743

هذه هي الأدلّة التي يمكن الاستدلال بها على حجّية الإقرار في باب القضاء.

دائرة نفوذ الإقرار

وبعد ذلك يجب أن نرى أنّ المستنتج من مجموع هذه الأدلّة أو الصحيح منها هل هو نفوذ الإقرار في القضاء على الإطلاق؟ أو هناك بعض موارد باقية تحت الشكّ في النفوذ؟

فنقول: قد ظهر من مجموع ما مضى أنّ حديثاً مشتملاً على الإطلاق الواضح سنخَ «إقرار العقلاء على أنفسهم جائز» غير ثابت سنداً، وإنّما هناك بعض الروايات الواردة في موارد خاصّة دالّة على نفوذ الإقرار، من قبيل ما دلّ على نفوذ إقرار بعض الورثة في حصّته حينما يشهد بدين في مال المورِّث، ويتعدّى منه إلى سائر الموارد: إمّا باليقين بعدم الفرق، أو بانعقاد دلالة لفظيّة ببركة ارتكاز عدم الفرق، ومن هنا قد يحصل التشكيك في بعض الموارد بدعوى احتمال الفرق، وذلك كما في الموارد التي ينتهي نفوذ الإقرار فيها إلى القتل، أو قطع العضو، أو نحو ذلك ممّا قد يحتمل الفرق بينه وبين مثل قضية مالية بحتة واردة في روايات إقرار الوارث مثلاً، وأمّا الإجماع والارتكاز فهما دليلان لُبّيّان، فقد يُشكَّك في شمولهما لمورد مّا، خاصّةً مع ورود ما دلّ على عدم نفوذ الإقرار مرّةً واحدةً في السرقة ولو لم يتمّ سنداً.

والواقع أنّه لا ينبغي الإشكال في استقرار الارتكاز العقلائي على نفوذ الإقرار مطلقاً، وكذلك ارتكاز المتشرّعة في زمان المعصوم الذي هو مستند إمّا إلى الارتكاز العقلائي، أو إلى نفس الشريعة، ولا محلّ للتشكيك في ذلك إلا بقدر ما ورد في بعض الروايات من الردع عن ذلك، ولم يرد ردع عن نفوذ الإقرار إلا في موارد معدودة:

المورد الأول: بعض الحدود التي لا يكفي فيها الإقرار إلا أربع مرّات، فهذا ردع عن

744

نفوذ الإقرار فيما كان أقلّ من أربع مرّات، وهذا الردع نأخذ به بلا إشكال، وقد أخذ به الأصحاب والفقهاء _ رضوان الله عليهم _ ولا يضرّ ذلك بما هو المتبنّى عادةً من نفوذ الإقرار في باب القضاء، فإنّ هذا خارج أصلاً عن باب القضاء، واحتمال الفرق بين تلك الحدود وبين ثبوت القتل في باب النزاع وارد.

المورد الثاني: سقوط حكم القتل عند رجوعه عمّا أقرّ به في بعض الحدود، بل في مورد القِصاص أيضاً على ما عرفت من ورود رواية ضعيفة بذلك وهي مرسلة جميل.

وهذا أيضاً لا يضرّنا في المقام؛ لأنّه بعد أن كانت الرواية الواردة في القصاص ضعيفة سنداً، والروايات الواردة في الحدود احتمال الفرق بين موردها ومورد القضاء موجود، فغاية ما يفترض في المقام هو الشكّ في نفوذ الإقرار بعد الإنكار، وعلاج ذلك هو استصحاب نفوذه الثابت قبل الإنكار.

نعم، لو لم يثبت إقراره لدى القاضي إلا بعد إنكاره _ أي: إنّه بعد الإنكار ثبت لدى القاضي أنّه كان قد أقرّ قبل ذلك بالقتل _ فهنا يكون استصحاب نفوذ الإقرار من سنخ الاستصحاب التعليقي بأن يقال: إنّ هذا الإقرار لو كان قد ثبت لدى القاضي قبل إنكاره لنفذ، والآن كما كان، فيتوقف البحث في المقام على المبنى المختار في باب الاستصحاب التعليقي، أمّا إذا كان الإقرار ثابتاً لدى القاضي قبل الإنكار ثم أنكر بعد ذلك فلا إشكال في استصحاب نفوذ الإقرار.

المورد الثالث: موضوع السرقة حيث ورد فيه ما دلّ على عدم كفاية الإقرار الواحد، وأفتى المشهور بذلك إلا أنّ هذا لو قلنا به فإنّما هو في جانب قطع اليد الذي هو حدّ من الحدود، أمّا جانب الضمان فلم يرد بشأنه شيء من هذا القبيل، فيبقى داخلاً تحت الارتكاز، أمّا إذا رفضنا روايات عدم كفاية الإقرار الواحد بضعف السند، وتمسّكنا بالروايات الدالّة على كفايته في السرقة فقد ثبت الحدّ أيضاً لا بالارتكاز؛ كي

745

يقال: إنّ روايات عدم كفاية الإقرار مرّةً واحدةً توجب رغم ضعف سندها احتمال الردع، بل بالروايات الدالّة على كفاية الإقرار مرّةً واحدةً.

وقد تحصّل من مجموع ما ذكرناه نفوذ الإقرار في باب القضاء مطلقاً.

بقي الكلام في الإقرار الذي وقع أمام غير القاضي ثم بلغ القاضي بالبيّنة مثلاً، فهل هذا نافذ، أو يشترط في نفوذ الإقرار كونه أمام القاضي؟

الظاهر أنّ الارتكاز يشمل كلّ إقرار ثبت لدى القاضي، سواء وقع بمسمع منه أو لا، وكذلك بعض إطلاقات أدلّة الإقرار من قبيل ما دلّ على نفوذ إقرار الوارث في حصّته، فإنّه لم يقيّد بخصوص الإقرار الذي كان بمحضر القاضي أو بمسمع منه.

وهذا الكلام منّا إنّما هو في باب القضاء، أمّا في باب الحدود فبالإمكان أن يقال في الحدّ الذي يكون بحاجة إلى شهود أربعة: إنّ الإقرار به لا يثبت بالبيّنة، أي بشاهدين؛ إذ لو كان نفس الزنا _ مثلاً _ لا يثبت بشاهدين فكيف يحتمل ثبوته بإقرارات أربعة لم تثبت إلا بشاهدين؟! أمّا ثبوت الإقرار بشهود أربعة فبحاجة إلى دليل خاصّ لم يرد.

