145

الزواج الدائم من الكتابية

147

بسم الله الرحمن الرحيم*

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله آل الله.

هل يجوز الزواج الدائم بالكتابيّة(1) أو لا؟

لا إشكال في وجود روايات تدل على جواز الزواج بالكتابية من قبيل صحيحة أبي ولّاد قال: سمعت أبا عبدالله(علیه السلام)يقول: «المسلم يرث امرأته الذمية وهي لا ترثه»(2).

وبما أنّ الإرث لا يكون إلّا في الزواج الدائم فالمقصود بهذه الصحيحة هو الزواج الدائم.

ولكن لو احتمل اختصاصها بما لو كانا كتابيّين ثم أسلم الزوج لم يمكن التمسّك بالإطلاق لفرض تزویج المسلم ابتداءً الكتابية؛ لأنّها واردة مورد حكم آخر وهو الإرث، فلا إطلاق لها في تحقيق موضوعها.

 

*. كتب في 15 رجب من سنة 1420هـ.

1. أعني بالكتابية اليهودية والمسيحية.

2. وسائل الشيعة، ج۲٦، الباب الأول من أبواب موانع الإرث من الكفر والقتل والرق...، ح۱؛ والباب16 من أبواب میراث الأزواج، ص230، ح1.

148

وصحيحة عبدالله بن سنان عن أبي عبدالله(علیه السلام)قال: «سأله أبي وأنا أسمع عن نكاح اليهوديّة والنصرانيّة. فقال: نكاحهما أحبّ إليّ من نكاح الناصبيّة»(1)، «وما أُحبّ للرجل المسلم أن يتزوّج اليهوديّة ولا النصرانيّة مخافة أن يتهوّد ولده أو يتنصّر»(2).

واحتمال اختصاصها بالمتعة بعيد؛ فإنّ الفرد البارز من النكاح والزواج لدى الإطلاق هو الدائم.

نعم، الصحيحتان مخصوصتان بزواج الكتابية دون زواج الكتابي، وكذلك الآية الشريفة لو فرض شمولها للنكاح الدائم، وهي قوله تعالى: ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾(3).

ونحوهما صحيحة معاوية بن وهب _ وعطف عليه غيره أو غيره من أصحابنا _ عن أبي عبدالله(علیه السلام)«في الرجل المؤمن يتزوّج اليهوديّة والنصرانيّة، فقال: إذا أصاب المسلمة فما يصنع باليهوديّة والنصرانيّة؟! فقلت له: يكون له فيها الهوى، قال: إن فعل فليمنعها من شرب الخمر، وأكل لحم الخنزير. واعلم أنّ عليه في دينه غضاضة»(4).

ونحوها روايات عدم جواز الزواج باليهودية والنصرانية على المسلمة وجواز العكس، وجواز تزویج اليهودية على النصرانية(5).

ولم أرَ ما يجوّز كون المرأة المسلمة تحت الكتابي إلّا في فرض إسلام الزوجة بعد ما كانا كتابيّين وبسند غير تام(6)، وهي معارضة بغيرها كصحيحة ابن محمد بن

 


(1) وسائل الشيعة، ج۲٠، ص552، الباب۱٠ من أبواب ما يحرم بالكفر ونحوه...، ح۱٠.

(2) المصدر السابق، ص534، الباب الأول من أبواب ما يحرم باالكفر ونحوه...، ح5.

(3) المائدة: ٥.

(4) وسائل الشيعة، ج۲٠، ص536، الباب۲ من أبواب ما يحرم بالكفر ونحوه...، ح۱.

(5) راجع المصدر السابق، ج۲٠، ص544 _ 545، الباب ۷ و۸ من أبواب ما يحرم بالكفر ونحوه....

(6) راجع المصدر السابق، ص546 _ 548، الباب۹ من أبواب ما يحرم بالكفر ونحوه...، ح۱ و۵ و۸.

149

أبي نصر(1)، وصحيحة عبدالله بن سنان(2).

وإذا جاز تزويج الكتابية ابتداءً ثبت بقاؤها على الزوجية لو أسلم الزوج بطريق أولى، وثبت أيضاً بقاء المسلمة إذا ارتدّت إلى دين الكتابي بالتعدّي العرفي.

نعم، ورد في خصوص المجوسي ما دل على إلحاقه بالمشرك، فلو أسلم المجوسي وبقيت الزوجة على تمجّسها وقف النكاح على انقضاء العدّة، كما في صحيحة منصور بن حازم(3).

ثم إنّه يوجد في مقابل أدلّة جواز نكاح الكتابية الدائم آية وروايات:

أمّا الآية فقوله تعالى: ﴿وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ﴾(4)، فرغم أنّ مورد نزولها هو المشركات، يقال: إنّ مقتضى إطلاقها شمولها للكتابيّات.

وأمّا الروايات فروايات النهي(5) أو عدم الانبغاء(6) على نقص في الثاني سنداً ودلالةً قابلة للحمل على الكراهة في مقابل أدلّة الجواز.

وإنّما المهمّ ما صرّحت بتفسير الكوافر في آية: ﴿لَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ﴾ بما يشمل الكتابيّات، وجعلت هذه الآية ناسخة لآية: ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوْتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ﴾(7).

