180

فلنا مقامان من البحث:

المقام الأوّل:

في إضافة عنصر آخر إلى فضولية البيع كي نرى أنّه هل يوجب عدم نفوذ البيع بالإجازة بعد أن آمنّا بأصل نفوذ بيع الفضولي بالإجازة أو لا؟

وهذا العنصر الإضافي الذي قد يحتمل تأثيره في إبطال نفوذ الإجازة أحد أمرين:

الأوّل: سبق منع المالك.

والثاني: عقد الفضولي لنفسه.

فإنّ كلامنا حتّى الآن كان في فرض عدم سبق منع المالك، وكان في فرض بيع الفضولي للمالك، أو قل: فرض عدم قصد الفضولي كون البيع لغير المالك، ولكن قصده لكون البيع لنفسه أو قل: لغير المالك لعلّه يضرّ بنفوذ البيع بعد ذلك بالإجازة.

عقد الفضولي مع سبق منع المالك

أمّا الفرع الأوّل: وهو فرض سبق منع المالك فقد يقال: إنّ هذا المنع يضرّ بلحوق الإجازة، ولا إشكال في أنّ هذا المنع يفقدنا الدليل الخاصّ على صحّة بيع الفضولي، وهو صحيحة محمد بن قيس وصحيحة الحلبيّ؛ لأنّه لم يفترض فيهما منع سابق، فهما لا تدلّان بظهورهما على أكثر من صحّة عقد الفضولي حينما يكون بلا إذن المالك، دون ما إذا كان مع منعه.

ولكن يبقى لنا ما مضى من مقتضى القاعدة فإنّه يشمل هذا القسم من الفضولي.

وتوهّم مبطلية المنع السابق بافتراضه كالردّ المتأخّر، أو بالقول بأنّ الكراهة مستمرّة عادة إلى ما بعد العقد _ ولو آناً مّا _ وهي كراهة مبرَزة فحالها حال الردّ، يرد عليه:

أنّنا لنفترض الكلام في الردّ الصريح بعد العقد، فلو انتهينا إلى مانعيّته عن لحوق الإجازة وصلت النوبة إلى البحث عن أنّ المنع السابق أو الكراهة المبرَزة المستمرّة

181

بعد العقد هل يلحق بالردّ أو لا؟ وإلّا فلا داعي إلى هذا البحث.

فنقول: لا مبرّر لافتراض أنّ ردّ المالك لا يبقي مجالاً للإجازة، فإنّه إن كان المقصود بذلك عقلائية زوال العقد بالردّ بحيث لا يقبل بعد ذلك عقلائيّاً لحوق الإجازة فهذا لا يكون إلّا في الردّ بمعنى كسر القرار وإنهائه من النفس من قِبل العاقد الأصيل، كما لو فرضنا أنّ الفضولي باع كتابنا من زيد الذي هو مالك الثمن، ثم كسر زيدالقرار وسحب العقد قبل إجازتنا لبيع الفضولي، فلم يبق موضوع للحوق إجازتنا بالبيع، ولا يعقل ذلك من مالك الكتاب؛ إذ لم يكن من قِبَله قبل الإجازة قرار حتّى نبحث عن سحبه وكسره.

والردّ المعقول من قِبل المالك في باب الفضولي بمعنى مجرّد إبراز الكراهة أو بمعنى كسر القرار بالفرض والاعتبار والإنشاء لا بالمعنى الحقيقي للكلمة لا يوجب عقلائيّاً عدم إمكان لحوق الإجازة.

وإن كان المقصود بذلك دعوى التمسّك بالإجماع على مبطلية الردّ بالمعنى المعقول من المالك في باب الفضولي فلا إجماع تعبّدي كاشف عن رأي المعصوم في المقام أبداً.

عقد الفضولي لنفسه

وأمّا الفرع الثاني: وهو عقد الفضولي لنفسه فالكلام تارة يقع عن وقوعه لنفسه بعد أن يملكه بشراء ونحوه، بمعنى أنّه هل يقع البيع له بمجرّد تملّكه بشراء ونحوه للمبيع بلا حاجة إلى أن يجيز البيع بعد تملّكه للبيع، وأُخری يقع عن وقوعه للمالك بعد إجازته:

أمّا الكلام عن وقوعه للفضولي بعد انتقال المبيع إليه بشراء ونحوه فلا ينبغي الإشكال في أنّ هذا خلاف روايات «لا تواجبه البيع قبل أن تستوجبه»(1)، ولا تشمله الإطلاقات أيضاً؛ لأنّه لم ينتسب العقد إليه حين مالكيّته، أو قل: لم ينتسب العقد إليه بما هو مالك.


(1) وسائل الشيعة، ج18، ص48، الباب8 من أبواب أحكام العقود.

182

وأمّا الكلام عن وقوعه للمالك بإجازته فهذا يشتمل على فرعين:

الأوّل: فرض إجازة المالك غير الفضولي للعقد.

والثاني: فرض تملّك الفضولي للمال بشراء ونحوه ثم إجازته للعقد السابق.

وتوجد هنا إشكالات ثلاثة:

الأوّل: ما هو مشترك الورود على كلا الفرعين، وهو: أنّ قصد البيع الحقيقي لم يتمݦݨّ؛ لأنّ البيع عبارة عن المبادلة بين المالين، وهي دخول كلّ من المالين في ملك من خرج من ملكه الآخر، في حين أنّ الفضولي قصد هنا دخول العوض في ملكه هو، وليس هو الذي خرج من ملكه العوض الآخر، فلم يقصد إلّا بيعاً صوريّاً، فلا محلّ للإجازة أصلاً سواء فرضنا المجيز هو المالك الأوّل أو الفضولي بعد ما يملك المال.

والثاني: ما يختصّ بالفرع الأوّل، وهو أنّ الإجازة لم تطابق الإنشاء، فما أُنشئ لم يجز وما أُجيز لم ينشأ؛ لأنّ الفضولي أنشأ ملكية نفسه، والمالك الأوّل أنشأ ملكية نفسه.

والثالث: ما يختصّ بالفرع الثاني، وهو تقدّم العقد على الملك، فالعقد انتسب إليه قبل أن يكون مالكاً، وهذا الانتساب لا قيمة له، وبعد الملك لم ينتسب إليه انتساباً جديداً بالإجازة؛ لأنّ الفعل لا ينتسب إلى الشخص مرّتين، إذاً لم يقترن انتساب العقد إليه بالملك.

والجواب عن الأخير: أنّ الانتساب إلى ذات الشخص وإن تمّ قبل الملك لكن الانتساب إليه بما هو مالك انتساب جديد حصل بالإجازة، ولا أقصد بذلك انتساب ذات العقد إليه مرّة ثانية كي يقال: إنّ الفعل لا ينتسب إلى الشخص مرّتين، بل أقصد بذلك أنّ انتحال الفضولي بعد الملك للعقد الأوّل وتبنّيه إيّاه موضوع في نظر العرف والعقلاء في تحقّق التمليك من قِبله في لوح التشريع العقلائي، وهذا يحقّق موضوع التمسّك بالإطلاقات وبالسيرة.

نعم، هذا الإشكال لا جواب عليه لو كنّا نقصد بانتساب العقد إلى المجيز المصحّح

183

للتمسّك بالإطلاقات ما مضى عن السيّد الخوئي رحمه الله من انتساب ذات العقد إليه؛ فإنّ هذا الانتساب ثابت هنا قبل الإجازة وقبل الملك ولم يتكرّر.

بقي الكلام في الإشكالين الأوّلين:

والموقف تجاه هذين الإشكالين يمكن أن يكون بأحد وجهين:

الوجه الأوّل: أن لا يهتمّ بحلّهما بمقتضى القواعد؛ إذ يكفينا التعبّد بصحيحة محمد بن قيس؛ فإنّ الفضولي في تلك الصحيحة كان قد باع الوليدة لنفسه فأعقبته الإجازة من قِبل المالك وصحّ البيع، فحتّى لو لم يتمّ ذلك بمقتضى القواعد نقول بصحّته بالنصّ الخاصّ، ويتمّ التعدّي إلى فرض ما إذا تملّكه الفضولي بالشراء مثلاً فأجاز البيع الأوّل بعدم احتمال الفرق عرفاً، وكذلك يمكن التمسّك بالنصّ الخامس الذي مضى إن قبلنا ما قرّبناه من دلالته على صحّة بيع الفضولي، وهو صحيحة الحلبي.

