا هذه السورة المباركة التي كان لسانها من أوّلها إلى آخرها لسان مخاطبة العبد لله سبحانه وتعالى(3).. ولعلّ هذا هو السرّ في أنّه لا تخلو صلاة منها، ولا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب(4). ولعلَّ هذا هو السرّ أو أحد الأسرار في جعل هذه السورة أوّل


(1) السورة 15، الحجر، الآية: 87 .

(2) تفسير البرهان: 1 / 41.

(3) تفسير «نمونه» 1/2.

(4) راجع الوسائل 6/37 ـ 39، الباب 1 من أبواب القراءة في الصلاة.

101

سورة من القرآن برغم نزولها المتأخّر.

ومن يبدأ القراءة في الصلاة بالاستعانة بالله الرحمن الرحيم، ويعترف بأنّه تعالى مالك يوم الدين، ويحصر العبادة والاستعانة بالله تعالى، كيف يتّخذ بعد ذلك إلههُ هواه، ويستعين بنعم الله ـ تعالى ـ على معصيته؟!

 

ورابعاً ـ الركوع والسجود:

وقد قالوا عنهما: إنّهما عبادة ذاتيّة؛ لأنّ العبادة تذلّل، والتذلّل بالعبائر إنّما تكون بمعانيها اللُغويّة التي تختلف من لغة إلى لغة ومن قوم إلى قوم، في حين أنّ دلالة الركوع والسجود على التذلّل دلالة عالمية أجمع عليها كلّ الملل وكلّ اللغات، فكأنّ دلالتها على ذلك ذاتيّة، ومن يتذلّل لله بهكذا تذلّل بمحض اختياره ومن دون أيّ إجبار؛ لأنّ « ... اليوم عمل ولا حساب وغداً حساب ولا عمل »(1)كيف يعارض الله ـ تعالى ـ بعد ذلك بمعصيته؟!

إلى هنا تكلّمنا حول تفسير قوله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ والمُنْكَرِ ...﴾(2). ولا بأس بتكميل البحث بحديث مختصر عن ذيل الآية، وهو قوله تعالى: ﴿وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ...﴾ وفيه احتمالان:

الاحتمال الأوّل: أن يكون المقصود بالذكر ذكر العبد لله تعالى. ويؤيّد هذا الاحتمال ما ورد في تفسير الذكر في هذه الآية المباركة عن الصادق(عليه السلام)من قوله: «ذكر الله عندما أحلّ وحرّم»(3). وليس معنى الآية على هذا الاحتمال: أنّ ذكر الله أكبر من الصلاة، وذلك لوضوح أنَّ الصلاة من أبرز مصاديق الذكر وأكملها، بل


(1) نهج البلاغة: 80، رقم الخطبة: 42.

(2) السورة 29، العنكبوت، الآية: 45.

(3) تفسير «نمونه» 16/289.

102

كأنّ معناها: إمّا هو تعليلٌ لنهي الصلاة عن الفحشاء والمنكر: بأنّ ذكر الله أكبر من كلّ ما يكون قابلاً للنهي عن الفحشاء والمنكر، أي: بما أنّ الصلاة تكون أبرز أنحاء الذكر وأتمّها وأكملها فهي تنهى عن الفحشاء والمنكر، وإمّا هو بيان لكون ذكر الله ـ ومن أتمّها وأكملها الصلاة ـ أكبر من كلّ اللّذائذ والتي منها لذّة النفس الأمّارة، وهي لذّة الفحشاء والمنكر(1).

والاحتمال الثاني: أن يكون المقصود بالذكر ذكر الله للعبد، فيكون معنى الآية: أنّ ذكر الله لعبده أكبر من ذكر العبد لله.

قال الله تعالى: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ ...﴾(2). ويؤيّد هذا الاحتمال ما ورد عن الإِمام الباقر(عليه السلام) في قوله تعالى: ﴿وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ...﴾ أنّه يعني: «ذكر الله لأهل الصلاة أكبر من ذكرهم إيّاه، ألا ترى أنّه يقول: ﴿اذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ ...﴾»(3).

 

استنتاجٌ وإضافة:

أمّا الاستنتاج: فقد اتَّضح أنّ أوّل خطوة للسلوك هو الخشوع في الصلاة، وقد أشار القرآن إلى ذلك في آيتين:

الأُولى: قوله سبحانه وتعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾(4). فقد جعل أوّل علامة الإيمان هو الخشوع في الصلاة.

والثانية: قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إلاَّ عَلَى


(1) راجع بهذا الصدد رسالة السير والسلوك المنسوب إلى السيّد بحر العلوم مع تعليق السيّد محمّد حسين الطهراني: 122 ـ 123.