 


(1) المصدر السابق، ص542، الباب۵ من أبواب ما یحرم بالكفر ونحوه...، ح٥.

(2) المصدر السابق، ص547، الباب۹ من أبواب ما يحرم بالكفر ونحوه...، ح4.

(3) المصدر السابق، ح۳.

(4) الممتحنة: ۱٠.

(5) كصحيحة محمد بن مسلم. وسائل الشيعة، ج۲٠، ص533، الباب الأول من أبواب ما يحرم بالكفر ونحوه...، ح2.

(6) كرواية محمد بن مسلم غير التامة سنداً. المصدر السابق، الباب2 من أبواب ما يحرم بالكفر ونحوه...، ح2 و۳.

(7) المصدر السابق، الباب الأول من أبواب ما يحرم بالكفر ونحوه...، ح1 و۷.

150

ورغم أنّ روايات الجواز أكثر قد يرجّح جانب الحرمة بالرجوع إلى الآية الشريفة: ﴿ولَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ﴾ مرجّحة أو مرجعاً.

ولكن في دلالة الآية غموض؛ لأنّ الإطلاق في كلمة ﴿الْكَوَافِرِ﴾ للكتابيّات إطلاق بحذف المتعلّق؛ إذ لم يذكر ݢݢݢأنّهنّ كوافر بأيّ شيء، هل بالله أو التوحيد مثلاً؟ فتختصّ الآية بالملحدات والمشركات، أو بنبوّة رسول الله(صلى الله عليه و آله) فتشمل الكتابيّات؟ وقد نقّحنا في محلّه أنّ وجود القدر المتيقّن في مقام التخاطب يبطل الإطلاق الذي يستفاد من حذف المتعلّق، والمتيقّن في المقام هو الكفر بالله أو التوحيد، فشمول الآية للكتابيّات غير واضح.

أمّا إثبات إطلاق الآية للكتابيّات بالرواية التي فرضت هذه الآية ناسخة لآية ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوْتُوا الْكِتَابَ﴾، فرجوع إلى السنّة، فلم تصبح الآية مرجّحة أو مرجعاً.

على أنّنا نكاد نطمئنّ بوجود خلل في هذه الرواية، فإنّنا لا نكاد نحتمل إمكان جعل هذه الآية ناسخة لتلك الآية، فالتاريخ ينقل: أنّ قوله(وجل عز): نزلت في قصّة صلح الحديبية، ونحن نعلم أنّ قصّة صلح الحديبية وقعت في أواخر ݢݢݢالسنة السادسة من الهجرة، وبحسب النقل التاریخي إنّ امرأة مسلمة من مكّة جاءت إلى رسول الله(صلى الله عليه و آله)، فأرسل الكفّار من يردّها إلى مكّة على أثر بند من بنود ورقة الصلح يصرّح بإرجاع من يهرب من مكّة إلى المسلمين في المدينة، وعدم إرجاع من يهرب من المسلمين إلى مكّة، فنزلت الآية المباركة(1).

ومضمون الآية شاهد واضح على صدق هذا التاريخ، حيث قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللّٰهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ﴾


(1) السيرة النبوية، ج2، ص326.

151

عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلݧُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلݧُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللّٰهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللّٰهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتݧݧُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنݧْفَقُوا وَاتَّقُوا اللّٰهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ﴾(1).

وأمّا الآية التي فُرضت منسوخةً بهذه الآية، فقد اختلفت التفاسير في وقت نزولها:

فهناك بعض الروايات تقول: إنّ سورة المائدة _ والتي فيها هذه الآية _ نزلت في أواخر حياة رسول الله(صلى الله عليه و آله)(2). وفي بعضها: «نسخت ما قبلها، ولم ينسخها شيء»(3).

وفي رواية صحيحة السند عن زرارة عن أبي جعفر(علیه السلام)قال: سمعته يقول: «جمع عمر بن الخطاب أصحاب النبيّ(صلى الله عليه و آله) وفيهم عليّ(علیه السلام)فقال: ما تقولون في المسح على الخفّين؟ فقام المغيرة بن شعبة فقال: رأيت رسول الله(صلى الله عليه و آله) يمسح على الخفّين. فقال عليّ(علیه السلام): قبل المائدة أو بعدها؟ فقال: لا أدري. فقال عليّ(علیه السلام): سبق الكتاب الخفّين، إنّما أُنزلت المائدة قبل أن يُقبض بشهرين أو ثلاثة»(4). وروي عن عبيد عن محمد بن كعب: أنّها نزلت كلّها في حجّة الوداع بين مكّة والمدينة(5).

ومن الطريف ما روي عن أبي حمزة الثمالي قال: سمعت أبا عبدالله(علیه السلام)يقول: «نزلت المائدة كمّلاً، ونزل معها سبعون ألف ملك»(6). أقول: إن صحّ أنّه نزل معها سبعون ألف

 


(1) الممتحنة: ۱٠ - ۱۱.

(2) راجع تفسير البرهان، ج2، ص٤۳٠.

(3) المصدر السابق، ص213.

(4) وسائل الشيعة، ج1، ص458، الباب 38 من أبواب الوضوء، ح6.

(5) تفسير المنار، ج ٦، ص176.