فإن قلت: إنّ الدليل على نفوذ شهادة الشهود الأربعة في إثبات الإقرار هو مطلقات دليل البيّنة، فمقتضى إطلاقها الأوّلي نفوذ شهادة عدلين لإثبات الإقرار، وبما أنّه ثبت عدم نفوذ ذلك بالبيان الماضي فنحن نقيّد هذا الإطلاق بإضافة شهادة عدلين آخرين إليها، أمّا إلغاء الشهادة نهائيّاً فهذا تقييد أكثر، وهو بحاجة إلى دليل مفقود.

قلت: لو فرض هذا النوع من التقييد عرفيّاً فإنّما يتمّ لو كان لدينا دليل لفظي على حجّية البيّنة يتمتّع بالإطلاق اللفظي في ذاته، والواقع أنّ دليل حجّية البيّنة إنّما تمّ إطلاقه ببركة الارتكاز، ولا ارتكاز على نفوذ شهادة الأربعة بعد فرض عدم نفوذ شهادة الاثنين.

746

وقد يدل في باب الزنا على ما قلناه من اشتراط كون الإقرار لدى القاضي ما ورد _ بسند تام _ عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) في رجل قال لامرأته: يا زانية أنا زنيت بك، قال: «عليه حدّ واحد لقذفه إيّاها، وأمّا قوله: أنا زنيت بك فلا حدَّ فيه إلا أن يشهد على نفسه أربع شهادات بالزنا عند الإمام»(1). وتمام الكلام في باب الحدود موكول إلى محلّه.

الإقرار في الفقه الوضعي

وفي ختام البحث عن الإقرار لا بأس بالتعرّض لبعض ما يقال في الفقه الوضعي عن ذلك، فنقول:

قد قُسّم الإقرار في الفقه الوضعي إلى ثلاثة أقسام(2):

1_ الإقرار البسيط.

2_ الإقرار الموصوف.

3_ الإقرار المركّب.

والمقصود بالإقرار البسيط هو الإقرار غير المقترن بدعوى أمر لا يعترف به المدّعي؛ كما لو ادّعي المدّعي: أنّه أقرض زيداً مائة دينار، وزيد اعترف بذلك من دون أن يضيف إلى إقراره دعوى الأداء مثلاً، أو دعوى كون الدين مؤجّلاً بأجل لم يحلّ بعد، أو نحو ذلك ممّا لا يعترف به المدّعي، وهذا الإقرار نافذ عندهم بلا إشكال.

وأمّا الإقرار الموصوف فالمقصود به عندهم هو الإقرار بما يدّعيه المدّعي مع إضافة


(1) وسائل الشيعة، ج18، ص447، الباب 13 من حدّ القذف، ح1.

(2) راجع الوسيط، ج2، ص504 _ 513، الفقرة260 _ 262. ورسالة الإثبات، ج2، ص40 _ 46، الفقرة 507 _ 511.

747

وصف أو تعديل للواقعة المدّعاة على خلاف الوصف الذي يدّعيه المدّعي، كما لو ادّعى المدّعي ديناً حالّاً وأقرّ الخصم بالدين، ولكن مع توصيفه بكونه مؤجَّلاً إلى ما بعد سنتين، أو ادّعى المدّعي ديناً مع الفائدة، وأقرّ الخصم بالدين بلا فائدة، أو ادّعى المدّعي بتعهُّد الخصم بأمرٍ مّا فقال الخصم: نعم، ولكنّه كان مشروطاً بالشرط الذي لم يتحقق، وما شابه ذلك.

وهنا أيضاً لا إشكال لديهم في نفوذ الإقرار في الجملة، إلا أنّ الكلام يقع في أنّ الإقرار هل يُجزَّأ هنا، أو لا؟ ومقصودهم بتجزئة الإقرار أن يأخذ المدّعي المنكر بإقراره بأصل الدين أو التعهّد، وينكر عليه الوصف أو الشرط، ويجعل على عاتق المنكر إثبات الوصف أو الشرط، ومقصودهم بعدم تجزئة الإقرار هو أنّ المدّعي ليس له ذلك، بل هو مخيّر بين أمور ثلاثة:

1_ أن يقبل بكلّ الإقرار، فيثبت الدين المؤجّل _ مثلاً _ أو التعهّد المشروط.

2_ أن يأخذ المنكر بإقراره بأصل الدين أو التعهّد، ويأخذ على عاتقه إثبات عدم الوصف أو الشرط الذي ادّعاه خصمه، ولا يكلِّف الخصم بإثبات ذلك.

3_ أن لا يُرتَّب أثر القاطعيّة على هذا الإقرار، ويبقى مطالَباً بإثبات أصل الدين، وتبقى للإقرار قيمة كونه قرينةً من القرائن على ثبوت الدين من دون أن تكون له القاطعيّة التامّة الثابتة للإقرار، وقد اختاروا في المقام عدم تجزئة الإقرار.

وأمّا الإقرار المركَّب فهو _ على ما جاء في الوسيط للسنهوري، وفي رسالة الإثبات لأحمد نشأت _ عبارة عمّا لو اعترف بالواقعة التي ادّعاها المدّعي، وأضاف ادّعاء واقعة أُخرى منفصلة عن تلك الواقعة ومتأخّرة زماناً عنها؛ لكي يبطل بذلك مفعول تلك الواقعة كأن يقول: نعم، أنا معترف بما تدّعيه من الدين، ولكنّك قد أبرأتَ ذمّتي بعد ذلك، أو يقول: ولكنّني قد أوفيتُ لك، أو يقول: إنّه حصل بعد ذلك دينٌ آخر

748

لي عليك فتساقط الدينان بالمقاصّة.

أقول: ولعلّهما أخطئا في ذكر شرط تأخّر الواقعة الثانية عن الواقعة الأُولى زماناً بتوهّم أنّ الفرق بين المركبّ والموصوف يكون بالاقتران والتأخّر، فإذا ادّعى ديناً مقترناً بالتأجيل _ مثلاً _ فهذا هو الإقرار الموصوف، وإذا ادّعى ديناً سقط بعد ذلك بالوفاء أو المقاصّة فهذا هو الإقرار المركّب.