والوجه الثاني: أن نبحث الإشكالين وفق مقتضى القواعد وعندئذٍ نقول:

إنّ خير ما يمكن افتراض كونه المقصود من كلام الشيخ الأنصاري رحمه الله كجواب على هذين الإشكالين _ بعد تخليصه من التطويل والتشويش الموجودين في كلامه _ هو أنّ الفضولي لو كان يعتقد مالكية نفسه للمثمن الذي يبيعه أو للثمن الذي يشتري به فقد قصد حقيقةً البيع أو الشراء الأصلي، وإن كان غاصباً فهو يدّعي ادّعاء الملكية، وبناءً علی هذا الادّعاء يتمشّى أيضاً منه قصد البيع حقيقةً. نعم، لو لم يدّع المالكية ومع ذلك قصد العقد لنفسه التزمنا بالبطلان؛ لأنّه صورة بيع، وليس بيعاً حقيقةً.

وبهذا اندفع الإشكال الأوّل، وهو عدم تمشّي قصد البيع الحقيقي، كما هو واضح.

واندفع أيضاً الإشكال الثاني في فرع ما لو كان المجيز هو المالك الأصلي من أنّ ما أُجيز لم ينشأ وما أُنشئ لم يُجَزْ؛ فإنّ الجواب على ذلك أنّ العقد في واقعه أُنشئ للمالك وإن كان هناك تطبيق كاذب لعنوان المالك على نفسه، فالإجازة قد طابقت الإنشاء؛

184

فإنّ المالكية مأخوذة في إنشاء الفضولي بوصفها حيثية تقييدية(1).

أقول: والواقع أنّ هذين الإشكالين يمكن علاجهما بوجه يتأتّى حتّى فيما فرض الشيخ الأنصاري رحمه الله الفراغ عن بطلان المعاملة فيه، وهو ما لو لم يدّع الفضولي المالكية ومع ذلك قصد العقد لنفسه، فقد فرغ الشيخ رحمه الله عن بطلان ذلك بحجّة عدم تحقّق معنى المعاوضة.

والجواب عن ذلك أنّنا لا نقصد بالمعاوضة التي نريد تصحيحها بالإجازة قصد إدخال كلّ واحد من العوضين في ملك من فرض خروج العوض الآخر عن ملكه، ولذا لا شكّ في صحّة شراء أحد العمودين وإن كان ينتج انعتاقه، فنحن مقصودنا في المقام: أنّه قد صدرت من الفضولي المعاوضة الضمنية ضمن البيع أو الشراء، وهذه المعاوضة الضمنية قابلة للتصحيح بالإجازة المتأخّرة ولو بطل البيع أو الشراء.

ودعوى أنّ صحّة شراء أحد العمودين إنّما تكون على أساس تحقّق الملكية التقديرية كلام صوري لا قيمة له؛ لأنّه لو قصد بذلك الملكية آناً مّا فملكية أحد العمودين ولو آناً مّا غير صحيحة، ولو قصد بذلك الملكية التقديرية بمعنى مجرّد التقدير فتقدير الملك ليس ملكاً.

والخلاصة: أنّ المعاوضة الضمنية حاصلة في بيع الفضولي في عالم الاعتبار يقيناً وتنفذ بالإجازة المتأخّرة، ولا يلزم من ذلك لا إشكال صوريّة البيع أو الشراء ولا إشكال أنّ ما أُجيز لم يقع وما وقع لم يُجَز.

بل لعلّ الأولى أن نقول: إنّ البيع إن هو إلّا عبارة عن جامع المبادلة، فلو اشترى شخص أحد عموديه وهو عالم بأنّه لا يملكهما ولم يقصد ملكهما، بل قصد انعتاق ما اشتراه فقد اشتراه حقيقةً وإن كانت نتيجة شرائه انعتاقه، ولا إشكال في أنّ الفضولي قصد أصل المبادلة بين المالين وإن كانت الشريعة لم تقرّ له حصول التبادل في عالم


(1) راجع کتاب المكاسب، ج3، ص380 _ 384.

185

التشريع، وأصل التبادل قابل للإجازة والتنفيد من قِبل المجيز، فليس البيع كالنكاح مثلاً الذي يكون العمود الأصلي فيه هو نفس الزوج والزوجة.

المقام الثاني:

في أنّ إجازة عقد الفضولي هل هي كاشفة أو ناقلة؟

معاني الکشف

وقد ذكر السيّد الخوئي رحمه الله _ على ما ورد في التنقيح _ عدّة معانٍ للكشف:

المعنى الأوّل: ما أسماه بالكشف الحقيقي، وهو أنّه لا دخل للإجازة أصلاً في صحّة البيع، وإنّما هي كالعَلَم المنصوب على باب دار للأمارية والكاشفية عن وجود مجلس عزاء هناك من دون أن يكون له دخل فيه بوجه.

وأفاد رحمه الله أنّ هذا واضح البطلان، لا بمعنى استحالته، بل لوضوح شرط الرضا والإذن أو الإجازة كما قال الله تعالى: ﴿إِلَّا أَنْ تَكُوْنَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ﴾(1)، فدون إثبات هذا المعنى من الكشف خرط القتاد(2).

ونحن لا يوجد لدينا تعليق على هذا الكلام.

المعنی الثاني: ما أسماه أيضاً بالكشف الحقيقي، وهو التسليم بأنّ الإجازة دخيلة في الملكية إلّا أنّ الإجازة المتأخّرة تكون مؤثّرة في حصول المشروط سابقاً، وهذا لا ضير في الالتزام به في الشرعيّات وإن كان ذلك مستحيلاً في الأُمور التكوينية، فرغم استحالة ذلك في الأُمور التكوينية قد وقع ذلك في الشرعيّات في موردين:

1_ الواجبات التركيبية كالصلاة ونحوها؛ فإنّ كون التكبيرة مأموراً بها في الصلاة وصحيحة واقعاً متوقّف على التحاق الأجزاء الآتية بها حتّى السلام.


(1) النساء: 29.

(2) راجع موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج36، ص436 _ 437.

186

2_ غسل المستحاضة، فاغتسالها للظهرين شرط لصحّة صومها في اليوم، فإذا تحقّق يكشف عن أنّ صومها إلى الظهر صحيح، مع أنّه تحقّق قبل شرطه، وكذلك اغتسالها للفجر بناء على وجوب أو جواز إيقاعها للغسل بعد الفجر، فصحّة الصوم في الآنات المتأخّرة عن الفجر إلى زمان الاغتسال متوقّفة على ذاك الغُسل المتأخّر.

قال رحمه الله: والجواب عن ذلك أنّ فرض إمكان الشرط المتأخّر في الشرعيّات واختصاص استحالته بالأُمور التكوينية يشبه فرض إمكان اجتماع النقيضين في الشرعيّات واختصاص استحالته بالتكوينيّات كما نبّه على ذلك الشيخ الأنصاري رحمه الله(1)، فالصحيح إرجاع المثالين المتقدّمين إلى شرط التعقّب، والذي هو في الحقيقة شرط مقارن(2).

أقول: إنّ المثال الأوّل وهو اشتراط الأجزاء الأوّلية من المركّبات الارتباطية _ كالصلاة _ بالأجزاء المتأخّرة منها أجنبي عن بحث الشرط المتأخّر، فصحّة الأجزاء المتقدّمة إن هي إلّا بمعنى قبولها بالتحاق الأجزاء المتأخّرة، وهذه الصحّة ليست مشروطة بذاك الالتحاق. نعم، الأمر المتعلّق بالمجموع من الأجزاء والشرائط أمر واحد لا تسقط فاعليّته إلّا دفعة واحدة بإنهاء كلّ الأجزاء والشرائط، وأين هذا من الشرط المتأخر الذي يفرض احتياجه إلى التأويل بشرط التعقّب؟!