(6) مجمع البيان، في تفسير القرآن، ج3، ص231.

152

ملك فهذا باحترام آيتي الغدير، أعني قوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ...﴾(1)، وقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلَّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبَّكَ...﴾(2)، ولا شكّ في نزول الآيتين في أيّام الغدير.

وعلى أيّة حال فهذا أحد الاتّجاهين في التفسير في تاريخ نزول هذه السورة، وإن صحّ فمن الواضح أنّ آية ﴿لَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ﴾ لا يمكنها أن تنسخ آية ﴿َالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾.

والاتّجاه الثاني في تاريخ نزولها ما قاله الفخر الرازي من أنّ هذه السورة باستثناء الآية الثالثة نزلت بعد الفتح. وقال عن الآية الثالثة: إنّها نزلت بعرفات في حجّة الوداع(3).

ولعلّ تعصّبه هو الذي دعاه إلى هذا الكلام كي يفترض أنّ آية ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلَّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ...﴾ لا علاقة لها بالغدير؛ لأنّها نزلت بعد سورة الفتح، وأنّ آية ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾ أيضاً لا علاقة لها بالغدير؛ لأنّها نزلت في عرفات.

وعلى أيّة حال فبناءً على هذا الاتّجاه يكون من المستبعد جدّاً أيضاً نسخ آية ﴿لَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ﴾ لآية ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾؛ لأنّ سورة الفتح نزلت بعد قصّة الحديبية على ما هو المشهور في التاريخ، وتدل عليه عدد من آيات نفس السورة، وقد مضى أنّ آية ﴿لَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ﴾ مرتبطة بقصّة الحديبية.

وأمّا الذي يستفاد من نفس الآية المباركة _ أعني الآية الخامسة من سورة المائدة _ فواضح لدى الالتفات إلى تمام الآية، قال الله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيَّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ﴾

 


(1) المائدة: ۳.

(2) المائدة: ٦۷.

(3) التفسير الکبیر(مفاتيح الغيب)، ج۱۱، ص286.

153

مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾(1).

والتدقيق في صدر الآية يعطي أنّ الآية المباركة بصدد تسهيل الروابط بين المسلمين وأهل الكتاب في الطعام والنكاح، وهذا لا يحتمل أن يكون في زمن الأزمة الشديدة التي كانت بين المسلمين وأهل الكتاب وتعارض الندّ بالندّ ومن قبل هيمنة المسلمين، وأعني بذلك ما قبل فتح خيبر الذي تمّ في السنة السابعة من الهجرة، أي: ما بين صلح الحديبية وفتح خيبر.

وإنّما المحتمل بشأن زمان نزول هذه الآية أمران:

أحدهما: أن يكون بعد فتح مكّة في السنة الثامنة من الهجرة وسيطرة الإسلام على المشركين وأهل الكتاب معاً، وأراد الله تعالى بذلك تمييزاً بين أهل الكتاب والمشركين بأن لا مداهنة مع المشركين إطلاقاً، ولكنّ أهل الكتاب يمكن التعاشر معهم بذاك المقدار؛ لقاسم مشترك معنوي بينهم وبين المسلمين، وهو أصل الإيمان بإله الأرض والسماء، وبمتابعة كتاب سماوي.

والثاني: أن يكون _ على الأقلّ _ بعد فتح خيبر وتسلّط المسلمين على أهل الكتاب، وقد أراد الله تخفيف الأزمة بين المسلمين وأهل الكتاب بعد الانتصار عليهم؛ كي يكون ذلك خيطاً بينهما قد يؤدّي بالتدريج إلى هدايتهم.

وبكلمة أُخرى: كأنّه لم يكن من الضروري بعد هيمنة الإسلام وانتصاره بقاء تلك المحدوديّات التي كانت قبل ذلك في المعاشرة بين المسلمين وأهل الكتاب(2).

وعلى كلا التقديرين فهذه الآية نزلت بعد آية ﴿وَلاَ تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ﴾

 


(1) المائدة: ٥.

(2) راجع بهذا الصدد تفسير نمونه، ج ٤، ص ۲۷۸ _ ۲۷۹.

154

والتي عرفت ارتباطها بقصّة الحديبيّة، ولا يمكن أن تنسخ بها.

فلو لم يبعث كلّ ما ذكرناه بالاطمئنان بتأخّر نزول الآية الخامسة من المائدة عن آية سورة الممتحنة، فلا أقلّ ممّا أشرنا إليه من أنّ إطلاق ﴿الْكَوَافِرِ﴾ في آية الممتحنة لأهل الكتاب غير واضح، ومورد نزولها هي المشركات، فلم يثبت كون هذه الآية مرجّحة أو مرجعاً بعد تعارض الروايات في جواز نكاح الكتابيّات دائماً وعدمه. وتفسير ﴿الْكَوَافِرِ﴾ بما يشمل الكتابيّات بالرواية رجوع إلى أحد طرفي التعارض من السنّة، وليس رجوعاً إلى الكتاب.

