5

 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

 

 

 

 

7

كلمة المكتب

بسم الله الرحمن الرحیم

الحمد لله كما هو أهله وأفضل الصلوات والتحيات علی خاتم رسله محمد وعترته الأطيبين.أمّا بعد، فالکتاب الذي بين يدي القارئ الکريم يحمل في طيّاته الأفکار والآراء الرصينة الفقهية في مباحث البيع، والتي دوّنها سماحة الفقيه المحقق آية الله العظمی الحاج السيد کاظم الحسيني الحائري وألقاها أيضاً علی جمع من فضلاء الحوزة العلمية في قم المقدسة خلال أربع سنوات تقريباً، فقد کان البدء بالدرس في اليوم العاشر من شهر شوال سنة 1426هـ، وانتهی منه في اليوم التاسع من شهر جمادی الأُولی سنة 1430هـ.وکان المحور لبحوثه هو کتاب المکاسب للشيخ الأعظم الأنصاري(قدس سره) في قسم البيع من

8

وقد قامت لجنة التحقيق بإعداد الکتاب ومراجعته وتقويم نصوصه وضبط مصادره، فجاء هذا السفر القيّم کما عهدناه من السيّد المؤلّف دام بقاؤه متقناً في أُسلوبه من حيث الاستدلال والاستنتاج ومستوعباً لشتات الفروع والمسائل.

فللّٰه درّه وعليه أجره والحمد لله ربّ العالمين.

قم المقدسة

1443هـ

9

 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين وأفضل الصلوات على أفضل النبيّين محمد وآله الطاهرين وبه نستعين.

 

 

 

 

 

 

11

 

 

 

تعريف البيع

 

 

 

 

13

 

 

 

 

قد عرّف الشيخ الأعظم الأنصاري(قدس سره) في المكاسب البيع بأنّه: «إنشاء تمليك عين بمال»(1).

والدليل عنده هو: أنّ كلمة البيع ليست له حقيقة شرعية ولا متشرّعية، فالمرجع في فهم معناه هو العرف(2)، ويرى رحمه الله: أنّ المعنى الذي يفهمه العرف هو ذلك.

وذلك رغم ما ذكر رحمه الله من أنّه فسّر معناه الأصلي في اللغة بمبادلة مال بمال كما عن المصباح المنير(3)، فلم يخصّص المبيع _ في ظاهر الحال _ بكونه عيناً(4).

وخير عذر يمكن أن يذكر له في الخروج عمّا نسبه إلى اللغة ما أفاد السيّد الخوئي رحمه الله: من أنّه تعارف لدى اللغويّين في التعاريف اللغوية «يعني: غير تفسير المرادف بالمرادف» أن تكون تعاريف لفظية، كقولهم: سعدانة نبت، وقولهم: العود خشب، فلا مجال للمناقشة فيها طرداً وعكساً(5).


(1) كتاب المكاسب، ج3، ص11.

(2) المصدر السابق، ج3، ص10.

(3) المصباح المنیر، ص69، مادة: «بیع».

(4) راجع کتاب المکاسب، ج3، ص7 _ 20.

(5) راجع محاضرات في الفقه الجعفري، ج2، ص11.

14

وقال الشيخ رحمه الله(1): بل يظهر عدم تخصيص المبيع بالعين من كثير من الأخبار، كالخبر الدالّ على جواز بيع خدمة المدبّر (2).

ونحن ننقل هنا من تلك الروايات التي أشار إليها الشيخ رحمه الله روايتين تامّتين سنداً:

الأُولى: صحيحة أبي مريم _ وهي الرواية الأُولى منها _ عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «سئل عن رجل يعتق جاريته عن دبر أيطؤها إن شاء، أو ينكحها، أو يبيع خدمتها حياته؟ فقال: أيّ ذلك شاء فعل»(3).

والثانية: صحيحة أبي بصير _ وهي الرواية الثانية منها _ قال: «سألت أبا عبدالله عليه السلام عن العبد والأمة يعتقان عن دبر فقال: لمولاه أن يكاتبه إن شاء، وليس له أن يبيعه إلّا أن يشاء العبد أن يبيعه قدر حياته، وله أن يأخذ ماله إن كان له مال»(4).

قال الشيخ رحمه الله: في مقام الإشارة إلى الروايات التي يظهر منها نسبة البيع إلى غير العين: «وبيع سكنى الدار التي لا يعلم صاحبها»(5).