(1) راجع کتاب المكاسب، ج3، ص401. فقد ذكر الشيخ(رحمه الله) في هذه الصفحة ما يلي: «ودعوى أنّ الشروط الشرعية ليست كالعقلية، بل هي بحسب ما يقتضيه جعل الشارع، فقد يجعل الشارع ما يشبه تقديم المسبّب على السبب _ كغسل الجمعة يوم الخميس وإعطاء الفطرة قبل وقته _ فضلاً عن تقدّم المشروط على الشرط _ كغسل الفجر بعد الفجر للمستحاضة الصائمة، وكغسل العشاءَين لصوم اليوم الماضي على القول به _ مدفوعة بأنّه لا فرق فيما فرض شرطاً أو سبباً بين الشرعي وغيره، وتكثير الأمثلة لا يوجب وقوع المحال العقلي، فهي كدعوى أنّ التناقض الشرعي بين الشيئين لا يمنع عن اجتماعهما؛ لأنّ النقيض الشرعي غير العقلي فجميع ما ورد ممّا يوهم ذلك لابدّ فيه من التزام أنّ المتأخّر ليس سبباً أو شرطاً، بل السبب والشرط الأمر المنتزع من ذلك...».

(2) راجع موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج36، ص436 _ 437.

187

وأمّا استحالة الشرط المتأخّر في الشرعيّات وتشبيهه باجتماع المتناقضين فيها فجوابه: أنّ الشرط المتأخّر في الشرعيّات ليس له معنى إلّا ما يسمّى بـ (تقيّدٌ جزء وقيد خارج) وهذا كما ترى لا استحالة فيه، ولا معنى لقياس ذلك بالشروط التكوينية.

نعم، لا نضايق من افتراض كون تأثير الغسل في الملاك والمصلحة أمراً تكوينيّاً، وافتراض تأخّر حصول ذلك الملاك أو المصلحة إلى حين الإتيان بالغسل.

وعليه فلا مشكلة في هذا المعنى من الكشف الحقيقي، ولا معنى لقياسه بدعوى إمكانية اجتماع النقيضين في الشرعيّات. وإذاً فلو دلّ دليل على الكشف أمكن تنزيله على هذا المعنى.

المعنى الثالث: من المعاني التي ذكرها رحمه الله للكشف يكون أيضاً كشفاً حقيقيّاً وقد فرضه رحمه الله معنى وسطاً بين المعنيين الأوّلين، وهو أن يقال: إنّ شرط الملكية عبارة عن تعقّب العقد بالإجازة واقعاً، وأنّ اتّصافه بكونه متعقّباً بها كافٍ في حصول الملكية شرعاً ولو لم يعلم بذلك، فلذا لو علم المشتري أنّ المالك سيجيز بيع الفضولي جاز له وطء الأمة وغيره من التصرّفات في المبيع، وعليه فالإجازة المتأخّرة تكشف عن أنّ العقد السابق مؤثّر من الابتداء وأنّه كان متّصفاً بعنوان «أنّه ستعقبه الإجازة».

قال رحمه الله: وهذا المعنى من الكشف وإن كان معقولاً واقعاً وممكناً في حدّ نفسه إلّا أنّه مخالف لظاهر الأدلّة الأوّلية للعقود، فإنّ ظاهرها كون الرضا والإذن أو الإجازة شرطاً بذاته، لا كون الشرط عنواناً منتزعاً كالتعقّب(1).

المعنى الرابع: ما أسماه بالكشف الحكمي، وفسّره بالتنزيل منزلة الملك في ترتيب جميع آثار ملكية ما قبل الإجازة.

وأورد عليه بأنّه في باب التنزيل تارة يكون المنزّل عليه أمراً واقعيّاً تكوينياً كتنزيل الفقّاع منزلة الخمر وتنزيل الطواف منزلة الصلاة. وفي هذه الحالة يمكن أن يكون


(1) راجع المصدر السابق، ص437 _ 438.

188

التنزيل بلحاظ تمام الآثار كما يمكن أن يكون بلحاظ بعض الآثار، وأُخرى يكون المنزّل عليه أمراً اعتباريّاً، فيمكن تنزيل شيء منزلته في بعض الآثار، كتنزيل من يراد تزويجها منزلة الزوجة في جواز النظر إليها، ولكن لا يمكن تنزيل شيء منزلة الأمر الاعتباري في جميع الآثار، فإنّه في الحقيقة يكون جعلاً لنفس الأمر الاعتباري، فإذا نزّلت المطلّقة رجعيّاً منزلة الزوجة في جميع آثار الزوجية فهي زوجة حقيقة، ولا معنى للقول بأنّها ليست زوجة ولكن نزّلت منزلة الزوجة، وإذا نزّل فعلٌ منزلة الواجب في وجوب الإتيان به فإنّه واجب حقيقة؛ إذ لا معنى لإيجاب الفعل إلّا ذلك.

وفي المقام لا معنى لأن يقال: إنّه غير مالك حقيقة وإنّما نزّل منزلة المالك في ترتيب جميع الآثار، فإنّ معنى ذلك أنّه مالك حقيقةً، وهذا معنى معقول ومستظهر من الأدلّة، كما يتّضح ذلك بمراجعة ما هو مختارنا(1).

أقول: أمّا مختاره واستظهاره كذلك من الأدلّة فسوف نتعرّض له قريباً إن شاء الله، وقد تعرّض له هو قبل تعرّضه للكشف الحكمي.

وأمّا تفسيره للكشف الحكمي بالتنزيل فلا أعرف ما هو سببه، فإنّ الكشف الحكمي _ سواء فرض دليله وارداً بلغة التنزيل أو بأيّ لغة أُخرى _ يعني أنّنا من حين الإجازة محكومون بترتيب آثار ملكية ما قبل الإجازة، في حين أنّنا لم نكن محكومين بذلك في الواقع قبل الإجازة، فهذا ليس كشفاً حقيقيّاً؛ لأنّه لم يكن حكمنا الواقعي ذلك قبل الإجازة، لكنّه بحكم الكشف في ترتيب آثار ملكية ما قبل الإجازة بقدر الإمكان؛ كتملّك النتاج الحاصل قبل الإجازة الباقي إلى ما بعد الإجازة.

والحاصل: أنّ التنزيل إن هو إلّا لغة من لغات الأدلّة، وإدخاله في ماهية الأمر الذي نريد أن نعرفه _ وهو ترتيب آثار ملك ما قبل الإجازة من بعد الإجازة _ ليس إلّا تلاعباً بالألفاظ، وليس السبب في تسمية ذلك بالكشف الحكمي إلّا أنّ ترتّب الآثار رغم أنّه


(1) راجع موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج36، ص448.

189

ملحوظ بالقياس إلى ما قبل الإجازة لم يكن ثابتاً في علم الله قبل الإجازة.

المعنى الخامس: ما اختاره هو وعبّر عنه رحمه الله _ على ما ورد في التنقيح _ تارة بأنّ هذا الكشف هو في الحقيقة وسط بين الكشف والنقل(1)، وأُخرى بأنّ ما ندّعيه ليس من الكشف الحقيقي أو الحكمي في شيء؛ إذ لا نفترض أنّ المشتري كان مالكاً للمال قبل الإجازة واقعاً وفي نفس الأمر حتّى يكون ذلك من الكشف الحقيقي، ولا تنزيل في البين بأن ينزّل المشتري منزلة المالك في ترتيب آثار الملك عليه المعبّر عنه بالكشف الحكمي، وإنّما هو أمر آخر(2).

وقبل أن نستمرّ في نقل ما أراده في المقام نسجّل ما مضى من أنّ تفسير الكشف الحكمي بالتنزيل إن هو إلّا إدخال لغة بيان الحكم _ والتي هي ليست إلّا صياغة لسانية بحتة _ في حقيقة الحكم.