(2) السورة 2، البقرة، الآية: 152.

(3) البحار 82/206.

(4) السورة 23، المؤمنون، الآية: 1 ـ 2.

103

الْخَاشِعِينَ﴾(1).

فمن يصلّي بهدف التخلّص من مسؤوليّة الوجوب، وليس بدافع خشوعه القلبي لله واستغراقه في ذات الله، يحسّ بثقل الصلاة، ويتمنّى في أثناء صلاته بين آونة واُخرى أن تنتهي الصلاة كي لا تشغله عن أعماله وعن علاج مشاكله التي هو مصاب بها، فَمَثله مثل رجل مريض يراجع الطبيب، وينتظر في صفّ المرضى المنتظرين ولو لعدّة ساعات، ويتحمل ذلك لعلمه بأنّ هذا لابدّ له منه علاجاً لمرضه أو نجاةً من الموت الاحتمالي، لكنّه يتمنّى في كلّ لحظة أن تنتهي هذه المراجعة كي يفرغ لسائر أعماله وهمومه. أمّا من يتشرف بلقيا عظيم من العظماء كالسيد الإِمام(رحمه الله) أو السيّد الشهيد الصدر(رحمه الله) ممّن يكون خاشعاً له مستغرقاً في حبِّه ملتذّاً بحضوره لديه فقد تمضي عليه الساعات الطوال ولا يحسّ أصلاً بمرور الزمن، فكأنّ هذا هو معنى قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾، أي: أنّ غير الخاشع إن كان يصلّي يرى أنّ صلاته قد زاحمت أعماله وأشغاله الأُخرى، فهو قد يأتي بالصلاة باعتبار اعتقاده بوجوبها، لكنّه يحسّ بثقلها ومشقّتها. وأ مّا الخاشع فهو الذي يلتذّ بالصلاة، فلا يحسّ بثقلها، وكأنّه يغفل عن مرور الزمن عليه في حال الصلاة.

للهِ قومٌ إِذا ما الليل جنّهمو
قاموا من الفرشِ للرحمنِ عُبَّادا
ويركبون مطايا لا تملُّهمو
إذا هُمو بمنادي الصبحِ قد نادا
هُمو إذا ما بياضُ الصبحِ لاحَ لهم
قالوا من الشوقِ ليت الليلَ قد عادا
الأرضُ تبكي عليهم حينَ تفقدُهمْ
لأنّهم جعلوا للأرضِ أوتادا

ثُمّ إنّني لا أتصوّر أن تكون الصلاة التي هي كبيرة إلاّ على الخاشعين عبارة عن صلواتنا التي قد تكون نقراً كنقر الغراب، أو لا تستغرق إلاّ خمس دقائق،


(1) السورة 2، البقرة، الآية 45.

104

ولا تكون إلاّ بالمقدار المجزي فقهيّاً، فأيّ ثقل مهمّ لهذه الصلاة حتّى يقال عنها: ﴿ إِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾؟!

وأمّا الإضافة فأُمور ثلاثة:

الأوّل: هناك عدّة طرق لتحصيل حضور القلب في الصلاة، منها:

1 ـ أن يبادر قبل الدخول في الصلاة بحلّ مشاغله الآنيّة، كمدافعة الأخبثين، وألم يمكن تسكينه ولو نسبيّاً في وقت قصير، ونحو ذلك. وقد وردت النصوص في النهي عن الصلاة مع مدافعة الأخبثين(1).

وقد رُوي عن أبي الدرداء أنّه قال: من فقه الرجل أن يبدأ بحاجته قبل دخوله في الصلاة؛ ليدخل في الصلاة وقلبه فارغ(2).

2 ـ أن يفرّغ نفسه قبل الصلاة عن أفكاره الأُخرى ومشاغله دنيويّة أو أُخرويّة، ويفكّر في عظمة الله ورحمته وغضبه، وفي الموت وما بعده.

3 ـ أن يتأمّل في الصلاة في معاني ما يقول. وطبعاً التوجّه إلى الله من خلال الكلمات ليس هو الأصل؛ بل الأصل هو العكس، ولكن هذا ممّا لابدّ منه في بداية الطريق.

الثاني: على السالك أن يتدرّج في السلوك، ولا يحمّل نفسه فوق طاقته، ولا يبغّض إلى نفسه العبادة بالإكثار، ويداري حالات قلبه المختلفة من الإقبال والإدبار.

