12

والرابع: هل غير الأعلم يرجع في التقليد إلى الأعلم أو يحتاط أو يجوز له العمل برأي نفسه؟

والخامس: في تحليل وفلسفة عمليّة الإفتاء والتقليد.

والسادس: لو تبدّل المرجع بموت أو الحصول على من هو أعلم منه أو نحو ذلك، أو تبدّل رأيه بعد عمل المقلَّد بفتواه، أو أصبح المقلّد فقيهاً ورأى بطلان رأي من كان يقلّده، فهل ذاك العمل مجزٍ له باعتباره مطابقاً لما كان حجّة له في وقت العمل، أو ليس مجزياً له عن الواقع، ولابدّ له من الإعادة وفق الفتوى الجديدة؛ لأنّ التقليد لم يكن إلا طريقاً محضاً للوصول إلى الواقع وقد انكشف الخلاف؟ وكذلك نفس الفقيه هل يجزيه عمله السابق بعد أن يفرض تبدّل رأيه أو لا؟ فنقول:

أدلّة جواز التقليد

الأمر الأوّل: في أصل الدليل على جواز التقليد.

والعمدة في ذلك وجهان:

الأوّل: السيرة والارتكاز العقلائيّان والمتشرّعيّان على الرجوع إلى أهل الخبرة، أو رجوع الجاهل إلى العالم.

والارتكاز العقلائي تارةً يفسّر بما تعارف بينهم في قضاياهم المعاشيّة

13

والحياتيّة، وأُخرى يفسّر بأنّه لو تقمّص أحدهم قميص المولويّة لجعل كلام أهل الخبرة حجّة على رعيّته في الأُمور الراجعة بينه وبينهم بما هو مولى وبما هم عبيد.

وقد يورد على التفسير الأوّل أنّ العقلاء في الأُمور الهامّة الحياتيّة والمصيريّة، كدوران الأمر بين موت ولده بالدواء الذي أعطاه الطبيب أو شفائه، لا يلتجئون لدى الإمكان إلى التقليد، وأحكام الشريعة تكون من الأُمور التي هي فوق القضايا الحياتيّة والمصيريّة؛ لأنّه تتبعها الجنّة والنار، والاهتمام بهما أشدّ من الاهتمام بحياة الولد وموته.

والجواب: أنّ الجنّة والنار نتيجة التنجيز والتعذير الثابتين على جواز التقليد وعدمه، فهما لا يؤثّران على جواز التقليد وعدمه، والعقلاء بطبعهم يتعاملون مع أهداف الشارع _ وهي الملاكات لا الجنّة والنار _ كتعاملهم مع أهدافهم الاعتياديّة في حياتهم، أي يفترضون صحّة التقليد فيها مثلاً، فلو لم يرض الشارع بذلك كان عليه الردع.

وسيرة المتشرّعة تكشف في المقام عن طريق أنّه لولا سيرتهم على التقليد في الأُمور الشرعية _ وإن کانت نابعةً عن الارتكاز العقلائي _ لكان لديهم طريق آخر للعمل بالأحكام، من التزامهم جميعاً بالاحتياط أو مراجعة الإمام مباشرةً أو الاستنباط أو غيرذلك، ولو كان كذلك لبان.

14

والثاني: الروايات الدالّة على ذلك من قبيل:

1_ ما في مرسلة الاحتجاج وفي التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري؟ع؟: «فأمّا من كان من الفقهاء صائناً لنفسه حافظاً لدينه مخالفاً على هواه مطيعاً لأمر مولاه فللعوام أن يقلّدوه، وذلك لا يكون إلّا بعض فقهاء الشيعة لا كلّهم».

2_ صحيحة أحمد بن إسحاق عن أبي الحسن(علیه السلام): «قال: سألته وقلت: من أُعامل، وعمّن آخذ، وقول من أقبل؟ فقال: العمري ثقتي، فما أدّى إليك عنّي فعنّي يؤدّي، وما قال لك عنّي فعنّي يقول، فاسمع له وأطع، فإنّه الثقة المأمون. قال: وسألت أبا محمد(علیه السلام) عن مثل ذلك فقال: العمري وابنه ثقتان، فما أدّيا إليك عنّي فعنّي يؤدّيان وما قالا لك فعنّي يقولان، فاسمع لهما وأطعهما، فإنّهما الثقتان المأمونان...».

3_ رواية إسحاق بن يعقوب التي تنقل التوقيع عن الإمام صاحب الزمان(عجل الله تعالى فرجه الشريف) وفيها: «وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة


(1) وسائل الشيعة، ج27، ص131، الباب 10 من أبواب صفات القاضي وما يجوز أن يقضي به، ح20.

(2) المصدر السابق، ص138، الباب 11 من أبواب صفات القاضي وما يجوز أن يقضي به، ح4.

15

حديثنا فإنّهم حجّتي عليكم وأنا حجّة الله» . وفي السند إسحاق بن يعقوب، وقد تحدّثنا عنه في كتاب أساس الحكومة الإسلاميّة وكتاب ولاية الأمر في عصر الغيبة.