وروايات الجواز لا شكّ أنّها أكثر وأقوى؛ لأنّ عمدة الروايات المانعة هي الصحيحة الناطقة بناسخيّة آية النهي عن الإمساك بعِصَم الكوافر، وباقي الروايات قابلة للحمل على الكراهة في مقابل روايات الجواز. وأمّا روايات الجواز فالصحاح منها ما مضى منّا نقلها، ويضاف إليها ما لم ننقلها من الروايات غير التامّة سنداً.

ولا أقلّ من أنّ لنا ترجيحَ روايات الجواز على روايات المنع بقاعدة التخيير بين الخبرين المتعارضين التي نقّحناها في علم الأصول، فالنتيجة هي جواز النكاح الدائم بالكتابيّات، أعني: خصوص اليهوديات والمسيحيات دون المجوسيات.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

155

إسلام الزوجة الكتابية‌

157

بسم الله الرحمن الرحيم‌

الحمد لله ربّ العالمين وصلّى اللّٰه على محمد وآله الطيّبين الطاهرين‌.

لو أسلمت الكتابية وزوجها يهودي أو مسيحي فهل تبين عنه من حين الإسلام أو بعد العدّة أو لا تبين؟

تدل على أصل البينونة صحيحة البزنطي‌ قال: «سألت الرضا(علیه السلام)عن الرجل تكون له الزوجة النصرانية فتسلم هل يحلّ لها أن تقيم معه؟ قال: إذا أسلمت لم تحلّ له. قلت: فإنّ الزوج أسلم بعد ذلك أيكونان على النكاح؟ قال: لا، بتزويج جديد»(1).

وصحيحة عبداللّٰه بن سنان عن أبي عبداللّٰه(علیه السلام)قال: «إذا أسلمت امرأة وزوجها على غير الإسلام فرّق بينهما».(2)

إلّا أنّنا نحمل ذلك على البينونة بعد العدّة بقرينة صحيحة منصور بن حازم عن أبي عبداللّٰه(علیه السلام)«عن رجل مجوسي أو مشرك من غير أهل الكتاب كانت تحته

 


(1) وسائل الشيعة، ج20، ص542، الباب5 من أبواب ما يحرم بالكفر ونحوه، ح5.

(2) المصدر السابق، ص547، الباب9 من أبواب ما يحرم بالكفر ونحوه، ح4.

158

امرأة فأسلم أو أسلمت؟ قال: ينتظر بذلك انقضاء عدّتها، وإن هو أسلم أو أسلمت قبل أن تنقضي عدّتها فهما على نكاحهما الأوّل، وإن هو لم يسلم حتى تنقضي العدّة فقد بانت منه»(1).

ونحوها روايات واردة في خصوص المجوسي(2).

فلئن كان المجوسي والمشرك لا تبين امرأتهما التي أسلمت بينونة باتّة إلّا بعد العدّة فاليهودي والنصراني مثلهما أو أولى منهما بذلك.

وفي مقابل ما دلّ على البينونة ولو بعد العدّة‌ روايات دالّة على عدم البينونة، من قبيل:

1_ ما رواه جميل بن درّاج عن بعض أصحابنا عن أحدهما(علیهما السلام): أنّه قال: «في اليهودي والنصراني والمجوسي إذا أسلمت امرأته ولم يسلم. قال: هما على نكاحهما، ولا يفرّق بينهما، ولا يترك أن يخرج بها من دار الإسلام إلى دار الكفر»(3).

2_ ما رواه علي بن إبراهيم عن أبيه عن بعض أصحابه عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (علیه السلام)قال: «إنّ أهل الكتاب وجميع من له ذمّة إذا أسلم أحد الزوجين فهما على نكاحهما، وليس له أن يخرجها من دار الإسلام إلى غيرها ولا يبيت معها، ولكنّه يأتيها بالنهار. وأمّا المشركون مثل مشركي العرب وغيرهم فهم على نكاحهم إلى انقضاء العدّة ...»(4).

 


(1) الكافي، ج10، ص863، باب نكاح أهل الذمة والمشركين يسلم بعضهم ولا يسلم بعض أو يسلمون جميعاً، ح3.وسائل الشيعة، ج20، ص547، الباب9 من أبواب ما يحرم بالكفر ونحوه، ذيل الحديث3.

(2) وسائل الشيعة، ج20، ص546، الباب9 من أبواب ما يحرم بالكفر ونحوه، ح1، 2، 7.

(3) تهذيب الأحكام، ج7، ص300، باب من يحرم نكاحهن بالأسباب دون الأنساب من كتاب النكاح، ح12؛ الاستبصار، ج3، ص 181، باب الرجل والمرأة إذا كانا ذمیین فتسلم المرأة دون الرجل، ح10؛ وسائل الشيعة، ج20، ص546، الباب9 من أبواب ما يحرم بالكفر ونحوه، ح1. وفي الوسائل: (الهجرة) بدل (دار الكفر).

(4) وسائل الشيعة، ج20، ص547، الباب9 من أبواب ما يحرم بالكفر ونحوه، ح5.

159

3_ رواية الكليني عن عدّة من أصحابنا عن سهل بن زياد عن محمد بن عيسى عن يونس قال: «الذمّي تكون عنده المرأة الذمية فتسلم امرأته قال: هي امرأته يكون عندها بالنهار، ولا يكون عندها بالليل. قال: فإن أسلم الرجل ولم تسلم المرأة يكون الرجل عندها بالليل والنهار»(1).