وعلى أيّ حال فلا توجد أيّة نكتة عقلائيّة في التفرقة بين فرض كون الواقعة الثانية متأخّرةً زماناً أو مقارنةً للأُولى، وإنّما الذي ينبغي هو أن يفترض الإقرار الموصوف عبارة عن الإقرار المتضمّن لدعوى وصف مقارن للمدّعى، والإقرار المركّب عبارة عن الإقرار المتضمّن لدعوى أمر منفصل في هويّته عن المدّعى يبطل مفعول المدّعى سواء كان منفصلاً عنه زماناً بالتأخر، أو مقارناً، أو متقدّماً زماناً، فلو أقرّ بإتلافه لمال المدّعي مثلاً، وادّعى ديناً آخر له على المدّعي لكي يسقطا بالمقاصّة، فلا فرق بين أن يفترض ديناً مؤخّراً عن الإتلاف أو مقارناً له أو سابقاً عليه، إنّما المهمّ أنّ هذا الدين الآخر منفصل تماماً في هويّته عن إتلاف مال المدعي، وليس وصفاً أو شرطاً لما يدّعيه المدّعي من قبيل وصف الأجل للدين أو ربط التعهّد بشرطٍ مّا.

وعلى أيّة حال فالإقرار المركَّب أيضاً لا إشكال عندهم في نفوذه في الجملة، وإنّما الكلام يقع أيضاً في التجزئة وعدمها؛ فبناءً على التجزئة يأخذ المدّعي بإقرار المقرّ ويطالبه بإثبات الجزء الآخر، وبناءً على عدم التجزئة يكون على المدّعي أن يسلّم بكلّ ما قاله صاحبه، أو يأخذه بإقراره في الجزء الأول، ويأخذ على عاتقه مؤونة إثبات خطأ الجزء الثاني، أو لا تفترض لأصل الإقرار هنا القاطعيّة التامّة، فيبقى مطالَباً بإثبات مدَّعاه.

أمّا ما هو الصحيح عندهم في ذلك؟ فالمفهوم من كلام صاحب الوسيط: أنّ

749

الفقه الفرنسي لا يزال عنده مقياس التجزئة وعدمها في الإقرار المركَّب مورداً للخلاف، ولكن القضاء المصري حسم المسألة بالتفصيل بين ما إذا كانت الواقعة الثانية مرتبطة بالواقعة الأُولى _ أي: متفرعةً عليها ومستلزمةً لوقوع الواقعة الأُولى، كما في دعوى الوفاء أو الإبراء المستلزمة لأصل الدين _ أو كانت منفصلةً عنها تماماً، كما في دعوى دَينٍ آخر يتساقط مع الدَين الأول بالمقاصّة. ففي الأول لا تصحّ التجزئة بينما في الثاني تصحّ التجزئة.

أقول: الصحيح من وجهة نظر الإسلام أنّ ما أقرّ به الخصم تارةً يفرض أنّه قيّده بقيد أدّى إلى تباين ما أقرّ به مع ما ادّعى الخصم الآخر نهائياً؛ كما لو ادّعى المدّعي أنّ صاحبه مدين له بدينار، فقال: أنا مدين لك بالمتاع الفلاني وليس بدينار، وأخرى يفترض أنّ القيد ليس أمراً مغيِّراً لأصل الإقرار، وإنّما هو دعوى أمر إلى صفّ الأمر الذي أقرّ به على شكل التوصيف، أو على شكل التركيب كما لو قال: أنا معترف بما تدّعيه من الدَين، ولكنّني أدّعي أنّك ضربْتَ لذلك أجلاً بمقدار سنتين من بعد هذا الزمان، أو: لكنّني أدّعي أنّك أبرأتَ ذمّتي، أو ولكنّه حصل بعد ذلك دَينٌ آخر لي عليك، فانتهى الدَّين الأول بالتقاصّ:

فإن فرض الأول، أي: إنّ القيد كان بنحوٍ أخرج الإقرار عن كونه إقراراً بشيء يدّعيه الخصم، فهذا خروج عن محلّ البحث؛ إذ ليس هناك اعتراف بما ادّعاه الخصم، ولا بجزء ممّا ادّعاه كي نبحث عن كيفية نفوذه.

وإن فرض الثاني؛ أي: إنّه تمّ الاعتراف بما يقوله الخصم، أو بجزء منه، غاية الأمر أنّه يدّعي وصفاً أو شرطاً أو حادثة أُخرى غير معترف به لدى الخصم، فاعترافه بما يقول نافذ لا محالة، ويبقى الوصف الإضافي أو الشرط الإضافي أو الحادثة الجديدة قيد نزاع جديد، يكون عب‏ء إثباته على كلِّ مَن يُعتبر في هذا النزاع مدَّعياً وفق

750

مقاييس تشخيص المدعي والمنكر في هذا النزاع، وبقطع النظر عن النزاع الأول نهائياً.

وهذا هو المناسب للاعتبار العقلائي أيضاً، فإنّ النكتة في نفوذ الإقرار عقلائياً هي أحد أمرين:

الأول _ أنّ معنى الإقرار هو إنهاء النزاع بالتسليم للخصم.

والثاني _ هو قوّة الكشف الموجودة في الإقرار. والأمر الأول لا يكفي عندنا كنكتة كاملة لحجّية الإقرار بكلّ آثارها الفقهية؛ لأنّ إنهاء النزاع بالتسليم للخصم فعلاً شيء، وحجّيةُ الإقرار _ بمعنى إصدار الحكم من القاضي لصالح المُقَرِّ له، وبمعنى أنّه لا تحقّ له إثارة النزاع مرّةً أُخرى _ شيءٌ آخر لا علاقة له بذاك. وعلى أيّ حال فسواء فرضنا النكتة العقلائية لنفوذ الإقرار هي الأمر الأول، أو الثاني، أو مجموعهما، فهي تقتضي ما قلناه، ولا تقتضي ما قالوه:

أمّا كون الإقرار إنهاءً للنزاع بالتسليم للخصم فهذا ثابت في المقدار الذي اعترف به للخصم في المقام؛ أي: إنّه سلّم لما يقوله خصمه من الدين، وأحدث نزاعاً جديداً، وذلك بدعوى الوفاء _ مثلاً _، فلم لا تُنهي المحكمة النزاع حول أصل الدين وتُخضِع دعوى الوفاء لقوانين باب المرافعة في حدّ ذاتها بشكل منفصل نهائياً عن النزاع الذي انتهى؟!

وأمّا كاشفية الإقرار فهي ثابتة بقوّتها في المقدار الذي اعترف به المقرّ لخصمه، وليست ثابتة في دعواه الأُخرى التي ينكرها الخصم، فلماذا هذا الربط بين ما أقرّ به وبين مدّعاه؟! وإنّما الذي يقتضيه الاعتبار هو الأخذ بإقراره فيما أقرّ به ومحاسبة ما ادّعاه حساباً مستقلاً.