4_ صحيحة عبدالله بن يعفور قال: «قلت لأبي عبدالله(علیه السلام): إنّه ليس كلّ ساعة ألقاك، ولا يمكن القدوم، ويجيء الرجل من أصحابنا فيسألني وليس عندي كلّ ما يسألني عنه، فقال: ما يمنعك من محمد ابن مسلم الثقفي، فإنّه سمع من أبي وكان عنده وجيهاً».

5_ صحيحة يونس بن يعقوب قال: «كنّا عند أبي عبدالله(علیه السلام) فقال: أما لكم من مفزع؟! أما لكم من مستراح تستريحون إليه؟! ما يمنعكم من الحارث بن المغيرة النضري؟!».

6_ رواية علي بن المسيّب الهمداني قال: «قلت للرضا(علیه السلام): شقّتي بعيدة، ولست أصل إليك في كلّ وقت، فممّن آخذ معالم ديني؟ قال: من زكريّا بن آدم القمّي المأمون على الدين والدنيا. قال عليّ بن المسيّب: فلمّا انصرفت قدمنا على زكريّا بن آدم فسألته عمّا احتجت


(1) المصدر السابق، ص140، ح9.

(2) المصدر السابق، ص144، ح23.

(3) المصدر السابق، ح24.

16

إليه» . وفي السند أحمد بن الوليد.

7_ ما عن عبد العزيز بن المهتدي والحسن بن عليّ بن يقطين جميعاً عن الرضا(علیه السلام) قال: «قلت: لا أكاد أصل إليك أسألك عن كلّ ما أحتاج إليه من معالم ديني، أفيونس بن عبدالرحمن ثقة آخذ عنه معالم ديني؟ فقال: نعم» . والسند تام بغضّ النظر عن وجود محمد بن نصير فيه.

أمّا محمد بن نصير فهو مشترك بين الكشّي الثقة والنميري الخبيث الملعون على لسان محمد بن عثمان العمري(رحمه الله).

وقد قيل: إنّ محمد بن نصير هذا منصرف إلى الكشّي بقرينة أنّ العيّاشي الراوي لهذا الحديث قد روى حديثاً آخر ورد في مستهلّ رجال الكشّي، رواه أبو عمرو بن عبد العزيز الكشّي وهو _ أعني العيّاشي _ عن محمد بن نصير، ونحن نعلم أنّ محمد بن نصير الذي يروي عنه الكشّي هو محمد بن نصير الكشّي.

بل قيل: إنّ محمد بن نصير في هذه الطبقة ينصرف إلى الكشّي؛


(1) وسائل الشيعة، ج27، ص146، الباب11 من أبواب صفات القاضي وما يجوز أن يقضي به، ح27.

(2) المصدر السابق، ص147، ح33.

(3) راجع معجم رجال الحديث، ج17، ص299، ترجمة محمد بن نصير.

17

لاستبعاد رواية الشيعة عن النميري الذي كفر وألحد.

إلّا أنّ القرينة الثانية ضعيفة؛ لاحتمال أن يكون العيّاشي قد روى هذه الرواية عنه قبل اشتهار انحرافه، مع أنّه قد عُرف العيّاشي بنقله عن الضعفاء.

والقرينة الأُولى لا يبعد كونها تامة؛ فإنّ الرواية التي رواها الكشّي والعيّاشي معاً عن محمد بن نصير تدل من ناحية أنّهما قصدا شخصاً واحداً، ولا شكّ أنّ مقصود الكشّي هو محمد بن نصير الكشّي. ومن ناحيةٍ أُخرى نحدس أنّ مقصود العيّاشي من محمد بن نصير الذي يذكره بلا قرينة دائماً هو واحد.

8_ ما عن عبد العزيز بن المهتدي قال: قلت للرضا(علیه السلام): «إنّ شقّتي بعيدة، فلست أصل إليك في كلّ وقت، فآخذ معالم ديني عن يونس مولى آل يقطين؟ قال: نعم» . وفي السند جبرئيل بن أحمد


(1) المصدر السابق.

(2) الرواية موجودة في أوائل اختيارات الشيخ لرجال الكشّي وموجودة في معجم رجال الحديث، ج3، ص319 في ترجمة بشر أو بشير الهمداني.

(3) وسائل الشيعة، ج27، ص148، الباب 11 من أبواب صفات القاضي وما يجوز أن يقضي به، ح35.

18

الذي روى الكشّي هذه الرواية عنه.

9_ ما عن أحمد بن حاتم بن ماهويه قال: «كتبت إليه _ يعني أبا الحسن الثالث(علیه السلام) _ أسأله عمّن آخذ معالم ديني، وكتب أخوه أيضاً بذلك، فكتب إليهما: فهمت ما ذكرتما فاصمدا في دينكما على كلّ مسنّ في حبّنا وكلّ كثير القدم في أمرنا، فإنّهما كافوكما إن شاء الله تعالى» . والسند غير تام.