وكأنّه رحمه الله يشير بذلك إلى موثّقة إسحاق بن عمّار عن عبد صالح عليه السلام قال: «سألته عن رجل في يده دار ليست له ولم تزل في يده ويد آبائه من قبله، قد أعلمه من مضى من آبائه أنّها ليست لهم، ولا يدرون لمن هي، فيبيعها ويأخذ ثمنها؟ قال: ما أُحبّ أن يبيع ما ليس له. قلت: فإنّه ليس يعرف صاحبها، ولا يدري لمن هي، ولا أظنّه يجيء لها ربّ أبداً. قال: ما أُحبّ أن يبيع ما ليس له. قلت: فيبيع سكناها أو مكانها في يده، فيقول: أبيعك سكناي وتكون في يدك كما هي في يدي؟ قال:


(1) كتاب المكاسب، ج3، ص7.

(2) راجع وسائل الشيعة، ج23، ص119، الباب3 من أبواب التدبير.

(3) المصدر السابق، ح1.

(4) المصدر السابق، ص120، ح2.

(5) كتاب المكاسب، ج3، ص7.

15

نعم يبيعها على هذا»(1).

قال الشيخ رحمه الله: «وكأخبار بيع الأرض الخراجية وشرائها»(2).

وكأنّ هذه إشارة إلى بعض أخبار الباب 21 من أبواب عقد البيع وشروطه من الوسائل، كالحديث التامّ سنداً عن إسماعيل بن الفضل الهاشمي عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «سألت أبا عبدالله عليه السلام عن رجل اشترى أرضاً من أرض أهل الذمّة من الخراج وأهلها كارهون، وإنّما يقبلها من السلطان لعجز أهلها عنها أو غير عجز؟ فقال: إذا عجز أربابها عنها فلك أن تأخذها إلّا أن يضارّوا، وإن أعطيتهم شيئاً فسختْ أنفسُ أهلها لكم فخذوها. قال: وسألته عن رجل اشترى أرضاً من أرض الخراج، فبنى بها أو لم يبنِ، غير أنّ أُناساً من أهل الذمّة نزلوها، له أن يأخذ منهم أُجرة البيت إذا أدّوا جزية رؤوسهم؟ قال: يشارطهم، فما أخذ بعد الشرط فهو حلال»(3).

وأيضاً تكون إشارة إلى بعض أخبار الباب 71 من جهاد العدوّ من الوسائل(4).

وقد أجاب الشيخ رحمه الله على هذه النقوض المستفادة من هذه الروايات التي نسبت البيع إلى نقل المنفعة بأنّ الظاهر أنّ هذه مسامحة في التعبير رغم أنّه رحمه الله أقرّ بأنّ الأصل اللغوي في البيع هو مطلق مبادلة المال بالمال من دون اختصاص بالعين(5).

وعلى أيّ حال فقد عرفت خير ما يمكن أن يكون عذراً للشيخ في الخروج عمّا قد يظهر من المعنى اللغوي هو: أنّ التعاريف اللغوية عادة هي تعاريف لفظية.

ويشهد للفظية التعريف الوارد في المصباح المنير تكملة العبارة في المصباح، فتمام العبارة في المصباح ما يلي:


(1) وسائل الشيعة، ج17، ص335، الباب الأول من أبواب عقد البيع وشروطه، ح5.

(2) كتاب المكاسب، ج3، ص7.

(3) وسائل الشيعة، ج17، ص370، الباب21 من أبواب عقد البيع وشروطه، ح10.

(4) المصدر السابق، ج15، ص155، الباب71 من أبواب جهاد العدو وما يناسبه.

(5) كتاب المكاسب، ج3، ص7

16

«والأصل في البيع مبادلة مال بمال؛ لقولهم: بيع رابح وبيع خاسر، وذلك حقيقة في وصف الأعيان، لكنّه أُطلق على العقد مجازاً؛ لأنّه سبب التمليك والتملّك»(1).

فلولا أنّ تعريفه مجرّد تعريف لفظي فيا ترى هل نجعل فرضه لكون الرابح والخاسر حقيقة في وصف الأعيان قرينة على أنّ المقصود بالمال في صدر كلامه كان هو العين، أو نجعل كلمة المال في صدر كلامه قرينة على أنّ مقصوده بالعين في ذيل الكلام هو مطلق المال، أو نجعل هذا الاختلاف بين الصدر والذيل موجباً لإجمالهما؟!