نعم، هذا لا يعني أن يكون عِب‏ءُ إثبات ما ادّعاه عليه دائماً، بل لابدّ من الرجوع إلى قوانين المرافعة فيما ادّعاه بشكل منفصل عن النزاع الأول، فلو ادّعى _ مثلاً _

751

الإبراءَ أو حصول المقاصّة فعب‏ء الإثبات يقع عليه؛ لأنّ الأصل يقتضي عدم الإبراء أو عدم المقاصّة. أمّا لو فرض أنّ خصمه كان يدَّعي أنّه قد جعل العين الفلانيّة أمانةً لديه، فالآن جاءه لاسترجاع الأمانة، فاعترف بما قاله الخصم من أنّه جعلها أمانةً لديه، ولكنّه ادّعى أنّه وهبها بعد ذلك إيّاه، فهنا عب‏ء الإثبات يكون على المدّعي الأول؛ لأنّ اليد تدل على ملكيّة من في يده العين.

وخلاصة كلامنا في المقام: أنّه لا فرق بين أن يفترض أنّ أحد الخصمين رفع الشكوى أوّلاً بعنوان الدين المعجَّل، ثم أقرّ الخصم الآخر بالدين، وأضاف دعوى التأجيل أو الإبراء أو الوفاء أو التقاصّ، أو يفترض أنّ الخصم الأول لم يرفع الشكوى ابتداءً بعنوان الدين، بل توافقا قبل المرافعة على أصل الدين، وكان مصبّ الدعوى من أول الأمر هو التأجيل، أو الإبراء، أو الوفاء، أو التقاصّ، أفهل يشكّ العقلاء في الفرض الثاني في تشخيص من عليه عب‏ء الإثبات بمقاييس المدّعي والمنكر وبقطع النظر عن فرض نزاع وإقرارٍ في أصل الدين؟! أو أيّ مبرّر يمكن أن يتصوّر للفرق بين الفرضين؟!

753

طرق الإثبات في الفقه الإسلامي

5

 

 

القرعة

 

 

  1- مطلقات القرعة

  2- روايات خاصّة في القرعة

 

 

755

الطريق الخامس _ هو القرعة.

وقد مضى الكلام بشكل مفصّل عن موارد استعمال القاضي للقرعة في مقام حلّ المرافعة عندما بحثنا فروع التداعي، فلسنا بحاجة إلى تكرار البحث، وإنّما نسجّل هنا النتائج التي توصّلنا إليها هناك على شكل فتاوى مكتفين ببحثها الاستدلالي في ما مضى، وهي كما يلي:

1_ لو تداعيا على المال، ولم تكن لأي واحد منهما بيّنة، أو كانت لهما معاً البيّنة مع تساوي عدد البيّنتين، ونكلا عن الحلف، كان المرجع القرعة كطريق لتعيين من له الحقّ.

ويلحق بباب التداعي ما لو كان كلام المنكر قابلاً للجمع مع كلام المدّعي، مع احتمال المنافاة في نفس الوقت. كما لو قال المدّعي: هذه الدار لي، وقال ذو اليد: ورثتها من أبي، على ما مضى توضيحه مفصّلاً.

2_ لو تنازعا في غير المال كالولد _ نتيجةً لجهلهما بالواقع _ فالمرجع أيضاً هو القرعة كطريق لتعيين من له الحقّ، أمّا لو كان ذلك في المال فالمرجع هو قاعدة العدل والإنصاف.

3_ وفي غير هاتين الصورتين لا يستعمل القاضي القرعة كطريق لتعيين من له

756

الحقّ من المترافَعيْن.

نعم، قد يستعملها لتعيين من عليه الحلف، وذلك فيما لو تداعيا على غير المال كالزوجة مع تساوي البيّنتين، أو من دون بيّنة.

يبقى في المقام شى‏ء: وهو أن حجّية القرعة هل هي حجّية ذاتية أو حجّية قضائية فحسب؟ وأقصد بالحجّية القضائية أن القاضي هو الذي يستفيد منها في مرحلة قضائه كما يستفيد من البينة واليمين، وأقصد بالحجّية الذاتية أنّ بإمكان أحد المتنازعَيْن إرغام صاحبه عليها بلا حاجة إلى التحاكم لدى القاضي.

الظاهر أن حجّية القرعة حجّية قضائية، وليست حجّية ذاتية، ولا يوجد إطلاق في أدلّة القرعة تستفاد منه الحجّية الذاتية.

وتوضيح ذلك مع توضيح بعض نكات أُخرى في القرعة _ وإن كان بعضُها خارجاً عن المقام _ يستدعي مروراً بروايات القرعة وهي على قسمين:

القسم الأول مطلقات القرعة، والقسم الثاني روايات واردة في موارد خاصّة:

مطلقات القرعة

أما ما يمكن أن يفترض من مطلقات القرعة فهي عدة روايات:

1_ ما رواه الشيخ بإسناده عن الحسين بن سعيد عن إبن أبي عمير، عن جميل، قال: «قال الطيّار لزرارة: ما تقول في المساهمة أليس حقّاً؟ قال زرارة: بلى هي حقّ، فقال الطيّار: أليس قد ورد أنّه يخرج سهم المُحِقّ؟ قال: بلى. قال: فتعال حتى أدّعي أنا وأنت شيئاً، ثم نساهم عليه، وننظر هكذا هو؟ فقال له زرارة: إنّما جاء الحديث: بأنّه ليس من قوم فوّضوا أمرهم إلى اللّه، ثم اقترعوا إلا خرج سهم المُحِقّ، فأمّا على التجارب فلم يوضع على التجارب، فقال الطيار: أرأيت إن كانا جميعاً مدّعَييْنِ ادّعيا

757

ما ليس لهما من أين يخرج سهم أحدهما؟ فقال زرارة: إذا كان كذلك جعل معه سهم مبيح فإن كانا ادّعيا ما ليس لهما خرج سهم المبيح»(1).

ويمكن النقاش في الاستدلال بهذا الحديث على القرعة من وجوه:

الأول _ عدم انتهاء الحديث إلى المعصوم. وقول زرارة: «إنّما جاء في الحديث: بأنّه ليس من قوم فوّضوا أمرهم إلى اللّه، ثم اقترعوا إلا خرج سهم المحقّ» لا يدل على كون زرارة هو الذي سمع هذا الحديث من الإمام مباشرةً، فالحديث بحكم المرسل.