وأمّا ما أراده رحمه الله _ من هذا الكلام _ بحسب ما هو وارد في التنقيح فهو ما يلي:

إنّ المعتبر لا وجود له في وعاء من الأوعية إلّا في وعاء الاعتبار، أي أنّ الموجود حقيقة إنّما هو الاعتبار الذي هو فعل من أفعال النفس، والمعتبر له وجود تبعي بتبع الاعتبار، ولا مانع من أن يصدر من المالك أو الشارع اعتباران رغم افتراض أنّ المعتبرين راجعان إلى زمان واحد، ولكنّ الاعتبارين في زمانين، فلو باع الفضولي كتابنا بالأمس وأجزنا البيع في اليوم الثاني، فبالأمس لم يكن المالك الحقيقي قد اعتبر الكتاب ملكاً للمشتري، بل كان يعتبره ملكاً لنفسه، وفي اليوم الثاني قد اعتبره بإجازته ملكاً للمشتري؛ لأنّ الإجازة تعلّقت بما صدر من الفضولي وهو التمليك بالأمس، والشارع قد أمضى كلا الاعتبارين، أمّا الاعتبار الأوّل فلأنّ المفروض أنّ مالكية المالك الأصلي كانت شرعية ولم يكن الشخص غاصباً، وأمّا الثاني فلأنّ


(1) راجع المصدر السابق، ص446.

(2) راجع المصدر السابق، ص442 _ 443.

190

المفروض قيام الدليل على نفوذ الإجازة، وإلّا لبطل عقد الفضولي ولم تصل النوبة إلى بحث الكشف والنقل، وهذا في الحقيقة ليس كشفاً؛ إذ لم يتحقّق اعتبار الملكية للمشتري في الزمان الأوّل، ولم تكن للإجازة تأثير قهقرائي لتحقيق هذا الاعتبار قبل تحقّق الإجازة، فشيء من هذا القبيل لم يصدر من المالك الأصلي كما هو واضح، ولا من الشرع لعدم الدليل عليه، فليس هذا كشفاً حقيقيّاً.

نعم، لو كان زمان الاعتبارين واحداً استحال ذلك؛ لتناقض الآثار المترتّبة على الاعتبارين، فإنّ أثر الاعتبار الأوّل استقلال المالك الأصلي في التصرّف مثلاً، وأثر الاعتبار الثاني استقلال المشتري في التصرّف، ولا يمكن أن يستقلّا في التصرّف في زمان واحد.

ولكن مادام أنّ الاعتبارين في زمانين فلا مانع من نفوذ كلّ منهما في وقته لأجل ما فيهما من المصالح، فيعتبر المشتري بعد الإجازة مالكاً من حين العقد كما أنّه كان ملكاً للمالك الأصلي قبلها(1).

وقد ذكر رحمه الله إيرادين على هذا البيان وأجاب عنهما، ونحن نذكرهما هنا تباعاً إن شاء الله:

الإيراد الأوّل: ما نقله عن أُستاذه الشيخ النائيني رحمه الله، وهو: «أنّ الحكم بملكية شيء لشخصين مستحيل، والعبرة إنّما هو بتعدّد المتعلّق، لا بتعدّد زمان الاعتبار، فلو كان المتعلّق واحداً فالحكم عليه بحكمين متنافيين محال، ولو كان الحكمان والاعتباران في زمانين، كما إذا حكم في اليوم بوجوب الصوم في الغد ثم حكم في أوّل الغد بحرمة الصوم فيه أو باستحبابه أو بإباحته أو بكراهته فإنّه مستحيل وإن كان زمان الاعتبارين والحكمين متعدّداً، كما أنّ المتعلّق إذا كان متعدّداً يصحّ أن يحكم عليهما بحكمين ولو كانا في زمان واحد، كما إذا حكم في زمان واحد بوجوب السفر في الغد


(1) راجع موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج36، ص443 _ 445.

191

وباستحبابه في اليوم، فإنّه أمر ممكن. وفي المقام متعلّق الحكم والاعتبار واحد، وهو الملكية قبل الإجازة، ولكن نعتبرها قبل الإجازة للمالك وبعد الإجازة للمشتري، فهي شيء واحد قد حكم به لشخصين، وهو مستحيل»(1).

قال رحمه الله: «وقد تعرّض [الشيخ النائيني] لهذا في حكم الخروج من الأرض المغصوبة، وأجبنا عن ذلك بأنّ ما أفاده إنّما يتمّ في الأحكام البعثية والزجرية وهي التكليفية فقط، حيث إنّها تحتاج إلی المتعلّق لا محالة، والشيء الواحد لا يمكن أن يبعث إليه ويزجر عنه ولا يمكن إيجابه وتحريمه أو إباحته وكراهته؛ لأنّ معنى ذلك أنّه واجد للمصلحة وغير واجد لها أو أنّه واجد للمفسدة وغير واجد لها وهو تناقض، وأمّا الأحكام الوضعية فلا؛ لأنّها ناشئة عن مصالح في جعلها، ولا مانع من أن يعتبر في زمان شخصاً مالكاً لشيء لأجل مصلحة في هذا الاعتبار وأن يعتبر في زمان آخر غيره مالكاً له لأجل مصلحة أُخرى وهذا أمر ممكن في الاعتبار»(2).

أقول: لا شكّ أنّه رحمه الله لا يقصد بنشوء الأحكام الوضعية من مصالح في جعلها كون المصلحة في ذات الجعل من دون ترتّب أثر شرعي على ذلك، من قبيل ما لو أعطى أحد ديناراً للمولى لا لشيء إلّا لمجرّد الجعل؛ إذ لا شكّ أنّ المطلوب من جعل الأحكام الوضعية آثار عملية أرادها المولى، وإنّما يقصد أنّ جعل الأحكام الوضعية إنّما يكون لأجل ما رتّب عليها شرعاً من آثار عملية لا لمصلحة في نفس متعلّق الجعل كما هو الحال في الأحكام التكليفية.

الإيراد الثاني: «هو ما ربما يقال من أنّ اعتبار الملكية السابقة بعد الإجازة إنّما يتمّ في القضايا الخارجية والموالي العرفية التي نظرها إلى البيوع الخارجية، فلا مانع في مثلها من أن يقال: إنّ الإجازة بما أنّها متعلّقة بالعقد الواقع سابقاً لا مانع من أن يکون الحکم


(1) المصدر السابق، ص444.

(2) المصدر السابق، ص444 _ 445.

192

والاعتبار بعد الإجازة والملكية من أوّل العقد والبيع. وأمّا في القضايا الحقيقية والأحكام الشرعية التي لا نظر فيها إلى الخارج بوجه، بل إنّما هي مترتّبة على موضوعاتها المقدّرة الوجود وصادرة قبل خلق الخلق والعالم أو حين نزول الشريعة فلا يتمّ؛ لأنّ الشارع إنّما اعتبر الملكية قبل وجود المتبائعين لا محالة... فنقول: إنّ الشارع الذي اعتبر الملکية هل اعتبرها من حين العقد أو من حين الإجازة؟ فعلی الأوّل تکون الإجارة کاشفة حقيقة کما أنّها علی الثاني تکون ناقلة، فلا يبقى لاستكشاف ما ذكرتموه مجال بأن يکون الاعتبار بعد الإجازة والمعتبر هو الملكية المتقدّمة»(1).

قال رحمه الله: وهذا الإيراد يدفعه وجهان:

الأوّل: أنّ الشارع لم يعتبر الملكية أو نحوها من الأُمور الاعتبارية في المعاملات، وإنّما شأنه الإمضاء أو الردع، فقد ردع عن البيع الغرري وبيع الخمر والصليب، وأمضى اعتبار المالك وإجازته المتعلّق بالملكية السابقة فيقع الاعتبار بعد الإجازة والملكية من أوّل الأمر عند الشارع أيضاً صحيحاً وممضي.