ثم إنّنا لو أصررنا على تخصيص البيع بتمليك العين مع تنزيل الروايات الماضية على معنى تمليك العين، أمكن أن يقصد بتمليك العين معنىً أوسع من التمليك المصطلح فعلاً لدينا الذي هو عبارة عن أعلى درجات التسليط الاعتباري الذي يشرّع شرعاً أو عقلائيّاً أو عرفاً أو ادّعاءً من قبل السارق مثلاً، فيشمل التسليط الاعتباري بدرجاته المختلفة، فتحمل كلّ هذه الروايات على إرادة نقل مطلق السلطة الاعتبارية التي تسمّى أقصاها بالملكية، وهي نوع سلطة اعتبارية على العين.

وقد يخطر ببال أحد أن يحذف أصلاً كلمة التمليك، ويُعرّف البيع بأنّه إنشاء تبديل عين بعوض من جهة الإضافة، من دون تخصيص تلك الإضافة بإضافة الملكية، بل بكلّ درجات السلطة الاعتبارية والتي تسمّى أعلاها بالملكية.

وهذا ما فعله الشيخ النائيني رحمه الله، واستشهد على ذلك بجواز بيع ما لا ملكية فيه، كما في بيع سهم سبيل الله من الزكاة لصرف ثمنه في سبيل الله، أو بيع نماء العين الموقوفة في سبيل الله وصرف ثمنه في قربات الله، أو ما لو افترضنا أنّه أوصى أحد بصرف ماله في سبيل الله، ونصّ على عدم صيرورته ملكاً لأحد، فبيع المال المذكور لكي يصرف ثمنه في قربات الله(2).


(1) المصباح المنير، ص69.

(2) راجع مصباح الفقاهة، ج2، ص23 _ 24.

17

أقول: عدم مالكية الجهة في هذه الأمثلة كجهة سبيل الله أوّل الكلام.

ولو سلّم عدم ملكية الجهة في هذه الأمثلة، وكان هذا الكلام منه رحمه الله إشكالاً على تعريف الشيخ للبيع بإنشاء تمليك عين بمال، لم يرد هذا الإشكال عليه؛ لأنّه لا شكّ في أنّ بيع الزكاة من قسم سبيل الله، أو نماء العين الموقوفة في سبيل الله، أو ما أُوصي به في سبيل الله تمليك للمشتري.

فالأولى أن يقال أساساً _ لو فرض أنّ الفهم العرفي يساعد على ذلك _: إنّ البيع ليس إنشاء التمليك بالخصوص، بل إنشاء التسليط الاعتباري بأيّ درجة من درجاته. وتؤيّد ذلك الروايات التي أشار إليها الشيخ الأعظم رحمه الله. أمّا الشواهد التي ذكرها الشيخ النائيني رحمه الله، فلا أثر لها في المقام.

هذا كلّه بالنسبة للمبيع.

وأمّا بالنسبة للثمن فقد ذكر الشيخ الأعظم رحمه الله: أنّه يكفي فيه أن يكون مالاً ولا يشترط فيه أن يكون عيناً، فبالإمكان أن يكون منفعة من المنافع، وبالإمكان أن يكون عملاً من أعمال الحرّ لو آمنّا بكونه مالاً قبل المعاوضة، وإلّا جاءت شبهة احتمال شرط ثبوت المالية قبل المعاوضة. قال رحمه الله: ولا ينتقض ما قلناه بكفاية مالية الثمن وعدم اشتراط عينيّته بعدم إمكان كون الثمن حقّاً من الحقوق؛ وذلك لأنّ الحقّ لا يخلو من إحدى حالات:

الأُولى: أن لا يكون قابلاً للمعاوضة كحقّ الحضانة والولاية. وهذا لا يصلح للنقض؛ لأنّ هذا الحقّ ليس مالاً أساساً.

والثانية: أن يكون الحقّ له مالية، ولكن لا يقبل النقل كحقّ الشفعة وحقّ الخيار. وهذا أيضاً لا يصلح للنقض؛ لأنّه إنّما لم يمكن جعله ثمناً لأنّه لم يقبل النقل، لا لأنّه لم يكن عيناً.

18

والثالثة: ما يكون قابلاً للانتقال كحقّ التحجير ونحوه ويقابل بالمال في الصلح، إلّا أنّ في جواز وقوعه عوضاً للبيع إشكالاً؛ وذلك لأخذ شرط المالية في عوضي المبايعة لغةً وعرفاً، كما هو الظاهر من كلمات الفقهاء أيضاً.