وقد نقل عن الشيخ في النهاية والتهذيبين الإفتاء بعدم انفساخ النكاح بانقضاء العدّة إن كان الزوج قائماً بشرائط الذمة، غير أنّه لا يمكّن من الدخول عليها ليلاً، ولا من الخلوة بها نهاراً، ولا من إخراجها إلى دار الحرب(2).

إلّا أنّ هذه الروايات كلّها ضعيفة السند، والأخيرة غير منتهية إلى المعصوم.

4_ رواية عبد الملك بن عمير القبطي عن أمير المؤمنين(علیه السلام)«أنّه قال للنصراني الذي أسلمت زوجته: بُضعها في يدك، ولا ميراث بينكما»(3).

إلّا أنّها أيضاً ساقطة سنداً.

5_ رواية عبدالرحمن البصري قال: قال أبو عبداللّٰه(علیه السلام): «قضى أمير المؤمنين(علیه السلام)في نصراني اختارت زوجته الإسلام ودار الهجرة: أنّها في دار الإسلام لا تخرج منها، وأنّ بضعها في يد زوجها النصراني، وأنّها لا ترثه ولا يرثها»(4).

و عيب السند عبارة عن الغمز الموجود في سند الشيخ إلى علي بن الحسن بن فضّال(5).

 


(1) الكافي، ج5، ص437، باب نكاح أهل الذمة والمشركین يسلم بعضهم ولا يسلم بعض أو يسلمون جميعاً، ح8.

(2) راجع فقه الصادق، ج21، ص455.

(3) وسائل الشيعة، ج26، ص17، الباب الأول من أبواب موانع الإرث من الكفر والقتل والرق، ح22.

(4) المصدر السابق، ح23.

(5) تهذيب الأحكام، ج9، ص368، باب میراث أهل الملل المختلفة و...، ح13.

160

و النتيجة إذاً هي الحكم بالبينونة بعد العدّة؛ لضعف الروايات المعارضة.

ثم إنّ توقّف البينونة الكاملة على العدّة مختصّ طبعاً بمن لها عدّة، فلا يشمل ذلك اليائس، ولا غير المدخول بها. وقد ورد في غير المدخول بها التصريح بذلك في بعض روايات الباب، وهي صحيحة عبدالرحمن بن الحجاج عن أبي الحسن(علیه السلام)«في نصراني تزوّج نصرانية فأسلمت قبل أن يدخل بها. قال: قد انقطعت عصمتها منه، ولا مهر لها، ولا عدّة عليها منه»(1).

6_ بقيت في المقام صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر(علیه السلام)قال: «سألته عن امرأة أسلمت ثم أسلم زوجها هل تحلّ له؟ قال: هو أحقّ بها ما لم تتزوّج، ولكنّها تخيّر، فلها ما اختارت»(2).

والظاهر أنّ الرواية لا علاقة لها برجوع الزوج إليها ما لم تتزوّج رغم انتهاء العدّة، بل لعلّها تدل أيضاً على البينونة؛ فإنّ معنى «هل تحلّ له؟» أنّها هل أصبحت محرّمة عليه أو هي من النساء المحلّلات؟ فيقول الإمام(علیه السلام): أنّها لا زالت من المحلّلات له، بل له ما لم تتزوّج نوع من الأولوية والأحقّية باعتباره زوجها الأوّل، إلّا أنّ هذه الأولوية ليست إلى حدّ الوجوب والتعيّن، فلها ما اختارت فإن شاءت تزوّجت به وإن شاءت تزوّجت بغيره أو لم تتزوّج.

وقد اتّضح بكلّ ما ذكرناه إلى الآن أنّ الصحيح ما عليه المشهور من أنّ الكتابية لو أسلمت بانت من زوجها الكتابي، ولكن بينهما العدّة، فلو أسلم قبل انقضاء العدّة رجع إليها، ولو لم يسلم إلّا بعد انقضاء العدّة كان خاطباً من الخطّاب.

إلّا أنّ للنظر في ما انتهينا إليه من النتيجة مجالاً؛ وذلك لأنّ ما مضت في البحث

 


(1) وسائل الشيعة، ج20، ص547، الباب9 من أبواب ما يحرم بالكفر ونحوه، ح6.

(2) المصدر السابق، ص548، ح10.

161

من الرواية الثانية من روايات عدم البينونة إنّما فرضنا عدم تمامية سندها بحسب ما ورد في متن الكافي حيث قال: علي بن ابراهيم عن أبيه عن بعض أصحابه عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (علیه السلام)(1).

ولكن الوارد في التهذيب(2)و الاستبصار(3)هكذا: ما رواه محمد بن يعقوب عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن بعض أصحابه عن محمد بن مسلم (فيتمّ السند) عن أبي جعفر(علیه السلام)قال: «إنّ أهل الكتاب وجميع من له ذمّة إذا أسلم أحد الزوجين فهما على نكاحهما، وليس له أن يخرجها من دار الإسلام إلى غيرها ولا يبيت معها، ولكنّه يأتيها بالنهار. وأمّا المشركون مثل مشركي العرب وغيرهم فهم على نكاحهم إلى انقضاء العدّة، فإن أسلمت المرأة ثم أسلم الرجل قبل انقضاء عدّتها فهي امرأته، وإن لم يسلم إلّا بعد انقضاء العدّة فقد بانت منه، ولا سبيل له عليها، وكذلك جميع من لا ذمّة له. ولا ينبغي للمسلم أن يتزوّج يهودية ولا نصرانية وهو يجد حرّة أو أمة».