10_ ما عن الفضل بن شاذان عن عبد العزيز بن المهتدي _ وكان خير قمّي رأيته، وكان وكيل الرضا(علیه السلام) وخاصّته _ قال: سألت الرضا(علیه السلام) «فقلت: إنّي لا ألقاك في كلّ وقت، فعمّن آخذ معالم ديني؟ فقال: خذ عن يونس بن عبد الرحمن» . وفي السند علي بن محمد القتيبي الذي روى الكشّي هذه الرواية عنه.

11_ ما عن شعيب العقرقوفي قال: «قلت لأبي عبدالله(علیه السلام): ربّما احتجنا أن نسأل عن الشيء فمن نسأل؟ قال: عليك بالأسدي يعني أبا بصير» . وسند الحديث تام.


(1) وسائل الشيعة، ج27، ص151، الباب 11 من أبواب صفات القاضي وما يجوز أن يقضي به، ح45.

(2) المصدر السابق، ص148، ح34.

(3) المصدر السابق، ص142، ح15.

19

ثم إنّ نسبة الارتكاز إلى الروايات قد تختلف من مورد لآخر، وتكفينا في كلّ مورد تماميّة الإطلاق في أحدهما.

ولو تمّ إطلاق الارتكاز في مورد ولم يتمّ إطلاق الروايات في ذاتها فقد يقال: إنّ إطلاق الارتكاز يحقّق إطلاقاً للروايات؛ لأنّها بعد أن كانت منصرفة إلى إمضاء الارتكاز لا التعبّد البحت يتكوّن لها ظهور في إمضاء الارتكاز بعرضه العريض.

أمّا لو انعكس الأمر في مورد ما، بأن تمّ إطلاق الروايات في ذاتها ولم يتمّ إطلاق الارتكاز، فإن كان للارتكاز جانب سلبي بأن كان يرى أنّه لا ينبغي للمتقمّص قميص المولويّة تشريع التقليد في المورد الفلاني فلا محالة يؤثّر على إطلاق اللفظ ويصرفه عن ذاك المورد، أمّا لو كان العقلاء يرون أنّه من المعقول أن يشرّع المتقمّص قميص المولويّة التقليد في المورد الفلاني مثلاً وإن لم يكن لديهم ارتكاز جواز التقليد في ذاك المورد فهذا لا يبطل إطلاق اللفظ.

أدلّة عدم جواز التقليد

ثم إنّ هناك طائفتين من الأدلّة اللفظية قد تعارض بها الروايات الدالّة على جواز التقليد أو تجعل رادعة عن السيرة والارتكاز العقلائيّين:

الأُولى: ما ورد من النهي عن العمل بالظنّ أو بغير العلم من قبيل

20

الآيتين المباركتين: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ ، و﴿إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقَّ شَيْئاً﴾.

وقد يجاب عليها بأخصّية روايات التقليد عنها، وبعدم كفاية الإطلاق للردع عن تلك السيرة أو الارتكاز المحكمين.

والواقع أنّ مفاد تلك الأدلّة هو النهي عن كون المُعتمَد ورأس الخيط الذي يكون بيد الإنسان غير العلم، وهذا أمر بديهي لا يشكّ فيه عاقل، ومن يدّعي جواز التقليد يدّعي اعتماده على العلم بجوازه، فهذا لا يُردع عنه بأدلّة النهي عن العمل بغير العلم.

الثانية: ما دلّ على النهي عن التقليد من قبيل:

قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قِيْلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أََنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلَا يَهْتَدُونَ﴾ .

وقوله تعالی: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلَا يَهْتَدُونَ﴾.


(1) الإسراء: 36.

(2) يونس: 36.

(3) المائدة: 104.

(4) البقرة: 170.

21

وأُجيب على ذلك بكونها واردة في أُصول الدين.

ولكن بالإمكان أن يقال: إنّ التعليل في الآيتين علامة الإطلاق.

والواقع أنّ هذه الآيات قد وضّحت عدم تماميّة موضوع التقليد المرتكز الذي هو عبارة عن رجوع الجاهل إلى العالم؛ لأنّ آباءهم لا يعلمون شيئاً أو لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون.

ثم العامّي الذي يلتجأ إلى التقليد إمّا أن يعتمد على بعض المطالب الماضية، كالارتكاز العقلائي ممّا يورث له العلم ولو لأجل الغفلة عن المناقشات التي يمكن أن تكون فيها أو عن احتمال الردع، أو يعتمد على كلمات الفقهاء الذين أفتوا بجواز التقليد من باب إيراثها للعلم والاطمئنان له لا من باب التعبّد.