وقال الشيخ رحمه الله: لا ينقض ما ذكرناه من شرط تمليك المبيع ببيع الدين على من هو عليه؛ لأنّه لا مانع من كونه تمليكاً فيسقط(1).

أقول: إن كان المقصود النقض على مسألة كون البيع تمليكاً ببيع الدين على من هو عليه، أمكن الجواب بأنّه لا مانع من كونه تمليكاً فيسقط.

ولكن لأحد أن يورد النقض بذلك من زاوية عدم عينية الدين وقد فرض شرط العينية في المبيع، وحينئذ لا فرق بين أن يكون بيع الدين على من هو عليه وبين بيعه على غير من هو عليه، فالنقض بهما على حدّ سواء.

وينبغي أن يكون الجواب على النقض بأنّ الفقه الإسلامي يؤمن بوعاء الذمّة، ولا يؤمن بوعاء العهدة فحسب، فكأنّ الفقه الإسلامي يفترض وجود العين بوجودها الرمزيّ في وعاء الذمّة، وهذا كاف في تصحيح بيعه.

وبهذا ينحلّ إشكال بيع الكلّي في الذمّة رغم أنّ وجود هذا الكلّي في الذمّة إنّما يتحقّق بنفس البيع، فكأنّه يكفي في الشريعة في صحّة البيع هذا الوجود الرمزي للكلّي في الذمّة التقديري، أي: على تقدير تحقّق البيع.

وأمّا إشكال جعل الثمن عمل الحرّ، فجوابه واضح؛ لأنّه لا إشكال في أنّ عمل الحرّ له مالية، نعم إيجاد هذا المال إنّما يجب على المشتري بعد أن يشتري المبيع بعمله، ففرق كبير بين مسألة جعل عمل الحرّ ثمناً في المبيع ومسألة ضمان عمل الحرّ بالحبس؛ إذ يكفي في صحّة الأوّل كون العمل ذا مالية بلا إشكال، ولذا لو أجبر أحد أحداً على عمل ضمن له قيمة العمل ضمان الإتلاف، ولكن لا يکفي في ضمان


(1) كتاب المكاسب، ج3، ص7 _ 9.

19

عمل الحرّ بحبسه مجرّد كون العمل ذا مالية، فنحن نفصّل في ضمان عمل الحرّ بالحبس بين أن يكون أجيراً لعمل فيحبس، وأن يكون کسوباً حتّى لو لم يكن أجيراً فيحبس، وبين أن يكون بطّالاً فيحبس، ففي الأوّل نؤمن بضمان أُجرة عمله على أساس قاعدة نفي الضرر، وفي الثاني نؤمن بضمان قيمة المثل لعمله على أساس قاعدة نفي الضرر أيضاً وفي الثالث لا نؤمن بضمان عمله.

وأمّا استشكال الشيخ رحمه الله في مالية مثل حقّ التحجير ونحوه بعد اعترافه بالمقابلة بالمال في الصلح، فلا أعرف وجهه.

الفرق بين الثمن والمثمن أو البائع والمشتري

بقي الكلام فيما أفاده أُستاذنا الشهيد رحمه الله في التمييز بين الثمن والمثمن، أو قل: بين البائع والمشتري؛ ذلك أنّ السيّد الحكيم رضوان الله عليه أفاد في منهاج الصالحين ما لفظه: «معنى البيع قريب من معنى المبادلة»، وعلّق أُستاذنا الشهيد رحمه الله على هذه العبارة بقوله: «مع اختلاف بين نظري الطرفين بحيث يكون نظر أحدهما إلى المال بخصوصه ونظر الآخر إلى ماليّته، وأمّا إذا تساويا في النظر فلا يطلق عليه البيع وإن كان مبادلة»(1).

وقد أخذ أُستاذنا الشهيد هذا المطلب من أُستاذه السيّد الخوئي رحمه الله، فإنّه صرّح أيضاً _ على ما ورد في محاضرات السيّد علي الشاهرودي(2)، ومصباح الفقاهة للتوحيدي(3)_ بالفرق بين البائع والمشتري بكون أحدهما ناظراً إلى المال بخصوصه، والآخر إلى المالية، ولو تساويا كان ذلك مبادلة، ولم يكن بيعاً وشراءً.

أقول: إنّ تخصيص البيع بما إذا كان نظر أحد الطرفين إلى المال بخصوصه ونظر


(1) منهاج الصالحين(المحشی للحکيم)، ج2، ص20.