والثاني: هب أنّ للشارع اعتبار الملكية كاعتبار المالك والمجيز وأنّ اعتباره أزلي أو من حين تشريع الشريعة إلّا أنّ هذا لا يضرّ في المقام؛ فإنّ موضوع اعتباره هي الإجازة، فمادام لم تتحقّق الإجازة فلا حكم بالملكية، وبعد ما تحقّقت يتحقّق الحكم بالملكية من أوّل الأمر(2).

أقول: الجوابان في روحهما جواب واحد؛ فإنّ الشريعة على أيّ حال قد اعتبرت ملكية حين العقد بلحاظ حين الإجازة إمّا بعنوان إمضاء ما وقع من المالك أو في حدّ ذاته، ولا أثر لإدخال عنوان الإمضاء في باب المعاملات في الحساب وعدمه.

فالروح الحقيقية للجواب هي التفكيك بين الجعل والمجعول ببيان أنّ الجعل وإن


(1) راجع موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج36، ص445 _ 446.

(2) راجع المصدر السابق، ص446.

193

كان أزليّاً أو من حين التشريع ولكن المجعول يكون من حين الإجازة، فالاعتبار قارن الإجازة، والمعتبر هو الملكية حين العقد.

أمّا نحن غير المؤمنين بالتفكيك الزمني بين الجعل والمجعول على ما حقّقناه في علم الأُصول، فغاية ما يلزم عندنا تبديل لغة الجعل والمجعول بلغة الطرفية للجعل، فنقول: إنّ طرفية المعاملة لهذا الجعل تحقّقت من حين الإجازة، ولكن الملكية المعتبرة هي الملكية حين العقد.

وهنا إيرادان آخران يمكن توجيههما على ما اختاره السيّد الخوئي رحمه الله ممّا فرضه وسطاً بين الكشف والنقل جرياً على لسان الشيخ الأنصاري(قدس سره) إلّا أنّهما جريا على لسانه كاعتراض على دعوى الكشف الحقيقي بمقتضى القاعدة بحجّة أنّ الإجازة متعلّقة بالعقد السابق، ومضمون العقد السابق ليس إلّا نقل العوضين من حينه، فهذا ينتج الكشف، ونذكرهما نحن هنا إن شاء الله؛ لأنّهما لو تمّا يردان حتّى على مختار السيّد الخوئي:

الإيراد الأوّل: أنّ الإجازة وإن تعلّقت بمضمون العقد إلّا أنّ مضمون العقد ليس هو النقل من حينه حتّى تتعلّق الإجازة بذلك، بل مضمونه هو نفس النقل مجرّداً عن ملاحظة وقوعه في زمان، وإنّما الزمان من ضروريّات إنشائه، فالزمان ظرف للنقل، لا قيد له، فكما أنّ إنشاء مجرّد النقل الذي هو مضمون العقد في زمان يوجب وقوعه من المُنشئ في ذلك الزمان، فكذلك إجازة ذلك النقل في زمان يوجب وقوعه من المجيز في زمان الإجازة، وكما أنّ الشارع إذا أمضى نفس العقد وقع النقل من زمانه، فكذلك إذا أمضى إجازة المالك وقع النقل من زمان الإجازة.

قال الشيخ رحمه الله: «ولأجل ما ذكرنا لم يكن مقتضى القبول وقوع الملك من زمان الإيجاب مع أنّه ليس إلّا رضاً بمضمون الإيجاب، فلو كان مضمون الإيجاب النقل من حينه وكان القبول رضاً بذلك كان معنى إمضاء الشارع للعقد الحكم بترتّب الأثر من حين الإيجاب؛ لأنّ الموجب ينقل من حينه والقابل يتقبّل ذلك»(1).


(1) راجع کتاب المكاسب، ج3، ص403.

194

وأجاب السيّد الخوئي رحمه الله على ذلك بأنّ هذا الكلام إنّما يتمّ بناء على المسلك المشهور من أنّ الإنشاء عبارة عن إيجاد المعنى باللفظ، فيمكن أن يقال: إنّ العقد إيجاد لذات الملكية من دون تقييد بحصّة من الزمان أو إطلاق، وأمّا بناء على ما سلكناه في معنى الإنشاء من أنّه عبارة عن إبراز الاعتبار النفساني المتحقّق في أُفق النفس فيستحيل أن لا تكون الملكية مطلقة ولا مقيّدة؛ لاستحالة الإهمال في الواقعيّات، فالعاقد إمّا أنّه اعتبر الملكية من حينها أو اعتبر الملكية مقيّدة بقطعة زمانية، وأمّا الإهمال وأنّه لا يدري ما جعله فهو مستحيل، والإجازة إنّما تعلّقت بتلك الملكية المطلقة، أعني الملكية من حين البيع، فلا محالة يكون المُجاز عبارة عن الملكية من أوّل الأمر.

قال رحمه الله: وأمّا النقض بالقبول فغير وارد؛ لأنّ الملكية المُنشأة بالإيجاب مقيّدة بالقبول وليست مطلقة، فكأنّه قال: بعتك إن قبلت، فلذا ذكرنا: أنّ مثل هذا التعليق في المعاملات لا بأس به؛ لأنّه تعليق يقتضيه العقد بنفسه، ولا معنى لتقدّم الملكية حينئذٍ على القبول؛ لأنّها قد أُنشئت معلّقة على قبول المشتري(1).

أقول: إنّ ما ذكره رحمه الله من أنّ العقد عبارة عن إبراز اعتبار الملكية من حينه وإن كان صحيحاً لكن كون الإجازة بمقتضى القاعدة عبارة عن إجازة الملكية من حين العقد وليس عبارة عن إجازة ذات الملكية المنشأة دون إطلاقها لا دليل عليه، ويشهد لكونها إجازة لذات الملكية ما ذكره الشيخ الأنصاري رحمه الله من أنّ القبول قبول لذات الملكية لا للملكية من حين الإيجاب؛ فإنّ عدم كون القبول قبولاً للملكية من حين الإيجاب من الواضحات ولم ينكره السيّد الخوئي رحمه الله، ولهذا اضطر(قدس سره) أن يخرّج ذلك على أساس أنّ الإيجاب كان إنشاءً للتمليك معلّقاً على قبول المشتري، في حين أنّ هذا تكلّف وتأويل لا دليل عليه.


(1) راجع موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج36، ص441 _ 442.

195

ولا أقصد بذلك مبطلية التعليق حتّى يجيب عليه السيّد الخوئي بأنّ التعليق على ما يقتضيه العقد بنفسه لا بأس، به وإنّما أقصد بذلك أنّ حمل قوله: «بعت» على معنى «بعتك معلّقاً على قبولك» تأويل لا موجب له، وإنّما كلمة «بعت» تساوق كلمة «ملّكت». نعم، هو يعلم أنّه ما لم يعقبه قبول المشتري لم يترتّب أثر على ذلك عقلائيّاً وشرعيّاً، وعليه فهذا الإشكال مسجّل على ما اختاره السيّد الخوئي رحمه الله في المقام.

الإيراد الثاني الوارد في كلام الشيخ الأنصاري رحمه الله هو: أنّه حتّى لو فرضنا أنّ نظر المجيز تعلّق بالملكية المتقدّمة، فالمتّبع إنّما هو الحكم الشرعي ونظر الشارع دون نظر المتعاملين والمجيز، ولم يدلّ دليل على إمضاء الشارع لإجازة المالك على هذا الوجه؛ لأنّ وجوب الوفاء بالعقد تكليف يتوجّه إلى العاقدين كوجوب الوفاء بالعهد والنذر، ومن المعلوم أنّ المالك لا يصير عاقداً أو بمنزلته إلّا بعد الإجازة(1).

وأجاب السيّد الخوئي رحمه الله على ذلك بأنّ الشارع وإن حكم بالملكية بعد الإجازة لا قبلها إلّا أنّه لا مانع من أن يحكم بعد الإجازة بالملكية من أوّل الأمر...(2).