تقليد من له ملكة الاستنباط

الأمر الثاني: في تقليد من له ملكة الاستنباط، أي: أنّه هل يجوز له ترك الاستنباط واستبدال ذلك بتقليد من استنبط فعلاً أو لا؟

لو لاحظنا الروايات مع غضّ النظر عن فرض تأثير الارتكاز عليها سلباً أو إيجاباً فثبوت الإطلاق في أكثرها لفرض تقليد من له ملكة الاستنباط


(1) راجع التنقيح، ج1، بحث الاجتهاد والتقليد، ص 90 - 91.

22

وعدم محاولة الاستنباط بالفعل مشكل، أو منتفٍ، ما عدا التوقيع «فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا»، وهذا التوقيع بغضّ النظر عن فرض تأثير الارتكاز عليه لا بأس بفرض إطلاقه لمن له ملكة الاستنباط.

أمّا لو لاحظنا الارتكاز فقد يقال: إنّ الارتكاز إنّما وقع على رجوع الجاهل إلى العالم، وواجد الملكة ليس جاهلاً، بل هو عالم لدى العرف، فكيف يرجع إلى عالمٍ آخر بالتقليد؟! فلو فرضنا شخصاً مستنبطاً بالفعل قد كتب رسالته العملية وكان بالفعل ناسياً لبعض فتاواه أفهل يقال: إنّ هذا الرجل جاهل، وأنّه يجوز له التقليد فيما نسيه مع ترك مراجعة رسالته العملية بلا عذر؟! أو ليس ما نحن فيه شبيهاً بهذا؟!

والواقع أنّنا لسنا أمام نصّ عبّر بتعبير رجوع الجاهل إلى العالم حتّى نبحث عن أنّ واجد الملكة غير المستنبط بالفعل هل يسمّى جاهلاً أو عالماً، وإنّما نحن أمام الارتكاز، فالمهمّ أن نرى _ بغضّ النظر عن التسميات _ أنّ الارتكاز هل يساعد على رجوع من له ملكة الاستنباط إلى من هو مستنبط بالفعل أو لا؟

ولو فرض أنّ علينا معرفة أنّ صاحب الملكة هل هو عالم أو جاهل فلعلّه من الواضح أنّ العالم اسم لمن له العلم الفعلي، وصاحب الملكة

23

الذي لم يستنبط الحكم لا يزال يكون جاهلاً بالحكم، فلا يمكن أن نثبت عن هذا الطريق عدم جواز التقليد له، وإنّما المهم كما قلنا: إنّ الارتكاز القائل بالرجوع إلى أهل الخبرة هل يشمل هذا الشخص أو لا يشمله؟

ولعلّه من نافلة القول: أنّ البحث ينبغي أن يكون على مستوى الارتكاز العقلائي دون سيرة المتشرّعة؛ إذ لا دليل يكشف لنا تفاصيل سيرة المتشرّعة المعاصرة للمعصوم.

وعلى أيّة حال فقد يقال بثبوت الارتكاز على جواز التقليد له ما دام غير مستنبط بالفعل؛ لأنّه يكون بالفعل جاهلاً فهو داخل في مصاديق كبرى رجوع الجاهل إلى العالم.

كما قد يقال العكس، أي: إنّ هذا الرجل خارج عن تحت هذه القاعدة قياساً له بالناسي الذي يمكنه أن يراجع رسالته العملية الموضوعة في الرفّ كي يتذكّر ما استنبطه لكنّه لا يراجع الرسالة ويصرّ على التقليد، أفليس هذا خلاف الارتكاز؟ أو ليس هذا مع ما نحن فيه سواء؟

ويمكن أن يذكر في المقام أحد تفصيلين:

الأوّل: أنّ المقلَّد يكون له عادةً مستوى من الركون إلى قول الفقيه، كركون المريض إلى قول الطبيب وغير ذلك من موارد الرجوع إلى أهل الخبرة. وهذا الذي حصلت له ملكة للاستنباط قد يفترض أنّه زال

24

عنه _ نتيجة لهذا المقام العلمي _ ذاك الركون إلى قول غيره من الذين استنبطوا بالفعل، فعندئذٍ لا يساعد الارتكاز على تقليده لغيره، بل عليه أن يستنبط أو يحتاط. وقد يفترض أنّه لم يزل عنه ذاك الركون فيساعد الارتكاز على تقليده.

أمّا ما شبّهنا به مورد البحث من المستنبط الفعلي الذي يجعل رسالته العملية في الرفّ ولا يراجعها فيما ينساه ويكتفي بالتقليد في مورد نسيانه، فمن الواضح أنّ هذا الشخص أقرب إلى عدم الركون ممّن هو واجد لمجرّد ملكة الاستنباط.

والثاني: أنّ واجد الملكة قد يترك الاستنباط كسلاً، وأُخرى يتركه لانشغاله بأُمور أُخرى معاشية مثلاً، فقد يقال: إنّ الثاني واجد لنفس النكتة العقلائية الكامنة من وراء قاعدة الرجوع إلى أهل الخبرة، وتلك النكتة عبارة عن تقسيم التخصّصات تسييراً للحياة؛ إذ لو فرض أنّه كان على كلّ أحد أن يشتمل على كلّ التخصّصات المحتاج إليها لشلّت عجلة الحياة عن السير، فهذا الثاني يجوز له التقليد بخلاف الأوّل.