وعليه فيجب استئناف البحث أوّلاً عن مدى إمكان إثبات صحة نسخة التهذيب والاستبصار وترجيحهما على نسخة الكافي بواسطة ملاحظة حال الطبقات، وأنّ إبراهيم بن هاشم هل يمكنه أن يروي بواسطة واحدة عن محمد بن مسلم أو لا؟ وثانياً عن أنّه كيف ينبغي التعامل مع هذه الرواية مع معارضتها التي مضت؟ وهل هناك من جمع بينهما أو لا؟

أمّا البحث الأوّل _ فإبراهيم بن هاشم يعدّ من أصحاب الإمام الجواد(علیه السلام)ومن

 


(1) الكافي، ج5، ص358، باب نكاح الذمية من كتاب النكاح، ح9.

(2) تهذيب الأحكام، ج7، ص302، باب من يحرم نكاحهن بالأسباب دون الأنساب من كتاب النكاح، ح17.

(3) الاستبصار، ج3، ص183، باب الرجل والمرأة إذا كانا ذمیین فتسلم المرأة دون الرجل، ح6.

162

رواته(1)، وعدّه الكشي تلميذاً ليونس بن عبدالرحمن ومن أصحاب الرضا(علیه السلام)(2).

وتنظّر في ذلك النجاشي(3).

و قوّى السيد الخوئي(رحمه الله) نظر النجاشي باعتبار أنّ إبراهيم بن هاشم على ما عليه من كثرة رواياته حتى أنّه روى عن مشايخ كثيرة يبلغ عددهم زهاء مائة وستين شخصاً لم توجد له رواية واحدة عن الرضا(علیه السلام)ولا عن يونس بن عبدالرحمن، فكيف يمكن أن يكون تلميذاً ليونس أو يكون من أصحاب الرضا(علیه السلام)؟!(4).

وأمّا محمد بن مسلم فقد عدّ من أصحاب الباقر والصادق والكاظم(علیهم السلام)(5)، ومات _ على ما ينقل _ في زمن الإمام الكاظم(علیه السلام)؛ لأنّه مات _ حسب النقل _ سنة مائة وخمسين، والإمام الكاظم(علیه السلام)ولد سنة مائة وثمان وعشرين. وهذا يعني أنّ الامام الكاظم(علیه السلام)كان له من العمر في سنة وفاة محمد بن مسلم اثنتان وعشرون سنة.

ولو فرضنا أنّ إبراهيم بن هاشم كان في سنّ الإمام الجواد(علیه السلام)مثلاً _ الذي ولد سنة خمس وتسعين ومائة من الهجرة، وتوفّي سنة عشرين ومائتين _ فالفاصل بينه وبين محمد بن مسلم يقارب حوالي سبعين سنة، فليس من المستحيل أن ينقل عن محمد بن مسلم بواسطة شخص واحد، ولكنّه بعيد.

فإذا ضمّ إلى هذا الاستبعاد نقل الطوسي في التهذيبين الواسطة بين بعض الأصحاب وإبراهيم بن هاشم وهو محمد بن أبي عمير رغم حذفه من الكافي الواصل بأيدينا، وضمّ إلى ذلك أنّه لم يعهد من إبراهيم بن هاشم النقل عن الإمام مرسلاً

 


(1) انظر معجم رجال الحديث، ج1، ص318.

(2) حكاه النجاشي عن الكشي في رجاله، ص16.

(3) رجال النجاشي، ص16.

(4) انظر معجم رجال الحديث، ج1، ص316 _ 317.

(5) رجال الطوسي، ص135، 300، 358.

163

بعدم ذكر اسم الراوي، بينما هو معهود من ابن أبي عمير بعد أن فقد كتبه أو تلفت فاضطرّ أن ينقل كثيراً منها بالإرسال، لعلّه يحصل من مجموع ذلك الاطمئنان بصحة نسخة التهذيبين.

وأمّا البحث الثاني _ فلو صحّ تقييد صحيحة عبداللّٰه بن سنان: «إذا أسلمت امرأة وزوجها على غير الإسلام فرّق بينهما»(1)بهذه الرواية وتخصيصها بغير الذمّي فارتكاب تقييد من هذا القبيل لصحيحة البزنطي مشكل؛ فإنّ صحيحة البزنطي تقول: «سألت الرضا(علیه السلام)عن الرجل تكون له الزوجة النصرانية فتسلم هل يحلّ لها أن تقيم معه؟ قال: لا، إذا أسلمت لم تحلّ له. قلت: فإنّ الزوج أسلم بعد ذلك، أيكونان على النكاح؟ قال: لا، بتزويج جديد»(2) وافتراض تقييد هذه الصحيحة بما إذا كان الزوج غير كتابي بعيد؛ فإنّ الكتابية لا تكون عادة زوجة للوثني أو الملحد.