وقد ورد عن الصادق(عليه السلام) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): أنّه قال لعليّ(عليه السلام): «يا عليّ إنّ هذا الدين متين فأوغل فيه برفق، ولا تبغّض إلى نفسك عبادة ربّك إنّ المنبتّ ـ يعني المفرط ـ لا ظهراً أبقى ولا أرضاً قطع، فاعمل عمل من يرجو أن يموت هرماً


(1) راجع الوسائل، ج7، الباب 8 من قواطع الصلاة.

(2) راجع المحجة البيضاء 1/398.

105

واحذر حذر من يتخوّف أن يموت غداً»(1).

وعن أحدهما(عليهما السلام) قال: قال النبيّ(صلى الله عليه وآله): «إنّ للقلوب إقبالاً وإدباراً، فإذا أقبلت فتنفّلوا، وإذا أدبرت فعليكم بالفريضة»(2).

وعن مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام): «إنّ للقلوب إقبالاً وإدباراً، فإذا أقبلت فاحملوها على النوافل، وإذا أدبرت فاقتصروا بها على الفرائض»(3).

الثالث: كلّما تقدّم السالك في سلوكه ازداد ثقل كاهله، ولن يصل إلى مرحلة التخفيف، فهاهم أنبياء الله العظام الذين وصلوا في سلوكهم فوق ما يتصوَّره متعارف الناس ترى عظم مسؤوليتهم وثقل كاهلهم. وكنموذج لذلك نشير إلى قِصَّة يونس على نبيّنا وآله وعليه الصلاة والسلام، فهو حينما غضب على قومه الكفرة الفجرة، وكان غضبه لله لم يستطع الصبر على ذلك حتّى دعا عليهم، وهذا أمر لو صدر من أحدنا لشكرنا الله عليه، ولكُنَّا بذلك من الممدوحين، ولكنّ الله تعالى أدّبه على ذلك بسجنه في بطن الحوت، وقال: ﴿فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِن الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾(4). وذلك لا لشيء إلاّ لأنّ حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين، ولا لشيء إلاّ لأنّه كان يتوقّع منه أن يكون أوسع صدراً من ذلك. وهذه مسؤوليّة لا نتحمل نحن عُشراً من معشارها.

وهذا رسول الله(صلى الله عليه وآله) قد أذِنَ للبعض بهدف المداراة وحسن السلوك مع الناس؛ لتقريبهم بذلك إلى الله الأمر الذي لو صدر من أحدنا لكُنّا من الممدوحين والمشكور على عملهم، ولكنّ الله تعالى أدّبه فأحسن تأديبه حينما قال: ﴿عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ﴾(5).


(1) الوسائل 1/110، الباب 26 من مقدّمة العبادات، الحديث 7.

(2) الوسائل 4 / 69، الباب 16 من أعداد الفرائض، الحديث 8 .

(3) نهج البلاغة: 721، رقم الحكمة: 312.

(4) السورة 37، الصّافات، الآيتان: 143 ـ 144.

(5) السورة 9، التوبة، الآية: 43.

107

 

 

 

 

النقطة الرابعة

وهي التأكيد على ضرورة العمل الاجتماعي مع الناس

ومع الطبيعة وعدم الابتعاد عن العمل السياسي وعدم تنافي

ذلك كلّه لتهذيب النفس وتزكيتها، بل إنّ هذا أيضاً عامل

من عوامل التهذيب والتزكية

 

فالمألوف الغالب في وضع الصوفيّة إبعاد الناس الذين يفتتنون بهم عن العمل السياسي الاجتماعي. وقد يدّعى أنّ تزكية النفس بحاجة إلى الاختلاء والابتعاد عن وضع المجتمع.

ونحن نقول: صحيح أنّ تربية النفس لا تستغني عن نوع من الاختلاء بالله، وهو أمر مرغوب فيه شرعاً، إلاّ أنّ الشريعة أمرت بتوزيع هذا الاختلاء على تمام العمر يوماً فيوماً بتخصيص ساعة للاختلاء، وأفضل الساعات لذلك هو جوف الليل الغابر ﴿إِنَّ نَاشِئَةَ الَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْأً وَأَقْوَمُ قِيلاً * إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحاً طَوِيلاً﴾(1). فالنهار يناسب السبح في المجتمع وفي مسرح الحياة وفي الأعمال الدنيويّة والأُخرويّة، وغابر الليل يناسب الخلوة مع الله سبحانه وتعالى. وهذا معنى توزيع الخلوات على تمام أيّام العمر من دون الانقطاع عن الأعمال الاجتماعيّة والسياسيّة، وكشف منابع الطبيعة ونعمها واستثمارها. أمّا الانصراف تمام العمر أو


(1) السورة 73، المزمّل، الآيتان: 6 ـ 7.