أقول: نعم، هذا أمر ممكن، لكنّه ليس ممّا تقتضيه القاعدة؛ إذ من الممكن أيضاً مادام الحكم أصبح فعليّاً مثلاً بعد الإجازة أن يكون الحكم حكماً بالملكية حين الإجازة دون الملكية حين العقد، فهذا الإشكال أيضاً مسجّل على مختار السيّد الخوئي رحمه الله.

وقد تحصّل بكلّ ما ذكرناه حتّى الآن أنّ ما يكون ممكناً وفي نفس الوقت محتملاً في باب الكشف والنقل ليس إلّا أحد أُمور أربعة:

الأوّل: الكشف الحقيقي، لا بمعنى أنّ الإجازة كالعَلَم المنصوب على باب دار للأمارية والكاشفية عن وجود مجلس عزاء هناك، فإنّ هذا غير محتمل أصلاً، بل بمعنى كون الإجازة شرطاً متأخّراً.


(1) راجع المكاسب، ج3، ص405.

(2) راجع موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج36، ص442.

196

والثاني: الكشف الحقيقي أيضاً، لكن بمعنى كون الشرط هو تعقّب الإجازة. إلّا أنّ هذا خلاف ظاهر الأدلّة الأوّلية.

والثالث: الكشف الحكمي، بمعنى أنّ الشريعة تحكم من حين الإجازة بآثار الملكية حين العقد بقدر الإمكان. ولا يهمّنا أن يكون هذا بمعنى الحكم بترتيب آثار الملكية حين العقد أو بمعنى ما قاله السيّد الخوئي من الحكم بالملكية حين العقد الذي لا توجد استحالة في اجتماعه مع المعتبَر الآخر وهو مالكية المالك الأصلي في زمان واحد مادام أنّ الاعتبارين كانا في زمانين.

والتحاشي عن تسمية ذلك بالكشف الحكمي لعدم وجود التنزيل في المقام قد عرفت ما فيه من أنّ التنزيل إنّما هو مجرّد تفنّن في التعبير، ولا معنى لإدخاله في حساب حاقّ المطلب.

والرابع: النقل بمعنى أنّ الشريعة تحكم من حين الإجازة بالملكية حين الإجازة من دون أن تحكم بآثار ملكية ما قبل الإجازة.

والأثر العملي بين الكشف الحقيقي والحكمي والنقل هو أنّه بناء على النقل لا تترتّب إلّا آثار الملكية المتأخّرة، فمثلاً: نماء العين فيما بين العقد والإجازة يكون لمالك العين الأوّل، وبناءً على الكشف الحكمي تترتّب آثار الملكية السابقة بقدر الإمكان لكن يجوز للمالك الأوّل فيما بين العقد والإجازة مخالفة تلك الآثار حتّى مع العلم بأنّه ستحصل الإجازة، ولا يجوز للمالك الثاني حتّى مع العلم بأنّه ستحصل الإجازة الاستفادة من تلك الآثار فيما بين الزمانين، وبناءً على الكشف الحقيقي لا يجوز للمالك الأوّل فيما بين الزمانين الاستفادة من آثار ملكيته(1)، ويجوز للمالك الثاني فيما بين الزمانين الاستفادة ممّا ينتقل إليه(2).


(1) نعم لو لم يعلم بأنّه سيجيز البيع كان حكمه الظاهري جواز الاستفادة من آثار ملكه.

(2) نعم لو لم يعلم بأنّه ستأتي الإجازة كان حكمه الظاهري عدم جواز الاستفادة ممّا بيع له.

197

ومقتضى الأصل العملي هو النقل ثم هو الكشف الحكمي.

ولم يبق بعد هذا إلّا أن نرى هل لدينا دليل تعبّدي طارئٌ على القواعد والأُصول التعبّدية على الكشف أو لا؟ فلو لم يوجد دليل من هذا القبيل حكمنا بالنقل، ولو وجد دليل من هذا القبيل ولم يدلّ على الكشف الحقيقي حكمنا بالكشف الحكمي، ولو وجد دليل دلّ على الكشف الحقيقي استظهرنا الكشف على أساس كون الإجازة شرطاً متأخّراً، لا على أساس شرطية عنوان انتزاعي كالتعقّب، ولا أثر عملي بين كون الإجازة شرطاً متأخّراً وكون الشرط مثل عنوان التعقّب.

فهل لدينا نصّ خاصّ يدلّ على الكشف أو لا؟

قد استدلّ السيّد الخوئي رحمه الله على الكشف _ بغضّ النظر عن الكشف الذي ادّعى ثبوته على القاعدة والذي أسماه بالوسط بين الكشف والنقل _ بروايتين:

الأُولى: صحيحة محمد بن قيس عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال: «قضى أمير المؤمنين عليه السلام في وليدة باعها ابن سيّدها وأبوه غائب فاشتراها رجل فولدت منه غلاماً، ثم قدم سيّدها الأوّل فخاصم سيّدها الأخير فقال: هذه وليدتي باعها ابني بغير إذني، فقال: خذ وليدتك وابنها، فناشده المشتري، فقال: خذ ابنه يعني الذي باع الوليدة حتّى ينفذ لك ما باعك، فلمّا أخذ البيّع الابن قال أبوه: أرسل ابني، فقال: لا أُرسل ابنك حتّى ترسل ابني، فلمّا رأى ذلك سيّد الوليدة أجاز بيع ابنه»(1). وقد مضت منّا هذه الرواية في الاستدلال على كفاية الإجازة المتأخّرة في نفوذ بيع الفضولي.

وقد مضى منّا تفسيران لهذه الرواية:

الأوّل: أنّ ولدها يعتبر مملوكاً للمولى الأوّل لو لا إجازته للبيع.

والثاني: أنّ للمولى الأوّل لو لا إجازته للبيع حقّ أخذ ولدها لتفويت استثمارها


(1) وسائل الشيعة، ج21، ص203، الباب88 من أبواب نكاح العبيد والإماء، ح1. واستشهاد السيّد الخوئي(رحمه الله) بهذه الرواية على الكشف جاء في التنقيح، موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج36، ص447.

198

في تحصيل عبد جديد إلى أن يأخذ ثمنه.

وعلى كلا التفسيرين نقول: لو لا أنّ الإجازة تكشف _ بمعنى من معاني الكشف _ عن صحّة العقد في السابق لما كان المولى الأوّل يُرجع ولدها إلى المولى الثاني، بل كان يستملكه أو كان يطالب بثمن ولدها حتّى مع نفوذ عقد الفضولي، وبالتالي فالحلّ الذي ذكره الإمام عليه السلام لمشكلة المولى الثاني لم يكن حلّاً لمشكلته، فدلالة هذه الصحيحة على الكشف _ بوجه من الوجوه _ واضحة لا غبار عليها.

والثانية: صحيحة أبي عبيدة الحذّاء(1)قال: «سألت أبا جعفر عليه السلام عن غلام وجارية زوّجهما وليّان لهما وهما غير مدركين، قال: فقال: النكاح جائز أيّهما أدرك كان له الخيار، فإن ماتا قبل أن يدركا فلا ميراث بينهما ولا مهر إلّا أن يكونا قد أدركا ورضيا، قلت: فإن أدرك أحدهما قبل الآخر؟ قال: يجوز ذلك عليه إن هو رضي. قلت: فإن كان الرجل الذي أدرك قبل الجارية ورضي النكاح ثم مات قبل أن تدرك الجارية أترثه؟ قال: نعم، يعزل ميراثها منه حتّى تدرك وتحلف بالله ما دعاها إلى أخذ الميراث إلّا رضاها بالتزويج ثم يدفع إليها الميراث ونصف المهر. قلت: فإن ماتت الجارية ولم تكن أدركت أيرثها الزوج المُدرِك؟ قال: لا؛ لأنّ لها الخيار إذا أدركت. قلت: فإن كان أبوها هو الذي زوّجها قبل أن تدرك؟ قال: يجوز عليها تزويج الأب ويجوز على الغلام والمهر على الأب للجارية»(2).