إلا أن يقال: إنّ ظاهر كلام زرارة خصوصاً في قوله: «بلى هي حقّ» هو إخباره عن صدور هذا الحديث عن المعصوم حقّاً، وهذا الإخبار _ كأيّ إخبار آخر يحتمل فيه الحسّ _ محمول على الحسّ أو ما يقاربه، فهذا دليل على أنّ ورود هذا الحديث عن المعصوم كان لدى زرارة حسّيّاً أو قريباً من الحسّ، كما لو كان ثابتاً لديه بالتواتر، أو بالخبر المحفوف بالقرائن مثلاً.

إلا أنّ هذا البيان قابل للمناقشة؛ ذلك لأنّه إن أُريد إجراء أصالة الحسّ في قوله: «إنّما جاء الحديث...»، فهذا لا يعني الإخبار الحسّي بصدور هذا الحديث من المعصوم، وإنّما يعني ورود حديث من هذا القبيل عن المعصوم، أمّا صدق محدِّثه حتماً فليست في هذا التعبير دلالة على الإخبار عن ذلك، وإن أُريد إجراء أصالة الحسّ في قوله: «بلى هي حقّ»، فهذا ظاهر في الفتوى لا في نقل الرواية.

الثاني _ أن يقال: إنّ هذا الحديث يدل على قطعيّة إصابة القرعة وأنّها لا تخطئ، ولذا ذكر زرارة في جواب إشكال الطيّار: أنّ القرعة ليست للتجربة، وإنّما هي لموردِ ما إذا فَوَّضوا أمرهم حقّاً إلى اللّه، ولم يذكر في جوابه: (أن القرعة ليست دائمة الإصابة).


(1) وسائل الشيعة، ج18، ص188، الباب 13 من كيفيّة الحكم، ح4.

758

فإذا ضمّ هذا إلى ما فرض في مورد الحديث من تفويض المتنازعين أمورهم إلى اللّه بالاقتراع كان معنى ذلك سدّ باب القضاء: إمّا مطلقاً، أو في أيّ مورد للنزاع أمكن فيه القرعة _ بناءً على أنّها ليست مشروعةً في تمام موارد النزاع _ وذلك لأنّه مع وجود طريق قطعي يوصلهم إلى الواقع حتماً لا معنى لتشريع الرجوع إلى حكم القاضي الذي قد يخطئ وقد يصيب.

إلا أن يجاب على ذلك بحمل قوله: «إلا خرج سهم المحقّ» على الاقتضاء والأماريّة لا على دوام الإصابة، أمّا فهم زرارة لدوام الإصابة _ كما يظهر من جوابه للطيّار _ فليس حجّةً لنا، على أنّه لعلّه قصد إفحام الطيّار بأوضح جواب.

الثالث _ أن يقال: إنّ هذا الحديث يدل على مشروعيّة القرعة في مورد وجود حلٍّ آخر شرعي، وهو الترافع لدى الحاكم، فإنّ هذا الحديث ورد في فرض النزاع، وتشخيص المُحقّ منهم بالقرعة، بينما هناك طريق شرعي لتشخيص المُحقّ، وهو الرجوع إلى القاضي وتطبيق القاضي لقوانين القضاء في المقام، ومن الواضح فقهيّاً عدم حجّية القرعة مع وجود حلّ آخر شرعي.

إلا أن يجاب على ذلك بأنّ الرواية بعد ضمّها إلى ارتكاز عدم حجّية القرعة عند وجود طريق آخر لا يبقى لها إطلاق لفرض إمكانيّة الرجوع إلى القاضي، إلا في مورد تكون وظيفة القاضي أيضاً هي الرجوع إلى القرعة.

الرابع _ أن يقال: إنّ الرواية لا ظهور لها في حجّية القرعة، لا بمعنى الحجّية القضائية بأن يكون للقاضي حقّ إرغام الخصمين على الخضوع لها، ولا الحجّية الذاتية بأن يكون المتنازعان مرغمين شرعاً على الاقتراع والخضوع لنتيجة القرعة، وإنّما دلّت على مشروعيّة أن يتراضيا فيما بينهما بالقرعة؛ وذلك لأنّ التعبير جاء هكذا: «ليس من قوم فوّضوا أمرهم إلى اللّه ثم اقترعوا إلا خرج سهم المحقّ»، فخروج

759

سهم المحقّ يكون في طول تراضيهم بالقرعة، وتفويضهم الأمر إلى اللّه. والمقصود به _ ولو احتمالاً _ فرض جواز التراضي والتفويض، أمّا متى يجوز التراضي على القرعة، فهذا أمر مسكوت عنه ومفروض التحقّق، فليس بصدد بيانه، والقدر المتيقّن هو موارد إمكانيّة التصالح على أيّ شيء يحتمل خروجه بالقرعة؛ أي: في دائرة المباحات، فبدلاً عن التصالح الابتدائي يفوّضون أمرهم إلى اللّه، ويلتزمون بنتيجة القرعة.

هذا، ولو تمّت دلالة الحديث على القرعة فإنّما تتمّ في مورد النزاع، فإنّ المفهوم عرفاً من افتراض كون الأمر أمر قوم، وأنّ فيهم المحقّ وغير المحقّ هو ذلك.

2_ مرسلة الصدوق: قال: «قال الصادق (عليه السلام): ما تنازع قوم ففوّضوا أمرهم إلى اللّه (عزوجل) إلا خرج سهم المُحقّ. وقال: أيّ قضيّة أعدل من القرعة إذا فوّض الأمر إلى اللّه؟ أليس اللّه يقول: فساهَمَ فكانَ مِنَ المُدحَضين»(1).

وقد اتّضح النقاش فيه _ بِغَضّ النظر عن إرساله _ ممّا مضى، فإنّ الحديث لم يدل على حجّية القرعة على الخصمين قضائيّاً، أو وجوب تحاكمهما إلى القرعة ولو من دون قاضٍ، وإنّما مفاده أشبه شيء بفرض التشارط والتراضي على القرعة، فيحكم على ذلك بخروج سهم المُحقّ، أمّا جواز ذلك فلعلّه مفروض الوجود، وليس بصدد بيانه، فلا يتمّ الإطلاق بلحاظه، والقدر المتيقّن منه هو دائرة المباحات. إذاً لا يدل الحديث على مشروعيّة القرعة في تعيين الزوجيّة المتنازع فيها مثلاً(2).