والقدر المتيقّن أنّ الجامع لكلا العنوانين _ أعني أوّلاً بقاء حالة الركون في نفسه إلى قول المستنبط، وثانياً حاجته إلى التقليد لانشغاله بسائر الأُمور الحياتية لا لأجل الكسل وحده _ يساعد الارتكاز على

25

تقليده للمستنبطين، وفاقد العنوانين لا يساعد الارتكاز على تقليده، وما بينهما متوسطات.

ولو وسوس أحد في مساعدة الارتكاز على تقليد واجد العنوانين فلا أقلّ من وضوح أنّ العقلاء لا يمانعون مَن تَقَمَّصَ قميص المولويّة عن جعله الحجّية لكلام أهل الخبرة بالنسبة لهذا الشخص وعندئذٍ لا مانع من التمسّك بإطلاق قوله: «فإنّهم حجّتي عليكم»، بل لعلّ أحد الأمرين أعني الركون أو الحاجة الحياتيّة كافٍ في عدم الممانعة هذه وبالتالي في الرجوع إلى الإطلاق.

وظيفة المتجزّي

الأمر الثالث: في أنّ المتجزّي هل يعمل بما استنبطه أو عليه أن يقلّد أو يحتاط؟

إنّ حديثنا عن ذلك يأتلف من أمرين:

الأوّل: إنّ الاستنباط أو الإفتاء يكون بمجموع شيئين:

أحدهما: استفراغ الوسع على مستوى القُدُرات العلميّة في الوقت الحاضر للاستنباط، فلو أُحيي اليوم الشيخ الطوسي أو السيّد المرتضى أو العلّامة وأضرابهم من الأعاظم قد يرجعون اليوم مقلّدين إلى أن يصلوا

26

إلى مستوى الاستنباط مرّةً أُخرى؛ وذلك لأنّهم قد لا يكونون منذ البدء قادرين على استفراغ الوسع بمستوى القدرات العلمية في الوقت الحاضر لتجدّد كثير من التدقيقات العلمية الدخيلة في الاستنباط.

وثانيهما: حصول اليقين أو الإطمئنان بما ينتهي إليه من النتيجة العملية من حكم واقعي أو ظاهري أو وظيفة عملية، وإلّا كان إفتاء داخلاً في كبرى الإفتاء بغير علم، وكان مشمولاً للنهي الوارد في مثل قوله تعالى: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾.

والمتجزّي لو طوى هاتين المرحلتين فلا معنى لعدم حجّية فتواه لنفسه؛ فإنّها فتوى بالعلم.

والثاني: إنّ هناك عقبتين عظيمتين أمام إفتاء المتجزّي لا تجعلان وصوله إلى الفتوى مستحيلاً، ولكن توجبان لنا التحفّظ الكبير في الإيمان بحصولها، فنحن لا نقبل بحصول التجزّي إلّا باحتياطٍ وتحفّظٍ كبيرين:

الأُولى: التشابك العجيب الموجود في المدارك والأدلّة والروايات والدقائق العلمية فيما بين الأبواب المختلفة، فقد تجد رواية أو مدركاً أو نكتة علميّة في باب تنبّهك على أمر من باب آخر لم يكن بالحسبان


(1) الإسراء: 36.

27

دخل فيما ذلك الباب عليه؛ وذلك إمّا بأن تكون تلك الرواية أو النكتة مؤثّرة في حكم الباب الآخر أو يتّفق لها مجرّد لفت نظرك ولو صدفة على ما يؤثّر في الباب الآخر؛ ولذلك ينبغي للمفتي أن تكون له نحو إحاطة بالأبواب المختلفة والتي لا تكون عادةً إلّا لمن هو مطلق في ملكة الاستنباط إطلاقاً عرفيّاً.

والثانية: إنّ الشيء الثاني من الشيئين اللذين ذكرناهما كشرط للوصول إلى الفتوى وهو حصول اليقين أو الاطمئنان النفسي يكون أبعد تحقّقاً في نفس المتجزّي منه في نفس الفقيه المطلق؛ وذلك أوّلاً لأنّ مقدار التمرين له دخل كبير في القدرة على الاستنباط، وتمرين المتجزّي يكون عادةً أقلّ من تمرين الفقيه المطلق. وثانياً لأنّ ما مضت الإشارة إليه من التشابك بين الأبواب في المدارك والنكات تجعل وصول المتجزّي إلى اليقين أو الاطمئنان النفسي أصعب من الفقيه المطلق، وكلّما ضاقت دائرة التجزّي برزت هاتان العقبتان بشكل أوضح.