(2) راجع المحاضرات، ج2، ص28.

(3) مصباح الفقاهة، ج2، ص9.

20

الآخر إلى المالية قابل للمنع، فليكن تخصيص أحدهما باسم المثمن والآخر باسم الثمن، أو تخصيص أحد المتعاملين باسم البائع والآخر باسم المشتري مشروطاً بذلك، وإذا تساويا في النظر إلى المال أو المالية، فليكن كلاهما ثمناً ومثمناً، وكلاهما بائعاً ومشترياً، أمّا تخصيص اسم البيع بفرض عدم التساوي في ذلك فليس عرفيّاً، كيف وبيع المقايضة كانت شائعاً في صدر الإسلام وما قبله، والنظر في طرفي المبادلة في باب المقايضة يكون في الغالب متماثلاً بلحاظ الطرفين، وأيضاً لا شكّ في أنّ بيع الصرف يعتبر عرفاً بيعاً مع أنّه يكون النظر بلحاظ الطرفين في الدينار والدرهم متماثلاً في كثير من الأحيان.

نعم، في زماننا هذا تعارف التبادل بين النقد الأجنبي كالدولار بنقد البلد في العراق أو إيران وغيرهما، والغالب: أنّ النظر لدافع النقد الأجنبي إلى المال، ولمن يأخذ النقد الأجنبي في مقابل نقد البلد إلى المالية.

والظاهر: أنّ تعيين الثمن والمثمن في البيع لا يترتّب عليه أثر عملي مهمّ، فخيار المجلس مثلاً ثابت في كلا الجانبين، وكذلك خيار الشرط أو خيار تخلّف الشرط ونحو ذلك، وخيار الحيوان لصاحب الحيوان سواء فرض ثمناً أو مثمناً؛ وذلك لصحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: «سمعته يقول: قال رسول الله(صل الله عليه وآله): البيّعان بالخيار حتّى يفترقا، وصاحب الحيوان ثلاثة أيّام...»(1) .

وأكثر روايات الباب وإن قيّدت خيار الحيوان بالمشتري(2)، لكن لا مفهوم لها ولو بنحو القضية الجزئية بعد وضوح أنّ صاحب الحيوان غالباً هو المشتري، فيكفي في عقلائية ذكر وصف المشتري تنزيله منزلة الغالب.


(1) الكافي، ج5، ص170، باب الشرط والخيار في البيع من کتاب المعيشة، ح4؛ وسائل الشيعة، ج18، ص11، الباب3 من أبواب الخيار، ح6.

(2) راجع وسائل الشيعة، ج18، ص10، الباب3 من أبواب الخیار.

21

وفي ختام البحث أقول: من يرى أنّ البيع لا يكون إلّا إذا اختلف البائع عن المشتري في كون نظر أحدهما إلى المال ونظر الآخر إلى المالية، أو من يقول: لا يكون البيع إلّا إذا كان تمليك أحدهما بالمطابقة والتملّك بالضمن والآخر بالعكس، كي يتميّز البائع عن المشتري، أو من يقول مثلاً: لا يكون البيع إلّا إذا كان أحدهما يعرض السلعة والآخر يعرض النقد، فلو تساويا لم يكن بيعاً، فيا تُرى هل يلتزم لدى التساوي بعدم خيار المجلس أو خيار الحيوان؛ لأنّ خيار المجلس للبيّعين وخيار الحيوان أيضاً للبيّعين أو للمشتري، أو لا؟!

تعريف البيع في الفقه الوضعي

وأخيراً لا بأس بأن نشير إلى ما قاله الدكتور عبدالرزّاق السنهوري في تعريف البيع بحسب التقنين الوضعي المدني المصري الجديد قال:

«البيع عقد يلتزم به البائع أن ينقل ملكية شيء أو حقّاً ماليّاً آخر في مقابل ثمن نقدي»(1).

ثم يشير السنهوري إلى مواد القوانين المدنية الوضعية العربية لبلاد أُخرى تعطي ما يطابق أو يشابه نفس المعنى من التقنين المدني السوري والليبي والعراقي واللبناني.