هذا، والحديث خاصّ بمورد النزاع، أمّا صدره فواضح، وأمّا ذيله فلأنّ كلمة (القضيّة) بمعنى القضاء ظاهرة في فرض النزاع.


(1) وسائل الشيعة، ج18، ص190، الباب 13 من كيفيّة الحكم، ح13.

(2) مقتضى ارتكازيّة حجّية القرعة في غير دائرة المباحات من موارد النزاع هو دلالة الحديث على حجّيتها في موارد النزاع. نعم، يبقى احتمال اختصاص ذلك بالحجّية القضائية.

760

3_ ما رواه العيّاشي في تفسيره عن الثمالي، عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث يونس (عليه السلام) قال: «فساهم، فوقعت السهام عليه، فجرت السنّة أنّ السهام إذا كانت ثلاث مرّات إنّها لا تخطئ، فألقى نفسه، فالتقمه الحوت»(1).

ويرد على الاستدلال به _ بغضّ النظر عن السند _: أنّ مفاده إنّما هو فرض عدم الخطأ عند تكرّر السهام ثلاث مرّات. أمّا أصل مشروعيّة المساهمة متى يكون، فهذا أمر مسكوت عنه ومفروغ عنه وليس بصدد بيانه، فلا إطلاق بلحاظه، والقدر المتيقّن هو صورة التراضي والتوافق عليها في دائرة المباحات كما هو مورد قصّة يونس؛ إذ بعد ضرورة إلقاء أحدهم كان من المباح لهم التراضي على إلقاء أيّ واحد منهم.

إذاً فلا يدل الحديث على الحجّية القضائية للقرعة، أو الحجّية الذاتية لها بأن يجب عليهم الاقتراع والخضوع لنتيجة الاقتراع، ولا على مشروعيّة القرعة في تعيين الزوجية المختلف فيها مثلاً.

4_ ما رواه الشيخ بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن حمّاد بن عيسى، عن سيابة وإبراهيم بن عمر جميعاً، عن أبي عبداللّه (عليه السلام) «في رجل قال: أوّل مملوك أملكه فهو حرّ فورث ثلاثة. قال: يقرع بينهم فمن أصابه القرعة أُعتق. قال: والقرعة سنّة»(2). وسند الحديث تام.

ولا يخفى أنّ مورد هذا الحديث ليس مورداً تحتمل فيه حجّية القرعة فقهيّاً بوجه من الوجوه، فإنّ حجّية القرعة إن كانت فإنّما هي في أحد موردين:

الأول _ وجود واقع مجهول أُريد تشخيصه بالقرعة.


(1) وسائل الشيعة، ج18، ص192، الباب 13 من كيفيّة الحكم، ح22.

(2) نفس المصدر، ص187، ح2.

761

والثاني _ وجود مشكلة لا تعيّن لها حتى في الواقع فأُريد حلّها عن طريق القرعة.

والمورد الذي طبّقت عليه كبرى القرعة في هذا الحديث ليس من أحدهما؛ وذلك لوضوح أنّه لم يتحقّق أيّ عتق بقوله: «أوّل مملوك أملكه فهو حرّ»، فإنّ العتق لا يكون إلا في ملك، وقبل الملك لا معنى للعتق، فلابدّ من حمل هذه العبارة على عهد أو نذر أو يمين مثلاً، أو مجرّد بناء نفسي، وبمجرّد امتلاكه للعبيد الثلاثة لم ينعتق أيّ واحد منهم، وإنّما مفروض الحديث أن يعتق هو أحدهم بعد القرعة كما يدل عليه قوله: «فمن أصابه القرعة أُعتق». إذاً فلا واقع مجهول في المقام كما لا مشكلة في المقام، فإنّ وفاءه بعهده أو نذره ويمينه أو بما بنى عليه في قلبه لا يحتمّ عليه أكثر من عتق واحد على سبيل التخيير حتماً، وليس لأيّ واحد منهم حقّ المطالبة بتطبيق العتق عليه فليعتق من شاء منهم.

نعم هناك قضية أخلاقيّة وهي أنّ كلّ واحد منهم يتوقّع منه الإحسان بتطبيق العتق عليه، فلا ينبغي أخلاقيّاً ترجيح أحدهم على الباقين وحرمان الباقين بغير القرعة. إذاً فالقرعة هنا عمليّة أخلاقيّة لا أكثر من ذلك، فلا نستطيع أن نفهم من الكبرى التي طبّقها على المورد أو يحتمل إرادة تطبيقها على المورد _ وهي قوله: «والقرعة سنة» _ معنى الحجّية أو الوجوب؛ إذ لا ينطبق ذاك المعنى على المورد.

ولو فهمنا منه ذلك فسوف لن يكون للمتعلّق المحذوف إطلاق أكثر من مناسبة المورد وهو دائرة المباحات.

ولا يقال: إنّنا نجري الإطلاق الشمولي بلحاظ كلمة (القرعة) لا بلحاظ المتعلّق المحذوف، فإنّه يقال: إنّ القرعة متعلّق للحكم، وليس موضوعاً مفروض الوجود كالعالم في (أكرم العالم). وقد حقّقنا في محلّه أنّ الإطلاق بالنسبة لمتعلّق الحكم كالصلاة في قولنا: «الصلاة واجبة» بدلي وليس شموليّاً.

762

5_ ما رواه الشيخ بإسناده إلى علي بن الحسن بن فضّال عن محمد بن الوليد، عن العبّاس بن هلال، عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: «ذكر أنّ ابن أبي ليلى وابن شبرمة دخلا المسجد الحرام، فأتَيا محمد بن علي (عليه السلام) فقال لهما: بِما تقضيان؟ فقالا: بكتاب اللّه والسنّة، قال: فما لم تجداه في الكتاب والسنّة؟ قالا: نجتهد رأينا. قال رأيكما أنتما؟ فما تقولان في امرأة وجاريتها كانتا ترضعان صبيَّينِ في بيت، فسقط عليهما فماتتا، وسلم الصبيّان؟ قالا: القافة. قال: القافة يتجهّم منه لهما. قالا: فأخبرنا. قال: لا، قال ابن داود مولىً له: جعلت فداك، قد بلغني أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: ما من قوم فوّضوا أمرهم إلى اللّه (عزوجل) وألقوا سهامهم إلا خرج السهم الأصوب، فسكت»(1).

وفي سند الحديث إشكالان:

أحدهما _ أنّ سند الشيخ إلى علي بن الحسن بن فضّال ضعيف، وقد مضى فيما سبق البحث عن تطبيق الشكل الثاني من أشكال نظريّة التعويض على ذلك، ومضى أنّه لا يخلو من إشكال.