وعلى أيّة حال فمهما استطاع المتجزّي أن يجتاز هاتين العقبتين صحّ له أن يعمل بفتوى نفسه، ومهما عجز عن اجتيازهما لم تكن له فتوى، ولكن عدم ثبوت الفتوى له لا يعني حتماً جواز التقليد له؛ وذلك لأنّه قد يتّفق أنّ استنباطه الذي استنبطه _ ولكنّه لم يستطع

28

تحصيل ركون النفس إليه _ يمنعه عن الركون إلى فتوى من خالفه بحيث يفقد التقليد ما ينبغي أن تكون له من الطريقية والمرآتية، فإذا صار الأمر كذلك اضطرّ إلى الاحتياط.

ثم إنّ المشكلتين اللتين أبرزناهما أمام فتوى المتجزّي تجعلان فكرة التجزّي فكرة مرنة قد تصحّ وقد لا تصحّ، لا كما قد يقال من استحالة التجزّي؛ لأنّ الملكة بسيطة لا تتجزّء، ولا كما قد يقال من ضرورة التجزّي لاستحالة الطفرة.

وقد أُجيب على الأوّل: بأنّ الملكة والقدرة وإن كانت بسيطة ولكن مصبّها _ وهي استنباط الأحكام _ متعدّد ومختلف باختلاف الموارد في السهولة والصعوبة، أو في مقدار المراس الذي يمتلكه صاحب الملكة في ذلك الحقل.

وقد عُلّق على الثاني: بأنّ هذه الاستحالة استحالة عادية لا عقليّة؛ إذ لا مانع من حصول ملكة الاجتهاد المطلق دفعة واحدة ولو بالإعجاز والإفاضة من الله تعالى.

أقول: إنّ حالة الركون التي تحصل للفقيه بفتواه قد لا تحصل للشخص إلّا في الأخير، أي: حينما يصبح فقيهاً مطلقاً؛ لما تكتمل


(1) راجع التنقيح، ج1، بحث الاجتهاد والتقليد، ص33 _ 35.

29

عنده وقتئذٍ من سعة الاطلاع وكثرة المراس.

ثم إنّ الحديث في التجزّي والإطلاق منصبّ عادة على الملكة، أمّا بلحاظ الفعلية فعادة يكون الإطلاق مسبوقاً بالتجزّي ويكون رأي المتجزّي حجّة لنفسه لا محالة، ولكن البيان الذي شرحناه ليس خالياً عن التأثير نهائيّاً في جانب الفعلية أيضاً.

ثم إنّ المشكلة تبرز بشكل أقوى لدى من يحاول تقليد المتجزّي منها لدى نفس المتجزّي، فيصعب في كثير من الأحيان للمقلّد الملتفت الوثوق بالإحاطة الكافية للمتجزّي على ما له دخل في استنباط ما استنبطه أو المراس الكافي في الاعتماد على ما استنبطه.

ونفس المشكلتين تبرزان كثيراً في قضائه أيضاً.

وهناك روايتان في باب القضاء قد يستفاد من إحديهما أنّ المنصوب من قبل الإمام(علیه السلام) للقضاء هو الفقيه المطلق وقد يستفاد من الأُخرى أنّ المنصوب من قبله يشمل المتجزّي.

فالأُولى: مقبولة عمر بن حنظلة التي ورد فيها: «...ينظران من كان منكم ممّن قدر روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا، فليرضوا به حكماً، فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً...».


(1) وسائل الشيعة، ج27، ص13، الباب الأول من أبواب صفات القاضي وما يجوز أن يقضي به، ح5.

30

والثانية: رواية أبي خديجة التامّة سنداً عن الصادق(علیه السلام): «إيّاكم أن يحاكم بعضكم بعضاً إلى أهل الجور، ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضايانا، فاجعلوه بينكم، فإنّي قد جعلته قاضياً فتحاكموا إليه».

ولو ثبت شرط الإطلاق بالحديث الأوّل فظاهره إطلاق الفعلية لا الملكة.

والصحيح أنّ الحديثين معاً ينظران إلى النكتة الارتكازية وهي المعرفة بالأحكام بالقدر الذي يُركن إليه في مورد المرافعة.

على أنّ رواية أبي خديجة وردت بصياغة أُخرى تشبه المقبولة، وهي عبارة عمّا ورد في الوسائل عن محمد بن الحسن بإسناده عن محمد ابن علي بن محبوب عن أحمد بن محمد عن الحسين بن سعيد عن أبي الجهم عن أبي خديجة قال: «بعثني أبو عبدالله(علیه السلام) إلى أصحابنا فقال: قل لهم إيّاكم إذا وقعت بينكم خصومة أو تداری في شيء من الأخذ والعطاء أن تحاكموا إلى أحد من هؤلاء الفسّاق، اجعلوا بينكم رجلاً قد عرف حلالنا وحرامنا، فإنّي قد


(1) وسائل الشيعة، ج27، ص13، الباب الأول من أبواب صفات القاضي وما يجوز أن يقضي به، ح5.