وعندئذٍ نقول: إنّ ما ورد في رواية محمد بن مسلم من التفصيل بين من له ذمّة وغير من له ذمّة يتحمل تفسيرين:

أحدهما _ أن يكون المقصود بمن له ذمّة من له أهلية الذمّة وهم الكتابيون، فعطف من له ذمّة على أهل الكتاب يكون من قبيل عطف المرادف على المرادف. وعليه يقع التعارض التامّ بين هذه الرواية وصحيحة البزنطي، فكلتاهما واردتان في أهل الكتاب.

وثانيهما _ أن يكون المقصود بمن له ذمّة من يكون من الكتابيين في ذمّة الإسلام في مقابل من هم في دار الحرب، فقد يفترض أنّ رواية محمد بن مسلم تخصّص صحيحة البزنطي بالنصراني المتواجد في دار الحرب إلّا أنّ‌ هذا بعيد؛ فإنّ المتيقّن من مثل هذا السؤال مع تعارف تواجد الكتابيين في ذمّة الإسلام هو النظر إلى من هم

 


(1) وسائل الشيعة، ج20، ص547، الباب9 من إبواب ما يحرم بالكفر ونحوه، ح4.

(2) المصدر السابق، ص542، الباب5 من أبواب ما يحرم بالكفر ونحوه، ح5.

164

أقرب إلى محلّ الابتلاء، وهم المتواجدون في بلاد الإسلام، وتخصيصه بغيرهم بعيد.

وإذا استحكم التعارض وصلت النوبة إلى المرجّحات، والمرجّحات الأساسية اثنان:

المرجّح الأوّل _ موافقة الكتاب، فقد يقال: إنّ روايات انفساخ العقد هي المطابقة لإطلاق الكتاب، وهو قوله تعالى: ﴿يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذٰا جٰاءَكُمُ الْمُؤْمِنٰاتُ مُهٰاجِرٰاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللّٰهُ أَعْلَمُ بِإِيمٰانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنٰاتٍ فَلٰا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفّٰارِ لٰا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلٰا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ﴾(1).

إلّا أنّ إثبات إطلاق هذه الآية للنساء الذمّيات اللاتي أسلمن مشكل:

أوّلاً: لأنّ الآية ناظرة إلى نساء أهل الحرب في قصّة صلح الحديبية، وليس نساء أهل الذمّة.

إلّا أن يفسّر أهل الذمّة في المقام بمعنى مطلق أهل الكتاب، أي الذين فيهم قابلية الدخول في الذمّة، لا بمعنى الملتزمين بشرائط الذمّة أو الداخلين تحت الذمّة بالفعل.

وثانياً: لأنّ شمول إطلاق الآية للكتابيين مشكل؛ لأنّها ناظرة إلى المشركين الذين هم طرف القضيّة في قصّة صلح الحديبية، واستقرار المصطلح المتشرّعي الموجود لدينا اليوم على أنّ الكافر يعني مطلق غير المسلم كتابياً كان أو غير كتابي غير واضح بالنسبة لزمان نزول الآية كي يتمسّك بالإطلاق؛ فإنّ الكافر بمعناه الأوّلي وقبل استقرار الاصطلاح على المطلق يناسب إرادة الكافر بالتوحيد، وهم المشركون أو الملحدون، كما يناسب إرادة مطلق الكافر بالإسلام، فتصبح الآية مجملة بهذا الصدد.

والمرجّح الثاني: مخالفة العامّة، وهي توجب رجحان الطائفة الثانية الدالّة على عدم الانفساخ؛ لأنّ المشتهر شهرة عامة بينهم كالمشتهر لدى الشيعة أيضاً هو الانفساخ ولو بعد العدّة.

 


(1) الممتحنة: 10.

165

والاشتهار لدى الشيعة لا يضعّف روايات عدم الانفساخ؛ لعدم معلومية الإعراض، إذ لعلّهم قدّموا روايات الانفساخ باعتقاد موافقة الكتاب مثلاً أو بتخيّل الجمع العرفي ونحو ذلك، ولكن الاشتهار لدى السنّة يوجب حملها على التقية.

أمّا المصدر لما قلناه من أنّ روايات الانفساخ تطابق العامة فهو ما ورد في الموسوعة الفقهية الكويتية، والنصّ ما يلي:

«وأمّا إن أسلمت الكتابية قبله وقبل الدخول تعجّلت الفرقة سواء أكان زوجها كتابياً أو غير كتابي؛ إذ لا يجوز لكافر نكاح مسلمة. قال ابن المنذر:

أجمع على هذا كلّ من نحفظ عنه من أهل العلم، والصحيح أنّ في المسألة خلاف أبي حنيفة إذا كان في دار الإسلام، فإنّه لا فرقة إلّا بعد أن يعرض عليه الإسلام فيأبی....

أمّا إن كان إسلام أحد الزوجين الوثنيين أو المجوسيين أو زوجة الكتابي بعد الدخول ففي المسألة ثلاثة اتّجاهات:

الأوّل: يقف الأمر على انقضاء العدّة، فإن أسلم الآخر قبل انقضائها فهما على النكاح، وإن لم يسلم حتى انقضت العدّة وقعت الفرقة منذ اختلف الدينان، فلا يحتاج إلى استئناف العدّة. وهذا قول الشافعي، ورواية عن أحمد.