ثم يقول: «ويستخلص من هذا التعريف: أنّ البيع عقد ملزم للجانبين؛ إذ هو يلزم البائع أن ينقل للمشتري ملكية شيء أو حقّاً ماليّاً آخر، ويلزم المشتري أن يدفع للبائع مقابلاً لذلك ثمناً نقديّاً، ويستخلص منه أيضاً: أنّ البيع عقد معاوضة، فالبائع يأخذ الثمن مقابلاً للمبيع، والمشتري يأخذ المبيع مقابلاً للثمن، ويستخلص منه كذلك: أنّ البيع عقد رضائي؛ إذ لم يشترط القانون لانعقاده شكلاً خاصّاً، فهو ينعقد بمجرّد تراضي المتبايعين، ويستخلص منه أخيراً: أنّ البيع عقد ناقل للملكية، فهو يرتّب


(1) الوسيط في شرح القانون المدني، ج4، ص20.

22

التزاماً في ذمّة البائع بنقل ملكية المبيع إلى المشتري كما هو صريح النص»(1).

إلى أن يقول: «إنّ التعريف يبيّن في وضوح: أنّ الثمن لابدّ أن يكون من النقود، وهذا ما يميّز البيع عن المقايضة والصرف ويميّزه عن البيع في الفقه الإسلامي، ففي هذا الفقه يصحّ أن يكون الثمن من غير النقود، فيتّسع البيع فيه ليشمل البيع المطلق والمقايضة والصرف والسلم.

ولعلّ أهمّ تطوّر في تاريخ البيع هو تطوّره ليكون عقداً ناقلاً للملكية... إنّ البيع لم يكن في القديم عقداً ناقلاً للملكية، فقد كان البيع في القانون الروماني لا يرتّب في ذمّة البائع التزاماً بنقل الملكية، بل التزاماً بنقل حيازة المبيع إلى المشتري، إلّا إذا اشترط المشتري على البائع أن ينقل له الملكية، وكذلك كان الحكم في القانون الفرنسي القديم، فكانت الملكية لا تنتقل فيه إلّا بالقبض، ولكن مراحل طويلة من التطوّر في هذا القانون انتهت إلى أن يكون القبض أمراً صوريّاً، وكان يكفي أن يذكر في عقد البيع: أنّ القبض قد تمّ حتّى تنتقل ملكية المبيع إلى المشتري، وقطع التقنين المدني الفرنسي في سنة (1804م) آخر مرحلة من مراحل التطوّر، فجعل البيع ذاته ناقلاً للملكية؛ إذ رتّب في ذمّة البايع التزاماً بنقلها إلى المشتري. ومن ذلك الحين أصبح البيع ناقلاً للملكية في التقنينات الحديثة، ومنها التقنين المصري السابق والتقنين المصري الجديد وإن كان الفقه الإسلامي قد تعجّل هذا التطوّر، وجعل البيع ناقلاً للملكية قبل ذلك بدهور طويلة»(2).


(1) الوسيط في شرح القانون المدني، ج4، ص23.

(2) المصدر السابق، ج4، ص22 _ 23.

23

 

 

 

المعاطاة

 

 

 

 

25

 

 

 

لا إشكال في أنّ عقد البيع بحاجة إلى إبراز الإرادة، أو قل: إبراز إنشاء العقد، ولا ينبغي الإشكال في أنّ الارتكاز العقلائي لا يفرّق في حصول الملك اللازم في البيع بين أيّ مبرز لتلك الإرادة أو الإنشاء ولو كان بالفعل الذي قد يدلّ وحده أو بضمّ قرينة على المقصود، وهذا هو ما يسمّی بالمعاطاة.

إلّا أنّه قد ادّعي إجماع علمائنا القدامى على عدم إفادتها للملك، أو عدم إفادتها للملك اللازم.

والأقوال المنقولة عنهم في الكتب المطوّلة عديدة مع اختلافهم في تعدادها وكيفية تعديدها وتقريرها، ومن أرادها راجع تلك الكتب.

والذي نركّز عليه الحديث باختصار في مسألة الإجماع على ذلك هو أنّه لو كان الإجماع محصّلاً لدينا على ذلك لما كانت له حجّية لنا ما لم يؤدّ إلى العلم أو الاطمئنان _ على الأقلّ _ برأي الشرع عن طريق الحدس.

ونشير إلى أنّ الإجماع المركّب لا قيمة له في نفي رأي آخر إلّا إذا رجع بروحه إلى الإجماع البسيط، بأن نعرف أنّ صاحب كلّ قول كان ملتزماً بالجامع بين تلك الأقوال إلى جنب اختياره لذاك القول، لا لأجل أنّ ذاك القول ينتزع منه ومن غيره ذاك

26

الجامع، فلو بطل لديه قوله بقي معتقداً بالجامع بحدّ ذاته اعتقاداً مستقلّاً، أمّا لو لم يكن الأمر كذلك، فنفس الاختلاف في الآراء عامل مساعد كبير في عدم تحقّق ذاك الحدس بقول الشارع الذي عليه مدار العمل بالإجماع عندنا. ولدينا شيء من تفصيل الكلام حول دعوى الإجماع على عدم إفادة المعاطاة للملك اللازم في الجزء الأوّل من كتابنا (فقه العقود).