31

جعلته عليكم قاضياً، وإيّاكم أن يخاصم بعضكم بعضاً إلى السلطان الجائر».

والمكنّون في كتب الرجال بأبي الجهم عبارة عن شخصين:

أحدهما: بكير بن أعين، ولو كنّا نحن ومن نقل عنه أبو الجهم في روايتنا هذه وهو أبو خديجة لكنّا نقول: يحتمل في المقام أن يكون هو المقصود، فإنّ وضع الطبقة يناسب ذلك؛ لأنّ أبا خديجة من أصحاب الصادق والكاظم؟عهما؟، وبكير بن أعين من أصحاب الباقر والصادق؟عهما؟، وورد في عبارة للشيخ الطوسي(رحمه الله) في الفهرست في ترجمة زرارة بعد عدّ إخوة له منهم بكير قوله: «ولهم روايات عن علي ابن الحسين...»، إلّا أنّنا لم نجد رواية له عن علي بن الحسين(علیه السلام)، وعلى أيّ حال فأبو خديجة وإن كان أعلى طبقة من بكير بن أعين؛ لأنّ بكيراً من أصحاب الباقر والصادق؟عهما؟، وأبو خديجة من أصحاب الصادق والكاظم؟عهما؟، ولكن ما داما معاً قد أدركا الصادق(علیه السلام) فاحتمال رواية بكير عن أبي خديجة وارد؛ إذ لم نجزم أنّ بكيراً مات قبل زمان أبي خديجة.


(1) المصدر السابق، ص139، الباب11 من أبواب صفات القاضي وما يجوز أن يقضي به، ح6.

32

وبكير بن أعين يمكن أن يستدلّ على وثاقته:

أوّلاً: بما رواه الكشّي في ترجمة إخوة زرارة بسند تام عن الحسن بن علي بن يقطين قال: «حدّثني المشايخ أنّ حمران زرارة وعبدالملك وبكيراً وعبدالرحمان بن أعين كانوا مستقيمين...».

وثانياً: برواية ابن أبي عمير عنه بناءً على ما ورد في مشيخة الصدوق من قوله: «وما كان فيه عن بكير بن أعين فقد رويته عن أبي؟رض؟ عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن محمّد بن أبي عمير عن بكير بن أعين وهو كوفيّ يكنّى أبا الجهم من موالي بني شيبان، ولمّا بلغ الصادق(علیه السلام) موت بكير بن أعين قال: أما والله لقد أنزله الله؟عز؟ بين رسوله وأمير المؤمنين صلوات الله علیهما».

إلّا أنّ هذا النقل يكون غريباً جدّاً إذا جمعنا بين ما قالوا من أنّ بكير بن أعين مات في زمان الإمام الصادق(علیه السلام) وما كتبه الشيخ(رحمه الله) في ترجمة محمد بن أبي عمير من قوله: «وأدرك من الأئمّة ثلاثة: أبا إبراهيم موسى بن جعفر؟عهما؟ ولم يرو عنه، وروی عن أبی الحسن الرضا(علیه السلام) وروى عنه أحمد بن محمد...» . فإنّ هذا يدل على أنّه لم يدرك الصادق(علیه السلام)


(1) راجع معجم رجال الحديث، ج6، ص259.

(2) من لا يحضره الفقيه، ج4، ص441، بیان الطريق إلی بکیر بن أعین.

(3) الفهرست، ص404.

33

وكذلك ما كتبه النجاشي في ترجمة محمد بن أبي عمير من قوله: «لقى أبا الحسن موسى(علیه السلام) وسمع منه أحاديث...» ، فإنّ هذا أيضاً ظاهر في أنّه لم يلق الصادق(علیه السلام).

وقد يكون الحلّ هو حمل محمد بن أبي عمير الوارد في هذا السند على محمد بن أبي عمير بيّاع السابري الذي كان من أصحاب الصادق(علیه السلام) ومات في زمن الكاظم(علیه السلام)، لا على محمد بن أبي عمير الأزدي الذي تدل روايته على وثاقة من يروي عنه، إلّا أنّ المشكلة عندئذٍ تقع في نقل إبراهيم بن هاشم عن ابن أبي عمير؛ فإنّ ابن أبي عمير هذا مات في زمان الكاظم(علیه السلام) وإبراهيم بن هاشم لقي الرضا(علیه السلام).

وثانيهما: ثوير بن أبي فاختة، وهذا أيضاً محتمل في المقام لو بقينا نحن وروايته عن أبي خديجة؛ لأنّه قد عدّه الشيخ من أصحاب السجّاد والباقر والصادق؟عهم؟ فيمكن روايته عن أبي خديجة الذي كان من أصحاب الصادق والكاظم؟عهما؟، وقد ورد في البحار ، حديث عن المحاسن عن أبيه عن هارون بن الجهم عن ثوير بن أبي فاختة عن


(1) رجال النجاشي، ص326.

(2) بحار الأنوار، ج83، ص259.

(3) المحاسن، ج2، ص269.