الثاني: تتعجّل الفرقة. وهذا رواية عن أحمد، وقول الحسن وطاووس.

الثالث: يعرض الإسلام على الآخر إن كان في دار الإسلام. وهو قول أبي حنيفة كقوله في إسلام أحدهما قبل الدخول، إلّا أنّ المرأة إذا كانت في دار‌ الحرب فانقضت مدّة التربص وهي ثلاثة أشهر أو ثلاثة حيض وقعت الفرقة، ولا عدّة عليها بعد ذلك؛ لأنّه لا عدّة على الحربية.

وإن كانت هي المسلمة فخرجت إلينا مهاجرة فتمّت الحيض هنا، فكذلك عند

166

أبي حنيفة. وقال الصاحبان: عليها العدّة»(1). انتهى ما أردنا نقله عن الموسوعة الفقهية الكويتية.

ثم إن المسألة التي أصبحت محلّ الابتلاء في زماننا هذا في البلاد الأوروبية والغربية هي اتّجاه كثير من نسائهم إلى الإسلام هرباً من التفسّخ الخُلقي المنتشر في تلك البلاد، والتي تكون النساء فيه هي الضحية الأولى أو لأيّ عامل آخر، فلو حكم عليهنّ بالانفصال عن أزواجهنّ أدّى ذلك إلى ارتداد أكثرهنّ إلى الكفر مرّة أخرى هرباً من الانفصال عن الأزواج في حين أنّه لو أفتينا بعدم انفساخ العقد كسبناهنّ للإسلام، وقد يؤثّرن بالتدريج على أزواجهنّ.

ومن هنا قد يقال: إنّ البحث السابق لا ينفعنا شيئاً بصدد حلّ هذه المشكلة؛ لأنّنا لو سلّمنا تقديم الطائفة الثانية من الروايات الدالّة على عدم الانفساخ بمخالفة العامّة أو فرضنا تساقط الروايات بالتعارض أو أخذنا بالطائفة الثانية بناءً على التخيير لدى التعارض فهذا إنّما يحلّ المشكلة بالنسبة لنساء الذمّيين، في حين أنّ هؤلاء ليسوا ذمّيين. اللهم إلّا إذا فسّر أهل الذّمة بمعنى من له قابلية الذمّة، وهم الكتابيون حتى القاطنون في دار الكفر.

وقد يقال: إنّنا بأيّ تفسير فسّرنا الذمّي يقع التعارض بين الطائفتين، فإذا أسقطنا روايات الانفساخ بوجه من الوجوه لم يبقَ دليل على الانفساخ بالنسبة للكتابيين القاطنين في دار الكفر؛ لأنّ الدليل عبارة عن تلك الروايات، فلنفترض أنّ روايات عدم الانفساخ لم تشملهم، لكنّه يكفينا عدم بقاء دليل يدلّ على الانفساخ، فنجري استصحاب بقاء علقة الزوجية.

إلّا أنّ هذه النتيجة مشكلة؛ وذلك بعد وضوح أنّ ظاهر عنوان أهل الذمّة أو

 


(1) انظر الموسوعة الفقهية الكويتية، ج4، ص261 _ 262؛ المغني، ج7، ص152.

167

الذمّي أو من له ذمّة ونحو ذلك هي الذمّة الفعلية، لا مجرّد من له قابلية الذمّة.

وعندئذٍ نقول: إنّ في روايات إقرار النكاح وإبقائه على حاله رغم إسلام المرأة ما صرّح بشرط الذمّة في ذلك، وهي ما مضى من رواية ابن أبي عمير عن بعض أصحابه عن محمد بن مسلم. وهي وإن كانت معارَضة بما دلّ على انفساخ النكاح بعد العدّة، لكنّنا قد نقّحنا في علم الأُصول أنّ الخبرين المتعارضين ينفيان الثالث. وفي المقام قد دلّ أحد المتعارضين على انفساخ نكاح الكتابي بإسلام امرأته بعد انتهاء العدّة ولو كان ذمّياً، ودلّ الآخر على التفصيل بين الذمّي وغير الذمّي بالانفساخ في الثاني دون الأوّل، فالإفتاء بعدم الانفساخ حتى في غير الذمّي يعني الإفتاء بأمر ثالث مرفوض من قبل كلتا الطائفتين. وعليه فالمتيقّن من الطائفتين انفساخ نكاح نساء الكتابيين الذين يعيشون في هذه الأيّام في بلاد الكفر.

وأمّا حلّ المشكلة الاجتماعية التي أشرنا إليها فينحصر في كتمان حكم الانفساخ عليهنّ لمصلحة إبقائهنّ على الإسلام، أمّا الإفتاء بعدم الانفساخ فلا سبيل إليه.

هذا كلّه بناءً على التعارض بين الطائفتين.

أمّا لو قلنا بأنّ روايات حصول البينونة مطلقة من ناحية فعلية الذمّة وعدمها، فرواية التفصيل بين من له الذمّة وغيره تقدّم عليها بعد حملها على إرادة فعلية الذمّة لا من له أهلية الذمّة فالأمر أوضح.

169

العيوب التي يفسخ بها النكاح