والثاني _ وجود العبّاس بن هلال في السند، ولا دليل على وثاقته.

وأمّا من حيث الدلالة، فسكوت الإمام (عليه السلام) لا يدل على إمضاء كون ما نقله ابن داود جواباً على المسألة.

نعم، لو دلّ على الإمضاء فهنا لا يأتي ما قلناه في بعض الروايات السابقة من عدم الدلالة على أزيد من مشروعيّة القرعة بالتراضي في دائرة المباحات؛ لأنّ مورد الحديث هو مورد تعيين البنوّة والولاية والرقّيّة، وليس هذا من دائرة المباحات، كما أنّ التراضي


(1) وسائل الشيعة، ج17، ص593، الباب 4 من ميراث الغرقى، ح4.

763

والتشارط أيضاً لا مجال له في مورد الرواية؛ لأنّهما طفلان رضيعان، كما أنّ الإشكال بعدم مقبوليّة الإطلاق في المقام لشموله لموارد وجود حلٍّ آخر، بالإمكان الجواب عنه بأنّ ارتكاز عدم حجّية القرعة في موارد وجود حلّ آخر قرينة كالمتّصل تمنع انعقاد هذا المستوى من الإطلاق. بل يمكن المناقشة في إطلاق الحديث بأنّه ليس بصدد بيان موارد مشروعيّة القرعة، وإنّما هو بصدد بيان أنّ القرعة في موردها تُخرج الأصوب.

هذا، والحديث بذاته خاصّ بمورد النزاع؛ لأنّ هذا هو المفهوم عرفاً من التعبير بقوم فوّضوا أمرهم إلى اللّه وخروج السهم الأصوب.

6_ ما رواه في الوسائل عن أحمد بن محمد البرقي في المحاسن عن ابن محبوب، عن جميل بن صالح عن منصور بن حازم، قال: «سأل بعض أصحابنا أبا عبداللّه (عليه السلام) عن مسألة، فقال: هذه تخرج في القرعة، ثم قال: فأيّ قضيّة أعدل من القرعة إذا فوّضوا أمرهم إلى اللّه (عزوجل)، أليس اللّه يقول: فساهم، فكان من المدحضين». قال في الوسائل بعد نقل هذا الحديث: «ورواه ابن طاووس في (أمان الأخطار)، وفي (الاستخارات) نقلاً من كتاب المشيخة للحسن بن محبوب من مسند جميل عن منصور بن حازم قال: «سمعت أبا عبداللّه (عليه السلام) يقول وقد سأله بعض أصحابنا، وذكر مثله»(1).

وهذا الحديث من حيث المتن يشبه الحديث الثاني، فيأتي فيه ما ذكرناه هناك(2)، ونلفت النظر إلى أنّ ما جاء في الحديثين من الاستشهاد بقصّة يونس (عليه السلام) دليل على عدم اختصاص مضمونهما بفرض وجود واقع مجهول، فإنّ قصّة يونس (عليه السلام) لا يوجد فيها تعيّن في الواقع.


(1) نفس المصدر، ج18، ص191، الباب13 من كيفيّة الحكم، ح17.

(2) ذكرنا هناك تحت الخطّ تماميّة حجّية القرعة في موارد النزاع . نعم، يبقى احتمال اختصاص ذلك بالحجّية القضائية.

764

وأمّا من حيث السند: فسند ابن طاووس إلى كتاب المشيخة للحسن بن محبوب عبارة عمّا يتلفّق من سنده إلى الشيخ الطوسي، وسند الشيخ الطوسي إلى مشيخة الحسن بن محبوب في الفهرست. وللشيخ الطوسي إلى مشيخة الحسن بن محبوب في الفهرست سند تام. أمّا سند ابن طاووس إلى الشيخ فقد ذكر ابن طاووس في مقدّمة كتاب فلاح السائل(1) أسانيد له إلى الشيخ الطوسي أفضلها لنا هو أوّل تلك الأسانيد حيث قال:

«فمن طرقي في الرواية إلى كلّ ما رواه جدّي أبو جعفر الطوسي في كتاب الفهرست وكتاب أسماء الرجال وغيرها من الروايات ما أخبرني به جماعة من الثقات منهم الشيخ حسين بن أحمد السوراوي إجازةً في جُمادى الآخرة سنة تسع وستمائة، قال: أخبرني محمد بن أبي القاسم الطبري عن الشيخ المفيد أبي علي عن والده جدّي السعيد أبي جعفر الطوسي».

أقول: هذا السند تام. أمّا الذين نقل عنهم ابن طاووس مباشرةً. ومنهم الشيخ حسين بن أحمد السوراوي، فهو قد شهد بوثاقتهم. وأمّا محمد بن أبي القاسم الطبري فقد شهد الشيخ منتجب الدين في فهرسته بوثاقته، والشيخ منتجب الدين وإن كان من المتأخّرين، لكن توثيقه يقبل بالنسبة لمثل محمد بن أبي القاسم الطبري الذي هو قريب من عصره، فإنّ منتجب الدين هو تلميذ محمود بن علي بن الحسن الحمصي الرازي الذي يروي مباشرةً عن محمد بن أبي القاسم الطبري، كما صرّح بذلك كلَّه منتجب الدين في فهرسته في ترجمة محمد بن أبي القاسم(2)، ووثّقه أيضاً


(1) ص 14، حسب طبعة مكتب الأعلام الإسلامي في قم.

(2) راجع جامع الرواة، ج2، ص57.

765

الشيخ الحرّ صاحب الوسائل في تذكرة المتبحّرين(1)، وأمّا ولد الشيخ الطوسي الذي هو الشيخ محمد بن أبي القاسم فقد وثّقه أيضاً منتجب الدين في فهرسته والشيخ الحرّ في تذكرة المتبحّرين(2).