34

أبي خديجة عن أبي عبدالله(علیه السلام).

وقد يستدلّ على وثاقته بما رواه الكليني عن أحمد بن عبدالله عن أحمد بن محمد عن أبيه عن ابن أبي عمير عن أبي الجهم عن فضيل الأعور قال: «شهدتُ معاذ بن كثير قال لأبي عبدالله(علیه السلام): إنّي قد أيسرت فأدع التجارة؟ فقال: إنّك إن فعلت قلّ عقلك أو نحوه».

فإذا حمل ابن أبي عمير على الأزدي لا السابري بقرينة رواية محمد ابن خالد البرقي عنه وصرف أبو الجهم عن بکير بن أعين لأنّه مات في زمن الصادق(علیه السلام) فلا يمكن رواية ابن أبي عمير عنه، فيتعيّن مثلاً أن يكون أبو الجهم في المقام عبارة عن ثوير بن أبي فاختة الذي لم يذكر لنا تاريخ وفاته فتثبت بذلك وثاقته.

إلّا أنّ الشأن أوّلاً في توثيق أحمد بن عبدالله الذي روى عنه الكليني، وثانياً في قبول إمكان رواية ابن أبي عمير عن ثوير بن أبي فاختة الذي هو في مستوى بكير بن أعين تقريباً من حيث الطبقة والذي كان من أصحاب السجّاد(علیه السلام) أيضاً.

ثم إنّه لا يبعد أن يكون شخص ثالث أيضاً لا نعرفه مكنّى بأبي الجهم بقرينة رواية عدد من المتأخّرين عن أبي الجهم، والذين يقطع


(1) الكافي، ج5، ص148، باب فضل التجارة والمواظبة علیها من كتاب المعيشة، ح4.

35

بعدم روايتهم عن بكير بن أعين؛ لما عرفته من التصريح بوفاته في زمن الإمام الصادق(علیه السلام)، ويحدس بعدم روايتهم عن ثوير بن أبي فاختة المعاصر تقريباً لبكير بن أعين.

ومن تلك الروايات روايتنا، حيث رواها الحسين بن سعيد عن أبي الجهم وحسين بن سعيد من أصحاب الرضا والجواد والهادي؟عهم؟، فيبعد جدّاً روايته عن ثوير بن أبي فاختة الذي أدرك السجّاد(علیه السلام)، ولا يحتمل روايته عن بكير بن أعين الذي مات في زمان الصادق(علیه السلام). وبه يصبح أبو الجهم في المقام مجهولاً ويسقط السند.

اللّهم إلّا أن يدّعي أحد بالوثوق بوحدة من روى عنه الحسين بن سعيد بعنوان أبي الجهم ومن روى عنه ابن أبي عمير بعنوان أبي الجهم، باعتبار وحدة الطبقة بين ابن أبي عمير والحسين بن سعيد، وباعتبار عدم ذكر قرينة معيّنة في كلام أيّ واحد منهما. وتحصيل هذا الوثوق لا يخلو من إشكال.

ثم إنّ ثوير بن أبي فاختة له حفيد اسمه هارون بن الجهم وهو ثقة وله كتاب وكان من أصحاب الإمام الصادق(علیه السلام)، ويظهر من بعض الروايات أنّه كان يكنّى بأبي الجهم، من قبيل ما ورد في الوسائل عن أحمد بن


(1) وسائل الشيعة، ج11، ص408، الباب 29 من أبواب آداب السفر، ح 7.

36

أبي عبدالله البرقي في المحاسن عن أبيه عن أبي الجهم هارون بن جهم عن موسى بن بكر الواسطي قال: «أردت وداع أبي الحسن(علیه السلام)...» ، فلو سلّمنا ذلك واعتبرنا انصراف أبي الجهم في سند رواية أبي خديجة التي نتكلّم عنها إليه ولو باعتباره ذا كتاب صحّ سند الرواية.

ولو ناقشنا في الانصراف ولو باعتبار أنّ تسمية هارون بن الجهم في بعض موارد قليلة بأبي الجهم لا تُثبت كونه معروفاً بهذه الكنية رغم أنّه لم يكنّ بذلك في شيء من كتب التراجم والرجال فكيف يدّعى انصراف كلمة أبي الجهم في هذه الطبقة إليه؟! لم يتمّ سند الرواية.

وظيفة غير الأعلم

الأمر الرابع: في وظيفة غير الأعلم. وقد بحثنا ذلك مفصّلاً في كتابنا مباحث الأُصول الجزء الأوّل من القسم الثاني عن الشهيد الصدر(رحمه الله) مع بعض التعليقات عليه، فنرجّح هنا إحالة الأمر إلى هناك، والاقتصار هنا على ذكر نكتتين:

الأُولى: أنّه لو كانت مخالفة الأعلم لغير الأعلم أوجبت فقݨْد ركون


(1) المحاسن، ج2، ص356.

(2) مباحث الأُصول، ج1، ص196.