قال السيّد الخوئي رحمه الله بشأن هذه الصحيحة: إنّه لا يتمّ فيها النقل أصلاً، فإنّه لا معنى لأن يقال: إنّ الزوجية تتحقّق بعد إجازة الزوجة؛ إذ المفروض أنّ زوجها قد مات قبل إجازتها، فهي صريحة في الكشف، وحمل(قدس سره) هذا الكشف المستفاد من هاتين الروايتين


(1) استشهاد السيّد الخوئي(رحمه الله) بهذه الصحيحة على الكشف أيضاً ورد في موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج36، ص447.

(2) وسائل الشيعة، ج26، ص219، الباب11 من أبواب ميراث الأزواج، ح1.

199

على ما اختاره بمقتضى القاعدة في نظره والذي أسماه بأنّه وسط بين الكشف والنقل، قال: نعم لو لم نتمكّن من تصحيح الوجه المختار لابدّ من الالتزام بالكشف الحكمي(1).

أقول: إن فسّرنا قوله في صدر الرواية: «زوّجهما وليّان لهما» بالتزويج من قِبل وليّين شرعيّين فالرواية أجنبية عن المقام؛ لأنّ صدر الرواية حكمت بأنّ النكاح كان جائزاً قبل إدراكهما وإن أعطت الخيار لهما بعد الإدراك.

ولکن يمكن أن يفترض للرواية تفسير آخر بأن يقال: إنّ المقصود بالوليّين وليّان عرفيّان لا شرعيّان، فالنكاح فضولي لا محالة، فيحمل قوله: «النكاح جائز» على معنى أنّه غير نافذ وأنّه يتوقّف على إمضائهما بعد الإدراك.

والدليل على هذا التفسير قوله في ذيل الرواية: «قلت: فإن كان أبوها هو الذي زوّجها قبل أن تدرك؟ قال: يجوز عليها تزويج الأب...» والجواز عليها يعني النفوذ واللزوم، فبقرينة المقابلة بين نكاح وليّين لهما ونكاح الأب نفهم أنّ المقصود بالوليّين كان هو الوليّان العرفيّان، لا الشرعيّان.

ويشهد أيضاً لهذا التفسير حكمه عليه السلام بأنّهما إن ماتا قبل أن يدركا فلا ميراث بينهما ولا مهر، فإنّ هذا يعني عدم انعقاد النكاح الشرعي قبل أن يدركا ويمضيا، وعليه فتتمّ دلالة الرواية على الكشف كما قاله السيّد الخوئي رحمه الله؛ إذ لو لا الكشف _ بمعنى من معانيه _ لما نفذت إجازتها بعد موت الزوج.

ويشهد لهذا التفسير عدّة روايات صحاح لا يمكن الجمع بينها وبين هذه الرواية إلّا بهذا التفسير وتلك الروايات ما يلي:

1_ صحيحة الحلبي قال: «قلت لأبي عبدالله(عليه السلام): الغلام له عشر سنين فيزوّجه أبوه في صغره، أيجوز طلاقه وهو ابن عشر سنين؟ قال: فقال: أمّا تزويجه فهو صحيح، وأمّا طلاقه فينبغي أن تحبس عليه امرأته حتّى يدرك فيعلم أنّه كان قد طلّق، فإن


(1) موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج36، ص447.

200

أقرّ بذلك وأمضاه فهي واحدة بائنة وهو خاطب من الخطّاب، وإن أنكر ذلك وأبى أن يمضيه فهي امرأته. قلت: فإن مات أو ماتت؟ قال: يوقف الميراث حتّى يدرك أيّهما بقي(1) ثم يحلف بالله ما دعاه إلى أخذ الميراث إلّا الرضا بالنكاح ويدفع إليه الميراث»(2)؛ فإنّ هذه الرواية واضحة في أنّ تزويج أبيه نافذ من غير إيقاف إلى ما بعد البلوغ في مقابل طلاق الولد للزوجة فإنّه يوقف إلى ما بعد البلوغ، في حين أنّ صحيحة أبي عبيدة واضحة في أنّ التمامية الكاملة للتزويج موقوفة على إدراكه وإجازته، ولا يمكن الجمع بينهما إلّا على تفسير الوليّين بالوليّين العرفيّين دون الشرعيّين.

2_ صحيحة عبيد بن زرارة عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «سألته عن الصبي يزوّج الصبية هل يتوارثان؟ قال: إن كان أبواهما هما اللذان زوّجاهما فنعم. قلنا: يجوز طلاق الأب؟ قال: لا»(3). وليس في السند ما قد يتوقّف لأجله عدا القاسم بن عروة؛ إذ لم يرد بشأنه التوثيق، ولكن قد روى عنه ابن أبي عمير كثيراً، وهذا كافٍ في توثيقه.

فقد حكم عليه السلام في هذا الحديث بالتوارث من دون توقّف ذلك على أن يكبرا ويمضيا، في حين أنّ صحيحة أبي عبيدة حكمت بعدم التوارث إذا ماتا في الصغر أو قبل الإجازة، ولا يمكن الجمع بينهما إلّا بحمل الوليّين في صحيحة أبي عبيدة على الوليّين العرفيّين دون الأبوين.

3_ صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام «في الصبي يتزوّج الصبية يتوارثان؟ فقال: إذا كان أبواهما اللذان زوّجاهما فنعم. قلت: هل يجوز طلاق الأب قال: لا»(4).


(1) حبس ميراثها بسبب واحد وهو أنّها غير مدركة فلا تسلّط على مالها إلّا بعد الإدراك. وحبس ميراثه بسببين: أحدهما نفس ذاك السبب فلا يُسلّط على ماله إلّا بعد الإدراك، والثاني احتمال تنفيذه لطلاقها.

(2) وسائل الشيعة، ج26، ص221، الباب11 من أبواب ميراث الأزواج، ح4.

(3) المصدر السابق، ص220، ح3.

(4) وسائل الشيعة، ج20، ص292، الباب12 من أبواب عقد النكاح وأولياء العقد، الحديث الوحيد في الباب.

201

وهذه حالها في الدلالة كالصحيحة الثانية.

فالنتيجة أنّ الاستشهاد بصحيحة أبي عبيدة على الكشف لا بأس به.

وهناك تفسير ثالث وسط بين التفسيرين الأوّلين لرواية أبي عبيدة، فإنّ كلمة «وليّان لهما» في صدر الرواية لا ينحصر تفسيرها بتفسيرين: إمّا بمعنى يشمل الأب أو بمعنى الوليّين العرفيّين غير الشرعيّين، حتّى تصحّ الشواهد التي عدّدناها لحمل الوليّين على العرفيّين غير الشرعيّين، بل هناك احتمال حمل الوليّين على الوليّين الشرعيّين غير الأب، وأن يكون هناك فرق في الحكم بين نكاح الأب للصغيرين ونكاح الولي الشرعي غير الأب أعني الوصيّ للأب أو القيّم أي الذي أقامه الإمام عليه السلام أو نائبه وليّاً على الصغير، فنكاح وصيّ الأب أو القيّم الذي أقامه الإمام أو نائبه جائز ماداما طفلين ويتوقّف بعد إدراكهما على إمضائه، ولكن نكاح الأب نافذ إلى الأخير، فهذا التفسير ينسجم مع التقابل الوارد بين صدر صحيحة أبي عبيدة وذيلها بين تزويج وليّين لهما وتزويج الأب، وينسجم مع ما في صدر الصحيحة من أنّه إن ماتا قبل أن يدركا فلا ميراث بينهما ولا مهر بحمل ذلك، على أنّ هذا أيضاً فرق في الحكم بين الوليّين الشرعيّين غير الأب وبين الأب، فموتهما يُبطل عقد غير الأب ولا يبقى إرث ولا مهر ولكن لا يبطل عقد الأب، وينسجم أيضاً مع الصحاح الثلاث التي ذكرناها أخيراً _ أعني صحيحة الحلبي وصحيحة عبيد بن زرارة وصحيحة محمد بن مسلم _ فإنّها جميعاً واردة في عقد الأب.