ثم إنّ ما أشرنا إليه من أنّ الارتكاز العقلائي لا يفرّق في إبراز الإرادة أو العقد أو العهد أو الإنشاء لتحقّق البيع لا إشكال في أنّه عامل مساعد لجانب القول بصحّة المعاطاة في البيع وإفادتها للملك اللازم.

أدلّة إفادة المعاطاة للملك

ولكن مع هذا لابدّ من الالتفات التفصيلي إلى الوجوه التي يمكن أن يستدلّ بها على المقصود، فإنّ مجرّد كون الارتكاز العقلائي مساعداً للأمر لا يكفي للإفتاء الشرعي بذلك. والوجوه التي بنينا على الإشارة إليها ما يلي:

الأوّل: سيرة المتشرّعة، حيث يدّعى قيامها قديماً وحديثاً على بيع المعاطاة وعدم التفريق بينها وبين ما يسمّى بالبيع العقدي في الآثار، وسيرة المتشرّعة المتّصلة بزمان المعصوم تكون في طول رأي المعصوم، وتكشف عنه.

وأقلّ إيراد يرد على ذلك: أنّنا لا نثق بأنّ سيرتهم على ذلك كانت سيرة لهم بما هم متشرّعة، فإنّهم في نفس الوقت عقلاء ويمتلكون ذاك الارتكاز العقلائي الذي أشرنا إليه، فلعلّهم إنّما قامت سيرتهم على ذلك بسبك ذاك الارتكاز العقلائي، فترجع سيرتهم إلى السيرة العقلائية.

الثاني: دعوى سيرة العقلاء المتّصلة بزمن المعصوم مع عدم صدور الردع المناسب عن ذلك من قِبل المعصوم، وذلك يكشف كشفاً قطعيّاً عن رأي المعصوم.

27

وهذا بيان صحيح لو لم نفترض صدور الردع. وهذا ما سنبحثه _ إن شاء الله _ (بعد الانتهاء من أدلّة صحّة العقد المعاطاتي) كإشارة إلى ما قد يفترض دليلاً لفظيّاً لبطلان المعاطاة.

الثالث: قوله تعالى: ﴿وَأَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرَّبَا﴾(1)؛ إذ لا إشكال في أنّ المعاطاة بيع عند العرف، فتشملها هذه الآية المباركة.

ولا فرق في ذلك بين أن نفترض أنّ الحلّ هنا حلّ وضعي، والمقصود بالبيع هو السبب، فالآية تدلّ مباشرة على صحّة البيع المعاطاتي بالإطلاق.

أو نفترض أنّ الحلّ هنا حلّ تكليفي يتعلّق بالمسبّب، أي إنّ الآية تحلّل الأكل والتصرّف في المبيع، فتدلّ بالملازمة على صحّة البيع، وتشمل بالإطلاق حلّية الأكل والتصرّف في البيع المعاطاتي.

الرابع: قوله تعالى: ﴿إلَّا أَنْ تَكُوْنَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مَّنْكُمْ﴾(2)؛ إذ لا شكّ أنّ البيع المعاطاتي عن تراض تجارة عند العرف، فتشملها الآية الكريمة.

الخامس: قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوْا أَوْفُوْا بِالْعُقُوْدِ,﴾(3). بناء على ما استظهره السيّد الإمام(رضوان الله عليه): من أنّ المقصود بالعقد _ على ما هو المتبادر عرفاً _ تبادل الإضافتين الاعتباريّتين، فالإضافة الاعتبارية كأنّها هي الحبل، وتبادل الإضافتين هو العقدة، كما قال الله تعالى: ﴿وَلَا تَعْزِمُوْا عُقْدَةَ النَّكَاحِ﴾(4).

وقوله تعالى: ﴿أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النَّكَاحِ﴾(5).


(1) البقرة: 275.

(2) النساء: 29.

(3) المائدة: 1.

(4) البقرة: 253.