وأمّا سند صاحب الوسائل إلى المحاسن فينتهي إلى الشيخ الطوسي، وعنه بأسانيده إلى المحاسن، وسند صاحب الوسائل إلى الشيخ الطوسي تام. أمّا أسانيد الشيخ الطوسي إلى المحاسن فكما يلي:

ذكر الشيخ الطوسي (رحمه الله) في الفهرست: أنّه «قد زيد في المحاسن ونقص، فممّا وقع إليه منها...». وعدّ هنا كتباً كثيرةً، ثم قال: «وزاد محمد بن جعفر بن بطّة على ذلك...» وعدّ هنا عدّة كتب، ثم قال: «أخبرنا بهذه الكتب كلّها وبجميع رواياته عدّة من أصحابنا منهم الشيخ أبو عبداللّه محمد بن محمد بن النعمان، وأبو عبداللّه الحسين بن عبيداللّه، وأحمد بن عبدون، وغيرهم، عن أحمد بن محمد بن سليمان الزراري قال: حدّثنا مؤدّبي علي بن الحسين السعد آبادي أبوالحسن القمّي، قال: حدّثنا أحمد بن أبي عبداللّه، وأخبرنا هؤلاء الثلاثة عن الحسن بن حمزة العلوي الطبري، قال: حدّثنا أحمد بن عبداللّه بن بنت البرقي، قال: حدّثنا جدّي أحمد بن محمد، وأخبرنا هؤلاء _ إلا الشيخ أبا عبداللّه _ وغيرهم عن أبي المفضّل الشيباني عن محمد بن جعفر بن بطّة عن أحمد بن أبي عبداللّه بجميع كتبه ورواياته. وأخبرنا بها ابن أبي جيد، عن محمد بن الحسن بن الوليد، عن سعد ابن عبداللّه، عن أحمد بن أبي عبداللّه بجميع كتبه ورواياته».


(1) راجع معجم رجال الحديث، ج14، ص313.

(2) نفس المصدر، ج5 ، ص115.

766

وهذه الأسانيد التي نقلها الشيخ الطوسي (رحمه الله) أسانيد إلى أعيان الكتب الموجودة من المحاسن لدى الشيخ الطوسي (رحمه الله)، ولكن قد عرفت أنّ الشيخ الطوسي (رحمه الله) ذكر في آخر حديثه أنّ محمد بن جعفر بن بطّة أضاف كتباً أُخرى، إذاً فتلك الكتب الأُخرى ليس للشيخ الطوسي سند إلى أعيانها؛ لأنّها لم تصل إليه، وإنّما له سند إلى أسمائها وهو السند الثالث من الأسانيد الأربعة التي نقلها عنه، وهو ضعيف بأبي المفضّل الشيباني. هذا إذا تجاوزنا أنّ صدر السند عبارة عن حسين بن عبداللّه الغضائري وأحمد بن عبدون، ولم تثبت وثاقتهما، والسرّ في تجاوز ذلك أنّ الناقل هو هذان الشخصان مع عطف كلمة (غيرهم)، وهذا قد يفيد الاطمئنان.

وقد وصل إلى الشيخ الحرّ العاملي _ على ما جاء في آخر الوسائل _ من كتب المحاسن أحد عشر كتاباً، وواحد منها من الكتب التي نسب الشيخ نقلها إلى محمد ابن جعفر بن بطّة، فإذا احتملنا أنّ الحديث الذي نقله صاحب الوسائل في المقام قد أخذه من ذاك الكتاب فقد سقط بما عرفت. وإن استبعدنا ذلك بحساب الاحتمالات باعتباره كتاباً من أَحد عشر كتاباً قلنا: إنّ كلّ الأسانيد الأربعة التي مضت عن صاحب الوسائل لا تخلو من ضعف: فالسند الثالث قد عرفت حاله، والسند الرابع فيه ابن أبي جيد، ولا دليل على وثاقته عدا كونه من المشايخ، والسند الأول فيه علي بن الحسين السعد آبادي، ولا دليل على وثاقته، والسند الثاني فيه عبداللّه بن بنت البرقي، ولا دليل على وثاقته.

نعم، من حسن الحظّ أنّ للشيخ (رحمه الله) في المشيخة سنداً تامّاً إلى أحمد بن أبي عبداللّه البرقي حيث قال (رحمه الله): «ما ذكرته عن أحمد بن أبي عبداللّه البرقي فقد أخبرني به الشيخ أبو عبداللّه عن أبي الحسن أحمد بن محمد بن الحسن بن الوليد عن أبيه، عن سعد بن عبداللّه. وأخبرني أيضاً الشيخ عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين

767

ابن بابويه عن أبيه ومحمد بن الحسن بن الوليد، عن سعد بن عبداللّه والحميري، عن أحمد بن أبي عبداللّه. وأخبرني به أيضاً الحسين بن عبيداللّه عن أحمد بن محمد ابن الزراري، عن علي بن الحسين السعد آبادي، عن أحمد بن أبي عبداللّه، ومن جملة ما ذكرته عن أحمد بن محمد بن خالد البرقي ما رويته بهذه الأسانيد (إشارة إلى أسانيده إلى الكليني) عن محمد ابن يعقوب، عن عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد». والسند الأخير تام، ولكنّه لا يفيد؛ لأنّه سند إلى بعض غير معيّن ممّا رواه عنه. والسند الأول فيه أحمد بن محمد بن الحسن ابن الوليد. والسند الثالث فيه الحسين بن عبيداللّه الغضائري وعلي بن الحسين السعد آبادي، والسند الثاني تام، ونفس أحمد بن أبي عبداللّه البرقي تام عندنا وإن وقع الخلاف بشأنه؛ إذاً فكلّ ما يرويه الشيخ (رحمه الله) في التهذيب أو الاستبصار عن أحمد بن أبي عبداللّه البرقي فهو تام سنداً، ولكن ما يرويه صاحب الوسائل في الوسائل عن المحاسن مباشرةً لا يكون تامّاً سنداً. والرواية التي كنّا بصددها قد رواها صاحب الوسائل عن المحاسن مباشرةً؛ إذاً هذا السند بالنسبة لها غير تام، لكن يكفيها سند ابن طاووس.

7_ ما رواه في الوسائل عن الكليني عن محمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان وعن أبي علي الأشعري، عن محمد بن عبدالجبّار جميعاً، عن صفوان بن يحيى، عن عبداللّه بن مسكان، عن إسحاق العرزمي (وفي الكافي إسحاق الفزاري)، قال: سئل وأنا عنده _ يعني أبا عبداللّه (عليه السلام) _ عن مولود ولد وليس بذكر ولا أُنثى، وليس له إلا دبر: كيف يورث؟ قال: يجلس الإمام ويجلس معه ناس، فيدعو اللّه، ويجيل السهام على أيّ ميراث يورثه _ ميراث الذكر أو ميراث الأُنثى _ فأيّ ذلك خرج ورثه عليه، ثم قال: وأيّ قضيّة أعدل من قضيّة يجال عليها بالسهام؟ إنّ اللّه