وامتياز هذا التفسير على التفسير الثاني هو أنّ التفسير الثاني كان يضطرّنا إلى حمل قوله في صدر صحيحة أبي عبيدة: «النكاح جائز» على معنى أنّه غير نافذ، في حين أنّه على التفسير الثالث يبقى على ظاهره، وهو صحّة النكاح ماداما غير مدركين.

وعلى التفسير الثالث يبطل أيضاً استدلال السيّد الخوئي رحمه الله بهذه الصحيحة على الكشف كما هو الحال في التفسير الأوّل؛ لأنّ ولاية الولي كانت شرعية فلم يكن النكاح فضوليّاً.

202

ولو فرض الإجمال والتردّد بين التفسير الثاني والتفسير الثالث أو بين التفسير الثاني والتفسير الأوّل كفى الإجمال في عدم تمامية الاستدلال بالصحيحة على الكشف.

بقي هنا شيء، وهو أنّنا لو حملنا صدر صحيحة أبي عبيدة على نكاح الفضولي بأن فسّرنا كلمة «وليّان لهما» على الأولياء العرفيّين غير الشرعيّين أو قلنا: إنّ إطلاقها يشمل الأولياء العرفيّين غير الشرعيّين فهل يستفاد من ذلك الكشف المنسجم مع كونه كشفاً حكميّاً أو تصبح الرواية دالّة على الكشف الحقيقي؟

للشيخ الأنصاري رحمه الله تقريب لاستفادة الكشف الحقيقي، حيث إنّه بعد أن أشار إلى أنّ صحيحة محمد بن قيس وإن دلّت على الكشف لكنّها تحتمل الكشف الحكمي ولا ظهور لها في الكشف الحقيقي، قال ما مفاده:

نعم، صحيحة أبي عبيدة الواردة في تزويج الصغيرين فضولاً الآمرة بعزل الميراث من الزوج المدرك الذي أجاز فمات للزوجة الغير المدركة حتّى تدرك وتحلف ظاهرةٌ في الكشف الحقيقي؛ إذ لولاه لكان المال قبل إجازة الزوجة منتقلاً إلى الورثة، فكان العزل مخالفاً لقاعدة «تسلّط الناس على أموالهم» فالحکم بالعزل منضمّاً إلی عموم «الناس مسلطون علی أموالهم» يفيد أنّ العزل يكون لاحتمال كون الزوجة غير المدركة وارثة في الواقع، فكأنّه احتياط في الأموال قد غلّبه الشارع على أصالة عدم الإجازة كعزل نصيب الحمل وجعله أكثر ما يحتمل، ونحن نعلم أنّها قبل الإجازة لا تكون وارثة لو لا الكشف الحقيقي(1).

أقول: لو فرضنا أنّ قاعدة سلطنة الناس على أموالهم قاعدة متصيّدة من الفقه فلا إطلاق فيها حتّى نثبت بها الكشف الحقيقي.

ولو فرضنا إثباتها بمرسلة عوالي اللآلي(2) ورد على ذلك عدم حجّيّتها.


(1) راجع کتاب المکاسب،‌ج3،‌ص409.

(2) عوالي اللئالي، ج3، ص208، باب التجارة، ح60.

203

ولو فرضنا إثباتها بمثل: «لا يحلّ مال امرئ مسلم إلّا عن طيب نفس منه»(1) أو «لا يحلّ لأحد أن يتصرّف في مال غيره بغير إذنه»(2) فيكفي إيراداً على إثبات الكشف الحقيقي بصحيحة أبي عبيدة ما أوضحناه من ظهورها في غير النكاح الفضولي أو إجمالها على أقلّ تقدير.

ثم لو سلّمنا ورود صحيحة أبي عبيدة في الفضولي فعلى الكشف الحكمي يكون إعطاء الإرث لها تخصيصاً لقاعدة السلطنة، وعلى الكشف الحقيقي يكون موردها في الحكم بإعطاء الإرث لها خروجاً عن قاعدة السلطنة تخصّصاً، فإن آمنّا في موارد دوران الأمر بين التخصيص والتخصّص بأصالة عدم التخصيص كان هذا شاهداً على الكشف الحقيقي، وإن لم نؤمن به لم يكن ذلك شاهداً على الكشف الحقيقي، وإن فصّلنا بين ما لو كان الدوران بين التخصيص والتخصّص بلحاظ المصداق الموضوعي فلا تجري أصالة عدم التخصيص، وما لو كان بلحاظ التخصيص الحكمي فتجري أصالة عدم التخصيص صحّ في المقام أيضاً الاستشهاد بصحيحة أبي عبيدة علی الکشف الحقيقي.

نكتفي في البحث عن الكشف والنقل بهذا المقدار ومن أراد التطويل أكثر من هذا فعليه بمراجعة المطوّلات.

الكلام في الردّ

لو أنّ المالك ردّ بيع الفضولي فهل هذا يرفع موضوع الإجازة؛ لأنّ بيع الفضولي قد بطل وانتهى أو لا؟

مضى منّا فيما سبق في فرع سبق منع المالك للفضولي عن البيع أنّ ردّ المالك لا مبرّر لافتراض إنهائه لعقد الفضولي، فلم يبق موضوع للإجازة، فإنّ هذا إنّما يكون


(1) المصدر السابق، ص473، باب الغصب، ح3.

(2) وسائل الشيعة، ج9، ص540، الباب3 من أبواب الأنفال وما يختص بالإمام، ح7.

204

فيما لو كسر من اشترى من الفضولي قراره للشراء، كما لو اطّلع ذاك المشتري على أنّ البائع كان فضوليّاً فسحب قبوله للبيع قبل أن يتمّ البيع بإجازة المالك، فلم يبق عقدٌ حتّى يمكن تعقيبه بالإجازة؛ لأنّ المشتري قد أنهى قراره من نفسه، أمّا المالك الأصلي فلم يصدر قبل الإجازة منه قرار وإيجاب أو قبول حتّى تفترض استطاعته لسحب العقد وكسر القرار قبل فوات الأوان، والردّ المعقول في باب الفضولي من قِبل المالك بمعنى مجرّد إبراز الكراهة أو بمعنى كسر القرار بالفرض والاعتبار والإنشاء لا بالمعنى الحقيقي للكلمة لا يوجب عقلائيّاً عدم إمكان لحوق الإجازة، فلا يبقى في المقام إلّا دعوى التمسّك بالإجماع على مبطلية الردّ بالمعنى المعقول من المالك في باب الفضولي. ولكن لا إجماع تعبّدي كاشف عن رأي المعصوم في المقام أبداً.

هذا ما مضى منّا فيما سبق.

ونقول هنا: إنّه ينبغي البحث عن مطلبين:

المطلب الأوّل: أنّه في فرض سحب المشتري من الفضولي قراره وعقده ألا يمكن أن يقال بإمكان المالك الأصلي بناء على الكشف إجازة البيع فيتمّ البيع قبل سحب المشتري قراره ويلغو هذا السحب؟

والمطلب الثاني: أنّه في فرض عدم سحب المشتري من الفضولي عقده وقراره لو أصرّ المالك الأصلي على ردّ رافع لموضوع الإجازة فقد قبلنا أنّ هذا ليس بإمكانه الردّ القولي لما شرحناه من النكتة، ولكن أليس بإمكانه الردّ الفعلي بما ينهي موضوع الإجازة اللّاحقة بمثل استيلاد الأمة المانع عن بيعها أو أكل المال واستهلاكه الرافع لموضوع البيع؟

أمّا المطلب الأوّل: فهل نقول: إنّ سحب المشتري للقرار لم يبق شيئاً حتّى تلحقه الإجازة ونبحث في كشفها وعدم كشفها، أو نقول: أنّ الإجازة لم تُبق مجالاً لسحب المشتري قراره، فليس سحب المشتري قراره إلّا من قبيل الفسخ بعد تمامية البيع؟

الظاهر أنّ هذا يعتبر من ثمرات الكشف الحقيقي وعدمه، فلو قلنا بالنقل أو بالكشف