(5) البقرة: 237

28

قال (رحمه الله): إنّ العرف يساعد على هذا المعنى، وليس ما يقال: من أنّ العقد هو العهد الموثّق(1).

أقول: بناء على صحّة هذا الاستظهار _ كما هو الظاهر _ يكون عندنا في المقام أُمور ثلاثة:

الأوّل: الأمر بالوفاء بالعقد، وهذا يدلّ على لزوم العقد.

والثاني: أنّ الأمر بالوفاء بالعقد يدلّ على صحّة العقد؛ لأنّه لا يحتمل عرفاً ولا متشرّعيّاً وجوب الوفاء بالعقد الباطل، وبما أنّ المعاطاة عقد عرفاً وإن كان مبرزه الفعل، فإطلاق الآية يدلّ على صحّتها. وخروج البيع الربوي أو القرض الربوي يكون بالتخصيص.

والثالث: متعلّق العقد، أعني العوضين، أو قل: المال الذي تعلّقت الإضافة الاعتبارية به. والظاهر أنّ هذا يعتبر موضوعاً مفروغاً عنه في الكلام، فخروج ما يكون من ذلك غير شرعي كما في بيع الخمر لا يعتبر تخصيصاً.

وعليه فمتى ما كان الشكّ في شرعية متعلّق العقد أو ماليّته مثلاً لم يمكن إثبات شرعيّته بإطلاق هذه الآية، ومتى ما كان الشكّ في شرعية العقد، أي نفوذه من دون إشكال في المتعلّق صحّ تنفيذه بإطلاق هذه الآية.

ومن هنا نصحّح العقود الحديثة کعقود التأمين بإطلاق هذه الآية.

والشبهة الوحيدة التي توجد في هذا الوجه هي ورود بعض الروايات في تفسير العقد في الآية الكريمة بالعهد، وفيها رواية تامّة السند، وهي ما رواه علي بن إبراهيم عن أبيه عن النضر بن سويد عن عبدالله بن سنان عن أبي عبدالله(عليه السلام): «قوله: ﴿أَوْفُوْا بِالْعُقُوْدِ﴾ قال: بالعهود»(2).


(1) راجع كتاب البيع (للإمام الخميني(رحمه الله))، ج1، ص102 _ 103.

(2) تفسير القمي، ج1، ص160.

29

وتوجد في المقام مرسلة العيّاشي عن ابن سنان، قال: «سألت أبا عبدالله عليه السلام عن قول الله(عز وجل) :﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوْا بِالْعُقُوْدِ﴾ قال: العهود»(1).

ويحتمل كونها _ في الحقيقة _ عين الرواية الأُولى.

وروى علي بن إبراهيم عن الحسين بن محمد عن المعلّى بن محمد البصري عن ابن أبي عمير عن أبي جعفر الثاني عليه السلام في قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوْا بِالْعُقُوْدِ﴾: قال: «إنّ رسول الله(صل الله عليه وآله) عقد عليهم لعليّ بالخلافة في عشرة مواطن، ثم أنزل الله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوْا بِالْعُقُوْدِ﴾ التي عقدت عليكم لأمير المؤمنين(عليه السلام)»(2)، والسند غير تام.

ولا شكّ أنّ عقد رسول الله(صل الله عليه وآله) لعليّ عليه السلام في تلك المواطن لم يكن إلّا عبارة عن تعهيد الأُمّة بذلك.

ويمكن أن يقال في المقام: إنّ الجمع بين الفهم العرفي لكلمة العقد الذي هو عبارة عن العقود الاعتبارية وتبادل الإضافات وهذه الروايات يقتضي أن نقول: ليس المقصود بهذه الروايات سلخ كلمة العقد في الآية عن معناها العرفي، بل المقصود توسيع المقصود بها لجامع الشدّ الموجود في العقود الاعتبارية وفي العهود.

السادس: قوله(صل الله عليه وآله): «الناس مسلّطون على أموالهم»(3).

فيقال: إنّ مقتضى إطلاق الحديث هو التسلّط على البيع المعاطاتي.

إلّا أنّ هذا الوجه لا قيمة له لا سنداً ولا دلالةً:

أمّا من حيث السند فلأنّ هذه الرواية هي النبوية المرسلة لعوالي اللآلي، ولا اعتبار بذلك.


(1) وسائل الشيعة، ج23، ص327، الباب25 من کتاب النذر والعهد، ح3.

(2) تفسير القمي، ج1، ص160.

(3) عوالي اللئالي، ج3، ص208، باب التجارة، ح60.